301

الاحتمال الثاني: أنّ الحدوث اُخذ في لسان الدليل من باب سحب التعبّد من مرحلة الحدوث إلى مرحلة البقاء. وبكلمة اُخرى: أنّه توجد هنا ثلاثة احتمالات: احتمال الوجود بعد الوجود، واحتمال العدم بعد الوجود، واحتمال العدم بعد العدم. والشارع أراد أن يعبّدنا بنفي الثاني فقط دون الثالث، ففرض الحدوث مفروغاً عنه.

وهذا بحاجة إلى شيء من التحليل. وتوضيحه: أنّ سحب التعبّد من مرحلة الحدوث إلى مرحلة البقاء، وإخراج الحدوث عن حيطة التعبّد إمّا أن يفترض بجعل التعبّد بالبقاء معلّقاً على الحدوث، بأن يقول: إن كان حادثاً فهو باق، حتّى يكون الحدوث شرطاً لهذا التعبّد، ومن قبيل قيد الوجوب الذي لا ينسحب عليه الوجوب لا من قبيل قيد الواجب، وإلاّ لسرى التعبّد إليه، كما أنّ إيجاب الصلاة المقيّدة بالطهارة يسري إلى الطهارة التي هي قيد الواجب، وهذا يعني أنّ الحدوث إذن كان موضوعاً للتعبّد بالبقاء، وهو الاستصحاب، فكأنّه لا يوجد هناك ترقٍّ عن الكلام الأوّل.

وإمّا أن يفترض بجعل مصبّ التعبّد هو الملازمة بين الحدوث والبقاء، فلا يكون الحدوث دخيلاً في ذلك، كما أنّ وجود العلّة ليس دخيلاً في الملازمة بين العلّة والمعلول. وعندئذ يرد عليه: أنّ الملازمة والسببيّة ونحو ذلك ليست قابلة للجعل على ما هو الصحيح عندنا، وعند المحقق الخراساني(رحمه الله)، وإنّما المجعول هو منشأ انتزاع هذه الأشياء. ففي المقام إنّما يجعل الحكم بالبقاء مشروطاً بالحدوث، فتنتزع من ذلك الملازمة بين البقاء والحدوث، فرجعنا مرّة اُخرى إلى الكلام الأوّل.

بقي في المقام الإشكال الذي أورده السيّد الاُستاذ على المحقّق الخراساني(رحمه الله) من دون أن يحلّل كلامه بالشكل الذي ذكرناه، وهو أنّه هل يقصد التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعيّين(1)، أو التعبّد بالملازمة بين تنجّز الحدوث وتنجّز البقاء(2). فإن قصد الأوّل لم يكن الاستصحاب أصلاً، بل كان أمارة مثبتة للبقاء واقعاً. وإن قصد الثاني لزم من ذلك بقاء


(1) قيل له(رحمه الله): يمكن فرض الملازمة ظاهرية، فيكون الاستصحاب أصلاً. فأجاب(رحمه الله) بأنّ: مقصود السيّد الاُستاذ ليس هو التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء التي تعدّ من الأحكام الوضعيّة حتّى يقال: إنّه لعلّها ملازمة ظاهرية، وإنّما يقصد فرض التعبّد بالبقاء على تقدير الحدوث.

أقول: والذي نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا إلى اُستاذه يختلف شيئاً مّا عمّا ورد في المصباح: ج 3، ص 97 ـ 98 من تقريب الإشكال على الآخوند، فراجع وقايس بينهما.

(2) كأنّ الكلام مبنيّ على مبنى الآخوند(رحمه الله) من جعل المنجّزية، باعتبار أنّ الحديث متوجّه إلى الآخوند.

302

تنجّيز العلم الإجمالي بعد انحلاله. فمثلاً لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين فتنجّزت علينا النجاسة على كلا تقديريها، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة أحد الإنائين مسبقاً، فانحلّ العلم الإجمالي، تبقى النجاسة في الإناء الآخر على تنجّزها؛ للملازمة بين التنجّزين. وهذا ما لا يُلتَزم به(1).

ويرد عليه: أوّلاً: أنّنا لو فرضنا انحصار الأمر فيما ذكره من الاحتمالين لاخترنا الاحتمال الثاني، ويقال: إنّ الاستصحاب عبارة عن التعبّد بالملازمة بين تنجّز الحدوث وتنجّز البقاء، لكن لا مطلقاً، بل عند فرض بقاء منجِّز الحدوث، كما في ما نحن فيه من فرض قيام الأمارة على الحدوث دون ما إذا انتفى منجِّز الحدوث، وانحلّ، كما في مثال العلم الإجمالي بناءً على انحلاله بالعلم التفصيلي.

وإن شئت فقل: إنّنا لا ندّعي الملازمة بين التنجّز حدوثاً وبقاءً، وإنّما ندّعي أنّ المنجِّز للحدوث منجِّز للبقاء، باعتبار ما له من كشف ناقص للبقاء مثلاً، ومن الطبيعي أنّ منجّزية المنجّز تكون عند وجود ذلك المنجّز.

وثانياً: أنّ بإمكاننا أن لا نقول: إنّ الاستصحاب تعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعيين، ولا بين تنجّزهما، بل نقول: إنّه تعبد بالملازمة بين الوجود الواقعي للحدوث والوجود الظاهري للبقاء، ولا يرد عندئذ شيء من إشكالي الشقّين السابقين.

الوجه الثالث: أنّ الحكم الظاهري ـ على ما ذكرناه مراراً ـ عبارة عن الخطابات والإنشاءآت المبرزة لشدّة اهتمام المولى بالواقع، أو مسامحته فيه، فروح الحكم الظاهري هو هذه الشدّة أو المسامحة، وعليه نقول: إنّنا لو أردنا استصحاب الحكم الواقعي ورد عليه ما مضى من أنّه غير معلوم الثبوت مثلاً، ولو أردنا أن نستصحب الحكم الظاهري بمعنى خطاب(صدّق العادل) مثلاً، ورد عليه ما مضى من انتفاء موضوعه؛ لأنّ العادل لم يخبر بأكثر من الحالة السابقة، وموضوع هذا الخطاب إنّما هو خبر العادل، فلا معنىً لاستصحاب هذا الخطاب في الزمان الثاني الذي لا يوجد فيه خبر عادل، لكنّنا لا نستصحب لا هذا ولا ذاك، وإنّما نستصحب روح الحكم الظاهري، وهو شدّة اهتمام المولى الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال، أو المسامحة وعدم الاهتمام الموضوع لحكم العقل بالأمان.


(1) وورد في الدراسات ج4، ص 95 بحسب طبعة دائرة معارف الفقه الإسلامي، مثال آخر للنقض، وهو لزوم حجّيّة قاعدة اليقين؛ لأنّ ما تيقّنّا به قد تنجّز حدوثاً، فيكون منجّزاً بقاءً رغم الشكّ الساري.

303

ولا يتخيّل أنّ هذا من استصحاب القسم الثالث من الكلّي؛ لانتفاء الشدّة المعلومة، واحتمال شدّة اُخرى في الاهتمام.

فإنّ الجواب على ذلك: أنّ إخبار العادل بالواقع إنّما هو سبب لشدّة الاهتمام، أمّا ذات الشدّة والاهتمام فشيء واحد شخصي، كنّا نعلم بوجوده حدوثاً لهذا السبب، واحتملنا وجوده بقاءً لسبب آخر، فيجري استصحاب الشدّة والاهتمام.

نعم، يبقى شيء في المقام، وهو أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو لم يوجد حاكم على هذا الاستصحاب، والحاكم غير موجود في استصحاب المسامحة وعدم الاهتمام، لكنّه موجود في استصحاب شدّة الاهتمام، وذلك لحكومة دليل البراءة على هذا الاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب استصحاب للاهتمام بالواقع، ودليل البراءة أمارة على عدم الاهتمام، والأمارة تقدّم على الاستصحاب. وهذا بخلاف ما لو استصحبنا نفس الواقع، كما هو الحال في الوجه الثاني، فإنّ دليل البراءة ليس أمارة على نفس الواقع، فيكون الاستصحاب والبراءة من هذه الناحية في عرض واحد، فيؤخذ بالاستصحاب من باب تقدّم الاستصحاب على البراءة.

أو قل بكلمة اُخرى في مقام التعليق على هذا الوجه الثالث: إنّه إذا كانت الأمارة دالّة على حكم إلزامي حدوثاً، دخل المقام في دوران الأمر بين عموم العام واستصحاب حكم المخصّص؛ لأنّ دليل البراءة عامّ دلّ على عدم الاهتمام عند الشكّ في الواقع مطلقاً، وهو مخصَّص بدليل(صدّق العادل) الُمخرِج للحصّة الحدوثية منه؛ لدلالته على شدّة الاهتمام بمقدار قيام خبر العادل، والمفروض دلالة خبر العادل على الحدوث فقط، فبإنتهاء المدّة التي دلّ عليها الخبر تنتهي دلالة المخصِّص، وهو دليل(صدّق العادل)، فيدور الأمر بين عموم العامّ واستصحاب حكم المخصّص. والحقّ فيه هو: تقدم العامّ على استصحاب حكم المخصّص.

الوجه الرابع: هو البنآء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي، فإنّ القطع قد اُخذ ـ حسب الفرض ـ في موضوع الاستصحاب، فلو بني على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي انحلّت المشكلة في المقام.

وتمامية هذا الوجه الرابع تكون بأحد تقريبين:

1 ـ دعوى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنحو الورود في خصوص باب الاستصحاب، بدعوى: أنّ موضوع الاستصحاب من أوّل الأمر ليس هو خصوص القطع، بل مطلق المنجّز.

