170

وحدة وجود الموضوع وتعدده خارجاً، فإذا تعدّد وجود الموضوع خارجاً تعدّد المجعول لا محالة، وأيّ مانع من فرض كون أحد الموضوعين في طول المجعول الآخر، فيتحقّق مجعولان طوليّان من دون فرض اتّحاد بينهما؟!

التقريب الثاني: أنّ الجعل في المقام واحد ـ حسب الفرض ـ على موضوع واحد، وهذا الموضوع إمّا أن اُخذ فيه الشكّ في الحكم أو لم يؤخذ، فعلى الأوّل كان الحكم ظاهرياً، وعلى الثاني كان واقعياً، والجمع بينهما جمع بين النقيضين.

ولا يخفى أنّ كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) كان مساوقاً ـ على ما عرفت ـ لفرض الإطلاق جمعاً بين القيود، فالإطلاق يشمل حالة الشكّ وحالة تحقّق الموضوع بلا شكّ، لا بمعنى رفض القيدين، بل بمعنى دخل كلّ واحد من القيدين، وجعل الإطلاق جمعاً بين القيود يرد عليه إشكالان:

1 ـ الإشكال الإثباتي، وهو أنّ الإطلاق إنّما يفيد رفض القيود لا جمعها.

2 ـ الإشكال الثبوتي، وهو أنّ الجمع بين القيود بهذا النحو مساوق لتعدّد الموضوع، والجمع بين تعدّد الموضوع ووحدة الجعل والحكم تهافت.

فإن كان المقصود بالإيراد الأوّل الذي مضى على المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ الإطلاق إنما هو رفض القيود لا جمعها خصوص الإشكال الإثباتي، فمن يقصد ذلك من حقّه أن يورد هنا هذا الإشكال، ويكون ناظراً إلى الإشكال الثبوتي، وإن كان المقصود بالإيراد الأوّل بطلان كون الإطلاق جمعاً بين القيود ثبوتاً وإثباتاً، فهنا لا يمكن لمن قصد ذلك أن يورد إشكالاً جديداً على المحقّق الخراساني(رحمه الله)؛ لأنّه بعد فرض التسليم بما وقع فيه المحقّق الخراساني من التهافت، وفرض تعدّد الموضوع بالرغم من وحدة الجعل لا يرد إشكال: أنّ الجمع بين فرض دخل الشكّ وعدم دخله جمع بين النقيضين؛ لأنّ الموضوع متعدّد والشكّ دخيل في أحدهما وغير دخيل في الآخر. هذا كلّه لو بنينا على تقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله).

وأمّا إذا بنينا على التقريب الذي نحن ذكرناه من فرض استفادة الحكم الظاهري في طول التخصيص، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّنا لم نأخذ الشكّ دخيلاً في الموضوع حتّى يلزم كون الحكم ظاهرياً على الإطلاق، ولم نفرض عدم دخل قيد زائد وراء ما ذكر في موضوع العام حتّى يلزم كون الحكم واقعياً على الإطلاق، وإنّما فرضنا كون القيد المأخوذ في الموضوع هو أن لا يكون الشيء خمراً معلوم النجاسة مثلاً، وهذا القيد ـ وهو أن لا يكون الشيء خمراً معلوم النجاسة ـ تارةً يتحقّق خارجاً بعدم كونه خمراً، فيكون الحكم ـ لا محالة ـ واقعياً؛

171

لاستناده إلى عدم الخمرية لا عدم العلم بالحكم، واُخرى يتحقّق خارجاً بعدم كونه معلوم النجاسة، فيكون الحكم ـ لا محالة ـ ظاهرياً؛ لاستناده إلى عدم العلم بالحكم، ولم يلزم من ذلك جمع بين النقيضين.

التقريب الثالث: أنّه إذا فرض كون هذا الحديث بالنسبة لما يشكّ في خمريّته مثلاً وهو في الواقع ليس خمراً جعلاً للحكم الواقعي والظاهري معاً، لزم من ذلك أن يكون الحكم الواقعي ملحوظاً بالنظر الإيجادي؛ لأنّ المولى بصدد جعله، ويكون في نفس الوقت ملحوظاً بنظر الفراغ عنه بمعنى كونِه مترقّب الثبوت؛ لأنّ المولى بصدد جعل حكم ظاهري حافظ له، وناظر إليه، ومأخوذ في موضوعه الشكّ فيه، مع أنّه لا يوجد في المقام إلاّ لحاظ واحد، ويستحيل الجمع في لحاظ واحد إلى شيء واحد بين كونه لحاظاً له بالنظر الإيجادي ولحاظاً له بنظر الفراغ عنه؛ فإنّ اللحاظ بنظر الفراغ عنه يستبطن فرض أنّه لا يقصد في هذا اللحاظ جعله وإيجاده، فكيف يجتمع مع فرض قصد جعله وإيجاده؟ وهل هو إلاّ جمع بين النقيضين.

وهذا التقريب لا جواب عليه بناءً على ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من فرض كون الحديث شاملاً للشيء بعنوانه الأوّلي بغض النظر عن الشكّ، وله بالنظر إلى الشكّ؛ فإنّه يلزم من ذلك ـ كما عرفت ـ أن يكون الشيء الطاهر بعنوانه الأوّلي المشكوك في طهارته عند المكلّف طاهراً واقعاً وظاهراً، وتثبت له كلتا الطهارتين بهذا الجعل.

وحتّى لو فرضنا رجوع ذلك ـ في الحقيقة ـ إلى جعلين: جعل بلحاظ العنوان الأوّلي للشيء، وجعل بلحاظ عنوان الشكّ فأيضاً لا يمكن افتراض كون الحكم الواقعي في أحد الجعلين ملحوظاً باللحاظ الإيجادي، وفي الجعل الآخر ملحوظاً بلحاظ الفراغ عنه؛ وذلك لأنّ الجعلين في آن واحد، فلا يتصوّر بالنسبة للحكم الواقعي الواحد في ذاك الآن إلاّ لحاظ واحد، هذا كلّه بناءً على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله).

أمّا بناءً على ما ذكرناه نحن من فرض أخذ قيد عدم كون الشيء، خمراً معلوم النجاسة في الموضوع بقرينة المخصّص، فلا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه لم تجتمع في مورد واحد الطهارة الواقعية والظاهرية معاً المجعولتان بهذا الحديث حتّى يلزم من ذلك كون الطهارة الواقعية مجعولة في هذا المورد بهذا الجعل، وغير مجعولة في نفس الوقت؛ وذلك لأنّ هذا الشيء المشكوكة نجاسته إن لم يكن واقعاً خمراً فقد ثبتت له بهذا الحديث طهارة لا ترتفع بارتفاع الشكّ وانكشاف واقع الحال، وهي لا محالة طهارة واقعية لا ظاهرية، وإن كان واقعاً خمراً لم تثبت له طهارة واقعية وإنّما له طهارة ظاهرية ترتفع بانكشاف واقع الحال، وقد اُخذ في

172

موضوعها الشكّ في طهارة هذا الخمر واقعاً، وهذه الطهارة الواقعية المترقّبة الثبوت غير مجعولة أصلاً، لا بهذا الجعل ولا بجعل آخر، فبهذا الجعل قد جعل الحكم الواقعي في بعض الموارد، ولم يجعل في بعض آخر، فلم يلزم جمع بين النقيضين.

الإيراد الرابع: ما ذكره ـ أيضاً ـ المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّه لو جمع في صدر الحديث بين الحكم الواقعي والظاهري لزم من ذلك أن يقصد بالعلم في ذيله وهو قوله: «حتى تعلم ...» العلم موضوعياً والعلم طريقياً؛ لأنّ الحكم الظاهري غايته العلم بنحو الموضوعية، والحكم الواقعي غايته ذات المعلوم وهي القذارة، وإنّما العلم اُخذ طريقياً(1).

وهذا الإشكال غير وارد على المحقّق الخراساني(رحمه الله)؛ لأنّه لا يجعل قوله: «حتى تعلم ...» غاية للحكم المذكور في الصدر، وإنّما يجعله غاية للاستمرار(2).

وقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ جميع هذه الإيرادات لا ترد على مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله): إمّا مطلقاً أو بعد تحويل تقريبه ممّا ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى ما ذكرناه نحن من استفادة الحكم الظاهري في طول التخصيص بالبيان المتقدّم.

وتحقيق الحال: أنّ مدّعى المحقّق الخراساني(رحمه الله) غير صحيح؛ لأنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه إن اُخذ بتقريبنا، ففيه ما مضى من كون العام ظاهراً في الواقعية في عرض ظهوره في الإطلاق، فلا ترتفع المنافاة بينه وبين الخاصّ بإخراج خصوص صورة العلم، وإن اُخذ بتقريب المحقّق الخراساني(رحمه الله) ففيه عدم صحّة جعل الإطلاق جمعاً للقيود، لا ثبوتاً ولا إثباتاً، مضافاً إلى لزوم النظر إلى الحكم الواقعي بالنظر الإيجادي وبنظر الفراغ عنه في نفس الوقت.


