138

وأمّا المسلك الثالث: وهو القول بوجود فارق جوهريّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ، فهو المشهور بين المحقّقين المتأخّرين، كالمحقّق النائينيّ والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سرهما) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته. وهذا المسلك قد يشتمل على وجوه عديدة يختلف بعضها عن بعض حسب ما ينسب إلى أصحاب هذه الوجوه، فنحن نذكر أوّلاً الجامع بينها، وهو التفريق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ بالفارق الذاتيّ بالنحو الذي سوف نوضّح، ثمّ نذكر ما قد ينسب من الوجوه الفرعيّة


عالم اللحاظ الذي هو عالم الذهن، والمركّب ممّا يحكي عمّا في الخارج وينتزع منه وما يؤخذ رأساً من عالم الذهن لا يقبل الانطباق على ما في الخارج، كما هو الحال تماماً في الكلّيّ العقليّ.

وبالإمكان الإجابة على ذلك بأنّه لم يكن مقصود المستعمِل ولا الواضع انطباق المقيّد على ما في الخارج بالمعنى المستلزم لانطباق ذات القيد على ما في الخارج، وإنّما المقصود انطباق ذات المقيّد على ما في الخارج بما هو مقيّد، وهذا منحفظ بانحفاظ القيد في وعائه المناسب له، وهو الذهن حسب الفرض.

الثالث: أنّه لو فرض اللحاظ الآليّ مأخوذاً في المعنى الموضوع له في الحروف، وأنّه أصبح الموضوع له بذلك خاصّاً، فلم لا يفرض مثل ذلك في الأسماء بأن يقال: إنّ اللحاظ الاستقلاليّ مأخوذ في المعنى الموضوع له في الأسماء، فقد أصبح الموضوع له بذلك خاصّاً في الأسماء أيضاً؟! ونحن نعلم أنّ كيفيّة أخذ اللحاظ في الأسماء وفي الحروف متماثلة، بفرق أنّه في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلاليّ.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّه لو فرض أنّ كلّيّة معنى اسم الجنس وجزئيّة المعنى الحرفيّ كانتا وجدانيّتين لشخص ما، وكان يفحص ذاك الشخص عن تفسير لذلك، كان بإمكانه أن يفترض: أنّ المعنى الحرفيّ مقيّد باللحاظ الآليّ، فأصبح جزئيّاً؛ لأنّ واقع اللحاظ فرد يمنع عن انطباق المعنى على كثيرين، والمعنى الاسميّ مقيّد بعدم اللحاظ الآليّ لا باللحاظ الاستقلاليّ، ولهذا لم يصبح جزئيّاً.

139

المختلفة إلى أصحاب هذا المسلك.

فنقول: إنّنا نوضّح الفارق الذاتيّ والجوهريّ بين المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ ضمن مراحل خمس:

المرحلة الاُولى: من التوضيح(1) هي: أنّنا حينما نواجه قضيّة خارجيّة من قبيل (نار في الموقد) مثلاً، ننتزع منها مفاهيم عديدة موازية للحقائق الثابتة، فننتزع مفهوم النار ومفهوم الموقد في مقابل حقيقة النار وحقيقة الموقد، وننتزع علقةً ونسبةً بين المفهومين في مقابل العلقة والنسبة الواقعيّة الموجودة بين واقع النار وواقع الموقد، والهدف من انتزاع مفهوم النار ومفهوم الموقد ليس هو إيجاد الخصائص التكوينيّة للنار والموقد بأن تصبح النار مثلاً محرقة للذهن، وإنّما الهدف من ذلك هو إصدار الحكم بكون النار في الموقد، وإصدار الحكم لا يتوقّف على أن يحضر في الذهن بالنظر التصديقيّ ما هو طرف للحكم، بل يكفي فيه إحضار ما هو طرفه وموضوعه بالنظر التصوّريّ؛ ولهذا يُحضر في الذهن مفهوم النار، ومفهوم النار ليس ناراً حقيقة وبالنظر التصديقيّ، وإنّما هو نار بالنظر التصوّريّ، هذا حال إحضار النار والموقد في الذهن، وأمّا العلقة والنسبة التي يحضرها المتكلّم مثلاً في الذهن فهو يهدف من وراء هذا الإحضار إيجاد الخاصّيّة والأثر التكوينيّ للعلقة والربط، وهو شدّ شيء بشيء، والتوحيد والربط بينهما، وإيجاد الخصائص التكوينيّة لشيء لا يكون بمجرّد إحضار ما هو ذاك الشيء بالنظر التصوّريّ، بل يحتاج


(1) كأنّ هذه المرحلة من البيان مصاغة بصياغة مناسبة لفرضيّة تفسير الوجودات الذهنيّة بكونها وجودات لصُور عمّا في خارج الذهن، دون فرضيّة تفسيرها بكونها وجوداً لنفس الماهية الموجودة في الخارج، وأنّ اختلافها عمّا في الخارج إنّما يكون باختلاف الوجود، أمّا الماهية فواحدة.

140

إلى إحضار ما هو ذاك بالنظر التصديقيّ أيضاً؛ إذ خاصّيّة الشيء وأثره التكوينيّ لا تترتّب إلاّ على وجوده حقيقة، لا على مجرّد وجوده بالنظر التصوّريّ، فيجب إحضار ما هو علقة ونسبة وربط بالنظر التصديقيّ أيضاً. والقسم الأوّل وهو مثل مفهوم النار والموقد نسمّيه بالاسم، والقسم الثاني وهو مثل الربط بينهما نسمّيه بالحرف. فقد تحصل فرق جوهريّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ، وهو: أنّ مفهوم الاسم سنخ مفهوم يكفي بلحاظ الهدف من إحضاره أن يكون ما يحضر في الذهن عين حقيقته بالنظر التصوّريّ كمفهوم النار، ولا يلزم بلحاظ الهدف منه كونه عين حقيقته بالنظر التصديقيّ أيضاً، وإن كان صدفة هو كذلك أحياناً كمفهوم الكلّيّ. وأمّا مفهوم الحرف فهو سنخ مفهوم لا يكفي بلحاظ الهدف من إحضاره إحضار ما هو عين حقيقته بالنظر التصوّريّ، بل لابدّ بلحاظ الهدف من إحضار ما هو عين حقيقته بالنظر التصديقيّ؛ لأنّ المطلوب منه هو آثاره التكوينيّة، وهي لا تترتّب إلاّ على واقع الشيء.

هذا تمام الكلام في المرحلة الاُولى من التوضيح.

وهذا الذي ذكرناه في هذه المرحلة إحدى مدلولات ما اشتهر في هذا المسلك، وما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة، والمعاني الحرفيّة إيجاديّة، فمعنى ذلك: أنّ المعنى الاسميّ لا يجب بلحاظ الهدف من إحضاره إيجاده حقيقة في الذهن، بل يكفي إخطاره بمعنى تصوّر صورة عنه تُرى بالنظر التصوّريّ أنّها عين الحقيقة. وأمّا في المعنى الحرفيّ فلابدّ من إيجاده حقيقة في الذهن حتّى يترتّب عليه ما هو أثره التكوينيّ.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 42 فصاعداً بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 18 فصاعداً.

141

المرحلة الثانية: أنّه يتفرّع على ما مضى أنّ المعنى الحرفيّ ليس هو مفهوم النسبة والعلقة والربط ونحو ذلك، فإنّ هذه المفاهيم إنّما هي نسبة وعلقة وربط بالنظر التصوّريّ، وليست نسبة وربطاً حقيقة وبالنظر التصديقيّ، وقد عرفت أنّ مفهوم الحرف يكون بالنظر التصديقيّ عين الحقيقة، فهو واقع الربط والنسبة(1).

