195

الذي يتحقّق عند وجود الموضوع؟ فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ وجوب الجلوس في الساعة الاُولى ووجوبه في الساعة الثانية على تقدير ثبوته قد وُجدا بجعل واحد في آن واحد، وكذا النجاسة قبل زوال التغيّر وبعده. وإن قصد الثاني قلنا: إنّ الحكم لا يوجد بوجود جديد عند وجود الموضوع.

هذا. وهنا شيء آخر وهو: أنّه لو بنينا على إجراء الاستصحاب بهذا البيان لزم منه أن لا يصحّ للفقية الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مثلاً إلاّ عند ما يوجد ماء متغيّر خارجاً ويزول تغيّره ويطّلع الفقيه على ذلك، فعندئذ يصحّ له الحكم بالنجاسة، فقبل أن يتّفق ذلك أو يطّلع الفقيه عليه ليس له إلاّ أن يفتي بأنّه لو اتّفق ذلك لترتّب عليه حكم النجاسة، لا أن يحكم هو بالنجاسة من قبيل حكمه بنجاسة شيء تثبت نجاسته بالاطلاق مثلاً، وهذا خلاف الارتكاز الفقهي.

بل يصعب على الفقيه الافتاء بالنجاسة ولو بهذا الوجه بناءً على أحد المسلكين في باب الاستصحاب في الشبهات الحكمية، توضيح ذلك: أنّ في إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسلكين:

أحدهما: أنّ الاستصحاب إنّما يجري في حقّ الفقيه لا في حقّ العامي، وإنّما يفتي الفقيه العامي بالحكم الذي استفاده من الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب علم تعبّداً، ويجوز للشخص أن يفتي بما علم به، ويجوز لمقلّديه تقليده على تفصيل مضى في مبحث القطع.

وثانيهما: أنّ الاستصحاب يجري في حقّ العامي، والفقيه ينبّهه إلى الحكم الثابت في حقّه بالاستصحاب الجاري له. فبناءً على المسلك الأوّل تتولّد هنا مشكلة، وهي: أنّ الفقيه هل يفتي اعتماداً على الاستصحاب الثابت في حقّ العامي، أو يفتي اعتماداً على الاستصحاب الثابت في حقّه هو؟ أمّا الأوّل فهو خلاف ما هو المفروض في هذا المسلك، وأمّا الثاني فهو لا يتمّ إلاّ إذا اطّلع الفقيه على وجود الموضوع خارجاً حتّى يتمّ له متيقّن ومشكوك. فلا بدّ للعامي أن يأخذ الفقيه في كلّ مرّة إلى بيته مثلاً ليرى الماء المتغيّر ويتمّ في حقّه الاستصحاب، فيستصحب ويفتي، ثمّ يخرج من البيت.

نعم، بناءً على المسلك الثاني لا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه على هذا المسلك لا يلحظ الفقيه حال نفسه عند الإفتاء حتّى يحتاج إلى أن يحرز هو بنفسه الموضوع، وإنّما يلحظ حال العامي.

196

نعم، بناءً على هذا إنّما يفتي الفقيه العامي بالطهارات الجزئية(1) بعدد ما يتّفق له خارجاً من أفراد الموضوع، ولا يفتيه بطهارة كلّيّة من قبيل إفتائه بها عندما ثبتت طهارة شيء بالإطلاق مثلاً، وهذا وإن لم يولّد مشكلة في الإفتاء لكنّه خلاف ظاهر الصيغ المرسومة للإفتاء في أمثال هذا المورد، فيؤيّد ذلك ما ادّعيناه من مخالفة ذلك للارتكاز.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه أمران:

الأوّل: أنّ هذا الوجه الأوّل في نفسه غير معقول.

والثاني: أنّه يلزم منه خلاف الارتكاز الفقهي، بل الإشكال في الإفتاء على أحد المسلكين، ولا بدّ من لحاظ كلّ وجه من الوجوه الآتية بالقياس إلى هذين الأمرين.

الوجه الثاني: هو الجواب الذي ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) عن إشكاله الذي مضى ذكره، وهو أنّ الحكم وإن كان أمراً ذهنياً لكن توجد له علاقه مع ما في الخارج يجري الاستصحاب بلحاظها. وبيان ذلك موقوف على الالتفات إلى مقدّمة حاصلها: أنّ العوارض ـ على حدّ تقسيم الفلاسفة ـ تنقسم إلى أقسام ثلاثة:

1 ـ ما يكون العروض فيه خارجياً (أي: إنّ العارض خارجي، أي: موجود في الخارج) والاتّصاف ـ أيضاً ـ خارجيّاً، كما في البياض والسواد، فإنّهما أمران خارجيّان، أي: موجودان في الخارج لا في الذهن، واتّصاف الجسم بهما ـ أيضاً ـ خارجيّ، فإنّ الجسم في الخارج يصبح أسود أو أبيض لا في الذهن.

2 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً (أي: إنّ العارض ذهنيٌ) والاتّصاف ـ أيضاً ـ ذهنيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في المنطق، كنوعيّة الإنسان، فليست النوعيّة شيئاً موجوداً في الخارج، وإنّما هي موجودةٌ في الذهن، وليس الإنسان في الخارج متّصفاً بالنوعيّة، فزيد وعمرو وبكر مثلاً ليسوا أنواعاً، وإنّما يتّصف الإنسان في الذهن بالنوعيّة، أي: إنّ مفهوم الإنسان الذي هو أمر ذهني يقال عنه: إنّه نوع.

3 ـ ما يكون العروض فيه ذهنياً والاتصاف خارجيّاً، من قبيل المعقولات الثانية في الفلسفة، كالإمكان بالنسبة للإنسان مثلاً، فالإمكان ليس شيئاً خارجيّاً، بدليل ثبوته قبل وجود الشيء الممكن، فلو كان خارجيّاً لزم محذور وجود العارض قبل وجود ما يتقوّم به، كما أنّه يلزم بعض المحاذير الاُخرى أيضاً، ولكن اتّصاف الممكن بالإمكان خارجي، فإنّ


(1) فيما إذا أراد أن يفتيه بالمستصحب، كما هو المألوف في الشبهات الحكمية، لا بالاستصحاب.

197

الإنسان في الخارج ممكن.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الحكم الشرعي كالنجاسة مثلاً يكون عروضه ذهنياً، أي: إنّ العارض وهو الحكم أمر ذهني، لكنّ اتّصاف الشيء به خارجيّ. أمّا الأوّل فهو واضح، فإنّ الأحكام الشرعية ليست اُموراً تكوينيّة خارجيّة، وإنّما هي اُمور اعتباريّة يعتبرها الحاكم. وأمّا الثاني فلما هو واضح ـ أيضاً ـ من أنّ الخمر مثلاً في الخارج نجس، لا أنّ الوجود الذهني الذي هو جزء للحاكم يصبح نجساً.

وبهذا أجاب المحقّق العراقي(رحمه الله) عمّا ذكره هو من الإشكال الذي مضى ذكره، وذلك بأن يقال: إنّنا نستصحب الاتّصاف الذي هو أمر خارجي، ويكفي هذا اللون من ألوان الوجود الخارجي فيما جعلناه شرطاً في الاستصحاب من ثبوت الوحدة في الوجود الخارجي.

وبالإمكان أن يجعل هذا جواباً على الإشكال الذي نحن ذكرناه، وذلك بأن يقال: إنّ العارض وإن لم يكن فيه حدوث وبقاء، لكن الاتّصاف يكون ـ لا محالة ـ تابعاً للمتّصف الذي هو أمر خارجي ومشروطاً به، وحيث إنّ المتّصف وهو الجلوس في الساعتين أو الماء المتغيّر في الحالتين مثلاً له حدوث وبقاء فالاتّصاف بالحكم يكون ـ لا محالة ـ له حدوث وبقاء، فيجري استصحاب البقاء بلحاظه.

لكن التحقيق: أنّ هذا الكلام بهذه الصياغة التي يريدها المحقّق العراقي(رحمه الله) غير صحيح؛ لعدم تعقّل ما مضى في التقسيم الثلاثي للعوارض من كون بعض العوارض ذهنياً عروضاً، وخارجياً اتّصافاً، فإنّ اتّصاف الشيء بشيء يكون بمعنى الهوهويّة والاتّحاد، واتّحاد شيء مع شيء إنّما يعقل في ظرف وجود ذلك الشيء لا في ظرف آخر، فلو كان العارض ظرفه هو الذهن فلا معنى لاتّحاده مع المعروض الخارجي في الخارج، وقد تورّط الفلاسفة في هذا المحذور وفي محاذير اُخرى من ناحية حصرهم لعوالم واقعية الشيء في عالَمين: عالَم الوجود الخارجي، وعالَم الذهن، فحيث رَأَوا أنّ إمكان الانسان ليس شيئاً موجوداً في الخارج، بدليل تقدّمه على وجود الإنسان، وفي نفس الوقت ليس اتّصاف الانسان بالإمكان مجرد أمر ذهني يطرأ على مفهوم الإنسان الموجود في الذهن، فاضطرّوا إلى أن يقولوا: إنّ الإمكان ذهني عرضاً، خارجي اتّصافاً.

والصحيح: أنّ عالَم الواقع أوسع من عالَم الذهن والخارج، فقد يكون شيء واقعياً قبل عالم الوجود، بلا حاجة إلى لَبس ثوب الوجود كالإمكان، فيكون عروضه ـ أي: وجوده ـ مع اتّصاف المعروض به كلاهما ثابتاً في لوح الواقع قبل عالم الوجود، من قبيل الإمكان، وقد

198

يكون شيء لا يصبح واقعياً إلاّ إذا لبس ثوب الوجود، فإذا كان ما لبسه من الثوب هو ثوب الوجود الذهني كان العروض والاتّصاف كلاهما ذهنياً، وهذا ما مثّلوا له بالنوعية (وإن كان هذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وإنّما الصحيح: أنّ نوعيّة الإنسان كإمكانه من موجودات عالم لوح الواقع) وإذا كان هو ثوب الوجود الخارجي كان العروض والاتّصاف كلاهما في الخارج، من قبيل السواد والبياض مثلاً، فلم يقع اختلاف بين ظرف العروض وظرف الاتصاف في مورد من الموارد أبداً.

نعم، يمكننا أن نتنزّل عن هذه الصياغة الفلسفية الموجودة في ما يقوله المحقّق العراقي(رحمه الله)، ونذكر العلاقة بين الحكم الذي هو أمر ذهني والشيء الخارجي ببيان آخر خال عن هذه التعسّفات، وذلك بأن نقول: إنّ الحكم وإن كان أمراً ذهنياً قائماً في نفس الحاكم لكنّه يختلف عن النوعية ـ لو فرضنا أنّها أمر ذهني ـ وذلك لأنّ النوعية إنّما تحمل على مفهوم الإنسان لا بما هو مرآة لمصاديقه، وأمّا النجاسة مثلاً فإنّما تحمل على الماء بما هو مرآة لمصاديقه لا بما هو صورة ذهنية قائمة في نفس الحاكم؛ ولذا لا يقال: إنّ تلك الصورة تنجّست، وإنّما يقال: إنّ الماء تنجس. وهذا وإن لم يكن جسراً بين ذهن الحاكم وما في الخارج يَعْبُر عنه الحكم من ذهن الحاكم ليطرأ حقيقةً على ما في الخارج، ولكنه يوجب أن تحمل هذه الصفة النفسانية بالعرض والمجاز على ما في الخارج، فلهذا الحكم معروض بالذات وهو الصورة الذهنية، ومعروض بالعرض وهو ما في الخارج، من قبيل المحبوب بالذات والمحبوب بالعرض، والمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ونحو ذلك، فالعلم والحبّ إنّما يطرآن حقيقةً على الصورة النفسية، فهي المعلومة او المحبوبة بالذات، لكنّها إنّما صارت كذلك بما هي مرآة إلى ما في الخارج، فما في الخارج هو المعلوم أو المحبوب بالعرض.

ولكن هذا البيان لا يحلّ إشكالنا؛ وذلك لأنّ فرض عروض الحكم الذي هو حالة ذهنية في نفس المولى على ما في الخارج لم يكن أمراً حقيقياً يقال فيه: إنّه تابع لوجود ذلك الشيء الخارجي، فيتصور له الحدوث والبقاء بتبع ذلك الشي، وإنّما هو أمر مسامحي قائم على أساس الخلط بين الصورة وذي الصورة، والخلط بين المعروض بالذات والمعروض بالعرض، وهذا الخلط موجود من أوّل الأمر، وقبل تحقّق ذلك الشيء الخارجي، فلا يكون ـ أيضاً ـ في المقام حدوث وبقاء، وإنّما كلتا الحصّتين وُجدتا دفعة واحدة، وبكلمة اُخرى: أنّ العروض المسامحي هو عين العروض الحقيقي، فرض مسامحةً عروضاً على ما في الخارج، والمفروض أنّ العروض الحقيقي ليس فيه حدوث وبقاء، فهذا البيان الصحيح لا يكون دافعاً

199

للإشكال، وذلك البيان الفلسفي الدافع للإشكال ليس صحيحاً.

على أنّه لو فرض صحيحاً كان ـ أيضاً ـ كالوجه السابق في أنّه يلزم منه عدم إمكان الاستصحاب إلاّ عند وجود الموضوع خارجاً مبتلياً بما مضى من مخالفة الارتكاز، ومن الوقوع في الإشكال في الإفتاء على أحد المبنيين بالتفصيل الذي مضى في مقام التعليق على الوجه الأوّل.

الوجه الثالث: وجهٌ لا يكون قائماً على أساس ثنائية بين الجعل والمجعول كما في الوجه الأوّل، بل نعترف بأنّه ليس للحكم وجود ثان عند تحقّق الموضوع، ولا على أساس ثنائية بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف كما في الوجه الثاني، بل نعترف بأنّ الظرفين واحد، وأنّه يتحقّق من أوّل الأمر قبل تحقّق الموضوع خارجاً، ولا على أساس ثنائية بين العُرُوض بالذات والعروض بالعرض التي هي ثنائية صحيحة لكنها لم تفدنا في الوجه الثاني بعد التنزّل عن الصياغة الفلسفية، وإنّما نلتفت إلى ذلك العارض الذي هو اعتبار نفساني، وننظر إليه بنظرتين مختلفتين يختلف أحكامه على إحدى النظرتين عنها على الاُخرى.

توضيح ذلك: أنّنا لو تصوّرنا ونحن في يوم الاثنين مثلاً نزول المطر في يوم الجمعة الآتية، ثمّ بعد ذلك أردنا أن ننظر إلى متصوَّرنا، فتارةً ننظر إليه بنظر الحمل الشائع، واُخرى ننظر إليه بنظر الحمل الأوّلي، فإن نظرنا إليه بنظر الحمل الشائع قلنا: إنّه صورة ذهنية قامت بنفس المتصوّر في يوم الاثنين. وإن نظرنا إليه بنظر الحمل الأوّلي قلنا: إنّه نزولٌ للمطر لا في يوم الاثنين، بل في يوم ياتي بعد عدّة أيّام، وهو يوم الجمعة، فاختلفت الأحكام المحمولات بالحمل الأوّلي عنها بالحمل الشائع، وبعد الالتفات إلى ذلك نقول: إنّه لو نظرنا إلى ما اعتبره رسول الله(صلى الله عليه وآله) كالنجاسة للماء المتغيّر مثلاً بالحمل الشائع قلنا عن هذا المعتبر: إنّه اعتبار نفساني وجزء من نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقائم به، وهو شريف طاهر نقيّ وليس له حدوث وبقاء، وإنّما اعتبر نجاسةَ الماء المتغيّر في كلّ أزمنة نجاسته دفعةً واحدة. ولو نظرنا إليه بالحمل الأوّلي قلنا: إنّه قذارةٌ ونجاسةٌ قائمة بالماء القذِر المتغيّر، حادثة عند حدوث التغيّر، ولَعلّها باقية عند زوال التغيّر، فبهذه النظرة صار له حدوث وبقاء، وبكلمة أُخرى: قد ينظر إلى واقع هذا المعتبَر وحقيقته فيُرى أنّه حالة نفسية ليس لها حدوث وبقاء بلحاظ حدوث الماء المتغيّر وبقائه، وقد ينظر إلى عنوانه ويُتخيَّل مسامحةً أنّه هو واقعه فيقال: هذه نجاسةٌ للماء المتغيّر مع أنّه في الواقع ليس نجاسةً للماء المتغيّر، وإنّما هو عنوان نجاسة الماء المتغيّر، فيُرى بهذا النظر المسامحي أنّ لهذه النجاسة حدوثاً وبقاءً تبعاً لما يرى بالنظر المسامحي لعنوان الماء

200

المتغيّر من أنّه ماءٌ متغيّرٌ له حدوث وبقاء، ومقتضى عدم المسامحة وإن كان هو حمل دليل الاستصحاب على النظر الأوّل، ولكنّ العرف هنا يتسامح ويقول: (هذه نجاسة للماء المتغيّر لها حدوث وبقاء، ويشملها دليل الاستصحاب) كما يشهد لهذه المسامحة العرفية ما نراه من أنّه لم يخطر على بال أحد منهم من أيّام العضدي والحاجبي إلى زماننا هذا الإستشكال في استصحاب الحكم بعدم تصوّر الحدوث والبقاء، وحتّى من أنكره كالسيّد الاُستاذ والنراقي(رحمهما الله) قد اعترف بهذا الاستصحاب في نفسه، وإنّما أنكره بدعوى التعارض مع استصحاب آخر.

والاستصحاب بهذا التقريب لا يرد عليه إشكال عدم تصوّر الحدوث والبقاء كما عرفت، ولا هو يبتلي بما مضى من مخالفة الارتكاز أو وقوع الإشكال في الفتوى على بعض المباني؛ لأنّ الاستصحاب يجري حين التفات الفقيه إلى حكم الماء المتغيّر بلا حاجة إلى انتظار زمان العلم بتحقّق الموضوع؛ لأنّ الحدوث والبقاء العنواني المسامحي ثابت من الآن(1)، وهذا هو الجواب المختار لنا في المقام.

 


(1) قلت له(رحمه الله): إنّ الوجه الذي اخترتموه في تصحيح استصحاب الحكم يرد عليه إشكال المخالفة للارتكاز؛ وذلك لأنّ الاستصحاب على هذا الوجه لا يجري إلاّ عند تحقّق الموضوع خارجاً، فإنّنا إن نظرنا إلى الحكم بالحمل الشائع لم نَرَ له حدوثاً وبقاءً حتّى يستصحبه، وإن نظرنا إليه بالحمل الأوّلى نرى أنّه شيء يتحقّق عند تحقّق الموضوع، فلا معنىً لأن يستصحبه الفقيه مثلاً قبل تحقّق الموضوع.

فأجاب(رحمه الله): بأنّ المقصود هو دعوى: أنّ العرف يكتفي بالحدوث والبقاء العنوانيين، ولا ينتظر لتحقّق الحدوث والبقاء الحقيقيين، وأنّه لو كان يريد الحدوث والبقاء الحقيقيين لم يجر استصحاب الحكم؛ لأنّه ليس له حدوث وبقاء حقيقيّان، وإنّما يتولّد كلّه في آن واحد، فينحصر الاستصحاب في استصحاب عدم الجعل ـ على حدّ تعبير السيّد الاُستاذ ـ، ولو كان يريد الحدوث والبقاء العنوانيّين فهذا ثابت من أوّل الأمر، فيجري استصحاب الحكم من أوّل الأمر، ولا معنىً للانتظار إلى زمان تحقّق الموضوع، فإنّ الانتظار إلى ذلك الزمان معناه التفتيش عن حدوث وبقاء حقيقيين، ولا يرى العرف أنّه حينما وجد الحكم في نفس النبي(صلى الله عليه وآله) مثلاً لم يوجد شيء له حدوث وبقاء حقيقي إلى أن يتحقّق الموضوع في الخارج، فعندئذ يوجد الحدوث والبقاء الحقيقيان، بل يرى العرف الاكتفاء بما للحكم حين وجوده في نفس المشرّع من حدوث وبقاء عنوانيين وكأنهما في نظره حقيقيان.