304

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذه الدعوى ليست في محلّها، لا بلحاظ المدلول اللفظي لليقين كما هو واضح؛ لأنّ مدلوله اللغوي ليس إلاّ ذات اليقين، لا مطلق المنجّز، ولم يثبت اصطلاح شرعي أو عرفي على خلافه، ولا بلحاظ ما يمكن أن يقرّب به هذا الوجه من أنّ دليل الاستصحاب يشير إلى قاعدة ارتكازية، فيحدّد بحدود الارتكاز، ومقتضى الارتكاز هو عدم الفرق بين اليقين وغيره من المنجّزات، وأنّ مفاد القاعدة هو عدم رفع اليد عمّا كان يجري عليه الشخص بمجرّد الشكّ، فإنّ هذا التقريب غير تامّ؛ إذ لا قطع بثبوت الارتكاز بهذا النحو، بل من المحتمل اختصاص الارتكاز أو اختصاص بعض مراتبه بخصوص صورة اليقين، بحيث لا يمكن التعدّي من حاقّ مدلول لفظ الدليل بقرينة الارتكاز، خصوصاً بلحاظ ما مضى منّا من أنّ ارتكازية الاستصحاب قد تكون على أساس العادة وأُنس الذهن بالحالة السابقة الموجب لميل النفس إلى فرض بقاءها، ولليقين دخل في هذه العادة وأُنس الذهن.

نعم، ليس من الواضح ـ أيضاً ـ اختصاص الارتكاز بكلّ مراتبه بخصوص صورة اليقين، بحيث لو كان الدليل يدلّ على أعمّ من هذا يصرف إلى هذا المقدار، ولهذا ترى أنّنا في الوجه الثاني بنينا على إطلاق صحيحة عبدالله بن سنان، ولم نقيدها بالارتكاز.

وثانياً: أنّه لو حمل اليقين على مطلق المنجّز والمعذّر فماذا نقول في الشكّ المأخوذ في مقابل اليقين في قوله:«لا تأخذ اليقين بالشكّ»؟ هل يقصد بالشكّ عدم العلم أو يقصد به عدم المنجّز والمعذّر؟ فإن فرض الأوّل كان ذلك خلاف ظاهر جعل الشكّ فى مقابل اليقين؛ فإنّ ظاهر السياق كون المقصود بالشكّ ما يضاد نفس ما قصد من اليقين ويقابله، فإن قصد باليقين المنجّز يجب أن يقصد بالشكّ عدم المنجّز لا عدم العلم، وإن فرض الثاني لزم من ذلك حكومة كلّ الاُصول على الاستصحاب؛ لأنّه قد اُخذ في موضوعه عدم المنجّز والمعذّر، وكلّ أصل هو منجّز أو معذّر. وهذا ما لا يقول به أحد.

2 ـ ما عن المحقّق النائيني(رحمه الله) من قيام الأمارة بشكل عامّ مقام القطع الموضوعي بالحكومة، من باب أنّ مفاد دليل حجّيّة الأمارة هو جعل الطريقية.

وتماميّة هذا الوجه وعدمها موقوف على مبان مضى تحقيقها في محلها، وهي مايلي:

(أ) هل أنّ جعل الطريقية معقول ثبوتاً بنحو الاعتبار، كما هو مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله)، أو بنحو التنزيل، أو لا؟

(ب) إذا كان جعل الطريقية معقولاً ثبوتاً فهل هذا هو الظاهر من دليل الحجّيّة إثباتاً، أو لا؟

305

(ج) على تقدير استفادة جعل الطريقية من الدليل هل يستفاد ذلك بلحاظ القطع الطريقي والموضوعي معاً، أو لا يستفاد ذلك إمّا لمحذور ثبوتي كما جاء في الكفاية، أو لمحذور إثباتي كما نحن اخترناه؟

فلو أجبنا على كلّ هذه الأسئلة الثلاثة بالإثبات أمكن الالتزام بهذا الوجه الرابع، في مقام حلّ الإشكال في المقام، وبما أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يجيب بالإثبات على كلّ هذه الأسئلة الثلاثة التزم في المقام بهذا الوجه الرابع.

ولكن بقي هنا شيء، وهو: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يعترف بأنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي الصفتي، وإنّما يقول بقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي. وبناءً على هذا يشكل القول بقيام الأمارة موضع القطع في المقام ولو سلّمنا كلّ مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) من الأجوبة الإثباتية على تلك الأسئلة.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه يقال في باب القطع الموضوعي: إنّ العلم تارةً يؤخذ موضوعاً بما هو كاشف، واُخرى يؤخذ موضوعاً بما له من خصوصية وصفية؛ فإنّ العلم ـ إضافةً إلى ما له من خاصّية الكشف التي هي عبارة عن ذات العلم ـ له خاصيّتان نفسيّتان: إحداهما: ما يوجد في نفس العالم من حالة الاستقرار. والثانية: ما يوجد ـ أيضاً ـ في نفس العالم من استحكام ارتباط صورة المتيقَّن بها، وتركّزها في النفس، وشدّة ارتباطها بها. فتارةً لا يلحظ في موضوع الحكم إلاّ ذات العلم بما هو انكشاف، واُخرى يلحظ بما هو ذو الصفة الاُولى أو الثانية. وذكر المحقق النائيني(رحمه الله)(1) ومن تبعه: أنّ كلمة(العلم) و (القطع) و (اليقين) كلّها وضعت في لغة العرب بمعنىً واحد، إلاّ أنّ الملحوظ في كلمة(العلم) إنّما هو جانب الانكشاف، ولوحظ في كلمة(القطع) صفة استقرار النفس، ولوحظ في كلمة(اليقين) جانب الاستحكام، ومن هنا ترى أنّه يطلق على الله ـ تعالى ـ العالم، ولا يطلق عليه القاطع، أو المتيقن، كما أنّه من هنا ترى أنّ إسناد النقض إلى اليقين شيء مستحسن لما فيه من الاستحكام، بخلاف إسناده إلى القطع أو العلم. وعلى هذا نقول: إنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إن لم يكن ظاهراً في أخذ العلم بما هو ذو الصفة الثانية، وهي الاستحكام وشدّة ارتباط صورة المتيقّن بالنفس، فلا أقلّ من عدم كونه ظاهراً في خلاف ذلك، فإنّنا لو احتملنا كون ذكر كلمة(اليقين) لمجرّد النكتة اللفظية، وهي لحاظ المناسبة مع استعمال كلمة(النقض)،


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 379.

306

فلا أقلّ من أن يحتمل ـ أيضاً ـ أن لا يكون لمجرّد النكتة اللفظية، بل يكون عنوان اليقين بما هو صفة دخيلاً حقيقةً في الاستصحاب، وعندئذ لا يثبت قيام الأمارة مقامه في باب الاستصحاب، لأنّ دليل حجّيّة الأمارة غاية ما استفيد منه هو جعل العلم والطريقية، أي: جعل جانب الكاشفية. وأمّا جعل المؤونة الاُخرى الزائدة على ذات العلم، وهي جعل الأمارة كأنّها واجدة لتلك الحالة النفسانية التي يكون العلم واجداً لها فغير ثابت.

 

إشكال جريان الاستصحاب في المورد إنّما يعقل في صورة من أربع صور

وفي ختام الحديث عن الإشكال الذي كنّا نتكلّم عنه حتّى الآن، وذكرنا له حلولاً أربعة، مع تحقيق حالها نقول: إنّنا إنّما نكون بحاجة إلى هذا البحث في صورة واحدة، ولا مجال لأصل الإشكال في ثلاث صور.

وتوضيح المقصود: أنّه تتصوّر في باب ثبوت الحالة السابقة بالأمارة أربع صور:

1 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو كان الثوب نجساً فثبت تطهيره بالماء بالبيّنة، ثمّ شكّ في بقاء الطهارة من باب الشكّ في ملاقاته للدم مثلاً.

2 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الحكمية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو كان الثوب نجساً فغسلناه بالماء مرّة واحدة، ودلّت الأمارة على كفاية الغسل مرّة واحدة في التطهير، ثمّ شككنا في بقاء الطهارة من باب الشكّ في ملاقاته للدم مثلاً.

3 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا ثبت بالبيّنة تغيّر الماء الكرّ بالنجاسة، ثمّ ارتفع التغيّر، فشككنا في بقاء النجاسة.

4 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث بنحو الشبهة الحكمية، والشكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما لو ثبت بالأمارة وجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور، وشككنا في وجوبها في زمن الغيبة.

والإشكال إنّما يكون له مجال في الصورة الرابعة دون الصور الثلاث الاُولى.

وتوضيح ذلك: أنّه في الصورة الاُولى لو اُورد الإشكال وقيل: هل يستصحب الحكم الواقعي أو يستصحب الحكم الظاهري، فإن اُريد استصحاب الحكم الواقعي فهو غير

307

مقطوع الثبوت، وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري فهو مقطوع الارتفاع. قلنا: إنّنا نختار الشقّ الثاني، أي: إنّنا نستصحب الحكم الظاهري. وقولكم إنّ الحكم الظاهري مقطوع الارتفاع جوابه: أنّه ليس مقطوع الارتفاع؛ وذلك لأنّ الأمارة التي دلّت بالمطابقة على طهارة الثوب حدوثاً دلّت بالالتزام على بقاء طهارته ما لم يلاقِ نجساً، وذلك لعلمنا الخارجي بالملازمة بين طهارة الشيء وبقاء طهارته ما لم يلاقِ نجساً، والحكم الظاهري كما يكون مجعولاً على طبق الدلالة المطابقية للأمارة كذلك يكون مجعولاً على طبق الدلالة الالتزامية لها، فالحكم الظاهري في المقام عبارة عن طهارة الثوب واستمرارها إلى أن يلاقي النجاسة، فالشكّ في ملاقاته للنجاسة وعدمها يوجب الشكّ في انتهاء أمد هذا الحكم وبقائه، فيستصحب الحكم الظاهري بلا إشكال.

