283

جعل الشارع هنا الشكّ علماً، ونزّل الاستصحاب منزلة اليقين في كلا قسمي الآثار؟ ولا معنىً لدعوى جريان الإطلاق في المقام؛ لأنّ هذا التنزيل ليس هو المفاد المطابقي للكلام حسب الفرض، وإنّما المفاد المطابقي له هو النهي، والمفروض أنّ النهي جعل كناية، فلا يُدرى أنّه جعل كناية عن تنزيل الشكّ منزلة العلم في كلا قسمي الآثر، أو جعل كناية عن تنزيله منزلته في خصوص الآثار العقلية من التنجيز والتعذير، ولا تعيّن للأوّل في قبال الثاني، ويكفي في كنائيّة النهي الثاني.

وهذا الإشكال - أيضاً ـ يظهر جوابه بالنظر إلى مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) فإنّه(قدس سره) لا يرى أنّ ترتّب التنجيز والتعذير على الاستصحاب أو الأمارة يكون بتنزيلهما منزلة العلم، بل يرى استحالة ذلك؛ لأنّ تنزيل الشارع شيئاً منزلة شيء إنّما يعقل إذا كان آثار الشيء المنزّل عليه من مجعولاته هو، فله أن ينزّل الطواف مثلاً منزلة الصلاة، دون ما إذا كانت آثاره من قبل حاكم آخر، وهو العقل، كما في المقام، فهو(قدس سره) لا يبني على التنزيل في المقام، وإنّما يبني على الاعتبار والفرض، أي: إنّ المولى جعل الاستصحاب أو الأمارة علماً بالاعتبار من دون نظر إلى الآثار. وهذا الشيء الوجداني البسيط، وهو اعتبار الاستصحاب علماً، وفرضه علماً ويقيناً لايعقل تبعّضه، ويترتّب بشكل عفوي وتلقائي كلّ آثار العلم عليه، فبهذا المبنى يرتفع هذا الإشكال - أيضاً ـ وإن كان هذا المبنى - أيضاً ـ غير صحيح، كما شرحناه في محلّه(1).

 


(1) وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الاستصحاب لا يقوم مقام العلم الموضوعي؛ لأنّ قيامه مقام العلم الموضوعي يجب أن يكون بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ إمّا القول بأنّ مفاد الدليل هو تحريم النقض، ومقتضى الإطلاق شمول الحديث لنقض آثار اليقين الطريقي وآثار اليقين الموضوعي معاً.

2 ـ أو القول بأنّ مفاد الحديث هو جعل الطريقية والعلم ولو بلحاظ بعض جهاته. وهذا الجعل إمّا أن يكون بالدلالة المطابقية كما لو فرض السلب في الحديث نفياً لا نهياً، وفرض النقض حقيقياً لا عملياً، أو يكون بالكناية.

3 ـ أو القول بأنّ مفاد الحديث هو التنزيل. وهذا - أيضاً ـ إمّا أن يكون بالكناية، أو بحمل السلب على النفي والنقض على النقض الحقيقي، وتفسير ذلك بالتنزيل.

أمّا الأوّل، فأقلّ ما يرد عليه: أنّه لا ينسجم مع الاستصحابات الترخيصية، كما هو الحال في مورد النصّ، فإنّ استصحاب الطهارة استصحاب ترخيصي.

وأمّا الثاني، فأقلّ ما يرد عليه بطلان المبنى، فإنّ جعل الفرد الاعتباري لا قيمة له ما لم يرجع بروحه إلى التنزيل.

284

 

 

 

جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري:

 

التنبيه الثاني: في جريان الاستصحاب عند الشك التقديري وعدمه. فلو علم بشيء ثمّ غفل عنه، وكان حاله بحيث لو التفت إليه لشكّ، فهو الآن متيقّن بذلك الشيء وإن لم يكن ملتفتاً الى يقينه، فإنّ اليقين قد تركّز في أعماق نفسه. وأمّا الشك فليس موجوداً حتّى بالوجود الارتكازي الإجمالي؛ إذ لم يلتفت أوّلاً ليحصل له الشكّ ثمّ يبقى الشكّ مرتكزاً في أعماق نفسه، وإنّما له شكّ تقديري، أي: لو التفت لشكّ، ففي مثل هذا المورد هل يجري الاستصحاب أو لا؟ قالوا بعدم جريان الاستصحاب، وذكروا لذلك وجهين:

الوجه الأوّل: وجه ثبوتي جاء في كلمات جملة منهم كالمحقّق الخراساني(1) والمحقّق


وأمّا الثالث، فمع فرض الكناية أقلّ ما يرد عليه عدم تماميّة الإطلاق لدى الكناية، والقدر المتيقّن هو قيام الاستصحاب مقام العلم الطريقي، ومع فرض المطابقة وحمل السلب على النفي، والنقض على النقض الحقيقي، أقلّ ما يرد عليه: أنّ حمل السلب في الحديث على النفي خلاف الظاهر.

هذا. وقد مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) الإيراد على الوجه الأوّل، وهو حمل الحديث على إرادة التحريم والتمسّك بإطلاق النقض: بأنّ نقض آثار اليقين الموضوعي نقض لليقين باليقين الناشئ من الشكّ، وليس نقضاً لليقين بالشكّ؛ لأنّ الشكّ أوجب اليقين بزوال موضوع الحكم؛ لأنّ المفروض أنّ موضوع الحكم كان هو اليقين وقد زال قطعاً، ولو جعل للاستصحاب فهذا جعل جديد.

وقد تقول: إنّ هذا الإشكال لا يوجب الفرق بين آثار اليقين الموضوعي واليقين الطريقي؛ لأنّه في مورد اليقين الطريقي أيضاً يمكن أن يقال: إنّ التنجيز أو التعذير قد يكون موضوعه اليقين، ويزول بزواله يقيناً، وإثباته بسبب الاستصحاب إثبات جديد، فإن حمل نقض اليقين بالشكّ على ما يشمل نقض اليقين باليقين الناشئ من الشكّ، فليكن الأمر كذلك بلحاظ اليقين الموضوعي والطريقي معاً.

إلاّ أنّ هذا النقاش إنّما يرد لو فرض تفسير الحديث بنقض آثار ذات اليقين، أمّا لو فرض تفسيره بما يقوله الشيخ النائيني(رحمه الله) من إرادة نقض آثار المتيقّن والذي صحّت نسبته إلى اليقين حقيقة باعتباره هو المحرّك نحو المتيقّن، يكون الفرق بين أثر اليقين الموضوعي وأثر اليقين الطريقي واضحاً، فأثر اليقين الموضوعي لم ينقض لدى الشكّ إلاّ باليقين بزوال الموضوع، ولكن أثر اليقين الطريقي الذي هو في روحه أثر المتيقّن يكون بلحاظ المتيقّن نقضه نقضاً بالشكّ، إذ لا يقين بزوال المتيقّن.

(1) راجع حاشية المحقّق الخراساني(رحمه الله) على فوائد الاُصول: ص 174 ـ 175 بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

285

الإصفهاني(1) والمحقّق النائيني(2)(قدس سرهم)، وهو: أنّ الأحكام الظاهرية إنّما تجعل لكي ينجّز بها الواقع او يعذّر عنه، فإنّما تعقل في مورد قابل للتنجيز والتعذير، فهي غير موجودة عند عدم وصولها إلى المكلف كبرىً أو صغرىً، أو غفلة المكلف عنها كبرىً أو صغرىً؛ لأنّها ليس بالإمكان تأثيرها في التنجيز والتعذير في هذه الموارد، وهذا بخلاف الأحكام الواقعية، فإنّها إبراز لأغراض واقعية ثابتة تكويناً سواء وصلت إلى المكلّف أو لا، وسواء غفل المكلّف عنها أو لا.

أقول: هذا الوجه إنّما تكون له صورة بناءً على مبناهم من كون الأحكام الظاهرية عبارة عن مجرد اعتبارات وجعول لكي يترتّب عليها التنجيز والتعذير، وأمّا على ما حقّقناه في محلّه من أنّها تبرز درجة الاهتمام بالأغراض الواقعية، فتلك الدرجة ـ أيضاً ـ أمر واقعي ثابت سواء وصلت إلى المكلّف أو لا، وسواء غفل المكلّف عنها أو لا، وعلى هذا المبنى لا تبقى صورة لهذا الوجه أصلاً.

الوجه الثاني: ما جاء ـ أيضاً ـ في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله)(3) وغيره(4)، وهو وجه إثباتي، وهو: أنّه قد اُخذ الشكّ في لسان دليل الاستصحاب موضوعاً، وظاهر جعل شيء موضوعاً هو كونه موضوعاً بوجوده الفعلي لا التقديري، فمثلاً قوله:(لا تكرم العالم) لا يشمل شخصاً لم يصبح عالماً، لكنّه لو كان يبقى عشرين سنة في الحوزة العلميّة لكان عالماً مثلاً.

وهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّنا حينما نراجع الصحيحة الاُولى نرى أنّه وإن جاء فيها قوله:«ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» ولو خلّينا نحن وهذه الجملة لما كانت تشمل فرض تقديريّة الشكّ لدى الجمود على حاقّ لفظها، لكنّه:

أوّلاً: قد عطف على هذه الجملة قوله:«ولكن تنقضه بيقين آخر»، وهذا ظاهر في الحصر، أي: إنّ الناقض منحصر في يقين آخر فلا ينقض اليقين بغيره من شكّ فعليّ أو تقديريّ، أو ظنّ فعليّ أو تقديريّ مثلاً، فدائماً يعمل وفق اليقين السابق مالم يحصل اليقين بالخلاف.


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 127 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 317 ـ 318 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 350 ـ 351.

(3) راجع كفاية الاُصول: ج 2، ص 308 حسب الطبعة المشتملة في حاشيته على تعليق المشكيني.

(4) راجع المصادر السابقة من نهاية الدراية وفوائد الاُصول وأجود التقريرات.