ثمّ إنّه يخطر ببالي: أنّي ذكرت له(رضوان الله عليه): أنّكم وإن كنتم لا تقولون بوجود مجعول في مقابل الجعل، أو تحقّق فعلية للحكم لدى فعلية الموضوع، لكنّكم تقولون بدلاً عن ذلك بتحقّق طرفيّة الشيء لما وجد من الحكم حين الجعل لدى اكتمال الشرائط الموجودة في الجعل فيه، فالماء قبل التغيّر مثلاً لم يكن طرفاً للحكم بنجاسة الماء المتغيّر، أو قل: لجعل النجاسة، وحينما تغيّر أصبح طرفاً لهذا الحكم أو الجعل، وبعد أن زال التغيّر نشكّ في أنّه هل سقط عن الطرفيّة لذلك أو لا؟ فنستصحب طرفيّته له، وليكن هذا الاستصحاب بديلاً لما قاله السيّد الخوئي من

201

إشكال تعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل:

وهنا ننتقل إلى البحث عن إشكال المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل الذي ذكره السيد الاُستاذ فنقول: إنّ منطقة الفراغ في كلامه وهي تحقيق كيفيّة جريان استصحاب المجعول لو مُلِئَت بهذا الوجه الثالث فمن الواضح أنّه لا موضوع للتعارض بين استصحاب عدم الجعل واستصحاب بقاء المجعول؛ إذ لو فرض أنّ العرف لا يتسامح في نظره إلى ما اعتبره الشارع من نجاسة الماء المتغيّر مثلاً فيحكم عليه بالحمل الشائع، إذن لا يجري إلاّ استصحاب العدم بلحاظ الحمل الشائع، لا استصحاب البقاء بلحاظ الحمل الأوّلي، وبلُغَة السيّد الاُستاذ: يجري استصحاب عدم الجعل لا استصحاب بقاء المجعول. ولو فرض


استصحاب المجعول، وهذا غير الوجه الذي اخترتموه.

أما ما أبطل(رضوان الله عليه) به هذا الوجه كوجه مستقل غير الوجه المختار له فهو ما يلي:

هل يقصد بالطرفيّة للجعل الطرفيّة له في نظرة الحمل الأوّلي إليه، حيث إنّ عنوان الماء المتغيّر مثلاً يرى في هذه النظرة عين المصداق، أو يقصد بها الطرفيّة في نظر الحكم بالحمل الشائع على هذا المصداق بمثل قولنا: هذا الماء المتغيّر نجس؟

إن قصد الأوّل فقد اُعملت عناية الحمل الاوّلي، أي: اُعملت عناية الجواب المختار لنا، وعندئذ نقول: إن كان المقصود بالطرفيّة الطرفيّة بالمعنى الاسمي فليس لها أثر حتى يستصحب. وإن كان المقصود الطرفية بالمعنى الحرفي، أي: استصحاب النسبة الثابتة في نظرة الحمل الأوّلي، فهو في الحقيقة استصحاب للحكم الملحوظ بالحمل الأوّلي، إذن فقد رجعنا إلى الجواب المختار.

وإن قصد الثاني وهو الطرفيّة للحكم في مثل قولنا:(هذا الماء نجس) قلنا: إن اُريد بذلك كون هذا الفرد طرفاً للحكم مباشرة لا بواسطة المفهوم العام للموضوع، فهذا خلف فرض وجود الجعل قبل وجود الموضوع، أو خلف فرض عدم وجود ثان للحكم اسمه المجعول يتعلّق بالمصداق الخارجي. وإن اُريد بذلك استصحاب كون هذا الفرد مصداقاً لما هو طرف الحكم وهو المفهوم الذي جعل موضوعاً. قلنا: إنّ المقصود بذلك: إمّا هو مصداقيّته لواقع الموضوع، أو مصداقيّته لعنوان الموضوع. فعلى الأوّل يكون ذلك من قبيل الفرد المردّد، فإنّ واقع الموضوع مردّد بين ما نقطع بعدم مصداقيّة هذا الفرد له وما نقطع بمصداقيّته له، فواقع الموضوع: إمّا هو المآء المتغيّر الثابت تغيّره بالفعل وهذا ما نقطع بعدم كون هذا الفرد مصداقاً له، أو هو الماء المتغيّر حتّى بعد زوال التغيّر ما لم يتّصل بالمعتصم، وهذا ما نقطع بكون هذا الفرد مصداقاً له، وعلى الثاني نقول: لا أثر لمصداقيّته لعنوان الموضوع كما هو واضح.

ولذا قالوا: لا يجري استصحاب الموضوع في الشبهات الحكمية لا واقعه ولا عنوانه.

على أنّ طرفيّة الماء الخارجي للحكم في نظر الحكم بالحمل الشائع عليه بقولنا:(هذا الماء نجس) والتي يمكن أن يتصور لها قطع بالحدوث وشكّ في البقاء إنّما تتحقّق بعد وجود الموضوع خارجاً، فلا بدّ للفقيه أن ينتظر زمان العلم بتحقّق الموضوع لكي يجري الاستصحاب، فيأتي هنا إشكال مخالفة الارتكاز والابتلاء بمشكلة ضرورة الاطّلاع على الموضوع لدى الإفتاء على بعض المباني.

202

أنّ العرف يتسامح في المقام إذن لا يجري إلاّ استصحاب البقاء بلحاظ الحمل الأوّلي دون استصحاب العدم بلحاظ الحمل الشائع، وبلُغَة السيّد الاُستاذ: يجري استصحاب بقاء المجعول لا استصحاب عدم الجعل.

ولو مُلِئت بالوجه الأوّل أو الثاني بأن قيل بجريان استصحاب المجعول بأحد التقريبين الأوّلين، أي: إنّه فرض مجعول في مقابل الجعل، أو عالم اتّصاف في مقابل عالم العروض قلنا:

أوّلاً: إنّ الوجهين الأوّلين غير صحيحين كما مضى بيانه.

وثانياً: إنّه لو سلّمنا صحتهما وقلنا بالتفكيك بين الجعل والمجعول، أو ظرف العروض وظرف الاتّصاف، قلنا: هل الثاني وهو المجعول أو الاتّصاف مترتّب على الأوّل وهو الجعل أو العروض ترتّباً شرعيّاً، أو إنّه لا يكون بينهما ترتّب شرعيّ كما هو الصحيح؟ فإن قال السيّد الاُستاذ بالأوّل قلنا: إذن لو جرى الاستصحابان كان استصحاب عدم الجعل مثلاً حاكماً على استصحاب بقاء المجعول، ولا معنىً للتعارض بينهما. وإن قال بالثاني قلنا: هل التنجيز العقلي مترتّب على الجعل مثلاً، أو على المجعول، أو على كلّ منهما، أو على مجموعهما المركّب؟

فإن قيل بالأوّل كما هو ظاهر كلامه فلا معنىً لاستصحاب بقاء المجعول؛ إذ لا أثر له، ولا يثبت بالملازمة بقاء الجعل؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.

وإن قيل بالثاني كما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) فلا معنىً لاستصحاب عدم الجعل؛ إذ لا أثر له، ولا يثبت عدم المجعول لما فرضنا من عدم ترتّب شرعي بينهما، ولا يمكن التعويل على مثبتات الاُصول.

وإن قيل بالثالث فالاستصحابان يجريان بلا معارضة بينهما، فإنّ استصحاب عدم الجعل إنّما ينفي التنجيز من ناحية الجعل ويؤمّن بهذا المقدار، وهذا لا ينافي التنجيز من ناحية المجعول.

وإن قيل بالرابع كان العمل على طبق استصحاب عدم الجعل؛ لأنّ التنجيز إنّما يترتّب على المجموع المركّب من الجعل والمجعول، والمركب ينتفي بانتفاء أحد جزئيه.

وثالثاً: أنّ الوجهين الأوّلين وما يجري مجراهما مقتضاها ـ على ما عرفت ـ هو إجراء الاستصحاب عند تحقّق الموضوع خارجاً لا قبله، وعليه يمكن أن يسجّل على السيّد الاُستاذ ولو على مبانيه أحد الإشكالات التي أجاب عنها في البحث، وهو ما مضى من الإشكال بأنّ استصحاب عدم جعل وجوب الجلوس مثلاً، أو استصحاب عدم جعل

203

الحرمة في الساعة الثانية ـ لو فرض الحكم هو الحرمة ـ معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة، فيبقى استصحاب المجعول سليماً عن المعارض. وقد أجاب عن هذا الإشكال بأجوبة ثلاثة:

الجواب الأوّل: أنّه يتساقط الكلّ بالتعارض.

وهذا الجواب غير صحيح بناءً على ما هو مبناه في باب الاُصول المتعارضة من أنّه إذا تعارض أصلان في زمان وتساقطا ثمّ تولّد أصل آخر في زمان متأخّر معارض لأحد الأصلين السابقين، يبقى هذا الأصل بلا ابتلاء بالمعارضة؛ لسقوط معارضه سابقاً بمعارض آخر، إلاّ إذا علمنا منذ الزمان الأوّل بأنّه سوف يتولّد هذا الأصل الثالث، ففي هذا الفرض يتساقط الكلّ. ومن هنا بنى في باب ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة على أنه لو لم يعلم من أوّل الأمر بأنّه سوف يلاقيه، ثمّ حصل الملاقاة جرى الأصل فيه بلا معارض. وعلى هذا المبنى نقول في المقام بأنّ أصالتي عدم الجعل قد تعارضتا عند الفقيه قبل حصول الموضوع خارجاً، فلو فرضنا أنّ الفقيه لم يكن يعلم بأنّه سوف يبتلي بالماء المتغيّر خارجاً مثلاً، ثمّ ابتلى به، كانت أصالة بقاء النجاسة غير مبتلاة بالمعارض؛ لما مضى من أنّه إنّما يتولّد الأصل في المجعول بناءً على الوجهين الأوّلين عند تحقّق الموضوع لا منذ البدء.

الجواب الثاني: أنّ أصالة عدم جعل الحرمة وأصالة عدم جعل الإباحة ليستا متعارضتين؛ لأنّ التعارض بين الاُصول إنّما يكون في موردين:

الأوّل: أن يتناقضا في التنجيز والتعذير، كما لو أُجري في مورد توارد الحالتين استصحاب الحرمة واستصحاب عدم الحرمة معاً. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة وان كان يعذّر، ولكن استصحاب عدم جعل الإباحة لا ينجّز إلاّ بإثباته للحرمة بالملازمة، ولوازم الاُصول غير حجّة، والتنجيز إنّما يترتّب على جعل الحرمة لا على مجرّد عدم جعل الإباحة.

والثاني: أن يكون العلم الإجمالي علماً بالتكليف على كلّ تقدير، فتترتّب على إجراء الاُصول، المخالفة القطعية. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّه علم إجمالاً بالحرمة أو الإباحة؛ للعلم بعدم نقصان الشريعة، ولم يعلم إجمالاً بحكم الزامي يلزم من إجراء الاُصول مخالفته القطعية.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ غير صحيح بناءً على مبناه من أنّ الاستصحاب كالأمارات قد جعل فيه العلم والطريقة، ويقوم مقام العلم الموضوعي، ويصحِّحُ ذلك الافتاء بالواقع،

204

فالفقيه حينما يثبت حكماً بالاستصحاب أو الأمارة يجوز له أن يفتي بثبوت ذلك الحكم واقعاً؛ لأنّه عالم تعبّداً بذلك، وبهذا صَحَّح استنباط الفقيه لمسائل غير داخلة في محلّ ابتلائه، كمسائل الحيض والاستحاضة حيث يقول: إنّها تدخل في محل ابتلائه بلحاظ الافتاء. وبناءً على هذا المبنى نقول في المقام: إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الإباحة يترتّب عليهما جواز الإفتاء بعدم جعل الحرمة وعدم جعل الإباحة واقعاً، وهذه مخالفة عملية قطعية، إذن يتعارض الأصلان ويتساقطان.