وإن شئت فاستصحب عدم الملاقاة المنقّح لموضوع الحكم الظاهري.

إن قلت: كيف يمكن إجراء استصحاب الحكم الظاهري في المقام مطلقاً مع أنّه لابدّ أن يرجع روح هذا الاستصحاب إلى استصحاب روح الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن شدّة الاهتمام وعدم شدّته، ولا يفيد مجرّد استصحاب الخطاب الظاهري بغضّ النظر عن الروح؛ إذ لا يترتّب عليه تنجيز أو تعذير. وعليه فاستصحاب الحكم الظاهري في المقام إنّما يجري في الأحكام غير الإلزامية، كما في المثال المذكور، ولا يجري في الأحكام الإلزامية؛ لما مضى من حكومة دليل البراءة عليه، لكونه أمارة على عدم شدّة الاهتمام. وهذا في الحقيقة إشكال مستقلّ يرد على استصحابات الأحكام الظاهرية فيما يكون الحكم إلزامياً، وأصل البراءة على خلافه.

قلت: إنّ ما مضى منّا من مسألة حكومة دليل أصالة البراءة على استصحاب شدّة الاهتمام لا يجري هنا؛ وذلك لأنّه بعد أن فرضنا أنّ بقاء الطهارة إلى زمان ملاقاة الدم مثلاً مدلول التزامي للأمارة، يكون من المحتمل كون المورد خارجاً عن دليل البراءة بالأمارة، فيكون التمسّك بدليل البراءة هنا تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص، فإنّ دليل البراءة قد خرجت منه بالتخصيص موارد الأمارة(1). هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.

وأمّا الصورة الثانية فيأتي فيها عين ما ذكرناه في الصورة الاُولى حرفاً بحرف.


(1) نعم، لولا استصحاب بقاء الاهتمام جرت البراءة عن الاهتمام باحتمال بقاء الاهتمام. وهذا غير البراءة النافية للاهتمام الأوّل التي يكون التمسّك بها تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية.

308

وأمّا الصورة الثالثة فنختار فيها ـ لتوضيح عدم ورود الإشكال ـ الشقّ الأوّل، أي: إننا نستصحب الحكم الواقعي، وقولكم: إنّ الحكم الواقعي غير معلوم الحدوث إنّما يتمّ لو لوحظت نجاسة هذا الماء بالخصوص، وفرض أنّ الفقيه إنّما يستطيع أن يستصحب في الشبهات الحكمية إذا وجد الموضوع بحسب الخارج. وأمّا بناءً على ما مضى من أنّ الفقيه يلحظ في الشبهات الحكمية الموضوع بنحو الفرض والتقدير، ويجري الاستصحاب، فلا يرد هذا الإشكال؛ لأنّ الفقيه يلحظ طبيعي الماء المتغيّر، وهو مقطوع النجاسة، ويثبت بحكم الاستصحاب أنّ طبيعي الماء المتغيّر تبقى نجاسته بعد زوال التغيّر، ثمّ يثبت موضوع هذا الحكم الكلّي وهو تنجّس الماء المتغيّر حتّى بعد زوال تغيّره بالأمارة الدالة على تغيّر هذا الحكم، ولا يرد إشكال.

إذن فالإشكال منحصر في الصورة الرابعة، وقد عرفت حاله.

 

جريان الاستصحاب عند ثبوت الحالة السابقة بالأصل

المقام الثاني: فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأصل. وقد جاء في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ على ما في التقريرين(1) ـ ذكر الإشكال في باب الاُصول بهذا النحو، وهو: أنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب من حيث عدم اليقين بالحدوث، فإنّ هذا الإشكال قد حللناه من ناحية قيام الأمارات والاُصول مقام القطع، ويكون الإشكال من حيث عدم الشكّ اللاحق، والقطع الوجداني بالبقاء، فنفس أصالة الطهارة مثلاً باقية بعد احتمال ملاقاة الثوب الذي أثبتنا طهارته بالأصل للدم، ولا حاجة إلى استصحابها.

أقول: إنّ في هذا الكلام خلطاً بين استصحاب الحكم الواقعي واستصحاب الحكم الظاهري؛ إذ لو قصد استصحاب الحكم الظاهري فلا معنى لما ذكره من قيام الأمارات والاُصول مقام القطع، فإنّ الحكم الظاهري مقطوع الحدوث وجداناً. وإن قصد استصحاب الحكم الواقعي فلا معنى لما ذكره من أنّ البقاء ثابت وجداناً؛ فإنّ الذي يكون بقائه ثابتاً بالقطع الوجداني هو الحكم الظاهري لا الواقعي.

إذن فينبغي التشقيق في الإشكال بأن يقال: لو قصد استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 404 ـ 406 طبعة جامعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 388 ـ 389.

309

بالحدوث، ولو قصد استصحاب الحكم الظاهري فلا شكّ في البقاء. وإذا بنى المحقّق النائيني(رحمه الله) على قيام الاُصول مقام القطع الموضوعي فقد ارتفع الإشكال بلحاظ الشقّ الأوّل، وهو استصحاب الحكم الواقعي، وجرى الاستصحاب.

هذا. ولا يصحّ الجواب عن إشكال الشق الثاني بما مضى في الوجه الثالث من وجوه الحل للاشكال في الأمارات من استصحاب روح الحكم الظاهري، وهو شدّة الاهتمام أو عدم الاهتمام؛ إذ لو سلّم القطع ببقاء الحكم الظاهري فقد سلّم القطع ببقاء روحه من شدّة الاهتمام أو عدمها.

هذا. وإشكال الشقّ الثاني يسري منه إلى استصحاب الجامع بين الشقّين الذي هو الوجه الأوّل من وجوه حلّ الإشكال في الأمارات، فكما يقال في الشقّ الثاني: إنّ الطهارة الظاهرية مقطوعة البقاء كذلك يقال في استصحاب الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية بأنّه مقطوع البقاء ببقاء أحد فرديه، وهو الطهارة الظاهرية.

وتحقيق الحال في المقام تارةً يقع في الشقّ الأوّل، أعني: استصحاب الطهارة الواقعية، واُخرى يقع في الشقّ الثاني، أعني: استصحاب الطهارة الظاهرية.

أمّا الشقّ الأوّل، وهو استصحاب الطهارة الواقعية فكان إشكاله عبارة عن عدم اليقين بالحدوث، ويمكن الإجابة عليه بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: إنكار أخذ اليقين بالحالة السابقة في الاستصحاب، وكفاية نفس الحالة السابقة.

وهذا التقريب كان ينفعنا في باب الأمارات من باب أنّ موضوع الحكم بالاستصحاب، وهو نفس الحالة السابقة، كنّا نثبته تعبّداً بالأمارة، فكنّا نرتّب عليه حكمه وهو الاستصحاب. وأمّا في باب الاُصول فإنْ لم يكن الأصل تنزيلياً لم يصحّ هذا التقريب؛ لأنّه لا يوجد لنا محرِز لموضوع الاستصحاب، وهو الحالة السابقة، فكيف نستصحب؟ نعم، يصحّ هذا التقريب فيما إذا كان الأصل تنزيلياً، سواء كانت تنزيليته بمعنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، أو بمعنى جعل الطريقية والإحراز والغاء الشكّ ولو بلحاظ الجري العملي.

التقريب الثاني: الالتزام بقيام الاُصول مقام القطع الموضوعي، بدعوى استفادة ذلك من دليل الاُصول، كما كان يدعى ذلك في الأمارات بلحاظ جعل الطريقية، أو التنزيل منزلة القطع.

وهذا التقريب ـ أيضاً ـ لو تمّ فإنّما يتمّ في الاُصول التنزيلية، ولا معنى لتوهّمه في الاُصول

310

غير التنزيلية.

وتفصيل الكلام فيه بلحاظ الاُصول التنزيلية هو: أنّه إن كانت التنزيلية بمعنى جعل الطريقية، كما يقال في الاستصحاب، فعندئذ لو قيل بجعله طريقاً، أو تنزيله منزلة القطع مطلقاً لا من حيث خصوص الجري العملي، فحاله حال الأمارة، ويقوم مقام العلم كما قامت الأمارة مقامه، وينقّح بذلك موضوع الاستصحاب بناءً على أنّه ينقّح بالأمارة موضوعه بهذا التقريب. ولو قيل بذلك من حيث خصوص الجري العملي يجب أن يُرى أنّ اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب هل اُخذ فيه بلحاظ هذه الحيثية أو مطلقاً، فعلى الأوّل يقوم الأصل مقامه، بخلافه على الثاني.

وإن كانت التنزيليّة بمعنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فعندئذ إن قلنا بما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل(1) من أنّ جعل المؤدّى منزلة الواقع يدلّ بالدلالة الالتزامية العرفية على جعل العلم بالمؤدّى منزلة العلم بالواقع، صحّ إجراء آثار العلم، وإن لم نقل بعرفية ذلك ـ كما هو الصحيح ـ فإن ساعد العرف على تحليل موضوع الاستصحاب إلى جزئين بأن يقال مثلاً: إنّ موضوع استصحاب الطهارة الذي هو اليقين بالطهارة مركّب من اليقين بشيء، وكون ذلك الشيء طهارة، أمكن أن يقال في المقام أيضاً: إنّ موضوع الاستصحاب ثابت؛ لأنّنا عملنا بشيء وجداناً وهو المؤدّى، وذلك الشيء هو عبارة عن الطهارة الواقعية مثلاً تعبّداً؛ لأنّنا فرضنا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فموضوع الاستصحاب تحقق جزء منه بالوجدان، والجزء الآخر بالتعبّد، إلاّ أنّ العرف لا يساعد على مثل هذا التحليل في المقام.

