27

وأمّا الفقيه غير المنتخب فمقتضى إطلاق الدليل اللفظي على ولاية الفقيه أنّ له حقّ الولاية أيضاً شريطة أن لا يتدخّل في دائرة أوامر الولي المنتخب، بمعنى أنّ ولاية الأمر العامّة تختصّ بالفقيه المنتخب، ولكنّه لا ينافي تدخل فقيه آخر في دائرة جزئيّة لم يتصدّ لها الوليّ العام.

* * *

وأمّا المسألة الثالثة التي عني بها المؤلّف في هذا الكتاب فهي راجعة إلى شورى القيادة، فهل يجب أن تكون القيادة دائماً فرديّة بحيث يكون القرار النهائي ـ بعد الاستشارة فيما يتطلّب الاستشارة من ذوي الخبرات ـ بيد فقيه واحد؟ أو بالإمكان تشكيل شورى مؤتلفة من عدد من الفقهاء تكون القيادة لها بما هي شورى، بحيث يكون القرار النهائي النافذ شرعاً للأكثرية من أعضاء هذه الشورى؟

وقد أعرب المؤلف دام ظلّه عن عدم إمكان إبطال فكرة شورى القيادة بالأدلة التي تنفي إمكان تعدّد الإمام الناطق في زمان واحد، فإنّ هذه الأدلّة لو استفدنا منها نفي التعدّد حتى بالمعنى المطلوب في شورى القيادة فهي واردة في الإمام المعصوم الذي لا يحتاج بذاته إلى مشورة ولا يمكن التعدّي منه إلى الإمام غير المعصوم، لكنّه دام ظلّه أكّد بعد ذلك على أنّ أدلّة ولاية الفقيه قاصرة عن إثبات حق الولاية شرعاً لعنوان الشورى بالمعنى الذي ذكرناه، نعم قد يتواطأ جملة من الفقهاء فيما بينهم على أنّ من يصدر الحكم منهم في كل مسألة من المسائل يكون هو واحداً ممّن يطابق رأيه الأكثرية في تلك المسألة، بحيث يرجع الأمر في واقعه إلى ولاية الشخص لا إلى ولاية الشورى بعنوان كونها شورى وإن كان المظهر

28

الاجتماعي له يشبه قيادة الشورى، كما قد يقع انتخاب الأُمّة ـ في فرض التشاح الذي يُلجأ فيه إلى الانتخاب ـ على رأي الأكثرية من بين هؤلاء المتشاحّين فيكون حقّ الولاية في كلّ مسألة لمن يطابق رأيه الأكثرية في تلك المسألة، وتكون ولاية الآخرين ساقطة بدليل الانتخاب.

* * *

وأما ما تطرّق إليه المؤلّف في المسألة الرابعة فهو أيضاً من أهمّ القضايا المطروحة في الساحة حول ولاية الفقيه، وهو أنّ ولي الأمر الذي يمارس قيادة الأُمّة في عصر الغيبة هل يجب أن يكون هو مرجع التقليد، أو يمكن أن تكون المرجعيّة لفقيه والولاية العامّة لفقيه آخر؟

فما يبدو للباحث ـ بالنظر إلى شرائط المرجعيّة وشرائط الولاية ومقاييس الترجيح في كل منهما ـ هو جواز الفصل بين المرجعية والقيادة، وذلك لأنّ المرجعيّة في التقليد مشروطة بالأعلمية في حين أنّ الولاية العامّة مشروطة بالكفاءة السياسية والاجتماعية، كما أن مقياس الترجيح في باب التقليد هو واقع الأعلمية في حين أنّ مقياس الترجيح في باب الولاية العامة والقيادة لا يمكن أن يكون هو واقع الأكفئيّة، إذ لو اختلف الناس في تشخيص الأكفأ لزم تعدّد القيادة وهذا يؤدّي إلى تمزّق الساحة والاختلال في النظم، بخلاف تعدّد المرجعية في باب التقليد؛ لأنّ التقليد أمر فردي يمكن تعدّد المرجعية فيه من دون أيّ تمزّق في الساحة، ولهذا التجأنا إلى الانتخاب في باب القيادة عند فرض التشاح ـ ببيان مضت الإشارة إليه ـ فيكون مقياس الترجيح في باب الولاية عند بلوغ مستوى القيادة العامّة هو انتخاب الأكثريّة.

29

وعليه فلو اختلفت الأعلميّة عن الكفاءة فكانت الأُولى في شخص والثانية في شخص آخر، أو اختلفت الأعلميّة عن انتخاب الأكثريّة في فرض التشاح فكانت الأعلمية في شخص وكان الانتخاب لشخص آخر فمن الطبيعي حينئذ الفصل بين المرجعية والقيادة.

لكن هناك بعض الوجوه لدعوى ضرورة التوحيد بين المرجعية والقيادة تعرّض لها السيّد المؤلّف دام ظلّه مع ما له من ملاحظات علمية حولها، ولعلّ أهمّها ما يخطر ببال كثير من الناس من أنّه لو تعدّدت المرجعية والقيادة فحينئذ ماذا ستصنع الأُمّة عند اختلاف رأي المرجعيّة والقيادة، خصوصاً لو أخذنا بعين الاعتبار أنّ الأحكام الولائيّة التي يصدرها القائد بوصفه ولياً للأمر ليست دائماً منفصلةً تمام الانفصال عن المباني الفقهيّة التي تخضع لاختلاف نظر الفقهاء؟ فلأجل علاج هذه المشكلة لابدّ من الالتزام بالتوحيد بين المرجعيّة والقيادة.