286

وثانياً: لا وجه للجمود على حاقّ اللفظ في قوله:«لا ينقض اليقين بالشكّ» فإنّ العرف لا يحتمل كون فعليّة الشكّ دخيلة في عدم النقض، ويرى أنّ مناط عدم النقض هو ما للشكّ من الوهن الثابت فيه من دون فرق بين فرض فعليّته أو تقديريّته، وتقديريّته لا تجعله أقلّ وهناً إن لم نقل إنّ فعليّته تجعله في نظر العرف أقلّ وهناً. إذن فالعرف لا يحتمل أنّ الشكّ لدى فعليّته لا ينقض اليقين السابق، ولدى تقديريّته ينقض.

هذا. وإن تمّ هذا الوجه جرى في سائر روايات الباب أيضاً، على أنّ الوجه الأوّل ـ أيضاً ـ تامّ في صحيحة عبدالله بن سنان التي تمّت عندنا سنداً ودلالةً على الاستصحاب؛ إذ يقول: فيها:«إنّك قد أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه قد نجّسه»، فترى أنّه جعل العبرة بعدمه اليقين بالخلاف، لا بالشكّ المساوق للتردّد المستظهر منه فعليّة الشكّ مثلاً، وكذا الحال في روايات:(كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) و(كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام) بناءً على مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) من تماميّة دلالتها على الاستصحاب، فإنّه ـ أيضاً ـ جعل العبرة فيها بعدم العلم بالخلاف دون الشكّ.

 

ثمرة البحث في جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري:

أمّا الكلام في ثمرة هذا البحث، فقد ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله) وغيره: أنّه تظهر ثمرة البحث في ما إذا كان محدثاً، ثمّ غفل وصلّى، ثمّ التفت.

توضيح الكلام في ذلك: أنّه إذا كان محدثاً ثمّ غفل وصلّى، ثمّ التفت إلى المطلب، واحتمل أنّه من باب الصدفة توضّأ في حالة غفلته، وكان في حال غفلته بنحو لو التفت لشكّ في بقاء الحدث ولم يجزم ببقائه، فهنا هل يحكم بصحّة الصلاة على أساس قاعدة الفراغ، أو لا؟ إن بنينا على عدم جريان الفراغ في موارد كون احتمال الصحّة من باب احتمال الإتيان بالشرط أو الجزء من باب الصدفة، لا في حال الذكر والعمد ـ كما هو الصحيح ـ، فلا إشكال في أنّه لا يحكم بصحّة هذه الصلاة، من دون فرق بين أن يحكم بجريان الاستصحاب لدى الشكّ التقديري وعدمه، ولا يبقى موضوع لهذه الثمرة، وإنّما تفرض في موضوع هذه الثمرة دعوى جريان قاعدة الفراغ حتّى عند إحتمال الصحّة من باب الصدفة، ومن دون فرض الأذكريّة، وعندئذ نقول: لو لم نقبل الاستصحاب عند الشكّ التقديري صحّت الصلاة بقاعدة الفراغ؛ إذ لا يعارضه لا الاستصحاب في حال الصلاة، لعدم جريانه فيها، لكون الشكّ تقديرياً، ولا الاستصحاب بعد الصلاة، لتقدّم قاعدة الفراغ عليه، ولو قبلنا الاستصحاب عند الشكّ

287

التقديري لم تصحّ الصلاة، ولم تجرِ قاعدة الفراغ بعد الصلاة؛ لأنّ الصلاة كانت محكومة في حين الإتيان بها بالبطلان بحكم استصحاب الحدث، وقد اُخذ في موضوع قاعدة الفراغ عدم كون العمل في حين الإتيان به محكوماً بالبطلان، فيرتفع موضوعها بالاستصحاب حال الصلاة، ولذا لا يشكّ أحد في عدم جريان قاعدة الفراغ لو كان شكّه في بقاء الحدث حين الصلاة فعلياً.

وهذا البيان بهذا الترتيب يرد عليه: أنّه لا يوجد أيّ دليل على أخذ هذا القيد ـ أعني: قيد عدم كون العمل حين الإتيان به محكوماً بالبطلان في موضوع قاعدة الفراغ ـ وإنّما نشأ هذا التوهّم من ناحية الالتفات إلى ما أشرنا إليه من الفرع، وهو ما لو كان شاكّاً بالفعل حين الصلاة في بقاء الحدث حيث لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرض، ولكن التحقيق: أنّ عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرض ليس لأجل أخذ هذا القيد في موضوع قاعدة الفراغ، بل لأجل اشتراط كون الشكّ حادثاً بعد العمل كما يظهر من قوله:«كلّما مضى من عملك فامضه كما هو» أو «كلّما شككت في شيء وقد جزته فامضه كما هو»، وهذا الشرط غير موجود في هذا الفرض، وموجود فيما نحن فيه، ولو اُريد أن يؤخذ قيد زائد في موضوع قاعدة الفراغ فليؤخذ قيد أن لا يكون العمل حين العمل باطلاً في نظر العامل، وواصلاً إليه الحكم بالبطلان، وهذا القيد موجود في ما نحن فيه. وعليه، فقاعدة الفراغ في نفسها جارية، ولا يرفع موضوعها الاستصحاب الجاري في حال الصلاة بناءً على جريان الاستصحاب لدى الشكّ التقديري.

وعندئذ يقع الكلام في أنّه هل نأخذ بقاعدة الفراغ ونحكم بصحّة الصلاة، أو أنّه لا يمكن الأخذ بها لابتلائها بالمعارض، وهو الاستصحاب؟ قد يقال: إنّنا نأخذ بقاعدة الفراغ، ولا معارض لها؛ إذ لا يعارضها الاستصحاب لا بوجوده الحدوثي، أي: بوجوده حين الصلاة، ولا بوجوده البقائي، أي: بوجوده بعد الصلاة. أمّا الثاني فواضح، فإنّنا قد اتّفقنا على تقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب الذي يجري في عرضها. وأمّا الأوّل فلأنّ وجود الاستصحاب حين الصلاة ليس معارضاً لجريان القاعدة بعد الصلاة؛ إذ هما حكمان ظاهريان مختلفان واقعان في زمانين، لا في زمان واحد، فلا منافاة بينهما، وهما نظير ما لو كان الشخص في حين صلاته يقلّد من يحكم ببطلان هذه الصلاة، ثمّ بعد الصلاة مات مقلَّده وكانت الوظيفة الرجوع إلى الحيّ، فقلّد من يحكم بصحّة تلك الصلاة.

إلاّ أنّ التحقيق وجود المنافاة بين الاستصحاب بوجوده الحدوثي وقاعدة الفراغ؛ وذلك

288

لأنّ التفكيك بين الوجود الحدوثي لهذا الاستصحاب والوجود البقائي له غير ممكن؛ لأنّ مقتضى هذا التفكيك اختصاص هذا الحكم الظاهري الاستصحابي بصورة الغفلة، وأنّه بمجرّد الالتفات يرتفع، وجعل هذا الحكم إمّا غير عقليّ أو غير عقلائي(1). إذن فهناك ملازمة بين الوجود الحدوثي للاستصحاب والجود البقائي له في المقام، وبما أنّ قاعدة الفراغ تنافي الوجود البقائي للاستصحاب تنافي لا محالة وجوده الحدوثي؛ فإنّ ما ينافي أحد المتلازمين ينافي الآخر قهراً.

وعندئذ هل نقول بتقدّم قاعدة الفراغ على الاستصحاب حال الصلاة كما نقول بتقدّمها على الاستصحاب بعد الصلاة، أو لا نقول بالتقدّم، فيتعارضان ويتساقطان؟ هذا يختلف باختلاف المبنى في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب بعد الصلاة، فإن كان الوجه في ذلك كون القاعدة رافعة للشكّ؛ لكونها أمارة، فترفع موضوع الاستصحاب، وتحكم عليه، لم تتقدّم القاعدة على الوجود الحدوثي للاستصحاب؛ لأنّها إنّما ترفع الشكّ من حين وجودها، وهو ما بعد الصلاة، لا من حين الصلاة. نعم، حيث إنها ترفع موضوع الاستصحاب بعد الصلاة تدلّ بالملازمة على عدم الاستصحاب حين الصلاة؛ لما عرفت من الملازمة بين الوجود الحدوثي للاستصحاب ووجوده البقائي، لكنّ الاستصحاب حين الصلاة ـ أيضاً ـ يدلّ بالملازمة على عدم قاعدة الفراغ وهذا معنى التعارض.

ولا يقال: إنّ قاعدة الفراغ باعتبارها أمارة تحكم مداليلها الالتزامية ـ أيضاً ـ على أصل يعارضها في مورد المداليل الالتزامية.

فإنّه يقال: إنّ قاعدة الفراغ ليست من الأمارات التي تثبت مداليلها الالتزامية، فمثلاً من شكّ بعد الصلاة في أنّه توضّأ أو لا يُجري قاعدة الفراغ، لكنّه لا يبني على ما هو لازم ذلك من عدم لزوم التوضّئ للصلوات الاُخرى. نعم، دليل قاعدة الفراغ أمارة تكون مثبتاتها


(1) قد تقول: إنّ لغوية الاستصحاب بوجوده الحدوثي لولا حجّيّته بقاءً لا تثبت حجّيّته بقاءً دفعاً للغويّة، فإنّ قاعدة صون كلام الحكيم عن اللغوية إنّما تجري في أصل مفاد الكلام، لا في الإطلاق؛ لأنّ تكوّن الإطلاق مشروط بعدم اللغوية، فإذا اُلغي في مورد مّا لم ينعقد، لا أنّه ينعقد ويثبت به ما لولاه لكان الإطلاق لغواً.

والجواب: أنّ الكلام في المقام لم يكن في انعقاد الإطلاق وعدمه كي يرد هذا الإشكال؛ فإنّ الإطلاق في دليل الاستصحاب في حدّ ذاته منعقد في المقام، ومثبت لحجّيّة الاستصحاب بحصّته الحدوثية والبقائية، ولا لغويّة في ذلك، وإنّما الكلام يكون في أنّ قاعدة الفراغ التي ثبتت بدليل منفصل لا بدليل متّصل، فلا توجب هدم الإطلاق لو منعت عن الحصّة البقائية للاستصحاب لا متنعت الحصّة الحدوثية أيضاً؛ لأنّ وجودها بلا بقاء لغو، فالتنافي سار إلى الحصّة الحدوثية.

289

حجّة، لكنّها لا ترفع موضوع جريان الاستصحاب حين الصلاة، وهو الشكّ في الطهارة حتّى تحكم عليه، وإنّما ترفع الشكّ في حجّيّة الاستصحاب، وتبدّله إلى العلم التعبّدي بعدم الاستصحاب مثلاً، كما أنّ دليل الاستصحاب أمارة توجب العلم التعبّدي بعدم قاعدة الفراغ، ويتعارضان.

وإن كان الوجه في تقدّم القاعدة على الاستصحاب هو الأخصّية أو ما بحكمها ـ وهو الصحيح ـ، فالقاعدة تقدّم هنا على الاستصحاب بوجوده المستمرّ، فإنّ المفروض أنّ دليلها أخصّ من دليل الاستصحاب، وخصص به الاستصحاب، فيرفع اليد عن هذا الاستصحاب بلا فرق بين حالة حدوثه وحالة بقائه، وعندئذ ترتفع الثمرة من البين؛ إذ على أيّ حال تصحّ الصلاة بقاعدة الفراغ سواء قلنا بجريان الاستصحاب عند الشكّ التعليقي أو لا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) ذكر هنا فرعاً آخر، وهو: أنّه لو كان عالماً بالطهارة ثمّ شكّ في بقاء الطهارة، ثمّ غفل وصلّى، وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّه قبل الصلاة قد تواردت عليه حالتان: الطهارة والحدث، فبناءً على أنّ الاستصحاب يجري في موارد الشكّ التقديري تصحّ صلاته؛ لأنّه كان في حال الصلاة متطهّراً بالطهارة الظاهريّة، وبناءً على عدم جريانه لا تصحّ الصلاة لعدم ثبوت الطهارة له في الصلاة، لا واقعاً ولا ظاهراً(1).

وإنّما فرض(قدس سره) أنّه شكّ أوّلاً في الطهارة ثمّ غفل، ولم يفرض الغفلة رأساً كي لا تكون الصلاة مورداً لقاعدة الفراغ، وتصحّ على كلّ حال(2)؛ إذ مع فرض الغفلة رأساً يكون شكّه شكاً حادثاً بعد الصلاة، فتجري فيه قاعدة الفراغ، وأمّا إذا كان شاكّاً أوّلاً ثمّ غفل، ثمّ شكّ، فهذا الشكّ هو نفس الشكّ الحادث قبل الصلاة، والعرف لا يرى استحالة إعادة المعدوم.

وإنّما فرض(قدس سره) حصول العلم بعد الصلاة بتوارد الحالتين، لا بأنّه كان محدثاً؛ لأنّه لو علم بعد الصلاة بأنّه كان محدثاً لم يكن هناك موضوع لتوهّم كفاية ما كان له عند الصلاة من استصحاب الطهارة؛ لأنّ الاستصحاب ليس إلاّ حكماً طريقياً، وقد انكشف خلافه، والطهارة عن الحدث شرط واقعي. وهذا بخلاف فرض العلم بتوارد الحالتين، فإنّ هذا الحكم الطريقي لم ينكشف عندئذ خلافه بعد الصلاة.

إلاّ أنّك ترى ـ بغضّ النظر عن مسألة: أنّ الشكّ عند طروّ الغفلة هل يعتبر تقديرياً أو


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 17.

(2) بعد فرض البناء على عدم اشتراط قاعدة الفراغ بالأذكرية.

290

فعلياً ـ أنّ استصحاب الطهارة في حال الصلاة لا يفيدنا حتّى في هذا الفرض الذي فرضه المحقّق العراقي؛ لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب قد انقطع بعد الصلاة بحصول العلم بتوارد الحالتين، والاستصحاب إنّما يؤمّن ما دام موجوداً، وبعد زواله يزول معه التأمين، فلا يؤمّنه من عدم الإعادة(1).

ثمّ إنّنا بهذه المناسبة نتكلّم في صور العلم بالطهارة أو الحدث مع الشكّ الفعليّ أو التقديريّ، لكي نرى حال الصلاة في هذه الفروض في ضوء تطبيق ما عندنا من اُمور أربعة، اثنان منها مؤمِّنان، وهما استصحاب الطهارة وقاعدة الفراغ، واثنان منها منجِّزان، وهما استصحاب النجاسة وأصالة الاشتغال، ونلحظ في جانب الاستصحاب الشرط الذي يذكرونه من كون الشكّ فعلياً لا تقديرياً، لنرى أنّه هل تختلف النتيجة لدى الاعتراف بهذا الشرط وعدمه أو لا؟ كما نلحظ ـ أيضاً ـ في جانب قاعدة الفراغ ما يُذكر من شروط ثلاثة:

(1) كون الشكّ حادثاً بعد انتهاء الصلاة، لا حادثاً قبل ذلك.


(1) قد تقول: إنْ صحّ ما مضى من الملازمة بين الحصّة الحدوثية للاستصحاب والحصّة البقائية؛ لكون اختصاص الاستصحاب بحالة الغفلة موجباً للغويّته عقلاً أو عقلائياً، قلنا هنا أيضاً: إنّ الحصّة الحدوثية للاستصحاب تثبت الأمن بعد زوال الغفلة؛ إذ لولا ذلك للغت الحصّة الحدوثية.

وقد يقال: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الاستصحاب غير جار في ذاته في مورد توارد الحالتين. أمّا لو قلنا بأنّه جار في ذاته في مورد توارد الحالتين، ولكنّه ساقط بتعارض الاستصحابين، فهذا الكلام لا يتمّ ؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث يعارض استصحاب بقاء الطهارة حتّى بحصّته الحدوثية بعد فرض الملازمة بين حصّته الحدوثية والبقائية، فتسقط الحصّتان بمعارضته إيّاهما، ولا يبقى تأمين بعد زوال الغفلة.

ولكنّ الواقع، أنّ هذا الإشكال غير وارد في ذاته سواءً قلنا: إنّ مورد تعارض الحالتين مورد لتعارض الاستصحابين، أو قلنا: إنّه ليس مورداً للاستصحاب أصلاً؛ وذلك لأنّنا إنّما استفدنا في ما مضى من الملازمة بين الحصّة الحدوثية والبقائية من باب أنّ دليل الاستصحاب كان شاملاً في ذاته للاستصحاب المطلوب بكلتا حصّتيه: الحدوثية والبقائية من دون لغوية، ولم نكن نقصد إثبات الإطلاق بقانون صون كلام الحكيم عن اللغوية، فقلنا عندئذ: لو كانت القاعدة معارضة للحصّة البقائية للاستصحاب إذن هي معارضة للحصّة الحدوثية أيضاً، واستفدنا هذه المعارضة ممّا قلناه من الملازمة بين الحصّتين. أمّا في المقام فالمدّعى: أنّ دليل الاستصحاب لا يشمل في ذاته ـ وبقطع النظر عن معارض منفصل ـ الحصّة البقائية التي علم المكلّف في زمانها بتوارد الحالتين: إمّا لأجل تعارض الاستصحابين وتساقطهما، وإمّا بدعوى: أنّ مورد توارد الحالتين ليس مشمولاً في ذاته لدليل الاستصحاب، فإذا بطل الاستصحاب بحصّته البقائية كان الاستصحاب بحصّته الحدوثية لغواً. وهذا يعني بطلان الإطلاق لدليل الاستصحاب حتّى بلحاظ الحصّة الحدوثية. وهذا ـ كما ترى ـ ليس بحثاً عن سقوط الإطلاق بمعارض منفصل، بل هو بحث عن عدم انعقاد الإطلاق من أوّل الأمر، وقد مضى: أنه ليس بالإمكان إثبات الإطلاق وإثبات ما يتوقّف عليه عدم لغويته بلزوم اللغوية لولاه، فكم فرق بين الموردين.

291

(2) كونه في وقت العمل أحسن حالاً منه بعد العمل. وهذا ما يعبّر عنه بالأذكرية.

(3) عدم كون صلاته في حال العمل محكومة بالبطلان، إمّا بمعنى الحكم الشرعي بالبطلان، وإمّا بمعنىً يشمل حتّى الأصل العقليّ المنجِّز، أي: أصالة الاشتغال.

والشرطان الأوّلان صحيحان عندنا، والشرط الثالث غير صحيح عندنا.

هذا. والفروع في المقام تسعة إذ:

1 ـ تارة نفرض كونه قبل الصلاة عالماً بالطهارة. وهذا الفرض يشمل ثلاثة من تلك الفروع:

الأوّل: أن يعلم بالطهارة ثمّ يشكّ في بقائها، ويصلي في حال الشكّ. وهنا لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ؛ لانتفاء الشرط الأوّل، وهو تأخّر حدوث الشكّ، وانتفاء الشرط الثاني، وهو كونه حال الصلاة أحسن حالاً منه بعدها؛ لأنّه في كلا الحالين كان شاكّاً. نعم، الشرط الثالث موجود في المقام. وأمّا استصحاب الطهارة فيجري بعد الصلاة إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين، وإلاّ فلا يجري. وأمّا جريانه في حال الصلاة لعدم اشتراط الشكّ الفعليّ، وعدم جريانه، فلا أثر له؛ إذ العبرة بثبوت الاستصحاب بعد الصلاة وعدمه، فإن ثبت بعد الصلاة كما هو الحال عند عدم العلم بعد الصلاة بحصول توارد الحالتين قبل الصلاة كفى في الحكم بعدم الإعادة والقضاء، بلا حاجة إلى الاستصحاب في حال الصلاة، وإن لم يثبت بعد الصلاة كما في فرض العلم بتوارد الحالتين، فالاستصحاب بعد الصلاة لا يفيدنا؛ لأنّه حينما انقطع بعد الصلاة انقطع معه تأمينه، وعندئذ إن كان في الوقت وجبت عليه الإعادة؛ لأصالة الاشتغال، وإن كان في خارج الوقت لم يجب عليه القضاء؛ لأنّ القضاء بأمر جديد بعنوان من فاتته الصلاة فليقضِ، ولم يثبت ذلك.

الثاني: أن يعلم بالطهارة، ثمّ يغفل ويصلّي، ويكون بحيث لو التفت لشكّ، ثمّ يلتفت ويشكّ، وعندئذ لا تجري قاعدة الفراغ لفقدان الشرط الثاني، ويجري الاستصحاب بعد الصلاة إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين، وإلاّ لم يجرِ الاستصحاب أيضاً، ولا ثمرة في تحقيق حال الاستصحاب في حال الصلاة.

الثالث: أن يعلم بالطهارة ثمّ يشكّ، ثمّ يغفل ويصلّي، ثمّ يلتفت ويشكّ. وهنا لا تجري قاعدة الفراغ؛ لانتفاء الشرط الثاني، وهو الأذكرية، بل وانتفاء الشرط الأوّل، وهو حدوث الشكّ بعد الصلاة؛ لأنّ الشكّ الثابت بعد الصلاة يُرى متّحداً مع الشك الثابت قبل الصلاة، ولو فرض كون الغفلة عنه توجب زواله، فإنّ العرف يقول هنا بإعادة المعدوم. وأمّا

292

استصحاب الطهارة فيجري بعد الصلاة إذا لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين، وإلاّ فلا يجري، ولا ثمرة للاستصحاب حال الصلاة.

2 ـ واُخرى نفرض كونه قبل الصلاة عالماً بالحدث. وهذا ـ أيضاً ـ يشمل ثلاثة من تلك الفروع:

الأوّل: أن يعلم بالحدث ثمّ يشكّ في بقائه، ويصلّي. وهنا لا تجري قاعدة الفراغ؛ لانتفاء شروطها الثلاثة، ولا استصحاب الطهارة؛ لعدم كون الحالة السابقة هي الطهارة، ويجري استصحاب الحدث فتجب عليه الإعادة أو القضاء إن لم يحصل له العلم بتوارد الحالتين. وأمّا إن حصل له العلم بتوارد الحالتين فلا يجري استصحاب الحدث، فإن كان ذلك في الوقت وجبت عليه الإعادة؛ لأصالة الاشتغال، وإن كان في خارج الوقت لم يجب عليه القضاء.

الثاني: أن يعلم بالحدث ثمّ يغفل، ويصلّي، ثمّ يلتفت ويحصل له الشكّ، والمفروض كونه في حال الغفلة بحيث لو التفت لشكّ. وهذا هو ما جعلوه مورداً للثمرة، فقالوا: لو اكتفينا بالشكّ التقديري بطلت صلاته؛ لجريان استصحاب الحدث حال الصلاة، ولا تجري قاعدة الفراغ؛ لإنتفاء الشرط الثالث، وإلاّ صحّت صلاته بقاعدة الفراغ. وقد عرفت أنّ الشرط الثالث غير صحيح. وعندئذ إن التزامنا بالشرط الثاني فقاعدة الفراغ غير جارية مطلقاً؛ لفقدانه هنا، ولا تظهر الثمرة. وإن لم نلتزم بالشرط الثاني فقاعدة الفراغ جارية، ومضى بيان النسبة بينها وبين الاستصحاب، وقلنا إنّها تقدّم على الاستصحاب على كلّ حال بملاك الأخصّية أو ما بحكم الأخصّية.

الثالث: أن يعلم بالحدث ثمّ يشكّ في بقائه، ثمّ يغفل ويصلّي، ثمّ يلتفت، ـ وقد فُرِض في المقام أنّه لا يحتمل صدور الوضوء منه حال الغفلة ـ وذهب الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) هنا إلى أنّه لا معنى لجريان قاعدة الفراغ على كلّ حال، ويحكم ببطلان صلاته؛ إذ المفروض أنّه بعد زوال الشكّ بالغفلة لم يتطهّر. إذن فيقطع بأنّه قد صلّى مع الحدث الاستصحابي، لفرض القطع بعدم مجيء الرافع لما حصل له عند الشكّ من الحدث الاستصحابي.

نعم، لو احتمل الوضوء في حال الغفلة لم يجرِ هذا الكلام.


(1) راجع فرائد الاُصول: ص 321 بحسب طبعة مكتبة المصطفوي المشتملة في حاشيتها على تعليقات رحمة الله.

293

وأشكل عليه جملة من المتأخّرين عنه، ومنهم السيّد الاُستاذ(1)، بأنّ الحدث الاستصحابي قد زال بزوال موضوعه، وهو الشكّ، فإنّ الشكّ لم يكن أحد الأحداث كالنوم والبول حتّى لا يزول أثره إلاّ بطروّ رافع للحدث، وإنّما الشكّ يوجب الحكم الظاهري بالحدث، ويزول هذا الحكم بارتفاع موضوعه.

وتحقيق الكلام في المقام ـ بعد الاعتراف بورود هذا الإشكال على الشيخ الأعظم(رحمه الله) ـ هو: أنّ الشكّ كالعلم والظنّ ونحوه لا يزول بمجرّد عدم الالتفات إليه وحصول الغفلة عنه، وإنّما يبقى مترسّباً في الأعماق، ويكون مستمرّاً: إمّا دقّةً وعرفاً، وإمّا عرفاً فقط ـ على أقلّ تقدير ـ، فهذه المسألة لا ترتبط أصلاً بمسألة الشكّ التقديري، وكان الشكّ في حال الصلاة فعلياً، وعندئذ إن كان المدرك لعدم جريان الاستصحاب في موارد الشك التقديري هو المحذور الإثباتي، وهو الذي ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) وغيره، فهذا المدرك غير موجود هنا؛ لثبوت الشكّ فعلاً، فيشمله دليل الاستصحاب المفروض أنّه اُخذ في موضوعه الشكّ الفعلي. نعم، إن كان المدرك لعدم جريان الاستصحاب في موارد الشكّ التقديري ما أضافه بعض المتأخّرين من الإشكال الثبوتي، وهو عدم قابلية المورد للتنجيز والتعذير، فهذا الإشكال يأتي هنا أيضاً؛ إذ مع الغفلة لا يمكن التنجيز والتعذير، ومجرد وجود الشكّ في أعماق النفس دون التفات إليه لا يكفي لإمكان التنجيز والتعذير. ولكن ـ على أيّ حال ـ لا أثر لاستصحاب الحدث حال الصلاة، وإنّمايجب أن نرى أنّه هل تجري بعد الصلاة قاعدة الفراغ، فتقدّم على الاستصحاب على كلّ حال، أو لا تجري كما هو الحقّ؛ لفقدان الشرط الأوّل والثاني، وكذا الثالث بناءً على جريان استصحاب النجاسة هنا في حال الصلاة، فيجري عندئذ إستصحاب النجاسة بعد الصلاة، وهو يكفي للحكم بالبطلان، إلاّ إذا حصل العلم بتوارد الحالتين، فلا يجري الاستصحاب، ولا يفيد ثبوت الاستصحاب حال الصلاة؛ لأنّه حينما انقطع بعد الصلاة انقطع معه تنجيزه، وعندئذ لو كان في الوقت وجبت عليه الإعادة، ولو كان في خارج الوقت لم يجب عليه القضاء.

3 ـ وثالثة نفرض كونه قبل الصلاة عالماً بالطهارة والحدث معاً، وحينما برز منه الشكّ تردّد بين المقدّم منهما والمؤخّر، وهذا ـ أيضاً ـ يجمع ثلاثة فروع:

الأوّل: أن يعلم في وقت بالطهارة وفي وقت آخر بالحدث ـ بلا فرق بين المقدّم منهما


(1) راجع مصباح الاُصول للسيّد سرور: ج 3، ص 93 ـ 94 بحسب طبعة مطبعة النجف.

294

والمؤخّر ـ، ثمّ يشكّ في التقدّم والتأخّر، ويصلّي في حال الشكّ. وهنا لا تجري قاعدة الفراغ؛ لفقدان الشرط الأوّل والثاني، وأمّا الثالث فهو - أيضاً ـ مفقود لو أردنا من الحكم بالبطلان في الشرط الثالث ما يشمل أصالة الاشتغال، وإلاّ فلا، كما لا يجري ـ أيضاً ـ الاستصحاب؛ لأنّه من باب توارد الحالتين الذي لا يجري فيه الاستصحاب، إمّا في نفسه أو للمعارضة، فتصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال.

الثاني: أن يعلم في وقت بالطهارة وفي وقت بالحدث، ثمّ يدخل رأساً في حالة الغفلة، لكنّه يكون بحيث لو التفت لشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر، وصلّى ثمّ التفت، فشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر. وهنا الشرط الأوّل لقاعدة الفراغ موجود؛ لعدم سبق الشكّ. والشرط الثالث ـ أيضاً ـ موجود؛ إذ لا حكم بالبطلان في حال الصلاة، لا عقلاً بمعنى قاعدة الاشتغال؛ إذ المفروض كونه غافلاً، ولا شرعاً بمعنى استصحاب الحدث، فإنّ استصحاب الحدث ـ بناءً على جريانه عند الشكّ التقديري ـ يكون هنا غير جار. إمّا في نفسه وإمّا للمعارضة؛ لأنّ المورد من موارد توارد الحالتين، أي: إنّ الشكّ التقديري في المقام يكون بنحو لو صار فعلياً لكان شكّاً في باب توارد الحالتين، ولكن الشرط الثاني وهو الأذكرية غير موجود، فجريان قاعدة الفراغ وعدمه هنا فرع الالتزام بالشرط الثاني وعدمه، فعلى الأوّل لا يجري، وعلى الثاني يجري. وأمّا الاستصحاب فلا يجري لتوارد الحالتين.

الثالث: أن يحصل له أوّلاً العلم بتوارد الحالتين والشكّ في المقدّم منهما والمؤخّر، ثمّ يغفل ويصلّي، ثمّ يلتفت. وهنا لا تجري قاعدة الفراغ لفقدان الشرط الأوّل والثاني، ولا الاستصحاب لكون المورد من موارد توارد الحالتين، فتصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال لو التفت في الوقت، والبراءة لو التفت خارج الوقت(1).

بقي في المقام شيء وهو: أنّنا لو فرضنا في مورد مّا الحكم الظاهري موضوعاً بوجوده الواقعي، لا بوجوده الواصل لأثر شرعي ظهرت الثمرة للبحث، حيث إنّ الاستصحاب لو كان ثابتاً في مورد الشكّ التقديري كفى ذلك في ثبوت ذاك الأثر الشرعي، وإن لم يصل ذاك الاستصحاب إلى المكلّف ما دام غافلاً، وذلك يكون لدى فرض وجود أثر للمستصحب، أو


(1) إجراء البراءة في خارج الوقت يناسب الفرع السابق بعد فرض عدم جريان قاعدة الفراغ ولا الاستصحاب، ويناسب ـ أيضاً ـ هذا الفرع فيما إذا افترضنا أنّ الغفلة كانت مستوعبة لتمام الوقت ثمّ انتبه بعد نهاية الوقت. أمّا إذا فرضنا أنّه في أوّل الوقت كان منتبهاً ثمّ غفل فصلّى ثمّ التفت بعد الوقت، فلا مجال للبراءة؛ لأنّه تنجّز عليه في أوّل الوقت أن يصلّي بوضوء جديد لو لم يتذكّر تأخر الطهارة عن الحدث، ولم يفعل ذلك، فعليه القضاء.

295

الإيمان بكفاية أثر الاستصحاب في جريانه رغم عدم الأثر للمستصحب.

ويمكن أن يذكر كمثال لهذه الثمرة استصحاب الطهارة الخبثية بناءً على كونها موضوعاً بوجودها الواقعي لصحّة الصلاة، فلو تيقّن أحد بطهارة ثوبه ثمّ غفل وكان بحيث لو التفت لشكّ في بقاء طهارته، وصلّى في ذلك الثوب، ثمّ حصل له العلم بعد الصلاة بأنّ ثوبه كان نجساً، فأثر هذا الاستصحاب رغم عدم وصوله حال الصلاة وانتهاء أمده بعد الصلاة أنّه يحكم بصحّة صلاته؛ لأنّها وقعت في ثوب محكوم بالطهارة الظاهرية، وقد فرضنا أنّ الطهارة الظاهرية موضوع للصحّة الواقعية حتّى لدى فرض عدم وصولها.

إلاّ أنّ الواقع: أنّ هذه الثمرة ثمرة فرضيّة لا واقع لها في الفقه. وهذا المثال الذي ذكرناه ليس واقعياً؛ لأنّ الطهارة الظاهرية ليست هي المصحّحة للصلاة، بل عدم العلم بالنجاسة كاف في صحّة الصلاة سواءً فرض جريان استصحاب الطهارة، أو لا.

هذا تمام الكلام في كفاية الشكّ التقديري في جريان الاستصحاب وعدمه.

 

جريان الاستصحاب مع اليقين التقديري

وهنا ننتقل الى الركن الآخر للاستصحاب وهو اليقين لنرى هل المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعليّ، أو الجامع بين اليقين الفعليّ والتقديريّ. وهنا يوجد بحثان:

الأوّل: في أصل كون اليقين مأخوذاً في موضوع الاستصحاب وعدمه.

والثاني: ما تصل النوبة إليه لو سلّم في البحث الأوّل كون اليقين مأخوذاً في موضوع الاستصحاب، وهو ما ذكرناه من أنّه هل الموضوع هو اليقين الفعلي، أو الجامع بين اليقين الفعليّ والتقديريّ.

أمّا البحث الأوّل، فهو يختلف باختلاف روايات الاستصحاب، فلو اقتصرنا على مثل الصحيحة الاُولى ممّا عبّر فيه بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ، فقد اُخذ في ذلك اليقين، وحمله على مجرّد الطريقية، وأنّ المقصود هو نفس الحالة السابقة خلاف الظاهر؛ فإنّ الظاهر من أخذ كلّ شيء في لسان الدليل هو دخل ذات ذلك الشيء في الحكم، ولكن لو بنينا على ما بنى عليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) من دلالة أخبار أصالة الحلّ والطهارة ـ أيضاً ـ على الاستصحاب، ففي تلك الأخبار لم يؤخذ اليقين السابق، وإنّما اُخذت الحالة السابقة وهي الحلّية، أو الطهارة، وكذلك لو بنينا على ما هو الصحيح من تمامية الاستدلال بصحيحة عبدالله بن سنان التي تقول:«لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه» فإنّه لم

296

يؤخذ في هذا الحديث اليقين السابق، وإنّما اُخذ فيه الحالة السابقة(1) وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد تكرار وتوضيح لهذا البحث في التنبيه الثالث.

وأمّا البحث الثاني، فبعد فرض الاقتصار في مقام الاستدلال على الاستصحاب بالأخبار التي جاء فيها التعبير بنقض اليقين بالشكّ نقول لا محالة: أنّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي؛ لأنّ كلّ عنوان اُخذ في موضوع لسان دليل يكون ظاهراً في الفعلية، ويكون فانياً في المصاديق الفعلية دون التقديرية، فلو قال المولى مثلاً: أكرم العالم، فهذا لا يشمل من لا يكون عالماً، ولكنه لو كان درس عشرين سنة لأصبح عالماً.

 

 


(1) قلت له(رحمه الله): إنّ كلا قسمي الروايات تشير إلى القاعدة الارتكازية، والقاعدة الارتكازية موضوعها إمّا أن يكون هو اليقين، أو نفس الحالة السابقة، فتقع المعارضة بين الطائفتين.

فأجاب(رحمه الله) بأنّ الارتكاز هنا ليس محدّداً بهذا النحو، فالارتكاز في فرض اليقين السابق والاستصحاب في فرض الحالة السابقة كلاهما يدخلان ـ بوجه من الوجوه ـ في الارتكاز ولو مع فرض الاختلاف في درجة الارتكاز.

وقلت له(رحمه الله): إنّ هذه القاعدة المجعولة شرعاً وهي الاستصحاب موضوعها إمّا أن يكون هو اليقين، أو نفس الحالة السابقة، فيقع التعارض بين الطائفتين.

فأجاب(رحمه الله) بأنّنا لا نقطع بوحدة الحكم في المقام حتّى يقع التعارض.

297

 

 

 

جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة

بغير اليقين:

 

التنبيه الثالث: في جريان الاستصحاب فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بأمارة أو أصل، وعدمه، ويقع الكلام في مقامين:

 

جريان الاستصحاب عند ثبوت الحالة السابقة بالأمارة

المقام الأوّل: فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بأمارة.

ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله): أنّ الإشكال إنّما يتصوّر وروده بصورة بدائية بناءً على كون المجعول في باب الأمارات هو التنجيز والتعذير. وأمّا بناءً على كون المجعول فيها هو الحكم الظاهري المماثل فلا مجال للإشكال رأساً؛ إذ بالإمكان إجراء استصحاب الحكم الظاهري الثابت بالعلم الوجداني(1).

أقول: إنّ الإشكال بصورته البدائية يجري حتّى بناءً على جعل الحكم الظاهري المماثل، وذلك ببيان: أنّه إن اُريد استصحاب الحكم الواقعي فالركن الأوّل للاستصحاب ـ وهو اليقين السابق ـ غير موجود. وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري فالركن الثاني له ـ وهو الشكّ اللاحق ـ غير موجود، للقطع بارتفاع الحكم الظاهري الذي يتمثّل في(صدّق العادل) مثلاً بارتفاع موضوعه، فإنّ المفروض أنّ الأمارة إنّما دلّت على مقدار الحدوث، ولم تدلّ على البقاء، وإلاّ لما احتجنا إلى الاستصحاب، وموضوع ذلك الحكم الظاهري إنّما هو قيام الأمارة، فذلك الحكم الظاهري غير موجود في مرحلة البقاء حتماً.

هذا. وما يمكن أن يقال أو قيل في حلّ الإشكال وجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا نستصحب الجامع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري المقطوع حدوثه ولو في ضمن الحكم الظاهري، والمحتمل بقاؤه ولو في ضمن الحكم الواقعي.


(1) راجع الكفاية: ج 1، ص 310 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكيني.

298

وهذا الوجه يختلف حاله باختلاف المباني في الحكم الظاهري:

فتارةً يقال: إنّ الحكم الظاهري له وجود مستقل في قبال الحكم الواقعي، قد يوافق الحكم الواقعي وقد يخالفه. وبناءً على هذا لا يجري الاستصحاب في المقام؛ لأنّه يكون من استصحاب القسم الثالث من الكلّي المحرز حدوثه في أحد فرديه ـ وهو هنا الحكم الظاهري ـ والمحتمل بقاؤه في فرد آخر ـ وهو الحكم الواقعي ـ، غاية الأمر أنّ الحكم الواقعي محتمل الحدوث من أوّل الأمر، فيدخل في ذاك النحو من استصحاب القسم الثالث الذي يرتضيه الشيخ الأعظم(قدس سره)، لكنّنا لا نرتضي الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي مطلقاً.

واُخرى يقال بما يقول به المحقق النائيني(رحمه الله) من أنّ الحكم الظاهري ليس له وجود مستقّل في مقابل الحكم الواقعي، بل يكون لدى وجود الحكم الواقعي مندكّاً فيه، ولدى عدمه منعدماً. وعلى هذا المبنى فالحكم الظاهري في المقام لا يزيدنا شيئاً، وكما لا يمكن استصحاب الحكم الواقعي كذلك لا يمكن استصحاب الجامع؛ إذ ليس لنا ـ في الحقيقية ـ علم بأحد الفردين معيّناً، أو غير معين؛ لأنّ الفرد الثاني وهو الحكم الظاهري يرجع في الحقيقة إلى الفرد الأوّل، وهو الواقع المفروض ثبوت الشكّ فيه من أوّل الأمر.

وثالثة يقال: إنّ الحكم الظاهري لدى موافقته للحكم الواقعي يكون مندكّاً فيه، ولدى اختلافه عنه يكون له وجود مستقلّ، وعندئذ تكون لدعوى جريان الاستصحاب صورة؛ لأنّه يصبح من استصحاب القسم الثاني من الكلّي؛ للعلم إجمالاً بثبوت الجامع في ضمن الفرد المقطوع زواله وهو الحكم الظاهري، أو الفرد غير المقطوع زواله وهو الحكم الواقعي.

ولكنّ الصحيح: أنّه حتّى على هذا المبنى لا يصحّ جريان الاستصحاب، إلاّ إذا قلنا في الحكم الظاهري في باب الأمارة بالسببية والموضوعية، دون الطريقية الصرف؛ لأنّه بناءً على الطريقية يعلم إجمالاً بالجامع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري الطريقي المخالف للواقع، ومن المعلوم أنّ الحكم الظاهري بهذا العنوان ليس له أيّ أثر من التنجيز والتعذير، والجامع بين ما له أثر وما ليس له أثر ليس له أثر، والنتيجه تتبع أخسّ المقدمات.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّنا نمنع كون اليقين بالحالة السابقة دخيلاً في الاستصحاب. وهنا لا تخلو عبارته(قدس سره) من تبلبل أو تشويش، فالذي يستفاد من أوّل عبارته في الكفاية هو أنّ الاستصحاب ليس من أركانه اليقين السابق، وإنّما له ركنان: أحدهما الحدوث، والثاني الشكّ في البقاء، ويكون الثاني ثابتاً بالوجدان، والأوّل ثابتاً بالتعبّد بمقتضى الأمارة. ثمّ كأنّه يريد أن يترقى ويدّعي أنّ الحدوث ـ أيضاً ـ ليس ركناً في

299

الاستصحاب، حيث يقول(رحمه الله): إنّ الحدوث اُخذ لكي يكون التعبّد في البقاء(1).

وهذا الكلام فيه احتمالان مستفادان من مجموع النكات الموجودة في كلامه(قدس سره).

الأوّل: أن يقصد أنّ الحدوث ليس ركناً في الاستصحاب، وإنّما الركن الصحيح في الاستصحاب هو الركن الثاني، وهو الشكّ في البقاء، وإنّما فرض الحدوث تحقيقاً للركن الثاني ـ وهو الشكّ في البقاء ـ باعتبار أنّ الشكّ في البقاء لا يتحقّق إلاّ مع فرض الحدوث.

الثاني: أن لا ينظر إلى مسألة الشكّ، وإنّما يقصد بهذا الكلام أنّ التعبّد تارةً يكون بالحصّة الحدوثية، واُخرى بالحصّة البقائية، وثالثة بالجميع، والمفروض في دليل الاستصحاب إنّما هو التعبّد بالحصّة البقائية، فلهذا فرض الحدوث مفروغاً عنه وجداناً حتّى يقع التعبّد في حصّة البقاء.

أقول: أمّا ما يستفاد من صدر كلامه(رحمه الله) من عدم أخذ اليقين بالحدوث في الاستصحاب، وأنّ المأخوذ في الاستصحاب نفس الحدوث، فهذا ليس فيه إشكال من حيث الثبوت، فبالإمكان أن لا يؤخذ اليقين في الاستصحاب، وتؤخذ ذات الحالة السابقة، ويرتفع بذلك الإشكال في المقام، حيث يقال: إنّ الحالة السابقة ثبتت بالتعبّد بالأمارة، والشكّ ثابت بالوجدان، فيجري الاستصحاب.

وأمّا من حيث الإثبات فالذي تمسّك به المحقّق الخراساني(رحمه الله) في مقام استظهار عدم أخذ اليقين بالحدوث في الاستصحاب، وأنّه إنّما اُخذ ذات الحدوث لا العلم به، هو أنّ اليقين باعتبار ما له من صفة الطريقية والكشف يكون ظاهر أخذه في لسان دليل هو أخذُه فيه بما هو مرآة إلى متعلّقه، وبما هو معنىً حرفي، وفان في المتعلّق.

والتحقيق: أنّ ما أفاده(قدس سره) غير صحيح.

وهو(رحمه الله) أشار في بحث الاجتهاد والتقليد إلى أنّ ما ارتكبه في بحث الاستصحاب كان تكلّفاً(2).

والوجه في عدم صحّته هو: أنّ أخذ اليقين مرآةً إلى المتيقّن ـ بغض النظر عن عدم معقوليته في نفسه كما شرحناه في بعض المباحث السابقة(3) ـ يكون خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان كونه مأخوذاً بنفسه، لا بما هو مرآة الى شيء آخر غير مصاديقه لو


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 309 ـ 310 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكيني.

(2) لم أجده في الكفاية.

(3) مضى ذلك في بحث الشكّ في المقتضي.

300

كان ذلك ممكناً.

على أنّ هذا ينافي ما مضى منه(قدس سره) من تصحيح استعمال كلمة(النقض) في المقام بالاستحكام الموجود في اليقين، فإنّه بناءً على كونه مأخوذاً بنحو المعنى الحرفي والمرآتية، ويكون النظر إلى ذات المتيقّن، لا يفيدنا الاستحكام الموجود في اليقين.

هذا. ولا أدري لماذا لم يتمسّك(رحمه الله) لإثبات مقصوده من عدم أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب بروايات أصالة الطهارة والحلّ التي ذهب إلى تمامية دلالتها على الاستصحاب، وقد اُخذت فيها الحالة السابقة، لا اليقين بها، كما أنّ صحيحة عبدالله بن سنان التي تمّت دلالتها عندنا لم يؤخذ فيها إلاّ نفس الحالة السابقة، لااليقين بها.

وعليه، فبحسب النتيجة: ما أفاده(رحمه الله) من كون اليقين غير مأخوذ في الاستصحاب، وأنّه إنّما اُخذ في الاستصحاب نفس الحدوث صحيح ثبوتاً وإثباتاً.

وأمّا ما يستفاد من كلامه(قدس سره) بعد الترقّي، فقد مضى أنّ فيه احتمالين:

الاحتمال الأوّل: أنّ الحدوث اُخذ في لسان الدليل من باب أنّه مع الحدوث يتصوّر الشكّ في البقاء.

وفيه: أنّه إن قصد بالشكّ في البقاء احتمال الوجود بعد الوجود، والعدم بعد الوجود مشروطاً بأن لايحتمل مع ذلك العدم بعد العدم، إذن فالدخيل في صدق الشكّ في البقاء ليس هو الحدوث الواقعي، بل اليقين بالحدوث، فلماذا فرض(قدس سره) أنّ اليقين اُخذ في الكلام مرآة إلى نفس الحدوث، وأنّه قصد ـ في الحقيقة ـ الحدوث، لا ذات اليقين، وأنت ترى أنّ مجرّد الحدوث بوجوده الواقعي لا ينفي احتمال العدم بعد العدم، وإنّما ينفى ذلك باليقين بالحدوث؟! ويلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في المقام، وهو فرض ثبوت الحدوث بالأمارة؛ لأنّ احتمال العدم بعد العدم موجود، مع أنّ مقصوده(قدس سره) هو إثبات جرايان الاستصحاب في مورد ثبوت الحالة السابقة بالأمارة.

وإن قصد بالشكّ في البقاء مطلق احتمال الوجود بعد الوجود والعدم بعد الوجود، سواء إحتمل ـ أيضاً ـ العدم بعد العدم أو لا، إذن فالدخيل في صدق الشكّ في البقاء ليس هو الحدوث الواقعي، بل هو احتمال الحدوث، فقد لا يكون الحدوث ثابتاً في الواقع، لكنّ الشخص يحتمل الحدوث، ويحتمل ـ أيضاً ـ الوجود بعد الوجود والعدم بعد الوجود، كما يحتمل العدم بعد العدم. وبناءً على هذا يلزم جريان الاستصحاب بمجرّد احتمال الحدوث. وهذا ما لا يلتزم هو(قدس سره) ولا غيره به.

301

الاحتمال الثاني: أنّ الحدوث اُخذ في لسان الدليل من باب سحب التعبّد من مرحلة الحدوث إلى مرحلة البقاء. وبكلمة اُخرى: أنّه توجد هنا ثلاثة احتمالات: احتمال الوجود بعد الوجود، واحتمال العدم بعد الوجود، واحتمال العدم بعد العدم. والشارع أراد أن يعبّدنا بنفي الثاني فقط دون الثالث، ففرض الحدوث مفروغاً عنه.

وهذا بحاجة إلى شيء من التحليل. وتوضيحه: أنّ سحب التعبّد من مرحلة الحدوث إلى مرحلة البقاء، وإخراج الحدوث عن حيطة التعبّد إمّا أن يفترض بجعل التعبّد بالبقاء معلّقاً على الحدوث، بأن يقول: إن كان حادثاً فهو باق، حتّى يكون الحدوث شرطاً لهذا التعبّد، ومن قبيل قيد الوجوب الذي لا ينسحب عليه الوجوب لا من قبيل قيد الواجب، وإلاّ لسرى التعبّد إليه، كما أنّ إيجاب الصلاة المقيّدة بالطهارة يسري إلى الطهارة التي هي قيد الواجب، وهذا يعني أنّ الحدوث إذن كان موضوعاً للتعبّد بالبقاء، وهو الاستصحاب، فكأنّه لا يوجد هناك ترقٍّ عن الكلام الأوّل.