التقريب الثالث: الالتزام بأنّ اليقين المأخوذ في موضوع الاستصحاب إنّما اُخذ فيه بما هو منجّز أو معذّر، فيقوم الأصل مقامه؛ لأنّه ـ أيضاً ـ منجّز أو معذّر.

وهذا إشكاله ما مضى منّا من توضيح بطلان المبنى، أعني: كون اليقين مأخوذاً بما هو منجّز أو معذّر(2).

 


(1) ص 9 بحسب الطبعة التي هي من منشورات مكتبة بصيرتي بقم.

(2) هذه التقريبات الثلاثة كلّها مستقاة من نفس التقريبات الماضية في استصحاب ما ثبت حدوثه بالأمارة، وقد حذف من تلك التقريبات تقريبان، فلم نستفد منهما في مورد الأصل، لا لعلاج الشقّ الأوّل، ولا لعلاج الشقّ الثاني.

311

وأمّا الشقّ الثاني، وهو استصحاب الطهارة الظاهرية فكان إشكاله عبارة عن أنّها مقطوعة البقاء لجريان أصالة الطهارة بقاءً، فلا معنىً للرجوع إلى الاستصحاب.

وقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله) جوابين، أبطل أحدهما وارتضى الآخر:

أمّا الجواب الذي أبطله(1) فهو أنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة، فيقدّم عليها، ولا معنى للمنع عن جريانه باعتبار ثبوت أصالة الطهارة بقاءً.

وأورد(رحمه الله) على ذلك: بأنّ الحكومة وإن كانت صحيحة في المقام لكنّها فرع جريان الاستصحاب ووجودِه، أي: إنّ الاستصحاب لو كان جارياً وموجوداً لكان حاكماً على أصالة الطهارة، لكنّنا نقول: إنّه غير موجود في المقام.

أقول: بعد فرض تسليم الحكومة في نفسها على تقدير الجريان لا معنى للمنع عن جريانه؛ إذ المفروض أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب إلاّ أصالة الطهارة، والأصل المحكوم يستحيل أن يصبح مانعاً عن جريان الأصل الحاكم، فهذا الإشكال على الجواب غير وارد(2).

 


أحدهما: الوجه الثالث من الوجوه الأربعة الماضية في استصحاب ما ثبت بالأمارة، وهو استصحاب روح الحكم الظاهري. والسبب في حذفه واضح، وهو أنّ هذا لا يعالج الشقّ الأوّل، وهو استصحاب الطهارة الواقعية؛ لأنّه راجع إلى الشقّ الثاني، وهو استصحاب الطهارة الظاهرية لا الواقعية، ولا يعالج الشقّ الثاني؛ لما مضى من اُستاذنا(رحمه الله) في المتن من أنّه لو كان الحكم الظاهري مقطوع البقاء فروح الحكم الظاهري ـ أيضاً ـ مقطوع البقاء.

وثانيهما: الوجه الأوّل من تلك الوجوه الأربعة، وهو استصحاب الجامع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، أو قل: استصحاب الجامع بين الشقّين، والسبب في حذفه ما مضى من اُستاذنا الشهيد ـ أيضاً ـ من أنّ هذا مبتلىً بنفس إشكال الشقّ الثاني، وهو القطع ببقاء الحكم الظاهري، فإنّ القطع ببقاء الحكم الظاهري قطع ـ أيضاً ـ ببقاء الجامع ضمن أحد فرديه، فلو لم يعالج هذا الإشكال بوجه من الوجوه لم يعقل استصحاب الجامع، وإن عولج بوجه من الوجوه جرى استصحاب الحكم الظاهري، ولم تبقَ حاجة إلى هذا الوجه، وهو استصحاب الجامع.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 406 بحسب طبعة جامعة المدرسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 388.

(2) جاء في تقرير السيد الهاشمي (حفظه الله) بدلاً عن هذا الكلام توجيه لكلام الشيخ النائيني(رحمه الله)مع إيراد.

أمّا التوجيه فهو أنّه لئن كانت في الاستصحاب نكتة الحكومة على أصالة الطهارة ففي أصالة الطهارة في المقام توجد نكتة الورود على الاستصحاب، ومن الطبيعي أنّ نكتة الورود التي تفني الموضوع وجداناً هي التي تغلب نكتة الحكومة التي تحاول إفناء الموضوع تعبّداً.

312

إلاّ أنّ أصل الجواب لا محصّل له، فإنّ المستصحب لو كان هو الطهارة الواقعية لأمكن أن يقال: إنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة، لكنّ المستصحب في المقام هو نفس الطهارة المستفادة من أصالة الطهارة، فنسبة الاستصحاب هنا إلى دليل أصالة الطهارة نسبة الأصل إلى الأمارة، لا نسبة الاستصحاب إلى الأصل.

وأمّا الجواب الذي ارتضاه(1) فهو: أنّ الحكم الظاهري المستفاد من الأصل ليس دائماً مقطوع البقاء عند الشكّ في الطهارة مثلاً، حتّى لا يكون مجال لاستصحابه، بل قد يكون مشكوك البقاء، فمثلاً لو كان ثوبك متنجّساً فغُسِل بالماء، وشككت في غَسله بالنحو الصحيح، فجرت أصالة الصحّة، وثبتت بذلك طهارة الثوب، ثمّ شُكّ في ملاقاة الثوب للدم وعدمها، فهنا نشكّ في بقاء الطهارة، ولا يكون دليل الحكم الظاهري، أي: دليل أصالة الصحّة دالّاً على بقاء الطهارة الظاهرية بعد الشكّ في ملاقاته للدم؛ لأنّ أصالة الصحّة لا تنفي احتمال التنجس بملاقاة الدم، وإنّما تنفي احتمال بقاء النجاسة من باب عدم صحّة التطهير.

وكأنّ السيّد الاُستاذ في المقام ـ بعد موافقته على ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ صار بصدد بيان ضابط(2) لكون الحكم الظاهري المستفاد بالأصل مقطوع البقاء أو مشكوكه، فذكر: أنّ الأصل إن كان جارياً في مورد الشكّ كان مقطوع البقاء ما دام الشكّ باقياً، من قبيل أصالة الطهارة في نفس الثوب، فإنّ الأصل بنفسه جار بقاءً بعد الشكّ في ملاقاته للدم، وإن كان جارياً في موضوع المشكوك، وسببه لا في مورده، لم يكن دليل ذلك الأصل دالّاً على ثبوت الحكم الظاهري بقاءً، وذلك من قبيل أصالة الطهارة الجارية في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، فإنّها لا تدلّ على ثبوت الطهارة للثوب بعد احتمال ملاقاته للدم.

أقول: إنّ هذا الضابط بكلا طرفيه غير تامّ في المقام:

أمّا قوله(3) بجريان الاستصحاب فيما إذا كان الأصل جارياً في موضوع المشكوك وسببه،


&rarr

وأمّا الإيراد فهو: أنّ تغليب ما فيه نكتة الورود على ما فيه نكتة الحكومة وإن كان صحيحاً، لكن ذلك لا ينطبق على ما نحن فيه؛ لأنّه لو قصد بالاستصحاب استصحاب الطهارة الواقعية فأصالة الطهارة ليست واردة عليه. ولو قصد به استصحاب الطهارة الظاهرية فهذا الاستصحاب ليس حاكماً على أصالة الطهارة؛ لأنّ نسبته إليها نسبة الأصل إلى الأمارة.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 388.

(2) هذا الضابط غير موجود في مصباح الاُصول، راجع الجزء الثالث منه، ص 100 ـ 101.

(3) هذا الشقّ الأوّل من الإشكال يرد على ما في مصباح الاُصول، ولكن ما يأتي من الشقّ الثاني من

313

كما في أصالة طهارة الماء الذي غسل به الثوب المتنجّس، فيرد عليه: أنّه هل نُجري استصحاب مطلق الطهارة الظاهرية، أو استصحاب خصوص الحصّة من الطهارة للثوب الثابتة بأصالة طهارة الماء الذي غسل به؟ فإن قصد الثاني قلنا: إنّ تلك الحصّة بما هي حصّة لا يترتّب عليها أثر. وإن قصد الأوّل قلنا: إنّ الطهارة الظاهرية الثابتة بأصالة الطهارة ليست مشكوكة البقاء؛ لجريان أصالة الطهارة بقاءً في نفس الثوب.

ولا يقال: نحن نريد أن نثبت طهارة الثوب بقاءً بدليلين: أحدهما: أصالة الطهارة بلحاظ جريانها في نفس الثوب. والثاني: استصحاب الطهارة بلحاظ جريان أصالة الطهارة في الماء. والأوّل لا يمنع عن الثاني؛ لأنّ دليل أصالة الطهارة في الثوب ليس من الأدلّة القطعيّة كي يقطع الشكّ حقيقةً، ودليل أصالة الطهارة في الثوب إن لم يكن مطابقاً للواقع، ولم تكن أصالة الطهارة مجعولة فيه أمكن أن يكون دليل استصحاب الطهارة الظاهرية مطابقاً للواقع.

فإنّه يقال: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو احتملنا اختصاص الطهارة الظاهرية ثبوتاً بالماء مثلاً، وعدم جريانها في الثوب، أو قل: احتملنا اختصاص الحكم الظاهري ثبوتاً بموضوع المشكوك دون مورد الشكّ، وإلاّ فلا معنىً لجريان الاستصحاب؛ إذ نحن نقطع بأنّ الطهارة الظاهرية إن كانت ثابتة حدوثاً فهي ثابتة بقاءً، واحتمال التفكيك بين الحدوث والبقاء غالباً غير موجود فيما يكون دليل الحكم الظاهري في موضوع المشكوك بنفسه متكفّلاً للحكم الظاهري في مورد الشكّ، كما في أصالة الطهارة(1). نعم، هذا الاحتمال غالباً موجود في ما يكون دليل الحكم الظاهري في موضوع المشكوك غيره في مورد الشكّ، وذلك كما لو أثبتنا طهارة الثوب بأصالة صحّة غَسله، فإنّه من المحتمل مثلاً كون أصالة الصحّة في الواقع أصلاً مجعولاً في الشريعة، وعدم كون أصالة الطهارة كذلك، فهنا يكون مجال لاستصحاب الطهارة.

وأمّا قوله بعدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الأصل جارياً في مورد الشكّ، فهو ـ أيضاً ـ منقوض ببعض الموارد، كما لو شكّ في صحّة الصلاة بلحاظ بعض أجزائها الماضية، فأجرى قاعدة التجاوز، ثمّ شكّ في صحّة الصلاة شكّاً لم يتجاوز محلّه، وقلنا باستصحاب الصحّة، فقاعدة التجاوز هي أصل جرى في مورد الشكّ، فإنّ صحّة الصلاة ـ في ذوق من يقول بجريان استصحاب الصحّة ـ شيء واحد مستمرّ، تكون صحّة الأجزاء السابقة وعدم


الإشكال لا مورد له فيما هو موجود في مصباح الاُصول.

(1) إلاّ أن يكون دليلنا على أصالة الطهارة حديث(كلّ ماء طاهر) لا حديث(كلّ شيء طاهر).

314

فوتها حدوثاً له، واستمرار الصحة بقاءً له، فيجري في المقام استصحاب الصحّة بناءً على القول بجريان استصحاب الصحّة في نفسه، وليس الحكم بالصحة بقاءً ثابتاً بقاعدة التجاوز حتّى لا نحتاج إلى الاستصحاب، في حين أنّ قاعدة التجاوز أصل جرى في مورد الشكّ.

بقي الكلام في تحقيق ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) في المقام من أنّه لدى الشكّ قد لا يكون الحكم الظاهري محرزاً بقاءً، فنثبته بالاستصحاب.

ولا إشكال في أنّ مجرد عدم إحراز الحكم الظاهري لا يكفي في استصحابه، بل لا بدّ ـ أيضاً ـ من عدم القطع بانقطاعه، وتحقيق حال عدم القطع بالانقطاع يكون بالرجوع إلى ما ذكرناه في ختام البحث في المقام الأوّل فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأمارة من الصور الأربع، فنقول:

الصورة الاولى والثانية: هما ما لو دلّ الأصل على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية أو الحكمية، وشككنا في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا ثبتت طهارة الثوب بأصالة الصحّة في التطهير، أو باستصحاب طهارة الماء الذي طُهّر به الثوب، مع فرض كون الماء ملاقياً للمتنجّس، وقد شككنا أنّ المتنجّس ينجّس الماء، أو لا، ثمّ شككنا في ملاقاة الثوب للدم وعدمها، وهنا كما لا نقطع ببقاء الطهارة الظاهرية كذلك لا نقطع بارتفاعها؛ لأنّ أصالة الصحّة في التطهير، أو استصحاب طهارة الماء المغسول به هذا الثوب ينقّح لنا موضوع الحكم بالطهارة المستمرّة إلى حين الملاقاة للدم، فعند الشكّ في الملاقاة نكون شاكّين في بقاء الاستمرار وعدمه، فنجري استصحاب الطهارة(1).

الصورة الثالثة: ما لو دلّ الأصل على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، وشكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا ثبتت صحّة الوضوء بقاعدة الفراغ وشكّ في البقاء باعتبار خروج المذي المحتمل ناقضيته، وهنا يجري استصحاب الطهارة الظاهرية باعتبار أنّ قاعدة الفراغ في الوضوء تنقّح موضوعاً يكون حكمه مردّد الأمد، فلا ندري أنّ حكمه هو الطهارة إلى ما قبل خروج المذي، أو إلى ما بعده، أي: إنّنا شككنا في طول تلك الطهارة المجعولة وقصرها، فنستصحبها.

كما يمكن هنا استصحاب الطهارة الواقعية بالتقريب الذي مضى في هذه الصورة في ختام البحث عن استصحاب ما ثبت بالأمارة، فنقول: إنّ الفقيه متيقّن بالوجدان بأنّ من توضّأ


(1) وهذا هو نفس التقريب الذي مضى في بحث استصحاب ما ثبت حدوثه بالأمارة.

315

بكامل الأجزاء والشرائط المعهودة فهو على طهارة واقعية، وهو شاكّ في بقاء هذه الطهارة الواقعية بعد خروج المذي، فيستصحبها، وبذلك يثبت ظاهراً وبالاستصحاب أنّ من توضّأ بكامل الأجزاء والشرائط فهو على طهارة واقعية حتّى بعد خروج المذي، ويبني على موضوع هذا الحكم بقاعدة الفراغ.

وفي بحث استصحاب ما ثبت بالأمارة لم يكن بالإمكان في الصورة الثالثة استصحاب الطهارة الظاهرية، بخلافه هنا. والفرق بين الموردين هو: أنّنا هنا قد نقّحنا الموضوع بالأصل. والأصل المثبت للموضوع ليس مؤدّاه إلاّ التعبّد بآثار الموضوع، في حين أنّه في ما مضى كنّا ننقّح الموضوع بالأمارة، ومؤدّى الأمارة هو الواقع(1).

الصورة الرابعة: ما لو دلّ الأصل على الحدوث في مورد الشبهة الحكمية، وشككنا في البقاء بنحو الشبهة الحكمية أيضاً، كما إذا ثبتت طهارة الثوب باستصحاب طهارة الماء الذي طُهّر به الثوب عند ما كان الماء ملاقياً للمتنجس، ثمّ شكّ في بقاء طهارة الثوب لملاقاته للمتنجّس أو للكافر مثلاً، وهنا ـ أيضاً ـ يجري استصحاب الطهارة الظاهرية باعتبار أنّ أصالة الطهارة في الماء نقّحت موضوع الحكم بطهارة الثوب المردّد بين كونه حكماً قصير الأمد ينتهي بملاقاة الثوب للمتنجس أو الكافر، أو طويل الأمد، أي: إنّه يبقى بعد الملاقاة، فنثبت البقاء بالاستصحاب(2).

فتحصّل: أنّ عدم القطع بانقطاع الحكم الظاهري يتصوّر في كلّ الصور الأربعة.

إلاّ أنّه قد يتّفق أنّنا نقطع بانقطاع الحكم الظاهري، فلا يجري استصحابه، مثاله: أنّ الماء البالغ مرتبة الكرّ لو أنّه نقص بمقدار قليل، وسلكنا مسلك القائلين بجريان استصحاب الكرّيّة من باب دعوى: أنّ نقص الماء بمقدار قليل لا يبدّل الموضوع عرفاً، ثمّ نقص الماء ـ أيضاً ـ بمقدار قليل، وهكذا أخذ يتدرّج في النقصان شيئاً فشيئاً إلى أن زاد النقص بدرجة لا يتسامح العرف فيها، فعندئذ لا يجري استصحاب الكرّيّة الواقعية لتبدّل الموضوع، وهل يجري استصحاب الكرّيّة الظاهرية، أو لا؟ يمكن أن يتخيّل أنّه يجري؛ لأنّ هذا الماء قبل


(1) فلو اُريد استصحاب مؤدّى الأمارة رجعنا مرّةً اُخرى إلى استصحاب الواقع دون استصحاب الحكم الظاهري. ولو اُريد استصحاب حجّيّة الأمارة أو بقاء الحجّة، فالمشكلة ليست هي مشكلة الشكّ في حجّيّة الأمارة أو بقاء الحجّة، وإنّما هي مشكلة قصور مفاد الأمارة يقيناً عن إثبات الطهارة بقاءً، فالحجّة منتهية قطعاً.

(2) وفي بحث استصحاب ما ثبت حدوثه بالأمارة لم يكن يمكن إجراء استصحاب الحكم الظاهري في هذه الصورة. والفرق بين الموردين في هذه الصورة هو نفس ما عرفته من الفرق بين الموردين في الصورة الثالثة.

316

دقائق كان كرّاً ظاهرياً بمقتضى الاستصحاب، ثمّ زاد نقصه بمقدار قليل، وهذا أوجب تبدّل الموضوع بالنسبة لاستصحاب الكرّيّة الواقعية؛ لأنّ النقص أصبح بمقدار فاحش، ولكنّه لم يوجب تبدّل الموضوع بلحاظ ما قبل دقائق؛ لأنّ النقصان بلحاظ ما قبل دقائق قليل، والنقصان القليل بلحاظ ما قبل دقائق لا يوجب تبدّل الموضوع حسب الفرض، فيجري استصحاب الكرّيّة الظاهرية. إلاّ أنّ الصحيح عدم جريان استصحاب الكرّيّة الظاهرية؛ لأنّ الكرّيّة الظاهرية الاستصحابية مقطوعة الارتفاع؛ إذ المفروض عدم جريان استصحاب الكرّيّة الواقعية، فما كانت موجودة قبل دقائق من الكرّيّة المستصحبة غير موجودة الآن قطعاً، فكيف نستصحبها؟!(1).

 

 


(1) نعم، يجري صدفةً في هذا المثال استصحاب روح الحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الظاهري كان ترخيصياً ولم يكن إلزامياً كي يصبح دليل أصالة البراءة حاكماً على استصحاب شدّة الاهتمام.

317

 

 

 

جريان الاستصحاب في الكلّيّات:

 

التنبيه الرابع: في جريان الاستصحاب في الكلّيّات.

وهنا نعقد مقامين، حيث نتحدث أوّلاً: في أصل استصحاب الكلّي، وما قيل أو يمكن أن يقال في مناقشته، ونبحث ثانياً: أقسام استصحاب الكلّي، وأنّه هل يجري فيها جميعاً أو لا يجري إلاّ في بعض تلك الأقسام.

 

أصل جريان استصحاب الكلّي

أمّا المقام الأوّل، فربّما يستشكل في جريان استصحاب الكلّي في الموضوعات، وربّما يناقش في استصحاب كلّي الحكم بإشكال يختلف عن الأوّل. فهنا جهتان:

الجهة الاُولى: في مناقشة استصحاب الكلي بين فردي الموضوع. وحاصلها: أنّ الكلّي والجامع بين الفردين كالجامع بين زيد وعمرو ليس له وجود مستقلّ في الخارج، بل هو مفهوم منتزع من منشأ هو: الفرد، وهو الذي له الحكم، إذن فكيف يراد إجراء الاستصحاب فيه، فإنّه إن اُريد استصحاب المنشأ فأركان الاستصحاب لم تتمّ فيه. وإن اُريد استصحاب المفهوم الانتزاعي فهو ليس بموضوع الحكم، ولا معنى لاستصحابه بما هو مفهوم في الذهن(1).

وللتعليق على هذه المناقشة ينبغي أن يقال: إنّ مقصودكم من استصحاب الكلّي إن كان هو استصحاب المفهوم، بان تصوّرتم أنّ من يجري استصحاب الكلّي يقصد به استصحاب المفهوم، فأشكلتم عليه بهذا الإشكال، فهو أمر صحيح في ذاته، حيث إنّ المفهوم بما هو مفهوم لأ معنى لإجراء الاستصحاب فيه، غير أنّ هذا لم يكن مقصود من أجرى استصحاب الكلّي؛ إذ كان مقصوده إجراء الاستصحاب في أمر له ما بإزاء وحقيقة في الخارج.


(1) وهذا الإشكال لو تمّ لم يختصّ باستصحاب الكلّي في الموضوعات، بل يجري مثله في استصحاب جامع الحكمين أو الأحكام أيضاً، فيقال: إنّ الجامع بينهما ليس عدا أمر انتزاعيّ، وما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال هو واقع الحكم، لا ما انتزع الذهن منه.

318

وإن قصدتم بهذه المناقشة أنّ الكلّي لا وجود له في الخارج كي يمكن إجراء الاستصحاب في حقيقة خارجية تكون هي موضوع الأثر الشرعي، فجوابكم: أنّ الكلّي يوجد له ما بإزاء في الخارج على حدّ الجزئي، فكما يجري الاستصحاب في حقيقة الجزئي كذلك يجري في الكلّي من دون فرق.

توضيح ذلك: أنّ الموجود الخارجي عبارة عن مجموعة حيثيات وخصائص تجمعت والتقت في وجود واحد، وبذلك امتازت عن غيره من الأفراد، حيث تختلف عنها في هذه الخصائص والمشخّصات الكيفيّة، أو الكميّة، أو الأينيّة، أو المتائية، أو أيّ مقولة اُخرى من المقولات، وقد بُني الكيان الذهني للإنسان بنحو بإمكانه أن يتصوّر بعض هذه الحيثيات والخصائص مجرّدة عن الاُخرى، ويستطيع أن يتصوّرها مجتمعة ملتقية مكوّنة لجزئي وفرد معيّن.

وهذا العمل الذي يقوم به الذهن ـ أعني: تصوّر الحيثيّة مجرّدة عن مقارناتها ـ يكون على نحوين، فإنّه تارةً يأخذ قيد التجرّد عن المقارنات قيداً في المتصوَّر، بأن ينصب التصوّر على الكيف المخصوص بما هو معرىً عن الحيثيّات الاُخرى، ومثل هذا المفهوم الذهني ـ لا محالة ـ لا تكون له حقيقة في الخارج؛ إذ كلّ حيثية تتحقّق في الخارج ـ لا محالة ـ تقارن حيثيّات ومشخّصات اُخرى، وتجتمع معها.

وطوراً لا يكون التجرّد من خصائص المتصوّر، بل يكون حقيقة لنفس التصوّر، وذلك بأن تقتصر القوّة المتصوّرة لدى الإنسان على تصوّر حيثيّة معيّنة لا غير، بأن تقف عليها، ولا تتجاوزها إلى سائر ما يكتنف ويتقارن معها، فيكون التجرّد منه حالة لنفس التصوّر، لا للعنوان المتصوَّر. وهذا هو الذي نسمّيه بالكلّي. وقد اتّضح بهذا البيان أنّه مفهوم له ما بإزاء في الخارج، فإنّ مثل هذا التصوّر ـ لا محالة ـ يحكي ويكشف عن الحيثيّة المتصوّرة به على حدّ حكاية مفهوم الجزئي عن مجموع الحيثيات والخصائص مجتمعة، غاية ما هنالك من الفرق: أنّ المفهوم الكلّي باعتبار تجرّده ـ أي: تجرّد نفس التصوّر فيه ـ يكون أوسع من مفهوم الجزئي، بحيث تتساوى نسبة كلّ الأفراد والوجودات الخارجية إليه. وهذا لا يعني عدم وجود ما بإزاء للمفهوم خارجاً كي لا يمكن استصحابه، ويعدّ ذهنيّاً بحتاً، بل له ما بإزاء في الخارج بلحاظ جميع أفراده منسوب إليها نسبة الآباء إلى الأبناء. إذن فكما يجري الاستصحاب في الموضوع الجزئي باعتباره حقيقة خارجية كذلك يجري في الموضوع الكلّي باعتباره حقيقة خارجية أيضاً.

319

وهذا المقدار من البيان كاف لإيضاح النقطة في المقام، وسيأتي شرح أكثر لحقيقة الكلّي.

الجهة الثانية: في مناقشة استصحاب كلّي الحكم، كما لو أردنا استصحاب الجامع بين الوجوب والاستحباب، أو الجامع بين وجوب الجمعة ووجوب الظهر. وهذا النقاش مبنيّ على أصل موضوعي وهو دعوى: أنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل لمؤداه.

حيث يقال عندئذ: إنّ الجامع بين الوجوب والاستحباب لا يمكن جعل مماثله بالاستصحاب؛ إذ كيف يجعل؟ أيجعل هذا الجامع الذي هو جنس لهما من دون فصل، أو يجعل مع فصل الوجوب أو الاستحباب؟

أمّا جعله من دون فصل ففيه محذور استحالة تحقّق الجنس من دون فصل. وأمّا جعله مع أحد الفصلين فهو على خلاف قاعدة الاستصحاب؛ إذ أركانه غير تامّة في الفصل؛ فإنّه لا علم به، فكيف يثبت به؟

ونحو هذا يقال ـ أيضاً ـ في استصحاب الجامع بين الوجوبين: وجوب الظهر ووجوب الجمعة؛ إذ كيف يثبت هذا الجامع والكلّي؟ أيثبت من دون متعلّق، أعني: الظهر أو الجمعة؟ فهذا مستحيل. أو يثبت على الجامع بين المتعلقين، بأن يثبت وجوب الجامع بين الظهر والجمعة؟ وهذا ـ أيضاً ـ باطل؛ إذ معناه ثبوت الوجوب التخييري بين الظهر والجمعة، وهو غير الحالة السابقة التي هي وجوب أحدهما يقيناً.

وواضح أنّ هذا النقاش لا يرد بناءً على غير مبنى جعل الحكم المماثل، فإنّه على مبنى جعل الطريقية مثلاً يقال: إنّ الاستصحاب يحقّق ويثبت للمكلف العلم التعبّدي بالجامع، وهو معقول؛ لأنّ العلم يتعلّق بالجامع بين شيئين، والأمر واضح.

وكذلك على مبنى التنجيز والتعذير، أو إبراز شدّة الاهتمام وعدمها، فإنّها كلّها معقولة في حقّ الجامع، حيث تكون شدّة الاهتمام أو التنجيز بمقدار الجامع لا أكثر.

وهذا الإشكال مخصوص باستصحاب الجامع بين الحكمين، لا الجامع بين موضوعين، فإنّ الحكم المماثل هناك الذي يراد ترتيبه بتنقيح الجامع حكم معيّن شخصي، وليس بجامع بين حكمين أو أكثر، كي يستحيل وجوده.

وقد أجاب عنه المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) في حاشيته على الكفاية(1) بما حاصله: أنّ جعل الحكم المماثل ـ الأصل الموضوعي المأخوذ في هذا الإشكال ـ لا يعني جعل ملاك مماثل


(1) ج 5، ص 139 بحسب طبعة آل البيت.

320

للملاك الواقعي، أو جعل شوق مؤكّد وإرادة مماثلة لإرادة الحكم المستصحب، وإنّما يعني جعل إنشاء واعتبار مماثل لجعل الحكم المستصحب، وبما أنّ الوجوب والاستحباب، أو الحرمة والكراهة من واد واحد في هذه المرحلة، أعني مرحلة الإنشاء، فإنّ كلاًّ منهما طلب في الأوّلين، وزجر ومنع في الأخيرين، فيتّضح بذلك أنّه لا محذور في إجراء استصحاب كلّي الحكم الجامع بين الطلب الاستحبابي والوجوبي، أو الجامع بين الزجر التحريمي والكراهتي، فإنّ معناه على هذا هو جعل وإنشاء طلب مماثل للمستصحب سواء كان وجوباً أو استحباباً، وسواء كان حرمة أو كراهة طالما لا يختلفان من حيث الإنشاء.