وقد أعرب السيّد المؤلف بصدد الجواب عن هذه الشبهة عن أنّ الاختلاف في الرأي بين المرجعية والقيادة لا يؤدّي إلى ضرورة التوحيد بينهما؛ إذ أنّ لكل منهما مساحة خاصّة ولا يقع التصادم بينهما في شيء، وذلك لأنّ التصادم المتوقع بينهما ليس بين فتاوى المرجع وبين الجذور المبنائية والفتوائية لأحكام الولي ما لم يصدّر الولي أحكاماً ولائيةً بالفعل على خلاف فتوى المرجع، فإنّ الأُمّة لابدّ لها أن تبقى على تقليدها للمرجع مهما كان على خلاف الفتاوى الفقهيّة للقائد إلى حين صدور حكم ولائي من قبل القائد على خلاف فتوى المرجع، وحينئذ تارة تكون فتوى المرجع ترخيصيّةً وحكم القائد إلزامياً، وأُخرى يكون العكس، وثالثة يكون كلّ منهما إلزامياً لكنّ أحدهما إلزام بالفعل مثلا والآخر إلزام بالترك.

30

فإن كانت فتوى المرجع ترخيصيّةً وحكم القائد إلزاميّاً تعيّن الالتزام بحكم الولي، لأنّ فتوى المرجع حينئذ لا تمنع عن العمل بحكم الولي؛ لأنّها مجرّد ترخيص وليست إلزاماً على خلاف ما يلزم به حكم الحاكم، فلو التزم بحكم الولي لم يكن مخالفاً لرأي واحد منهما.

وإن كان على عكس ذلك، أي كانت فتوى المجتهد إلزاميةً وحكم الحاكم ترخيصياً، فإن كان كذلك حقاً ولم يكن في واقعه راجعاً إلى الفرض السابق ـ كما في الحالة التي جاء توضيحها في الكتاب ـ تعيّن أن يكون مقصود الولي بحكمه الترخيصي وجود المصلحة الإلزامية في الترخيص دون مجرّد الترخيص الساذج الذي لا ينافي الالتزام بفتوى من يفتي بالوجوب ولا الالتزام بفتوى من يفتي بالحرمة، فإنّه لو كان كذلك لما كان له داع في إصدار الحكم الولائي بالترخيص أصلا بل كان يدع الناس على حالهم فكلّ يلتزم بما يريد، إذاً فالترخيص في الفرض المذكور راجع بروحه إلى المنع عن الإلزام لوجود مصلحة إلزاميّة تدعو إلى الترخيص، فيكون حال هذا الفرض كحال الفرض الثالث وهو ما إذا كانت فتوى المرجع إلزاميّة وحكم القائد أيضاً إلزاميّاً وهما متنافيان، كما إذا أفتى الأول بالوجوب وحكم الثاني بالحرمة أو العكس.

وفي هذا الفرض الثالث ـ وكذلك الفرض المذكور الذي يرجع بروحه إلى الفرض الثالث ـ سيقع التنافي بين المصلحة الإلزاميّة التي تعبّر عنها فتوى المرجع والمصلحة الإلزاميّة التي يعبّر عنها حكم القائد، وحينئذ إن كان حكم القائد على طبق هذه المصلحة الإلزاميّة من باب اعتقاده بأنّها مصلحة ثانوية تتغلّب على المصالح الأوليّة حتى على فرض كون المصلحة الأوّلية على طبق ما أفتى به

31

المرجع ـ سواء كانت هذه المصلحة الثانويّة ناشئةً من ظروف اجتماعيّة معيّنة أو من ضرورة اتحاد الكلمة مثلا ـ لزم على الأُمّة رفع اليد عن فتوى المرجع في تلك المسألة والالتزام بحكم ولي الأمر. وأمّا إن كان الحكم الولائي الصادر من القائد من باب عدم اعتقاده بفتوى المرجع الذي يفتي بمصلحة إلزاميّة معاكسة، بحيث لو كان يعتقد بتلك الفتوى لما كان يصدر هذا الحكم الولائي ـ كما أنّه بعد صدور هذا الحكم الولائي أيضاً لا يرى مصلحة اتحاد الكلمة ضروريّة بدرجة تتغلّب على المصالح الأوّليّة حتى وإن كانت على طبق فتوى المرجع ـ فحينئذ سيبقى مقلّدو هذا المرجع على التزامهم بفتواه ولا ينفذ حكم القائد إلاّ في حقّ مقلّديه أو مقلّدي من لا يرى ـ بحسب فتواه ـ وجود مصلحة أوليّة إلزاميّة معاكسة لحكم القائد، وإن كان في هذا الفرض الأخير أيضاً قد يقال بنفوذ حكم القائد على الجميع بناءً على بعض أدلّة ولاية الفقيه كما جاء توضيحه في الكتاب.

وأخيراً لا يبقى اصطدام أصلا بين فتاوى مرجع التقليد والأحكام الولائيّة الصادرة من القائد بل يكون لكل منهما مساحة خاصّة به، فلا ضرورة إذاً للتوحيد بين المرجعيّة والقيادة من هذه الناحية، وإن كان التوحيد بينهما مهما أمكن أولى وأصلح كما هو واضح.

* * *

وأمّا المسألة الخامسة التي عرج إليها المؤلف ـ دام ظلّه ـ في الكتاب فلعلّها لا تقلّ أهميّةً من بعض المسائل السابقة، وهي عبارة عن نفوذ حكم الولي القائد على سائر الفقهاء، إذ قد يبدو للنظر أنّ دليل الولاية لمّا كانت نسبته إلى كلّ الفقهاء الأكفّاء الجامعين للشرائط على حدّ سواء فهو غير ناظر إلى نسبة الفقهاء بعضهم إلى

32

بعض بل إنّما يجعل الولاية للفقهاء على غيرهم، فلا دلالة فيه على نفوذ حكم أحدهم على الآخرين الذين هم في عرضه.

ولم يكتف السيّد المؤلّف في الجواب على هذه الشبهة بضرورة حرمة شقّ العصا وتشتيت أُمور المسلمين وإن كان من قبل بعض الفقهاء الذين هم في عرض الولي القائد في أصل صلاحيّة القيادة، فإنّ هذه الضرورة وإن كانت صحيحةً لكنّها تختصّ بصورة كون مخالفة بعض الفقهاء لحكم الفقيه المتصدّي للقيادة مؤدّية لشقّ العصا وتشتيت أُمور المسلمين، أمّا في غير هذه الصورة فلا توجد ضرورة فقهيّة على حرمة مخالفة بعض الفقهاء لحكم الفقيه المتصدّي للقيادة.

بل إنّه بحث المسألة من جذورها ببيان جاء تفصيله في الكتاب، والنقطة المهمّة من البيان المذكور هي أنّ دليل ولاية الفقيه ليس مفاده جعل الفقيه وليّاً على الأفراد بما هم أفراد فحسب حتّى يقال بأنّه ناظر إلى أفراد المجتمع غير الفقهاء وليس ناظراً إلى نسبة الفقهاء بعضهم إلى بعض، بل إنّ مفاده جعل الفقيه وليّاً على المجتمع بما هو مجتمع، فإنّ المجتمع بما هو مجتمع يكون بحاجة إلى القيادة وإلى نظم الأُمور، ولولا القيادة كان المجتمع بصفته الجماعيّة قاصراً عن حفظ النظام وتحقيق كثير من المصالح العامّة والخاصة فجاءت ولاية الفقيه لسدّ هذا الفراغ ورفع هذا القصور، ومن الواضح أنّ هذا القصور الذي يتّصف به المجتمع بما هو مجتمع نسبته إلى الناس ـ بما فيهم الفقهاء وغير الفقهاء ـ على حدّ سواء، وهذا يعني أنّ الفقيه الذي يتصدّى للقيادة ستنفذ قيادته على المجتمع بما فيه من فقهاء بوصفهم جزءاً من المجتمع.

* * *

33

وأمّا المسألة السادسة وهي آخر مسألة بحثها المؤلف في هذا الكتاب فقد عرض فيها حالة العلم بخطأ الوليّ في حكمه، وهي الحالة التي يتردّد ذكرها كثيراً في بعض الألسن، حيث يدّعون العلم بخطأ الولي أحياناً في بعض أحكامه زاعمين أنّ هذا العلم يبرّر لهم الانسحاب عن تنفيذ ذلك الحكم، فهل يصحّ مثل هذا التبرير؟

وقد أجاب السيّد المؤلّف ـ حفظه اللّه ـ عن هذا السؤال بالتفصيل بين نوعين من الأحكام التي تصدر من ولي الأمر:

النوع الأول: هو الحكم الذي لا يقصد به الحاكم عدا تنجيز حقيقة ثابتة لديه مسبقاً كي يعمل به من يشك في تلك الحقيقة، وقد سمّى ذلك بالحكم الكاشف.

والنوع الآخر: هو الحكم الذي يقصد به الحاكم إنشاء تكليف واقعيّ جديد على المجتمع لا مجرّد تنجيز الواقع الثابت لديه مسبقاً، وقد سمّى ذلك بالحكم الولائي.

ويمكن أن نعبّر عن النوع الأوّل ـ وفقاً لمصطلحات علم الأُصول ـ بالحكم الظاهري، ونعبّر عن النوع الثاني بالحكم الواقعي، إذ كما أنّ الشارع تبارك وتعالى قد يصدر منه حكم واقعي وقد يصدر منه حكم ظاهري كذلك وليّ الأمر فقد يصدر منه حكم واقعي وقد يصدر منه حكم ظاهري، ومن الواضح لدى من له إلمام بالأبحاث الأُصوليّة أنّ الحكم الواقعي لا يؤخذ في موضوعه الشك ولكن الحكم الظاهري يؤخذ في موضوعه الشك؛ لأنّه لا يهدف إلاّ إلى تنجيز الواقع عند الشكّ فيه، ولهذا متى ما كان الحكم الصادر من ولي الأمر حكماً كاشفاً ـ أي حكماً ظاهرياً أُخذ في موضوعه الشك ـ أمكن التنصّل عنه في حالة العلم بالخطأ، إذ لم يكن الهدف منه سوى تنجيز الواقع عند الشك فيه فلا يشمل حال العلم بالواقع والقطع بخطأ الولي في تشخيصه. ومتى ما كان الحكم الصادر من ولي الأمر حكماً

34

ولائياً ـ أي حكماً واقعياً لم يؤخذ في موضوعه الشك ـ لم يمكن التنصّل عنه، إذ ليس هو حينئذ حكماً ظاهرياً حتى يمكن افتراض الخطأ فيه ـ أي افتراض عدم مطابقته للواقع ـ بل هو حكم واقعي صدر بإنشاء ولي الأمر ولا معنى للاعتقاد بخطئه بمعنى عدم مطابقته للواقع؛ لأنّه هو الواقع حسب الفرض. نعم سيكون العلم بالخطأ حينئذ بمعنى الاعتقاد بأنّ الولي قد أخطأ في تشخيص المصالح والملاكات التي دعته إلى إنشاء هذا الحكم الواقعي، ومن الواضح أنّ تشخيص الولي للمصالح والملاكات مقدّم على تشخيص المولّى عليه، ولهذا ذهب السيد المؤلّف إلى التفصيل بين الحكم الكاشف والحكم الولائي، ففي الحكم الكاشف حكم بعدم وجوب اتباعه في حالة العلم بالخطأ، وأمّا في الحكم الولائي فقد حكم بوجوب اتباعه حتى في حالة العلم بالخطأ، ومثّل للأول بمثل الحكم بثبوت الهلال ووجوب الصوم، ومثّل للثاني بمثل الحكم بتحديد الأسعار وبمثل الحكم بالجهاد.

ثمّ تطرّق السيّد المؤلّف إلى بعض التفاصيل والتفريعات في هذه المسألة ومن جملتها ما ذهب إليه في حكم القاضي في باب المرافعات من أنّه من قبيل الحكم الكاشف لا من قبيل الحكم الولائي، لكنّه بالرغم من ذلك لا يجوز للمحكوم عليه أن ينقض حكم القاضي في حالة علمه بالخطأ؛ وذلك لأنّ المستفاد من أدلة نفوذ حكم القاضي هو أنّ حكمه لابدّ وأن يكون حاسماً للنزاع، ولو جاز للمحكوم عليه أن ينقض حكم القاضي في فرض اعتقاده بخطئه لما كان حكم القاضي حاسماً للنزاع.

هذا عرض مختصر لما جاء في هذا الكتاب قصدنا به تعميم الفائدة، وستجد التفاصيل في متن الكتاب. والحمد للّه ربّ العالمين.

شوّال المكرّم / 1413 هـ. ق

علي أكبر الحائري

35

 

 

 

ولاية الأمر في عصر الغيبة

 

 

* المقدمة:

* شبهات حول إقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة.

* الفقيه رئيس الدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة.

* مدى دخل الانتخاب في الولاية.

* شورى القيادة.

* المرجعيّة والولاية.

* نفوذ حكم الولي على سائر الفقهاء.

* حالة العلم بخطأ الولي.

 

 

37

 

المقدمة:

 

 

 

شبهات حول

إقامة الحكم الإسلامي في عصر الغيبة

 

 

* شبهة عدم إمكان الانتصار.

* تساوي الأُمم في الطاقات الأوّليّة.

* إطلاق الأدلّة في أجواء المدرسة الإسلاميّة.

* شواهد ضدّ إطلاق الأدلّة.

* المسائل المبحوثة في هذا الكتاب.

 

 

 

 

39

 

 

 

 

 

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سادة الخلق محمّد وآله أجمعين.

ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري ونوّر قلبي وفكري واجعل عملي هذا خالصاً لوجهك الكريم، وارزقني مرافقة سادتي الذين أتولاّهم محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام في يوم القيامة وفي الجنة، وأرني وجه سيّدي ومولاي الإمام صاحب الزمان في هذه الدنيا، واجعلني من أنصاره وأعوانه ومن المستشهدين بين يديه، إنّك سميع مجيب.

وبعد، فهذا بحث مختصر حول ولاية الأمر في زمن الغيبة يشتمل على مقدّمة وعدّة مسائل.

أما المقدّمة ففي ردّ شبهات القائلين بأنّ إقامة الحكم الإسلامي يجب أن تتأجّل لزمان ظهور الحجّة عجل اللّه تعالى فرجه.

فقد يقول القائل من الجهلة الغافلين عن حقيقة شريعة سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله): إنّ محاولة استلام الحكم وإدارة الأُمّة ليست من وظيفة المسلمين في عصر غيبة الإمام الحجّة (عليه السلام)؛ لأنّ الظروف غير مؤاتية لذلك، ولو كانت الظروف مؤاتية لذلك لكان اللّه تعالى يظهر المعصوم (عليه السلام) لإدارة الحكم. وأدلّة الجهاد إنّما بيّنت وجوب

40

الجهاد وأحكامه للظروف التي يمكن فيها الانتصار وتحكيم كلمة الحقّ، ولا إطلاق لها لفرض العجز ـ كما هو واضح ـ ولولا العجز وقصور الظروف عن تحقّق الحقّ لما غاب الإمام المعصوم عن الساحة.

وتشهد للعجز عن إعلاء كلمة الحقّ النواهي الواردة عن الخروج والجهاد في عصر الغيبة من قبيل ما ورد من قوله (عليه السلام): «كُلُّ راية تُرفع قبل قيام القائم فَصَاحِبُها طاغوت يُعبد من دون اللّه»(1)، وما ورد من «أنّ الجهاد مع غير الإمام المفترض طاعته حرام»(2).

أقول: قد ورد في الجزء الأوّل من كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» بحث مفصّل حول أنّ الحكومة الإسلاميّة داخلة في صميم هويّة نظام الدين الإسلامي، وأنّه بدونها لا يمكن تطبيق مساحة واسعة جدّاً من أحكام الإسلام وأهدافه. ونحن لا نهدف الدخول في هذا البحث، فإنّه مبحوث بشكل مشبع في ذاك الكتاب، ولكنّي أقول: إنّ هذا قد يورث القطع للإنسان بأنّ ضرورة العمل في سبيل إقامة الحكم الإسلاميّ لا تختصّ بزمان الظهور ولو أدّى ذلك إلى التضحيات وإراقة الدماء بعد العلم بأنّ دين الإسلام ليس ديناً مختصّاً بزمان الظهور، ولا أقصد بذلك ـ طبعاً ـ ضرورة الخوض في القتال والحروب وحتّى اليائسة منها، بل أقصد العمل وفق المقاييس الاجتماعيّة وتحت قيادة حكيمة ووفق الشروط التي يرى بالرؤية الاجتماعيّة السياسيّة أنّ العمل ضمنها صحيح ومعقول وإن كان النصر بيد اللّه، فقد يتّفق الانتصار وقد يتّفق الانكسار، كما كان الحال كذلك في حروب رسول (صلى الله عليه وآله).


(1) وسائل الشيعة 11: 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(2) المصدر السابق 11: 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث الأول.

41

وقد لا يحصل هذا القطع لإنسان ما بسبب بعض الشبهات:

 

شبهة عدم إمكان الانتصار في عصر الغيبة:

 

فقد يزعم الزاعم أنّه سبق في علم اللّه أنّ المؤمنين لا ينتصرون في زمان الغيبة، ولذا لم يكلّفهم بخوض المعارك لهدف إقامة الحكم، واحتمال هذا كاف في عدم حصول القطع الذي أشرنا إليه.

ويضمّ ذلك إلى عدم وجود إطلاق لفظي لأدلّة الجهاد يشمل زمان الغيبة، وكثير من الإطلاقات تتوقف تماميّتها على القطع بعدم اختصاص الخطاب بالمشافهين، أو ضرورة الاشتراك في الحكم بيننا وبين من خوطب به، ولكنّنا ما دمنا نحتمل وجود فارق موضوعيّ بيننا وبينهم، وهو عدم مؤاتاة ظروف الانتصار بالنّسبة لنا بخلاف المؤمنين الذين كانوا في زمن الرّسول (صلى الله عليه وآله) لا نستطيع الاستفادة من قاعدة الاشتراك في الحكم، أو عدم اختصاص الخطاب بالمشافهين. وروايات مدح الغزو في سبيل اللّه مثلا ليست بصدد بيان شرائط الغزو، في حين أنّ الارتكاز العقلائيّ والمتشرّعيّ يدلّ إجمالا على وجود شرائط له، فلا يتّم لها الإطلاق في مورد الشكّ. وللردّ على هذه الشّبهة طريقان:

 

تساوي الأُمم في الطاقات الأوّليّة:

 

الطّريق الأوّل: إلفات النظر إلى أنّ سنّة اللّه على وجه الأرض لم تقتضِ كون الإيمان ملازماً للضعف والانكسار، وأنّ القوى والقدرات والطاقات والقابليّات

42

الأوّليّة وزّعت على المجتمعات بشكل متساو ومتقارب بغضّ النظر عن كونها مجتمعات مؤمنة أو ملحدة أو كافرة، فلا نحتمل أنّنا لو فسقنا وكفرنا أمكننا استلام زمام السلطة والحكومة، ولو آمنّا وأصبحنا صالحين عجزنا عن ذلك وقدّر لنا الانكسار، بل حالنا حال سائر الناس، إن استيقظنا وعملنا وخطّطنا الخطط الحكيمة لاستلام الحكم ننتصر كما ينتصر الآخرون وقد ننكسر أيضاً كما ينكسر الآخرون. وهذا واضح لمن يطالع المجتمعات الإسلاميّة ووضع الأفراد المسلمة والكافرة، ويلتفت إلى طاقاتهم وقدراتهم، وقد زادت ذلك وضوحاً التجربة الإسلامية الرائعة التي حصلت في أرض إيران، لكنّنا أردنا صوغ البيان بنحو يتمّ حتى مع غضّ النظر عن هذه التجربة العظيمة، فلنفترض أنفسنا فيما قبل هذه الثورة المباركة، وعندئذ نرى أيضاً أنّ قابليّات فرد مسلم ومؤمن لا تنقص عن قابليّات فرد كافر أو فاسق أو منحرف لا لشيء إلاّ لكونه مسلماً ومؤمناً، ولا قابليّات مجتمع تختلف عن مجتمع آخر باختلافها في الإيمان وعدم الإيمان، بل في كل مجتمع من المجتمعات يوجد أفراد مستضعفون، ويوجد أفراد أقوياء وأذكياء وذوو طاقات وقابليّات.

أمّا الشاهد القرآني على ما ذكرناه فهو قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(1). فقد دلّت هذه الآية على أنّ القدرات والطاقات والقابليّات والنعم والحظوظ موزّعة على الفئات من المؤمنين


(1) سورة الزخرف: الآية 33 ـ 35.

43

والكافرين بالسّوية، ولولا المصلحة التي تقتضي أن يكون النّاس أُمّة واحدة أي متساوين في هذه الحظوظ لكانت تعطى النّعم الدنيويّة والرفاه للكفّار، ولعل ذلك بنكتة استيفائهم لجزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا؛ إذ لا خلاق لهم في الآخرة. أمّا النّعم في الآخرة فهي خاصّة بالمتّقين على حدّ التعبير الوارد في ذيل هذه الآيات حيث قال: ﴿ وَالاْخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾. كما قال اللّه تعالى في آية أُخرى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ... ﴾(1).

وهذه الآيات المباركات وإن كانت ناظرة إلى خصوص الجانب الاقتصاديّ، ولكن بالإمكان التمسّك بما فيها من عموم التعليل؛ حيث إنّ قوله: ﴿ لَوْلاَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً... ﴾ علّة للتّسوية الاقتصاديّة فيما بين الفئاتالمؤمنة والكافرة.

وقد جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم تفسير ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾بمذهب واحد(2)، أي إنّما لم يجعل اللّه لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون... خشية أن يصبح النّاس على مذهب واحد، وهو مذهب الكفر. وهذا التفسير يبدو أنّه خلاف ظاهر القرآن فلا يعبأ به، ولكنّه روي هذا التفسير في تفسير البرهان عن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، وفيما يلي نصّ الرواية:

ابن بابويه قال حدّثنا أبي قال: حدّثنا سعد بن عبداللّه عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبداللّه بن غالب الأسديّ عن أبيه عن سعيد بن المسيّب


(1) سورة الأعراف: الآية 156 ـ 157.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 284.

44

قال: سألت عليّ بن الحسين (عليه السلام) عن قول اللّه عزوجلّ: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال: عنى بذلك أُمّة محمد أن يكونوا على دين واحد كفاراً كلّهم(1)، إلاّ أنّ هذا السّند ضعيف لعدم ثبوت وثاقة غالب الأسديّ وسعيد بن المسيّب. وروي أيضاً في تفسير البرهان عن كتاب الزهد للحسين بن سعيد عن النضر عن إبراهيم بن عبدالحميد عن إسحاق بن غالب قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول في هذه الآية: ﴿ وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّة وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ قال: «لو فعل لكفر الناس جميعاً»(2). وسند هذا الحديث المنقول عن كتاب الزهد تامّ، إلاّ أنّ الشأن في ثبوت سند صاحب تفسير البرهان إلى هذا الكتاب. وعلى أيّة حال فدلالته على تفسير ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ بمعنى مذهب واحد، وهو الكفر غير واضحة؛ إذ قد يكون المقصود مجرّد بيان حكمة لجعل النّاس أُمّة واحدة، أي متساوية في تقسيم الحظوظ والمواهب، وهي أنّه لولا ذلك لكفر النّاس جميعاً.

وحتّى لو ثبت هذا التفسير بسند تامّ لا يبعد سقوطه عن الاعتبار؛ لأنّ خبر الواحد إذا كان مخالفاً لظهور الكتاب، ولم تكن مخالفته بنحو يقبل الجمع العرفيّ كموارد التخصيص والتقييد، فهو من الأخبار التي تعارض الكتاب ولابدّ من طرحها، والقرآن إنّما نزل كتاب هداية، وليس المفروض فيه أن تؤوّل ظواهره بغير ما يستسيغه الجمع العرفيّ، ووجود المتشابهات في القرآن لا يعني وجود آيات قصد بها خلاف ظاهرها، فإنّ للتشابه معنىً آخر شرح في الأُصول، ولسنا الآن بصدد شرح ذلك.


(1) تفسير البرهان 4: 141.

(2) المصدر السابق: 142.

45

وتوضيح الكلام في ما استقربناه من ظهور الآية في كون المقصود من افتراض النّاس أُمّة واحدة تساوي الأُمم في القابليّات والحظوظ لا تساويهم في المذهب، كما هو المفهوم من تفسير عليّ بن إبراهيم، وما مضت من الرواية هو أنّ قوله تعالى: ﴿ لَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ يشتمل على شيء من التّقدير أو ما بحكمه، والمقدّر إمّا مثل كلمة ( الإرادة )، أو مثل كلمة ( المخالفة )، فالتّقدير: لولا إرادة أن يكون النّاس أُمّة واحدة... الخ، أو لولا مخافة أن يكون الناس أُمّة واحدة. وعلى الثاني يكون وزان الآية وزان الحديث المرويّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاة، أو مع كلّ صلاة»(1)، والتقدير: لولا مخافة أن أشقّ على أُمّتي. ويحتمله قوله تعالى: ﴿ إِنِّي لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾(2). فلعلّ المعنى لولا مخافة أن تفنّدون.

فعلى التقدير الثاني يتمّ التفسير الذي نقلناه عن عليّ بن إبراهيم وعن بعض الروايات، وعلى التقدير الأوّل يتمّ التفسير الذي استقربناه، ولكنّ التقدير الثاني بعيد؛ إذ بناءً على التفسير الثاني ليس الذي يخاف منه ـ لو رجّح الكفّار على المؤمنين في الوضع الاقتصادي ـ عبارة عن كون النّاس أُمّة واحدة بمعنى مذهب واحد، وإنّما الذي يخاف منه هو صيرورتهم كفّاراً، أي أنّ العيب في الكفر لا في عنوان وحدة المذهب التي تنسجم مع كونهم جميعاً كافرين ومع كونهم جميعاً مسلمين. فالمفروض بالآية عندئذ أن تقول: لولا أن يكفر النّاس جميعاً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفاً من فضّة... لا أن تقول: لولا أن يكون النّاس أُمّة


(1) وسائل الشيعة 1: 355، الباب 5 من أبواب السواك، الحديث 3.

(2) سورة يوسف: الآية 94.

46

واحدة... وهذا بخلاف التفسير الذي استقربناه، فإنّ العنوان المطلوب عندئذ حقّاً هو عنوان وحدة الأُمّة بمعنى تساوي الأُمم في القابليّات والحظوظ، فاللّه تعالى أراد تساوي الفرص لجميع الأُمم كي يتمّ الامتحان وتتمّ التجربة، فترجيح هذه الأُمّة على تلك الأُمّة في القابليّات غير مطلوب وعكسه أيضاً غير مطلوب، بخلاف عدم مطلوبيّة وحدة المذهب، فإنّه بمعنى عدم مطلوبيّة كفر الجميع لا عدم مطلوبيّة وحدة المذهب حقّاً الشامل لإسلام الجميع.

ولا يخفى أنّ المقصود إنّما هو فرض تساوي الفرص والقابليّات والحظوظ بالنسبة للأُمم لا بالنسبة للأفراد. وأمّا بالنسبة للأفراد فعدم التساوي واضح، وهذا هو المقصود بقوله تعالى فيما قبل هذه الآيات: ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾(1)، فلا تهافت بين الآيتين.

 

إطلاق الأدلّة في أجواء المدرسة الإسلاميّة:

 

والطريق الثاني: بيان أنّ الكلام الذي يصدر من صاحب مدرسة معيّنة يتكوّن ظهوره ضمن ما يناسب معطيات تلك المدرسة، فكما أنّ العرف العامّ والمناسبات والأجواء العرفيّة العامّة تؤثّر على ظهور الكلام فلا يتحدّد ظهور الكلام على ضوء المعطيات اللغويّة فحسب، كذلك مناسبات مدرسة مّا وأجواؤها تؤثّر على ظاهر كلام يصدر من أصحاب تلك المدرسة، فربّ إطلاق يتمّ بحدّ ذاته لو خلّينا نحن


(1) سورة الزخرف: الآية 32.

47

والظهور الأوّليّ للكلام مع مقدّمات الحكمة، لكنّه ينكسر بلحاظ جوّ تلك المدرسة. وربّ إطلاق لا يتمّ بمحض الصناعة لو أغفلنا أجواء المدرسة التي صدر عنها ذاك الكلام ومناسباتها، لكن تلك الأجواء والمناسبات تخلق الإطلاق وتثبّته للكلام، فلو أنّ سيبويه مثلا تكلّم بكلام بما هو إنسان نحويّ فأجواء علم النحو ومناسباته قد تؤثّر على تحديد ظهور كلامه.

وعليه نقول: إنّ مدرسةً تشابك نظامها مع نظام الحكم والإدارة والسلطة بحيث لو فصلت عن الحكم سقط الكثير الكثير من أحكامها ونُظمها عن إمكانيّة التطبيق، حينما يأتي فيها الأمر بإقامة حكم اللّه والجهاد والقتال، وإعداد ما استطعنا من قوّة نُرهب به عدوّ اللّه، وتقديم المقدّمات لذلك، والعمل في سبيل خلق الأجواء المناسبة لذلك.. يفهم منه الإطلاق لكلّ زمان وفق الفرص المؤاتية ظاهراً في الفهم الاجتماعيّ السليم. وهذا بنفسه ينفي الاحتمال الغيبيّ لنفي الفرصة بنحو يفترض إسقاطه للتكليف، بدعوى أنّه لعلّه كان من المقدّر في علم اللّه أنّ المؤمنين لا ينتصرون في عصر الغيبة.

فحتّى من لا يحصل له القطع ـ الذي أشرنا إليه في مستهلّ البحث ـ بعدم اختصاص ضرورة إقامة الحكم الإسلاميّ بزمان الظهور، يكفيه هذا الإطلاق لتشخيص الوظيفة ولو تعبّداً.

أمّا القول بأنّ عدم انتصار المؤمنين قبل ظهور الحجّة ليس صدفةً متكرّرة، وليس مستنداً إلى تقصير المؤمنين في العمل، بل هو مستند إلى أنّ تطبيقالحقّ أصعب من تطبيق الباطل، وذلك إمّا بمعنى أنّ الحقّ مرّ فلا يتحمّلهالناس والباطل حلو للنفوس يتحمّله النّاس، أو بمعنى أنّ الإسلام قيد

48

الفتك(1) وأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، وهذا ما يجعل المؤمن مكتوف الأيدي ومضيّقاً عليه في طريق العمل بخلاف الكافر أو الفاسق الفاجر، فهو يتذرّع للوصول إلى الحكم بأيّ طريق يحلو له بلا أيّ قيد، كما وردت عن إمامنا أميرالمؤمنين (عليه السلام) قولته المشهورة: «لولا كراهيّة الغدر لكنت أدهى النّاس»(2)، فهذا أيضاً غير صحيح بكلتا نكتتيه اللتين أشرنا إليهما.

أمّا بنكتته الأُولى ـ وهي صعوبة تحمّل الناس للحقّ وسهولة تحمّلهم للباطل ـ فالجواب: أنّ بعض ألوان الباطل يكون تحمّله للناس أصعب من تحمّل الحقّ، ومع ذلك استطاع ذاك الباطل أن يسيطر على الناس ويهيمن عليهم، ويأخذ بيده السلطة والحكم يسومهم سوء العذاب يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم كما في زمن فرعون، أو يذيقهم ألوان العذاب الأُخرى كما في زمن الحجّاج، وأبرز مصداق لذلك ما هو موجود في زماننا من سيطرة البعث على العراق، فلئن كان عدم تحمّل الناس لمرارة الحقّ موجباً لخروجهم على الحقّ وعدم إمكانيّة الهيمنة لدولة إسلاميّة حقّة عليهم، فلم لم يوفّقوا حتّى الآن أن يثوروا على حكم أذاقهم الأمرّين وأُتيحت الفرص لأقسى ألوان الحكم أن يهيمن على العراق؟!

وأمّا بنكتته الثانية ـ وهي أنّ الإيمان قيد الفتك وأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، وأنّه لولا كراهيّة الغدر لكان عليّ (عليه السلام) أدهى الناس ـ فالجواب: أنّ هذه القيود في الإسلام ليست إلى حدّ يمنع عن تقدّم الإسلام في النفوذ والسيطرة؛ إذ حينما يبلغ


(1) بحار الأنوار 44: 344.

(2) نهج البلاغة: 639، الخطبة 191، طبعة الفيض.

49

الأمر إلى هذا الحدّ تنكسر القيود بقاعدة التزاحم وتقديم الأهمّ على المهمّ، وإنّما تكون هذه القيود بحدود تنظيم العمل وأخذ الاحتياطات ونفي اللامبالاة، وبالقدر الذي لا يشلّ العمل، وليس هذا مشكلة خاصّة بزمن الغيبة، وكلّ ما قام به المعصومون (عليهم السلام) الذين خاضوا الحروب والذين لم يخوضوا الحروب، ولكنّهم عملوا المقدار الممكن من العمل في سبيل نشر الحقّ قد أدّى ضمناً أيضاً إلىتلف النّفوس البريئة وخسارة الأرواح الطاهرة، وعلى رأسها أرواح نفس المعصومين ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ولولا قانون التزاحم لكان يجب عليهم حفظ النفوس البريئة.

 

شبهة الشكّ في القدرة:

 

وقد تقول: إنّ الإطلاق مهما يتمّ فهو مشروط بالقدرة كما هو شأن كلّ خطاب، ومهما أردنا العمل في سبيل تطبيق نظام الإسلام وإقامة الحكم فلا شكّ في أنّه لا يحصل لنا منذ البدء العلم بالقدرة على تحصيل المطلوب، ومع الشكّ فيها نشكّ في أصل الوجوب.

أو تقول: إنّنا عادةً نعلم قبل طيّ المقدّمات البعيدة بأنّنا فعلا عاجزون عن إقامة الحكم الإسلاميّ، فلا يبقى إلاّ فرض وجوب تحصيل المقدّمات البعيدة والعمل في سبيل تهيئة الأجواء إلى أن تحصل القدرة على إقامة الحكم، ولكن هذا لا يجب؛ لأنّ القدرة شرط الوجوب وليست شرط الواجب، وتحصيل شرط الوجوب غير واجب.

50

ولا أُريد أن أُناقش في التقريب الأوّل بما ذكر في علم الأُصول من أنّ الشكّ في القدرة لدى إحراز الملاك يوجب الاحتياط، كما لا أُريد أن أشكّك في كون القدرة شرطاً للوجوب لا للواجب ـ فقد ثبت في محلّه في الأُصول أنّ القدرة شرط للوجوب ـ لكنّني أُريد أن أُلفت النظر إلى نكتتين:

الأُولى: أنّ القدرة على تحصيل القدرة على الشيء قدرة على ذلك الشيء، فمن يقدر على تهيئة المقدّمات التي بها يقدر على إقامة الحكم يكون قادراً على إقامة الحكم، فليست القدرة المشروطة في كلّ خطاب عبارة عن معنىً خاصّ سمّي بالاستطاعة في باب الحجّ والذي لا يشمل القدرة على تحصيلها، ولذا لم يجب على من يقدر على تحصيل الاستطاعة للحجّ تحصيلها، وإنّما القدرة التي هي شرط لكلّ تكليف عبارة عن مجرّد الإمكانية ولو مع الوسائط.

والثانية: أنّ أدلّة وجوب نصرة اللّه ودينه والدفاع عن الحقّ ونصرة المظلومين ودفع المنكر وما إلى ذلك ليس المفهوم عرفاً منها هو إيجاب النتيجة فحسب، بل المفهوم عرفاً من أمثال هذه الخطابات الاجتماعيّة هو الأمر بالمقدّمات بملاك احتمال انتهائها إلى ذي المقدّمة، كما هو الحال أيضاً في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قال عنه الفقهاء بأنّه مشروط باحتمال التأثير لا بالقطع بذلك، وهذه المقدّمات قد تنتهي إلى النتيجة وقد لا تنتهي، كما كان الأمر كذلك في زمن المعصومين (عليهم السلام)، فهذه المشكلة أيضاً ليست مخصوصة بزمن الغيبة.

والخلاصة: أنّ المرتكز عرفاً واجتماعيّاً في القضايا الاجتماعية السياسية أنّ الأمر ليس متوجّهاً إلى النتيجة فحسب ـ والتي هي غالباً غير مضمونة الحصول ـ وإنّما هو متوجّه إلى المقدّمات من باب رجاء احتمال حصول النتيجة، لا بمعنى

51

كونه أمراً ظاهريّاً احتياطيّاً، بل بمعنى أنّ الاحتياط من قبل نفس المولى، فالمولى أوجب المقدّمات احتياطاً في موارد احتمال الانتهاء إلى النتيجة ولو في أجيال متأخّرة غير الجيل الذي هيّأ تلك المقدّمات البعيدة.

 

شواهد ضدّ إطلاق الأدلّة:

 

وفي مقابل ما ذكرناه من أنّ أجواء المدرسة الإسلاميّة تساعد على تكوّن الإطلاق في أدلّة الجهاد وأدلّة العمل في سبيل رفع راية الحقّ قد تبرز نكات وشواهد على خلاف ذلك، إمّا بمعنى أنّ تلك النكات والشواهد تخلق أجواءً معاكسة لتلك الأجواء بحيث لا يتكوّن عندئذ ذاك الإطلاق، أو بمعنى أنّها تؤدّي إلى تقييد ذاك الإطلاق وإخراج زمن الغيبة عنه بالتخصيص، ولعلّ تلك النكات منحصرة في أُمور ثلاثة:

الأوّل: نفس غيبة الإمام صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، فلو كانت إقامة الحكم الإسلاميّ ممكنة وواجبة كان أجدر الناس بذلك هو الإمام صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، فهو إنّما غاب لأنّه لم تكن من الوظيفة اليوم إقامة الحكم،ولم تكن الظروف مؤاتية لذلك، فكانت نتيجة حضوره أنّه يقتل وينقطع بذلكآخر حبل ممدود بين السماء والأرض، فشاءت الحكمة الإلهيّة أن يغيب كييبقى محفوظاً من كيد الأعداء إلى أن تحين الفرصة لإحياء الحقّ وقطع دابرالظلم، فعندئذ سيظهر الإمام المعصوم ويملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.