وإمّا أن يفترض بجعل مصبّ التعبّد هو الملازمة بين الحدوث والبقاء، فلا يكون الحدوث دخيلاً في ذلك، كما أنّ وجود العلّة ليس دخيلاً في الملازمة بين العلّة والمعلول. وعندئذ يرد عليه: أنّ الملازمة والسببيّة ونحو ذلك ليست قابلة للجعل على ما هو الصحيح عندنا، وعند المحقق الخراساني(رحمه الله)، وإنّما المجعول هو منشأ انتزاع هذه الأشياء. ففي المقام إنّما يجعل الحكم بالبقاء مشروطاً بالحدوث، فتنتزع من ذلك الملازمة بين البقاء والحدوث، فرجعنا مرّة اُخرى إلى الكلام الأوّل.

بقي في المقام الإشكال الذي أورده السيّد الاُستاذ على المحقّق الخراساني(رحمه الله) من دون أن يحلّل كلامه بالشكل الذي ذكرناه، وهو أنّه هل يقصد التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعيّين(1)، أو التعبّد بالملازمة بين تنجّز الحدوث وتنجّز البقاء(2). فإن قصد الأوّل لم يكن الاستصحاب أصلاً، بل كان أمارة مثبتة للبقاء واقعاً. وإن قصد الثاني لزم من ذلك بقاء


(1) قيل له(رحمه الله): يمكن فرض الملازمة ظاهرية، فيكون الاستصحاب أصلاً. فأجاب(رحمه الله) بأنّ: مقصود السيّد الاُستاذ ليس هو التعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء التي تعدّ من الأحكام الوضعيّة حتّى يقال: إنّه لعلّها ملازمة ظاهرية، وإنّما يقصد فرض التعبّد بالبقاء على تقدير الحدوث.

أقول: والذي نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا إلى اُستاذه يختلف شيئاً مّا عمّا ورد في المصباح: ج 3، ص 97 ـ 98 من تقريب الإشكال على الآخوند، فراجع وقايس بينهما.

(2) كأنّ الكلام مبنيّ على مبنى الآخوند(رحمه الله) من جعل المنجّزية، باعتبار أنّ الحديث متوجّه إلى الآخوند.

302

تنجّيز العلم الإجمالي بعد انحلاله. فمثلاً لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين فتنجّزت علينا النجاسة على كلا تقديريها، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة أحد الإنائين مسبقاً، فانحلّ العلم الإجمالي، تبقى النجاسة في الإناء الآخر على تنجّزها؛ للملازمة بين التنجّزين. وهذا ما لا يُلتَزم به(1).

ويرد عليه: أوّلاً: أنّنا لو فرضنا انحصار الأمر فيما ذكره من الاحتمالين لاخترنا الاحتمال الثاني، ويقال: إنّ الاستصحاب عبارة عن التعبّد بالملازمة بين تنجّز الحدوث وتنجّز البقاء، لكن لا مطلقاً، بل عند فرض بقاء منجِّز الحدوث، كما في ما نحن فيه من فرض قيام الأمارة على الحدوث دون ما إذا انتفى منجِّز الحدوث، وانحلّ، كما في مثال العلم الإجمالي بناءً على انحلاله بالعلم التفصيلي.

وإن شئت فقل: إنّنا لا ندّعي الملازمة بين التنجّز حدوثاً وبقاءً، وإنّما ندّعي أنّ المنجِّز للحدوث منجِّز للبقاء، باعتبار ما له من كشف ناقص للبقاء مثلاً، ومن الطبيعي أنّ منجّزية المنجّز تكون عند وجود ذلك المنجّز.

وثانياً: أنّ بإمكاننا أن لا نقول: إنّ الاستصحاب تعبّد بالملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعيين، ولا بين تنجّزهما، بل نقول: إنّه تعبد بالملازمة بين الوجود الواقعي للحدوث والوجود الظاهري للبقاء، ولا يرد عندئذ شيء من إشكالي الشقّين السابقين.

الوجه الثالث: أنّ الحكم الظاهري ـ على ما ذكرناه مراراً ـ عبارة عن الخطابات والإنشاءآت المبرزة لشدّة اهتمام المولى بالواقع، أو مسامحته فيه، فروح الحكم الظاهري هو هذه الشدّة أو المسامحة، وعليه نقول: إنّنا لو أردنا استصحاب الحكم الواقعي ورد عليه ما مضى من أنّه غير معلوم الثبوت مثلاً، ولو أردنا أن نستصحب الحكم الظاهري بمعنى خطاب(صدّق العادل) مثلاً، ورد عليه ما مضى من انتفاء موضوعه؛ لأنّ العادل لم يخبر بأكثر من الحالة السابقة، وموضوع هذا الخطاب إنّما هو خبر العادل، فلا معنىً لاستصحاب هذا الخطاب في الزمان الثاني الذي لا يوجد فيه خبر عادل، لكنّنا لا نستصحب لا هذا ولا ذاك، وإنّما نستصحب روح الحكم الظاهري، وهو شدّة اهتمام المولى الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال، أو المسامحة وعدم الاهتمام الموضوع لحكم العقل بالأمان.


(1) وورد في الدراسات ج4، ص 95 بحسب طبعة دائرة معارف الفقه الإسلامي، مثال آخر للنقض، وهو لزوم حجّيّة قاعدة اليقين؛ لأنّ ما تيقّنّا به قد تنجّز حدوثاً، فيكون منجّزاً بقاءً رغم الشكّ الساري.

303

ولا يتخيّل أنّ هذا من استصحاب القسم الثالث من الكلّي؛ لانتفاء الشدّة المعلومة، واحتمال شدّة اُخرى في الاهتمام.

فإنّ الجواب على ذلك: أنّ إخبار العادل بالواقع إنّما هو سبب لشدّة الاهتمام، أمّا ذات الشدّة والاهتمام فشيء واحد شخصي، كنّا نعلم بوجوده حدوثاً لهذا السبب، واحتملنا وجوده بقاءً لسبب آخر، فيجري استصحاب الشدّة والاهتمام.

نعم، يبقى شيء في المقام، وهو أنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو لم يوجد حاكم على هذا الاستصحاب، والحاكم غير موجود في استصحاب المسامحة وعدم الاهتمام، لكنّه موجود في استصحاب شدّة الاهتمام، وذلك لحكومة دليل البراءة على هذا الاستصحاب؛ لأنّ هذا الاستصحاب استصحاب للاهتمام بالواقع، ودليل البراءة أمارة على عدم الاهتمام، والأمارة تقدّم على الاستصحاب. وهذا بخلاف ما لو استصحبنا نفس الواقع، كما هو الحال في الوجه الثاني، فإنّ دليل البراءة ليس أمارة على نفس الواقع، فيكون الاستصحاب والبراءة من هذه الناحية في عرض واحد، فيؤخذ بالاستصحاب من باب تقدّم الاستصحاب على البراءة.

أو قل بكلمة اُخرى في مقام التعليق على هذا الوجه الثالث: إنّه إذا كانت الأمارة دالّة على حكم إلزامي حدوثاً، دخل المقام في دوران الأمر بين عموم العام واستصحاب حكم المخصّص؛ لأنّ دليل البراءة عامّ دلّ على عدم الاهتمام عند الشكّ في الواقع مطلقاً، وهو مخصَّص بدليل(صدّق العادل) الُمخرِج للحصّة الحدوثية منه؛ لدلالته على شدّة الاهتمام بمقدار قيام خبر العادل، والمفروض دلالة خبر العادل على الحدوث فقط، فبإنتهاء المدّة التي دلّ عليها الخبر تنتهي دلالة المخصِّص، وهو دليل(صدّق العادل)، فيدور الأمر بين عموم العامّ واستصحاب حكم المخصّص. والحقّ فيه هو: تقدم العامّ على استصحاب حكم المخصّص.

الوجه الرابع: هو البنآء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي، فإنّ القطع قد اُخذ ـ حسب الفرض ـ في موضوع الاستصحاب، فلو بني على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي انحلّت المشكلة في المقام.

وتمامية هذا الوجه الرابع تكون بأحد تقريبين:

1 ـ دعوى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنحو الورود في خصوص باب الاستصحاب، بدعوى: أنّ موضوع الاستصحاب من أوّل الأمر ليس هو خصوص القطع، بل مطلق المنجّز.

304

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذه الدعوى ليست في محلّها، لا بلحاظ المدلول اللفظي لليقين كما هو واضح؛ لأنّ مدلوله اللغوي ليس إلاّ ذات اليقين، لا مطلق المنجّز، ولم يثبت اصطلاح شرعي أو عرفي على خلافه، ولا بلحاظ ما يمكن أن يقرّب به هذا الوجه من أنّ دليل الاستصحاب يشير إلى قاعدة ارتكازية، فيحدّد بحدود الارتكاز، ومقتضى الارتكاز هو عدم الفرق بين اليقين وغيره من المنجّزات، وأنّ مفاد القاعدة هو عدم رفع اليد عمّا كان يجري عليه الشخص بمجرّد الشكّ، فإنّ هذا التقريب غير تامّ؛ إذ لا قطع بثبوت الارتكاز بهذا النحو، بل من المحتمل اختصاص الارتكاز أو اختصاص بعض مراتبه بخصوص صورة اليقين، بحيث لا يمكن التعدّي من حاقّ مدلول لفظ الدليل بقرينة الارتكاز، خصوصاً بلحاظ ما مضى منّا من أنّ ارتكازية الاستصحاب قد تكون على أساس العادة وأُنس الذهن بالحالة السابقة الموجب لميل النفس إلى فرض بقاءها، ولليقين دخل في هذه العادة وأُنس الذهن.

نعم، ليس من الواضح ـ أيضاً ـ اختصاص الارتكاز بكلّ مراتبه بخصوص صورة اليقين، بحيث لو كان الدليل يدلّ على أعمّ من هذا يصرف إلى هذا المقدار، ولهذا ترى أنّنا في الوجه الثاني بنينا على إطلاق صحيحة عبدالله بن سنان، ولم نقيدها بالارتكاز.

وثانياً: أنّه لو حمل اليقين على مطلق المنجّز والمعذّر فماذا نقول في الشكّ المأخوذ في مقابل اليقين في قوله:«لا تأخذ اليقين بالشكّ»؟ هل يقصد بالشكّ عدم العلم أو يقصد به عدم المنجّز والمعذّر؟ فإن فرض الأوّل كان ذلك خلاف ظاهر جعل الشكّ فى مقابل اليقين؛ فإنّ ظاهر السياق كون المقصود بالشكّ ما يضاد نفس ما قصد من اليقين ويقابله، فإن قصد باليقين المنجّز يجب أن يقصد بالشكّ عدم المنجّز لا عدم العلم، وإن فرض الثاني لزم من ذلك حكومة كلّ الاُصول على الاستصحاب؛ لأنّه قد اُخذ في موضوعه عدم المنجّز والمعذّر، وكلّ أصل هو منجّز أو معذّر. وهذا ما لا يقول به أحد.

2 ـ ما عن المحقّق النائيني(رحمه الله) من قيام الأمارة بشكل عامّ مقام القطع الموضوعي بالحكومة، من باب أنّ مفاد دليل حجّيّة الأمارة هو جعل الطريقية.

وتماميّة هذا الوجه وعدمها موقوف على مبان مضى تحقيقها في محلها، وهي مايلي:

(أ) هل أنّ جعل الطريقية معقول ثبوتاً بنحو الاعتبار، كما هو مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله)، أو بنحو التنزيل، أو لا؟

(ب) إذا كان جعل الطريقية معقولاً ثبوتاً فهل هذا هو الظاهر من دليل الحجّيّة إثباتاً، أو لا؟

305

(ج) على تقدير استفادة جعل الطريقية من الدليل هل يستفاد ذلك بلحاظ القطع الطريقي والموضوعي معاً، أو لا يستفاد ذلك إمّا لمحذور ثبوتي كما جاء في الكفاية، أو لمحذور إثباتي كما نحن اخترناه؟

فلو أجبنا على كلّ هذه الأسئلة الثلاثة بالإثبات أمكن الالتزام بهذا الوجه الرابع، في مقام حلّ الإشكال في المقام، وبما أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يجيب بالإثبات على كلّ هذه الأسئلة الثلاثة التزم في المقام بهذا الوجه الرابع.

ولكن بقي هنا شيء، وهو: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يعترف بأنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي الصفتي، وإنّما يقول بقيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي. وبناءً على هذا يشكل القول بقيام الأمارة موضع القطع في المقام ولو سلّمنا كلّ مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) من الأجوبة الإثباتية على تلك الأسئلة.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه يقال في باب القطع الموضوعي: إنّ العلم تارةً يؤخذ موضوعاً بما هو كاشف، واُخرى يؤخذ موضوعاً بما له من خصوصية وصفية؛ فإنّ العلم ـ إضافةً إلى ما له من خاصّية الكشف التي هي عبارة عن ذات العلم ـ له خاصيّتان نفسيّتان: إحداهما: ما يوجد في نفس العالم من حالة الاستقرار. والثانية: ما يوجد ـ أيضاً ـ في نفس العالم من استحكام ارتباط صورة المتيقَّن بها، وتركّزها في النفس، وشدّة ارتباطها بها. فتارةً لا يلحظ في موضوع الحكم إلاّ ذات العلم بما هو انكشاف، واُخرى يلحظ بما هو ذو الصفة الاُولى أو الثانية. وذكر المحقق النائيني(رحمه الله)(1) ومن تبعه: أنّ كلمة(العلم) و (القطع) و (اليقين) كلّها وضعت في لغة العرب بمعنىً واحد، إلاّ أنّ الملحوظ في كلمة(العلم) إنّما هو جانب الانكشاف، ولوحظ في كلمة(القطع) صفة استقرار النفس، ولوحظ في كلمة(اليقين) جانب الاستحكام، ومن هنا ترى أنّه يطلق على الله ـ تعالى ـ العالم، ولا يطلق عليه القاطع، أو المتيقن، كما أنّه من هنا ترى أنّ إسناد النقض إلى اليقين شيء مستحسن لما فيه من الاستحكام، بخلاف إسناده إلى القطع أو العلم. وعلى هذا نقول: إنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» إن لم يكن ظاهراً في أخذ العلم بما هو ذو الصفة الثانية، وهي الاستحكام وشدّة ارتباط صورة المتيقّن بالنفس، فلا أقلّ من عدم كونه ظاهراً في خلاف ذلك، فإنّنا لو احتملنا كون ذكر كلمة(اليقين) لمجرّد النكتة اللفظية، وهي لحاظ المناسبة مع استعمال كلمة(النقض)،


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 379.

306

فلا أقلّ من أن يحتمل ـ أيضاً ـ أن لا يكون لمجرّد النكتة اللفظية، بل يكون عنوان اليقين بما هو صفة دخيلاً حقيقةً في الاستصحاب، وعندئذ لا يثبت قيام الأمارة مقامه في باب الاستصحاب، لأنّ دليل حجّيّة الأمارة غاية ما استفيد منه هو جعل العلم والطريقية، أي: جعل جانب الكاشفية. وأمّا جعل المؤونة الاُخرى الزائدة على ذات العلم، وهي جعل الأمارة كأنّها واجدة لتلك الحالة النفسانية التي يكون العلم واجداً لها فغير ثابت.

 

إشكال جريان الاستصحاب في المورد إنّما يعقل في صورة من أربع صور

وفي ختام الحديث عن الإشكال الذي كنّا نتكلّم عنه حتّى الآن، وذكرنا له حلولاً أربعة، مع تحقيق حالها نقول: إنّنا إنّما نكون بحاجة إلى هذا البحث في صورة واحدة، ولا مجال لأصل الإشكال في ثلاث صور.

وتوضيح المقصود: أنّه تتصوّر في باب ثبوت الحالة السابقة بالأمارة أربع صور:

1 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو كان الثوب نجساً فثبت تطهيره بالماء بالبيّنة، ثمّ شكّ في بقاء الطهارة من باب الشكّ في ملاقاته للدم مثلاً.

2 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الحكمية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما لو كان الثوب نجساً فغسلناه بالماء مرّة واحدة، ودلّت الأمارة على كفاية الغسل مرّة واحدة في التطهير، ثمّ شككنا في بقاء الطهارة من باب الشكّ في ملاقاته للدم مثلاً.

3 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، ويكون الشكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا ثبت بالبيّنة تغيّر الماء الكرّ بالنجاسة، ثمّ ارتفع التغيّر، فشككنا في بقاء النجاسة.

4 ـ أن تكون الأمارة دالّة على الحدوث بنحو الشبهة الحكمية، والشكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما لو ثبت بالأمارة وجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور، وشككنا في وجوبها في زمن الغيبة.

والإشكال إنّما يكون له مجال في الصورة الرابعة دون الصور الثلاث الاُولى.

وتوضيح ذلك: أنّه في الصورة الاُولى لو اُورد الإشكال وقيل: هل يستصحب الحكم الواقعي أو يستصحب الحكم الظاهري، فإن اُريد استصحاب الحكم الواقعي فهو غير

307

مقطوع الثبوت، وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري فهو مقطوع الارتفاع. قلنا: إنّنا نختار الشقّ الثاني، أي: إنّنا نستصحب الحكم الظاهري. وقولكم إنّ الحكم الظاهري مقطوع الارتفاع جوابه: أنّه ليس مقطوع الارتفاع؛ وذلك لأنّ الأمارة التي دلّت بالمطابقة على طهارة الثوب حدوثاً دلّت بالالتزام على بقاء طهارته ما لم يلاقِ نجساً، وذلك لعلمنا الخارجي بالملازمة بين طهارة الشيء وبقاء طهارته ما لم يلاقِ نجساً، والحكم الظاهري كما يكون مجعولاً على طبق الدلالة المطابقية للأمارة كذلك يكون مجعولاً على طبق الدلالة الالتزامية لها، فالحكم الظاهري في المقام عبارة عن طهارة الثوب واستمرارها إلى أن يلاقي النجاسة، فالشكّ في ملاقاته للنجاسة وعدمها يوجب الشكّ في انتهاء أمد هذا الحكم وبقائه، فيستصحب الحكم الظاهري بلا إشكال.

وإن شئت فاستصحب عدم الملاقاة المنقّح لموضوع الحكم الظاهري.

إن قلت: كيف يمكن إجراء استصحاب الحكم الظاهري في المقام مطلقاً مع أنّه لابدّ أن يرجع روح هذا الاستصحاب إلى استصحاب روح الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن شدّة الاهتمام وعدم شدّته، ولا يفيد مجرّد استصحاب الخطاب الظاهري بغضّ النظر عن الروح؛ إذ لا يترتّب عليه تنجيز أو تعذير. وعليه فاستصحاب الحكم الظاهري في المقام إنّما يجري في الأحكام غير الإلزامية، كما في المثال المذكور، ولا يجري في الأحكام الإلزامية؛ لما مضى من حكومة دليل البراءة عليه، لكونه أمارة على عدم شدّة الاهتمام. وهذا في الحقيقة إشكال مستقلّ يرد على استصحابات الأحكام الظاهرية فيما يكون الحكم إلزامياً، وأصل البراءة على خلافه.

قلت: إنّ ما مضى منّا من مسألة حكومة دليل أصالة البراءة على استصحاب شدّة الاهتمام لا يجري هنا؛ وذلك لأنّه بعد أن فرضنا أنّ بقاء الطهارة إلى زمان ملاقاة الدم مثلاً مدلول التزامي للأمارة، يكون من المحتمل كون المورد خارجاً عن دليل البراءة بالأمارة، فيكون التمسّك بدليل البراءة هنا تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص، فإنّ دليل البراءة قد خرجت منه بالتخصيص موارد الأمارة(1). هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.

وأمّا الصورة الثانية فيأتي فيها عين ما ذكرناه في الصورة الاُولى حرفاً بحرف.


(1) نعم، لولا استصحاب بقاء الاهتمام جرت البراءة عن الاهتمام باحتمال بقاء الاهتمام. وهذا غير البراءة النافية للاهتمام الأوّل التي يكون التمسّك بها تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية.