145

 

 

 

 

 

المسألة الثانية: في مدى دخل الانتخاب في الولاية أو عدم دخله:

تارة يفترض وجود دليل على صحّة انتخاب الأُمّة لمن يلي أمرها وفقاً لفقه الإسلام مع فرض الإطلاق في ذاك الدليل لما إذا كان المنتخب غير فقيه، وغاية الأمر هي أن المنتخب لو كان غير فقيه يجب عليه الرجوع إلى فقيه بقدر ما يتّصل الأمر بالفقه، فلو ثبت دليل على شرط الفقاهة كان ذلك تخصيصاً لدليل الانتخاب.

وأُخرى يفترض أنّ أمر الولاية وإن كان منحصراً في الفقهاء ـ إمّا بدليل خاص أو من باب القدر المتيقّن ـ ولكن دليل الانتخاب دلّ على أنّ شخص الوليّ يتحدّد بالانتخاب، وهو وإن لم يكن له إطلاق لانتخاب غير الفقيه ولكن أثره خروج كلّ فقيه آخر غير من انتخب من دائرة الولاية.

 

دليل الانتخاب مع إطلاق المنتخب:

 

أمّا الفرض الأوّل ـ وهو افتراض دليل مطلق على الانتخاب يشمل حتى انتخاب غير الفقيه ـ فهذا هو الظاهر من عبائر أُستاذنا الشهيد (قدس سره) حيث كتب يقول: «فخطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع على أساس أنّ المرجعية امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط...» إلى أن يشرح (قدس سره) اندماج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة

146

في شخص المرجع ما دامت الأُمّة محكومة للطاغوت ومقصيّة عن حقّها في الخلافة العامّة ثم يقول ما نصّه:

«وأما إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام اللّه وعلى أساس الركائز المتقدّمة للاستخلاف الربّاني، وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين:

﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾(1).

﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ ﴾(2).

فإنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أُمورها عن طريق الشورى ما لم يردْ نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية وأنّ كلّ مؤمن وليّ الآخرين، ويريد بالولاية تولّى أُموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية.

وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.

وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها بدون شهيد يضمن عدم انحرافها، ويشرف على سلامة المسيرة، ويحدّد لها معالم


(1) سورة الشورى: الآية 38.

(2) سورة التوبة: الآية 71.

147

الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأُخرى أن يحصر الخطّين معاً في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقاً أي معصوماً»(1).

أقول: الذي يبدو من هذا النصّ أنّه (قدس سره) يؤمن بأنّ قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ دليل على الانتخاب.

وقد يورد على هذا الدليل بدعوى الإجمال في الآية، حيث إنها لو كانت بصدد تشريع الانتخاب فهي لم تبيّن ما هو المقياس لدى الاختلاف، هل المقياس كمّي أو كيفي؟ أي لو فرض أنّ أكثرية السواد العامّ انتخبت شخصاً، ولكن وجوه القوم المحنّكون كان أكثرهم ضمن الأقليّة التي انتخبت شخصاً آخر فأ يّهما هو المتعيّن للولاية في المقام، هل الأوّل للترجيح الكمّي الموجود في ناخبيه، أو الثاني للترجيح الكيفي الموجود في ناخبيه؟ ولو أن الإسلام كان يتّجه إلى الانتخاب لكان عليه أن يوضّح المقياس في نفوذ الانتخاب، هل هو الترجيح الكمّيأو الكيفي؟

فكأنّ أُستاذنا الشهيد (قدس سره) كان بصدد الجواب على هذا الاعتراض، فأراد رفع الإجمال بضمّ آية أُخرى إلى آية الشورى وهي قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ ﴾فحمل (رحمه الله) الولاية في هذه الآية على تولّى الأُمور بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها، وعندئذ فالنصّ ظاهر في سريان الولاية بالمعنى المطلوب في المقام بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، وهذا يعني عدم تأثير للترجيح الكيفي لبعض على بعض في الحساب، فالمرجّح كمّي بحت.


(1) الإسلام يقود الحياة: 160 ـ 161.

148

ولعلّه (رحمه الله) إنّما لم يستدلّ مستقلا على الانتخاب بقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾ بأن يثبت بذلك الولاية الكاملة للأُمّة ـ وهذا لا يكون إلاّ بتأثير الكلّ في الانتخاب ـ بنكتة أنّ الإطلاق الشمولي في المحمول غير جار، فلا يمكن إثبات الولاية الكاملة بالإطلاق في هذه الآية، فلعلّها ولاية بقدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا، فرأى (رحمه الله) أنّ الأنسب هو الاستدلال بمجموع الآيتين بأن يقال: إنّ تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ولاية بعضهم لبعض يناسب افتراض كبرى واسعة فرّع عليها هذا الفرع، وتلك الكبرى الواسعة التي يسهل تصوّرها في المقام هي افتراض أنّ كلّ ولاية تثبت للمؤمنين فهي للكلّ، أي أنّ الكلّ شركاء فيها، فإذا ضممنا ذلك إلى ولاية الشورى المستفادة من قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ ثبت أنّ هذه الولاية للكلّ، وإذن فالعبرة تكون بالأكثرية الكميّة لا محالة.

أقول: إنّ الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾ على المعنى الذي عرفت غير صحيح، وذلك لأنّ كلمة الولاية وردت في اللغة بمعنيين: بمعنى الأولويّة في التصرّف ونفوذ الأمر، وبمعنى النصرة والمؤازرة، وربط هذه الآية بما نحن فيه يتوقّف على حمل الولاية على المعنى الأوّل؛ لأنّ مجرّد النصرة والمؤازرة أجنبية عن المقام، وتفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يناسب المعنى الأوّل كذلك يناسب المعنى الثاني أيضاً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تسديد عن الخطأ نوع تآزر ونصرة، وكأنّ التعبير بالأمر والنهي هو الذي يراه أُستاذنا قرينة على إرادة المعنى الأوّل للولاية؛ لأنّ الأمر والنهي يتفرّعان على المولوية بذلك المعنى، ولكنّ الواقع أنّ

149

هذا ليس قرينة على إرادة المعنى الأوّل، فإنّ الأمر والنهي لا يتوقّفان على فرض الولاية ونفوذ الكلمة بمعنى وجوب طاعته، بل يكفي ـ مناسبةً للاستعلاء والتأمّر ـ أنّ الطرف المقابل إنسان منحرف قد نكب عن الطريق الصحيح، فيستعلي عليه المؤمن ويأمره بالمعروف ويزجره عن المنكر.

إلاّ أنّ الظاهر أنّ مشكلة إجمال آية الشورى وعدم وضوح كون المقياس في ولاية الشورى هو الترجيح الكمّي أو الكيفي في نفسها محلولة بلا حاجة إلى مراجعة آية الولاية، وتأكيدنا على هذا الإشكال في كتاب أساس الحكومة الإسلامية في غير محلّه، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من ولاية الشورى لو تمّت إنما هي ولاية الأكثرية، فإنها هي التي تصلح مقياساً منضبطاً عند العرف، أما الترجيح الكيفي فهو لا ينضبط عادة، فكلّ جهة أو فئة من النّاس قد تدعي الترجيح الكيفي لنفسها، فلا معنى لافتراض ترجيح رأي الأقلية بحجة الترجيح الكيفي، فإنّ في الأكثرية من ينكر الترجيح الكيفي في جانب الأقلية أو يدّعيه لنفسه، فالضابط المعقول لحسم النزاع إنما هو الترجيح الكمّي لا الكيفي.

إلاّ أنّ الشأن في أصل دلالة آية الشورى على ولاية الشورى، وتوضيحذلك:

أن الشورى: تارة يُقصد بها تنفيذ رأي الأكثرية، وهذا ما قد نعبّر عنه بولاية الشورى، وأُخرى يُقصد بها مجرّد الاستضاءة بالأفكار والاستنارة بها من دون افتراض تضمّن الحجية ووجوب طاعة رأي الأكثرية، وقد يقال: أنّ قوله تعالى: ﴿ وأمرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ ﴾ ظاهر في المعنى الأوّل بقرينة أنّ الضمير ظاهر في الرجوع إلى كل المؤمنين، ولا يتصوّر معنىً للاستنارة في أمر ما بأفكار الكلّ،

150

فكأنّ المقصود ـ واللّه العالم ـ هو انتخاب الوليّ الذي هو أمر يمسّ الكلّ والذي لا يكون إلاّ بمعنى تحكيم رأي الأكثريّة.

إلاّ أنّ هذا الاستظهار لو تمّ في نفسه يقابله استظهار آخر، وهو أنّ الآية الشريفة بصدد بيان صفات من ادّخر لهم متاع الحياة الآخرة، قال اللّه تعالى: ﴿ فَمَا أُوتِيتُم مِنْ شَيْء فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾(1)، وهي ظاهرة في صفات تقبل الفعليّة في زمن صدور الآية، وكلّها فعليّة وقتئذ إلاّ العمل بالشورى لو فسّر بمعنى الانتخاب وتحكيم رأي الأكثريّة، فهذا لا يمكن أن يكون فعليّاً وقتئذ؛ لأنّ من ضروريّات الإسلام أنّه لا معنى للانتخاب وتحكيم رأي الأكثريّة في فرض وجود الوليّ المنصوب من قبل اللّه تعالى، قال اللّه عزّ وجل: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُم الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾(2)، وقال عزّ من قائل: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾(3)، فقد تكون هذه قرينة على حمل الآية على إرادة الاستضاءة بأفكار الآخرين بالشكل المعقول من دون إرادة الاستشارة مع الكلّ؛ إذ هذا غير معقول في الاستضاءة بالأفكار، فيصبح وزان الآية وزان آية أُخرى صريحة في هذا المعنى، وهي قوله تعالى:


(1) سورة الشورى: الآية 36 ـ 39.

(2) سورة الأحزاب: الآية 36.

(3) سورة الأحزاب: الآية 6.

151

﴿ فَبِمَا رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾(1) فهذه الآية واضحة في عدم إرادة ولاية الشورى؛ لأنّها نسبت العزم إلى شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) وقال: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ فالمقصود بها مجرّد الاستشارة والاستضاءة بالأفكار ولو بهدف تعويد الأُمّة على ذلك أو بهدف إشراكهم في المسؤوليّة وتحسيسهم بتحمّل العبء(2).

هذا، وهناك وجهان آخران ـ غير دليل الشورى ـ يمكن فرض إطلاقهما لانتخاب غير الفقيه، وهو ما سيأتي من الوجه الثالث والرابع من الوجوه التي سننقلها عن كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» وستأتي مناقشتهما أيضاً.


(1) سورة آل عمران: الآية 159.

(2) إن قلت: إنّ قوله: ﴿ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ يمكن حمله على ولاية الشورى مع افتراض قابليّة هذا الوصف للفعليّة وقتئذ ولو بلحاظ قضايا جزئيّة، كجماعة اشتركوا في سفر أو مال أو في تجارة وما إلى ذلك، فيكون ﴿ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ ولو استحباباً، وخصوص فرد من أفراد ولاية الشورى ـ وهو تعيين ولي الأمر بالشورى ـ تأجّل إلى زمان الغيبة، وهذا لا يضرّ بظهور الآية في أصل قابلية هذا الوصف للفعليّة وقتئذ، وهذا الفرد بالذات غير قابل للحمل على الاستحباب، فإنّ المنتخب للإمرة إمّا أن يكون وليّاً واجب الطاعة أو لا قيمة لأمره، ولا يكون في سلطانه ـ لدى العمد والالتفات ـ إلاّ طاغوتاً، أمّا احتمال الاستحباب في ذلك فغير وارد فقهيّاً.

قلت: لا إشكال فقهيّاً في عدم ولاية الشورى في مثل موارد الاشتراك في أمر، غاية الأمر أنّهم إن أجمعوا جميعاً على رأي ولو على رأي الأخذ بما تصوّبه الأكثريّة سلّمت شركتهم، وإلاّ فسخوها لا محالة، والمصداق المحتمل لولاية الشورى إنّما هي القضايا الراجعة إلى السلطة والحكم وسن القوانين وما إلى ذلك.

152

دليل الانتخاب مع إجمال المنتخب:

 

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو افتراض دليل على الانتخاب ولو لم يكن له إطلاق من ناحية شروط المنتخب، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو انتخاب الفقيه ـ فهو عبارة عن أكثر الوجوه التي جاء ذكرها في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»(1) فإنّها لو تمّت لا ينعقد لها إطلاق بالنسبة لشروط المنتخب، وأقصد بأكثر الوجوه ما عدا ما سيأتي من الوجه الثالث والرابع والخامس، وعلى أية حال فخلاصة تلك الوجوه الواردة في ذاك الكتاب ما يلي:

الوجه الأوّل: حكم العقل، فإنه يحكم من ناحية بوجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامّة الاجتماعية وحرمة الهرج والفتنة وضرورة دفع ذلك، وكلّ هذا لا يتمّ إلاّ عن طريق إقامة دولة صالحة، و ـ من ناحية أُخرى ـ بأنّ إقامة الدولة فيما لو لم يكن نصب معيّن من قبل اللّه سبحانه لو كانت بقهر قاهر على الأُمة لكان ذلك ظلماً قبيحاً، فينحصر الأمر في أن تكون بالانتخاب.

وهذا الوجه غريب، فإنه أوّلا لو فرض حكم العقل بقبح إقامة الدولة عن طريق القهر والغلبة فهذا متحقّق حتى في الانتخاب بالنسبة لمن يخالف انتخاب من انتخبته الأكثريّة، ولا يقبل بمبدأ حكم الأكثريّة عليه، فهذا لا يكون خضوعه للدولة المنتخبة للأكثريّة إلاّ بالقهر والغلبة، وكذا الحال بالنسبة لغير الواجدين لشرائط الاشتراك في الانتخاب في حينه، فإنّ كثيراً منهم سيأتي يوم تتكامل فيه شرائط الاشتراك في الانتخاب، لكنه يبقى مقهوراً تحت رأي أكثرية الواجدين لشرائط الانتخاب الماضي إلى أن يحين زمان انتخاب جديد.


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 493 ـ 529.

153

ودعوى أنّ بناء العقلاء قائم على غضّ النظر عن مثل هذه الأُمور رجوع إلى التمسّك بسيرة العقلاء، وهو غير حكم العقل، وسيأتي الحديث عنها إن شاء اللّه.

أما إذا قيل بأنّ العقل وإن كان يحكم بقبح الحكم بالقهر والغلبة في ذاته على أقليّة لم ترض بمنتخب الأكثرية، ولا بالانتخاب، لكن هذا القبح ينتفي بالتزاحم وبضرورة حفظ المصالح العامّة.

قلنا: إنّ هذا الكلام يأتي حتى في القيام حسبة بإدارة الحكم على الكلّ بالقهر والغلبة مع حفظ المصالح العامّة، وقد يكون هذا القائم بالحكم بالقهر والغلبة أحفظ للمصالح من إنسان انتخبته الأكثرية، وكان حكمه لمن لا يرضى بالانتخاب بالقهر والغلبة، كما قد يتّفق العكس، فليس هذا برهاناً يمكن الاعتماد عليه في المقام.

هذا مضافاً إلى أنّ من اشترك في الانتخاب وانتخب من انتخبته الأكثرية قد يندم على ما فعل، فهنا لا يكون حكم العقل بوجوب بقائه تحت سلطة الدولة المنتخبة، إلاّ بنكتة ضرورة الوفاء بالعقد الذي اشترك فيه سابقاً، وهذا رجوع إلى ما سوف يأتي من الوجه الرابع.

الوجه الثاني: التمسّك بسيرة العقلاء، والمقصود بذلك إن كان دعوى أنّ سيرة العقلاء قائمة على انتخاب الدولة فهو بديهي البطلان، فما أكثر قيام الدولة في ما بين العقلاء بغير الانتخاب؟!

وإن كان المقصود بذلك التمسّك بسيرة العقلاء في القضايا الفردية علىالتوكيل والاستنابة، وكذلك في قضايا مرتبطة بجماعة كلّهم أجمعوا علىتوكيل أحد واستنابته، فهذا كما ترى لا علاقة له بالاستنابة في قضية اجتماعيةمن قبل الأكثرية، ورغم أقليّة لم توافق على هذه الاستنابة، بأن لم ترض بها

154

حتى في طول موافقة الأكثرية، ورغم أشخاص يأتون أو يكتملون في ما بين فترتي الانتخاب.

الوجه الثالث: فحوى قاعدة السلطنة على المال، فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم كما في حديث «عوالي اللآلي» عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إنّ الناس مسلّطون على أموالهم»(1)، وكذلك حديث أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً»(2) وغيرهما من الروايات(3)، فهم مسلّطون على أنفسهم بطريق أولى، أي لا يحقّ لأحد أن يحدّد حرّية الأفرادأو يتصرّف في مقدراتهم بغير إذنهم، ولهم أن ينتخبوا الفرد الأصلح ويولّوهعلى أنفسهم.

أقول: ولا أدري كيف تثبت بالانتخاب سلطنة الأكثرية على أقلية يفترض عدم قبولها بالانتخاب، وعلى الذين يستجد وجودهم أو اكتمالهم بعد الانتخاب؟!

الوجه الرابع: أنّ انتخاب الأُمّة للوالي وتفويض الأُمور إليه وقبول الوالي لها نحو معاقدة ومعاهدة بين الأُمّة وبين الوالي، فتشملها أدلّة الوفاء بالعقد.

ولا أدري كيف يمرّر الحكم بهذا الوجه على أُناس لم يشتركوا في هذا العقد؟! أم يتخيّل أنّ الناس جميعاً يشتركون فيه؟! في حين أنه يوجد فيهم عادة من لا ينتخب هذا الوالي، ولا يوافق على مبدأ انتخاب الأكثرية، ويوجد أيضاً من كان قاصراً ثم يبلغ، أو لم يكن موجوداً ثم يوجد.


(1) البحار 2: 272، الباب 33 من أبواب كتاب العلم، الحديث 7.

(2) وسائل الشيعة 13: 381، الباب 17 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 2.

(3) راجع وسائل الشيعة 13: 381، الباب 17 من أبواب أحكام الوصايا.

155

ولعلّه يقول: إنّ العقد وقع بين الوالي والأُمّة ـ بما هي أُمّة ـ لا بين الوالي والأفراد، وتخلّف بعض أفراد الأُمّة لا يضرّ بصدق وقوع العقد بين الأُمّة بما هي أُمّة والوالي.

والواقع أنّ المسامحة العرفية التي تفترض عدم ضرر خروج هذه الأفراد من الانتخاب بصدق التعاقد مع الأُمّة إنما تعني غضّ النظر عنهم في صدق هذا العنوان، وكأنّ الباقين هم كلّ من انتزع منهم عنوان الأُمّة، ولا تعني اعتبارهم ـ مسامحة ـ جزءاً من أحد طرفي العقد، فحتى لو كانت هذه المسامحة مسامحة في المفهوم لا تصحّح تمرير الحكم على هؤلاء.

أما لو قلنا: إنها مسامحة في المصداق فعدم حجيتها واضح. أضف إلى ذلك ما نقّحناه في بحث العقود(1): من أنّ أدلّة الوفاء بالعقود لا تدلّ على مشروعية متعلّقها، وإنما تدلّ على أنّ العقد إن تعلّق بأمر مشروع فهو ـ من ناحية أنّه عقدٌ ـ يجب الوفاء به، فلو تعاقد شخصان مثلا على أن يكون أحدهما عبداً للآخر، فعدم نفوذ هذا العقد ليس تخصيصاً في إطلاق ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾(2)؛ لأنّ عبوديّة أحدهما للآخر في ذاته أمر غير مشروع، وفي ما نحن فيه من يناقش في الانتخاب يحتمل عدم مشروعية ولاية أحد على الناس عن غير طريق النصب، فلا يمكن نفي هذا الاحتمال بدليل الوفاء بالعقد، وليس نفوذ أمر الوليّ دائماً بمعنى نفوذ إلزامه للمولّى عليه بما كان مباحاً له قبل الإلزام كي يقال: إنّ هذا لا محذور فيه، بل قد يكون بمعنى نفوذ رأيه عليه لإثبات شيء لولا إثباته لما حلّت له


(1) راجع فقه العقود 1: 210.

(2) سورة المائدة: الآية 1.

156

النتيجة التي يلزمها به الوليّ، كما لو حكم بالجهاد والمولّى عليه ـ لو لا حكم الوليّ ـ لم يثبت له أنّ المورد مورد جهاد، فقد يرى حرمة الجهاد على نفسه لولا نفوذ أمر الوليّ عليه من باب عدم إحرازه لموضوع الجهاد.

نعم، بعد تسليم مشروعيّة تولّي أُمور الأُمّة في الجملة ـ ولو على أساس الحسبة مثلا ـ يمكن التمسّك لإثبات تعيين شخص الوليّ بالعقد في خصوص من نتيقّن توفّر الشروط فيه، لكن يبقى عندئذ ما قلناه من أنّ دليل الوفاء بالعقد لا يشمل من لم يشترك في هذا العقد من أفراد الأُمّة.

الوجه الخامس: أدلّة الشورى، وعمدتها الآية الشريفة التي مضى البحث عنها.

الوجه السادس: أنّ هناك تكاليف وجّهت في الشريعة الإسلاميّة إلى المجتمع كمجتمع لا إلى أفراد معيّنين من قبيل قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا ﴾(1)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا... بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾(2) وقوله عزّ من قائل: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾(3) وقوله الكريم: ﴿ وَلْتَكُن مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا


(1) سورة البقرة: الآية 190.

(2) سورة الحجرات: الآية 9.

(3) سورة الأنفال: الآية 60.

(4) سورة آل عمران: الآية 104.

157

أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللهِ ﴾(1) وقوله عزّ وجلّ: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة ﴾(2)، وما إلى ذلك.

ووجه الاستدلال بذلك حسب ما جاء في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»(3): هو أنّ المجتمع مأمور بأُمور لا يمكن تنفيذها عن غير طريقسلطة متمركزة وجهاز حاكم يقوم بها، فيجب عليه إقامة ذاك الجهاز وتفويض الأُمور إليه.

إلاّ أنّ هذا المقدار من الاستدلال واضح البطلان؛ إذ لو كان الاستدلال بذلك بنكتة المقدّميّة فهذا لا يدلّ على أكثر من وجوب التعاون مع الدولة في تنفيذ هذه الأُمور وخلق الدولة لو لم تكن موجودة، أمّا أنّ طريق خلقها هو الانتخاب الحرّ أو غير ذلك ـ كأن يجب عليهم الرضوخ لمن يتقدّم لإدارة الأُمور بالعدل مثلا،أو الخضوع لنظام ملكي وراثي، أو غير ذلك ـ فهذا أجنبيّ عن مثل هذه الآيات. وافتراض ـ أنّ الخضوع لنظام ملكي أو إيجاد دولة عن طريق القهر والغلبةرضوخ للظلم، وهو لا يجوز عقلا ـ رجوع إلى نكتة الوجه الأوّل، وخروجعن واقع هذا الوجه.

وكان بإمكانه أن يطوّر هذا الوجه ويستدلّ بمثل هذه الآيات ببيان آخر،وهو أنّ توجيه الأوامر ـ التي يكون امتثالها على عاتق الدولة ـ إلى المجتمعدليل على أنّ الدولة هي دولة المجتمع وبرضا المجتمع وانتخابه، ومن الطبيعي


(1) سورة المائدة: الآية 38.

(2) سورة النور: الآية 2.

(3) دراسات في ولاية الفقيه 1: 500 ـ 501.

158

أن إحراز رضا كلّ المجتمع غير ممكن، فالمقصود هو إحراز رضا الأكثرية،ولا نعني بالانتخاب إلاّ هذا.

إلاّ أنّ هذا الوجه أيضاً لا يخلو من تأمّل؛ إذ يكفي في صحة توجيه هذه الخطابات إلى المجتمع أنّ الدولة لا تقدر على تحقيق هذه الأُمور بوحدها، أو أنّ وليّ الأمر غير قادر على تحقيقها بوحده، فلابدّ من تعاون المجتمع معها أو معه في الأُمور، أما كيف يتعيّن هذا الوليّ أو تلك الدولة، هل بالانتخاب أو بطريق آخر؟ فهذه الخطابات لا تدلّ على شيء من ذلك.

الوجه السابع: آيات الاستخلاف والاستعمار والوراثة، وناقش في «الدراسات» دلالة آيات الوراثة(1) والاستعمار(2) بما يظهر لك بمراجعة الكتاب المذكور، وناقش أيضاً في دلالة آيات الخلافة بإبداء احتمال أنّ المقصود بها خلافة جيل عن جيل ونسل عن نسل ما عدا قوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً ﴾(3)، فهذه الآية في رأي صاحب «الدراسات» لا تقبل الحمل على خلافة جيل من البشر عن جيل؛ لأنّ آدم (عليه السلام) هو مبدأ البشرية، واحتمال كون المقصود


(1) يقصد بآيات الوراثة قوله تعالى في سورة الأنبياء: الآية 105: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عبادِي الصَّالِحون ﴾، وقوله تعالى في سورة الأعراف: الآية 128: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الاَْرْضَ للهِِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، وقوله تعالى في سورة القصص: الآية 5: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾.

(2) يقصد بآية الاستعمار قوله تعالى في سورة هود: الآية 61: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِن الاَْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... ﴾.

(3) سورة البقرة: الآية 30.

159

الخلافة عن الجنّ والنسناس ـ الذين كانوا قبل آدم (عليه السلام) في الأرض والملائكة شهدوا فسادهم وسفكهم للدماء فقاسوا بهم أولاد آدم ـ بعيد في نظره، وناقش في دلالة هذه الآية بالخصوص: بأن من المحتمل كون المقصود خلافة شخص آدم (عليه السلام) لا خلافة البشرية، فلا تدلّ الآية على حاكمية البشر بالانتخاب، وتخوّف الملائكة ليس قرينة في نظره على كون المقصود خلافة البشرية بنكتة أنه لا مجال للتخوّف من شخص آدم (عليه السلام)، وذلك لاحتمال أنه وإن كان المقصود بالآية الشريفة خلافة شخص آدم (عليه السلام) لكن لعلّ اعتراض الملائكة بقولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾(1) كان من جهة اطّلاعهم على أنّ آدم (عليه السلام) بطبعه يولد له النسل، وسيكون الفساد وسفك الدّماء من نسله، ثم أمر بالتأمّل.

أقول: قد مضى منّا الجواب على شبهة حمل الاستخلاف في تلك الآيات على استخلاف جيل عن جيل، ولهذا وافقنا على دلالة تلك الآيات على وجوب إقامة الحكم، ولكنّا في نفس الوقت لا نوافق على دلالة تلك الآيات على الانتخاب والتصويت وضرورة الأخذ برأي الأكثرية، وتوضيح ذلك:

أنّ فرض دلالة تلك الآيات على الانتخاب والتصويت يجب أن يكون بأحد وجهين:

الأوّل: دعوى أنّ كون البشرية خليفة للّه يعني وجوب الإصلاح والاستعمار وتطبيق العدل على وجه الأرض، وهذا بمجموعه يتوقّف على إيجاد الدولة. إذن يجب على الأُمّة وجوباً مقدّمياً إيجاد الدولة، وإيجاد الأُمّة للدولة يعني الانتخاب.


(1) سورة البقرة: الآية 30.

160

وهذا يرد عليه ما أوردناه على الوجه السادس حينما حاول الاستفادة من مقدّمية إيجاد الدولة وجوب مقدّمة الواجب، وأوضحنا هناك: أنّ مصداق هذه المقدّمية ليس منحصراً في الانتخاب كي تثبت بذلك شرعية الانتخاب، إلاّ أن يضمّ إلى ذلك إبطال باقي الصور ببعض الوجوه الأُخرى، وهذا رجوع إلى روح ذاك الوجه.

والثاني: دعوى أنّ نسبة الخلافة إلى كلّ أفراد البشرية على حدّ سواء؛ لأنها استخلاف لجنس البشرية لا لشخص معيّن أو لجماعة معينين، وإذا كانت نسبة الخلافة إليهم على حدّ سواء فلابدّ من اشتراك الكلّ في الخلافة المستبطنة لمعنى الحكم، واشتراك الكلّ في ذلك لا يمكن إلاّ عن طريق الانتخاب.

وهذا يرد عليه: أنّه ـ بعد وضوح عدم كون المقصود من خلافة البشرية الحكم بمنصب الخلافة خلافةً كاملةً لطبيعي البشر، بحيث تنحلّ إلى خلافة كاملة لكل فرد فرد من البشر من سنخ العامّ الاستغراقي والمطلق الانحلالي مثل قولنا: ( أكرم العالم ) ـ يوجد في ما هو المقصود من نسبة الخلافة إلى البشرية احتمالان:

الاحتمال الأوّل: نسبتها إلى البشرية بمعنى كون كلّ ما للخلافة من معنىً ثابتاً لكل فرد من أفراد البشرية بنحو العامّ المجموعي، فيرجع ذلك مثلا إلى أن لكلّ فرد الحقّ في التدخّل في الحكم عن طريق الانتخاب والتصويت.

والاحتمال الثاني: نسبتها إلى البشرية بمعنى أنّ مجموع ما هو كامن في الخلافة من معنىً ثابت للبشرية ولو باعتبار انحلال وظائف الخلافة على أفراد البشر، فكلّ فرد من أفراد البشر عليه شيء من أعباء خلافة اللّه، وعليه تطبيق أوامر اللّه على وجه الأرض، وعليه عمارة الأرض والحياة، فمنهم من يتصدّى

161

لنصب الحكم كالمعصوم أو من يعيّنه بالخصوص أو بالمواصفات، ومنهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم من يقوم بحاجات معاشية للناس من زرع أو صناعة أو غير ذلك، ومنهم من يقوم بالجهاد، ومنهم من يطبّق سائر الأوامر المتّجهة إليه. ولا مرجّح للاحتمال الأوّل على الثاني.

الوجه الثامن: تجميع مقاطع عديدة من الروايات جامعها الدلالة على موافقة الأئمّة (عليهم السلام) على انتخاب الأُمّة ـ ونغضّ النظر في ذلك عن خصوص مسألة البيعة التي سنبحثها في الوجه العاشر ـ وذلك من قبيل:

1 ـ ما في «نهج البلاغة»: «دعوني والتمسوا غيري... واعلموا أ نّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اُصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»(1). ونحوه في «تأريخ الطبري» و «الكامل» لابن الأثير(2).

2 ـ ما في «تاريخ الطبري» عن محمد بن الحنفية: «كنت مع أبي حين قتل عثمان، فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فقالوا: إنّ هذا الرجلقد قتل، ولابدّ للناس من إمام ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيراً خير منأن أكون أميراً.


(1) نهج البلاغة: 262، الخطبة 91، طبعة الفيض، والصفحة 126، الخطبة 92، ضبط وفهرسة الدكتور صبحي الصالح.

(2) دراسات في ولاية الفقيه 1: 503، نقلا عن تاريخ الطبري 6: 3076، والكامل ( لابن الأثير ) 3: 193.

162

فقالوا: لا ـ واللّه ـ ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين»(1).

3 ـ ما في «الكامل» بعد ما مرّ منه: ولمّا أصبح يوم البيعة وهو يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء عليّ (عليه السلام) فصعد المنبر، وقال: «يا أيّها الناسـ عن ملأ وأُذن ـ إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ـ أميراًعليكم ـ ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح مالكم، وليس لي أن آخذ درهماً دونكم»(2).

4 ـ ما في «نهج البلاغة» من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختارولا للغائب أن يردّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا علىرجل وسمّوه إماماً كان ذلك للّه رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أوبدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين،وولاّه اللّه ما تولّى...»(3) وقد ذكرنا هذا الحديث بلحاظ ذيله، أما صدرهفيرجع إلى أخبار البيعة.


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 504، نقلا عن تاريخ الطبري 6: 3066.

(2) دراسات في ولاية الفقيه: 504 ـ 505 نقلا عن الكامل ( لابن الأثير ) 3: 193 قال: ورواه الطبري أيضاً مقطّعاً 6: 3077 و 3067.

(3) نهج البلاغة: 831، الكتاب 6، طبعة الفيض، والصفحة 366 ـ 367 بحسب ضبط وفهرسة الدكتور صبحي الصالح.

163

5 ـ ما في كتاب الحسن بن علي (عليه السلام) إلى معاوية: «إنّ علياً (عليه السلام) لمّا مضى لسبيله... ولاّني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه النّاس من بيعتي، فإنّك تعلم أني أحقّ بهذا الأمر منك»(1) وقد ذكرنا هذا الحديث بلحاظ صدره.

6 ـ ما في كتاب صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية: «... صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين»(2).

7 ـ ما عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما ولّت أُمّة قطّ رجلا وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(3).

8 ـ ما في «عيون أخبار الرضا (عليه السلام)» بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله): «من جاءكميريد أن يفرّق الجماعة ويغصب الأُمّة أمرها ويتولّى من غير مشورة فاقتلوه»(4)قال في «الدراسات»: إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأُمّة كون اختياره بيدها، ثمّ أمر بالتأمّل.

9 ـ ما عن البخاري وغيره من قول النبي (صلى الله عليه وآله): «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 506، نقلا عن مقاتل الطالبيين: 35.

(2) البحار 44: 65.

(3) دراسات في ولاية الفقيه 1: 304 و 507 نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 118، وكذلك في نفس المجلّد صفحة 304 نقلا عن كتاب غاية المرام ( للبحراني ): 299 عن مجالس الشيخ الطوسي بسنده عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن الحسن بن علي (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

(4) المصدر السابق: 507 نقلا عن عيون أخبار الرضا 2: 62.

164

امرأة(1) ـ أو: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة ـ»(2) قال في «الدراسات»: ودلالته كسابقته.

10 ـ ما في كتاب «سليم» عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال: «والواجب في حكم اللّه وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل... أن لا يعملوا عملا، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلا، ولا يبدؤوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم»(3).

11 ـ ما في كتاب أعاظم الكوفة ـ وفيهم مثل حبيب بن مظاهر ـ إلى الحسين (عليه السلام) وما في جوابه (عليه السلام) إليهم، ففي كتابهم إليه: «أمّا بعد فالحمد للّه الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها».

وفي جوابه (عليه السلام) إليهم: «وإني باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى ـ أو الفضل ـ منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، فإنّي أقدم إليكم وشيكاً»(4)، فأعاظم الكوفة ـ أمثال حبيب ـ عدّوا الإمامة أمر الأُمّة، واعتبروا فيها رضاها، والإمام (عليه السلام) جعل الملاك حسب ما يقوله في «الدراسات» رأي الملأ وذوي الحجى والفضل المستعقب قهراً لرضا الأُمّة ورأيها.


(1) و ( 2 ) المصدر السابق: 508 و 353 نقلا عن صحيح البخاري 3: 90، وسنن النسائي8: 227، وسنن الترمذي 3: 360، ومسند أحمد 5: 38، وتحف العقول: 35.

(3) دراسات في ولاية الفقيه: 508 نقلا عن كتاب سليم بن قيس: 182.

(4) المصدر السابق: 509 نقلا عن الإرشاد للمفيد: 885، والكامل لابن الأثير 4: 20 و 21.

165

12 ـ ما في الدعائم عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «ولاية أهل العدل ـ الذين أمر اللّه بولايتهم وتوليتهم وقبلوها والعمل لهم ـ فرض من اللّه»(1)، وقد فهم صاحب «الدراسات» من كلمة التولية إسباغهم للولاية عليه.

وما إلى ذلك مما يعثر عليها المتتّبع في الروايات.

وهذه عمدة ما جمعها صاحب «الدراسات» من الروايات، لم نترك عدا بعضها ممّا تكون دلالته واضحة الضعف.

ويقول صاحب «الدراسات»: ليس الغرض هو الاستدلال بكلّ واحدواحد من هذه الأخبار المتفرقة، حتى يناقش في سندها أو دلالتها، بل المقصود الاستفادة من خلال مجموع هذه الأخبار الموثوق بصدور بعضها إجمالا،كون انتخاب الأُمّة طريقاً عقلائياً لانعقاد الإمامة والولاية ممضىً من قبلالشارع.

وهناك إشكال قد يورد على الاستدلال بأكثر هذه الروايات تعرّض له هو مع جوابه، وأنا أصوغ الإشكال والجواب بهذه الصياغة:

فالإشكال عبارة عن أنّ أكثر هذه الروايات نقطع بعدم صدورها عن جدّ لو كانت حقّاً صادرة من المعصوم (عليه السلام)؛ لأننا نعلم يقيناً من مذهبنا أنّ الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كانت ولايتهم ثابتة بالنصّ، ولم تكن ولايتهم متوقّفة على الانتخاب، ولم يكن من الجائز العدول عنهم إلى غيرهم بالانتخاب، في حين أنّ هذه الروايات تنظر في أكثرها إلى الوضع المعاش وقتئذ، وليست لمجرّد بيان كبرى كلّية قابلة لاستثناء فترة صدورها من مفادها.


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 509، نقلا عن دعائم الإسلام 2: 527.

166

والجواب: أنّ أصالة الجدّ أو أصالة الجهة وإن كانت ساقطة في الجملة في مورد هذه الروايات، فولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام) مثلا ثابتة بغضّ النظر عن انتخاب الناس إيّاه، ولكن دار الأمر بين سقوط الجدّ نهائياً في المقام وبين ثبوته في أصل الكبرى بأن يكون أصل الانتخاب مصدراً للولاية، وعدم حاجة أميرالمؤمنين (عليه السلام)إلى الانتخاب إنّما هو لوجود مصدر آخر له للولاية وهو النّصب، لا لبطلان هذا المصدر، فحينما يعلّل ولايته (عليه السلام) بانتخاب الناس إيّاه فظهور هذا التعليل في توقّف ولايته على الانتخاب وإن لم يكن جدّياً لكن ظهوره في أصل كون الانتخاب مصدراً للولاية يحمل على الجدّ بأصالة الجدّ.

وبكلمة أُخرى: إنّ ظهور تعليل ولايته بانتخاب الناس في كون الانتخاب مصدراً للولاية هو في عرض ظهوره في توقّف ولايته على الانتخاب وعدم امتلاكه لمصدر آخر للولاية، وليس الثاني دلالة مطابقية والأوّل التزامية بالتبع، من قبيل ما لو فهمنا كبرى ما من نصّ على أساس تطبيق تلك الكبرى في ذاك النّص على مورد وكان التطبيق تقيّة، فهنا لا نستطيع أن نحتفظ بأصالة الجدّ بلحاظ الكبرى؛ لأنّ الكبرى لم تفهم إلاّ بالالتزام من باب كون التطبيق الصغروي مستلزماً للاعتراف بالكبرى، فإذا كان التطبيق غير جدّي لم يمكن إثبات الكبرى بأصالة الجدّ؛ لأنّ الدلالة الالتزامية تتبع المطابقية في الحجّية، أمّا في ما نحن فيه فالدلالتان عرضيتان.

ويمكن المناقشة في هذا الجواب: بأنّ الدلالتين العرضيتين حينما تكونان لجملتين مثلا أمكن إجراء أصالة الجدّ في إحداهما بعد سقوطها في الأُخرى، ولكن حينما تكونان لعبارة واحدة فهذه العبارة بعد أن أُحرز ثبوت داع غير جدّي

167

لها بلحاظ إحدى الدلالتين لا يوجد أصل عقلائي يقول: فليفرض انضمام داع الجد أيضاً إلى الداعي الأوّل بلحاظ الدلالة الأُخرى.

وهناك جواب آخر يمكن ذكره في جملة من هذه الروايات: وهو أنّ الجملة التي نجري أصالة الجدّ فيها نثبت بهذا الأصل تمحّضها في الجد ولم تصدر أصلا بهدف غير جدّي، فعليّ (عليه السلام) حينما يعلّل ولايته بالبيعة يقصد حقّاً كون بيعته سبباً لولايته، ويكون هذا كلاماً جدّياً، أما الذي كان مداراة للناس بغير جدّ فليس هو ذكره لهذا السبب من الولاية، بل هو سكوته عن ذكر السبب الآخر، وهو النصّ الدالّ على ولايته (عليه السلام) بالتنصيب.

هذا، ولنا تعليقان على كلام صاحب «الدراسات» حيث فرض أنّ المناقشة في أسانيد ما جمعها من الروايات أو الضعف في الدلالة لو كانت لا تضرّ بالاستدلال بها على المقصود؛ لأنّ الهدف هو الاستفادة من مجموع هذه الروايات الموثوق بصدور بعضها إجمالا:

التعليق الأوّل: أنّ ضعف السند إن أمكن تداركه عن طريق دعوى التواتر الإجمالي فضعف الدلالة ـ عادة ـ لا يمكن تداركه بفرض الكثرة العددية للروايات، فلو أنّ أحداً لم يقتنع بدلالة كلّ الروايات التي ذكرت في المقام لا يصحّ إقناعه بأنّنا نهدف إلى الاستفادة من مجموع هذه الروايات، فالمجموع من روايات غير دالة على المقصود لا يكون دالا على المقصود غالباً. نعم، قد يتّفق أنّ حساب الاحتمالات يخلق من مجموع الروايات غير الدالّة دلالة على المقصود، ولكنّه نادر، مثاله: ما إذا فرض أنّ عدداً كبيراً من الروايات كانت مجملة، وكان القاسم المشترك من الاحتمالات في ما بينها هو الاحتمال المطابق للمقصود،

168

فافتراض أنّ كلّ تلك الروايات تطابقت في قبولها لهذا الاحتمال لمجردّالصدفة بعيد بحسب حساب الاحتمالات، فقد يحصل الوثوق بأنّ السبب لصياغة كلّ هذه الروايات صياغة محتملة الانطباق على هذا المعنى هو حقّانية هذاالمفاد في ذاته.

أمّا إذا كانت الروايات ضعيفة الدلالة، لا بمعنى إجمال مفادها وكون المعنى المقصود أحد محتملاتها بل بمعنى أنّ مفادها تطابق على لازم أعمّ للمقصود مثلا، أو أنّ مفادها بالدقّة أجنبيّ عن المقام، فهذا البيان لا يأتي فيه غالباً، فمثلا لو ناقشنا في دلالة الرواية الثانية عشرة بدعوى أن معنى: «الذين أمر اللّه بولايتهم» هو النصب من قبل اللّه للولاية، وأنّ معنى قبولها قبولهم لهذا التمكين وتصدّيهم للمنصب المفوّض إليهم من قبل اللّه تعالى، وناقشنا في دلالة كتب أهل الكوفة: بأنّ ابتزاز أمر الأُمّة لا يعني أنّ الولاية أمر تحت اختيار الأُمّة وقد ابتزّها يزيد بل يعني أنّ الولاية أمر لمصلحة الأُمّة ولأجلها وقد ابتزّها يزيد، وناقشنا في دلالة جواب الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّ تعليق قدومه (عليه السلام) إليهم على اجتماع رأي ملئهم وذوي الحجى والفضل منهم على ذلك كان لأجل إحراز تقبّلهم العملي للقضية المتوقّف عليه نجاحه (عليه السلام) في تصدّيه، لا لأجل كون تقبّلهم ورضاهم هو الذي يعطيه الولاية الشرعية، وكيف لا؟! ونحن نقطع في مذهبنا بأنّه حتى لو كان الانتخاب مصدراً آخر للولاية يغنيه من الناحية الشرعية عن مصدرية الانتخاب، وهو النصب من قبل اللّه، وما إلى ذلك من المناقشات، ففي الأعمّ الأغلب سوف لن تكون الحصيلة من المجموع تمامية الدلالة سنخ ما يكون حصيلة أسانيد كثيرة ضعيفة من تمامية السند بلحاظ الاستفاضة أو التواتر.

169

التعليق الثاني: أنّ جميع الروايات التي جمعها صاحب الدراسات في المقام أو غالبيّتها ضعيفة سنداً، وقد حاول علاج ذلك عن طريق دعوى التواتر الإجمالي.

ولكن الواقع أنّ العدد الكافي في حصول التواتر المفيد للعلم في الحالات الاعتياديّة على أساس استبعاد التوافق في الكذب صدفةً لا يكفي في ما إذا كانت هناك نكتة مشتركة احتملنا خلقها لداعي الكذب المشترك في نفوس أكثريّة الناقلين، فخرج فرض التوافق في الكذب عن كونه مجرّد صدفة مستبعدة، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ طواغيت الزمان الذين كانوا يدّعون الخلافة على أساس بيعة الأُمّة لهم بإمكانهم أن يستفيدوا من هذه الروايات الدالّة على مصدريّة الأُمّة للولاية، فيتطرّق احتمال تعمّد الكذب في أكثر هذه الروايات وكونها مخلوقة لوعّاظ السلاطين.

الوجه التاسع: فحوى ما أفتوا به من الاختيار والانتخاب فيما إذا تعدّد المفتي أو القاضي أو إمام الجماعة، وجواز انتخاب قاضي التحكيم من قبل المترافعين.

ولعلّ هذا أضعف الوجوه التي ذكرها في «الدراسات» في المقام.

وقد ناقشه هو بقوله: «اللهم إلاّ أن يقال: إن الانتخاب هنا بعد تحقّق النصب العامّ وتحقّق المشروعية به»، ولعلّ مقصوده بذلك: أن الانتخاب في هذه الموارد لم يكن هو المصدر للمنصب المفروض؛ لأنّ الحجّية التخييرية ثابتة قبل الانتخاب للفتاوى المتعدّدة ولآراء القضاة المتعدّدين فللمكلّف أن يختار ما شاء منها(1)،في حين أن المدّعى في ما نحن فيه: أنّ الانتخاب هو مصدر الولاية.


(1) لا يخفى أن قاضي التحكيم على القول به ليس من هذا القبيل، فلم يفرض له منصب القضاء في الرتبة السابقة على التحكيم.