وهذا الجواب غير تامّ. وذلك:

أوّلاً: أنّه غير سديد فيما إذا كان الكلّي جامعاً بين حكمين مختلفين بالمتعلق، لا بالصنف، كما لو علمنا بوجوب الجمعة أو الظهر، فإنّه على هذا التقدير ليس بالإمكان دعوى جعل إنشاء وطلب مطلق من دون تشخّص بأحد المتعلّقين، كي يكون مماثلاً للكلّي.

وثانياً: أنّا لو اعترفنا بأنّ الوجوب والاستحباب لا يختلفان في مرحلة الإنشاء، واعترفنا بأنّ الحكم المماثل مماثل جعلاً وإنشاءً لا ملاكاً ومبدءً، لابتلينا بمشكلة أفدح في الاستصحاب، لا في موارد استصحاب الكلّي، بل في مواضع استصحاب الوجوب المعلوم بشخصه، أو الحرمة المعلومة بعينها، فإنّه لا يمكن بالاستصحاب إلاّ إثبات أصل الإنشاء والإيجاب المماثل للمستصحب، ومن الواضح أنّ هذا لا يثبت خصوصية الوجوب ولزوم الموافقة، أو الحرمة والمنع عن المخالفة طالما لا فارق بين الوجوب والاستحباب، والحرمة والكراهة في المرحلة التي تثبت في الأحكام المماثلة، وإنّما يفترقان على أساس اللزومية في الملاك ومبادئ الأحكام، والمفروض أنّها غير مشمولة للحكم المماثل المجعول بالاستصحاب. إذن فجواب الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) لا يمكن المساعدة عليه(1).

 


(1) لا يخفى أنّ الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) يرى أنّنا إذا علمنا بخصوص الوجوب أثبت الاستصحاب حكماً مماثلاً له، وهو الوجوب، والذي هو عبارة عن الحكم المنشأ الذي كان من ورائه مبادئ الإلزام من الملاك والارادة، وأمّا إذا لم يكن المقدار المعلوم إلاّ الجامع بين الوجوب والاستحباب، والذي هو عبارة عن أصل الإنشاء بداعي جعل الداعي، فالاستصحاب لا يثبت خصوصيّة مبادئ الوجوب، لعدم العلم بها، ولكن يثبت أصل الإنشاء بداعي جعل الداعي، وهذا الإنشاء لم يكن تعتبر خصوصيّة تلك المبادئ أو مبادئ الاستحباب فصلاً له حتّى يرد إشكال عدم إمكانية وجود الجنس بلا فصل، وإنّما هي من المقارنات.

ومن هنا قد يتراءى عدم ورود الإشكال الثاني المذكور في المتن عليه، فإنّ إلتزامه بأنّ الاستصحاب لم يثبت

321

وثمّة جواب آخر ربّما يرد على الخاطر، وحاصله:

إنّ استصحاب الكلّي غاية ما يريد إثباته هي التعبّد بوجود الكلّي وتحقّقه بنحو مماثل للمستصحب، والكلّي وإن كان لا يمكن وجوده إلاّ ضمن الشخصي والخصوصيّة الوجوبيّة أو الاستحبابيّة مثلاً، وهذه الخصوصية ـ حسب الفرض ـ لم تتمّ فيها أركان الاستصحاب، غير أنّ هذه الخصوصية لا ينفيها الاستصحاب حتّى يكون مؤدّاه جعل الجامع والكلّي في غير تشخّص، فيكون مستحيلاً، بل الاستصحاب لا يثبت أكثر من الكلّي، فهو ساكت عن المقدار الزائد الذي لابدّ من ثبوته واقعاً حتّى يثبت الكلّي، فيعبّدنا الاستصحاب بوجود هذا الكلّي المماثل للمستصحب ولو كان ضمن إحدى الخصوصيتين من الوجوب والاستحباب.

وهذا الجواب مدخول فيه أيضاً: ذلك أنّه يستلزم الألتزام بأحد أمرين: استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو كون خطاب(لا تنقض اليقين بالشكّ) إخباراً عن الإنشاءآت الثبوتية، لا أنّه هو الإنشاء، والوجه في لزوم أحد هذين: أنّ الجامع الذي يعبّدنا به في موارد استصحاب الجامع لا يمكن إنشاؤه ـ كما عرفت ـ إلاّ في ضمن فرد معيّن الذي لا يقين بحدوثه، وعليه نقول: إنّنا إمّا أن نفترض أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إنشاء للأحكام المماثلة للمتيقّنات الموجودة في موارد الاستصحابات(ولا مانع من إنشاء الأحكام بالتصوّر الإجمالي، وبعنوان مشير كعنوان بقاء المتيقّن مثلاً)، وعندئذ فإمّا أن يقصد بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ بقاء ما كان متيقّناً، وبمقدار التيقّن فقط، فلا يشمل موارد استصحاب الجامع؛


الحكم المماثل إلاّ بمقدار المماثلة في الإنشاء، لا في المبادئ مختصّ بفرض ما إذا لم نشخّص تلك المبادئ، فلم تثبت الحالة السابقة بلحاظها. أمّا إذا شخّصناها، كما في فرض العلم بالوجوب، فهي تثبت بالاستصحاب كما يثبت الإنشاء به.

ولكنّ الواقع: أنّنا إمّا أن نفترض أنّ جعل الحكم المماثل تقصد به المماثلة في هويّة الحكم دون خصوصيّاته التي لا علاقة لها بالفصل، أو تقصد به المماثلة حتّى في خصوصية المبادئ التي فرض أنّها ليست فصلاً للحكم، فعلى الثاني نقع لدى استصحاب الجامع بين الوجوب والاستحباب في مشكلة: أنّ خصوصيّتي المبادئ لا يمكن افتراض وجود جنسهما دون الفصل، وعلى الأوّل نقع لدى استصحاب الوجوب في مشكلة: أنّه لا يتحقّق به الإلزام. أمّا لو ادّعي أنّه لدى العلم بخصوصيّة المبادئ الوجوبية نستصحب تلك المبادئ إلى جانب استصحاب أصل الحكم الإنشائي، فالجواب: أنّ المفروض في باب الاستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً، أو موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ الاستصحاب عبارة عن جعل الحكم المماثل للمستصحب، أو لحكمه، والمفروض لديه(رحمه الله) أنّ تلك المبادئ لا هي حكم شرعي، ولا موضوع لحكم شرعي، وإنما الحكم الشرعي الذي تجب علينا طاعته عبارة عن الأمر الإنشائي الذي يجعل بداعي جعل الداعي.

322

لأنّ الجامع بحدّه الجامعي غير قابل للإنشاء وإثبات الجامع في ضمن الفرد، يعني إنشاء أكثر ممّا كان متيقّناً، أو يقصد به ـ زائداً على ذلك ـ إنشاء ما يكون فرداً للمتيقّن، ومشتملاً على ما يزيد على المتيقّن، وهذا يعني إبراز جعلين، واستعمال اللفظ في معنيين(1).

وإما أن نفترض أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إخبار عن بقاء المتيقّن، ولا بأس بشمول ذلك للفرد المتيقّن وللجامع المتيقن، غاية ما هناك أنّ الجامع المتيقّن لا يمكن أن ينشأ بقاؤه إلاّ ضمن إنشاء بقاء الفرد، فنستكشف من إطلاق الأخبار أنّ الشريعة قد أنشأت مسبقاً تارةً: بقاء المتيقّن، وهو في مورد استصحاب الشخص، واُخرى: بقاء فرد المتيقّن، وهو في مورد استصحاب الجامع.

ومن الواضح أنّ حمل هذا النصّ على الإخبار خلاف الظاهر.

وهناك جواب ثالث على الشبهة، وفي هذا الجواب يفترض أنّنا نجري استصحاب الجامع بخصوصيّته الواقعية، لابحدّه الجامعي حتّى يبتلي بمشكلة عدم إمكان وجود الجامع بحدّه الجامعي، ومن هنا تكون هذه الإجابة تصحيحاً لاستصحاب الفرد في موارد استصحاب الكلّي، فهو يحلّ مشكلة الفقيه، غير أنّ المشكلة الاُصولية ـ وهي جريان الاستصحاب في الكلّي ـ لا تشمله هذه الإجابة.

وحاصل هذه الإجابة: أنّ هنالك مبنيين في تفسير العلم الإجمالي وما يتعلّق به، المبنى الأوّل يرى العلم الإجمالي متعلّقاً بالجامع لا بالواقع. وهذا ما اختارته مدرسة المحقّق النائيني(قدس سره)، وعليه لا يمكن إجراء الاستصحاب؛ لأنّ الخصائص الفرديّة ليست تحت العلم.

والمبنى الثاني يرى العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع بحدّه الواقعي، وإنّما فرقه عن العلم التفصيلي في الصورة والعلم، فالتفصيلي منه صورة واضحة جليّة، بينما العلم الإجمالي بمثابة الصورة المغبرّة التي اعتراها التشويه والغبر.

أمّا من ناحية ما يتعلّقان به فكلاهما ينصبّ وينحطّ على الواقع والخارج دون الكلّي.

وهذا ما اختاره المحقّق العراقي(رحمه الله). وعليه يكون الاستصحاب جارياً في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أو الاستحباب، والظهر أو الجمعة ونحوهما من موارد استصحاب الكلّي، إذ العلم واليقين قد انصبّ على أحد الواقعين، فيكون استصحابه مثبتاً للحكم المماثل لذلك


(1) مضافاً إلى أنّ المعنى الثاني بعيد عن العبارة؛ لأنّ العبارة جاءت بلسان اليقين والشكّ، وخصوصيّة الفرد لم تكن متيقّنة.

323

الواقع، وليس فيه محذور.

وهذه الإجابة باطلة ـ أيضاً ـ وذلك:

أوّلاً: لعدم صحّة المبنى، فإنّا قد شرحنا مفصّلاً في موضعه أنّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالواقع.

وثانياً: أنّ العلم الإجمالي في بعض الموارد لا تعيّن واقعي لمتعلّقه، كما لو علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة، واحتملنا وجوبهما معاً وكان في عالم الواقع كلاهما واجبين، فإنّ نسبة كلٍّ من الوجوبين بشخصه إلى العلم الإجمالي على حدّ واحد فإذا لم يمكن تعيّن شخصيّ لمتعلّق العلم واقعاً، فأيّ حكم مماثل يشرّع بالاستصحاب، أيجعل حكمان مماثلان لهما معاً؟ فهذا أكثر من مقدار اليقين. أو يجعل حكم واحد؟ فأيّهما الذي يستحقّ جعلاً مماثلاً؟ بعد أن كانت نسبتهما إلى العلم نسبة واحدة.

نعم، ثمّة دعوىً اُخرى غير ما ذكر في هذه الأجوبة الثلاثة بالإمكان تخريج استصحاب الكلّي عليها، وهي: أنْ يلتزم بأنّ موضوع الاستصحاب هو ذات الحدوث، لا اليقين به، وإنّما اليقين مجرّد عنوان مشير يثبت به الحدوث، فالاستصحاب يعني التعبّد ببقاء الحادث أوّلاً من دون تدخّل لعنوان اليقين فيه سعةً أو ضيقاً. وعليه فيكون الحكم المماثل المجعول مطابقاً للحدوث على واقعه المشخّص، لا العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع العاري عن الشخص.

فأتّضح بهذا التفصيل: أنّ مشكلة جعل الجامع العاري عن الشخص في موارد استصحاب كلّي الأحكام لايمكن حلّها إلاّ بالهروب عن أحد الأصلين الموضوعيين أو كليهما، وهما البناء على جعل الحكم المماثل في مدلول الاستصحاب، وأنّ اليقين بالحدوث عنوان مأخوذ في موضوعه بحيث يتقيّد ويتقدّر بقدره.

 

أقسام استصحاب الكلّي:

المقام الثاني: في أقسام استصحاب الكلّي.

نورد أقسام استصحاب الكلّي بالنحو التالي، فإنّه هو التقسيم الفنّي بلحاظ ما يرتبط بكلّ قسم من بحث.

إنّ الشكّ في بقاء الكلّى تارةً يكون من جهة الشكّ في حدوث الفرد، واُخرى لا يكون من جهة الشكّ في حدوث الفرد. وعلى كلّ من التقديرين قد يكون الفرد الحادث مقروناً بالعلم الإجمالي، وقد لا يكون.

324

مثال الأوّل: ما إذا علمنا إجمالاً بدخول أحد شخصين في المسجد: زيد أو عمرو، وشككنا في بقاء الكلّي للعلم بخروج زيد لو كان هو الداخل، حيث يكون هذا الشكّ ناشئاً من الشكّ في حدوث زيد أو عمرو المعلوم إجمالاً دخول أحدهما. وهذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي في اصطلاح رسائل الشيخ(رحمه الله).

ومثال الثاني: ما إذا شكّ في وجود كلّيّ الإنسان مثلاً في المسجد، من باب احتمال دخول عمرو إليه حين خروج زيد المعلوم حاله دخولاً وخروجاً، أو دخوله معه من أوّل الأمر، فيكون الشكّ في بقاء الكلّي ناشئاً من الشكّ البدوي في حدوث الفرد الثاني وهو عمرو. وهذا هو الكلّي من القسم الثالث في اصطلاح رسائل الشيخ(رحمه الله).

ومثال الثالث: ما إذا علمنا إجمالاً بوجود زيد أو عمرو في المسجد ويكون الفرد على كلٍّ من التقديرين محتمل البقاء ومحتمل الارتفاع، فأصبح الكلّي مشكوك البقاء من ناحية الشكّ في بقائه ضمن الفرد، لا من ناحية الشكّ في حدوث أحد الفردين، لكن الفرد في نفسه مقرون بالعلم الإجمالي.

ومثال الرابع: ما إذا شكّ في بقاء كلّي الإنسان في المسجد من ناحية الشكّ في بقاء زيد الذي نعلم بالتفصيل دخوله فيه.

ولنبدأ بتفصيل الحديث في كلٍّ من الأقسام الأربعة.

وقبل الشروع في تفصيل الأقسام ينبغي أن نشير إلى إشكال عامّ في استصحاب الكلّي يبتني على ما ذكرناه في الجهة الاُولى من المقام السابق، حيث قلنا: إنّ الكلّي ـ خلافاً للرجل الهمداني ـ موجود في كلّ فرد بوجوده، وإنّ نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، لا الأبّ الواحد إلى الأبناء، فإنّه قد يقال ـ بناءً على هذا الرأي ـ: إنّه لا يبقى فرق بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلّي، حيث يكون مصبّ الاستصحاب، وما يثبت به هو الوجود الخارجي؛ لأنّ الاستصحاب يعني إبقاء ما كان موجوداً حقيقياً، ولا معنىً لإبقاء المفهوم، والمفروض أنّه في الخارج ليس إلاّ شيء واحد، هو الفرد بلحاظ، والكلّي بلحاظ آخر، بمعنى: أنّ الكلّيّة والجزئيّة من خصائص كيفيّة تلقّي الذهن للموجود الخارجي، لا لنفس الموجود في الخارج. إذن فبماذا يمتاز استصحاب الفرد عن الكلّي؟! نعم، لو تصوّرنا الكلّي بوجود يمتاز خارجاً عن الفرد، كما في تصوّر الرجل الهمداني امتاز الاستصحابان أحدهما عن الآخر، غير أنّ المفروض عدم صحّة هذا المبنى.

وللإجابة على هذا الإشكال يوجد طريقان:

325

أحدهما: ما قد يستفاد أو يستنتج من كلمات بعض الاُصوليين ـ في مواضع غير هذا الموضع ـ، وحاصله: أنّا نستصحب الحصّة، أي: تلك الحصّة من الإنسانية الموجودة في زيد وعمرو مثلاً، والحصّة تختلف عن الفرد، فإنّ الفرد يعني وجود الذات مع الخصائص والأعراض الاُخرى، بينما الحصّة تعني الذات الموجودة مع قطع النظر عن الأعراض والخصوصيّات، فيكون استصحاب الكلّي استصحاباً وتعبّداً ببقاء الذات الموجودة سابقاً، بينما استصحاب الفرد يعني الذات الموجودة مع صفاتها وخصائصها المتصفة بها.

الطريق الثاني: أنّ الاستصحاب الذي هو حكم شرعي وتعبّد ظاهري على حدّ سائر الأحكام والتعبّدات لا يتعلّق بالواقع والوجود الخارجي، بل يستحيل أن يتعلّق به وإنّما يتعلّق بالوجود الذهني والصورة المفهومية، لكنّها ملحوظة بالحمل الأوّلي، أي بما هي تعكس الخارج وتحكي عنه، لا بالحمل الشايع، ومن الواضح أنّ صورة الفرد بالحمل الأوّلي غير صورة الجامع والكلّي، كما ذكرنا في تصوير الكلّيّة والجزئيّة. إذن فمعنى استصحاب الكّليّ التعبّد شرعاً وظاهراً ببقاء الصورة الذهنية الكلّيّة، لكن لا ببقائها بالحمل الشائع وبما هي أمر ذهني، بل بالحمل الأوّلي وبما هي تحكي عن الخارج، بينما استصحاب الفرد يعني التعبّد ببقاء الصورة الجزئيّة بالحمل الأوّلي وبما هي تحكي عن الخارج، ويكون حال الاستصحاب الذي هو منجّز شرعي حال العلم الإجمالي الذي هو منجّز عقلي، فإنّه ـ أيضاً ـ غير متعلّق إلاّ بالجامع، لا بهذه الحصّة خاصّة ولا بتلك، ومع ذلك يكون منجّزاً ومجدياً.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ هنالك تصوّرات ثلاثة لاستصحاب الكلّي:

التصوّر الأوّل: هو الذي يميّز بين استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد بالتمييز بين الكلّي الذي هو موجود خارجي وحداني بنحو السعة، والفرد الذي هو إشعاع ومرتبة وواجهة من واجهات الجزئيّ الخارجي، كما يقوله الرجل الهمداني.

والتصوّر الثاني: يميّز بينهما بأنّ استصحاب الكلّي يعني استصحاب الحصّة الخاصّة، بينما استصحاب الفرد يعني استصحاب الحصّة مع خصوصياتها العرضية المشخّصة.

والتصوّر الثالث: يميز بينهما بأن استصحاب الكلّي يعني الحكم شرعاً ببقاء الواقع بمقدار ما تحكي عنه الصورة الذهنية الكلّية، كالعلم الإجمالي، بينما استصحاب الفرد هو الحكم ببقاء الواقع بالمقدار الذي تحكي عنه الصورة الشخصيّة الجزئيّة، كالعلم التفصيلي.

وعلى أساس الاختلاف بين هذه التصورات تختلف النتائج التطبيقية في كلّ من الصور الأربع التي نريد البحث فيها بالتفصيل، فنقول: