258


جعل أمراً تشريعيّاً، وتكون السببيّة منتزعة بهذا المعنى من الانتزاع، بمعنى: أنّه لولا هذا الجعل لما كان مصداق السببيّة هنا موجوداً ومتحقّقاً.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل من بحثنا: أنّ التقسيم الثلاثي للأحكام الوضعيّة الوارد في كلام الشيخ الآخوند غير صحيح، وأنّ الأحكام الوضعيّة تنقسم إلى قسمين فحسب: القسم الأوّل: ما هي مجعولة من قبل الشريعة، ومثالها الواضح الملكيّة والزوجيّة، وهناك أمثلة اُخرى مورد للنقاش. والقسم الثاني: الأحكام الانتزاعية(وهذا التعبير أدّق من التبعيّة) المنتزعة من الأحكام الشرعية، من قبيل الجزئية والشرطية والمانعية.

القسم الأوّل من التقسيم المشهور للأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الثاني: وهو البحث عن القسم الأوّل من القسمين المعروفين للأحكام الوضعية، وهي ما لها جعل مستقلّ كالملكيّة والزوجيّة، وقد جعلت بدورها موضوعاً لأحكام شرعيّة، فهذا القسم من الأحكام حينما نقول عنها: إنّها مجعولة لا نقصد بذلك أنّها لا يمكن أن تكون منتزعة، بل يمكن أن تكون منتزعة بأن نفترض أنّ الشريعة جعلت إباحة التصرّف وإباحة الأكل وصحّة البيع وحرمة تصرّف الغير وغير ذلك، ثمّ انتزِع من هذه الأحكام الملكيّة. وكذلك الزوجيّة حيث نفترض أنّ الشريعة قد جعلت أحكاماً معيّنة من قبيل جواز الوطء ووجوب القسمة ووجوب النفقة، ثمّ انتزع منها مثلاً عنوان الزوجيّة، فهذا أمر ممكن، لكنّنا نقول: إنّ المستفاد من الأدلّة خلاف ذلك؛ وذلك أوّلاً: للارتكازات العقلائية التي نحكّمها دائماً في فهم الظواهر، فإنّ الملكيّة والزوجيّة ونحوهما حسب الارتكازات العقلائية تعتبر أحكاماً أصيلة، أي: إنّ العقلاء في تشريعاتهم العقلائية يعتبرونها أشياء مجعولة بالجعل العقلائي، كذلك تنصرف إليها الأدلّة الشرعية، ومن ناحية اُخرى نضيف إلى ذلك الارتكاز المتشرّعي وفهم المتشرّعة بشكل عام، باستثناء تدقيق المدقّقين والمحقّقين الذين تطبّعت ذهنيتهم على التدقيق في المطالب، وهذا الفهم المتشرّعي العام لو لم يكن دليلاً يمكن أن يكون مؤيّداً وإن كنّا لا نستطيع أن نتعامل مع هذا معاملتنا مع الارتكاز المتشرّعي البحت؛ لأنّه من المحتمل أن يكون جذره وأساسه نفس الارتكاز العقلائي، فقيمته تقترب من قيمة الارتكاز العقلائي، على فرق في النتائج والقيم بين الارتكاز العقلائي والارتكاز المتشرّعي، حتّى المتّكي على الارتكاز العقلائي بحثناه في محله.

إضافة إلى ذلك أنّنا حينما نراجع لسان الأدلّة ـ كما قال السيّد الخوئي(رحمه الله) في تقريره، ونِعم ما قال ـ نراه يناسب هذا المعنى، أعني: كون الملكيّة والزوجيّة وما شابه اُموراً أصيلة رُتّبت عليها آثار، مثلاً حينما يقول:«لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه» نرى أنّ كون هذا مال امرئ مسلم فرض شيئاً ثابتاً مسبقاً، وموضوعاً للحكم، ورتّب عليه أنّه لا يحلّ ماله، لا أنّ كونه ماله منتزع من عدم جواز تصرّف الغير فيه، وكذلك قوله:«الناس مسلّطون على أموالهم» ـ لو تمّ سنده أو ثبت انجباره ـ أخذ عنوان إضافة المال إلى الناس المقصود بها الملك موضوعاً للحكم بالسلطنة، وكذلك قوله:« نساؤكم حرث لكم» فرض الإضافة بين النساء والضمير المضاف إليه شيئاً مفروغاً عنه، ثمّ رتّب بعد ذلك الحكم، وهو كونهنّ حرث لكم، وما شاكل ذلك من الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة. هذا ـ

259


أيضاً ـ وجه صحيح(1).

وهناك وجه آخر يذكره السيّد الخوئي(رحمه الله) في كتابه، وهو لا يصلح أن يكون دليلاً لكنّه يصلح أن يكون مؤيّداً. وهو ما نرى من أنّ النسبة بين هذه الأحكام الوضعية والآثار الشرعية عموماً وخصوصاً من وجه، فقد تكون الملكيّة موجودة وجواز التصرّف غير موجود، وقد يكون جواز التصرّف موجوداً والملكية غير موجودة، فكيف نفترض أنّ الملكية مثلاً منتزعة من جواز التصرّف! ولو كانت كذلك لا يمكن أن تنفك من جواز التصرّف، بينما نحن نرى أنّ الملكيّة موجودة مثلاً وجواز التصرّف غير موجود، كما في المحجور عليهم الذين لا يجوز لهم التصرّف فيما يملكون رغم الملكيّة، وقد يكون جواز التصرف موجوداً والملكيّة غير موجودة كما في الولي الذي يتصرّف في مال من ولّي عليه، بينما هو ليس مالكاً لمال من ولّي عليه، وكذلك في الزوجية قد يحرم الوطء، أو قد يسقط وجوب النفقة، أو ما شابه ذلك، بينما الزوجيّة موجودة، فلو كانت الزوجية منتزعة من هذه الآثار فكيف تكون الزوجيّة موجودة رغم عدم هذه الآثار أحياناً!(2) وهذا المطلب وإن كان ذكره السيّد الخوئي بعنوان الدليل لكنّه لا يصلح أن يكون دليلاً؛ إذ قد يقول قائل كما قيل: فلتكن الملكيّة منتزعة مثلاً من جواز التصرّف في الحالات الاعتياديّة، ولو لا الطوارئ يجوز التصرّف،فينتزع من هذا الجواز الملكيّة رغم الحجر الحالي مثلاً، إذن فهذا ليس دليلاً. نعم، لا شكّ أنّه مؤيد، فإنّ هذه التفكيكات التي ترى توحي إلى الذهن أنّ الملكيّة شيء مستقل، وأنّ الملكيّة هي موضوع للآثار، وهذا الموضوع قد يقترن بموانع ترفع الآثار ولا نستطيع أن ننكر كون هذه الأمثلة والمصاديق هي مؤيّدة لفكرة أنّ الملكيّة هي الموضوع وليست هذه الآثار هي التي ينتزع عنها الملكيّة.

بل قد يقال: إنّ ارتكازية هذه المصاديق أو بعضها تجعل العرف يفهم من أدلّة الملكيّة المعنى الذي يكون موضوعاً للأحكام، لا منتزعاً من الأحكام، فيصبح ذلك دليلاً على المدّعى كما أراده السيّد الخوئي.

بقي الكلام في شيء واحد وهو أنّ الحديث الذي تحدّثنا به حتّى الآن وإن كان كافياً لاستظهار أنّ مثل الملكيّة والزوجيّة ليست منتزعة عن الأحكام التكليفيّة، بل هي موضوع للأحكام التكليفيّة، وإذا ضممنا ذلك إلى ما هو واضح في عصرنا هذا من عدم كون الملكيّة والزوجيّة اُموراً تكوينية، انحصر الأمر في كونهما من المجعولات الشرعية، إلاّ أنّنا مع هذا نرى أنّ الشيخ الأنصاري(رحمه الله)لم يخطر بباله احتمال كونهما من المجعولات الشرعيّة، بل رأى أنّ الأمر في مثل الملكيّة والزوجيّة والطهارة والنجاسة ونحوها لا يخلو من أحد فرضين: إمّا إنّها اُمور تكوينيّة كشف عنها الشارع، وإمّا إنّها اُمور انتزعت من الآثار الشرعيّة، فالملكيّة تنتزع من جواز التصرّف ومن حرمة تصرّف الغير، والزوجيّة تنتزع من الأحكام المألوفة الثابتة للزوج والزوجة في الرسائل العمليّة، كذلك الطهارة تنتزع من جواز الشرب والأكل والصلاة معه، والنجاسة تنتزع من عدم جواز ذلك، ولم يحتمل الشيخ أن تكون هي مجعولة.

ولم يذكر في الرسائل وجهاً لعدم احتماله، والسبب في عدم احتمال الشيخ لذلك ـ على ما أظنّ قويّاً ـ هو: أنّنا إن


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 82

(2) نفس المصدر ص 83

260


قلنا: إنّ هذه الاُمور هي موضوعات لأحكام، فالملكيّة موضوع لجواز التصرّف، ولحرمة تصرّف الغير، ولحرمة الغصب، والزوجيّة موضوع لجواز الوطء، والطهارة موضوع لجواز الصلاة، والنجاسة موضوع لبطلان الصلاة... يجب أن تكون هذه ـ إذن ـ اُموراً تكوينيّة كشف عنها الشارع، لا جعليّة جعلها الشارع؛ ذلك لأنّ جعلها لغو بحت، فلماذا يجعل النجاسة ثمّ يجعلها مبطلة للصلاة؟! وتوضيح ذلك: أنّ خصوصيّات تكوينيّة في هذا النجس أوجبت بطلان الصلاة، وبكلمة اُخرى: أنّ هذا الثوب الملاقي للبول بما فيه من خصوصيّات تكوينيّة إن كانت هناك نكتة واقعيّة ينبغي أن تكون مبطلة للصلاة تصبح هي موضوعاً لإبطال الصلاة، ولا حاجة لجعل النجاسة، وإن لم تكن في ملاقاة الصلاة نكتة تكوينيّة خارجيّة موجبة لبطلان الصلاة، وإنّما النجاسة لو جعلت لها أوجبت البطلان، فلماذا تجعل لها النجاسة حتّى تبطل الصلاة؟! هذا لغو محض، وكذلك الحال في الملكيّة والزوجيّة، لا معنى لفرض أنّ هذه الاُمور مجعولة من قبل الشريعة، فإنّ جعلها لغو وزيادة، فالشريعة تريد هذه الآثار، أي: إنّها تريد أن يختصّ كلّ أحد بمال يتصرّف فيه، ويختصّ بامرأة تقوم أحكام معينة بينه وبين تلك المرأة، فإن كانت الملكيّة والزوجيّة أمرين تكوينيّين ثابتين، فمن المعقول أن تكون تلك الملكيّة والزوجيّة وهما أمران تكوينيان ثابتان هما المقياسان لهذه الآثار والأحكام؛ لوجود مصالح تكوينيّة قهريّة ثابتة تستدعي هذه الأحكام. أمّا إن لم يكونا أمرين تكوينيّين ثابتين فجعلهما لغو بحت، وبإمكان الشريعة أن تأمر بهذه الأحكام من دون أن تجعل ملكية أو زوجية. نعم، الملكية أو الزوجية ينتزعهما العقلاء من هذه الآثار، فيسمّون المال الذي يجوز لي التصرّف فيه ويحرم لغيري التصرّف فيه ملكاً لي، وينتزعون عن هذه الأحكام عنوان الملكيّة، وكذلك الامرأة التي تختصّ بي بأحكام يسمّونها زوجة لي، وينتزعون من هذه الأحكام عنوان الزوجية. هذا هو الوجه الذي في اكبر الظن دعا الشيخ الأنصاري إلى أنّه لم يخطر بباله أصلاً احتمال أن تكون هذه مجعولات، فقد طرح احتمالين فحسب، وقال: إن قلنا: إنّها موضوعات للأحكام الشرعيّة إذن هي اُمور تكوينية، وإن قلنا: إنّها ليست موضوعاً لأحكام شرعيّة إذن هي منتزعة من الأحكام الشرعية.

ونظير هذا الكلام صدر من البعض كالشيخ العراقي(رحمه الله) في الأحكام التكليفيّة، فالشيخ الأنصاري أنكر مجعولية هذه الأحكام الوضعيّة، ولكن الشيخ العراقي أنكر مجعوليّة الأحكام التكليفية أصلاً، فيقول الشيخ العراقي(رحمه الله): اشتهر أنّ الأحكام التكليفية مجعولة بجعل شرعي، ووقع البحث والخلاف في الأحكام الوضعية هل هي مجعولة أو لا، في حين أنّ هذا الذي اشتهر غير صحيح،ولدينا في مورد الأحكام التكليفية عدّة اُمور: أوّلاً المبادئ: (المصلحة والمفسدة)، ففي الصلاة مصلحة، وفي الصوم مصلحة، وفي شرب الخمر مفسدة، ومن الواضح أنّ هذه الاُمور تكوينية خارجية، وليست مجعولة، ولم يتعلّق بها جعل، ثمّ المولى يعلم بهذه المصلحة باعتباره عالماً بخفايا الاُمور، وعالماً بكلّ شيء، وهو يعلم بهذه الملاكات والمصالح والمفاسد، وإلى هنا لا توجد إلاّ اُمور تكوينية لا علاقة لها بالجعل. وهذا العلم يخلق في نفس المولى الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة، وهذه الإرادة والكراهة كيف نفساني للمولى، وهي ـ أيضاً ـ أمر تكويني، وهي ليست جعلية، وهذه الإرادة والكراهة لو كنّا عبيداً لله تبارك وتعالى فالعقل يحكم ـ حينما نعرف عن طريق إبراز المولى لهذه الإرادة والكراهة أنّ المولى يريد ويكره، أو يحبّ ويبغض ـ بضرورة تحقيق ما يريده المولى، وبضرورة التجنّب عمّا يكره، وهذا هو وجوب الامتثال، وهو

261


حكم العقل، فبعد الإرادة والكراهة يكون على المولى أن يبرزها، ولو لم يبرز لم نعلم بذلك، ونقع تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالمولى يبرز حتّى يقطع هذه القاعدة، وهذا الإبراز فعل للمولى، ومن مقولة الفعل، وليس جعلاً، فأين الجعل! وأيّ حاجة إلى الجعل! وأيّ قيمة للفرض والاعتبار؟! وإنّما تلك الإرادة والكراهة هي روح الحكم، وهي التي يجب علينا أن نمتثلهما حينما تبرز أو نطلح عليهما، والمولى أبرزهما بالإنشاءآت، وهذه الإنشاءآت ليست جعلاً واعتباراً، وإنّما هي إبرازات تبرز ما في نفس المولى(1).

فهذان مسلكان متقاربان أحدهما ينكر الجعل والاعتبار في باب الأحكام الوضعية للغويّة ذلك، وعدم ترتّب أيّ أثر عليه، والثاني ينكر الجعل والاعتبار في باب الأحكام التكليفية للغويّة ذلك أيضاً، وعدم ترتّب أيّ أثر عليه.

والذي يستخلص من كلمات اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الحلقة الثالثة الإجابة عليهما بما يلي من الجوابين المتقاربين:

أمّا مسلك إنكار الجعل والاعتبار في باب الأحكام التكليفية لعدم ترتّب أيّ ثمرة عليه، فجوابه: أنّ عناصر الحكم الثبوتية في الحقيقة ثلاثة: مبادئ الحكم المتمثّلة في المصالح والمفاسد، ثمّ الحبّ والبغض، أو الإرادة والكراهة المنبثقتين من المبادئ الاُولى، أعني: المصالح والمفاسد، ثمّ تحديد مركز حقّ الطاعة بصبّ الشيء في العهدة حيث قد يتّفق أنّ المولى لا يريد أن يكون مصبّ الملاك هو المنصّب في العهدة، بل يريد أن يكون مقدّمة مّا لذاك المصب أو ملازمٌ من ملازماته هو المنصّب في العهدة؛ لكونه أوضح فهماً للمكلف، أو لأيّ نكتة اُخرى، وكما أنّ للمولى حقّ الطاعة في ما يريده كذلك له حقّ تحديد مركز حقّ الطاعة، أو تحديد ما يريد أن يصبّه في العهدة، ويكون الجعل والاعتبار صياغة عرفية غالبية مستخدمة للكشف عن هذا المصبّ لحقّ الطاعة، أو عن الصبّ في العهدة(2).

وأمّا مسلك إنكار الجعل والاعتبار في باب الأحكام الوضعيّة لأجل اللغويّة وعدم ترتّب أثر عمليّ عليه فجوابه ما يلي:

إنّ الأحكام الوضعية التي تعود إلى الجعل والاعتبار الاستقلالي ذات جذور عقلائية، والغرض من جعلها تنظيم الأحكام التكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية، فلا تكون لغواً، فصحيح أنّه كان بالإمكان جعل أحكام الزوجيّة أو الملك من دون جعل الزوجية أو الملك، ولكن ممّا يوجب تسهيل الصياغة التشريعية لتلك الأحكام هو جعل شيء مركزي اسمه الملك أو الزوجية، وربط كلّ تلك الأحكام المتفرّقة بها، فيقال مثلاً: المملوك يحرم غصبه والمملوك يجوز لصاحبه التصرّف فيه، أو يحرم للغير التصرّف فيه وما إلى ذلك، أو يقال: الزوج له كذا


(1)راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع ص 88 ـ 89 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. والمقالات: ج 2، ص 369 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي

(2) راجع الحلقة الثالثة لدروس في علم الاُصول: ج 1، ص 22 بحسب الطبعة الاولى المنشورة من قبل دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري

262


وعليه كذا، والزوجة لها كذا وعليها كذا، فهذا تسهيل لتنظيم الاُمور وتقنينها اعتاده العقلاء(1).

القسم الثاني من التقسيم المشهور للأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الثالث: وهو البحث عن القسم الثاني من القسمين المعروفين للأحكام الوضعيّة، وهي الانتزاعية، فمقصودنا من البحث عن ذلك البحث عن المثال المعروف لذلك، وهو الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فحينما يقال: السورة جزء من الصلاة، يقال: إنّ الجزئية منتزعة من الأمر بالصلاة مع سورة، أو حينما يقال: الطهارة شرط في الصلاة، يقال: إنّ الشرطيّة أمر منتزع من الأمر بالصلاة المقترنة بالطهارة، وحينما يقال: إنّ الحركة الماحية للصورة مانعة أو قاطعة لصورة الصلاة. فهذه المانعية منتزعة من الأمر بالصلاة الفاقدة لهذا المانع. هذا ما يقال عادة.

تفصيل المحقّق العراقي بين(الجزئيّة) و (الشرطيّة والمانعيّة):

والشيء الطريف ما رأيته في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله) من تفصيل بين الجزئيّة من ناحية وبين الشرطيّة والمانعيّة من ناحية اُخرى، فيفترض في الجزئيّة أنّها منتزعة من الحكم التكليفي، كالأمر بالصلاة مع السورة مثلاً، لكن الشرطيّة أو المانعيّة ليستا منتزعتين من الأمر، بل هما ثابتتان قبل الأمر، وإنّما أمر المولى بالصلاة المقترنة بالطهارة؛ لأنّ الطهارة كانت شرطاً، ولهذا أمر المولى بالصلاة مع الطهارة، ولو لم تكن شرطاً لما كان يأمر بذلك أو نهى المولى عن المانع، كالتحرك الماحي للصورة؛ لأنّه كان مانعاً، وإلاّ لم يكن ينهى، فيفرّق بين الجزئيّة وبين الشرطيّة والمانعيّة(2).

والذي يبدو لي من ظواهر عبائره المقتضبة في المقالات والمشروحة في التقريرات هو أنّه يريد أن يقول في مقام بيان الفرق بين الجزئيّة من ناحية وبين الشرطيّة والمانعيّة من ناحية اُخرى: إنّ الشرطيّة والمانعيّة مرجعهما إلى التقييد، فكون الطهارة شرطاً يعني: أنّ الصلاة مقيّدة بالطهارة، وكون الاستدبار مثلاً مانعاً والحدث مانعاً، أو كلام الآدمي مانعاً يعني: أنّ الصلاة مقيّدة بعدم هذه الاُمور، والتقييد مرجعه إلى التحصيص، والتحصيص يثبت قبل الأمر؛ ذلك لأنّ التحصيص راجع إلى عالم المفاهيم وعالم الذهن، والمفهوم في عالم الذهن قابل للتحصيص، يحصّص فيقال: الصلاة مفهوم مطلق لو جعلناها اسماً للأعمّ يشمل حتّى الصلاة بلا طهارة، فلو قلنا: الصلاة مع طهارة صارت حصّة معيّنة، وهذا التحصيص يتمّ قبل الأمر، وبعد ذلك يأتي الأمر على هذه الحصّة، وإنّما نحصّص لأجل المصلحة، أي: لأنّ المصلحة في الصلاة المحصّصة بالطهارة، أو الصلاة المحصّصة بعدم كلام الآدمي ونحو ذلك، وعلى أيّ حال فالتحصيص يكون قبل الأمر، وليس التحصيص بالأمر؛ لأنّ الأمر يتعلّق بالمحَصّص، وعليه فالوضوء شرط قبل الأمر، وهو طرف للإضافة وطرف للصلاة المقيّدة بالوضوء، وكون الوضوء شرطاً يعني: كونه


(1) راجع المصدر السابق: ص 19 بحسب الطبعة الماضية

(2) راجع نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 90 ـ 93 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمقالات: ج2، 370 ـ 374 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم

263


طرفاً لهذه الإضافة، إضافة الصلاة إلى الوضوء، وكون كلام الآدمي مانعاً يعني: أنّه طرف لهذه الإضافة، وهذه الطرفيّة كانت قبل الأمر. إذن الشرطيّة والمانعيّة ثابتة قبل الأمر، وليست منتزعة من الأمر. نعم، بالإمكان أن يضاف إلى المأمور به فيقال هذا شرط المأمور به، أي: إنّ انتسابه إلى المأمور به يكون في طول الأمر، وهذا من قبيل نسبة المكان إلى الصلاة المأمور بها، حيث نقول: إنّ المكان(المسجد) هو مكان الصلاة المأمور بها، وهذا في طول الأمر فلو لم تكن الصلاة المأمور بها لم يكن المسجد مكاناً للصلاة المأمور بها، لكن ياترى هل إنّ مكانيّة المسجد للصلاة انتزعت من الأمر؟! طبعاً لا، فإنّ المكان الذي يصلّى فيه يكون مكاناً للصلاة، أو الزمان الذي يصلّى فيه يكون زماناً للصلاة سواء تعلّق به الأمر أو لا. نعم، بعد أن يتعلّق به الأمر يصبح ذاك الزمان زمان الصلاة المأمور بها، فبهذا المعنى يرتبط بالواجب بما هو واجب، فإن كنتم تقولون بهذا المعنى: أنّ الوضوء شرط للواجب بما هو واجب فهو صحيح، فإنّ الوضوء إنّما صار شرطاً للواجب بسبب كونه واجباً؛ لأنّ الصلاة أصبحت واجبة، ولو لم تكن الصلاة واجبة إذن الوضوء لا يكون شرطاً للواجب، ولكن هذا لا يعني أنّ أصل الشرطيّة للصلاة منتزعة من الأمر، هذا بالنسبة للشرط والمانع، فأصل الشرطيّة والمانعيّة غير منتزعة من الأمر، وإنّما هي منتزعة من نفس ذاك التقيّد الموجود، أو من الملاك أو المصلحة الموجودة في الصلاة المقيّدة بالوضوء قبل الأمر، وهذا بخلاف الجزئيّة فإنّها ليس مرجعها إلى التقييد والتحصيص، كما هي في الشرطيّة والمانعيّة، فإنّ الجزئيّة لو أرجعناها إلى التقييد والتحصيص لما بقي فرق بين الجزئيّة والشرطيّة، وصار الجزء شرطاً، في حين أنّ الجزئيّة غير الشرطيّة، فالجزئيّة ليس مرجعها إلى التقييد والتحصيص الذي يكون أمراً ذهنياً بحتاً، والذي يكون ثابتاً قبل الأمر، وإنّما الجزئيّة مرجعها إلى التوحيد لا إلى التقييد، أي: إنّ هناك توحيداً بين الإجزاء، فإنّ الأجزاء يوحّد بينها فيصبح العمل مركّباً، فيصبح هذا جزءً، والتوحيد بين أجزاء الصلاة لا يمكن إلاّ بنفس الأمر؛ فإنّه لولا الأمر فالأجزاء هي أجزاء متبعثرة متناثرة، فالفاتحة شيء، والركوع شيء، والسجود شيء، ولا تتوحّد إلاّ بوحدة الأمر، أو وحدة الإرادة، أو وحدة الحبّ، فهذا الحبّ أو هذه الإرادة التي جاءت وشملت الكلّ جعل الكلّ شيئاً واحداً.

والخلاصة: أنّ هناك فرقاً كبيراً بين التحصيص والتوحيد، فتحصيص الفاتحة بالسورة ينتج الفاتحة المقترنة بالسورة، فالتقيّد جزء والقيد خارج، وتلك الحصّة من الفاتحة التوأم مع السورة هي التي تؤمر بها، أمّا ذات السورة فهي خارجة، هذا معنى التحصيص، وهذا التحصيص شُغل الذهن لا يحتاج إلى الأمر، ولا يحتاج أن يتوحّد الحمد مع السورة، أمّا التوحيد بينهما فلا يمكن أن يكون توحيداً حقيقياً، إنّما التوحيد يكون بواسطة الأمر، فبما أنّ المجموع أصبح مأموراً به، ولم يكن الحمد وحده مأموراً به، ولا السورة وحدها مأموراً بها، صارت السورة جزءً، فحينما نقول: إنّ السورة جزء يعني ذلك: أنّها جزء للمأمور به، وليس لذلك معنىً آخر. فإذن الجزئيّة منتزعة من الأمر؛ إذ لولا الأمر لا معنى لكون السورة جزءً، هذه خلاصة ما ورد عن كلام الشيخ العراقي(رحمه الله).

ولكنّ هذا الفرق بين الجزئيّة والشرطيّة غير واضح لدينا بالمقدار الذي بيّنه(رحمه الله)، ونحن لو أردنا أن نفحص عالم الذهن وعالم التصوّر، وقبل عالم الأمر نستطيع أن نتصوّر بالنسبة لعالم الذهن ولما في الذهن جزءً، ونستطيع أن نتصوّر شرطاً، فالشرط هو ذاك المحصّص كما قال، يعني: نتصوّر في ذهننا الحمد: المقترن بالسورة، فتلك الحصّة التوأم تكون السورة مثلاً شرطاً لها بحيث لولا السورة لما تحقّقت تلك الحصّة. هذا في عالم الذهن وقبل الأمر،

264


ونستطيع أن نفترض السورة جزءً وذلك كما لو تصوّرنا أو تصوّر المولى في ذهنه الحمد والسورة معاً بحيث صبّ تصوّره على مجموع الأجزاء العشرة قبل أن يأمر بها، فيكون كلّ منها جزءً لما تصوّر، لكن متى تكون السورة شرطاً للمأمور به؟ أو متى تكون السورة جزءً من المأمور به؟ كلاهما يكونان حينما يأمر المولى، فحينما يأمر المولى بالفاتحة محصّصة بالاقتران بالسورة تكون السورة شرطاً للمأمور به، ومتى ما يأمر المولى بالمجموع، أي: بمجموع الحمد والسورة، تكون السورة جزءً للمأمور به، فعلى أيّ حال، هذا الفارق لا نفهمه فارقاً واضحاً بين الجزئيّة وبين الشرطيّة والمانعيّة.

إشكال الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة:

وأمّا الأمر الرابع، وهو البحث عن التفصيل في الاستصحاب بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة، فقد قيل: إنّ صاحب هذا التفصيل هو الفاضل التوني(رحمه الله)، فقد فصّل بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة، وقال: إنّ الأحكام التكليفيّة يجري فيها الاستصحاب، ولكن الأحكام الوضعيّة(أو قل: الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة) لا يجري فيها الاستصحاب؛ لأنّ الأحكام الوضعيّة عقليّة انتزاعيّة انتزعها العقل، فلا معنى لاستصحابها(قد ورد في تقرير بحث الشيخ العراقي نسبة هذا التفصيل إلى الفاضل التوني(1)، إلاّ أنّ الموجود في كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري؛ هو عكس ذلك، أي: إنّ الفاضل التوني ينكر الاستصحاب في الحكم التكليفي، ويقبله في الحكم الوضعي.)(2).

وأجاب عن ذلك الشيخ العراقي(رحمه الله) فقال: نحن لا نحتاج في الاستصحاب إلى أكثر من أن يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، والأحكام الوضعيّة حتّى إذا كانت انتزاعيّة فأمر وضعها ورفعها بيد الشارع ولو بواسطة منشأ انتزاعها، فحتّى لو فرضت اُموراً انتزاعيّة، أو ليس منشأ انتزاعها بيد الشارع وهو الذي يخلق ويجعل منشأ الانتزاع أو يرفعه؟! فالمنتزع ـ أيضاً ـ يكون بيد الشارع تبعاً، فلماذا لا يجري الاستصحاب؟! هذا كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)(3).

وهذا المقدار من الكلام غير كاف؛ لأنّه صحيح أنّ الاُمور الانتزاعيّة أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، لكنّنا لا يكفينا في الاستصحاب مجرّد أن يكون أمر رفع ووضع الشيء بيد الشارع، بل نحتاج إلى شيء آخر، وهو الأثر العملي؛ لأنّ الاستصحاب أصل عملي ورد للتنجيز والتعذير، وورد لإثبات الآثار العمليّة، فيجب أن نرى: هل هناك أثر عملي لاستصحاب الجزئيّة والشرطيّة مثلاً أو لا أثر عملي لذلك؟

السيد الخوئي(رحمه الله) يقول على ما ينقل عنه: إنّ الاستصحاب جار(وهو يناقش في أصل الاستصحاب في الشبهات الحكميّة) ويقول بعد فرض تسليم الاستصحاب في الشبهات الحكميّة: إنّ الاستصحاب جار بلا فرق بين


(1) نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع ص 87 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم

(2) راجع الرسائل: ص 328 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق رحمة الله

(3) راجع نهاية الأفكار نفس الجزء ونفس الصفحة

265


الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة؛ وذلك لأنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: إمّا هي أحكام مجعولة مستقلّة، إذن هي عائدة إلى الشارع. وإمّا أن تكون منتزعة فأيضاً هي وباعتبارها منتزعة تعود إلى الشارع، فتستصحب. نعم، هناك استصحاب حاكم على هذا الاستصحاب، فهو لا يجري لا لأنّ هناك خللاً في هذا الاستصحاب، وإنّما لوجود الحاكم فمثلاً، إذا شككنا في سقوط السورة عن الجزئيّة يمكن أن نستصحب جزئيّة السورة، لكن استصحاب وجوب الصلاة مع سورة حاكم على استصحاب جزئيّة السورة؛ لأنّ ذاك استصحاب لمنشأ انتزاعي يحكم على استصحاب الأمر المنتزع. هذا ما يقوله السيّد الخوئي(رحمه الله)(1).

وهذا الكلام ـ أيضاً ـ بهذا المقدار شبيه بكلام الشيخ العراقي، وهذا الكلام لا يقنع، فنحن يجب أن نرى: أنّه هل حقّاً لدينا استصحابان: استصحاب لوجوب الصلاة مع السورة، واستصحاب لجزئيّة السورة، بحيث نقول: بما أنّ ذاك حاكم على هذا، فمن باب الحكومة لا يجري الثاني، ولو ابتلى ذلك بمعارض فسقط جرى الثاني، أو لا يوجد في المقام إلاّ استصحاب واحد، ولا يوجد استصحابان أصلاً؛ لعدم وجود أثر عملي لاستصحاب الجزئيّة لو لم نرجعه إلى استصحاب وجوب الصلاة مع سورة؟ والصحيح هو الثاني، فبعد أن فرض أنّ جزئيّة السورة مثلاً لم تكن موضوعاً لوجوب الاتيان بها، وإنّما كانت أمراً منتزعاً من وجوب الصلاة مع سورة، ووجوب الصلاة مع سورة هو الذي يرتبط رأساً بالوجوب العقلي للامتثال بالإتيان بمتعلّقه وهو الصلاة مع سورة، فأيّ أثر عمليّ يترتّب على هذا العنوان الانتزاعي، وهو الجزئيّة أو على استصحابه؟! وعليه، فلا معنى أصلاً لاستصحاب الجزئيّة إلاّ بإرجاعه إلى استصحاب وجوب الصلاة مع سورة، وإذا عجز عن الجزء وكان الهدف من استصحاب الجزئيّة إثبات سقوط الواجب عنه فلامعنىً ـ أيضاً ـ لاستصحاب الجزئيّة إلاّ بإرجاعه إلى استصحاب عدم وجوب الفاقد لذلك الجزء، ولا بأس بأن نسمّي ذلك باسم استصحاب جزئيّة السورة، لكن ليس هناك استصحابان أحدهما حاكم على الآخر، وإن كان هذا غير ذاك فلا أثر عملي له أصلاً، فلا قيمة لاستصحاب الجزئيّة بهذا الشكل.

تبقى كلمة مختصرة حول الشرطيّة والسببيّة والمانعيّة للوجوب، فمثلاً زوال الشمس كان سبباً للصلاة والآن شككنا: هل إنّ زوال الشمس لا زال سبباً لوجوب الصلاة أو لا، فأردنا أن نستصحب السببيّة، وهذا الاستصحاب ـ أيضاً ـ يجب أن يرجع إلى استصحاب وجوب الصلاة إذا زالت الشمس، إلاّ أنّ هذا في غير الموارد التي ترجع إلى استصحاب عدم النسخ يكون من سنخ الاستصحاب التعليقي؛ إذ معنى ذلك: أنّه في ما مضى إذا كانت الشمس تزول كانت الصلاة تجب، والآن ـ أيضاً ـ كذلك وبناءً على قبول هذا النمط من الاستصحاب التعليقي يتمّ هذا الاستصحاب، وهذا راجع إلى ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه من بحث الاستصحاب التعليقي.

وقبل أن نُنهي الحديث عن استصحاب الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة لا بأس بالإشارة إلى أنّ ما انتهينا إليه من عدم جريان الاستصحاب في تلك الأحكام قد يؤدّي إلى ثمرة عمليّة في بعض الأحكام الوضعيّة المردّد أمرها بين كونها مجعولة جعلاً استقلاليّاً أو منتزعة من الأحكام التكليفيّة، فمثلاً في باب الملكيّة لو قلنا بأنّها مجعولة جعلاً مستقلاًّ وأنّها جعلت موضوعاً للأحكام التكليفيّة، فلدى الشكّ في بقاء الملكيّة يكون جريان الاستصحاب في


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 88 ـ 89 بحسب طبعة مطبعة النجف

266


غاية الوضوح، أمّا لو قلنا بأنّ الملكيّة عنوان منتزع من جواز التصرّف ونحوه من الأحكام التكليفيّة، وليست موضوعاً لحكم من تلك الأحكام، فهنا نقول: لا معنى لاستصحاب الملكيّة؛ لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما له أثر، وهذا الأمر الانتزاعي لا أثر له شرعي، ولا أثر شرعي لاستصحابه، فلا يجري استصحابه، وإنّما يجب أن ننتقل إلى استصحاب الحكم، وعندئذ قد يختلّ الاستصحاب، فلو أنّ جواز التصرّف كان مختلاًّ؛ وذلك لسفه، أو صغر، أو جنون، أو نحو ذلك من أسباب الحجر، وبعد ذلك ارتفع السبب، وفي نفس الوقت شككنا في بقاء الملكيّة، فلو كانت الملكيّة هي الموضوع للحكم فما أسهل أن يجري استصحاب الملكيّة، وإذا استصحبنا الملكيّة يترتّب عليها جواز التصرّف؛ لأنّ الحاجب قد ارتفع والملكيّة مستصحبة، فيجوز التصرّف. أمّا لو فرضنا أنّ الملكيّة أمر انتزاعي بحت منتزع من الأحكام، فهنا استصحاب الملكيّة لا معنى له، واستصحاب جواز التصرّف لا معنى له؛ لأنّ جواز التصرّف كان مسبوقاً بالعدم، فهنا يشكل الاستصحاب من هذه الناحية، إلاّ أن نفحص عن استصحاب موضوعيّ آخر ينتهي إلى نفس النتيجة العمليّة، وهذا قد يحصل وقد لا يحصل.

حقيقة الطهارة والنجاسة:

وأمّا الأمر الخامس: وهو البحث عن حقيقة الطهارة والنجاسة، هل هما حكمان جعليّان جعلتهما الشريعة أو أنّهما أمران حقيقيّان تكوينيّان واقعيّان كشفت عنهما الشريعة؟ فلعلّ المشهور بين المحققين المتأخّرين هو: أنّ النجاسة والطهارة حكمان جعليان جعلتهما الشريعة، ولكن نسب إلى الشيخ الأنصاري(رحمه الله) أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيّان واقعيّان، فالنجاسة نوع قذارة واقعيّة حقيقيّة، والطهارة نوع نظافة معنويّة واقعيّة حقيقيّة، وليستا جعليّتين، والشريعة كشفت عنهما وأخبرتنا عنهما.

استدلال السيّد الخوئي على مجعوليّة الطهارة والنجاسة:

إختار السيّد الخوئي(رحمه الله) ما هو المشهور من كونهما أمرين مجعولين، ووردت في ما نسب إليه في تقرير بحثه عدّة وجوه لذلك(1)، وهي ما يلي:

الوجه الأوّل: ظاهر نصوص الشريعة أنّها بصدد التشريع وليست بصدد الإخبار عن الواقع.

وهذا الكلام فيه احتمالان: أحد الإحتمالين ما لعلّه الأظهر، وهو: أنْ يكون مقصوده بذلك: أنّ الأصل في كلام المشرّع أنّه قد صدر منه بما أنّه مشرّع وليس بما هو مخبر، فحينما يقول: جعل الله الماء طهوراً، أو حينما يقول: الماء طاهر، والبول قذر أو نجس، أو الكلب رجس نجس، أو نحو ذلك فالظاهر من هذه الكلمات أنّها صدرت منه بما أنّه مشرّع، أي: إنّها ظاهرة في الجعل والتشريع، وحملها على الإخبار باعتباره مطّلعاً على أسرار العالَم وخصائص الأشياء فيخبرنا أنّ الكلب فيه قذارة والماء فيه طهارة ونظافة خلاف الظاهر، بل ظاهر كلام المشرّع أنّه كلام صدر منه بما هو مشرّع.


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3 ص 84 ـ 85 بحسب طبعة مطبعة النجف

267


الوجه الثاني: أنّه توجد لدينا بعض المصاديق للطهارة والنجاسة بحيث لا يحتمل أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة تكوينيّة وواقعيّة، ولا بدّ أن نفسّرها على أساس تفسير قضيّة جعليّة واعتباريّة، مثاله: ولد الكافر إن لم نقل: إنّ نجاسة الكافر ليست إلاّ قضيّة اعتباريّة لا قضيّة تكوينيّة خارجيّة، فولد الكافر ملحق بأبيه، ولنفرض أنّنا أخذنا هذا الولد وأتينا به إلى بلادنا وأبعدناه عن أبيه، لكنّه ما دام صغيراً لم يبلغ الحلم هو بحكم الشريعة ملحق بأبيه ويحكم عليه بالكفر، فهو نجس، ثمّ صادف أنّ أباه هناك في بلاده أسلم لسبب من الأسباب حيث رأى أدلّة الإسلام واعتقد بها، فأسلم، وبمجرّد أن أسلم أصبح هذا الولد طاهراً، فهل نحتمل أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة في هذا الولد، وقذارة واقعيّة فيه باعتباره كافراً مسيحيّاً، وبمجرّد أن أسلم أبوه تبدّلت تلك الخصوصيّات التكوينيّة، وأصبح نظيفاً؟! هذا لا نحتمله، فهذه الطهارة والنجاسة هي حتماً طهارة ونجاسة جعليّة.

الوجه الثالث: أنّه ماذا تقولون في الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة؟! فمن الواضح أنّ الطهارة الظاهريّة والنجاسة الظاهريّة جعليتان، ولا يمكن أن تكونا تكوينيّتين، فإنّ الحكم الظاهري حتماً جعلي يجعله الشارع، ولا يمكن أن يكون شيئاً حقيقياً واقعياً وخارجياً.

مناقشة استدلال السيّد الخوئي:

ونحن نبدأ في مناقشتنا مع السيّد الخوئي(رحمه الله) بهذا الوجه الثالث، وهذا الوجه الثالث إن كان هذا الظاهر الموجود في التقرير مقصوداً، فهو واضح البطلان، فلا أحد يقول: إنّ الحكم الظاهري هو شيء حقيقي وواقعي وتكويني، وحتّى الشيخ الأنصاري ـ إن صحّ ما نسب إليه من أنّ الطهارة والنجاسة أمران تكوينيان ـ هو حتماً يعترف أنّ إثباتهما الظاهري إثبات جعلي، ومعنى كون الحكم ظاهرياً هو: أنّ المولى فرض واعتبر ظاهراً تحقّق ذاك الشيء، فاستصحاب بقاء الحياة مثلاً يعني: اعتبار الحياة وجعلها ظاهراً، ولكن الحياة ليست شيئاً اعتبارياً جعلياً، بل هي شيء تكويني نحكم ببقائه ظاهراً، وهذا الحكم اعتباري جعلي، إنّما الكلام في المستصحب وهو الحياة، هل هو تكويني أو اعتباري، ونقول: لا شكّ في كونه تكوينياً، كذلك في ما نحن فيه حينما نبحث أنّ الطهارة والنجاسة هل هما أمران واقعيان أو أمران مجعولان، نتكلّم في أصل الطهارة والنجاسة، ولا نتكلّم في إثباتهما الظاهري، فإثباتهما الظاهري حتماً إثبات جعلي اعتباري، ككلّ حكم ظاهري ولو كان متعلّقاً بأوضح الاُمور تكوينيّةً.

وأمّا الوجه الثاني، وهو النقض بالكافر أو بولده، فهذا قد يثبت أنّه إذن بعض النجاسات تكون نجاستها اعتباريّة، لكن هذا لا يثبت على الإطلاق أنّ النجاسة والطهارة أمران اعتباريان جعليان، وإن شئت فقل: لعلّ الطهارة والنجاسة بالأصل أمران حقيقيّان واقعيّان وثابتان في أكثر موارد الطهارة والنجاسة، ولكن في بعض الموارد اتّفق أنّ هذا الشيء الواقعي فرضه المولى فرضاً واعتبره اعتباراً، أو نزّل ذاك الشيء الآخر منزلة هذا تنزيلاً لحكمة مّا، فالكافر مثلاً فرضه المولى بمنزلة الكلب في النجاسة لحكمة إبعاد المسلمين عن الكفّار، وعدم اكتسابهم من قذاراتهم المعنوية، فلا يمكن أن يكون بعض موارد النقض دليلاً شاملاً يدلّ على أنّ الطهارة والنجاسة بشكل عامّ أمران جعليّان.

وأمّا الوجه الأوّل، وهو: أنّ الكلمات التي تصدر من المشرّع يجب أن تحمل على أنّها صدرت من المشرّع بما

268


هو مشرّع، لا أنّها صدرت منه بما هو إنسان مخبر عن حقائق الاُمور، وكاشف عن الدقائق الموجودة في هذا العالم، فهذا الوجه ـ أيضاً ـ غير صحيح ـ إن كان هذا هو المقصود ولعله الظاهر من العبارة ـ وذلك لأنّه صحيح: أنّنا على العموم نقول: أنّ الأصل في الشارع عندما يصدر كلاماً أن يكون كلامه بما هو مشرّع لا بما هو مخبر لكن هذا الكلام إنّما نقوله على العموم بنكتة، وتلك النكتة هي: أنّ هذا المشرّع بوصفه حاكماً وبوصفه مشرّعاً لدين من الأديان، منقطع الصلة بالاُمور التكوينيّة. نعم، قد يشرح التكوينيّات، وقد يشرح الآفاق والأنفس، والعجائب الموجودة في الآفاق والأنفس لهدف تحكيم الاعتقادات، ولأهداف اُخرى، ولكن بما أنّه مشرّع لدين لا يكون بصدد بيان أسرار الآفاق، وإنّما هو بصدد التشريع، هذا المعنى على العموم صحيح، لكن لو أنّ هناك خصوصيّات تكوينيّة أصبحت موضوعة لآثار شرعيّة، فكان عليه أن يكشفها، ونحن لا نعلم بها كي نرتّب آثارها الشرعية، فهنا ليس حمل كلام هذا المشرع على الكشف والإخبار عن تلك الاُمور خلاف طبع المشرّع، فلو فرضنا أنّ النجاسة والطهارة أمران تكوينيّان لكنّهما ـ على أيّ حال ـ موضوعان لآثار شرعية، فالقذارة التكوينيّة للبول موضوع لبطلان الصلاة ولحرمة الشرب مثلاً، وكذلك طهارة ومطهّريّة الماء موضوع لأحكام، فهنا لا معنى للقول بأنّ حمل كلام الشارع على الكشف عن ذلك خلاف الظاهر. نعم، بشكل عامّ نحن نقول: إنّ كلام المشرّع يحمل على عالم التشريع، وهذا معناه: أنّ غرض المشرّع راجع الى تكميل تشريعه وليس إلى عوالم التكوين، فهو حينما يتكلّم بما هو بارئ ومكوّن يحكي عن الغيب، ويحكي عن أسرار العالَم، ولكن حينما يتكلّم بما هو مشرّع يكون في عالم آخر، ولا ينظر في هذه الحال إلى بيان أسرار التكوين في ذاتها، ولا إشكال في أن حديثه عن الطهارة والنجاسة يكون ناظراً إلى عالم التشريع، ولأجل تحقيق أهداف التشريع، ولكن هذا لا ينافي حمل كلامه على الإخبار عن الاُمور التكوينيّة المؤثّرة في تحديد الأحكام، وتشخيص موضوعاتها التي يعجز الإنسان الاعتيادي عن تشخيصها.

الاستدلال ببعض الروايات على مجعولية الطهارة والنجاسة:

ولعلّ أقوى الوجوه التي يمكن أن تذكر لإثبات كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين لا واقعيّين هو التمسّك ببعض الروايات، ولعلّ مقصود السيّد الخوئي(رحمه الله) من الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرها هو ذلك.

وعلى أيّ حال، فهناك عدد من الروايات قد يستظهر منها كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين، ونحن نذكر هنا بهذا الصدد روايات ثلاث:

الرواية الاُولى: رواية داود بن فرقد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:«كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسّع الله عليكم ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).

هذه الرواية ظاهرها: أنّ الماء لم يجعل من قبل الله تبارك وتعالى طهوراً لبني اسرائيل، إنّما جعله طهوراً لكم


(1) الوسائل: ب 1 من الماء المطلق، ح 4

269


أنتم أيّها المسلمون، إذن، فهذه الطهارة طهارة تشريعيّة؛ إذ لو كانت طهارة تكوينيّة لم يكن فرق فيها بين المسلمين وبين بني اسرائيل، وليس في عصرنا هذا أصبحت للماء خصوصيّة تكوينيّة لم تكن موجودة في زمان بني إسرائيل، وإذا كانت الطهارة تشريعيّة فالنجاسة التي تكون هذه رافعة لها ـ أيضاً ـ تشريعية؛ لأنّ رفع النجاسة التكوينيّة بالتشريع غير معقول.

الرواية الثانية: رواية محمّد بن حمران، وجميل بن درّاج، «أنّهما سألا أبا عبدالله(عليه السلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أيتوضأ بعضهم ويصلي بهم، فقال: لا، ولكن يتيمّم الجنب ويصلّي بهم، فإنّ الله عزّ وجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(1). فهنا جعل التراب طهوراً جعل تشريعي وليس جعلاً تكوينياً؛ لأنّ جعل التراب طهوراً يقصد به الطهارة الحدثيّة، بمعنى رفع الجنابة، والطهارة الحدثية تشريعية وليست تكوينية، وعندئذ فبوحدة السياق نفهم أنّ الجعل في قوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً جعل تشريعي، وطهوريّة الماء مطلقة ليست مخصوصة بالطهارة عن الحدث، بل تشمل الطهارة عن الحدث وعن الخبث، وإنّما سمّيت الطهارة الحدثية بالطهارة تشبيهاً للحدث بالخبث، ولفرض الحدث كأنّه نوع قذارة، ولهذا سمّي رفعها طهارة فكأنما الحدث نوع قذارة إلاّ أنّها قذارة معنوية، ورفعها طهارة معنوية، فإذا كان المقصود بطهوريّة الماء ما يشمل مطهّريته للخبث،وعرفنا بوحدة السياق أنّ المقصود الجعل التشريعي للتطهير، عرفنا بذلك أنّ النجاسة التي ترفع بهذا التطهير التشريعي ـ أيضاً ـ نجاسة تشريعيّة؛ لأنّ الشيء التكويني لا يمكن رفعه بالتشريع.

الرواية الثالثة: رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام):«لا صلاة إلاّ بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمّا البول فإنّه لابدّ من غسله»(2) بناءً على أنّ المسح بثلاثة أحجار لا يرفع غالباً القذارة التكوينيّة، فيكون هذا شاهداً على أنّ المقصود الطهارة التشريعيّة ورفع القذارة التشريعيّة.

مناقشة الاستدلال:

إلاّ أنّ الاستدلال بكلّ هذه الروايات قابل للمناقشة.

فالرواية الأخيرة لو حملت على التطهير التكويني فالأحجار الثلاثة وإن كانت في الغالب لا تولّد الطهارة والنقاء التامّين، ولذا يكون الاستنجاء بالماء أفضل، ولكن لا شكّ في أنّها توجب مستوى من الطهارة والنقاء التكوينيين، فمعنى الرواية: أنّه في باب الاستنجاء يجزيك هذا المستوى من الطهور المتمثّل في ثلاثة أحجار.

والرواية الثانية لو تمّ أنّ ما فيها من قوله:«جعل التراب طهوراً» يقصد به الطهارة التشريعيّة، باعتبار أنّ الطهارة الحدثية لا تكون إلاّ تشريعيّة، فوحدة السياق تقتضي أنّ المقصود بقوله:«كما جعل الماء طهوراً» أيضاً هي الطهارة التشريعيّة، فإذا شككنا في تشريعيّة وتكوينيّة الطهارة الخبثيّة لم يكن مقتضى الإطلاق شمول الطهارة

270

هذا تمام ما أردنا أن نذكره من التفاصيل التي تقال في الاستصحاب مع تفنيدها، وبعد هذا نشرع في ذكر تنبيهات الاستصحاب.

 

 


للطهارة الخبثية، وإثبات أنّ الطهارة الخبثية إذن تشريعيّة، بل أصبح هذا الشكّ والإجمال مانعاً عن الجزم بالإطلاق، فإنّ وحدة السياق صرفت قوله:«كما جعل الماء طهوراً» إلى الجعل التشريعي. فلو كانت الطهارة الخبثية تكوينيّة لا تشريعيّة فالكلام منصرف عنها.

وأمّا الرواية الاُولى فعيبها اشتمالها على أمر خرافيّ يقطع بكذبه، وهو أنّ بني إسرائيل كانوا يقرضون لحومهم بالمقاريض إذا أصاب أحدهم البول.

نتيجة البحث:

فإذا لم يتمّ دليل على تشريعيّة الطهارة والنجاسة قلنا: لا إشكال في أنّ الطهارة والنجاسة حتّى لو كانتا أمرين تشريعيّين ومجعولين فهما في غير مثل الكافر الذي لا تكون نجاسته ناظرة إلى قذارة تكوينيّة، بل قذارته معنوية بحت، لا شكّ في أنّهما تكشفان عن نوع من نظافة وقذارة تكوينيّتين، فإما أنّ تلك النظافة والقذارة التكوينيّتين هما الطهارة والنجاسة بمعناهما الشرعي، أي: أنّ الطهارة والنجاسة الشرعيتين أمران تكوينيان كشف عنهما الشارع، وإمّا أنّهما الملاك لتشريع الطهارة والنجاسة وجعلهما، فاصل ثبوت نظافة وقذارة تكوينيّة في موردهما ممّا لا شكّ فيه، ووجود أمر مجعول هو المشكوك، وهو الذي يحتاج إلى دليل وعدم تماميّة شيء من الأدلّة على ذلك كاف في عدم ترتيب الأثر العملي الذي يترتّب على مجعوليّة الطهارة والنجاسة.

والأثر العملي لذلك يظهر في موارد استصحاب النجاسة لدى ارتفاع بعض مستويات القذارة التكوينيّة ببعض التطهيرات التكوينيّة التي شككنا بنحو الشبهة الحكميّة في كفايتها في التطهير شرعاً، فبناءً على كون الطهارة والنجاسة أمرين تشريعيّين يجري استصحاب النجاسة؛ لأنّها كانت مقطوعاً بها وقد شككنا في ارتفاعها. أمّا بناءً على كونهما أمرين تكوينيّين فيشكل الاستصحاب؛ لأنّ المفروض أنّ مستوىً من القذارة أو النجاسة التكوينيّة قد ارتفع يقيناً، والمستوى الآخر لم يثبت كونه موضوعاً للأحكام، فتصل النوبة إلى الاُصول الحكميّة المتأخّرة والتي تختلف باختلاف الموارد.

هذا تمام ما أردنا بيانه تحت عنوان بحث الحكم الوضعي، والحمد لله ربّ العالمين.


(1) الوسائل: ب 24 من التيمّم، ح 2

(2) الوسائل: ب 9 من أحكام الخلوة، ح 1

271

الاستصحاب

4

 

 

 

 

تنبيهات الاستصحاب

 

 

✽ وفاء الاستصحاب بدور القطع الموضوعي.

✽ جريان الاستصحاب عند الشكّ التقديري.

✽ جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة بغير اليقين.

✽ جريان الاستصحاب في الكليّات.

✽ استصحاب الزمان والزمانيات.

✽ الاستصحاب التعليقي.

✽ استصحاب عدم النسخ.

✽ الأصل المثبت.

✽ الاستصحاب في متعلّقات الاحكام.

✽ استصحاب جزء الموضوع.

✽ تأثير العلم بانتقاض أحد جزئي الموضوع في جريان الاستصحاب.

✽ الرجوع الى عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص.

273

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وفاء الاستصحاب بدور القطع الموضوعي:

 

التنبيه الأوّل: في سعة دائرة المجعول في باب الاستصحاب وضيقها، وأقصد بذلك أنّ الاستصحاب هل يُثبت آثار العلم الطريقي فقط من التنجيز والتعذير، أو تترتّب عليه ـ أيضاً ـ آثار العلم الموضوعي؟

ولهذا البحث ثمرات مهمة ولو فنّاً وصناعةً:

فمن ثمراته جواز الإفتاء بالحكم الواقعي عند إثباته بالاستصحاب وعدمه، فمثلاً لو جرى استصحاب وجوب صلاة الجمعة وقلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، جاز الإفتاء بوجوب صلاة الجمعة واقعاً، وإلاّ فلا يجوز ذلك، وإنّما يجوز الإفتاء بالوجوب الظاهري. هذا بناءً على أنّ موضوع جواز الإفتاء بحكم هو العلم به لا ثبوته واقعاً، وإلاّ لكان جواز الإفتاء به من آثار الحكم المستصحب، فيترتّب على الاستصحاب بلا إشكال.

ومنها: أنّه لو قام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي أصبح بهذا حاكماً على البراءة ورافعاً لموضوعها؛ لأنّ البراءة مغيّاة بالعلم، والاستصحاب يقوم مقام العلم تعبّداً، بخلاف ما لو لم يقم مقام العلم الموضوعي، فلا يحكم عندئذ على البراءة، ولا يقدّم عليها بهذا الوجه.

ومنها: حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي بنفس ذلك البيان.

وقبل أن نشرع في بيان وجوه الاستدلال على قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي والتكلم فيها نذكر شيئاً، وهو: أنّ تلك الوجوه إنّما ينفتح باب البحث عنها بناءً على ما اخترناه من أنّ المقصود من دليل الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين، وأمّا بناءً على ما

274

ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ المقصود بالنقض في دليل الاستصحاب هو نقض المتيقّن، فلا يوجد رجاء معتدّ به في إثبات قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي.

وتوضيح ذلك: أنّه تارة يفرض أنّ المراد الاستعمالي من النهي في لا تنقض اليقين(بمعنى لا تنقض المتيقّن) هو النهي عن النقض الحقيقي للمتيقّن، واُخرى يفرض أنّه هو النهي عن النقض العملي له، فإن فرض الأوّل، فبما أنّ نقض المتيقّن ليس مقدوراً واختياريّاً يكون المراد الجدّي من هذا النهي هو الإرشاد إلى عدم انتقاض المتيقّن، من قبيل إرشاديّة قوله:«دعي الصلاة أيّام أقرائك» الى البطلان بناءً على عدم كونه تحريماً للصلاة حرمة تكليفيّة، وبما أنّ انتقاض المتيقّن قد يكون ثابتاً في الواقع فالمقصود من ذلك هو عدم الانتقاض، وبقاء الواقع تعبدّاً وتنزيلاً، وبكلمة اُخرى: يكون المقصود إنشاء عدم الانتقاض والتعبّدية، وهذا كما ترى إنّما يوجب ترتيب آثار الواقع دون آثار العلم الموضوعي.

وإن فرض الثاني وهو النهي عن النقض العملي، فهنا بالإمكان فرض كون المراد الجدّي ـ أيضاً ـ هو النهي؛ لأنّ النقض العملي يكون داخلاً تحت الاختيار، فإن حملت العبارة على ذلك فهي إنّما تدلّ ـ كما ترى ـ على حرمة عدم ترتيب آثار المتيقّن، ولا ربط لها بالعلم الموضوعي وآثاره، وبالإمكان فرض هذا النهي ـ أيضاً ـ كنائياً كما كان يفرض كنائياً بناءً على الأوّل، إلاّ أنّ الكناية هنا أطول مسافةً منها هناك؛ إذ أنّه هناك كان النهي عن نقض المتيقّن كناية عن عدم انتفاضه، وهنا يكون النهي عن لازم ذلك كناية عن عدم الملزوم، فإنّ انتقاض المتيقّن لازمه النقض العملي، فقد نهى عن اللازم كناية عن عدم الملزوم، بينما كان على الأوّل ينهى عن نفس الملزوم كنايةً عن عدمه، وعلى أيّ حال فقد أصبح المراد الجدّي ـ أيضاً ـ هو التعبّد ببقاء الواقع، وهذا إنّما يوجب ترتيب آثار الواقع، ولا علاقة له بالعلم الموضوعي وآثاره.

فقد تحصّل أنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن يحذو حذوه في حمل النقض في الحديث على نقض المتيقّن ليس من حقّه الذهاب إلى قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، وحكومته على البراءة، وحكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي بالتقريب المشهور عندهم، وإنّما ينفتح باب البحث عن ذلك بنحو معتدّ به بناءً على ما ذهبنا إليه من حمل النقض على نقض اليقين.

هذا. والهدف هنا من البحث هو البحث عن التقريبات المنسجمة مع قيام الاستصحاب

275

مقام القطع الموضوعي بحسب عالم الإثبات، ونحذف هنا البحث الثبوتي، فإنّ البحث عن قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي والموضوعي وترتّب التنجيز والتعذير عليه مع آثار القطع الموضوعي تارة يكون ثبوتياً، أي: بحثاً عن إمكان إثبات ذلك من كلام يفرض وروده من الشارع، واُخرى اثباتياً وهو دلالة العبارة الواردة في تشريع الاستصحاب على ذلك بعد الفراغ عن إمكان ذلك ثبوتاً. أمّا البحث الثبوتي فقد مضى منّا مفصّلاً في مبحث القطع فنحذفه هنا، وأمّا البحث الإثباتي ـ بعد فرض الفراغ عن مرحلة الثبوت ـ فيمكن تقريب مفاد دليل الاستصحاب بنحو ينسجم مع قيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً بوجوه:

الوجه الأوّل: ما يُتراءى من بعض كلمات السيّد الاُستاذ(1) ـ وإن لم يكن التفاته الأساسي إلى هذا البحث ـ من أنّ مفاد دليل الاستصحاب بمدلوله المطابقي هو التعبّد ببقاء اليقين، وإذا تعبّدنا ببقاء اليقين عملنا ـ لا محالة ـ بكلا قسمي آثاره، أي: آثاره العقليّة من التنجيز والتعذير، وآثاره الشرعيّة كجواز الإفتاء مثلاً.

وكلماته وإن كانت مجملة من ناحية: أنّه هل يقصد كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب هو التعبّد ببقاء اليقين، أو يقصد: أنّه يستفاد ذلك منه ولو بغير الدلالة المطابقية الابتدائية، لكن يتراءى من بعض كلماته(2) الأوّل.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا موقوف على كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب هو النفي لا النهي، فيكون قد نفى انتقاض اليقين، أي: أنّه حكم تعبّداً ببقاء اليقين، فيكون هذا مثلاً من قبيل ما لو قال (اليقين باق)، ولو قال هكذا فلا إشكال بعد فرض الفراغ عن مرحلة الثبوت في أنّه يرتّب آثار اليقين الطريقي والموضوعي معاً، ولكن هذا غير ثابت، فلعلّ المدلول المطابقي لقوله:«لا ينقض اليقين الشكّ» هو النهي، بل بعض عبارات الأدلّة صريحة في النهي، كما في(لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ). نعم يمكن أن يفرض أنّ النهي كناية عن نفي الانتقاض، لكن هذا يكون تقريباً آخر يأتي ـ إن شاء الله ـ غير ما هو المفروض الآن من دلالة الدليل بالمطابقة على المقصود.


(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما أفاده السيّد الخوئي في بحث القطع، راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 38 ـ 39، والدراسات: ج 3، ص 37.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى المورد الذي أشرنا إليه، أو إلى كلام السيّد الخوئي في بحث الشكّ في المقتضي، راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 30.

276

وثانياً: أنّنا لا نكتفي بما مضى في الإشكال الأوّل من دعوى أنّه لم يثبت كون مفاد(لا ينقض) هو النفي، بل نترقّى عن ذلك ونقول: إنّ الذي يظهر منه هو إرادة النهي لا النفي؛ إذ لو كان يقصد النفي لكان مقتضى التعبير العرفي أن يسند النفي إلى الانتقاض لا النقض، بأن يقول: لا ينتقض اليقين بالشكّ، فإنّ المناسب للنفي في المقام هو الشيء بوجهته الخارجية وبالمعنى الاسم المصدري، لا بوجهته الصدورية وبالمعنى المصدري، والثاني إنّما يناسب ارادة النهي.

وثالثاً: أنّه لو سلّمنا كون المستفاد من دليل الاستصحاب بمدلوله المطابقي هو النفي، قلنا: إنّ هذا لا يكفي في كون نفي نقض اليقين بمعنى إنشاء بقاء اليقين ودالّاً بالمطابقة على ذلك، بل إنّما يتمّ ذلك إذا كان المقصود بالنقض النقض الحقيقي لا النقض العملي، وسوف يظهر ـ إن شاء الله ـ في نهاية هذا البحث أنّ المقصود هو النقض العملي.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)، فهو قد سلّم منذ البدء كون مفاد الدليل هو النهي، وسلّم ـ أيضاً ـ كون المقصود بالنقض النقض العملي لا الحقيقي، فلا يرد عليه شيء من الإشكالات السابقة، وبنى على أنّ المقصود بالنهي هو المعنى الأوّلي للنهي، أي: التحريم، لا على كونه كناية عن شيء آخر، وذكر(قدس سره) أنّ الحديث قد دلّ على حرمة النقض العملي لليقين، أي: أنّه دلّ على وجوب الجري العملي بنحو كأنّه متيقّن، أي: أنّه يعمل ما كان يعمله، لو كان متيقّناً، ومن المعلوم أنّه لو كان متيقّناً لكان يعمل على طبق التنجيز والتعذير، وكان يعمل ـ أيضاً ـ بآثار جُعل هذا اليقين موضوعاً لها، فكذلك الآن، وهذا يعني قيام الاستصحاب مقام العلم الطريقي والموضوعي معاً.

وبكلمة اُخرى: أنّ النقض العملي لليقين يكون على نحوين: أحدهما: عدم العمل بأثره المترتّب عليه بما هو يقين طريقي. والثاني: عدم العمل بأثره المترتّب عليه بما هو يقين موضوعي، ومقتضى إطلاق الحديث شموله لكلا القسمين(1).

أقول: أوّلاً: إنّنا تارة نفرض النقض في مقابل الإبرام من باب إبرام اليقين بالمتيقّن، واُخرى نفرضه بمعنى الرفع:

فعلى الأوّل: يكون من الواضح عدم شمول النقض العملي لليقين لرفع اليد عن الحكم


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 78 ـ 79، والمقالات: ج 2، ص 366 ـ 367 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم.

277

الشرعي الذي يكون اليقين موضوعاً له؛ لأنّ الإبرام العملي لليقين بمتيقّنه إنّما يكون باعتبار اقتضائه للعمل بمتيقّنه، لا باعتبار ما له من أثر شرعي جعل ذلك اليقين موضوعاً له، كما هو واضح.

والتحقيق: أنّه حتّى على الثاني ـ أيضاً ـ لا يشمل النقض العملي رفع اليد عن الآثار الشرعية لليقين، وإنّما يكون الرفع العملي لليقين بمعنى رفع اليد عن آثاره العقلية من التنجيز والتعذير. والشاهد على ذلك أنّه لا يستحسن عرفاً إسناد النقض إلى ما لا توجد له إلاّ آثار شرعية، وليس له أثر التنجيز والتعذير، فلا يستحسن مثلاً أن يقال: لا تنقض الماء بالتغيّر، بمعنى لا ترفع اليد عن أحكام الماء بتغيّره، أو لا تنقض جنون الشخص بمجرّد مضيّ مقدار من الزمان، أي: لا ترفع اليد عن أحكام جنونه من الحجر وغيره بمجرّد مضيّ الزمان. والسرّ في عدم شمول النقض العملي لرفع اليد عن الآثار الشرعية هو: أنّ موضوع الحكم ليس مقتضياً للعمل على طبق الحكم حتّى يكون عدم العمل به رفعاً عملياً له، فإنّ اقتضاء شيء للجري العملي: إمّا عبارة عن الاقتضاء العقلي له، وهو منحصر في مسألة التنجيز والتعذير، فاليقين يقتضي عقلاً جري العمل وفق متعلقه بالتنجيز والتعذير، وإمّا عبارة عن الاقتضاء التشريعي له، وهذا الاقتضاء إنّما يكون لنفس الحكم والتشريع لا لموضوعه، فالحكم له اقتضاء تشريعي ذاتاً ومباشرةً للعمل بمتعلّقه، وإسناد الاقتضاء إلى موضوعه يكون بشي من المسامحة الواضحة التي لا تصحّح إسناد النقض العملي إليه.

إن قلت: إنّ هذا البيان إنّما يكون في غير اليقين من سائر الموضوعات، وأمّا اليقين حينما يصبح موضوعاً فهو يقتضي عقلاً الجري العملي نحو حكمه كاقتضاء اليقين بالموضوعات للتنجيز أو التعذير بلحاظ حكمها، فسائر الموضوعات لا تقتضي عقلاً الجري نحو حكمها، وإنّما اليقين بها يقتضي عقلاً ذلك، وأمّا خصوص اليقين فهو يقتضي عقلاً ذلك من باب أنّ اليقين باليقين هو عين اليقين؛ لأنّه يكون في الحقيقة منكشفاً بنفسه ومعلوماً بالعلم الحضوري، لا بيقين آخر، فهو الذي يقتضي الجري نحو حكمه.

قلت: إنّ هذا الفرق بين اليقين وغيره ليس شيئاً عرفياً يعتمد عليه العرف، ويصحّح بذلك إسناد النقض العملي إلى اليقين باعتبار أحكامه الشرعية.

وثانياً: أنّ المنهي عنه إنّما هو نقض اليقين بالشكّ، ورفع اليد عن حكم يكون اليقين موضوعاً له بعد انتفاء ذلك اليقين وزواله بالشكّ ليس نقضاً لليقين بالشكّ، وإنّما هو نقض لليقين باليقين؛ لأنّنا نقطع بارتفاع موضوعه الذي هو اليقين، فالحكم بجواز الإفتاء مثلاً

278

الذي فرض موضوعه اليقين قد زال يقيناً لولا تشريع جواز آخر بنفس دليل الاستصحاب، إذن فهذا نقض لليقين باليقين. نعم، هذا اليقين قد تولّد من الشكّ، وصار الشكّ سبباً له، لكن هذا غير نقض اليقين بالشكّ.

الوجه الثالث: فرض الحديث كناية عن التعبّد ببقاء اليقين، وجعل العلم والطريقية، فيترتّب عليه كلا قسمي آثار العلم. وتصوير الكناية يكون بأحد وجهين:

الأوّل: فرض النقض نقضاً حقيقياً. والنقض الحقيقي لليقين وإن كان غير مقدور فلا يمكن تعلّق النهي به، لكنّنا نفرض النهي نهياً كنائياً لا حقيقياً، فلا مانع من تعلّقه به، ويكون كناية عن عدم الانتقاض، من قبيل: (لا تصلّ أيّام أقرائك)، حيث إنّ الصلاة غير مقدورة لها بناءً على كونها اسماً للصحيح، ويكون النهي كناية عن عدم إمكان الصلاة، فبقرينة وجود الانتقاض تكويناً يعرف أنّ المقصود هو التعبّد بعدم الانتقاض، وجعل العلم والطريقية.

الثاني: فرض النقض نقضاً عملياً. وبالرغم من أنّ النقض العملي يكون من عمل الشخص فقد يقال: أيّ مانع من تعلّق النهي الحقيقي به؟ لا يحمل النهي على التحريم، بل يجعل كنائياً، وذلك بقرينة: أنّ الاستصحاب ليس مختصّاً بالأحكام الإلزامية التي يعقل فيها تحريم النقض، فقد يجري في غيرها، ولا معنىً لحرمة النقض العملي بلحاظ مثل إباحة عمل أو استحبابه مثلاً، وهذا هو السرّ في أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) بالرغم من حمله للنقض على النقض العملي ذهب إلى أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو جعل العلم ببعض مراتبه(1)، فاذا التفتنا إلى أنّ النهي التحريمي في غير الآثار الإلزامية لا معنى له قلنا: إنّ النهي عن النقض العملي لليقين الذي هو لازم الانتقاض الحقيقي لليقين كناية عن عدم الملزوم. وهذه الكناية تفترق عن التقريب الأوّل للكناية بكونها أبعد مسافة منها على التقريب الأوّل؛ لأنّ النهي في التقريب الأوّل كان عن نفس الملزوم، وهو نقض اليقين كنايةً عن عدمه، وهنا يكون نهياً عن اللازم كنايةً عن عدم الملزوم.

وهذا الوجه الثالث بكلا تقريبيه يوجد بينه وبين الوجه الأوّل قاسم مشترك، وهو القول بأنّ مفاد حديث الاستصحاب جعل العلم والطريقية. ويبدو ذلك في بادئ الرأي شيئاً مستحيلاً؛ وذلك لأنّ اليقين والشكّ قد اُخذا موضوعاً للاستصحاب، أي: متعلّقاً للمتعلّق في


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 19 بحسب طبعة جامعة المدرّسين في قم، و ج 4، ص 486 و 596 من نفس الطبعة، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 9.

279

قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ»، فيستفاد منه كون النظر الإنشائي للمولى في المقام إلى الشكّ نظراً فراغياً، أي: إنّه يفرض الموضوع مفروغاً عنه، فيرتّب عليه الحكم. وهذا ما يعترف به القوم؛ ولذا جعلوا الاستصحاب السببي حاكماً على الاستصحاب المسبّبي برفعه لموضوعه الذي هو الشكّ، فلو لم يكن ينظر إليه بما هو مفروغ عنه فزواله بالاستصحاب السببي لم يكن يضرّ بجريان الاستصحاب المسبّبي، فإذا فرض أنّه ينظر إلى الشكّ نظر الفراغ عن وجوده، قلنا: إنّ ادّعاء وجوده بنفس الإنشاء الذي ينظر فيه إليه نظر الفراغ عنه يكون تهافتاً في عالم النظر الإنشائي، فكيف يعقل حمل الحديث على جعل الطريقية واعتبار العلم وعدم الشكّ؟!(1)

ولعلّ هذا هو السرّ فيما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) من التفكيك بين الاستصحاب والأمارات، فإنّه(قدس سره) وإن لم يذكر دليلاً على ذلك التفكيك، وإنّما ذكره كتنظيم للأدلّة وبيان


(1) قد تقول: لا يوجد تهافت في المقام؛ لأنّ المستفاد من نفي الشكّ مثلاً: أنّ الشكّ الموجود في ذاته وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار منفيّ جعلاً واعتباراً، فما فرغ المتكلّم عن وجوده هو ذات الشكّ التكويني وبقطع النظر عن الجعل والاعتبار، وما أثبته من اليقين هو اليقين الجعلي والاعتباري، ولا تنافي بين الأمرين، وهذا ما يفهم من مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ).

ولكن هذا الكلام إنّما يصحّ في فرضين:

الفرض الأوّل: أن يقصد بالجعل والاعتبار التنزيل، وهو معقول في مثل قوله:(شكّك ليس بشكّ) فإنّ النظر إلى الشكّ لدى التنزيل نظر واحد، وليس نظرين، فيقول القائل:(شكّك المنظور إليه بالنظر الواقعي منزّل منزلة اليقين وعدم الشكّ)، ولا تهافت في ذلك. وأمّا في ما نحن فيه، فعلى مسلك الشيخ النائيني(رحمه الله) القائل بعدم إمكانية تنزيل حاكم شيئاً منزلة شيء آخر في آثاره التي حكم بها حاكم آخر، لا يمكن تنزيل الشكّ أو احتمال بقاء الحالة السابقة منزلة اليقين الطريقي؛ لأنّ آثار اليقين الطريقي عبارة عن التنجيز والتعذير، وهما عقليان، وليسا شرعيين حتّى يمكن إثباتهما بالتنزيل.

والفرض الثاني: أن يفرض كون الكلام إخباراً لا إنشاءً، وكون الاعتبار ثابتاً من قبل، فيقول المتكلّم بنظر واحد وهو النظر الإخباري:(إنّ الشكّ الثابت تكويناً منفيّ جعلاً واعتباراً)، فهنا ـ أيضاً ـ لم يلزم الجمع بين نظرين في نظر واحد. إلاّ أنّ هذا في ذاته خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلاّ إذا حصل العجز عن أيّ تفسير آخر معقول للحديث غير مخالف للظاهر، بينما الشيخ النائيني(رحمه الله) في فسحة عن الالتزام بهذا التفسير؛ لأنّه يعتقد ـ كما سيأتي في المتن ـ إمكانية اعتبار الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، فيمكن أن يفرض الفراغ عن ثبوت الشكّ وعدم اليقين بلحاظ الكشف، وتعتبر الطريقية واليقين بلحاظ الجري العملي، ولا تهافت في ذلك.

وإذا غضضنا النظر عن هذين الفرضين، وعن فرض تعدّد جهات اليقين وإمكانية التفكيك بينهما في جعل الطريقية، فنفي الشكّ التكويني بالجعل والاعتبار في إنشاء واحد يعني الجمع بين نظرين في إنشاء واحد، وهما النظر الواقعي والنظر الجعلي والاعتباري. وهذا غير معقول.

280

مراتبها ومواقعها، لكنّه شيء يندفع به ما ذكرناه من الاستحالة والتهافت في عالم النظر الانشائي.

وتوضيح ذلك: أنّه(قدس سره) ذكر فرقاً بين جعل الطريقية الذي يقول به في باب الأمارات وجعل الطريقية الذي يقول به في الاستصحاب، بخلاف السيّد الاُستاذ الذي لم يفرّق بين البابين(1)، والفرق الذي ذكره هو: أنّ العلم له مرتبة الكشف وإراءة الواقع، وله مرتبة اقتضاء الجري العملي، والأمارة جعلت علماً بلحاظ المرتبة الاُولى، والاستصحاب جعل علماًبلحاظ المرتبة الثانية.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ يدفع ما ذكرناه من التهافت، فإنّه يقال عندئذ: إنّ المولى في قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» قد فرغ عن وجود الشكّ خارجاً بلحاظ عالم الانكشاف، وادّعى وجوده بلحاظ عالم الجري العمليّ، فلا منافاة بينهما.

إلاّ أنّه بهذا ينهار أصل الموضوع، وهو قيام الاستصحاب بجعله علماً مقام العلم الموضوعي؛ وذلك لأنّ الظاهر من دليل جعل العلم موضوعاً لحكم هو جعله موضوعاً له بما له من الانكشاف وإراءة الواقع، لا بمجرّد ما له من الاقتضاء للجري العملي، فكيف يقوم مقامه الاستصحاب الذي اعتبر علماً بلحاظ الجري العملي فقط، لا بلحاظ جهة الانكشاف؟!

نعم، لو فرض في مورد كون العلم موضوعاً لحكم بما هو مقتض للجري العملي، قام الاستصحاب مقامه، لكنّه عندئذ قد ينفتح باب قيام الاُصول غير المحرزة ـ أيضاً ـ مقامه، لأنّها ـ أيضاً ـ مقتضية للجري العملي كالاستصحاب، فلا يختصّ هذا بالاستصحاب، وقد لاينفتح هذا الباب.

توضيحه: أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يدّعي أنّ للعلم مرتبتين: مرتبة الانكشاف ومرتبة الجري العملي، وأنّ الأمارة جعلت تعبداً علماً في مرتبته الاُولى، والاستصحاب جعل تعبداً علماً في مرتبته الثانية، والاُصول غير المحرزة لم تجعل علماً في شيء من المرتبتين وإن كانت تنجّز وتعذّر. وعلى هذا إن فرض في مورد أنّ العلم بما له من مرتبة الانكشاف موضوع لحكم كما هو ظاهر جعل العلم موضوعاً لحكم، لم يصحّ ما أفاده(قدس سره)من قيام الاستصحاب


(1) تجد كلام الشيخ النائيني(رحمه الله) في قوائد الاصول ج 3 ص 17 ـ 19 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وتجد كلام السيّد الخوئي(رحمه الله) في مصباح الاصول ج 2 ص 37 ـ 38 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

281

مقام العلم الموضوعي. وإن فرض أنّ العلم بمرتبته الثانية موضوع لحكم فهذا يتصوّر على نحوين:

أحدهما: أن يكون اقتضاء العلم للجري العملي بما هو مرتبة ثانية للعلم واقتضاءٌ للعلم قد جعل موضوعاً، فعندئذ يقوم الاستصحاب مقامه؛ لأنّه فرض علماً من هذه الناحية، ولا تقوم الاُصول غير المحرزة مقامه؛ لأنّها لم تفرض علماً أصلاً.

والثاني: أن يكون العلم بما له من اقتضاء للجري العملي موضوعاً، بمعنى أنّ تمام الموضوع في الحقيقة هو اقتضاء الجري العملي من دون لحاظ إضافة ذلك إلى العلم، وخصوصية كونه مرتبة ثانية للعلم، وعندئذ تقوم الاُصول غير المحرزة ـ أيضاً ـ مقام العلم؛ لأنّها ـ أيضاً ـ تقتضي الجري العملي.

وعلى أيّة حال، ففي ما هو المتعارف من موضوعية العلم من كونه موضوعاً بما هو كاشف ـ على ما هو الظاهر من دليل جعله موضوعاً ـ ينهار ما أفاده(قدس سره) من قيام الاستصحاب مقامه من باب جعل الطريقية.

ثمّ إنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ذكر: أنّ هنا تهافتاً بين ما اختاره المحقق النائيني(رحمه الله) في مبحث الشكّ في المقتضي وما اختاره في مبحث قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي. ولكي يتبيّن ما ادعاه(قدس سره) من التهافت نذكر إجمالاً مبنى الشيخ النائيني(قدس سره)في الشكّ في المقتضي، فنقول: إنّهم قالوا: إنّ إسناد النقض إلى شيء يحتاج إلى كون ذلك الشيء فيه نوع استحكام واستقرار وتركز، وإلاّ لكان منحلاًّ بنفسه، ولا معنى لإسناد النقض إليه ثمّ قال قوم: إنّه قد أسند النقض إلى المتيقّن، وإنّما ذكر اليقين مجازاً، فجعلوه مختصّاً بفرض إحراز المقتضي ليتصوّر نوع استحكام للمتيقّن، وقال قوم: إنّه قد اُسند إلى اليقين، واليقين فيه نوع من الاستحكام في نفسه، فلا حاجة إلى تخصيص ذلك بفرض إحراز المقتضي. ووقف المحقّق النائيني(رحمه الله) موقفاً وسطاً بين هذين الموقفين، فاختار: أنّ النقض هو نقض المتيقن، كما قاله أصحاب القول الأوّل، لكنّه قال: إنّ هذا النقض قد اُسند إلى اليقين بمعناه الحقيقي، باعتبار أنّ الجري العملي للمتيقّن إنّما يكون بواسطة اليقين، فأسند النقض العملي للمتيقّن إلى اليقين(1).

وذكر المحقّق العراقي(قدس سره): أنّ هذا مناف لمختاره(رحمه الله) في باب قيام الاستصحاب مقام العلم


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 373 ـ 374 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 379.

282

الموضوعي؛ لأنّه إن فرض النقض نقضاً للمتيقّن فإنّما يجب الجري العملي على طبق المتيقّن، ولا علاقة لذلك بآثار العلم الموضوعي. وإن فرض نقضاً لليقين كفى ما في اليقين من استحكام، ولا حاجة إلى تخصيص الاستصحاب بغير موارد الشكّ في المقتضي(1).

أقول: إنّ هذا التهافت يبدو واضحاً في المقام بالنظر إلى ما يتراءى من عبائر التقريرات، حيث إنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) لم يشرح كيفية استفادة جعل الطريقية من دليل الاستصحاب، ولم يوضّح حدود المطلب فيتراءى التناقض بين مطلبيه في البابين.

والتحقيق عدم التناقض بينهما، فإنّه(قدس سره) لو كان يختار: أنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي كما اختاره المحقّق العراقي(رحمه الله)، لكان هذا التناقض مسجّلاً عليه؛ إذ لو كان روح المطلب هو حرمة نقض المتيقّن وإن صحّ إسناد هذا النقض إلى اليقين إذن فلا معنى لقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، ولو كان روح المطلب هو حرمة نقض اليقين إذن لكفى استحكام اليقين، ولم نحتج إلى فرض إحراز المقتضي، ولكنه(قدس سره) لا يقول بأنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي، وإنّما يرى أنّ مفاده هو النهي الكنائي، فهو قد نهى عن نقض المتيقن مسنداً لهذا النهي إلى اليقين، وهو نهي عن النقض العملي، ولكنّه ليس نهياً تحريمياً عن النقض العملي، وإنّما هو كناية عن بقاء مقتضي الجري العملي تعبّداً. وهذا يحتمل فيه احتمالان:

الأوّل: أنْ يكون المقصود من بقاء مقتضي الجري العملي هو بقاء المتيقّن.

والثاني: أن يكون المقصود منه هو بقاء اليقين.

والمحقّق النائيني(رحمه الله) يرجّح الثاني على الأوّل باعتبار ما يرى من أنّ الحجّيّات المجعولة عقلائياً إنّما تكون كلّها بحسب الارتكاز العقلائي جعلاً للطريقيّة، ولا يتصوّرون في حجّيّاتهم غير ذلك، فيرى(قدس سره) أنّ هذا الارتكاز موجب لانصراف الكلام(2) إلى المعنى الثاني. إذن ففي حين أنّ نقض المتيقّن اُسند إلى اليقين، فيحتاج إلى إحراز المقتضي مثلاً يكون الكلام كناية عن اعتبار بقاء اليقين، فتترتّب آثار العلم الموضوعي والطريقي معاً، فلا تهافت في كلامه(قدس سره) بحسب مبانيه وإن كانت مبانيه غير صحيحة.

نعم، يبقى هنا إشكال آخر وهو: أنّه لعلّه إنّما نزّل الشارع الاستصحاب منزلة اليقين من حيث الآثار العقلية، وهي التنجيز والتعذير، دون الآثار الشرعية، فمن أين عرفنا أنّه قد


(1) راجع نهاية الافكار القسم الاول من الجزء الرابع ص 79 ـ 81.

(2) لعل دعوى هذا الانصراف في خصوص الاستصحاب دون الاُصول العملية البحت يكون بسبب ما لحجّيّة الاستصحاب من جذور الارتكاز العقلائي ولو بمستوىً طفيف، بخلاف الاُصول التعبّدية البحت.