(1) ما يظهر من التقريرين ليس هو الاستشكال بلزوم الجمع بين موضوعية العلم وطريقيّته، بل هو استبعاد إرادة الحكم الواقعي من الصدر باعتبار أنّ الذيل ظاهر في كون العلم بذاته غاية لا بما يكشف عنه من واقع المعلوم. وهذا لا ينسجم إلاّ مع الحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يغيّى بالعلم بضدّ الحكم أو الموضوع، وإنّما يغيّى بتبدّل الواقع، فلا يمكن فرض العلم غاية له إلاّ بعنوان الطريقية، وهو خلاف الظاهر. راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 375، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 369 ـ 370 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) لا يخفى أنّ فوائد الاُصول مشتمل على الالتفات إلى أنّه لو جعل قوله: «حتى تعلم» غاية للاستمرار، ارتفع الاستشكال بعدم كون العلم الموضوعي غاية للحكم الواقعي، ولكن اعترض على احتمال جعله غاية للاستمرار بأنّ هذا يعني قطع الغاية عمّا قبلها وجعلها جملة مستقلة بتقدير كلمة:(وتستمر طهارته أو حرمته ظاهراً) وهذا خلاف الظاهر. راجع الفوائد: ج 4، ص 371 بحسب الطبعة الماضية.

هذا. وسيأتي ـ إن شاء الله ـ: أنّ جعل الغاية غاية للاستمرار تارةً يكون بمعنى فرض حذف أو تقدير في الكلام، واُخرى يكون بمعنى جعلها غاية لاستمرار مفهوم من نفس الكلام، ويأتي إبطال كلا الوجهين إن شاء الله.

173

وثانياً: أنّه سوف يأتي في المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ أنّ الغاية راجعة إلى الصدر لا إلى الاستمرار، وعليه فلا يمكن أن يستفاد من الصدر الحكم الواقعي والظاهري معاً، بل يستفاد منه الحكم الظاهري فحسب؛ فإنّه هو الذي يناسب جعله مغيّىً بالعلم، والحكم الواقعي لا يناسب جعله مغيّىً بالعلم. أمّا الأوّل فواضح؛ فإنّ كلّ حكم ظاهري مغيّى بالعلم الموضوعي. وأمّا الثاني فلأنّ الحكم الواقعي لا معنى لأخذ العلم بالخلاف غاية له سواءً لوحظ العلم موضوعياً أو طريقياً. أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لو جعل مغيّىً بالعلم الموضوعي لأصبح حكماً ظاهرياً لا واقعياً. وأمّا الثاني فلأنّه لو جعل مغيّىً بالعلم طريقياً لأصبح معنى الكلام هكذا: (كلّ شيء طاهر إلى أن يتنجّس)، وليس من الصحيح حمل الكلام على هذا المعنى؛ إذ لا معنىً لأخذ أحد الحكمين المتضادّين في موضوع الآخر، فيقال مثلاً: هذا حلال إلى أن يصبح حراماً؛ فإنّ هذا لغو ومحال.

وبعد التنزّل عن كلّ هذا يجب أن نرى أنّ الحكم الواقعي والظاهري هل هما متماثلان في الحقيقة، أو لا؟

فإن قلنا: إنّ الطهارة الواقعية أمر تكويني، والطهارة الظاهرية أمر جعلي، لزم من إرادة كلتيهما من قوله: «كلّ شيء طاهر» الجمع بين الإخبار والإنشاء، فهو قد أخبر بهذا الكلام عن طهارة تكوينية وهي الحكم الواقعي، وأنشأ طهارة جعلية وهي الحكم الظاهري.

وإن قلنا في خصوص الطهارة: إنّ الطهارة أمر اعتباري، بمعنى نظافة ونزاهة معنوية، والطهارة الظاهرية ـ أيضاً ـ أمر اعتباري، لكنّه بمعنىً آخر كتنزيل المشكوك منزلة المعلوم واعتبار ذاك الأمر الاعتباري الأوّل، أو قلنا بذلك في الحلّيّة ـ أيضاً ـ أي: أنّ الحلّيّة الواقعية أمر اعتباري، والحلّية الظاهرية اعتبار آخر كأن تكون اعتباراً لذاك الاعتبار مثلاً، جاء إشكال لزوم استعمال كلمة(طاهر) مثلاً أو هي مع كلمة(حلال) في معنيين، إلاّ إذا فرضت الطهارة والحلّيّة اسماً للجامع، لكنّه فرض على خلاف الواقع. هذا مضافاً إلى لزوم دلالة هذا الكلام على جعلين، وهي على حدّ استعمال اللفظ في معنيين.

وإن قلنا: إنّ حقيقة الحكم في باب الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية واحدة، وكذلك في باب الحلّية الواقعية والحلّية الظاهرية، فهذا الإشكال غير وارد؛ لأنّه لم تستعمل كلمة(طاهر) و(حلال) في معنيين، ولا يلزم استعمال الكلام في جعلين؛ إذ بالإمكان على هذا الفرض جعل حكمين بجعل واحد وإن كان هذا ـ أيضاً ـ لعلّه خلاف الظاهر؛ لمكان تعدّد الملاك، فملاك الحكم الواقعي هو مصلحة في متعلّقه، وملاك الحكم الظاهري هو التحفّظ على

174

الحكم الواقعي.

وأمّا المقام الثاني: فقد عرفت أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) ـ إضافة إلى استفادة الطهارة الواقعية والظاهرية معاً من الصدر ـ استفاد الاستصحاب من الذيل، وهنا يقع الكلام في أمرين:

الأوّل: في أصل استفادة الاستصحاب من الذيل.

والثاني: في أنّه: ما معنى الاستصحاب بالنسبة للحكم الواقعي والحكم الظاهري المستفادين معاً على ما هو المفروض عنده(قدس سره) من الصدر؟ وهل نفرض الذيل استصحاباً للحكم الواقعي فقط، أو لهما معاً، أم ماذا؟

أمّا الأمر الأوّل: فكأنّ المحقق الخراسانى(رحمه الله) يقول: إنّ كلمة(حتّى) بنفسها تدلّ على ثبوت استمرار في المقام، وإنّها غاية للاستمرار؛ لأنّ معنى جعل الغاية هو هذا، أي: إنّ الأمر الفلاني مستمرّ إلى كذا، فكأنّه قال: كلّ شيء طاهر، وطهارته مستمرّة إلى أن تعلم أنّه قذر، وحيث إنّ الغاية لهذا الاستمرار جعلت هي العلم لا شيئاً آخر، فلا محالة يكون هذا الاستمرار استمراراً تعبّدياً، ولا نعني بالاستصحاب إلاّ الاستمرار التعبّدي.

ويرد عليه: أنّنا إن قلنا: إنّ كلمة(حتّى) من قبيل كلمة(إلى) لا تدلّ بذاتها على الاستمرار، وإنّما الدالّ عليه نفس غائية ما بعده المستلزمة عقلاً للاستمرار، فلا معنىً لاستفادة جعل الاستمرار الاستصحابي المقيّد بغاية العلم من هذا الحديث، لأنّ الاستمرار إنّما فهم ثبوته في المقام بدليل عقلي وبالملازمة، ولم يكن مفاداً مطابقياً لنفس العبارة حتّى يقال: إنّ المتكلم قد جعل هذا الاستمرار، وقد أرجع القيد إليه، والظاهر من القيد رجوعه إلى ما يستفاد من نفس العبارة(1).

إن قلت: إنّ بالإمكان استفادة الاستمرار من العبارة، لكن لا من كلمة(حتّى) بل من كلمة(طاهر) في قوله: «كلّ شيء طاهر»، وذلك بقرينة الإطلاق ومقدّمات الحكمة الدالّة على عدم اختصاص الحكم بالزمان الأوّل.


(1) كأنّ المقصود من هذا الكلام هو أنّه إن اُريدت استفادة الاستصحاب بإرجاع القيد إلى الاستمرار بعد فرض دلالة الكلام على جعل الاستمرار، ورد عليه: أنّ الاستمرار لم يكن إلاّ استمراراً لنفس الحكم الأوّل فهم بالملازمة العقلية، ولم يكن مجعولاً مستقلاًّ يكون هو الاستصحاب، ولا جعل آخر في المقام. وإن اُريدت استفادة الاستصحاب بدعوى أنّ نفس القيد دليل على جعل آخر يعود القيد إلى مجعوله وهو الاستمرار، ورد عليه: أنّ الظاهر من القيد رجوعه إلى نفس ما يستفاد من العبارة، ولا يدلّ على جعل حكم جديد يرجع إليه.

175

قلت: هذا الاستمرار ـ أيضاً ـ ليس مستفاداً من العبارة؛ لأنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة لا يُري الأفراد والحصص، وإنّما شأنه رفض القيود، فهو يدلّ على عدم أخذ قيد الزمان الأوّل في موضوع الحكم، فيعرف عقلاً ثبوت الاستمرار، لا أنّ المتكلّم قد ذكر الاستمرار ولو بقرينة الإطلاق حتّى يقال: إنّه قد جعل الاستمرار وأرجع القيد إليه.

وكذلك الحال لو أثبتنا إطلاق المغيّى بالغاية(1) لا بمقدمات الحكمة؛ إذ يوجد في باب المغيّى كلام حول أنّ إطلاق المغيّى هل يستفاد بقرينة مقدّمات الحكمة أو يستفاد بقرينة الغاية، فسواء أثبتنا الإطلاق بمقدّمات الحكمة أو بالغاية قلنا: إنّ الإطلاق الذي ينفي دخل زمان مخصوص يستلزم عقلاً الاستمرار، ولا يدلّ الكلام على جعل المولى للاستمرار وإرجاع القيد إليه.

وإن قلنا: إنّ كلمة(حتّى) تدلّ ابتداءً على الاستمرار، فقد يتراءى ـ عند ئذ ـ في بادئ الأمر أنّه قد استفيد الاستمرار من العبارة، وجعل مغيّىً بالعلم، فهذا جعلٌ للحكم الاستمراري التعبّدي المغيّى بالعلم، ولا نعني بالاستصحاب إلاّ هذا.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّ كلمة(حتّى) إنّما تدلّ على الاستمرار بالمعنى الحرفي بنحو النسبة الناقصة، فهو إنّما يكون جزءاً تحليلياً للمعنى الاسمي لا يمكن لحاظه مستقلاًّ، والاستمرار الاستصحابي يكون عنائياً لا حقيقياً، وإذا كان كذلك فقد لوحظ ملاحظة مستقلّة، فإنّ إعمال العناية يكون ـ لا محالة ـ لحاظاً مستقلاًّ. وهذا خلف كونه جزءاً تحليليا يستحيل لحاظه. نعم، لو كان الاستمرار مستفاداً هنا بنحو المعنى الاسمي أو بنحو النسبة التامّة التي يمكن الالتفات إليها مستقلاًّ، لما ورد هذا الإشكال.

وثانياً: أنّ الاستمرار في المقام بعد أن كان جزءاً تحليلياً ومُفاداً بالمعنى الحرفي الناقص كان من المستحيل رجوع القيد إليه؛ لاستحالة رجوع القيد إلى المعاني الحرفية الناقصة؛ لأنّ إرجاع القيد إليها فرع لحاظها مستقلاًّ. وهذا من قبيل ما ذكره الشيخ(رحمه الله) في باب الواجب المشروط من استحالة رجوع الشرط إلى معنى الهيئة؛ لكونه معنىً حرفياً. إلاّ أنّ هذا الكلام في الواجب المشروط لم يكن صحيحاً لكون النسبة تامّة، وبالإمكان لحاظها مستقلةً، وهنا


(1) يبدو أنّ هذا عين الفرض السابق من كون الدالّ على الاستمرار نفس غائية الغاية المستلزمة عقلاً للاستمرار، ولعلّ ما يبدو من ظهور عبارة المتن من كون هذا فرضاً جديداً غير ما مضى في أوّل الكلام خطأ منّي لا من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

176

صحيح لكونها ناقصة، فلو كان الاستمرار هنا مُفاداً بنحو النسبة التامّة أو المعنى الاسمي، لما ورد ـ أيضاً ـ هذا الإشكال.

وثالثاً: أنّ الحكم الاستصحابي في المقام يحتاج إلى لحاظ مستقلّ بغضّ النظر عمّا ذكرنا من عنائية الاستمرار الاستصحابي؛ وذلك لأنّه لا يمكن فرض دلالة العبارة بلحاظ واحد على المستصحب والاستصحاب معاً مع ما بينهما من اختلاف جوهري في الملحوظ، ففي أحدهما مثلاً يلحظ الشكّ بخلاف الآخر، وحيث إنّ الاستمرار هنا مستفاد بنحو المعنى الحرفي الناقص المندكّ في المعنى الاسمي فلا يوجد له لحاظ مستقلّ.

ولا يقال: إنّ المجعول الواحد ذا الجعل الواحد يتحصّص هنا إلى حصّتين: حصّة بلحاظ زمان الحدوث، وحصّة بلحاظ زمان البقاء. والاُولى هي المستصحب، الثانية هي الاستمرار الاستصحابي، ويفرض وجود لحاظين باعتبار الحصّتين.

فإنّه يقال: إنّ وجود حصّتين للمجعول هنا يكون من قبيل وجود حصّتين للمطلق الذي لا تُرى به الحصص، وإنّما يُرى به الجامع ملغيّاً عنه الخصوصيات، لا من قبيل وجود فردين للعام، فلا يُحقّق بهذا تعدّد اللحاظ.

وهذا الإشكال يرتفع ـ أيضاً ـ لو كان الاستمرار مُفاداً هنا بنحو النسبة التامّة.

ورابعاً: أنّه لو فرض تعدّد اللحاظ في المقام بأن يفرض هذا الجعل الواحد والمجعول الواحد بنحو العموم لا الإطلاق قلنا: إنّه لا يمكن إفادة الاستصحاب والمستصحب معاً بجعل واحد، بل لا بدّ أن يكون للاستصحاب جعل مستقلّ، فلو كان الاستمرار مُفاداً بنحو النسبة التامّة أو بمعنىً اسمي واقع طرفاً للنسبة التامّة بأن يقول: (كلّ شيء طاهر والطهارة مستمرة إلى أن تعلم أنّه قذر) أمكن استفادة الاستصحاب لفرض جعل ثان لهذه النسبة التامّة. وأمّا إذا كان الاستمرار مُفاداً بمعنىً حرفي ناقص كما هو الواقع هنا، أو مُفاداً بمعنىً اسمي طرف للنسبة الناقصة، كما لو قيل: (كلّ شيء طاهر طهارة مستمرة إلى أن تعلم أنّه قذر) فلا يستفاد من ذلك الاستصحاب والمستصحب معاً؛ لعدم وجود نسبتين تامّتين حتّى يفرض جعلان.

والوجه في أنّه لا بدّ من فرض جعلين ومجعولين للاستصحاب والمستصحب، ولا يمكن فرضهما بجعل واحد ومجعول واحد أمران:

الامر الأوّل: أنّ هذا الجعل الواحد ذا المجعول الواحد والموضوع الواحد إمّا أن يؤخذ فيه الشكّ في البقاء أو لا، فإن لم يؤخذ فيه الشكّ في البقاء لم نستفد منه الاستصحاب. وإن اُخذ

177

فيه الشكّ في البقاء فهو لا يدلّ على حقيقة الحكم الثابت قبل الشكّ.

والامر الثاني: أنّه يلزم من ذلك الجمع بين النظر الإيجادي ونظر الفراغ عنه إلى الحكم المستصحب في نظرة واحدة؛ لأنّ الاستمرار لم يكن جزءاً مستقلاًّ ملحوظاً في زمان ثان، وإنّما هو جزء تحليلي.

ثمّ إنّنا لو تنزّلنا، وفرضنا أنّ من الممكن ثبوتاً للمولى إرجاع القيد إلى الجزء التحليلي لا إلى المجموع، قلنا: إنّ هذا لا يتمّ إثباتاً لوجهين:

الأوّل: أنّه من الواضح إثباتاً أنّ الظاهر من القيد المتعقّب لحكم رجوعه إلى مجموع ذلك الحكم لا إلى جزء تحليلي منه، خصوصاً أنّه ليس هو الجزء الرئيس، بل هو الجزء التابع.

ولا يعارضه ظهور أصل الحكم في خلاف ذلك؛ إذ من الواضح أنّ ظهور القيد مقدّم على ظهور المقيّد.

والثاني: أنّنا لو أرجعنا الغاية إلى الجزء التحليلي وهو الاستمرار بعد فرض إمكان ذلك ثبوتاً، أصبح الاستمرار تعبّدياً وعنائياً لا حقيقياً، بخلاف ما لو أرجعناه إلى المجموع. والاستمرار ـ لو خلّي ونفسه ـ ظاهر في الحقيقية، غاية الأمر أنّ أصل الحكم ـ أيضاً ـ يكون كذلك، أي: إنّه في نفسه ظاهر في الحقيقية، ولو أرجعنا الغاية إليه أصبح عنائياً، وعندئذ إمّا أن نقول: إنّ الاحتفاظ بظهور الاستمرار في الحقيقية وإرجاع الغاية إلى أصل الحكم أولى من العكس؛ لكون الاستمرار تابعاً في الكلام مقدّماً ظهوره على ظهور أصل الكلام، أو يقال ـ على الأقلّ ـ بعدم أولويّة العكس، وبالتالي لا يبقى في الحديث ـ بحسب عالم الإثبات ـ ظهور في الاستصحاب.

ثم لو تنزّلنا وافترضنا رجوع القيد إلى الجزء التحليلي وهو الاستمرار، قلنا: إنّه لا طريق لنا إثباتاً يدلّ على أخذ الفراغ عن الحدوث في موضوع الحكم. والاستصحاب ليس هو كلّ حكم استمراري تعبّدي، بل الاستصحاب عبارة عن مرجعيّة الحالة السابقة، والحكم بالاستمرار بلحاظ الحالة السابقة.

وأمّا الأمر الثاني: فبما أنّ المفروض لدى المحقّق الخراساني في التعليقة استفادة الحكم الواقعي والظاهري معاً من الصدر، مع استفادة الاستصحاب من الذيل، فلكي يتعقّل ذلك يجب تصوير الاستصحاب بلحاظ الحكم الواقعي وتصويره بلحاظ الحكم الظاهري بنحو ينسجم في المقام مع الحديث، وهذا بالنسبة للحكم الواقعي معقول كما هو واضح، إذ من الممكن التعبّد ظاهراً باستمرار حكم واقعي عند الشكّ في بقائه، ولكن بالنسبة للحكم

178

الظاهري غير معقول، إذ لا يعقل الشكّ في بقاء الحكم الظاهري إلاّ بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ الشكّ في النسخ، فيكون الاستصحاب فيه استصحاباً للحكم الظاهري بوجه من الوجوه، ومن الواضح أنّ هذا لا ينسجم مع الحديث؛ لأنّ الحكم الظاهري بالاستمرار في هذا الفرض يكون مغيّىً بالعلم بالنسخ لا العلم بالقذارة، فإنّ المستصحب هنا هو بقاء الجعل، وهو إنّما يكون مغيّىً بعدم النسخ لا بقاء المجعول، إذ على تقدير النسخ قد حصل النسخ من زمن النبي(صلى الله عليه وآله) لا في زمان آخر، فالمجعول لم يثبت بالنسبة لهذا الذي شككنا في طهارته الظاهرية أصلاً.

2 ـ الشكّ في سعة دائرة الحكم وضيقها، كما لو شككنا أنّ أصالة الطهارة هل هي مجعولة عند الشكّ بشرط عدم الظن بالنجاسة، أو بشرط عدم إخبار ثقة بالنجاسة مثلاً، أو لا؟ فهنا يمكن استصحاب المجعول الذي ينتهي لدى العلم بالقذارة كما ينتهي لدى العلم بعدم المجعول بأيّ وجه من الوجوه.

وخلاصة ما يمكن أن يقال كتوجيه للشكّ في سعة دائرة الحكم في المقام وضيقها: أنّ عبارة: (كلّ شيء طاهر) إنّما بيّنت أصل أصالة الطهارة بنحو القضية المهملة، ومن دون إطلاق ولو بقرينة تذييلها بالاستصحاب، إذ مع فرض تشخّص حدود الحكم لا معنى للاستصحاب، وإنّما يجري الاستصحاب إذا شكّ في حدوده نظير استصحاب حرمة المقاربة بعد النقاء وقبل الغسل، أو استصحاب وجوب الصوم بعد سقوط القرص وقبل ذهاب الحمرة ونحو ذلك.

إلاّ أنّ إرادة الاستصحاب بهذا المعنى من الحديث خلاف الظاهر جدّاً؛ لأنّ الإمام(عليه السلام)كان بصدد بيان الحكم، وهو الطهارة الظاهرية حسب الفرض، والمناسب بشأنه(عليه السلام)عندئذ لدى إرادة علاج حالة الشك في حدود الحكم هو علاجها ببيان حدوده، لا علاجها بالإرجاع إلى الاستصحاب.

ولو غضضنا النظر عن ذلك قلنا أيضاً: إنّ الحديث لا ينطبق على هذا الاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب غايته في الحقيقة هي العلم بعدم الطهارة الظاهرية، لا العلم بالقذارة، وانتهاؤه لدى العلم بالقذارة إنّما يكون من باب أنّ العلم بالقذارة يستلزم العلم بعدم الطهارة الظاهرية.

وقد تقول: بما أنّ التلازم كان ثابتاً من الطرفين، أيّ: إنّ العلم بعدم الطهارة الظاهرية ـ أيضاً ـ كان يستلزم العلم بالقذارة، فقد صحّ بالمسامحة العرفية فرض غاية هذا

179

الاستصحاب العلم بالقذارة.

ولكنّا نقول: إنّه إذا التفت العرف والمتكلّم إلى الملازمة بينهما، فقد التفت في الحقيقة إلى أنّ الطهارة الظاهرية ليس لها في الحقيقة حدّ غير ارتفاع الشكّ؛ إذ لو كان لها حدّ كان من المحتمل وصول ذلك الحدّ إلى المكلّف وانكشافه عنده قبل العلم بالقذارة، فلا تبقى ملازمة بين العلم بالقذارة والعلم بعدم الطهارة الظاهرية، ومع الالتفات إلى ذلك يقطع ببقاء الطهارة الظاهرية، ولا تصل النوبة إلى استصحابها.

3 ـ الشك في تحقّق غاية الطهارة الظاهرية بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو علم مثلاً أنّ غاية الطهارة الظاهرية هي إخبار الثقة بالنجاسة، وشُكّ في إخباره، فيستصحب هنا الطهارة الظاهرية، ولكن هذا ـ أيضاً ـ لا ينسجم مع الحديث؛ لأنّ غاية هذا الاستصحاب هي العلم بارتفاع الطهارة الظاهرية بإخبار الثقة مثلاً، لا العلم بالقذارة. مضافاً إلى استلزام ذلك فرض قيد للطهارة الظاهرية غير مذكور في العبارة نهائياً، وعندئذ يكون افتراض كون الاستصحاب المذكور في هذا الحديث بالنظر الى الشكّ في ذلك القيد غير المشار إليه في العبارة بوجه من الوجوه خلاف الظاهر.

هذا كلّه إذا أراد المحقّق الخراساني(رحمه الله) إرجاع الذيل إلى تمام ما يستفاد عنده من الصدر من الحكم الواقعي والظاهري، بأن يفرض دلالتها على استصحابهما، إلاّ أنّ هنا فروضاً اُخرى يمكن أن تقال في المقام:

الفرض الأوّل: دعوى رجوع الغاية إلى الحكم الواقعي فقط، فتدلّ على استمرار الحكم الواقعي عند الشكّ، فيفرض أنّ هذا دليل على الاستصحاب مثلاً.

ويرد على هذا الفرض: أنّ رجوع الغاية إلى جزء الصدر خلاف الظاهر.

الفرض الثاني: دعوى رجوعها الى الحكم الظاهري فقط.

وهذا ـ مضافاً إلى كونه خلاف الظاهر؛ لأنّه أرجع فيه الغاية إلى جزء من الصدر ـ نقول فيه: إنّه إن اُريد بهذا استصحاب الطهارة الظاهرية ورد عليه ما عرفت من أنّ الشكّ في الطهارة الظاهرية لا يكون إلاّ بأحد أنحاء ثلاثة، ولا يصحّ تطبيق الحديث على شيء منها. وإن اُريد به بيان سعة الطهارة الظاهرية وثبوتها إلى حين العلم بالقذارة لم يكن ذلك وافياً بمقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) من استفادة الاستصحاب من الذيل.

الفرض الثالث: دعوى رجوع الغاية إلى الحكم الواقعي والظاهري معاً، وإرادة الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الواقعي، والاستمرار الحقيقي بالنسبة إلى الحكم الظاهري.

180

وفيه بعد فرض أنّ كلمة(حتّى) لم تستعمل في معنيين، فهي تدلّ على نسبة واحدة: أنَّ هذه النسبة والاستمرار المستفاد في المقام إمّا يكون مطعّماً بالعناية، أو لا. فعلى الأوّل كان استمراراً تعبّدياً مطلقاً، وعلى الثاني كان استمراراً حقيقياً مطلقاً، ولا يمكن التفكيك.

الفرض الرابع: دعوى رجوع الغاية إلى الجامع بين الطهارة الواقعية والظاهرية، بان يكون معناها استصحاب الجامع بين الطهارتين، بأن يقال: إنّ استصحاب الجامع بين الطهارتين غايته هي أبعد الغايتين، وأبعد الغايتين هو العلم بالقذارة؛ إذ لولا العلم بالقذارة فلا أقلّ من احتمال بقاء الطهارة الواقعية، فالطهارة الظاهرية يمكن فرض القطع بانتفائها بحصول العلم بشيء يفرض جعل الشارع له غاية للطهارة الظاهرية، لكن الطهارة الواقعية لا يقطع بارتفاعها ما لم يعلم بالقذارة؛ ولهذا جعلت الغاية في الحديث هي العلم بالقذارة.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّه قد يتّفق في مورد ما أنّه لا يعلم بالطهارة الواقعية حدوثاً أصلاً، وإنّما يعلم بالطهارة الظاهريّة التي ليست غاية استصحابها العلم بالقذارة، إذن فليست الغاية دائماً هي العلم بالقذارة.

وثانياً: أنّ إرجاع الغاية إلى الجامع بين جزئي الصدر يكون في قوّة إرجاعها إلى أحد الجزئين في كونه خلاف الظاهر، وإنّما الظاهر رجوعها إلى الطهارة بما هي منحلّة إلى قسمين، أيّ: إنّها تنظر إلى مجموع القسمين، لا الجامع بينهما.

 

الاتّجاه الثاني:

وأمّا الاتّجاه الثاني، وهو استفادة شيئين من الحديث، فهو تحته قولان:

القول الأوّل: ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية من استفادة الطهارة الواقعيّة والاستصحاب(1).

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ الاستمرار الذي يقصد جعله استصحاباً إمّا يراد استفادته من كلمة(حتّى) أو يراد استفادته من إطلاق كلمة(طاهر)، سواء كان بمقدّمات الحكمة، أو بقرينة الغاية، أو يراد استفادته من محذوف، بأن يقال مثلاً: كان التقدير هكذا: كل شيء طاهر وطهارته مستمرة حتّى تعلم أنّه قذر، كما ذكروه في مقام تصوير ما ينسجم مع هذا القول، (وهذا الوجه يمكن ذكره أيضاً في تصوير الاتّجاه الأوّل وإن كنّا حذفناه هناك).


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 ـ 301 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

181

والوجوه الثلاثة كلّها غير صحيحة:

أمّا الوجه الأوّل، وهو استفادة الاستمرار من كلمة(حتّى) فلما مرّ في الاتّجاه الأوّل من الإشكالات عليه.

وأمّا الوجه الثاني، وهو استفادته من إطلاق كلمة(طاهر) فلما مرّ ـ أيضاً ـ من الإشكال عليه بأنّه بعد أن كان الإطلاق لا تُرى به الحصص، وإنّما شأنه إلغاء الخصوصيات، فأوّلاً: ليس الاستمرار هنا شيئاً مُنشَأً ومجعولاً، وثانياً: لا يصحّ صرف القيد عمّا هو المذكور في الكلام إلى هذا الاستمرار غير المذكور في الكلام. ونضيف هنا إشكالاً ثالثاً قد حذفناه هناك، وهو أنّ إطلاق الشيء يفيد ـ لا محالة ـ سعته واستمراره الحقيقي، ولا معنى لفرضه عنائياً حتى يكون استصحاباً.

ولو قيل: إنّنا نفرض دلالة نفس كلمة(طاهر) على الطهارة في الزمان الأوّل والطهارة في الزمان الثاني، أي: الاستمرار، ولا نفترضها دلالة إطلاقية، فأوضح ما يرد عليه لزوم استعمال لفظ واحد في معنيين، ويرد عليه غير هذا أيضاً، من قبيل ما مضى من لزوم الجمع بين اللحاظ الإيجادي ولحاظ الفراغ عنه.

وأمّا الوجه الثالث، ففرض شيء محذوف في المقام مؤونة زائدة، وبعيد، وإرجاع القيد إليه لا إلى المذكور أبعد.

القول الثاني: ما نسب إلى صاحب الفصول من استفادة الأصل مع الاستصحاب.

ويرد عليه مضافاً إلى ما مضى من أنّ استصحاب الطهارة الظاهرية لا يكون إلاّ في أحد أنحاء ثلاثة من الشكّ، ولا ينطبق الحديث على شيء منها: أنّ الاستمرار إمّا هو مستفاد من المحذوف، والتقدير كان هكذا: كلّ شيء طاهر وطهارته مستمرة حتّى تعلم أنّه قذر، أو من إطلاق كلمة(طاهر) أو من كلمة(حتّى).

أمّا الأوّل، فيرد عليه مضافاً إلى ما مضى من كون الحذف بعيداً، ورجوع القيد إليه دون المذكور أبعد: أنّنا نتساءل: هل القيد يرجع إلى ذاك الاستمرار المحذوف فقط، أو إليه وإلى قوله:«كلّ شيء طاهر»؟ فإن قيل بالأوّل فكيف عرف أنّ الطهارة في الصدر ظاهرية لا واقعية؟! وإن قيل بالثاني ورد عليه: أنّ الطهارة المذكورة في الصدر موضوع للحكم الاستمراري المحذوف ومقدّم عليه رتبة، فلو أُرجع القيد إليهما بفرض استعمال كلمة(حتّى) في نسبتين، لزم منه استعمال اللفظ في معنيين، ولو أُرجع القيد إليهما رغم فرض استعمال كلمة(حتّى) في نسبة واحدة، فالنسبة الواحدة تتطلّب شيئاً واحداً في طرفه لا شيئين، وإذا

182

وجد شيئان في أحد طرفيه جعل المجموع طرفاً واحداً، فهنا يجعل مجموع الموضوع والحكم طرفاً واحداً له، فتكون هذه النسبة الحرفية مندكّة في الموضوع، وجزء تحليلياًله، وفي نفس الوقت جزء للحكم ومندكّة فيه، وهذا معناه التهافت في الرتبة ووجودها في رتبتين، وكأنّ هذا هو المقصود ممّا ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)(على ما أذكر) من لزوم تقدّم الشيء على نفسه(1).

وأمّا الثاني، فيرد عليه ما مضى آنفاً في مناقشة القول الأوّل من هذين القولين.

وأمّا الثالث، فمضافاً إلى ما مضى من الإشكالات في هذا الفرض ثبوتاً وإثباتاً يرد عليه هنا: أنّنا نتساءل: هل يفرض هذا الاستمرار استمراراً حقيقياً أو عنائياً؟ فإن فرض حقيقياً كانت غايته غاية للطهارة المذكورة في الصدر، فإنّ غاية الاستمرار الحقيقي للشيء غاية لذلك الشيء لا محالة، لأنّ الإستمرار الحقيقي للشيء عبارة عن نفس ذلك الشيء وسعته، لكن على هذا لم نستفد الاستصحاب، وإنّما استفدنا الطهارة الظاهرية فقط؛ إذ الاستمرار صار استمراراً حقيقياً للطهارة الظاهرية، أي: إنّ الطهارة الظاهرية بنفسها باقية حقيقةً. وإن فرض عنائياً قلنا: إنّه لا مجال لاستفادة الطهارة الظاهرية من الصدر على هذا التقدير؛ إذ الغاية لم تكن غاية للاستمرار الحقيقي لها حتّى تكون طهارة ظاهرية، وإنّما هي غاية للاستمرار العنائي لها، وغاية الاستمرار العنائي للشيء ليست غاية لنفس ذلك الشيء.

 

الاتّجاه الثالث:

وأمّا الاتّجاه الثالث، فتحته ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: استفادة الطهارة الواقعية، وهذا ما يستفاد من ظواهر عبارة صاحب الحدائق(رحمه الله)(2)، وتصوير ذلك يكون بأحد وجهين:

الأوّل: فرض العلم في الغاية طريقيّاً، فكأنّه قال:(كلّ شيء طاهر حتّى يكون قذراً).

ويرد عليه: أنّ هذا بلا تأويل غير صحيح، والتأويل يكون على خلاف الظاهر لا محالة، والوجه في عدم صحّته بلا تأويل هو لزوم جعل أحد الضدّين غاية للآخر، وتوقيف أحدهما على عدم الآخر كأن يقال: هذا حرام إلى أن يصبح حلالاً. وهذا غير ممكن عقلاً،


(1) عبارة الشيخ(رحمه الله) مايلي: لا يعقل كون شيء في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّى موضوعاً له. راجع الرسائل: ص 335 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) راجع الحدائق: ج 1 من المجلّدات الجديدة، ص 136.

183

ولغو عرفاً.

الثاني: (وهو الظاهر من عبارة صاحب الحدائق(رحمه الله)) أن يقال: إنّ الشيء ما لم يعلم بنجاسته هو طاهر واقعاً، بأن يتحفّظ على موضوعيّة العلم، وهذا يقتضي فرض أخذ العلم بالنجاسة في موضوع شخص تلك النجاسة، وعندئذ إن قلنا: إنّ النجاسة أمر تكويني كشف عنه الشارع، فمن المستحيل أخذ العلم بها في موضوعها(على ما حقّق في محلّه من استحالة كون العلم بالشيء دخيلاً في نفس ذلك الشيء) إلاّ أن يؤوّل بتعدّد الرتبة، كأن يفرض أنّ معنى الحديث هو أخذ العلم بمقتضي التنفّر في موضوع التنفّر الفعلي، من قبيل كون التنفّر الفعلي من ماء وقع فيه الذباب موقوفاً على الاطّلاع على وقوع الذباب فيه، وهذا كما ترى خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من الحديث هو أخذ العلم بالنجاسة الفعليّة غاية للطهارة. وإن قلنا: إنّ النجاسة الشرعية أمر جعلي واعتباري، فإن قصد بأخذ العلم في موضوع النجاسة أخذ العلم بالمجعول في موضوع المجعول، كان هذا محالاً أيضاً، كما حقّق في محلّه. وإن قصد به أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول كان هذا ممكناً، لكنّه خلاف ظاهر الحديث؛ إذ هو بظاهره دالّ على كون الغاية هي العلم بالنجاسة الفعلية.

الوجه الثاني: استفادة الاستصحاب وحده من الحديث، وهذا يستلزم أن يفرض أنّ قوله: «كل شيء طاهر» قد فرضت فيه طهارة الشيء مفروغاً عنها، وإنّما ذكر قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم» للحكم باستمرار تلك الطهارة، ولئن لم يكن ذلك خلاف الظاهر في قوله: «الماء كلّه طاهر» باعتبار وضوح طهارة الماء، فهو خلاف الظاهر حتماً في قوله: «كلّ شيء نظيف»؛ إذ فرض طهارة مفروغ عنها غير مذكورة في العبارة وصرف الكلام إلى النظر إلى الحكم الاستمراري يكون فيه مؤونة زائدة لا محالة، ولعلّه لهذا فرّق الشيخ الأعظم(قدس سره)بين حديث(كلّ شيء طاهر) وحديث(الماء كلّه طاهر) بامكان حمل الثاني على الاستصحاب دون الأوّل(1). هذا مضافاً إلى أن مجرد الحكم الاستمراري بالطهارة ليس استصحاباً؛ إذ لا بدَّ في الاستصحاب من لحاظ الحالة السابقة ومرجعيّتها.

الوجه الثالث: استفادة الطهارة الظاهرية وحدها، وقد اتّضح لك بكلّ ما ذكرناه تعيّن هذا الوجه.


(1) راجع الرسائل: ص 336 بحسب طبعة رحمة الله.

184

وما ذكره بعض كالسيّد الاُستاذ من أنّ حمل الحديث على الطهارة الظاهرية إنّما ينسجم مع إرجاع الغاية إلى الموضوع دون إرجاعها إلى المحمول، وإرجاعها إلى المحمول إنّما يناسب الاستصحاب لا أصالة الطهارة في غير محلِه، بل رجوع الغاية إلى المحمول ـ أيضاً ـ ينسجم مع أصالة الطهارة.

هذا تمام الكلام في أصل الاستصحاب، وقد ثبتت حجّيّته في الجملة.

بقي الكلام في التفاصيل؛ لنرى أنّ الاستصحاب هل هو حجّة مطلقاً أو فيه تفصيل؟ ونقتصر على ذكر تفاصيل ثلاثة:

الأوّل: ما اختاره السيّد الاُستاذ من التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

والثاني: ما اختاره الشيخ الأعظم(رحمه الله) من تفصيل بين ما استفيد عن طريق حكم العقل وغيره.

والثالث: ما اختاره الشيخ الأعظم وتبعه المحقّق النائيني(قدس سرهما) من التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

 

 

 

185

الاستصحاب

3

 

 

 

 

 

 

الأقوال في حجّيّة الاستصحاب

 

 

 

 

 

✽ التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.

✽ التفصيل بين الحكم الشرعي الثابت بحكم العقل وبدليل شرعي.

✽ التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

187

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة:

 

أمّا التفصيل الأوّل، وهو التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية، فهو ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ، وقد تطوّرت هذه الفكرة في ذهنه من ناحيتين، فهو كان يقول أوّلاً بعدم حجّيّة استصحاب الحكم سواء كانت الشبهة حكميّة او موضوعيّة، ففي الشبهة الموضوعيّة ـ أيضاً ـ لا يجري استصحاب الحكم في نفسه بغضّ النظر عن حكومة استصحاب الموضوع عليه، وهذا ـ أي: إنكاره لاستصحاب الحكم في الشبهة الموضوعيّة ـ لم يكن له مزيد خطورة؛ لأنّ استصحاب الموضوع يغني عن استصحاب الحكم. وعلى أيّ حال فبالبحث والنقاش جرى على هذه الفكرة تعديلان:

الأوّل: هو استثناء استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية والقول بجريانه، وهذا الاستثناء كان يبني عليه أحياناً وينكره أحياناً إلى أن استقرّ عليه.

الثاني: استثناء الشبهات الحكمية الترخيصيّة وما بحكمها. فقال بجريان الاستصحاب فيها، وقال بعدم جريان الاستصحاب في خصوص الشبهات الحكمية الالزامية وما بحكمها. ويظهر بعد هذا ـ إن شاء الله ـ ما هو المقصود بقولنا:(وما بحكمها)(1).

ومنشأ ذهابه إلى هذا التفصيل هو ما ذكره المحقّق النراقي(رحمه الله) من عدم جريان استصحاب الحكم ـ ولعل المتيقّن من عبارته الشبهة الحكميّة ـ مستدلاًّ بتعارض استصحاب وجوب


(1) وهو كلّ ما يُرى أنّ في جعله مؤونة، ولا يكفي مجرّد الإمضاء في صدر الشريعة له.

188

الجلوس في الساعة الثانية مثلاً إذا وجب في الساعة الاُولى باستصحاب العدم الأزلي لوجوب الجلوس في الساعة الثانية، فطوّر السيّد الاُستاذ هذا الكلام وعمّقه بنحو لا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّه إذا فرض الزمان مفرِّداً للجلوس، وعدّ جلوس الساعة الاُولى موضوعاً، وجلوس الساعة الثانية موضوعاً آخر، جرى استصحاب العدم الأزلي لوجوب الثاني، ولا موضوع لاستصحاب وجوبه؛ لأنّ الشكّ في الحدوث لا في البقاء، وإن كان الزمان ظرفاً فقط وغير معدِّد للموضوع، فوجوب الجلوس في الساعة الثانية بقاءٌ لوجوب الجلوس في الساعة الاُولى، واستصحاب عدم البقاء لا معنى له، بل يجري بعد العلم بحصّته الحدوثية الاستصحاب الحاكم بثبوت حصّته البقائية(1).

وذكر السيّد الاُستاذ(2) في فرض الشكّ في الحكم إذا كان بنحو الشبهة الحكمية بمعنى الشكّ في سعة وضيق دائرة المجعول، من قبيل ما لو شكّ في أنّ اليوم الواجب صومه في شهر رمضان هل هو إلى الغروب أو الى زوال الحمرة: أنّ استصحاب بقاء المجعول معارض باستصحاب العدم الأزلي للجعل؛ لأنّ الجعل يختلف قلّةً وكثرةً بطول المجعول وقصره، فالشكّ في طول المجعول يساوق الشكّ في كثرة الجعل، فاستصحاب بقاء المجعول يعارض استصحاب عدم الجعل، وليس هذا استصحاباً لعدم البقاء الذي أُثبت بالاستصحاب الأوّل حتّى يقال: إنّه لا معنى لجريان استصحاب عدم البقاء، وإنّما هنا مركزان للاستصحاب: أحدهما: المجعول، ويجري فيه استصحاب البقاء بعد البناء على ظرفيّة الزمان. والثاني: الجعل، ويجري فيه استصحاب العدم، فيتعارضان.

ولعلّ مقصود المحقّق النراقي(رحمه الله) هو ما ذكره السيّد الاُستاذ.

وقد تعرّض السيّد الاُستاذ للإشكالات التي اعترض بها على هذا التقريب ولو بصيغته النراقية ودفعها وفق صيغته التي التزم بها:

الإشكال الأوّل: ما مضى عن الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّه مع مفرّديّة الزمان لا معنى لاستصحاب الحكم، ومع ظرفيّته لا معنى لاستصحاب عدم البقاء: وهذا ـ كما ترى ـ وإن كان يرد على الصيغة النراقية، لكن على صيغة السيّد الاُستاذ جوابه واضح كما عرفت، فهو يختار ظرفيّة الزمان ويستصحب عدم جعل الزائد، لا عدم بقاء المجعول.


(1) راجع الرسائل: ص 377 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 47 ـ 48.

189

الإشكال الثاني: عدم اتّصال زمان المشكوك وهو الساعة الثانية التي شكّ في وجوب الجلوس فيها بزمان اليقين بعدم الوجوب وهو ما قبل الساعة الاُولى؛ وذلك للفصل بالساعة الاُولى التي علم بالوجوب فيها.

وهذا ـ كما ترى ـ هو نفس الإشكال السابق بعد اختيار ظرفيّة الزمان، وجوابه على صيغة السيّد الاُستاذ واضح؛ فإنّه لا يحسب حساب الشكّ في المجعول، وإنّما يحسب حساب الشكّ في الجعل، فزمان المشكوك ممتدّ إلى أوائل الشريعة، وزمان المتيقّن هو أوائل الشريعة مثلاً التي نقطع فيها بأنّه لم يكن هذا الحكم مجعولاً، فإنّ جعول الأحكام ليست أزلية.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي التفت إلى إمكان توجيه كلام النراقي(قدس سره)باستصحاب عدم الجعل، ومحصّل الإشكال: أنّ استصحاب عدم الجعل لا يترتّب عليه أثر عقلي ولا شرعي: أمّا الأثر العقلي وهو التنجيز والتعذير فإنّما يرتبط بالمجعول لا بالجعل، فلو فرض محالاً تحقّق المجعول بدون الجعل حكم العقل بوجوب امتثاله، ولو فرض الجعل فقط ولم يصل إلى مرتبة الفعلية لم يحكم العقل بوجوب امتثاله. وأمّا الأثر الشرعي فأيضاً غير موجود، فإنّ ترتّب المجعول على الجعل عند تحقّق الموضوع إنّما هو من اللوازم العقلية، وليس أثراً شرعيّاً(1).

وكانت لسيّدنا الاُستاذ صياغات مختلفة في مقام ذكر الجواب على هذا الإشكال، لكنّ الصيغة المدرسيّة التي أعطاها في البحث على المستوى العامّ هي: أنّ العقل يحكم بذلك الأثر العقلي وهو التنجيز مهما ثبت شيئان وجداناً أو تعبداً، أو أحدهما وجداناً والآخر تعبداً: الأوّل: هو الجعل، والثاني: هو الموضوع، فمهما علم بجعل وجوب مثلاً على موضوع مع العلم بتحقّق ذلك الموضوع، حكم العقل لا محالة بوجوب الامتثال؛ لحصول الجعل مع موضوعه، وبنفي أحد هذين الشيئين ينتفي التنجيز لا محالة، فكما يُنفى التنجيز باستصحاب عدم الموضوع عند الشكّ فيه كذلك يُنفى التنجيز باستصحاب عدم الجعل عند الشكّ فيه(2).

الإشكال الرابع: ما أوردناه عليه، وهو: أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب مثلاً معارَض باستصحاب آخر من سنخه وهو استصحاب عدم جعل الإباحة، ونحن نقطع بأنّ هذا إمّا مباح أو واجب، والسيّد الاُستاذ ملتزم بأنّ الإباحة حكم وجوديّ وليس مجرّد عدم الحكم.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 183 و ص 447 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات: ج 2، ص 396 و 406.

(2) راجع مصباح الاصول: الجزء الثالث، ص 46.

190

وأجاب على ذلك بأجوبة ثلاثة:

الأوّل: أنّه لو عورض استصحاب عدم جعل الوجوب باستصحاب عدم جعل الإباحة، لم يغيّر ذلك شيئاً من الموقف، وغاية ما في المقام: هي أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب ابتلي بمعارضين: أحدهما: استصحاب عدم جعل الإباحة، والثاني: استصحاب بقاء المجعول، فتساقط الكلّ بالمعارضة.

الثاني: أنّ استصحاب عدم جعل الوجوب واستصحاب عدم جعل الإباحة لا يتعارضان؛ لعدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة من جريانهما، فإنّنا لم نعلم بحكم إلزامي، وإنّما علمنا بحكم مردّد بين كونه إلزامياً أو ترخيصيّاً، وهذا لا أثر له.

الثالث: أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة غير جار؛ لانتقاضه باليقين بجعلها، فإنّه في أوّل الشريعة لم يوجب شيء غير الاعتراف بالتوحيد، فكان في أوّل الشريعة كلّ الأفعال مباحاً، وكل شيء طاهراً، فلا يمكن استصحاب عدم جعل الإباحة أو الطهارة(1).

وهناك جواب رابع، وهو: أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة لا أثر له، فإنّ الأثر إنّما يترتّب على الوجوب وجوداً وعدماً.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ كان يريده لكنّه أخيراً وقع الاتّفاق بيننا وبينه على بطلانه، وسوف يتبيّن حاله ـ إن شاء الله ـ فيما يأتي(2).

ثمّ إنّنا قبل أن نشرع في تحقيق ما هو الصحيح في المقام نذكر نكات ثلاث حول شرح مقصود السيّد الاُستاذ.

النكتة الاولى: أنّ السيّد الاُستاذ لا يقصد باستصحاب عدم الجعل استصحاب عدم اللحاظ الزائد الذي لا يمكن توهّمه في المطلق، إلاّ بناءً على مبناه من كون تقابل الإطلاق والتقييد هوتقابل التضاد، وأمّا بناءً على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وبناءً على مبنانا من كونه تقابل التناقض، فلا معنى لاستصحاب عدم المؤونة الزائدة اللحاظية؛ إذ لا توجد مؤونة زائدة لحاظية في الإطلاق، وإنّما القيد هو الذي يحتاج إلى مؤونة زائدة لحاظيّة، ولو كان هذا هو المقصود لورد عليه إشكال واضح، وهو: أنّ نسبة


(1) راجع نفس المصدر: ص 42 ـ 44.

(2) كأنّه إشارة إلى ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة يجوّز الإفتاء بعدم جعل الإباحة واقعاً بناءً على ما ذهب إليه السيّد الخوئي(رحمه الله) من أنّ الاستصحاب يصحّح الإفتاء بثبوت الحكم الثابت به واقعاً؛ لكونه علماً بذلك الحكم تعبّدا.

191

لحاظ المولى إلى الجعل كنسبة حياته مثلاً إليه يكون شرطاً تكوينياً في الجعل، ولا أثر لاستصحاب عدمه، وإنّما يقصد استصحاب عدم نفس الجعل.

النكتة الثانية: أنّه يمكن الاستشكال في كلام السيّد الاُستاذ بأنّه قد لا يوجد مجال لاستصحاب عدم الجعل الزائد؛ إذ لا معنى لافتراض قلّة وكثرة في عالم الجعل إلاّ بنحوين:

الأوّل: أن تفرض في المقام جعول متعدّدة مستقلة، ويقطع ببعضها ويشكّ في بعض آخر، فيُجرى استصحاب عدم الجعل الزائد. وهذا خلاف الفرض، ولو فرضت جعول متعدّدة إذن لأصبحت المجعولات ـ أيضاً ـ متعددة، فإنّ تعدّد الجعل يستتبع ـ لا محالة ـ تعدّد المجعول، وعندئذ لا معنى لاستصحاب بقاء المجعول.

والثاني: أن يفرض في المقام جعل واحد تعلّق بالحصص بشكل تفصيلي، كأن يكون مثلاً على صيغة(اجلس في الساعة الاُولى وفي الساعة الثانية وفي الساعة الثالثة إلخ) فهذا الجعل الواحد يدور أمره بين الزائد والناقص على حدّ دوران أمر التصور المتعلّق بأشياء بعناوينها التفصيلية بين الزائد والناقص، فيجري استصحاب عدم المقدار الزائد، حيث إنّ الجعل الزائد والجعل الناقص وإن كانا بحدودهما متباينين، لكن ذات الجعلين بغضّ النظر عن الحدّين يدخلان في الأقلّ والأكثر، فيستصحب عدم المقدار الزائد، وهذا من قبيل أنّ الأقلّ والأكثر الارتباطيّين يكونان بحدودهما متباينين، وبذاتهما أقلّ وأكثر.

إلاّ أنّ الجعل إذا كان بصيغة الإطلاق لم يرد فيه هذا الكلام، لأنّ الإطلاق لا يُري الحصص تفصيلياً، وإنّما هو رفض للقيود، إذن فليس الأمر في ذات الجعلين دائراً بين الأقلّ والأكثر، وإنّما الأمر دائر بين المتباينين، فما معنى استصحاب عدم الجعل الزائد؟! وكذلك إذا كان الجعل بصيغة العموم، فإنّ العموم لا ينظر إلى الحصص بعناوينها التفصيلية، وإنّما ينظر إليها بعنوان إجمالي، فأيضاً ليس الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر. وقد تبيّن بذلك: أنّه لا موضوع لاستصحاب عدم الجعل الزائد، ولا استصحاب عدم اللحاظ الزائد(بغضّ النظر عمّا مضى في النكتة الاُولى من الإشكال على استصحاب عدم اللحاظ).

وهذا الإشكال ينشأ من الصيغة المدرسية التي أعطاها السيّد الاُستاذ في بحثه في تقريب مرامه من أنّ طول المجعول وقصره يساوق كثرة الجعل وقلّته، فيستصحب عدم الجعل الزائد.

ولكن حاقّ مقصوده ـ ولو بالارتكاز الذي يصل إليه لو نوقش ـ هو: أنّ الجلوس في الساعة الاُولى مثلاً قد ثبت له الجعل يقيناً، والجلوس في الساعة الثانية لا ندري هل ثبت له

192

الجعل، أي: جعل الوجوب ولو من باب تعلق الجعل بما ينطبق على هذه الحصّة أيضاً، أو لا؟

وبكلمة اُخرى: أنّنا لو احتملنا الجعل للساعة الثانية بنحو الجعل الناظر إلى الساعات بعناوينها التفصيلية، استصحبنا عدم الجعل الزائد، ولو احتملنا شمول الجعل للساعة الثانية بسبب تعلّقه بعنوان غير مقيّد بالساعة الاُولى، استصحبنا عدم جعل من هذا القبيل، ولا يعارضه استصحاب عدم الجعل على المقيّد بالساعة الاُولى؛ إذ لا أثر لهذا الاستصحاب؛ لأنّه إن اُريد به نفي وجوب الجلوس في الساعة الاولى فوجوب الجلوس فيها مقطوع به. وإن اُريد به إثبات تعلّق الجعل بالمطلق فهذا تعويل على الأصل المثبت.

النكتة الثالثة: أورد بعض على فرضيّة تعارض استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل أنّه لا تعارض بين الاستصحابين، فإنّ استصحاب المجعول يثبت إطلاق المجعول للساعة الثانية، واستصحاب عدم الجعل ينفي جعلاً ثابتاً على الساعة الثانية، وهذان ليسا متنافيين(1).

أقول: إنّ استصحاب المجعول لا يثبت إطلاق المجعول للساعة الثانية، وإنّما يثبت إجمالاً بقاء المجعول، وهو وإن كان مستلزماً عقلاً لكون الحكم هو الحكم المطلق حتّى يعقل بقاؤه، لكنّه لا يثبت بهذا إطلاقه إلاّ بناءً على الأصل المثبت، وليس استصحاب عدم الجعل نافياً للجعل الثابت على الساعة الثانية بالخصوص، بل ـ كما عرفت ـ ينفي احتمال جعل مطلق شامل للساعة الثانية.

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب فنقول: إنّ منطقة الفراغ في كلام السيّد الاُستاذ هي تحقيق حال أصل استصحاب المجعول، حيث قد فرغ عن صحّة هذا الاستصحاب في نفسه ولم يبحث عنه شيئاً، وبنى على إبطاله بالمعارضة مع استصحاب عدم الجعل، كما لم يبحث عنه أحد قبله ـ أيضاً ـ فيمن أعلم عدا المحقّق العراقي(رحمه الله) الذي استعرض إشكالاً في المقام، ولكن هنا إشكالاً آخر لم أَرَ من تعرّض له، فنحن نتعرّض له، ونتكلّم في حُلولِه، فنرى أنّه


(1) لم أرَ أحداً اعترض بهذا الاعتراض على التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل. نعم، السيّد الإمام(رحمه الله) اعترض على الصيغة النراقية بأنّ موضوع الاستصحابين إن كان واحداً فلا يوجد استصحابان حتّى يتعارضا، فالموضوع إمّا هو ذات الجلوس فيجري استصحاب وجوبه فحسب، أو جلوس الساعة الثانية بقيد الساعة الثانية فيجري استصحاب عدمه فحسب، وإن كان متعدّداً بأنْ استصحبنا وجوب ذات الجلوس وعدم وجوب جلوس الساعة الثانية بقيد الساعة الثانية، فهما ليسا متعارضين. راجع الرسائل للسيد الإمام الخميني(رحمه الله)ص 163 ـ 164.

193

بذلك ينحلّ إشكال التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

والإشكال الذي ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) في المقام هو: أنّ وحدة الموضوع المشروطة في باب الاستصحاب ليست هي الوحدة في الماهية، وإلاّ لصحّ الاستصحاب في ما لو علم بوجود زيد ثم شُكّ في وجود عمرو لوحدة الماهية، وإنّما هي الوحدة في الوجود الخارجي. وعلى هذا يشكل استصحاب الحكم؛ لأنّ الحكم ليس له وجود خارجي حتّى تثبت الوحدة في الوجود الخارجي، وإنّما الحكم أمر قائم في ذهن المولى. ثمّ أجاب(رحمه الله) عن هذا الإشكال بجواب(1)، ونحن سوف نتكلّم في تحقيق الحال في ذلك ـ إن شاء الله ـ في مبحث اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب(2)، أي: لزوم وحدة موضوع القضيّة المشكوكة مع موضوع القضية المتيقّنة، فنتكلّم في أنّ هذه الوحدة هل هي وحدة في الماهية، أو وحدة في الوجود، أو أيّ شيء هي؟ والآن نريد توضيح الإشكال الذي ينتهي البحث عنه إلى حلّ إشكال التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل. وهذا الإشكال لم يتعرّض له أحد ـ فيما أعلم ـ وأُلفِتُ النظر إلى عدم تعرّض أحد له، وعدم خطوره على بال أحد منهم لأجل دخل هذا ـ أي: عدم خطوره على بالهم وعدم ذكرهم له ـ في حلّه.

وهذا الإشكال هو: أنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا كان الشكّ شكّاً في البقاء، فلو لم يكن الشكّ شكّاً في حصّة متأخّرة حتّى يكون بقاءً للحصّة الحدوثية، بل كان شكّاً في شيء معاصر للحصّة الحدوثية، فهذا ليس شكّاً في البقاء، ولا يجري فيه الاستصحاب. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ وجوب الجلوس في الساعة الثانية ـ على تقدير ثبوته ـ معاصر لوجوب الجلوس في الساعة الاُولى، وقد وُجدا في آن واحد، فليس أحدهما يشكّل الحصّة الحدوثية والآخر الحصّة البقائية، فإنهما إنّما وُجدا بالجعل، وجعلهما إنّما صار في آن واحد، وسنعمّق هذا الإشكال عند إبطال الجواب الأوّل من أجوبته. وهذا الإشكال يمكن الجواب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما يخطر عموماً على البال عند إلقاء هذا الإشكال، وهو: أنّ المجعول ليس معاصراً للجعل، توضيحه: أنّ القضايا الإخبارية على نهج القضايا الحقيقية توجد محمولاتها لموضوعاتها بنحوين من الوجود، فحينما يقال مثلاً: (النار حارّة) فحتّى لو لم تكن


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 9 ـ 10. وراجع ـ أيضاً ـ المقالات: ج 2، ص 335 ـ 336 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

(2) أظنّ أنّه(رحمه الله) لم يتعرّض في بحث اشتراط بقاء الموضوع إلى الشبهة التي طرحها الشيخ العراقي(رحمه الله).

194

النار موجودة في الخارج قد وجدت النار بوجود تقديري في عالم عقد القضية، ووجد المحمول وهي الحرارة بوجود تقديري ـ أيضاً ـ للموضوع، وحينما يوجد الموضوع وجوداً فعلياً في الخارج يوجد المحمول ـ أيضاً ـ وجوداً فعلياً، فصار لمحموله لونان من الوجود: الأوّل: وجود تقديري على الموضوع المقدّر الوجود، والثاني: وجود فعلي على الموضوع الفعلي الوجود. هذا حال القضايا الإخبارية، ومثلها تماماً القضايا الجعلية التي جعلت بنحو القضايا الحقيقية، فيحنما يقال: (الماء المتغيّر نجس) يوجد للماء المتغيّر وجود تقديري في عالم الجعل، وللنجاسة ـ أيضاً ـ وجود تقديري ثابت لذلك الموضوع المقدّر الوجود، وحينما يوجد الماء المتغيّر في الخارج بالفعل يوجد المحمول وهو النجاسة وجوداً فعلياً ثابتاً لذلك الموضوع. إذن فصار للحكم وجودان: وجود تقديري ثابت للموضوع المقدر الوجود، وهذا ما نسمّيه بالجعل، ووجود فعلي يتحقّق عند فعلية الموضوع، وهذا ما نسمّيه بالمجعول. والمجعول إنّما يوجد عند وجود الجعل والموضوع معاً، لا بمجرّد وجود الجعل، ومن الواضح أنّ وجوب الجلوس في الساعة الثانية إنّما يصبح فعلياً بعد فعلية وجوبه في الساعة الاُولى، وليس في عرض الحصّة الحدوثية كما ذكر في الإشكال، ويكون للمجعول ـ لا محالة ـ حدوث وبقاء.

ويرد عليه ما أوضحناه في محلّه من عدم تحقّق وجود ثان للحكم عند وجود الموضوع. ونقول هنا بنحو الإجمال: إنّ قياس باب القضايا الجعليّة بالقضايا الإخباريّة غير صحيح، فإنّ الحكم الذي وجد بالجعل والاعتبار لا يوجد وجوداً ثانياً عند تحقّق الموضوع خارجاً؛ إذ لو وجد وجوداً ثانياً عند وجود الموضوع فهل هو وجود تكويني أو وجود جعلي واعتباري؟ فإن قيل بالوجود التكويني فهو واضح البطلان، فإنّ الحكم ليس له وجود تكويني خارجي. وإن قيل بالوجود الاعتباري والجعلي فهذا أوضح بطلاناً، فإنّ المولى لا ينقدح في نفسه عند وجود الموضوع أيّ اعتبار جديد، وقد يكون نائماً، أو غافلاً عند وجود الموضوع، أو غير مطّلع على وجوده، وعدم تغيّر حال المولى النفساني بمجرّد وجود الموضوع خارجاً ثابت بالوجدان، كما هو ثابت ـ أيضاً ـ بالحكم العقلي الحاكم باستحالة تأثير الشيء الخارجي بما هو خارجي في عالم النفس، وعليه فالحكم إنّما يوجد عند الجعل، وليس له وجود ثان وراء ذاك الوجود التقديري يتحقق عند تحقق الموضوع، فرجع الإشكال؛ إذ يقال تعميقاً للإشكال: هل يقصد باستصحاب بقاء الحكم استصحاب ذاك الوجود التقديري للحكم المسمّى بالوجود الجعلي؛ أو يقصد استصحاب الوجود الفعلي