ويمكن الإجابة على هذا الإشكال بوجهين:

الوجه الأوّل: ما لا اتذكّر أنّه هل ذكره السيّد الاُستاذ جواباً على ما أوردته عليه من هذا الإشكال أو لا، وهو: أن تطبّق في المقام قاعدة ميرزائية بأن يقال: إنّ الأصلين يوجد لهما أثر مشترك، وهو جواز الإفتاء ويوجد لأحدهما فقط أثر زائد، وهو التعذير في مقام العمل. وفي مثل المقام يجري الأصل بلحاظ ذلك الأثر الزائد، وإنّما يتساقطان بلحاظ الأثر المشترك، فعندئذ نقول: إنّ هذا الأصل بلحاظ الأثر الزائد يقع طرفاً للتعارض مع استصحاب المجعول.

وفيه ما حقّقناه في محله من بطلان هذه القاعدة الميرزائية؛ لانحلال ما يسمّى بالأثر الواحد في الحقيقة إلى أثرين متباينين، فجواز الافتاء بعدم الإباحة أثر، وجواز الإفتاء بعدم الحرمة أثر آخر، فيقع التعارض بين دلالة الأصل على جواز الإفتاء بالأوّل، أي: إسناده إلى الله ودلالة الأصل على التعذير، كما يقع التعارض بين دلالة الأصل على جواز الإفتاء بالأوّل ودلالته على جواز الإفتاء بالثاني، ويسقط الكلّ وتصل النوبة بعد تحقّق الموضوع خارجاً إلى استصحاب بقاء المجعول.

الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ جواباً على ما أوردته عليه من هذا الإشكال، وهو كأنّه جواب نقضي، وهو أنّ العلم الإجمالي بمخالفة الإفتاء للواقع من دون أداء إلى المخالفة العملية لا أثر له أصلاً، وأنّ حرمة الإسناد ليست أثراً موجباً لتساقط الأدلّة والاُصول، وإلاّ لمُنِع كلّ فقيه عن الإفتاء في تمام الفقه رأساً؛ لأنّ الفقيه بعد أن ينتهي من استنباطاته في الفقه يرى إجمالاً الخطأ في بعضها، لا بمعنى الخطأ في الاستنباط، بل هو يعلم بصحّة استنباطاته بمعنى أنّه طبّق القواعد والأدلّة في تمام الموارد بشكل صحيح، بل بمعنى أنّه يعلم أو يطمئنّ إجمالاً بأنّ نتيجة القواعد والأدلّة في بعض الموارد تكون مخالفة للواقع.

أقول: تارةً يفرض أنّ الفقيه بعد استنباطه للمسائل يحصل له الاطمئنان بمخالفة بعض فتاواه للواقع، واُخرى يفرض أنّه يحصل له العلم الوجداني بذلك:

205

فإن ادّعي الاطمئنان بذلك قلنا:

أوّلاً: إنّ فرض تأثير هذا الاطمئنان الإجمالي وتنجيزه بلحاظ حرمة الافتاء، أي: الإسناد لا يولّد محذوراً مهمّاً يستكشف منه مثلاً بالإنّ ثبوت نكتة في عدم تأثير حرمة الإسناد في تنجيز العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه وإن كان يلزم من تنجيز هذا الاطمئنان عدم جواز افتاء الفقيه بالحكم الواقعي، فيبطل به ما يقوله السيّد الاُستاذ من جواز إفتاء الفقيه بالواقع لحصول العلم التعبّدي به، لكن هذا ليس محذوراً مهمّاً وموجباً لسدّ باب الإفتاء؛ إذ غاية الأمر أنّ الفقيه يقتصر على الإفتاء بالحكم الظاهري.

إن قلت: إنّ الاطمئنان الإجمالي متعلّق بالجامع بين حرمة بعض إفتاءآته بالواقع في الإلزاميات وبطلان الترخيص في بعض الترخيصات، فإلى جنب سقوط جواز الإفتاء بالواقع تسقط الترخيصات، وهذا محذور مهمّ.

قلنا: بعد تساقط القواعد في الطرفين بهذا الاطمئنان الإجمالي يحصل علم تفصيلي بحرمة الإفتاء بالواقع في الإلزاميات؛ لأنّه يدخل في الإسناد بغير علم الذي هو ـ أيضاً ـ حرام كما يعترف به السيّد الاُستاذ، فينحلّ العلم الإجمالي، فيرجع في الترخيصات إلى البراءة العقلية التي يؤمن بها السيّد الاُستاذ(1).

نعم، قد يتّفق في مورد مّا عدم إمكان إجراء البراءة العقلية، لكن هذا ليس محذوراً مهمّاً يستكشف منه مثلاً ثبوت نكتة في عدم تأثير حرمة الإسناد في تنجيز العلم الإجمالي.

وثانياً: إنّ هذا الاطمئنان الإجمالي ليس تأثيره فقط بلحاظ حرمة الإسناد بحيث لو أنكرنا تأثير حرمة الإسناد لسقط هذا الاطمئنان عن الأثر، حتّى يستكشف من فرض وضوح عدم الاعتناء بهذا الاطمئنان عدم تأثير لحرمة الإسناد، بل يوجد لهذا الاطمئنان أثر آخر بغضّ النظر عن حرمة الإسناد لا يلتزم به السيّد الاُستاذ، فلا بدّ من استكشافه لخلل آخر في هذا الاطمئنان، بيان هذا الأثر هو: أنّه تارة تفرض دعوى الاطمئنان في


(1) قلت له(رحمه الله): إنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ؛ ذلك لأنّ العلم التفصيلي لم يتعلّق بأحد طرفي العلم الإجمالي، بل تعلّق بحكم آخر، فإنّنا كنّا نعلم إجمالاً بوجود إلزام في الترخيصيات أو حرمة إفتاء بالواقع في الإلزاميات من باب حرمة الإفتاء والإسناد الذي يكون كذباً في الواقع، في حين أنّ العلم التفصيلي قد تعلّق بحرمة الإفتاء لا بهذا العنوان، بل بعنوان كونه إفتاءً وإسناداً لا يعلم بصدقه.

فأجاب(رحمه الله) بأنّ هذا الكلام الذي ذكرتَه مبنيّ على فرض حرمتين للإسناد، بحيث لو أسند شيئاً إلى الشارع وهو لا يعلم بصدقه وكان في الواقع كذباً، كان عليه عقابان، وهذا ممّا لا يلتزمون به، فلا بدّ من فرض صياغة لبيان الحرام بنحو تتّحد الحرمتان عند الإجتماع، فينحل عندئذ العلم الإجمالي.

206

خصوص الترخيصيات، واُخرى في خصوص الإلزاميات، وثالثة في الجامع بين الترخيصيات والإلزاميات. فإن فُرِض الأوّل فهذا اطمئنان إجمالي بحكم الزامي في موارد ثبوت الترخيص، وهذا ـ كما ترى ـ أثره عملي وليس أثره مجرّد حرمة الإفتاء. وإن فرض الثاني، أي: الاطمئنان في الإلزاميات، فهذا اطمئنان بكذب إحدى الأمارات الإلزامية؛ لأنّ الإلزام في الشبهات الحكمية: إمّا يثبت بالأمارة، أو بالاستصحاب، والمفروض لدى السيّد الاُستاذ أنّه لا يقول بالاستصحاب في الشبهات الحكمية، إذن فالإلزاميات كلّها ثبتت بالأمارة، فالاطمئنان بكذب إحداها يوجب تعارضها وتساقطها؛ لأنّها بدلالاتها الالتزامية يقع التكاذب بينها. وإن فرض الثالث، أي: الاطمئنان بوجود ما يخالف الواقع في مجموع الإلزاميات والترخيصيات، إذن فبما أنّ الإلزاميات كلّها ثبتت بالأمارات تُثبت بالدلالة الالتزامية أنّ مخالفة الواقع وقعت في الترخيصيات، ويصبح حال هذا الفرض حال الفرض الأوّل.

وقد أوردتُ هذا الإشكال على السيّد الاُستاذ ولم أكن وقتئذ مقسِّماً للبحث إلى فرض دعوى الاطمئنان تارة ودعوى العلم الوجداني اُخرى، فتراجع الأستاذ عن القول بثبوت العلم أو الاطمئنان الإجمالي بكذب بعض الفتاوى، وقال: إنّ هذا شيء يتراءى في بادئ الأمر ويزول بالتأمّل.

وثالثاً: إنّ هذا الاطمئنان لا حجّيّة له، وهذا هو الخلل الذي كان الأولى للسيّد الاُستاذ أن يستكشفه بدلاً عن استكشاف عدم تأثير لحرمة الإسناد. والوجه في عدم حجّيّته هو أنّ مدرك حجّيّة الاطمئنان هو السيرة العقلائية، ولا يوجد مثل هذه السيرة في اطمئنان إجمالي ذي أطراف غير محصورة، والاطمئنان في المقام من هذا القبيل، فإنّه إنّما نشأ هذا الاطمئنان من تجمّع احتمالات الخلاف من أطراف كثيرة جداً.

وإن ادّعي العلم الوجداني بمخالفة إحدى الفتاوى للواقع مع الاعتراف بعدم حجّيّة الاطمئنان في مثل المقام، لم يرد إشكالنا الثاني من الإشكالات التي أوردناها على فرض دعوى الاطمئنان؛ إذ يمكن دعوى العلم بوجود المخالفة للواقع في مجموع الإلزاميات والترخيصيات مع إنكار حجّيّة الدلالة الالتزامية لأدلّة الإلزاميات المثبتة لوقوع الخلل في الترخيصيات؛ لأنّ هذه الدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ إنّما ثبتت حجّيّتها بالسيرة العقلائية كالاطمئنان، وثبوت السيرة العقلائية في مثل المقام الذي تكون أطراف الشبهة فيه غير محصورة ممنوع.

207

كما لا يرد ـ أيضاً ـ إشكالنا الثالث بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من حجّيّة العلم الإجمالي حتّى إذا كانت أطرافه غير محصورة. نعم، على مبنانا يسجّل هذا الإشكال؛ إذ نحن لا نرى العلم الإجمالي مع كون الأطراف غير محصورة منجّزاً.

وأمّا الإشكال الأوّل فهو مسجّل على أيّ حال، فهذا العلم لو كان تنجيزه بلحاظ حرمة الإسناد كذباً إلى الله كان بإمكان الفقيه أن يفتي بالحكم الظاهري دون الواقعي كما مضى بيانه.

ويرد هنا إشكال آخر أيضاً، وهو إنكار مثل هذا العلم الوجداني في حقّ فقيه لا يُكثِرُ من الإفتاء على خلاف الظنّ، وإلاّ للزم أنّه لو التفت هذا الفقيه إلى كلّ صورة من الصور المعقولة لتأليف رسالة تشمل جميع موارد استنباطه من دون أن يُفتي في أيّ مسألة من مسائل تلك الرسالة بما يقطع بكونه خلاف الواقع، حصل له القطع بأنّ هذه الرسالة ليست بمجموعها مطابقة للواقع، مع أنّه يعلم إجمالاً بمطابقة إحداها للواقع.

بقي شيء: وهو أنّ أصل الإشكال الذي أوردناه على السيّد الاُستاذ من تعارض استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الإباحة؛ لثبوت الأثر بلحاظ الإفتاء والإسناد إلى الله تعالى إنّما يرد بناءً على حرمة نفس الإسناد غير المطابق للواقع إليه تعالى، وأمّا إن لم نقل بحرمة ذلك، وإنّما قلنا بحرمة إسناد ما لم يعلم أنّه من الله إلى الله، وبحرمة إسناد ما علم أنّه ليس من الله إلى الله، فهذا الإشكال غير وارد عليه.

أمّا بلحاظ حرمة إسناد ما لم يعلم أنّه من الله إلى الله، فلأنّ المفروض عنده أنّ دليل استصحاب عدم جعل الحرمة واستصحاب عدم جعل الإباحة يرفع موضوع هذه الحرمة، فيقطع بعدم حرمة هذين الإسنادين، ولا يضرّ العلم الإجمالي بكذب أحدهما واقعاً؛ لأنّ موضوع الحرمة لم يكن هو الكذب الواقعي حسب الفرض.

وأمّا بلحاظ حرمة إسناد ما علم أنّه ليس من الله إلى الله، فلأنّه وإن كان يفهم العرف من دليل يدلّ على ذلك أنّه لو علم إجمالاً بكذب أحد أمرين فكلّ واحد منهما وإن لم يعلم أنّه ليس من الله، لكن إسناد كليهما إليه غير جائز، فكأنّ العرف يرى أنّ إسناد المجموع إليه إسناد لشيء يعلم أنّه ليس منه إليه؛ لأنّنا نعلم عدم ورود كليهما منه، لكن هذا لا يستلزم سقوط استصحاب عدم الحرمة نهائيّاً بمعارضته لاستصحاب عدم الإباحة؛ وذلك لأنّهما وإن كانا يتساقطان بالنسبة لإثبات جواز الإفتاء؛ إذ يلزم من الجمع بينهما جواز إسناد كليهما والإفتاء بكلّ من عدم الحرمة وعدم الإباحة، وهذا ممّا يعلم أنّه ليس من الله، ولكنّ

208

استصحاب عدم الحرمة له أثر آخر، وهو التعذير(1)، والاستصحاب بلحاظ هذا الأثر لا يعارض استصحاب عدم الإباحة؛ إذ لا نعلم إجمالاً: إمّا بكون هذا الشيء حراماً أو بحرمة إسناد عدم إباحته إلى الله؛ إذ لم يكن موضوع الحرمة هو الإسناد الذي يكون في الواقع كذباً، فيجري استصحاب عدم جعل الحرمة بهذا اللحاظ، ويبقى ليصبح معارضاً عند تحقّق الموضوع خارجاً لاستصحاب بقاء الحرمة.

ولكنّ هذا البيان يبتني على أحد أمرين:

الأوّل: أن يُعترف بعرفية التفكيك بين الآثار في الاستصحاب، بمعنى كون دليل الاستصحاب وافياً للنظر إلى بعض الآثار بعد فرض سقوطه بالنظر إلى بعض الآثار الاُخرى، وأن لا نقول: إنّ لسان الكشف والحكم بعدم انتقاض اليقين مثلاً يأبى عن التفكيك في النظر إلى الآثار بالتعبّد بها بين بعض الآثار وبعض.

والثاني: أن يفرض أنّ حكومة الاستصحاب على أحكام العلم الموضوعي حكومة اتوماتيكية ثابتة تكويناً بخلق فرد جديد من العلم، وهو العلم التعبّدي من دون أن ينظر المولى في دليل الاستصحاب إلى آثار العلم الموضوعي، فسقوط الاستصحاب هنا عن قابلية الحكومة على أحكام العلم الموضوعي مع جريانه في نفس الوقت لإثبات الأثر العلمي ليس عبارة عن التفكيك في التعبّد بين الآثار، حتّى يقال بعدم جواز التفكيك بينهما عرفاً.

الجواب الثالث: أنّ استصحاب عدم جعل الإباحة غير جار لانتقاضه باليقين بجعلها في أوّل الشريعة.

وقد اعترضتُ على السيّد الاُستاذ بأنّ الإباحة وإن كانت مجعوله في أوّل الشريعة، لكن الشكّ في بقائها إلى الآن في الحقيقة شكّ في النسخ وعدمه، وأنتم تقولون في الشكّ في النسخ: إنّ استصحاب عدم النسخ، أي: استصحاب بقاء المنسوخ معارض باستصحاب عدم جعل الحصّة الزائدة من الحكم، إذن ففي المقام يجري استصحاب عدم جعل الحصّة الزائدة من الإباحة، ويعارض استصحاب عدم جعل الحرمة.

فأجاب: بأنّ استصحاب عدم الحرمة حاكم على استصحاب عدم جعل الحصّة الزائدة


(1) أفاد(رحمه الله): أنّ هذا فيما لو لم يكن أثره منحصراً في الإفتاء، كما لو كانت المسألة من مسائل الحيض غير المرتبطة بالفقيه.

209

من الإباحة؛ لأنّ جعل الإباحة قد جعلت غايته هي الحرمة في قوله:«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1) وقوله:«اسكتوا عمّا سكت الله عنه»(2)، واستصحاب عدم الغاية حاكم على المغيّى.

فأوردتُ عليه: أنّه يستحيل كون أحد الضدّين غاية للضدّ الآخر ولو في باب الأحكام، وأنتم تعترفون بذلك، فكيف يعقل جعل الحرمة غاية للإباحة؟

فأجاب: بأنّ الغاية في قوله:«حتّى يرد فيه نهي» أو «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» ليست هي الحرمة، وإنّما هي ورود الحرمة وبيانها، فيستصحب عدم بيانها.

وهذا الكلام ترد عليه ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأوّل: هو أنّ لازم هذا الكلام هو رفع اليد عن مبنى كون استصحاب المجعول معارضاً باستصحاب عدم الجعل في باب الإباحة، وفي كلّ حكم ثابت في أوّل الشريعة بالإمضاء، فمثلاً الملكيّات العقلائيّة كانت ممضاة في أوّل الشريعة، وكان النبي(صلى الله عليه وآله) يقرّ الناس على أحكامهم العقلائية، ولم يكن يطلب منهم إلاّ أن يقولوا:«لا إله إلاّ الله»، ففي مثل هذه الأحكام ـ أيضاً ـ لا يجري استصحاب عدم الجعل؛ لأنّ أصل الجعل معلوم، واستصحاب عدم الحصّة الزائدة محكوم لاستصحاب عدم تحقّق الغاية، وهي انكسار سكوت الله عنه. وقد أوردتُ هذا الإشكال عليه فاقرّه، ومن هنا عدّل مبناه باستثناء الأحكام الثابتة في أوّل الشريعة امضاءاً من الإباحة وغيرها من قانون تعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل.

الإشكال الثاني: أنّه لا دليل على جعل الحرمة أو بيانها غاية للإباحة، فلعلّ الإباحة في أوّل الشريعة كانت إلى أمد معيّن من الزمن، وحينما كان يصل ذلك الزمان كانت الشريعة تجعل الحرمة، فإنّ الدليل على الإباحة في أوّل الشريعة إن كان هو سكوت النبي(صلى الله عليه وآله) في أوّل الشريعة عن الإلزام الدالّ على إمضاء ما عليه الناس من الإباحة وابقائهم عليها ما لم يأتِ البيان على خلافها، فمن الواضح أنّ هذا لا يدلّ على أنّ غاية الإباحة هي الحرمة او بيانها، بل ينسجم مع كون غاية الإباحة هي نفس الزمان الذي تجعل فيه الحرمة وتبيّن فيه، لا ذات الحرمة أو بيانها.


(1) الوسائل: ج 27، ب 12 من صفات القاضي، ح 67، ص 174 بحسب طبعة آل البيت.

(2) لعلّه إشارة إلى ما في الوسائل: ج 27، ب 12 من صفات القاضي، ح 68، ص 175 من نفس الطبعة.

210

وإن فرض الدليل على الإباحة قوله(عليه السلام):«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، ففيه:

أوّلاً: أنّه مضى في بحث البراءة أنّ المقصود بالورود هو الوصول لا مجرّد بيان الشارع، ويقصد بالإطلاق الإباحة الظاهرية.

وثانياً: أنّها رواية مرسلة نقلها الصدوق(رحمه الله) عن الصادق(عليه السلام)، وليست حجّة للارسال.

وثالثاً: أنّ الرواية وردت عن الصادق(عليه السلام)، أي: وردت بعد عصر التشريع، فلا معنى لتفسيرها بالإباحة الواقعية المغياة بحدوث بيان للحرمة، بل لا بدّ من تفسيرها بإباحة ظاهرية مغيّاة بوصول الحرمة، وحمل الرواية على بيان قاعدة كلّيّة لا يتّفق مصداقها في زمان ورودها وما بعد ورودها، وإنّما اتّفق في زمن النبي(صلى الله عليه وآله) خلاف الظاهر، فإنّ ظاهرها بيان قاعدة تؤثّر فعلاً،لا بيان قاعدة قد انتهى مفعولها.

وإن فرض الدليل على ذلك قوله:«اسكتوا عمّا سكت الله عنه»، ففيه:

أولاً: أنّها مرسلة وردت عن الأمير(عليه السلام)، فلا حجّيّة لها من حيث السند.

وثانياً: أنّ الرواية غير مرتبطة بالمقام، وإنّما مفادها: إنّ ما لم يُلزمكم الله بشيء فعلاً أو تركاً لا تسألوا عنه، ولا تفحصوا، فإنّ السؤال قد يكمّل ملاك الحكم فيأتي الحكم.

الإشكال الثالث: أنّنا لو كنّا نعلم بالحرمة ثمّ شككنا في أنّ الحرمة تبدّلت إلى الكراهة أو لا، أو كنّا نعلم بالوجوب ثمّ شككنا في أنّه تبدّل إلى الاستحباب أو لا، فعندئذ إمّا نقول بأنّ الوجوب والاستحباب وكذلك الحرمة والكراهة أحكام بسيطة، أو نقول بما التزم به المحقّق النائيني(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ من أنّ الوجوب والاستحباب كلاهما عبارة عن الحكم الإيجابي والطلب، فإن ضمّ إلى ذلك الرخصة في الترك سمّي استحباباً، وإلاّ سمّي وجوباً. والنهي ـ أيضاً ـ إن ضمّ إليه الترخيص في الفعل سمّي كراهة، وإلاّ سمّي تحريماً. فإن قلنا بالأوّل فهنا يأتي كلامنا، وهو أنّ استصحاب عدم جعل المقدار الزائد من الوجوب أو الحرمة معارض باستصحاب عدم جعل الاستحباب أو الكراهة. وهنا لا يأتي ما ذكره السيّد الاُستاذ من الحكومة، فلئن كان استصحاب عدم الحرمة حاكماً على استصحاب عدم الإباحة؛ لجعل الإباحة مغياة بالحرمة في قوله مثلاً:«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فالكراهة والاستحباب لم يثبت جعلهما مغيّين بالحرمة أو الوجوب. وإن قلنا بالثاني بطل هنا استصحاب عدم جعل المقدار الزائد من الوجوب أو الحرمة؛ لأنّ أصل الأمر أو النهي مسلّم البقاء، ويجري استصحاب عدم الترخيص، فيثبت الوجوب او الحرمة.

 

211

تنبيهات حول الشبهة الحكمية:

ولنذكر هنا تنبيهات حول ما ذكره السيّد الاُستاذ من مسألة معارضة استصحاب المجعول باستصحاب عدم الجعل:

التنبيه الأوّل: أنّ السيّد الاُستاذ كان يقول بعدم جريان استصحاب الحكم مطلقاً، أي: بلا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية، ففي الشبهة الموضوعية ـ أيضاً ـ لا يجري استصحاب الحكم بغضّ النظر عن حكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ لأنّ استصحاب المجعول فيه معارض باستصحاب عدم الجعل. وأوردتُ عليه: بأنّ هذا الكلام ينافي مورد صحيحة زرارة الدالّة على استصحاب الطهارة، فإنّها لم تستصحب عدم النوم مثلاً الناقض للطهارة، وإنّما استصحبت نفس الطهارة.

فأجاب: بأنّ هذه الرواية لا بدّ من توجيهها على كلّ حال؛ إذ حتّى لو كان استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية في نفسه جارياً يكون الاستصحاب الموضوعي حاكماً عليه، فعلى أيّ حال لا بدّ من استصحاب عدم الناقض دون استصحاب الطهارة.

وهذا الكلام غير صحيح على ما سوف يأتي منّا ـ إن شاء الله ـ من تحقيق: أن الاستصحاب الموضوعي ليس حاكماً على الاستصحاب الحكمي، وإذا كان موافقاً معه جَرَيا معاً، ولم يقدّم عليه.

ثم إنّ هنا نقضاً يرد على القول بابتلاء استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية بالتعارض مع استصحاب عدم الجعل، وهو أنّه بناءً على هذا يكون الاستصحاب الموضوعي ـ أيضاً ـ مبتلىً بالتعارض مع استصحاب عدم الجعل، فإنّ استصحاب الموضوع إنّما يكون حاكماً على الاستصحاب الجاري في المجعول باعتبار أنّ المجعول يترتّب على الموضوع ترتّباً شرعياً، ولا يكون حاكماً على الاستصحاب في الجعل؛ لعدم ترتّب شرعي بينهما، فيتعارض استصحاب الموضوع مع استصحاب عدم الجعل، فينبغي إنكار الاستصحاب الموضوعي أيضاً.

والتحقيق: أنّ هنا فرقاً كبيراً بين استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة واستصحاب الحكم في الشبهات الموضوعيّة، فشبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل لو تمّت في الشبهات الحكمية لا تتمّ في الشبهات الموضوعيّة، وقد بيّنتُ هذا الفرق للسيّد الاُستاذ فبنى على التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة.

وهذا الفرق هو: أنّ الجعل في الشبهات الحكميّة يقال عنه مثلاً: إنّه يزيد وينقص بدخول

212

المشكوك فيه وخروجه عنه، فجعل النجاسة إلى زمان زوال التغيّر جعل أقلّ وأضيق من جعل النجاسة لهذا الماء حتّى بعد زوال تغيّره إلى أن يتّصل بالمعتصم. وأمّا في الشبهات الموضوعيّة فالجعل الموجود في نفس المولى يكون محدّد الأطراف، ومعيّن المقدار، ولا يختلف بزيادة المصاديق وقلّتها، فإنّ الجعل إنّما طرأ على الطبيعة المعيّنة الحدود، ولم يطرأ على المصاديق كالمجعول حتّى يضيق ويتّسع بقلّة المصاديق وكثرتها.

نعم، هنا شبهة واحدة لتخيّل جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعية، وهي: أنّنا وإن كنّا لو نظرنا إلى ما في نفس المولى لرأينا أنّه جعلٌ معيّن محدد لا يزيد ولا ينقص، ولكنّا لو قسنا هذا الجعل إلى المصاديق فبالإمكان أن يقال: إنّنا جازمون بأنّ المولى جعل الحكم على طبيعة شاملة للفرد الذي نعلم ببقاء فرديّته، ولكن حينما شككنا بنحو الشبهة الموضوعيّة في بقاء فرديّته وعدمه نشير إلى هذا الوجود بالذات ونقول: لا ندري هل جعل المولى الحكم على طبيعة تشمل هذا الموجود أو لا؟ فنستصحب عدمه.

والجواب: أنّنا لو لاحظنا عنوان جعل المولى للحكم على طبيعة تشمل هذا الفرد فهو مشكوك، لكنّه لا أثر له، ولو لاحظنا واقع جعل المولى الحكم على طبيعة تشمل هذا الفرد فهو: إمّا معلوم الثبوت، أو معلوم العدم، فعلى تقدير أن يكون هذا الفرد في الواقع فرداً للطبيعة يكون معلوم الثبوت. وعلى تقدير عدم كونه فرداً لها يكون معلوم العدم، وقد شككنا في أنّ أيّ التقديرين هو الصحيح. وهذا سنخ ما يقال في استصحاب الفرد المردّد، فلو علمنا مثلاً بوجود شخص في المسجد مردّد بين زيد وعمرو، ثمّ رأينا زيداً في خارج المسجد، فهنا لو لاحظنا عنوان من كان في المسجد فبالامكان أو يقال: إنّنا قد شككنا في بقاء من كان في المسجد وعدمه، فإذا كان هناك أثر شرعيّ يترتّب على ذلك جرى استصحاب البقاء. وأمّا إذا لاحظنا واقع من كان في المسجد لفرض ترتّب الأثر على الواقع لا العنوان، فهنا لا يوجد شكّ في البقاء على كلّ تقدير؛ إذ على تقدير كون ذاك الشخص هو زيد نقطع بعدم بقائه، فكيف نجري الاستصحاب؟!

التنبيه الثاني: قد سبق أنّنا اخترنا في كيفيّة تصوير الحدوث والبقاء في الحكم المستصحب(وهي منطقة الفراغ في كلام السيّد الاُستاذ) دعوى أنّ العرف ينظر إلى عنوان الحكم بالنظرة المسامحيّة، وهي نظرة الحمل الأوّلي التي يرى بها الحكم شيئاً له حدوث وبقاء، ويتخيّل أنّ عنوان الحكم هذا هو واقعه، ويرى له هذا الحدوث والبقاء بتبع ما يرى ـ أيضاً ـ من حدوث وبقاء لعنوان الموضوع بالحمل الأوّلي.

213

إلاّ أنّ هذا البيان بهذا المقدار يكون ناقصاً، لأنّه قد يتّفق أنّ موضوع الحكم الثابت في صقع الاعتبار النفساني في نفس المولى لم يكن له حدوث وبقاء حتّى لدى النظر إليه بنظرة الحمل الأوّلي، كي يتمّ للحكم بتبع موضوعه حدوث وبقاء بنظرة الحمل الأوّلي.

مثال ذلك: أنّ إيجاب المولى للجلوس في ساعتين مثلاً يمكن أن يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن تكون الساعتان موضوعاً لوجوب الجلوس، فبما أنّ هذا الموضوع يرى له بنظرة الحمل الأوّلي امتداد وحدوث وبقاء يرى للحكم ـ أيضاً ـ بهذه النظرة نفس الامتداد والحدوث والبقاء، فيكفي لتوضيح تصوير الاستصحاب ما ذكرناه من البيان.

والثاني: أن تؤخذ الساعتان قيداً لمتعلّق الحكم وهو الجلوس، لا موضوعاً للحكم، فالجلوس بقدر الساعتين يجب دفعة واحدة، وذلك بأن يكون الوجوب بلحاظ الساعة الثانية قبل الواجب كما يتعقّله القائلون بإمكان الواجب المعلّق، بل يتعقّله حتّى المنكرون لذلك، فإنّهم يعترفون بأنّ صلاة الظهر مثلاً تصبح بكل أجزائها واجبة بمجرّد الزوال، وليست تجب تدريجاً بتدرّج الصلاة، وقد جُعِل مثل هذا نقضاً على من ينكر الوجوب التعليقي، وسواءً صحّ هذا النقض أو لم يصحّ نقول: إنّ مثل هذا الوجوب معقول عند الكلّ فإذا وجب الوقوف بعرفات مثلاً بهذا النحو من الوجوب، وتردّد مقداره بين الأقلّ والأكثر فيقال: ليس الوجوب هنا حتّى بنظرة الحمل الأوّلي شيئاً ممتدّاً له حدوث وبقاء؛ لأنّنا حينما ننظر إلى هذا الوجوب الذي هو اعتبار نفساني ولو بنظرة الحمل الأوّلي نرى أنّه يوجد دفعة واحدة بكلّ أجزائه، أي: إنّ مجرّد مسامحة العرف للعدول عن النظر إليه بما هو واقعه بنظرة الحمل الشائع إلى النظر اليه بما هو عنوانه لا يشفع لفرض حدوث وبقاء له، فكيف يجرى الاستصحاب؟!

ولتعميم الوجه المختار بحيث يشمل مثل هذا الفرض نقول: إنّ هناك مسامحة اُخرى ـ أيضاً ـ عرفيّة ووجدانيّة كالمسامحة السابقة، أي: مسامحة النظر بالحمل الاوّلي لا بدّ من ضمّها إلى تلك المسامحة، وهي: أنّ الحكم يُرى عرفاً تابعاً لمتعلّقه في تصوير الامتداد له وكأنّه ثوبٌ خيط على قدّه، أو عرضٌ تابع لمعروضه في الامتداد الزماني، فيُرى لهذا الحكم حدوث وبقاء، فيجري الاستصحاب. ويشهد لهذه المسامحة ـ أيضاً ـ عدم خطور الإشكال في هذا الاستصحاب على بال أيّ واحد منهم إلى يومنا هذا.

214

التنبيه الثالث: أنّ للسيّد الاُستاذ إشكالاً(1) في بعض أقسام استصحاب الحكم وقع تحت الشعاع لإشكاله بإيقاع المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل، في حين أنّه ليس هذا الإشكال بأقلّ وجاهة من ذاك الإشكال، وهو: أنّ الحكم تارة لا يكون تقطيعه إلاّ باعتبار قطعات الزمان من قبيل نجاسة الماء المتغيّر التي تتقطّع بلحاظ حصص لها بالحدوث والبقاء، وكذا وجوب الجلوس في المسجد ساعتين مثلاً. واُخرى يمكن تقطيعه باعتبار تعدد أفراد الموضوع كحرمة شرب الماء المتغيّر مثلاً، فإنّها تتعدّد بتعدّد أفراد الشرب، أو حرمة الملامسة قبل الطهر التي تتعدّد بتعدّد العمل، ففي القسم الأوّل لا بأس باستصحاب الحكم في نفسه بغضّ النظر عن معارضته باستصحاب عدم الجعل، فإنّ التقطيع ليس إلاّ بلحاظ الزمان المفروض غضّ النظر عنه في الاستصحاب. وأمّا في القسم الثاني فاستصحاب الحكم في نفسه غير جار بغضّ النظر عن المعارضة؛ وذلك لأنّ الملامسة مثلاً لها أفراد عديدة وكذا الشرب قد علمنا بحرمة بعضها، ولا معنى لإسراء الحرمة إلى بعض آخر وهو الملامسة بعد النقاء وقبل الغُسل مثلاً، أو الشرب بعد زوال التغيّر وقبل الاتّصال بالمعتصم بالاستصحاب، فإنّ هذا إسراء للحكم من فرد إلى فرد آخر، ولا معنىً لاستصحاب كلّي الحكم، فإنّه يكون استصحاباً للكلّي من القسم الثالث، كما لو علم بدخول زيد في المسجد وخروجه بعد ذلك، واحتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد أو قبله، فهنا لا يصحّ استصحاب بقاء كلّي الإنسان.

أقول: إنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير صحيح كإشكال المعارضة لاستصحاب عدم الجعل، وذلك يتّضح بتمهيد مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ معنى كون أفراد مّا أفراداً لكلّي واحد هو أنّه لو قشّرنا أيّ واحد من تلك الأفراد، وأفرزنا منه في الذهن أيّ خصوصية من خصوصياته الشخصية من الطول والقصر واللون مثلاً إلى غير ذلك حتّى خصوصيّة الوجود الذاتي بمعنىً فلسفي، لم يبقَ في الذهن إلاّ نفس ما يبقى من الفرد الآخر عند التقشير، فذلك الذي يبقى هو الكلّي الذي يكون تحته هذه الأفراد، وهو في كلّ الأفراد شيء واحد.

المقدّمة الثانية: أنّ أيّ شيء من العوارض والطوارئ تارة يكون عارضاً على الفرد بخصوصيّاته الفرديّة، واُخرى يكون عارضاً على ذلك الشيء الواحد الجامع بين الأفراد،


(1) راجع المصباح: ج 3، ص 37 ـ 38.

215

فمثال الأوّل هو دخول الشخص في المسجد، فإنّ هذا عرضٌ عرضَ على الشخص بمجموع أجزائه العقلية؛ ولذا لو قُشّر إلى أن بقي ذلك الجامع لا يقال: إنّ ذاك الجامع هو الذي عرض عليه هذا العارض مباشرة، وإنّما يقال: إنّ ذلك الجامع قد عرض عليه العارض في ضمن الشخص الذي عرض العارض عليه. ومثال الأوّل هو الحكم الشرعي الثابت بنحو القضية الحقيقية على طبيعة الشرب أو الملامسة مثلاً، فهذا الحكم لم يعرض على الشخص بما هو متشخّص بالخصوصيات الفرديّة من كونه مثلاً شُرباً سريعاً أو بطيئاً ونحو ذلك، وإنّما عرض على تلك الحيثيّة المشتركة؛ ولذا لو قُشّر الفرد إلى أن لم يبقَ إلاّ تلك الجهة المشتركة لرآها العرف معروضة للحكم الشرعي، وكافية في ثبوت الحكم عليها.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الحكم الشرعي ـ على ما ظهر في المقدّمة الثانية ـ قد عرض على الحيثية المشتركة، وتلك الحيثية ـ على ما ظهر في المقدمة الاُولى ـ شيء واحد، وإنّما شككنا في بقاء هذا الحكم من باب أنّنا احتملنا أن لا تكون خصوصيّة الزمان ملغاة كسائر الخصوصيّات التي علمنا بإلغائها، وأن تكون دخيلة في الحكم، لكنّ المفروض في الاستصحاب غضّ النظر عن خصوصيّة الزمان، فيجري ـ لا محالة ـ الاستصحاب بلا إشكال.

التنبيه الرابع: في استصحاب عدم النسخ.

إنّ الشبهة الحكمية تارة تكون من باب الشبهة في سعة دائرة مفهوم ما تعلّق به الحكم وضيقه، كما في مثال نجاسة الماء المتغيّر، وهذا ما كنّا نتكلّم فيه حتّى الآن، واُخرى يكون من باب الشكّ في النسخ، وهذا ـ أيضاً ـ في الحقيقة يرجع إلى الشكّ في سعة دائرة مفهوم ما تعلّق به الحكم؛ لأنّ قيد الزمان في الحقيقة ماخوذ من أوّل الأمر في الحكم المنسوخ، والفرد الذي خرج عن الحكم بالنسخ لم يكن في الحقيقة داخلاً في الحكم من أوّل الأمر لاستحالة البداء والنسخ بمعناه الحقيقي في حقّه تعالى. ومن هنا يرد في استصحاب عدم النسخ كلا إشكالي السيّد الاُستاذ اللذين ذكرناهما في القسم الأوّل من الشبهة الحكمية:

فأحدهما: هو إشكال أنّ حرمة الشرب كانت ثابتة للفرد من الشرب الثابت قبل زوال التغيّر، ولا يمكن إسراؤها بالاستصحاب على فرد آخر، وكذلك يقال في ما نحن فيه: إنّ حرمة الشرب مثلاً كانت ثابتة لأفراد الشرب الثابتة في ما قبل السنة السابعة من هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) مثلاً، ولا نعلم بثبوتها للأفراد الاُخرى، أو إنّ النجاسة مثلاً كانت ثابتة لأفراد المياه المتغيّرة في ذلك الزمان، ولا نعلم بثبوتها للأفراد الاُخرى، أو إنّ وجوب صلاة الجمعة كان

216

ثابتاً لأفرادها التي تكون في ذلك الزمان، ولا نعلم بثبوته لباقي الأفراد، ولا معنىً لإسراء الحكم من تلك الأفراد بالاستصحاب إلى أفراد اخُرى، أو يقال: إنّ الحرمة أو الوجوب كانا ثابتين على أشخاص موجودين في ما قبل السنة السابعة من الهجرة مثلاً، ولا نعلم بثبوتها على أشخاص آخرين وُجدوا بعد ذلك، ولا معنىً لإثبات الحكم عليهم بالاستصحاب.

والجواب: هو نفس الجواب الذي مضى هناك، فنقول إنّ الحكم كان ثابتاً على طبيعي الشرب أو الصلاة مثلاً، وعلى طبيعي الإنسان البالغ، فنستصحبه.

وثانيهما: هو إشكال معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب عدم الجعل الزائد على الأفراد المشكوكة من الشرب أو المياه أو الصلوات، أو على الأفراد المشكوك ثبوت الحكم عليهم من الناس؛ لما عرفت من أنّ النسخ يكشف في الحقيقة عن عدم الجعل.

والجواب ـ أيضاً ـ هو ما عرفته من الجواب هناك مفصّلاً.

نعم، هنا إشكال ثالث لم يكن يأتي هناك، وهو: أنّ استصحاب عدم النسخ معارض باستصحاب آخر يكون هو ـ أيضاً ـ استصحاباً لبقاء المجعول، لا استصحاباً لعدم الجعل. توضيحه: انه إذا احتملنا نسخ نجاسة الماء المتغيّر مثلاً، ثمّ تغيّر الماء، فكما يجري استصحاب نجاسة الماء المتغيّر الثابتة في أوّل الشريعة كذلك يجري استصحاب طهارة الماء الثابتة قبل تغيّره.

والجواب: أنّه إن قصد بذلك استصحاب الطهارة العارضة على هذا الفرد بخصوصيّاته الفرديّة، فقد مضى منّا أنّ الأحكام الثابتة بنحو القضايا الحقيقيّة إنّما طرأت على الطبائع الكلّية والجهة المشتركة.

وإن قصد بذلك استصحاب طهارة طبيعة الماء، وهي الحيثيّة المشتركة بين هذا الفرد وسائر الأفراد، بأن يقال: إنّ طبيعة الماء كانت طاهرة قبل التغيّر، ولا ندري هل هذه الطهارة منتقضة بالتغيّر أو لا؟ فنستصحبها، قلنا: إنّنا نقطع بالانتقاض ولو بلحاظ أوّل الشريعة، والمفروض أنّ الطبيعة في أوّل الشريعة هي عين الطبيعة بعد ذلك؛ لأنّنا قلنا: إنّنا إذا نظرنا إلى الحيثية المشتركة لم نَرَ إلاّ شيئاً واحداً وهو الجامع بين جميع الأفراد، فنحن قاطعون بالانتقاض وانفعال هذه الطبيعة بالتغيّر، وشاكّون في بقاء هذا الانتقاض، فأيّ معنىً لاستصحاب طهارة الماء؟!

نعم، لو غفلنا عن وحدة طبيعة الماء قبل احتمال النسخ وطبيعته بعد احتمال النسخ، وتخيّلنا أنّهما شيئان، فقد يقال: إنّ طبيعة الماء قبل احتمال النسخ كانت طاهرة، وكانت

217

تنجس بالتغيّر، وطبيعة الماء بعد احتمال نسخ النجاسة ـ أيضاً ـ طاهرة، ولا ندري هل تنجّست بالتغيّر أو لا، فنستصحب الطهارة، ولكن مع فرض هذه الغفلة لا يبقى معنىً لاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر الثابتة قبل احتمال النسخ؛ لأنّنا تخيّلنا أنّ هذه بعد النسخ طبيعة أُخرى غير الطبيعة التي كانت محكومة بالنجاسة قبل النسخ.

إن قلت: بناءً على هذا ينسدّ باب استصحاب الطهارة في الشبهات الموضوعيّة، فلو شككنا في طهارة ماء لاحتمال ملاقاته للنجس لا يمكننا أن نجري استصحاب الطهارة بغضّ النظر عن حكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ وذلك لأنّنا نعلم بلا شكّ بانتقاض الطهارة في بعض أفراد اُخرى، فهل نقصد هنا استصحاب طهارة هذا الفرد بالخصوص، أو نقصد استصحاب طهارة طبيعي الماء؟ فإن قصد استصحاب طهارة هذا الفرد بالخصوص قلنا: إنّ الطهارة لا تعرض على الفرد بخصوصيّاته الفرديّة. وإن قصد استصحاب طهارة طبيعي الماء، قلنا: إنّ طهارة طبيعي الماء نعلم بانتقاضها ولو في ضمن فرد آخر.

قلت: هناك فرق بين ما نحن فيه وبين هذا المثال، وهو أنّنا في هذا المثال إنّما انتقض علمنا بطهارة طبيعي الماء لا بلحاظ طبيعي الماء من دون دخل أيّ خصوصيّة غير موجودة في هذا الفرد، وإنّما علمنا بانتقاض الطهارة في الماء بما هو متخصّص بخصوصيّة لم يعلم بوجودها في هذا الفرد، وتلك الخصوصيّة هي ملاقاة النجاسة، فاستصحاب طهارة طبيعي الماء يكون بلحاظ هذا الفرد الذي لا يعلم فيه بهذه الخصوصيّة جارياً. وأمّا في المقام فنحن نعلم بانتقاض طهارة طبيعي الماء في زمن البقاء العنواني، وهو زمن التغيّر من دون دخل أيّ خصوصيّة يحتمل عدم وجودها في هذا الفرد الذي أمامنا غير خصوصيّة الزمان، فإنّ المفروض أنّ نفس هذا الفرد لو كان في أوائل الشريعة لكان محكوماً عليه بالنجاسة؛ لكونه متغيّراً، فكأنّ طهارة طبيعي الماء مقطوعة الانتقاض حتّى بلحاظ هذا الفرد، فليس هذا الفرد بلحاظ طبيعيّه مسبوقاً بالطهارة غير المنتقضة، وإنّما هو مسبوق بحالة مركّبة وهي طهارة ترتفع بالتغيّر، فلا معنىً لجريان استصحاب الطهارة. نعم، الماء المتغيّر حالته السابقة هي النجاسة، فيجري استصحاب النجاسة.

ولا يخفى أنّه ليس مقصودنا من أمثال هذه التحليلات إثبات المدّعى(وهو هنا استصحاب عدم النسخ) بهذه التحليلات، بل المدّعى يثبت بالاستظهار العرفي، وإنّما المقصود تحليل النكتة الارتكازيّة العرفيّة التي أوجبت استظهاراً من هذا القبيل، ففي المقام مثلاً إنّما نحكم باستصحاب عدم النسخ بحكم الفهم العرفي؛ ولذا نرى أنّه لم يستشكل أحد

218

مئآت السنين في استصحاب عدم النسخ قبل أن يدخل مثل هذه التدقيقات في الاُصول، بل جعل من القدر المتيقّن من الاستصحاب.

ولنذكر هنا بنحو الاختصار بهذه المناسبة(1) مدا اعتمادنا على هذه التدقيقات في مجال الظهورات العرفيّة، وخلاصة الكلام في ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ المعتبر شرعاً هو الظهور الاجتماعي العرفي، ولا إشكال في أنّ الظهور الذاتي الشخصي، أي: ما يُلقي الكلام في ذهن الشخص المعيّن من معنىً إنّما يكون معتبراً في أماريّته على الظهور الاجتماعي، ولا إشكال في أنّ هناك نكات ومناشئ كثيرة مؤثّرة في تكوّن ذاك الظهور الاجتماعي العرفي، وتلك التدقيقات تنفعنا في عدد من المجالات.

فأوّلاً: قد يتّفق أنّ ظهوراً عرفياً مّا يغفل عنه الشخص، ولا يتكوّن في نفسه ظهور ذاتي طبقاً لذاك الظهور العرفي نتيجة خفاء وخمول عنده في ارتكازيّة تلك النكات والمناشئ الموجبة لخلق الظهور الذاتي وفقاً للظهور العرفي، ويتّفق أنّه لو نشّطت له تلك الارتكازات وأُلفت نظره بالتفصيل إليها تكوّن الظهور الذاتي في نفسه، ويأخذ به باعتباره أمارة على الظهور العرفي.

مثاله: رواية عليّ بن جعفر:(سأل أخاه موسى بن جعفر(عليه السلام) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلاّ أن يضطرّ إليه)(2) فالأضطرار في هذه الرواية ظاهر في معنى انحصار الماء به، وليس بمعنى التقيّة، وقد ينكر أحد ذلك، فتُبيّن له نكتة هذا الظهور، وهي إضافة الاضطرار إلى الماء دون الوضوء، فقد ينقدح عندئذ تكويناً في نفسه الظهور الذاتي، والذي هو أمارة على الظهور العرفي.

وثانياً: قد يتّفق تشكيك الشخص في الظهور لشبهة مّا، فهو بالرغم من إحساسه الأوّلي بالظهور يرى أنّ هذا الإحساس غير صحيح؛ لأنّه لا يلتئم مع قواعد الكلام العربية مثلاً، فهو يحسّ بفهم الاستصحاب الحكمي من صحيحة زرارة، إلاّ أنّه يقول: إنّ هذا الإحساس غير صحيح لعدم تصوّر حدوث وبقاء في المقام، فلو أُلفِت نظره إلى الحدوث والبقاء العنوانيين وقيل له: لعل العرف يكتفي بذلك عن الحدوث والبقاء الحقيقيين، فقد ترتفع الشبهة عن نفسه.


(1) هذا البحث موكول إلى مبحث الظواهر، وقد بحث هنا مختصراً دفعاً لما قد يختلج بالبال، وذكره بعض الحضار من الإشكال.

(2) الوسائل: ج 3، ب 14 من النجاسات، ح 9، ص 421 بحسب طبعة آل البيت.

219

وثالثاً: قد يتّفق أنّ إبراز نكتة وتقريب لظهور مّا لا يقدح في نفس الشخص الإحساس بالظهور الذاتي، ولكن مع ذلك قد يوجب له الجزم والاطمئنان بمجموع القرائن، وبتكثير النظائر، وبالسبر والتقسيم والحصر، ونحو ذلك بكون الحال في هذا المورد الذي لم يحسّ فيه بالظهور الفلاني تماماً كالمورد الآخر الذي أحسّ به فيه، فمثلاً يرى أنّه لا فرق بين دلالة مقدّمات الحكمة على مفهوم الشرط الذي لم يتكوّن في نفسه ظهور ذاتي على طبقه، ودلالتها على الإطلاق في مثل(أحلّ الله البيع) مثلاً الذي انقدح في نفسه الظهور الذاتي على طبقه، فيعرف أنّ عدم تكوّن هذا الظهور الإطلاقي في نفسه في الشرط مثلاً نشأ من عامل خارجي كأن درس عند اُستاذ كان ينكر مفهوم الشرط ونحو ذلك، فيأخذ عندئذ بهذا الظهور.

أمّا إذا لم يحصل له مثل هذا الجزم والاطمئنان فلا عبرة له بتلك النكات والتحليلات الفنيّة.

التنبيه الخامس: لا إشكال بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من تصوير المجعول في مقابل الجعل في جريان الاستصحاب الحكمي في الشبهات الموضوعية لو لم يجر الاستصحاب الموضوعي لنكتة مّا؛ إذ من الواضح أنّ المجعول يطول بطول الموضوع، فمع الشكّ يمكن استصحاب بقاء المجعول، ولكن يقع الكلام في ذلك بناءاً على مبنانا من إنكار المجعول؛ إذ يمكن أن يقال عندئذ: إنّه لا مجال لاستصحاب النجاسة مثلاً عند الشكّ في بقاء التغيّر؛ إذ لو قصد استصحاب المجعول فقد فرضنا إنكار المجعول، ولو قصد استصحاب الجعل فنحن قاطعون ببقاء جعل نجاسة الماء المتغيّر.

نعم، في الشبهة الحكميّة قد تصوّرنا للحكم حدوثاً وبقاء عنوانياً، فقلنا: إنّ نجاسة الماء حين ثبوت التغيّر هي حدوث عنواني للحكم، ونجاسته بعد زوال التغيّر هي بقاء عنواني للحكم، وعلى هذا الأساس كنّا نجري الاستصحاب. وأمّا في الشبهة الموضوعيّة فلا شكّ في حدود الجعل حتّى يشكّل حدوث وبقاء عنواني.

والجواب: أنّ هنا مسامحة ثانية يرتكبها العرف عند تحقّق الموضوع خارجاً، وهي: أنّه حينما ينظر إلى عنوان الماء المتغيّر بالحمل الأوّلي ـ وقد تحقّق المصداق والمعنون في الخارج ـ فهو يرى أنّه ينظر إلى المعنون ويرى العنوان بهذا النظر(أي: بالنظر إليه بالحمل الأوّلي) نفس المعنون ومنطبقاً عليه، وإلاّ لما كان عنواناً له، ومن هنا يرى عندئذ حدوثاً وبقاءً عنوانياً للحكم بتبع حدوث وبقاء الموضوع الخارجي، فيجري استصحابه.