المرحلة الثالثة(2): أنّه توجد عندنا ثلاث نسب في ثلاثة أوعية:

1 ـ النسبة بين النار الخارجيّة والموقد الخارجيّ مثلاً في وعاء الخارج.

2 ـ النسبة بين النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ في وعاء ذهن المتكلّم.

3 ـ النسبة بين النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ في وعاء ذهن السامع.

فهل يوجد بين هذه النسب جامع ذاتيّ أو لا؟

قد يتراءى وجود جامع ذاتيّ بينها، وهو مفهوم النسبة. والصحيح: أنّه جامع عرضيّ من قبيل جامع «أحدها» أو «الشيء» ونحو ذلك، وليس جامعاً ذاتيّاً. والبرهان على ذلك يتكوّن من ثلاث كلمات:

1 ـ إنّ تحصيل الجامع الذاتيّ يكون بالاحتفاظ على المقوّمات الذاتيّة أو بعضها للأفراد، وإلغاء الخصوصيّات العرضيّة لها، فمثلاً في تحصيل الجامع الذاتيّ بين أفراد الإنسان تلغى الخصوصيّات العرضيّة من قبيل البياض والطول والقصر


(1) كأنّ ما ورد في هذه المرحلة أيضاً مصاغة بالصياغة المناسبة للتفسير الأوّل من تفسيري الوجودات الذهنيّة الماضي ذكرهما في تعليقنا على المرحلة الاُولى من البيان، وهو تفسيرها بكونها مجرّد تصاوير وانعكاسات عمّا في الخارج، وكيف لا وهي متفرّعة ـ كما قال اُستاذنا ـ على المرحلة الاُولى المصاغة على مبنى ذاك التفسير!

(2) هذه المرحلة من البيان تستفاد من كلام الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في كتابه: «الاُصول على النهج الحديث» ص 25 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

142

وغير ذلك، ويحتفظ على المقوّمات الذاتيّة وهي الحيوانيّة والناطقيّة، فيصبح الجامع هو الحيوان الناطق، أو الإنسان، أو على بعض المقوّمات الذاتيّة على الأقلّ كالحيوانيّة فقط، فيكون الحيوان جامعاً ذاتيّاً بين أفراد الإنسان.

2 ـ إنّ كلّ نسبة من هذه النسب تكون مقوّماتها الذاتيّة تماماً مغايرة للمقوّمات الذاتيّة للاُخرى؛ لأنّ النسبة في الحقيقة ليست إلاّ حدّاً لوجود طرفيها، وليست وجوداً مستقلاًّ في قبالهما، فمقوّماتها عبارة عن شخص وجود طرفيها، وأطراف النسب المتعدّدة حتّى إذا اتّحدت في المفهوم تكون متغايرة في أشخاص الوجودات، والنسبة متقوّمة بشخص الوجودات بما هي أشخاص، لا بالمفاهيم بما هي هي، فالمفاهيم بما هي مفاهيم بغضّ النظر عن أيّ وجود لها خارجيّ أو ذهنيّ أو فرضيّ واعتباريّ لا يتعقّل بينها أيّ نسبة.

3 ـ أنّنا إذا أردنا أن ننتزع جامعاً ذاتيّاً بين أفراد النسب، فهل نحتفظ على المقوّمات الذاتيّة لها كما قلنا في الكلمة الاُولى، أو نلغي تلك المقوّمات وهي أشخاص وجودات الأطراف؟ فإن فرض الأوّل وهو الاحتفاظ على المقوّمات الذاتيّة وهي شخص وجودات الأطراف، لم يتحقّق جامع لما عرفت في الكلمة الثانية من أنّ تلك المقوّمات متباينة. وإن فرض الثاني وهو إلغاء الأطراف، لم يبقَ شيء يكون هو النسبة، ومع إلغاء المقوّمات الذاتيّة لا معنى لانتزاع جامع ذاتيّ، إذن فمفهوم النسبة الذي هو جامع بين النسب ليس إلاّ جامعاً عرضيّاً من قبيل جامع «الشيء» وجامع «أحدها» ونحو ذلك.

المرحلة الرابعة(1): أنّ المعنى الحرفيّ ليس له تقرّر ماهويّ في المرتبة السابقة


(1) هذه المرحلة من البيان أيضاً تستفاد من كلام الشيخ الإصفهانيّ(قدس سره) في المصدر الذي أشرنا إليه في تعليقنا على المرحلة الثالثة.

143

على الوجود. وتوضيح ذلك: أنّ المفهوم الاسميّ في الذهن يمكن بنظرة تحليليّة أن يحلّل إلى ماهية ووجود، وتشكّل قضيّة تحليليّة، فيقال: النار وجدت في الذهن. فالوجود والماهية وإن كانا متّحدين خارجاً ولكن بحسب التحليل تتقرّر في المرتبة السابقة ماهية، ويحمل عليها الوجود أو العدم. وهذا معناه: أنّ مفهوم النار في مرتبة وقوعه موضوعاً لهذه القضيّة التحليليّة له تقرّر في نفسه بقطع النظر عن الوجود، وهذا التقرّر الماهويّ يوجد في باب المفاهيم الاسميّة. وأمّا في المفاهيم الحرفيّة فهذا النحو من التقرّر الماهويّ غير معقول. بيان ذلك: أنّه لو لم تكن هويّة أفراد النسب عبارة عن حدود أشخاص الوجودات كما عرفت في المرحلة الثالثة، بل كانت لها ماهية مستقلّة عن وجود الطرفين، أمكن أن يشار إلى تلك الماهية وتجعل موضوعاً لقضيّة تحليليّة، ويحمل عليها الوجود، وكان لها تقرّر ماهويّ في ذاتها بغضّ النظر عن الوجود، ولكن قد عرفت أنّ المعنى الحرفيّ ليس إلاّ عبارة عن حدّ الوجودات فليست له ماهية وراء حدّ الوجود، فإذا غُضّ النظر عن الوجود كان معنى ذلك غضّ النظر عن ماهية المعنى الحرفيّ، فليس له تقرّر ماهويّ في المرتبة السابقة على الوجود.

بكلمة اُخرى: أنّ المفهوم الاسميّ له تقرّر ماهويّ قبل مرتبة الوجود في الذهن، ثُمّ يوجد في الذهن، وأمّا المفهوم الحرفيّ فقبل مرتبة وجود الطرفين بحدّهما في الذهن ليس له تقرّر ماهويّ، ويحصل له التقرّر الماهويّ في نفس مرتبة وجود الطرفين بما لهما من حدّ في الذهن؛ لأنّ هويّة المعنى الحرفيّ ليست إلاّ عبارة عن نفس حدّ شخص وجود الطرفين، إذن ففي مرتبة سابقة على عالم الذهن لا يوجد تقرّر ماهويّ للمعنى الحرفيّ كما كان يوجد للمعنى الاسميّ، وإنّما يكون تقرّره الماهويّ بنفس تكوّنه في عالم الذهن.

144

وهذا أيضاً أحد مداليل ما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ معاني الأسماء إخطاريّة، ومعاني الحروف إيجاديّة، أي: أنّ المفهوم الاسميّ له تقرّر ماهويّ في نفسه بغضّ النظر عن مرتبة عالم الذهن، ثُمّ يخطر في الذهن. وأمّا المفهوم الحرفيّ فتقرّره الماهويّ لا يكون إلاّ بنفس وجوده في الذهن.

المرحلة الخامسة: أنّ مفهوم النار مثلاً الذي هو معنىً اسميّ إذا التفت إليه بقيد وجوده في الذهن، فنسبته إلى النار الخارجيّة نسبة المماثل إلى المماثل. وأمّا إذا التفت إليه بقطع النظر عن وجوده الذهنيّ، فنسبته إليها نسبة الكلّيّ إلى فرده. وأمّا العلاقة الذهنيّة فنسبتها إلى العلاقة الخارجيّة دائماً هي نسبة المماثل إلى المماثل؛ لأنّها بالنظر إلى الوجود تكون فرداً مماثلاً للفرد الخارجيّ، وبقطع النظر عن الوجود عرفت أنّه ليس لها تقرّر ماهويّ حتّى تنسب إلى الخارج، وليس هناك جامع حتّى تكون نسبته إلى ما في الخارج نسبة الكلّيّ إلى فرده.

وهذا الفرق بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ مدلول ثالث من مداليل ما جاء عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ معاني الأسماء إخطاريّة، ومعاني الحروف إيجاديّة، فالمعنى الاسميّ منطبق على ما في الخارج انطباق الكلّيّ على فرده، فكأنّه أُخذ من الخارج واُخطر إلى الذهن من الخارج. وأمّا المعنى الحرفيّ فلا يخطر إلى الذهن من الخارج، بل نسبته إلى ما في الخارج نسبة الوجود إلى الوجود، لا الكلّيّ إلى فرده.

ويبقى هنا سؤال وهو أنّ النسبة الذهنيّة الحرفيّة بعد أن كانت وجوداً مماثلاً للوجود الخارجيّ، ولم تكن بأيّ وجه من الوجوه عنواناً للمعنون الخارجيّ، أو كلّيّاً منطبقاً على الأفراد الخارجيّة، فكيف تحكي عن الخارج؟!

وبكلمة اُخرى: أنّ المعنى الاسميّ إنّما كان يحكي عن الخارج باعتبار أنّه

145

بلحاظه مفهوماً (وبقطع النظر عن وجوده الذهنيّ) كان عنواناً ينطبق على معنونه الخارجيّ، وكلّيّاً ينطبق على مصداقه الخارجيّ، فكان يعتبر فانياً في الخارج، أو قل: كان يُرى بالنظر التصوّريّ عين ما في الخارج، فمن هنا جاءت حكايته عمّا في الخارج. أمّا المعنى الحرفيّ فقد فرضتم أنّه ليست نسبته إلى ما في الخارج إلاّ نسبة المماثل إلى المماثل، لا العنوان إلى المعنون أو الكلّيّ إلى الأفراد، فيتوجّه السؤال عن أنّه كيف تتمّ إذن حكايته عمّا في الخارج؟!

والجواب: أنّ حكايته عمّا في الخارج تكون بتبع المفهوم الاسميّ، حيث إنّه بالنظر التصوّريّ يرى أنّ ما تصوّره من النار والموقد هو نفس النار والموقد الخارجيين، فبهذا النظر يرى أنّ النسبة بينهما هي نفس النسبة بينهما.

وقد اتّضح بما ذكرناه التباين الذاتيّ بين المعنى الاسميّ والمعنى الحرفيّ.

واتّضح بهذه المراحل الخمس معنى القول المعروف في هذا المسلك من كون معاني الأسماء إخطاريّة ومعاني الحروف إيجاديّة، وصفوة القول في ذلك: إنّ الإيجاديّة لها ثلاثة أركان:

1 ـ إنّ المعنى الحرفيّ لا يتأتّى الغرض منه إلاّ إذا كان عين الحقيقة، كما مضى في المرحلة الاُولى.

2 ـ إنّ المعنى الحرفيّ بغضّ النظر عن وجوده في الذهن ليس له تقرّر ذاتيّ وماهويّ، بخلاف المعنى الاسميّ المتقرّر ذاتاً وماهيةً بقطع النظر عن عالم الوجود، وهذا ما اتّضح بالمرحلة الثالثة والرابعة.

3 ـ إنّ المعنى الحرفيّ نسبته إلى الفرد نسبة الوجود إلى الوجود، لا نسبة الكلّيّ إلى الفرد، وهذا ما بيّن في المرحلة الخامسة.

هذا تمام الكلام في بيان أصل المسلك الثالث.

146

هذا، وقد نسب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك كلاماً إلى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، واعترض عليه، وكلاماً إلى المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)، واعترض عليه. ولعلّ التأمّل فيما ذكرناه من المراحل الخمس، مع التحفّظ على ما ينبغي أن ينسب إلى هؤلاء يورث القطع بأنّ مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ واحد، ولا خلاف حقيقيّ بينهم.

أمّا المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فقد فسّر السيّد الاُستاذ مدّعاه بأنّ المعنى الحرفيّ إيجاديّ بمعنى أنّ المعنى الحرفيّ هو نفس الربط الذي يوجده الحرف في مرحلة الكلام، فكلمة «في» مثلاً في قولنا: «النار في الموقد» لا تكشف عن معنىً ثابت وراء عالم اللفظ، وإنّما هي توجد الربط في عالم اللفظ بين لفظة «النار» ولفظة «الموقد».

وفسّر برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على مدّعاه بأنّ المعنى: إمّا إخطاريّ أو إيجاديّ، ومعنى كونه إخطاريّاً أن يكون قابلاً للّحاظ الاستقلاليّ، ومعنى كونه إيجاديّاً أن يكون عبارة عن الربط في عالم اللفظ والكلام، وبما أنّ المعنى الحرفيّ ليس إخطاريّاً؛ إذ لا يعقل لحاظه مستقلاًّ فينحصر الأمر في كونه إيجاديّاً.

وأورد على مدّعاه بأنّ الحرف لا يوجد الربط الكلاميّ بالمعجز، وإنّما يوجده باعتبار الدلالة على معنىً، فالربط في عالم الكلام انعكاس للربط في عالم قبل الكلام، ولولا وجود ربط في عالم آخر كيف يوجد «في» ربطاً في الكلام، فإيجاديّة الحرف غير صحيحة؛ إذ إيجاده للربط فرع معنىً سابق، فيجب في مرتبة سابقة تنقيح ذاك المعنى.

وأورد على برهانه بأنّ قسمة المعنى إلى إيجاديّ وإخطاريّ غير حاصرة، بل هناك شقّ ثالث، وهو أن يكون للحرف معنىً ثابت قبل مرحلة الكلام، ويكون

147

الكلام حاكياً عنه، فلا يكون إيجاديّاً، ولكن ذاك المعنى لا يقبل اللحاظ الاستقلاليّ، فلا يكون إخطاريّاً(1).

أقول: من البعيد جدّاً أن يكون مدّعى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) أنّ الحرف يوجد الربط في عالم اللفظ من دون وجود أيّ ما بإزاء له غير الربط الحاصل في مرحلة الكلام، فإنّ هذا واضح البطلان إلى حدّ لا يعرف الإنسان كيف يبيّنه، وأيّ ارتباط بين الألفاظ بما هي ألفاظ؟! وكيف يغفل المحقّق النائينيّ(رحمه الله)عن بطلان مثل ذاك؟!

والمظنون: أنّ مقصوده(رحمه الله) ليس هو إيجاديّة ألفاظ الحروف، وإنّما مقصوده إيجاديّة معاني الحروف. نعم، أحياناً يعبّر بأنّ الحرف يوجد الربط في عالم الكلام، ولكن أكبر الظنّ أنّه يقصد إيجاد الربط بلحاظ مدلول الكلام، أي: بلحاظ اُفق القضيّة الذهنيّة القائمة في ذهن المتكلّم، لا بلحاظ نفس اللفظ الذي هو صوت في الهواء. ومعنى الإيجاديّة في ذلك الاُفق هو ما ذكرناها من الأركان الثلاثة، والتي أهمّها الركن الثاني، وهو: أنّ المعنى الحرفيّ ليس له تقرّر ماهويّ بقطع النظر عن عالم الوجود، فبقطع النظر عن هذا الاُفق ليست له مقوّماته الذاتيّة. وأمّا المفهوم الاسميّ فمقوّماته الذاتيّة محفوظة قبل هذا الاُفق، وتخطر في هذا الاُفق. وهذا معنىً دقيق صحيح لا يحتمل أن يرفضه نفس السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وأكبر الظنّ أنّه ليس مراده بالإخطاريّة قابليّة المعنى للّحاظ الاستقلاليّ، بل هي ما يقابل الإيجاديّة بالمعنى الذي عرفت، أي: أنّ المعنى الاسميّ له تقرّره ومقوّماته الذاتيّة قبل عالم الذهن، فكأنّه شيء يخطر على الذهن في مقابل


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 18 ـ 20 تحت الخطّ بحسب طبعة (كتابفروشي مصطفوي) بقم، وراجع المحاضرات، ج 1، ص 59 فصاعداً بحسب طبعة الصدر بقم.

148

الإيجاديّة التي هي بمعنى: أنّ مقوّماته الذاتيّة وتقرّره إنّما هو في نفس اُفق الذهن، فإذا فسّرنا الإخطاريّة والإيجاديّة بهذا التفسير، فالقسمة حاصرة، وبما أنّ المعنى الحرفيّ ليس إخطاريّاً، أي: يستحيل له التقرّر القبليّ؛ لأنّه متقوّم بشخص وجود الطرفين، وحدّ لهما كما بيّنّا في المرحلة الثالثة، فتتعيّن الإيجاديّة، ويتطابق كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مع ما عرفته من المراحل الخمس، فمرامه(رحمه الله) نِعمَ المرام وبرهانه نِعمَ البرهان، وكلامه مطابق لما هو المشهور، وليست له إضافة على ما ذكرناه، بل ما قلناه مستفاد من إفاداته.

وأمّا المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) فقد قسّم الوجود الخارجيّ إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ ما هو موجود في نفسه لنفسه. ويقصد بكونه موجوداً في نفسه أنّ له تقرّراً ماهويّاً قبل الوجود، ويقصد بكونه لنفسه أنّه لا يحتاج في وجوده الخارجيّ إلى موضوع. وهذا هو عبارة عن الجواهر، فالجواهر موجودة في نفسها لنفسها. نعم، يكون وجودها بغيره، لا بنفسه، وذلك في مقابل واجب الوجود الذي يكون وجوده في نفسه لنفسه بنفسه.

2 ـ ما هو موجود في نفسه لغيره، ويقصد بكونه موجوداً في نفسه ما عرفت من أنّ له تقرّراً ماهويّاً قبل الوجود، ويقصد بكونه لغيره أنّه يحتاج في وجوده الخارجيّ إلى موضوع وهو الأعراض، ويسمّى بالوجود الرابطيّ.

3 ـ ما هو موجود في غيره لغيره. ويقصد بكونه في غيره أنّه ليس له تقرّر بغضّ النظر عن الوجود، وبكونه لغيره ما عرفت من الاحتياج في وجوده الخارجيّ إلى


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 23 ـ 24 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم، أو ج 1، ص 52 بحسب طبعة آل البيت.

149

موضوع. وهذا هو المسمّى بالوجود الرابط في مقابل القسمين الأوّلين المسمّيين بالوجود المحموليّ.

وقد نسب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) أنّه يرى الحرف موضوعاً للوجودالرابط، فاعترض على ذلك بما يرجع إلى ثلاثة إشكالات(1):

1 ـ إنّ الكلمات دائماً تكون موضوعة للمفاهيم بغضّ النظر عن الوجود، فإنّ الوضع إنّما يكون لمعنىً قابل لأن يوجد في الذهن، والوجود الخارجيّ لا يأتي في الذهن، كما أنّ الوجود الذهنيّ أيضاً لا يوجد في الذهن مرّة اُخرى.

2 ـ إنّ الحروف تستعمل في موارد لا إشكال في عدم وجود الرابط فيها، وذلك من قبيل قولنا: الوجود لله تعالى واجب، فاللام معنىً حرفيّ بين الوجود والله تعالى، بينما لا يوجد في الخارج وجود رابط بين الله والوجود، فلو كان الحرف بإزاء الوجود الرابط لزم أن يكون بين الله والوجود وجود رابط، مع أنّه عين الوجود، وكذلك الحال في التحليلات الاعتباريّة الصرف، كما لو قلنا: الحيوانيّة جنس للإنسان، فإنّ الحيوانيّة بحسب الخارج متّحدة مع الإنسان، وليس بينهما وجود رابط، وإنّما هذا تحليل في عالم الاعتبار.

3 ـ إنّه أساساً لا برهان على الوجود الرابط، ولا مفروغيّة عن وجوده في الخارج حتّى في العرض الحقيقيّ المقوليّ مع موضوعه الخارجيّ، كالبياض للجسم فضلاً عن بقيّة الموارد، فلا دليل على أنّه توجد في الخارج إضافة بين البياض والجسم مثلاً زائداً على أصل وجود البياض ووجود الجسم تسمّى


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 67 فصاعداً بحسب طبعة مطبعة الصدر بقم، أو راجع ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ ص 74 فصاعداً.

150

بالوجود الرابط(1).

وهذه الإشكالات كأنّها كلّها مبنيّة على الاعتقاد بأنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)يرى أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط، ونحن لا طريق لنا إلى التأكّد من صحّة هذه النسبة وعدمها إلاّ الرجوع إلى كتاباته(رحمه الله)، ولا يتحصّل من كتاباته هذا المعنى، والظاهر ممّا يتحصّل ممّا كتبه في المعنى الحرفيّ أنّه لا يقول بأنّ الحرف وضع للوجود الرابط، وإنّما يقول بأنّه وضع للنسبة التي توجد في الذهن أحياناً، وفي الخارج أحياناً اُخرى. نعم، يشبّه المعنى الحرفيّ بالوجود الرابط(2) وهو يصرّح


(1) ورد في المحاضرات، ج 1، ص 68 بحسب طبعة مطبعة الصدر بقم أو ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 75 برهان على ذلك، وهو: أنّنا قد نتيقّن بوجود الجوهر والعرض كالجسم والبياض، ونشكّ في ثبوت العرض له ككون هذا الجسم بالخصوص أبيض، ومن الواضح أنّ اليقين والشكّ لا يمكن أن يتعلّقا بأمر واحد، فلابدّ من افتراض وجود رابط كان هو متعلّق الشكّ.

وأجاب عليه في الصفحة 70 ـ 71 بحسب الطبعة الاُولى التي أشرنا إليها، أو في الصفحة 77 ـ 78 بحسب الطبعة الثانية التي أشرنا إليها بأنّ اليقين والشكّ يتعلّقان بصورتين ذهنيّتين، ولا يمكن تعلّقهما بصورة واحدة، إلاّ أنّه ليست بالضرورة حكاية الصورتين عن وجودين مستقلّين في الخارج، فقد نعلم إجمالاً بوجود إنسان في الدار ولكن نشكّ في أنّه زيد أو عمرو، فهذا الفرد بحدّه الجامعيّ متيقّن في الذهن، وبصورته الفرديّة مشكوك، وكذلك في المقام يكون وجود جسم أبيض بنحو الكلّيّ الطبيعيّ متعلّقاً لليقين، ومن جهة انطباقه على فرد معيّن متعلّقاً للشكّ.

(2) لعلّه يشهد لكون مقصوده مجرّد التشبيه قوله في ج 1، ص 52 من نهاية الدراية بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت: «... إنّ تنظير المعنى الاسميّ والحرفيّ بالجوهر والعرض غير وجيه؛ فإنّ العرض موجود في نفسه لغيره، والصحيح: تنظيرهما بالوجود المحموليّ والوجود الرابط لا الرابطيّ...».

151

بأنّ النسبة الحرفيّة محفوظة حتّى في موارد هل البسيطة، كهل الإنسان موجود، فضلاً عن موارد هل المركّبة، كهل الإنسان قائم، مع أنّه من الواضح: أنّه لا يدّعي المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ولا أحد منهم وجود رابط بين الماهية والوجود، فإنّ ذلك أمر تحليليّ ينتزع من الوجود، فهذا أكبر شاهد على أنّ مراده من المعنى الحرفيّ ليس هو الوجود الرابط الخارجيّ الذي لا يعقل تحقّقه بين الماهية والوجود، بل المراد من المعنى الحرفي هو تلك النسبة المستهلكة في الطرفين التي يكون تقرّرها الماهويّ في طول وجود الطرفين، وكيف يفرض أنّ مقصوده(رحمه الله) هو وضع الحرف بإزاء الرابط الخارجيّ، مع أنّه في القضايا الكاذبة ـ على الأقلّ ـ لا وجود لرابط خارجيّ، مع أنّ كذب القضيّة لا يعني أنّ الحرف ليس له معنىً، والقضيّة حينما تكون كذباً معناها هو عين معناها حينما تكون صدقاً(1).

وقد ظهر: أنّ ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ليس شيئاً مختلفاً عمّا أوضحناه في المراحل السابقة، وهو: أنّ الحرف موضوع للنسبة المستهلكة في الطرفين، وليس لها تقرّر ماهويّ إلاّ في طول الوجود، وهو(قدس سره) التفت إلى ما يقوله السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ الغرض من الوضع هو نقل ذات المعنى، فلا ينبغي أخذ الوجود في الموضوع له، فذكر(2): أنّه لا ينبغي أن يأخذ الواضع الوجود الخارجيّ


(1) الأولى أن يعبّر بأنّه لو كان الحرف موضوعاً للوجود الرابط الخارجيّ، لما كان للكلام صدق وكذب، كما لا يكون للأمر والنهي مثلاً صدق وكذب، حيث يكشفان عن الوجود الواقعيّ للطلب أو الزجر في النفس، لا عن حكايتهما القابلة للصدق والكذب.

(2) لم أجد هذا المقطع في نهاية الدراية، ولكن وجدت ما يشبهه أو ما يمكن تفسيره بهذا البيان في الكتاب الآخر للشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) وهو: (الاُصول على النهج الحديث) ص 26 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

152

أو الذهنيّ في مقام الوضع؛ لأنّ الهدف من الوضع هو الانتقال إلى ذات المعنى. نعم، إذا كان المعنى في طول وجود الطرفين، أي: أنّ الوجود كان مقوّماً للتقرّر المفهوميّ للمعنى، فلابدّ من أخذه لا باعتباره قيداً زائداً، بل باعتباره مقوّماً للمعنى.

هذا، وقد اتّضح بما بيّناه عدم ورود شيء من الإشكالات الثلاثة على المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله):

أمّا الإشكال الأوّل وهو: أنّ الوجود الخارجيّ لا يقبل الانتقال إلى الذهن، فنحن نقول: إنّه نعم، الوجود الخارجيّ لا ينتقل إلى الذهن، ولكن المدّعى ليس هو وضع الحرف للوجود الخارجيّ، وإنّما هو موضوع للنسبة، والأصل في الوضع وإن كان هو الوضع للمفهوم دون أخذ أيّ وجود خارجيّ أو ذهنيّ؛ لأنّ الهدف من ذلك هو نقل المتكلّم ما في ذهنه إلى ذهن المخاطب، ولا يوجد الوجود الخارجيّ في الذهن، كما لا ينتقل الوجود الذهنيّ الموجود في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخاطب، ولكن حينما يتعذّر ذلك، أي: نقل المفهوم الذي ليس له تقرّر فوق الوجود في هذا الذهن أو ذاك الذهن كما عرفت تعذّره في المعنى الحرفيّ؛ إذ ليس له تقرّر مفهوميّ في المرتبة السابقة على الوجود، فهنا لابدّ من التنزّل من استهداف نقل ما في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخاطب إلى استهداف إيجاد مماثل لما في ذهن المتكلّم في ذهن المخاطب، فالمعنى الحرفيّ باعتباره متقوّماً في هويّته بالوجود لا ينتقل من ذهن المتكلّم إلى ذهن السامع، لكن يتكوّن في ذهن السامع من سماع الكلام وجود آخر مماثل للوجود الثابت في ذهن المتكلّم.

وأمّا الإشكال الثاني وهو استعمال الحرف في موارد لا يوجد فيها وجود رابط خارجاً، فقد اتّضح جوابه أيضاً، فإنّ المدّعى كون المعنى الحرفيّ شبيهاً بالوجود

153

الرابط، لا كونه هو الوجود الرابط.

وأمّا الإشكال الثالث وهو الاستشكال في ثبوت الوجود الرابط أساساً، فأيضاً ظهر حاله، فإنّ ثبوت الوجود الرابط وعدمه إنّما هو بحث فلسفيّ، ولعلّه من أهمّ الأبحاث الفلسفيّة، لكنّه لا دخل له بما نحن فيه؛ إذ ليس المدّعى وضع الحرف للوجود الرابط(1) نعم، هذه الاعتراضات قد تكون واردة لو كان مراد المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) وضع الحروف للوجود الرابط الخارجيّ. والله أعلم بمراده.

ثُمّ إنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بعد أن حمل كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على


(1) وبكلمة اُخرى: أنّ المدّعى هو وضع الحرف لواقع النسبة، سواء فرضنا أنّ واقع النسبة وجود ثالث غير وجود الطرفين، وهو وجود رابط، أو فرضنا أنّ واقع النسبة يكون تقرّرها الماهويّ في طول وجود الطرفين باعتبارها حدّاً لوجود الطرفين، لا في طول وجود ثالث اسمه الوجود الرابط، أو فرضنا أنّ واقع النسبة من لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجودات الخارجيّة، وقد يفترض أنّ الوجود الرابط أساساً هو من اُمور لوح الواقع، فلتكن النسبة أيضاً من الوجود الرابط.

ثمّ إنّ الذي أفهمه من ظاهر عبارة نهاية الدراية، ج 1، ص 52 بحسب طبعة آل البيت أنّ الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)يؤمن بالوجود الرابط في مفاد الهليّات المركّبة وجوابها الإيجابيّ دون جوابها السلبيّ ودون الهليّات البسيطة وجوابها دون سائر أنحاء النسب. وتلك العبارة التي أستظهر منها هذا المعنى ما يلي:

«... أن الأمر كذلك في جميع أنحاء النسب، سواء كان بمعنى ثبوت شيء لشيء كما في وجود الرابط المختصّ بمفاد الهليّات المركّبة الإيجابيّة أو بمعنى (كون هذا ذاك) الثابت حتّى في مفاد الهليّات البسيطة وهو ثبوت الشيء أو كان من النسب الخاصّة المقوّمة للأعراض النسبيّة ككون الشيء في المكان أو في الزمان أو غير ذلك.»

وبهذا اتّضح: أنّ إنكار الوجود الرابط لا يوجب إنهيار أصل كلام الشيخ الإصفهانيّ؛ إذ غاية ما يلزم لحوق الهليّات المركّبة بباقي أقسام النسب.

154

الربط الكلامي، وكلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على الوجود الرابط الخارجيّ أفاد هو وجهاً ثالثاً في المقام(1)، وهو: أنّ المعنى الاسميّ من قبيل الضرب مثلاً موضوع للطبيعة القابلة الانطباق على أفراد كثيرة وحصص عديدة، فتارةً يقصد إفهام ذات الطبيعة، فيستعمل المفهوم الاسميّ ككلمة الضرب، واُخرى يقصد إفهام حصّة خاصّة من الطبيعة تكون أضيق دائرة في مقام الانطباق على الأفراد والحصص، كخصوص الضرب في الدار الذي لا ينطبق على الضرب في السوق مثلاً، وهذا لا يمكن تفهيمه بنفس كلمة الضرب؛ لأنّ كلمة الضرب وضعت لأصل الطبيعة، فيفهّم ذلك عن طريق تعدّد الدالّ والمدلول، وذلك بتحليل الحصّة إلى أصل الطبيعة وإلى التحصّص، فأصل الطبيعة يدلّ عليه بكلمة الضرب، والتحصّص والضيق يدلّ عليه بكلمة «في»، فيقول: «الضرب في الدار»، فهذا يدلّ على حصّة معيّنة من طبيعة الضرب أضيق دائرة في مقام الصدق والانطباق من أصل مفهوم الضرب، فالحرف موضوع لتحصيص المفهوم الاسميّ وتضييقه وتحديد دائرة قابليّته للانطباق، وليس مفاد الحرف هو مفهوم الضيق، فإنّ مفهوم الضيق يعبّر عنه بالاسم، وإنّما الحرف موضوع لواقع الضيق والمحدوديّة.

هذا حاصل ما أفاده ـ دامت بركاته ـ في الوجه الثالث.

أقول: إنّنا لتمحيص هذا الوجه نقدّم مقدّمة للتوضيح، وهي: أنّه متى ما لوحظ مفهوم مع مفهوم آخر كمفهوم الضرب مع مفهوم الدار، أو مفهوم الإنسان مع مفهوم الحصان، فتارة ننتزع من بينهما نسبة كانتزاع نسبة الظرفيّة بين الضرب والدار،


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 75 فصاعداً بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم، أو ج 43 بحسب طبعة موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 83 فصاعداً، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 18 ـ 19 تحت الخطّ.

155

واُخرى لا ننتزع منهما نسبة. فإن انتزعنا نسبة بينهما، أمكن تحصيص أحد المفهومين إلى ما هو واجد لتلك النسبة وإلى ما ليس واجداً لها، من قبيل تحصيص الضرب إلى ضرب وقع في الدار وضرب لم يقع في الدار، فيكون تحصيص الضرب مثلاً بواسطة أخذ هذه النسبة فيه، حيث إنّه بأخذ هذه النسبة فيه يصبح ضيّقاً؛ لأنّه لا يقبل الانطباق على ما يكون فاقداً لهذه النسبة. وأمّا إن لم ننتزع نسبة بينهما كما لو لاحظنا مفهوم الضرب ومفهوم الدار من دون فرض أيّ نسبة بينهما، من قبيل نسبة الظرفيّة، فيستحيل تضييق أحدهما بالآخر وتحصيصه به، وكذلك مفهوم الإنسان والحصان، فترى أنّ مفهوم الإنسان لا يمكن أن يضيّق ويحصّص بمفهوم الحصان إلاّ بعد انتزاع نسبة بينهما، من قبيل نسبة المعيّة، أو نسبة الاستعلائيّة، أو المالكيّة، أو غير ذلك، فحينما نحصّص ونضيّق مفهوم الإنسان بكونه إنساناً مع الفرس، أو إنساناً على الفرس، أو إنساناً مالكاً للفرس وغير ذلك، فإنّما يكون هذا تضييقاً بلحاظ نسبة من النسب، وتحصيصاً للإنسان إلى ما هو طرف لهذه النسبة وواجد لها وإلى ما هو فاقد لها، فيكون الواجد لها مضيّقاً لا يقبل الانطباق على الفاقد لها، ففي مثل قولنا: «إنسان على الفرس» أو «فراش في الدار» أو نحو ذلك لا يوجد فقط مفهوم الطرفين مع التحصيص والضيق، بل هناك طرفان مع نسبة بينهما، ويكون التحصّص والضيق في طول النسبة، ولو لم تكن هناك أيّ نسبة بينهما، ولم يكن يُوجد عدا التحصّص والضيق، لما أمكن تفسير وجود فرق في المعنى بين قولنا مثلاً: «فراش في الدار» أو «فراش للدار» أو «فراش على الدار»، فإنّ واقع التحصّص والضيق لولا النسب لا تتصوّر له عدا هويّة واحدة يشار إليها بمفهوم اسميّ واحد، وهو التحصّص والضيق، ولكن النسب هي اُمور عديدة يشار إليها بمفاهيم اسميّة عديدة، كالنسبة الظرفيّة والنسبة الاستعلائيّة

156

والنسبة الاختصاصيّة ونحو ذلك، والتحصّص إنّما ينقسم إلى أقسام باعتباره في طول هذه النسب، فهناك تحصّص وضيق ناشئ من طرفيّة الشيء للنسبة الظرفيّة، وهناك تحصّص وضيق ناشئ من طرفيّة الشيء للنسبة الاستعلائيّة ... وما إلى ذلك.

وبعد هذه المقدّمة نقول: ما هو المقصود بقولكم: إنّ الحرف وضع لواقع الضيق؟ فإن كان المقصود هو كون الحرف موضوعاً لما هو منشأ الضيق وملاكه وهو النسبة، فهذا تعبير مسامحيّ عن نفس ما ذكرناه، ويطابق قول المشهور، وليس أمراً جديداً، وإن كان المقصود هو كون الحرف موضوعاً لنفس واقع الضيق والتحصّص، فهذا مطلب جديد، ولكنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّك قدعرفت أنّه لايعقل فرض التحصيص والضيق إلاّ بلحاظ فرض النسبة، فهل يُدّعى أنّ الحرف يدلّ على النسبة أيضاً؟ أو يقال: إنّه يدلّ على الضيق فقط؟

فإن قيل: إنّه يدلّ على الضيق فقط، قلنا: لا يوجد هناك دالّ آخر يدلّ على النسبة والضيق، وتحصيص المفهوم بمفهوم آخر يستحيل أن يأتي بذاته، بل يجب أن يتحقّق بواسطة النسبة. وإن قيل: إنّه يدلّ على النسبة أيضاً قلنا: دلالته على النسبة تكفي، ويكون وضعه للضيق لغواً؛ وذلك لأنّ النسبة بذاتها توجد الضيق قهراً، فالضرب الواجد للنسبة الظرفيّة إلى الدار مثلاً يستحيل قهراً انطباقه على الضرب في السوق، أو أيّ ضرب آخر بلا حاجة إلى فرض وضع الحرف للضيق.

وثانياً: أنّ هناك حروفاً لا يوجد في موردها ضيق للمفهوم بواسطتها، فماذا يصنع السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بمثل تلك الحروف؟! وهذا شاهد لما قلناه من أنّ الحرف ليس موضوعاً للضيق، وإنّما هو موضوع للنسبة. وسنوضّح أنّ بعض الحروف والنسب لا تضيّق ولا تحصّص، فمنها الحرف المتمحّض في العطف، كقولنا: جاء الإنسان والحيوان، فأيّ تحصيص ورد على الإنسان من هذا العطف؟!

157

قد يتصوّر أنّه اُريد بالإنسان الحصّة الخاصّة من الإنسان التي هي مع الحيوان، واُريد بالحيوان الحصّة الخاصّة من الحيوان التي هي مع الإنسان، ولكن ما رأيكم في قولنا: الحرارة والبرودة لا تجتمعان؟ فهل اُريد من الحرارة الحصّة المقترنة للبرودة، ومن البرودة الحصّة المقترنة للحرارة؟! طبعاً لا، بداهة أنّ المقصود: بيان أنّهما لا يقترنان أصلاً، وهذا من أجل أنّ الحرف ليس ابتداءً موضوعاً للتحصيص، بل موضوع للنسبة، والنسبة التي بإزاء حرف العطف لا تحصّص، ومنها أداة الاستثناء كعندي عشرة دراهم إلاّ درهماً، أفهل تحصّص هذه العشرة بالتسعة، مع أنّ التسعة ليست عشرة حتّى يراد تلك الحصّة من العشرة التي هي تسعة؟ فالتحصيص هنا غير معقول، وقولوا نفس الشيء عن حرف الإضراب، كجاء زيد بل عمرو، وحرف التفسير، كهذا عسجد، أي: ذهب، وغير ذلك، وليس كلّ هذا إلاّ لأنّ مفاد الحرف ليس ابتداءً هو التحصيص والضيق، بل مفاده منشأ الضيق، أي: النسبة، والنسبة قد تضيّق وقد لا تضيّق، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. فهذا الوجه لا يمكن تصحيحه إلاّ إذا رجع إلى ما ذكرناه، فيكون نفس مسلك المشهور، وتعبيراً مسامحيّاً عمّا قلناه.

وهناك توجيه دقيق لكلامه دامت بركاته، إلاّ أنّ كلامه لا يفي ببيانه، ولا بإثباته، ولعلّه كان ينظر ارتكازاً إلى ذلك وإن كانت الفكرة غير واضحة ومحدّدة عنده، وهذا التوجيه هو ما نذكره بعنوان:

 

تعميق المسلك الثالث في تصوير المعنى الحرفيّ:

فنقول: إنّ الذي يبدو من ظاهر كلماتهم في بيان هذا المسلك الثالث خصوصاً المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) هو: أنّ النسبة الحرفيّة هي جزء ممّا هو ثابت في الذهن في مثل قولنا: «نار في الموقد» في مقابل ما في الخارج، فكما يوجد في الخارج نار وموقد،

158

وتكون بينهما نسبة، ويكون النار والموقد موجودين في نفسهما والربط مستهلك بينهما، كذلك يوجد في الذهن موازياً لما في الخارج مفهوم النار بإزاء واقع النار الخارجيّ، ومفهوم الموقد بإزاء واقع الموقد الخارجيّ، وربط بين المفهومين بإزاء الربط الخارجيّ. وهذا الربط ليس هو مفهوم الربط، بل حقيقة الربط، ونسبته إلى الربط الخارجيّ نسبة المماثل إلى المماثل، والوجود إلى الوجود مثلاً، ومفهوم النار والموقد موجودان في نفسهما، وهذا الربط موجود لا في نفسه، وليس له تقرّر ماهويّ قبل وجوده.

هذه خلاصة المسلك الثالث، وكأنّه يدّعى فيها: أنّ ما في الذهن مركب من ثلاثة أجزاء، وهي: مفهوم النار، ومفهوم الموقد، والربط بينهما.

إلاّ أنّ الصحيح خلاف هذا. وتوضيح ذلك: أنّه حينما يوجد في الخارج نار في الموقد مثلاً، فهناك اُمور عديدة قد يقال بوجودها في الخارج، منها:

1 ـ النار.

2 ـ الموقد، وهما من الجواهر الموجودة في نفسها.

3 ـ الوجود الرابط الخارجيّ بينهما مثلا وهو موجود لا في نفسه.

4 ـ صفة الظرفيّة للموقد.

5 ـ صفة المظروفيّة للنار، وهما عرضان ومفهومان انتزاعيّان من مقولة الإضافة عندهم، كالاُبوّة والبُنُوّة.

6 ـ ما يدّعونه من وجود هيئة وجوديّة للمكين بلحاظ إحاطة المكان به، وهو مقولة الأين(1).


(1) كان يرى(رحمه الله): أنّ هذه الهيئة المسمّاة بمقولة الأين مجرّد وهم وخيال، وليست أمراً واقعيّاً، وأنّ الظرفيّة والمظروفيّة من اُمور لوح الواقع، لا من موجودات العالم الخارجيّ.

159

وهناك روابط اُخرى في المقام؛ لأنّ كلّ عرض يحتاج إلى رابط بمعروضه، والشيء الموجود لا في نفسه من هذه الاُمور الستّة التي عددناها هو الشيء الثالث.

هذا حال ما في الخارج. وأمّا الذهن حينما يتصوّر ما في الخارج من النار في الموقد فلا إشكال في أنّه لا يحضر في الذهن بنفس هذا التصوّر والحضور مفهوم الظرفيّة، ولا مفهوم المظروفيّة، ولا مفهوم الأين. نعم، بإمكان الذهن أن ينظر نظرة اُخرى غير هذه النظرة إلى ما في الخارج وينتزع منها بمعونة مفهوم النار والموقد هذه المفاهيم الثلاثة، فيقول: الموقد ظرف للنار، والنار مظروفة للموقد ومتّصفة بصفة الأين، إلاّ أنّ هذا كلّه خارج عن تصوّر «نار في الموقد» كما هو واضح، فلم يبق في الذهن من تلك الاُمور الستّة ما عدا الثلاثة الاُولى، فقد يدّعى أنّه يوجد في الذهن موازياً لتلك الاُمور الثلاثة الخارجيّة مفهوم النار ومفهوم الموقد وربط بينهما، فالأوّلان موجودان في أنفسهما، والثالث موجود لا في نفسه.

والصحيح: أنّه لا يوجد في الذهن عند تصوّر «نار في الموقد» مثلاً مفهومان مستقلاّن: أحدهما مفهوم النار والآخر مفهوم الموقد وقد ربط الذهن بينهما، بل يوجد رأساً وجود ذهنيّ واحد في النفس. والبرهان على ذلك: أنّه لو وجد في الذهن عند تصوّر «نار في الموقد» مفهومان مستقلاّن لم يخل الأمر من أحد فرضين:

1 ـ أن لا يوجد رابط بينهما. وهذا لازمه أن يكون المعنى المتصوّر من «نار في الموقد» عين المعنى المتصوّر من «نار، موقد» بلا أيّ فرق في عالم التصوّر. وهذا واضح البطلان.

2 ـ أن يوجد ربط بينهما. وهذا لا يخلو من أحد وجهين:

160

الأوّل: أن يكون الرابط هو مفهوم النسبة والربط. وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ هذا كما مضى مفهوم اسميّ وليس ربطاً.

الثاني: أن يكون الرابط هو واقع النسبة. وهذا لا يخلو من أحد وجهين:

1 ـ أن تكون النسبة الموجودة بينهما هي النسبة الظرفيّة، فهي نسبة مماثلة للربط الخارجيّ، فكما أنّ النار في الخارج مظروف والموقد ظرف وبينهما نسبة ظرفيّة، كذلك مفهوم النار في الذهن مظروف ومفهوم الموقد في الذهن ظرف له وبينهما نسبة ظرفيّة. وهذا أيضاً باطل؛ فإنّ النار الذهنيّة والموقد الذهنيّ وكلّ الصور الذهنيّة هي أعراض، وكلّها من مقولات الكيف، وليس بعضها ظرفاً لبعض، بل هي ليست اُموراً مكانيّة، فإنّها مجرّدة، والمجرّد لا يأخذ مكاناً وحيّزاً.

2 ـ أن تكون النسبة الموجودة بينهما نسبة اُخرى غير النسبة الظرفيّة، من قبيل نسبة الاقتران الزمانيّ، فهذان المفهومان مقترنان زماناً، فإنّ الصور الذهنيّة وإن لم تكن مكانيّة لكنّها زمانيّة، ووجود نسبة من هذا القبيل لا بأس به، ولكن نسبة من هذا القبيل لا تحكي عن النسبة المكانيّة، فلا تكون صورة «نار في الموقد» حاكية عن نار خارجيّة تكون واقعة بحسب الخارج في مكان، وهو الموقد. وهذا أيضاً واضح البطلان.

فإذا بطلت كلّ الشقوق، انحصر الأمر في أن نقول تعميقاً للمسلك الثالث: إنّ هناك وجوداً واحداً في الذهن لماهية «نار في الموقد»، أي: كما أنّنا نحلّل ماهية الإنسان الخارجيّ إلى الحيوان والناطق، من دون أن يشكّل كلّ منهما جزءاً وجوديّاً للإنسان في عالم الخارج، كذلك نحلّل ماهية هذا الوجود الذهنيّ الواحد إلى أجزاء ثلاثة: النار، والموقد، والنسبة بينهما، من دون أن تشكّل هذه الاُمور أجزاء وجوديّة لذلك في عالم الذهن، فالنسبة الحرفيّة جزء تحليليّ للوجود

161

الذهنيّ، وليست ـ كما يتراءى من عبائرهم خصوصاً المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ـ جزءاً وجوديّاً له، فالحرف والاسم يتعاونان معاً في إيجاد وجود واحد، وهو وجود «نار في الموقد» في الذهن. وخير تعبير عرفيّ عن هذا الوجود الواحد هو ما جاء على لسان السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من التعبير بالحصّة، وهذا أحد الفوارق الأساسيّة بين نشأة الذهن ونشأة الخارج. فنشأة الخارج تحتفظ بأمرين مستقلّين، وتربط بينهما ربطاً منسجماً مع الموادّ والأجسام، من قبيل: ربط الظرفيّة أو الاستعلائيّة أو نحو ذلك، وأمّا نشأة الذهن فتأخذ المفهومين، وإذا أرادت الاحتفاظ باستقلالهما استحال عليها إيجاد ربط بينهما مواز لتلك النسب الخارجيّة؛ لأنّ صور تلك الأشياء ليست مادّيّةً وجسماً حتّى تقبل النسب المنسجمة مع الأجسام الخارجيّة، وإنّما هي أعراض ومجرّدات، فلكي تجعلها حاكية عمّا في الخارج توحّد بين المفهومين في الوجود الذهني، وتجعل النسبة الموازية للنسبة الخارجيّة جزءاً تحليليّاً لماهية ذلك الوجود الذهنيّ، فكأنّ الخلط بين النسبة التحليليّة والنسبة الواقعيّة صار منشأً للتشويش. وأظنّ أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إنّما ضرب صفحاً عن رأي المشهور؛ لأنّه فهم منه النسبة الواقعيّة، وأنّ في الذهن ثلاثة أشياء: النار والموقد والنسبة، فالأوّلان مستقلاّن، والثالث مستهلك، وحيث إنّه بارتكازه يرى أنّ الأمر ليس هكذا، فأراد تغيير التعبير، فعبّر بتعبيرات غامضة.

فإن قيل: إنّ بالإمكان مناقشة ما ذكرتموه من البرهان على تحليليّة هذه النسب، كنسبة الظرفيّة في الذهن، وذلك باختيار دعوى إيجاد الربط في الذهن بقيام نسبة واقعيّة مكانيّة، لكن لا بين نفس التصوّرين واللحاظين الذهنيّين للنار والموقد، ليقال: إنّهما وجودان ذهنيّان عرضيّان، ولا يعقل قيام نسبة مكانيّة بينهما،

162

بل بين الملحوظين الذهنيّين.

قلنا: إن اُريد بقيام النسبة بين الملحوظين قيامهما بين الملحوظين بالذات، فمن الواضح أنّ الملحوظ بالذات نفس اللحاظ، وبهذا يرجع إلى قيامها بين نفس اللحاظين. وإن اُريد قيامها بين الملحوظين بالعرض بما هما ملحوظان بالعرض، أي: بالمقدار المطابق لما هو الملحوظ بالذات، فمن الواضح أنّ هذا لا يمكن إلاّ مع أخذ ما يكون قابلاً للحكاية عن تلك النسبة في مرتبة الملحوظ بالذات؛ لأنّ الملحوظ بالعرض لا يرى إلاّ بمنظار الملحوظ بالذات، وقد عرفت سابقاً امتناع ذلك. وإن اُريد قيامها بين الملحوظين بالعرض بذاتيهما، لا بما هما ملحوظان، فهذا صحيح، غير أنّه لا ينفع لإيجاد الربط في عالم الذهن الذي هو المطلوب كما هو واضح.

فإن قيل: إنّنا ندّعي أنّ في الذهن وجوداً لحاظيّاً لماهية النار، ووجوداً لحاظيّاً آخر لماهية الموقد، وكما أنّ كلّ واحد من هذين الوجودين رغم كونه وجوداً لماهية النار أو الموقد بحيث يرينا بالنظر التصوّريّ ناراً وموقداً ليس في الحقيقة وبالنظر التصديقيّ ناراً وموقداً، بل صورة ذهنيّة، كذلك نفرض وجوداً ربطيّاً بين ذينك الوجودين الذهنيّين، وهذا الوجود الربطيّ بالنظر التصوّريّ نسبة مكانيّة، كما أنّ طرفيه بالنظر التصوّريّ نار وموقد، ولا ينافي ذلك أن لا يكون بالنظر التصديقيّ نسبة مكانيّة، كما أنّ طرفيه بالنظر التصديقيّ ليس ناراً أو موقداً.

وبكلمة اُخرى: أنّ قيام ما هو نسبة مكانيّة بالنظر التصديقيّ بين الوجودين الذهنيّين للنار والموقد مستحيل، ولكن قيام ما هو نسبة مكانيّة بالنظر التصوّريّ، بينهما ليس مستحيلاً، وهذا يكفي للحصول على رؤية بالنظر التصوّريّ للنار في الموقد بنحو الارتباط.