403

ويمكن أن يذكر في المقام إشكال ثان، وهو أنّه بهذا البيان لا تثبت الملازمة الظاهريّة، فإنّنا لو اكتشفنا باستصحاب الملازمة جعل المولى منشأ انتزاع تلك الملازمة ظاهراً، أي جعل الحرمة الظاهرية على تقدير غليان الزبيب، كان معنى ذلك الملازمة الواقعية بين غليان الزبيب والحرمة الظاهرية، والمفروض أنّ الاستصحاب يثبت حكماً ظاهرياً مماثلاً للمستصحب، لا حكماً واقعياً.

إلاّ أنّ هذا الإشكال بالإمكان الإجابة عليه إذا لم نلتزم بحرفية كون مفاد دليل الاستصحاب هو الحكم الظاهري.

توضيح ذلك: أنّ مفاد دليل الاستصحاب إنّما هو حكم اُخذ في موضوعه الشكّ في الواقع،ولوحظ فيه التحفّظ على نفس ملاكات الواقع، والمفروض أن يكون هذا الحكم مماثلاً للمستصحب. وهذا المقدار ثابت في المقام، فإنّ الملازمة الواقعية بين غليان هذا الجسم والحرمة الظاهرية مماثل للملازمة الواقعية بين غليانه والحرمة الواقعية، لفرض التماثل بين طرف هذه الملازمة وهي الحرمة الظاهرية وطرف تلك الملازمة وهي الحرمة الواقعية. وهذا الحكم المماثل، أعني الملازمة الواقعية بين غليان الزبيب والحرمة الظاهرية أخذ في موضوعه الشكّ في الملازمة الواقعية بين غليانه والحرمة الواقعية، وهذا الاستصحاب قد لوحظ فيه التحفّظ على ملاكات الواقع، ولا يوجد في مفاد دليل الاستصحاب مؤونة زائدة أزيد من هذا المقدار، فالعمدة هو الإشكال الأوّل.

الإشكال الثاني: كلام المستمسك(1) والمحقّق العراقي(رحمه الله)(2) في المقام، وهو أنّنا نختار استصحاب الحرمة الفعلية، وقولكم: إنّها لم تكن فعلية وثابتة لأنّها معلّقة على الغليان غير صحيح، فإنّ الغليان وكذا كلّ شرائط الحكم ليست شرائط للحكم وقيوداً له بوجودها الخارجي، وإنّما هي شرائط له بوجودها اللحاظي في ذهن المولى، وهو ثابت من أوّل الأمر، ولا توجد فعلية متأخّرة عن الجعل تتحقّق عند تحقّق الموضوع. إذن فالحكم كان فعلياً من أوّل الأمر، ونستصحبه.

أقول: إنّ عدم تعلّق الحكم بالقيد الخارجي صحيح، وترتّبه على الوجود اللحاظي


(1) راجع المستمسك: ج1، ص415 ـ 419، بحسب الطبعة الرابعة لمطبعة الآداب النجف الأشرف.

(2) راجع المقالات: ج2 ص400 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص163 ـ 167.

404

للموضوع وقيوده صحيح، وعدم وجود فعلية للحكم وراء عالم الجعل توجد عند وجود الموضوع ـ أيضاً ـ صحيح، إلاّ أنّ كلّ هذا اكتنف ـ بحسب تصورات المحقق العراقي(رحمه الله)ـ بأمرين خاطئين عندنا: (الأوّل) يرتبط بكيفية تصوير حقيقة الحكم(1)، وهذا مرّ في محله، لا نتكلّم عنه هنا. (والثاني) يرتبط بالمقام، وهو تخيّل جريان الاستصحاب.

والصحيح: أنّ تلك المقدّمات لا تنتج هذه النتيجة: وتوضيح ذلك أنّ المجعول بناءً على تلك المقدّمات هو نفس الجعل. إذن نحن نستصحب نفس الجعل. إلاّ أنّ الجعل تارةً ينظر إليه بمنظار الحمل الشائع، وعندئذ ليس حكماً شرعياً مرتبطاً بالعصير المغلي، وإنما هي حالة من حالات المولى، وليس فيه شكّ في البقاء، وإنّما الذي يتصوّر فيه هو الشكّ في الحدوث دائماً، واُخرى ينظر إليه بمنظار العنوان الأوّلي، وهو بهذا المنظار عبارة عن نجاسة العنب الغالي، وهو بهذا المنظار يقع فيه شكّ في البقاء إذا لاحظنا اُفق ثبوت هذا الحكم بهذا المنظار، وهو العصير العنبي الغالي، ففي هذا الاُفق لا بأس بجريان الاستصحاب في فرض طروء تغيّر في العصير العنبي يوجب الشكّ في بقاء حكمه وأمّا إذا لاحظنا اُفقاً آخر وهو العنب غير الغالي فلا نرى بهذا المنظار ثبوت صفة الحرمة له أصلاً حتّى يشكّ في البقاء ويستصحب.

الإشكال الثالث: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)(2).

وحاصله: اتّخاذ شقّ رابع غير الشقوق الثلاثة التي أبطلها المحقّق النائيني(رحمه الله)من استصحاب الملازمة، واستصحاب الحرمة الفعلية، واستصحاب الجعل، وهو استصحاب الحرمة استصحاباً منوطاً ومقيّداً.

بيان ذلك: أنّ العلم الفعلي قد يكون علماً مطلقاً وقد يكون علماً منوطاً، فالعلم بالملازمة بين الغليان والحرمة مثلاً علم فعلي ثابت في النفس ملازم لعلم فعلي آخر منوط ومقيّد، وهو العلم بالحرمة في اُفق الغليان، وعلى تقديره، وهذا نظير ما يتصوّر في الإخبار، فمثلاً حينما يقول: إن طلعت الشمس فالنهار موجود فهذا ليس مجرّد إخبار عن الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار، بل هو إخبار عن أمر خارجي، وهو وجود النهار كما هو واضح، ولا معنى لافتراض كونه إخباراً عن وجود النهار على الإطلاق وبلا قيد، لوضوح أنّ طلوع الشمس قيد لذلك، ومن دونه لا يوجد نهار، وهذا القيد ليس قيداً في المخبر به، وإلاّ لكان


(1) حيث ذكر أنّها عين الإرادة والكراهة، وليس الحكم أمراً جعلياً.

(2) راجع المقالات ج2 ص401 ـ 402 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

405

إخباراً عن المقيّد والقيد، وعندئذ لا يصدق الكلام في مثل لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ممّا لا يوجد فيه القيد، وبالتالي لا يوجد فيه المقيّد، إذن هو قيد في الإخبار، وليس معنى قيديّته في الإخبار كون طلوع الشمس بوجوده الخارجي قيداً، أي: إنّ الإخبار لم يتمّ قبل طلوع الشمس مثلاً، وذلك لبداهة تماميّة الإخبار سواءً حصل القيد خارجاً، أو لم يحصل، أو لم يكن بالإمكان أن يحصل كما في مثال تعدّد الآلهة. إذن فتعيّن أن يكون معنى قيديّته كون الشرط بوجوده التقديري والفرضي قيداً في الإخبار أي: إنّ الإخبار بوجود النهار يكون في اُفق فرض طلوع الشمس، وهذا المطلب بعينه نتصوّره في العلم(1).

إذا عرفت هذا قلنا في المقام: إنّ العلم بالملازمة بين غليان العنب وحرمته يولّد علماً فعليّاً بالحرمة في اُفق الغليان، ومعلقاً على تقديره، وهذا علم منوط ومشروط، وهذا العلم المنوط يتبعه الشكّ المنوط حينما يصير العنب زبيباً، وهذا يوجب جريان الاستصحاب المنوط، فيثبت بذلك العلم بحرمة الزبيب منوطاً بتقدير الغليان، وهو المطلوب.

وقد ذكر(رحمه الله) هذا الوجه مبنياً على مبنى جعل العلم في باب الاستصحاب، أو مبنى النهي عن نقض اليقين، أي: على المباني التي تثبت العلم بوجه من الوجوه، لا على المباني التي تثبت المتيقّن(2).

ويرد عليه: أنّ منوطيّة العلم الموجود فعلاً بالشرط وهو الغليان أمر غير معقول.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّ الإناطة والشرط في عالم المفاهيم لها معنى، وفي عالم الوجودات الحقيقية لها معنىً آخر، فمعنى الاشتراط في عالم المفاهيم هو التقييد والتحصيص، فحينما يُشرط الإنسان مثلاً بالعلم في قولنا: (أكرم الإنسان العالم) يكون معنى هذا الشرط


(1) إذ لو كان علمه مطلقاً لا منوطاً لصحّ له الإخبار المطلق في حين أنّه لا يصحّ له ذلك، ولو لم يكن له علم أصلاً لما صحّ له الإخبار المنوط في حين أنّه صحّ له ذلك.

(2) وإلاّ فالمفروض أنّ المتيّقن وهي الحرمة غير حاصلة في السابق؛ إذ لو رجعنا إلى مسلك فعليّة الحرمة قبل تحقّق الموضوع كان هذا يعني في نظر الشيخ العراقي رجوع الإشكال السابق، والشيخ العراقي حينما أراد تسجيل هذا الإشكال في مقالاته على الشيخ النائيني فرض التنزّل عن هذا المسلك كي يفترض عدم ورود الإشكال السابق. فلهذا كانت الحرمة غير حاصلة بالفعل في السابق، فما معنى استصحابها؟! وما هي فائدة فرض العلم المنوط بالحرمة؟!.

ولا يخفى أنّ حلّ ذلك لا يكون بمجرّد الرجوع إلى مبنى جعل العلم والطريقيّة، وإنّما حلّه يكون بالرجوع إلى مبنى: أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين، دون فرض ذلك استطراقاً إلى نقض المتيّقن، وهذا هو الوارد في كلام الشيخ العراقي في المقالات. لا مسلك جعل العلم والطريقية.

406

أنّنا أخذنا حصّة معيّنة من مفهوم الإنسان، وهي الإنسان العالم في موضوع الأمر بالإكرام، وكذلك الكلام في مفهوم الوجود أو أيّ مفهوم آخر اُريد إشراطه بشيء، فلو قيل مثلاً: (الوجود الطويل حكمه كذا) كان معنى ذلك أنّ حصّة معينة من الوجود وهو المقيّد بالطول حكمه كذا. وأمّا واقع الوجود الخارجي فليس معنى الشرط فيه التقييد والتحصيص؛ إذ هو جزئيّ خارجي لا معنىً لتحصيصه، وإنّما معنى الشرط فيه السببية والتولّد، فيقال مثلاً: (هذا الاحتراق مشروط بالنار) أي: متولد منه، وإنّ النار سبب له. وهذا المعنى من الشرط غير معقول في عالم المفاهيم؛ إذ لا سببيّة ولا تولّد في عالم المفاهيم.

وبعد بيان هذه المقدّمة نقول: إنّه في عالم التصوّر والجعل والاعتبار والفرض ونحو ذلك من التعبيرات يوجد مفهوم وهو المتصوّر، أو المجعول، أو المعتبر، أو المفروض، ويوجد وجود نفسي وهو التصوّر، أو الجعل، أو الاعتبار، أو الفرض، فحينما يتصوّر المولى حرمة العصير المشروط بالغليان، أو يجعله يصحّ أن يقال: إنّ هذه حرمة فعليّة، وفي نفس الوقت يصحّ أن يقال: إنّها حرمة مشروطة. أمّا إنّها فعلية فباعتبار وجودها الذهني. وأمّا إنّها مشروطة فبالمعنى الأوّل من الشرط واعتبار المتصور، أو المجعول الذي هو مفهوم من المفاهيم، وبالمعنى الذي يكون فعلياً ليس مشروطاً، فالحرمة باعتبار وجودها الذهني فعلية، ولكنّها بهذا الاعتبار وجود واقعي لا يقبل التقييد والتحصيص، وليست متولّدة من الشرط ومسبّبة له. هذا بلحاظ الوجود التصوّري والفرضي.

وكذلك الحال بلحاظ الوجود التصديقي، أي العلم، فيحنما يعلم بحرمة مشروطة بالغليان فالعلم وجود نفسي والمعلوم مفهوم، وهذه الحرمة بلحاظ وجودها العلمي فعلية، وهي غير مشروطة بالمعنى الأوّل؛ إذ لا تحصيص في واقع الوجودات، ولا بالمعنى الثاني؛ لأنّ هذا العلم ليس وليداً ومسبّباً للشرط.

إذن فنحن نسأل المحقق العراقي(رحمه الله): أنّه ما هو المقصود بقوله: إنّ العلم بالحرمة فعليّ منوط ومشروط بتقدير الغليان؟

فإن قصد باشتراط الغليان كون المعلوم والمفهوم مضيّقاً ومحصّصاً بتقدير الغليان، فهذا معناه أنّنا علمنا بالحرمة المقيّدة بالغليان، أي علمنا بتحقق القيد والمقيّد خارجاً معاً، وهذا خلف، وليس هذا مراده(رحمه الله)

وإن قصد به كون تقدير الغليان مأخوذاً شرطاً في نفس العلم وهو مراده(رحمه الله)قلنا: هل قصد بذلك اشتراطه بالمعنى الأوّل، أعني التحصيص والتضييق، أو بالمعنى الثاني، أعني

407

السببية والتولّد؟

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ الاشتراط بهذا المعنى إنّما يعقل في عالم المفاهيم لا في عالم الوجودات، وإن قصد الثاني قلنا: إنّ العلم بوجوده الخارجي لا يتولّد من تقدير الغليان، وإنّما العلم وليد برهانه، هذا هو الإشكال الرئيسي في المقام، وهذا الذي بيّناه في العلم يأتي ـ أيضاً ـ في الإرادة والشوق، إلاّ أنّ المقدار المرتبط بالمقام كان هو تطبيق ما بيّنّاه على العلم(1). أمّا تطبيقه على الإرادة والشوق فموكول إلى بحث الواجب المطلق والمشروط.

 


(1) قد تقول: إنّ هذا الذي أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في الحقيقة برهان على عدم إمكان فعليّة العلم المنوط بتقدير الشرط في المقام، وما أفادة الشيخ العراقي(رحمه الله)برهان على فعليّة العلم المنوط بتقدير الشرط. واُستاذنا الشهيد لم يبطل مقدّمة من المقدّمات البرهانية لكلام الشيخ العراقي، فأيّ موقف نحن نتخذه باتجاه برهانين منتهيين إلى نقيضين؟!

ولعل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لم يكن يحسّ بمأزق من هذا القبيل؛ لأنّه لم ير في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)برهاناً على مقصوده، لان قياس العلم بالإخبار لم يذكر في المقدار الوارد في نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)برهان عليه، ولكنّنا قد أشرنا إلى برهان ذلك تحت الخط في ما قبل هذا التعليق بتعليقتين فراجع.

هذا. ولو كان الأمر منحصراً بمثل: (العنب إذا غلى يحرم) لأمكن الخروج عن هذا المأزق بدعوى بطلان المبنى الذي قام عليه كلام الشيخ النائيني(رحمه الله)، وردِّه، وهو فرض أنّ الحرمة إنّما تصبح فعليّة لدى فعلية الغليان، حيث إنّ هذا هو مبنى المحقّق النائيني، وهذا هو الذي تنازل إليه الشيخ العراقي في إشكاله هذا كي يكون غاضّاً للنظر عن إشكاله الأوّل، فالواقع بعد فرض بطلان هذا المبنى أنّ العلم تعلّق بالحرمة وأنّ تقدير الغليان قيد للمعلوم، وأن هذا لا يؤدّي إلى فرض العلم بالغليان؛ لأنّ فعليّة الحرمة المقيّدة بالغليان لا تكون بفعلية الغليان، فالعنب الغالي حرام حتّى قبل وجود الغليان، وقبل وجود العنب.

ولكن الإشكال يستفحل في مثل (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا) إذ في القضايا التكوينية لا يوجد جعل أو حكم مسبق على تحقّق الشرط يفترض كونه هو عين فعليّة الجزاء، ولا شكّ فيها في أنّ فعليّة الجزاء لا تكون إلاّ بفعلية الشرط، وعندئذ لو قبلنا كون الشرط قيداً اُنيط به العلم ورد عليه برهان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ولو نفينا ذلك ورد عليه برهان الشيخ العراقي(رحمه الله).

وواقع المطلب هو: انّ ما استبدهَهُ المحقق العراقي(رحمه الله)من كون مثل هذه القضايا الشرطيّة إخباراً عن الجزاء لا عن الملازمة بين الشرط والجزاء، أوّل الكلام، وهذا هو الذي يوجب خروجنا من المأزق، ففي مثل (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) لا بأس بافتراض الإخبار عن وجود النهار المقيّد بطلوع الشمس، بأن يكون إخباراً عن القيد والمقيّد ولو بلحاظ الزمان المستقبل، ولكن في مورد فرض الاستحالة كما في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)، أو فرض عدم الاطّلاع على وقوع الجزاء في المستقبل لا بدّ من حمل الإخبار على الإخبار بالملازمة، وبه نخلص من مأزق البرهانين المتقابلين.

أمّا لو كان إخباراً عن الجزاء على تقدير الشرط، فلو فرض تقدير الشرط قيداً للمخبر به لزم دخوله تحت الإخبار، وتعلّق الإخبار بالقيد والمقيّد، ولو فرض تقديره قيداً للإخبار وبالتالي قيداً للعلم فكونه قيداً له على حدّ

408

وهنا إشكال آخر يرد على المحقّق العراقي(رحمه الله) وهو: أنّ الاستصحاب إن فرض إجراؤه من قِبل الفقيه قبل وجود الموضوع خارجاً، فعلمه منوط بغليان العنب، فلو ثبت التعبّد بالعلم بواسطة الاستصحاب فمقتضى القاعدة هو أن يثبت التعبّد بالعلم بحرمة الزبيب منوطاً بغليانه عنباً، أي: أنّه لو غلى في حالة العنبية ثمّ فرض طروّ الزبيبيّة عليه كان حراماً، وهذا لا علاقة له بالاستصحاب التعليقي، إلاّ أن يقال بإجراء مسامحة في جانب العلم المنوط بإلغاء هذا القيد في طرف العلم، كما يفترض إلغاء حالة العنبيّة والزبيبية في مقام تصحيح وحدة المتيّقن والمشكوك، إلاّ أنّ إلغاء ذلك في طرف العلم المنوط مؤونة زائدة تحتاج إلى دليل.

نعم، لو فرض إجراء الاستصحاب بعد العلم بوجود الموضوع خارجاً وهو العنب الذي صار زبيباً فقد يتخلّص من الإشكال الذي أثرناه بأن يقال: إنّنا نشير إلى هذا الجسم الخارجي ونقول: إنّنا نعلم أنّه في ما سبق كان إذا غلى يحرم، فالعلم كان منوطاً بفرض الغليان وتقديره، دون فرض العنبيّة؛ لأنّ العنبيّة ثابتة في الخارج(1) فنجرّ هذا العلم إلى ما بعد الزبيبية.

 


تقييد المفاهيم وتحصيصها غير معقول، وكونه قيداً له من باب تقيّد العلم بسببه ـ أيضاً ـ غير معقول؛ لأنّ تقدير الشرط ليس سبباً للعلم بالجزاء، وإنّما العلم بفعليّة الشرط قد يكون سبباً للعلم بفعليّة الجزاء.

ثمّ إنّ ما نقلناه عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في المقام في المتن قد يوحي بالصياغة الواردة في ما كتبناه في المتن إلى أنّ العلم لا يعقل أن يكون منوطاً بمعنى وجود ضيق فيه، وإنما يعقل أن يكون منوطاً بشيء بمعنى كونه مسببّاً عنه، ومتولّداً منه.

فإن كان حقّاً هذا هو مقصوده(رحمه الله)فإنّي أتذكّر أنّه(رحمه الله)عدل عن ذلك حين ما كان يهيّئ أبحاث ما أسماه بعد ذلك بالاُسس المنطقية للاستقراء، حيث رأى عندئذ: أنّ العلم قد يدخل عليه ضيقٌ من غير ضيق المعلوم، ولم يكن يقصد بذلك تضييق العلم مفهوماً وتحصيصه حتى يرد عليه: أنّ هذا إنّما يناسب باب المفاهيم لا باب الوجودات، بل كان يقصد بذلك تحجيم نفس الوجود الخارجي للعلم ببعض التقادير، إلاّ أنّ ذلك لا يبطل نتيجة البرهان الذي أقامه هنا لابطال كلام المحقق النائيني(رحمه الله)؛ لأنّه لم يكن يقبل تحجيم العلم إلاّ بتقدير سببه، من قبيل أنّ علمنا بأنّ هذا الجسم الفلاني مثلثٌ مثلاً يكون محجّماً ومقدّراً بتقدير سلامة بصرنا، فلو سُئلنا: هل على تقدير عدم سلامة البصر وكونه يَرى نتيجة مرضه اُموراً خيالية تعلم ايضاً بذلك؟ لقلنا: لا، في حين أنّ علمنا باستحالة اجتماع النقيضين مثلاً مطلق، أي: ليس مقيّداً ومضيّقاً بتقدير سلامة بصرنا، فالعلم إنّما يعقل أن يكون فعليّاً ومنوطاً في وقت واحد حينما يلحظ بالقياس إلى سببه، مع فرض كون سببه فعليّاً. أمّا لو قيس إلى غير سببه فقد يكون فعلياً، لكنّه لا يكون منوطاً، ولو قيس إلى سببه غير الفعلي فلا يكون فعلياً، لكنّه منوط بسببه، بمعنى منوطيّة كلّ مسبّب بسببه، وبمعنى أنّه لو وجد ذاك العلم لما كان وجوده واسعاً، وعلى كلّ تقدير، بل محدداً بتقدير سببه.

(1) هذا مبنيّ على تفسير الإناطة بمعنى لا يناسب إلاّ مع كون المنوط به تقديرياً لا فعليّاً.

409

لكنّ الصحيح: أنّه هنا ـ أيضاً ـ لا يمكن إجراء الاستصحاب؛ لأنّ هذا العلم يكون منوطاً بفرض غليانه في الزمان السابق، لا بفرض غليانه ولو الآن، والفرق الزمني وإن كان المفروض إلغاؤه في باب الاستصحاب في طرف المستصحب لكنّ إلغاءه في طرف العلم المنوط(1) مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة.

الإشكال الرابع: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(2) ناقلاً له عن اُستاذه صاحب الكفاية من أنّ حكم حرمة العنب المغلي مجعول بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، والفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة هو: أنّ الحكم في القضيّة الخارجيّة إنّما هو على الأفراد الموجودين خارجاً. وأمّا في القضية الحقيقيّة فهو يشمل ـ أيضاً ـ الأفراد المقدّرة الوجود، فهذا العنب وإن كان غير غال، لكنّ تقدير غليانه موضوع للحرمة، فالحرمة فعليّة على الغالي المقدّر.

ولا يقصد بهذا ما مضى في الإشكال الثاني من أنّ الشرط للحكم هو الوجود اللحاظي لا الخارجي، بل هو يسلّم أنّ الشرط هو الغليان الخارجي ويتكلّم في استصحاب الحرمة الجزئية لا الحرمة الكلّيّة التي جعلها المولى على لحاظه للغليان، كما في الإشكال الثاني، ولكنّه يقول: إنّ الغليان الخارجي كما تكون أفراده المحقّقة الوجود مشمولة للحكم كذلك تكون أفراده المقدّرة الوجود مشمولة للحكم، فيستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الفرد المقدّر الوجود.

وهذا الكلام في غاية الغرابة، فإنّ معنى كون القضيّة الحقيقيّة شاملة للفرد المقدّر الوجود إنّما هو ثبوت الحكم على الفرد المقدّر الوجود بما هو منظور إليه بالنظر الأوّلي الذاتي دون الحمل الشائع؛ إذ بمنظار الحمل الشائع ليس إلاّ صورة نفسية داخلة في نفس المتصوّر، ولكن حينما ينظر إليه بمنظار الحمل الأوّلي الذاتي يُرى عنب غال، فيُحكم عليه بالحرمة، وهذه الحرمة تستصحب في الاُفق الذي تُرى، وهو اُفق النظر بمنظار الحمل الأوّلي إلى العنب الغالي. إذن يثبت الاستصحاب بقاء الحرمة في الظروف التي تُرى ـ أيضاً ـ بهذا المنظار بعد فرض كونه عنباً غالياً، أي: إنّه يستصحب بقاءً حرمة العنب الغالي إذا تغير طعمه بعامل وشككنا أنّ تغيّر طعمه يوجب تغيّر الحكم أو لا مثلاً، ولا يستصحب بقاء الحرمة في اُفُق


(1) مسامحةً وعرفاً كما ورد في كلام الشيخ العراقي(رحمه الله)في المقالات في مقام دفع هذا الإشكال.

(2) في تعليقته على الكفاية: ج5، ص173 ـ 174 بحسب طبعة آل البيت.

410

آخر وهو العنب غير الغالي، بأن تسحب الحرمة إلى الحالات المتأخّرة عن العنب غير الغالي؛ إذ في هذا الاُفُق لا تُرى حرمةٌ حتّى تستصحب.

ثمّ إنّ هذا الذي أفاده(رحمه الله) في مقام توضيح كلام اُستاذه صاحب الكفاية إنّما هو تفسير بما لا يرضى صاحبه، فإنّ الذي ذكره صاحب الكفاية في تعليقه على الرسائل(1) لا يمتّ إلى هذا المعنى بصلة؛ ولذا صرّح في كلامه بأنّ الفرضيّة التي يذكرها خارجة اصلاً عن مسألة الاستصحاب التعليقي، وراجعة إلى مسألة الاستصحاب التنجيزي الذي لا كلام فيه، بل مقصوده هو التفصيل بين شرط الحرمة وشرط الحرام.

وتوضيح ذلك: أنّه كما يقال في باب الوجوب: أنّ الشرط تارةً يكون شرطاً للوجوب واُخرى شرطاً للواجب، إلاّ أنّ شرط الواجب الخارج عن كونه قيداً للوجوب يجب أن يكون اختيارياً كي يصحّ ترشّح الوجوب إليه، كذلك يقول الشيخ الأخوند(رحمه الله) في باب الحرمة: إنّ الشرط وهو الغليان مثلاً يمكن أن يفرض شرطاً للحرام كما يمكن أن يفرض شرطاً للحرمة، ولا يضرّ هنا في فرض كونه شرطاً للحرام دون الحرمة خروجه عن القدرة؛ إذ ليس المفروض ترشّح وجوب إليه، وفي هذه الفرضية، أعني فرضية رجوع الشرط إلى الحرام دون الحرمة لا بأس باستصحاب الحرمة؛ لأنّها فعلية قبل الشرط، ويكون هذا استصحاباً تنجيزياً وخارجاً عن مبحث الخلاف في الاستصحاب التعليقي(2).

 


(1) ص207 بحسب النسخة التي هي من منشورات مكتبة بصيرتي في قم.

(2) قد يتوهم أنّ ما ذكره صاحب الكفاية هنا من جريان الاستصحاب في فرض كون الغليان مثلاً شرطاً للحرام لا للحرمة مرجعه إلى ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)من أنّه لو قال: (العنب إذا غلى يحرم) أو قال: (العنب يحرم الغالي منه) صحّ الاستصحاب، ووجه الرجوع إليه: أنّه في هذين المثالين أخذ شرط الغليان في طرف الحكم المحمول، فكان إذن شرطاً للحرمة، وهذا بخلاف ما لو قال: (العنب الغالي حرام) فإنّ الغليان أخذ عندئذ في طرف الموضوع، فهو شرط للحرام.

ولكن لعلّه يظهر بأدنى تأمّل الفرق بين الرأيين، ففي كل من المثال الثاني والثالث كان الغليان موضوعاً والحرمة محمولة حسب مصطلح المنطق من الموضوع والمحمول، وفي المثال الأوّل كان الغليان شرطاً والحرمة جزاءً.

وإنّما مقصود الشيخ الآخوند(رحمه الله)هو أنّ الغليان قد يكون داخلاً في ما يقدّر وجوده حتّى يحكم بالحرمة، وقد لا يكون كذلك، بل يكون قيداً للحرام، ففي الأوّل يكون الاستصحاب تعليقياً، وفي الثاني يكون تنجيزياً لا شك في جريانه، في حين أنّ أستاذنا الشهيد(رحمه الله)يقصد التفصيل بين عرضيّة القيدين المقدّري الوجود، وهما العنبية والغليان، وعدم العرضية بأن يكون العنب مأخوذاً مقدّر الوجود في موضوع قضية مؤتلفة من موضوع أو شرط، وهو الغليان، ومحمول أو جزاء وهو الحرمة، فإن فرض القيدان عرضيين لم يجرِ الاستصحاب؛ لانتفاء اليقين

411

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه أنّ إشكال المحقّق النائيني(رحمه الله)بعد تطويره بما تبيّن في أثناء الكلام صحيح في ما إذا كانت الحرمة مجعولة ضمن قضية واحدة، فعندئذ لا يجري استصحاب الجعل لعدم كونه المشكوك، ولا استصحاب المجعول لأنّ استصحاب المجعول إنّما يجري في الاُفق الذي يُرى فيه المجعول، أي: في حالة يفرض تأخّرها عن غليان العنب، ولا استصحاب الملازمة لعدم ترتّب اثر عملي عليه من التنجيز والتعذير.

نعم، هنا إشكال آخر ليس مرتبطاً بإشكال المحقق النائيني(رحمه الله)يرد على كلّ تقريب يرجع إلى استصحاب القضية التعليقية، كالتقريب الذي اخترناه من أنّه إذا كان المحمول على العنب بنفسه قضية مستقلة استصحبناها، وحاصل الإشكال هو: أنّه هل يقصد بذلك ترتّب التنجيز والأثر العملي على استصحاب القضية التعليقية مباشرة؟ أويقصد ترتّبه عليه بواسطة صيرورتها تنجيزية وفعلية بحصول موضوعها خارجاً؟

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّ التنجيز أثر للحكم الفعلي وإلاّ فما أكثر الأحكام التعليقية التي نعلم بها ولا تكون منجّزة علينا. وإن قصد الثاني كان ذلك تعويلاً على الأصل المثبت؛ لأنّ صيرورة الحكم فعلياً بوجود موضوعه أمر عقليّ.

وهذا الإشكال يستفحل لو لم نبنِ على مبنى جعل الحكم المماثل، كما لو بنيناعلى جعل الطريقية. أمّا لو بنينا على ذلك فبالإمكان أن يقال: إنّه قد ثبت حكم ظاهري مماثل بحرمة الزبيب على تقدير الغليان، وفعلية هذا الحكم الظاهري متى ما وجد موضوعه أمر قهري عقلي، فهذه من لوازم نفس الحكم الظاهري، لا من لوازم الحكم الواقعي حتى يكون إثباتها تعويلاً على الأصل المثبت.

نعم، يأتي ما مضى من الإشكال الإثباتي من أنّ إطلاق النهي عن النقض العملي لا يشمل ذلك؛ لعدم تصوّر نقض عملي له.

والتحقيق: أنّ أصل إشكال المثبتية غير صحيح، وينتقض باستصحاب بقاء الجعل عند الشكّ في النسخ، فإنّه ليس إلاّ استصحاباً لقضيّة تعليقيّة وحكم غير فعلي، فإثبات فعليته


السابق في اُفق نظر الحمل الأوّلي إلى الجعل ما دام المفروض عدم الغليان، في حين أنّ الغليان مأخوذ في ذاك الاُفق.

وهذا الإشكال ـ كماترى ـ يرد ليس على الاستصحاب التعليقي فحسب، بل حتّى على الاستصحاب التنجيزي لو اُريد إجراؤه فيما لو كان كلا القيدين مأخوذين في عرض واحد بعنوان قيد الحرام لا قيد الحرمة، أمّا إذا لم يكونا عرضيين فيرتفع الإشكال حتّى لو كان الغليان قيداً للحرمة.

412

بعد وجود الموضوع تعويل على الأصل المثبت.

والحلّ هو: أنّ هذا الإشكال إنّما يكون إشكالاً مدرسياً يتمّ على المباني المدرسية، وامّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ فعلية الحكم ليست أمراً يتحقّق وراء الجعل عند تحقق الموضوع حتّى يقال: إنّ إثباتها تعويل على الأصل المثبت، وإنّما الأثر العملي والتنجيز يترتّب على العلم بمجموع الكبرى، أي: الحكم، والصغرى، أي: الموضوع، فلا مجال لهذا الإشكال، فإنّ الكبرى قد علمت بالتعبّد والطريق المجعول تعبداً مثلاً، والصغرى علمت وجداناً، ويترتّب على ذلك التنجيز.

 

وجود معارض للاستصحاب التعليقي وعدمه

المقام الثاني: في أنه بعد فرض جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه قد يعارض باستصحاب تنجيزي وهو في مثال الزبيب استصحاب الجواز الثابت قبل غليانه.

وفي الجواب عن ذلك يوجد اتّجاهان:

1 ـ ما أبداه الشيخ الأعظم (قدس سره)(1) وحاول توضيحه المحقّق النائيني(رحمه الله)(2) من دعوى حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي.

2 ـ ما أبداه المحقّق الخراساني(رحمه الله)(3)واختاره السيّد الاُستاذ(4) من دعوى عدم التعارض بين الاستصحابين، والحكومة وعدمها فرع التعارض، فهما يجريان معاً بلا تعارض.

أمّا الاتّجاه الأوّل: فذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله)أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي من دون أن يوضّح وجهاً لذلك، وحاول المحقّق النائيني(رحمه الله)توضيح وجه له، إلاّ أنّه لم يوضّحه.

فذكر(رحمه الله)أنّ الشكّ في بقاء الجواز وعدمه ناشئ من الشكّ في سعة دائرة الحرمة المعلّقة على الغليان بحيث تشمل الزبيب وضيقها، ثمّ أورد على نفسه بأنّ ميزان الحكومة هو أن


(1)راجع الرسائل ص380 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 475 ـ 477 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم. وأجود التقريرات ج2 ص414

(3) راجع الكفاية: ج 2، ص 323 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

(4) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 142.

413

يوجد موضوع وأثر، ويجري أصل في الموضوع وأصل في الأثر، فيكون الأصل في الموضوع حاكماً على الأصل في الأثر. وفي المقام ليس كذلك؛ إذ ليس أحد مصبّي الشكّين موضوعاً للآخر.

وإلى هنا يبدو كأنّ نكات المطلب واضحة عنده(رحمه الله)إلاّ أنّه يقول في جواب الإشكال ما لا يفي بحلّ المطلب، وهو أنّه إنّما يكون الأصل الجاري في الموضوع هو الحاكم على الأصل الجاري في الأثر في الشبهات الموضوعية، وأمّا في الشبهات الحكمية فلا يوجد شكّ في الموضوع حتّى يكون الأصل في الموضوع هو الحاكم. إذن فالميزان العامّ لحكومة الأصل هو كون الأصل في أحد الشّكين ملغياً للشك الآخر، دون العكس، من دون فرق بين الشبهات الحكمية والموضوعية.

وهذا الكلام في نفسه صحيح، إلاّ أنّه(رحمه الله)طبّقه على المقام وفرض أنّ الأصل في جانب الحكم التعليقي رافع للأصل في جانب الحكم التنجيزي، ومُلغ للشكّ في مورده، من دون أن يبيّن وجهاً لذلك ونكتةً له، إذن فيبقى سرّ المطلب غامضاً، ولم تعلم نكتة للحكومة في المقام، ومن هنا اعترض عليه السيّد الاُستاذ(1) والسيد الحكيم في المستمسك(2) وغيرهما، ولم يوافقوا على الحكومة.

أقول: إنّ استصحاب الحرمة بنحو القضية التعليقية قبل أن يتكلّم في ابتلائه بمعارضة استصحاب الحلية التنجيزية وحكومته عليه أو عدم حكومته لا بدّ من افتراض صحّته في نفسه ولو تنزّلاً، والمحقّق النائيني(رحمه الله)كان قد أورد على استصحابها أنّ القضية التعليقية أمر عقلي، فلا يمكن استصحابه، والآن حينما يتكلّم في التعارض والحكومة قد افترض تنزّلاً عدم ورود هذا الإشكال على استصحابها في نفسه، وكان هنا إشكال آخر على استصحاب القضية التعليقية لم يذكره الشيخ النائيني(رحمه الله)وهو يتوجّه بناءً على مسلك الشيخ النائيني كما مضى، وهو إشكال المثبتية، حيث يقال: إن قصد باستصحاب القضية التعليقية ترتيب الأثر العملي من التنجيز عليه ابتداءً، فالقضية التعليقية بنفسها غير قابلة للتنجيز، وإن قصد به ترتيب الأثر العملي بتوسّط إثبات الحرمة الفعلية، فهذا تمسّك بالأصل المثبت، فلا بدّ أن نرى ما هو موقف المحقّق النائيني من هذا الإشكال حينما يفترض التعارض بين الاستصحابين


(1) راجع نفس المصدر ص 141.

(2) راجع المستمسك: ج 1، ص 420 بحسب الطبعة الرابعة لمطبعة الآداب في النجف الأشرف.

414

وحكومة أحدهما على الآخر، أو عدمها، والمواقف المتصورة في ذلك عديدة:

1 ـ فرض التسليم بإشكال المثبتية، وعدم جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه.

وهذا الموقف غير متعقّل من المحقّق النائيني(رحمه الله)لدى تكلّمه في المعارضة والحكومة؛ إذ المعارضة والحكومة فرع تماميّة كلّ من الاستصحابين في نفسه، فلا بدّ أن يفترض أنّه في هذا المجال لا يسلّم إشكال المثبتية، إمّا غفلةً عنه بالمرّة، أو متبنياً لحلّ من الحلول لهذا الإشكال، أو تنازلاً وتسليماً لقول الخصم كي تصل النوبة إلى البحث عن المعارضة والحكومة.

2 ـ فرض الإجابة على إشكال المثبتية بأنّ العلم بالقضية التعليقية مع العلم بتحقّق المعلّق عليه خارجاً كاف في التنجيز، ولا يوجد عندنا وراء ذلك مرحلة الفعلية التي يُدّعى أنّها هي التي تتنجّز بالعلم.

وهذا الموقف غير محتمل بشأن المحقّق النائيني(رحمه الله)إذ هو يرى أنّ للحكم مرحلتين: مرحلة الجعل، ومرحلة الفعلية، وأنّ موضوع التنجيز هي المرحلة الثانية.

3 ـ فرض الالتزام في الاستصحاب بجعل الحكم المماثل، وأنّه حينما يتحقّق موضوع هذا الحكم المماثل يصبح ـ لا محالة ـ فعلياً، فهناك ملازمة واقعية بين الحكم المماثل المعلّق الظاهري والحكم الفعلي الظاهري، فالاستصحاب إذا أثبت الأوّل ثبت الثاني؛ لكونه من لوازم نفس الحكم الظاهري، لا من لوازم الواقع.

وهذا الموقف ـ أيضاً ـ غير محتمل في حقّ المحقّق النائيني(رحمه الله)لأنّه لا يقول في باب الاستصحاب بجعل الحكم المماثل.

4 ـ أن يفترض أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)إمّا كان غافلاً عن إشكال المثبتية ـ كما هو المظنون ـ أو أنّه كان قد حلّ في ذهنه إشكال المثبتية بوجه من الوجوه كخفاء الواسطة مثلاً، وغير ذلك، أو أنّه افترض عدم المثبتية تنزّلاً حتّى تصل النبوة إلى بحث المعارضة والحكومة. وعلى كلّ حال يكون مفروض الكلام بوجه من الوجوه أنّ استصحاب الحرمة التعليقية يثبت الحرمة التنجيزية حتّى تصل النوبة إلى مرحلة المعارضة والحكومة، أو عدمها، وإذا فُرِض هكذا فالحكومة في المقام بملاك إلغاء الشكّ في غاية الوضوح؛ إذ استصحاب الحرمة التعليقية قد ألغى ـ حسب الفرض ـ الشك في الحرمة التنجيزية، لكن استصحاب الحلّيّة التنجيزية لا يلغي الشك في الحرمة التعليقية؛ إذ لَئِن تُخُيّل أن المجعول أثرٌ للجعل مثلاً، فيثبت باستصحاب الجعل لا يُتَخيّل عكسه، فاظنّ أنّ منطقة الفراغ في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)هي هذا الذي ذكرناه، وحذفه في كلامه هو الذي أوجب أن يكون جوابه للإشكال على الحكومة كأنّه

415

تكرار لنفس المدّعى، فأشكلوا عليه بأنّه لم يظهر وجه للحكومة، وأنّ كلامه ليس إلاّ تكراراً.

وبما أنّ مختارنا من هذه المواقف الأربعة تجاه إشكال المثبتية هو الموقف الثاني، وعليه لا معنى للحكومة في المقام، فنحن لا نقبل هذا الاتّجاه الأوّل، وهو اتّجاه الحكومة.

وبالإمكان أن يورد هنا إشكال آخر على هذه الحكومة، وهو: أنّ استصحاب الحرمة وإن كان ينفي الحلية بناءً على أنّها نقيض الحرمة، وأنّها أمر عدمي، لكن بناءً على كونها ضدّ الحرمة وأمراً وجودياً لا ينفيها، ولا تتمّ الحكومة، ولو بنينا على كونها أمراً عدمياً فلنتكلم في فرض كون الحكم التنجيزي هو الاستحباب، كما لعل الأمر كذلك في الزبيب، وعندئذ لا معنى لحكومة استصحاب الحرمة على استصحاب الاستحباب.

وهذا الإشكال يمكن دفعه بناءً على مذاق المشهور من أنّ الأحكام الظاهرية أحكام جعلت للتنجيز والتعذير، وذلك ببيان أنّ التعذير في المقام يترتّب على عدم الحرمة والإلزام، لا على الحلّيّة بالمعنى الوجودي، أو الاستحباب، فاستصحاب الحلّيّة أو الاستحباب غير جار في نفسه، وغير معذّر، ويجري استصحاب الحرمة التعليقية المفروض حكومته على استصحاب عدم الحرمة التنجيزي.

أمّا إذا بنينا على ما هو المختار من أنّ الأحكام الظاهرية تبرز درجة اهتمام المولى بالأحكام الواقعية ومبادئها، فهذا الجواب لا يأتي، ولكن قد يقال: إنّنا نستصحب عدم الإباحة أو الاستحباب المعلّق على الغليان، ويكون ذلك حاكماً على استصحاب الحلّ أو الاستحباب التنجيزي، وهذا مبنيّ على القول بأنّه إذا كان حكم وجوديّ غير مجعول في الشريعة، ثمّ جعل في الشريعة على بعض الفروض والأحوال، فالمستفاد عرفاً هو جعل عدمه، واعتبارُه في الحالات الاُخرى، وهي حالة الغليان في المقام.

وأمّا الاتّجاه الثاني: فقد أبداه المحقّق الخراساني(رحمه الله)(1) بتقريب: أنّ الحرمة المعلّقة على الغليان مع الحلّيّة المغيّاة بالغليان كلتاهما كانتا ثابتتين حدوثاً على العنب، ولم تكن أيّة منافاة بينهما باعتبار أنّ شرط إحداهما غايةٌ للاُخرى، فلم يلزم اجتماع الحلّيّة والحرمة في آن واحد، فإذا كانت الحلّيّة المغيّاة بالغليان والحرمة المعلّقة على الغليان ثابتتين معاً على العنب حدوثاً بالوجدان بلا أيّ منافاة بينهما فكيف تقع بينهما منافاة حينما تثبتان بقاءً بالتعبّد؟!


(1) راجع الكفاية ج2 ص322 بحسب الطبعة المشتلمة في حواشيها على تعليات المشكيني.

416

والعجيب أنّ السيّد الاُستاذ وافق على هذا الكلام(1).

وأنت ترى أنّ هذا الكلام إنّما يصحّ بياناً لعدم المنافاة بين استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان واستصحاب الحلّيّة المعلّقة على عدم الغليان، لكنه يوجد في المقام استصحاب آخر وهو استصحاب الحلّيّة التنجيزية(2)، حيث إنّ هذا الزبيب قبل الغليان كان حلالاً منجّزاً حلّيّة مردّدة بين حكم طويل الأمد وهي الحلّيّة المطلقة وحكم قصير الأمد وهي الحلّيّة المعلّقة على عدم الغليان، فتستصحب هذه الحلية إلى ما بعد الغليان، وإذا أجرينا استصحاب الحلّيّة التنجيزية إلى ما بعد الغليان ـ فلا محالة ـ يعارض استصحاب الحرمة(3).

نعم، الصحيح: أنّه حينما يجري استصحاب الحرمة التعليقية لا يجري استصحاب الحلّيّة التنجيزية، لكن لا من باب الحكومة المألوفة كما ادّعي في الاتّجاه الأوّل، بل من باب أنّ إحدى الحالتين السابقتين تغطّي على الحالة الاُخرى وتخيّم عليها وكأنّها تُفنيها.

وتوضيح المقصود: أنّه متى ما كانت عندنا حالتان سابقتان في شيء، فإن كانت إحداهما فقط هي التي تجمع أركان الاستصحاب فالاستصحاب يجري بالنسبة لها دون الاُخرى، وإن كانت كلّ منهما في حدّ ذاتها، أي: لو بقيت وحدها جامعة لأركان الاستصحاب، فعندئذ إن كانت الحالتان في عرض واحد كما في موارد توارد الحالتين فالاستصحابان يتعارضان، وإن كانتا طوليتين لا عرضيتين، واقصد بذلك أنّ إحدى الحالتين تشكّل قانون نسخ الاُخرى وكأنّها تخيّم عليها، فهنا تصبح هذه الحالة هي التي يجري فيها الاستصحاب دون الاُخرى؛ وذلك لأنّ الاستصحاب ـ على ما مضى ـ أصل ارتكازي في نظر العقلاء بنحو من أنحاء الارتكاز، فدليل حجيّة الاستصحاب ينصرف إلى ما يطابق ذلك الارتكاز ويلتئم معه، ومن الواضح في مثل هذا الفرض أنّ ارتكازية الاستصحاب في نظر العرف تنصبّ على تلك الحالة المخيّمة والناسخة، لا على الحالة المخيّم عليها والمنسوخة، فإذا كان شخص يدرّس في كلّ يوم في الساعة الاُولى من ساعات النهار مثلاً، ثمّ شككنا في يوم من الأيام في أنّه هل


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 142.

(2) ان السيّد الخوئي(رحمه الله)ـ حسب ما ورد في مصباح الاصول ـ ملتفت إلى استصحاب الحلية التنجيزية لكنه يدّعي أن هذه الحلية مردّدة بين أن تكون نفس الحلية التي كانت في حالة العنبية فهي مغيّاة بالغليان أو حلية أخرى غير مغيّاة به وهي مشكوكة الحدوث.

(3) هذا الجواب يستنبط من كلام الشيخ الإصفهاني(رحمه الله)، فراجع نهاية الدراية: ج5، ص177 بحسب طبعة آل البيت.

417

هو باق على تلك الحالة السابقة، وهي أنّه يدرّس في كلّ يوم صباحاً أو لا، فهنا يوجد في قبال هذه الحالة السابقة حالة اُخرى وهي عدم تدريسه في نصف الليل، مثلاً لكن من الواضح أنّ الاستصحاب المركوز في الأذهان في مثل المقام إنّما هو استصحاب حالة كونه يدرّس في أوّل الصبح التي هي تشكّل قانون نسخ حالة عدم تدريسه الثابتة له فيما قبل الصبح، وكذلك الأمر في المقام، فإنّ حالة الحرمة التعليقية التي كانت ثابتة لهذا الجسم كانت تشكّل قانون نسخ الحلّيّة التي كانت ثابتة له وتخيّم عليها.

ويؤيّد كون المركوز العقلائي في المقام هو استصحاب الحرمة التعليقية دون الحلّيّة التنجيزية أنّه منذ بدايات تفتّح ذهن العلماء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، أي: من حوالي أربعمائة سنة إلى الآن أخذ المشهور يجرون الاستصحاب التعليقي، إمّا مطلقاً كما هو المنسوب إليهم وإمّا مع التفصيل كالتفصيل الذي اخترناه، ونحتمل أنّه هو مقصود المشهور، ولم يكن حتّى المنكرون للاستصحاب التعليقي يستشكلون فيه من ناحية التعارض مع الاستصحاب التنجيزي، وبعدما التفتوا إلى مشكلة المعارضة أخذوا يفتّشون عن مبرّر لرفع اليد عن المعارضة، فاتّجهوا إلى الحكومة أو إلى عدم المعارضة ما عدا مدرسة المحقّق العراقي(رحمه الله) حيث ذهب(رحمه الله) إلى سقوط الاستصحاب التعليقي بالتعارض.

والخلاصة: أنّ هذه المحاولات الفنية للإجابة على التعارض هي توجيه وتبرير لما هو مركوز في ذهنهم من عدم التعارض، وقد أصابوا في الارتكاز واخطأوا في المحاولات الفنيّة.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه جريان الاستصحاب التعليقي بالتفصيل المتقدّم وعدم معارضته بالاستصحاب التنجيزي.

 

تنبيهات الاستصحاب التعليقي

ولننبّه في ذيل بحث الاستصحاب التعليقي على اُمور:

الأوّل: بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام هل يجري في الموضوعات الخارجية أيضاً، أو لا؟ ومثاله: ما يقال من أنّ حوضاً كان فيه الماء ثم شككنا في بقاء الماء فيه، وطرح فيه ثوب متنجس، فيقال: لو أنّه طرح في هذا الحوض قبل ساعة لغسل بالماء، فهل يقال بمقتضى الاستصحاب التعليقي: إنّه الآن ـ أيضاً ـ غسل بالماء، أو لا؟

ومنهج البحث هو أن نرجع إلى الوجوه الماضية في تصوير الاستصحاب التعليقي ليُرى أنّها تتم هنا أو لا فنقول:

418

الوجه الأوّل: استصحاب الجعل بمنظار الحمل الأوّلي بالتقريب الذي اخترناه.

وهذا إن تمّ هناك لا يأتي هنا إذ لا جعل في المقام.

الوجه الثاني: استصحاب الحكم بلحاظ أنّ فعليته منوطة بالوجود اللحاظي للشرط، وهو وجه مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو لو تمّ هناك لا يتمّ هنا أيضاً، فإنّ حصول الغسل هنا امراً تكويني، تكون فعليته بتحقّق الوقوع في الحوض خارجاً لا لحاظاً.

الوجه الثالث: ما للمحقق العراقي ـ أيضاً ـ من استصحاب الملازمة بعد حلّ ما يرد عليه من إشكال المثبتية بالالتزام بمبنى جعل الحكم المماثل، فيقال عندئذ: إنّ جعل الملازمة في المقام يكون بجعل منشأ انتزاعها.

وهذا ـ أيضاً ـ لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ إذ الملازمة هناك كانت مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها، وهنا تكوينية صرفة بتكوينية طرفيها.

الوجه الرابع: ما مضى عن المحقّق الخراساني(رحمه الله)من إرجاع شرط الحكم إلى قيود متعلّق الحكم، سنخ إرجاع الحكم المشروط إلى الحكم المعلّق، فيكون الحكم فعليّاً، فيستصحب. وهذا هو الذي ذكر المحقّق الخراساني(رحمه الله)أنّه خارج عمّا نحن فيه.

وهذا الوجه ـ ايضاً ـ إن تمّ هناك لا يتمّ هنا، إذ ليس هنا حكم مشروط يقصد استصحابه حتّى يرجع إلى المعلّق فيستصحب، وحصول الغسل يكون مشروطاً ـ لا محالة ـ بالوقوع في الحوض في الوقت الذي كان فيه الماء، ولم يصبح فعلياً حتّى يستصحب.

الوجه الخامس: ما مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو إثبات العلم المنوط.

وهذا الوجه الذي هو أغرب الوجوه وأكثرها تعقيداً لو تمّ هناك لتمّ هنا طابق النعل بالنعل.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات.

الثاني: أنّ المثال المتعارف ذكره في مسألة الاستصحاب التعليقي وهو مثال العصير العنبي في الحقيقة ليس داخلاً في كبرى هذا البحث، ولا يصحّ جريان الاستصحاب فيه، وذلك لأنّ موضوع الحكم الثابت في لسان الدليل ليس هو العنب الغالي حتّى يجري الاستصحاب بعد زبيبيّته من باب أنّ العنبيّة والزبيبيّة تعدّ من الحالات، لا من المقوّمات الدخيلة في الموضوع، وليس الزبيب ولا العنب فيه ماء قابل للغليان، ولا يوجد في العنب إلاّ رطوبات، وإنّما موضوع الدليل هو ماء العنب الذي يحصل بطريقة العصر وتجميع تلك الرطوبات، وأمّا الزبيب فلا يُعطي ماءً بالعصر وإنّما يوضع فيه الماء من الخارج، ويغلي، فهذا

419

الماء غير ماء العنب، فالموضوع متبدّل ومتباين عقلاً وعرفاً، ولا مجال للاستصحاب.

الثالث: ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ في المعاملات المعلّقة أنّه يمكن إثبات اللزوم بالاستصحاب بعد الفسخ عند الشكّ في اللزوم، من دون أن يبتني ذلك على الاستصحاب التعليقي.

توضيح ذلك: أنّ العقود على قسمين:

الأوّل: ما يكون بطبيعته تنجيزياً ولا يجوز فيه التعليق، من قبيل البيع.

وفي هذا القسم إذا حصل الشكّ في اللزوم أمكن اجراء استصحاب بقاء الأثر بعد الفسخ بلا إشكال، ولا يرجع ذلك إلى الاستصحاب التعليقي، فإنّ الأثر كان ثابتاً بالفعل.

الثاني: ما يكون بطبيعته تعليقياً كالوصيّة المعلّقة على موت الموصي، والجعالة المعلّقة على العمل الذي عليه الجعل، والسبق، والرماية، ونحو ذلك، وعندئذ إذا حصل الفسخ قبل حصول المعلّق عليه فيترائى في النظر أنّ الاستصحاب هنا تعليقي، إذ يقال مثلاً: لو كان الموصي قد مات قبل الفسخ لكان هذا المال منتقلاً إلى الموصى له، فكذلك الأمر عند موته بعد الفسخ بحكم الاستصحاب(1).

ولكن ذكر المحقق النائيني(رحمه الله)والسيّد الاُستاذ أنّ جريان الاستصحاب في المقام غير موقوف على الاستصحاب التعليقي.

وتقريب السيد الاُستاذ للمطلب هنا يختلف عن تقريب المحقق النائيني(رحمه الله):

فذكر المحقّق النائيني(رحمه الله)(2): أنّنا نستصحب القرار الثابت في العقد، لا النتيجة والأثر، شبه ما نصنعه في استصحاب الأحكام عند الشكّ في النسخ، حيث إنّنا هناك نستصحب الجعل لا المجعول.

وذكر السيّد الاُستاذ(3): أنّنا نستصحب في المقام حقّاً ثبت لطرف المعاملة، وهو فعليّ قبل حصول المعلّق عليه، ففي باب الجعالة مثلاً يكون للمجعول له حقّ أن يملك مال الجعالة بالعمل، فنستصحب ثبوت هذا الحقّ بعد الفسخ.


(1) نقل السيد الهاشمي (حفظه الله) عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أن الاستصحاب التعليقي في المقام يكون من القسم الذي اخترنا جريانه.

(2) راجع فوائد الاصول: ج 4 ص 462 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات: ج 2 ص 411.

(3) راجع مصباح الاُصول ج3 ص140.

420

أقول: إن كان المقصود بهذا الحقّ هو العنوان الانتزاعي الذي ينتزع من القضية التعليقية في المقام، وهي قضية: أنّه لو عَمِلَ لاستحقّ مال الجعالة، فاستصحاب هذا العنوان الانتزاعي ليس له أثر، وإن كان المقصود دعوى: أنّ الجاعل يُنشئ بعقد الجعالة أمرين: أحدهما حقّ أن يملك المجعول له المال بالعمل، والثاني: ثبوت المال له بعد العمل، ويجعل الثاني أثراً للأوّل، والشارع أمضى ذلك بهذا الترتيب، فنحن نستصحب الأمر الأوّل وهو ذلك الحقّ، فيترتّب عليه استحقاق المجعول له للمال بعد العمل؛ لأنّه أثر شرعي للمستصحب، قلنا: إنّ هذه الدعوى في غير محلّها، فإنّ الجاعل لا ينشئ إلاّ الأمر الثاني، وهو استحقاق المجعول له للمال إذا عمل، ولا يوجد هنا حقّ آخر مجعول، وهو حقّ أن يتملك بالعمل.

نعم، ورد في بعض الروايات الحكم بثبوت بعض آثار هذا الحقّ تعبّداً (لا الحكم بثبوت هذا الحقّ) وذلك ما ورد في بعض الروايات من أنّه إذا أوصى أحد بمال لشخص ثمّ مات الموصى له قبل موت الموصي أو قبل قبول الموصى له قام ورثة الموصى له مقامه(1).

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)من استصحاب القرار فهو مبنيّ على مبنى فقهيّ في باب الفسخ، مقبول عندنا، وهو أنّ العقد في باب العقود وإن كان بحسب الحقيقة أمراً آنياً يتحقّق وينتهي، لكنّه بحسب اعتبار المُعتَبِر في نظر العقلاء له نوع قرار واستمرار ينقطع بالفسخ(2)إذا كان متزلزلاً، فعند الشكّ في التزلزل يستصحب هذا الاستمرار بعد الفسخ ويترتّب عليه أثره، لكنّ هذا المبنى غير مقبول عند السيّد الاُستاذ، وإنّما هو يقول بأنّ الفسخ أخذ عدمه قيداً في الملكية المجعولة، لا أنّه رفع لذلك القرار وللاستمرار، وبناءً على هذا المبنى لا مجال للاستصحاب في المقام عدا الاستصحاب التعليقي.

 

 


(1) راجع الوسائل: ج 19 بحسب طبعة آل البيت ب 30 من الوصية ح1 ص333 ـ 334.

(2) إن كان يعتبر للعقد نوع قرار واستمرار فإنّما هو قراره في نفس العاقد، وهو ينتهي بالفسخ سواءً كان لازماً أو متزلزلاً. أمّا الذي يبقى بعد الفسخ لو كان لازماً فهو الأثر، وليس القرار.

421

 

 

 

في استصحاب عدم النسخ

 

التنبيه السابع: في استصحاب عدم النسخ، وفيه مقامان:

أحدهما: في استصحاب حكم نفس هذه الشريعة. والآخر: في استصحاب حكم شريعة اُخرى.

 

استصحاب حكم هذه الشريعة:

أمّا المقام الأوّل: فأوّلاً نطرح في المقام السؤال عن أنّه هل الشكّ في النسخ يكون قسماً ثالثاً في قبال الشكّ في سعة دائرة المجعول وضيقه، كما هو الحال في الشبهات الحكمية، وفي قبال الشكّ في الأمر الخارجي، كما هو الحال في الشبهات الموضوعية، أو لا؟

والواقع: أنّ الأمر في ذلك يختلف باختلاف ما يتصوّر في حقيقة النسخ.

فالنسخ يمكن تصوّره بأحد معان ثلاثة:

الأوّل: أن يكون النسخ رفعاً للحكم حقيقةً، بمعنى أنّ الحكم يجعل من قبل المولى بنحو وسيع وممتدّ إلى يوم القيامة، ثمّ قد ينسخ بعد ذلك. وهذا التصوّر غير محتمل بالنسبة لمبادئ الحكم من الإرادة والكراهة والحبّ والبغض؛ لأنّه يساوق البداء الحقيقي المستحيل عليه تعالى، ولكن يمكن تصويره بلحاظ عالم الجعل، فيقال: إنّ الجعل وإن كان أمراً آنياً لا يدوم لكنّه بحسب الاعتبار العرفي والعقلائي الممضى شرعاً كأنّ له نوعاً من البقاء والدوام والاستمرار إلى أن يقطع بالنسخ.

وبناءً على هذا يكون الشكّ في النسخ قسماً ثالثاً مستقلاً برأسه.

الثاني: أن يكون النسخ تقييداً زمانياً، أي: إنّ الحكم من أوّل الأمر كان مجعولاً إلى زمان معيّن لا إلى الأبد، وقد أبدى القيد بعد ذلك في ثوب الناسخ، ولم يكن الجعل مطلقاً ثبوتاً من أوّل الأمر، وإلاّ لكان الجعل بلحاظ زمان ما بعد النسخ لغواً مثلاً.

وبناءً على هذا التصوّر يرجع الشكّ في النسخ إلى الشكّ في سعة دائرة المجعول وضيقها، من قبيل الشبهات الحكمية الاُخرى المألوفة، ولم يكن قسماً ثالثاً.

422

الثالث: أن يفرض النسخ عبارة عن حصول غاية الحكم، وهو جعل الحكم المضادّ للحكم الأوّل، وذلك بأن يقال: إنّ الأحكام منذ البدء مجعولة مغيّاة بجعل ضدّها، فقوله مثلاً: (هذا حرام) يعني كونه حراماً ما لم يجعل الحلّية.

وعلى هذا فالشكّ في النسخ مرجعه إلى الشكّ في الشبهات الموضوعية، ولم يكن قسماً ثالثاً.

وقد يورد على هذا التصوّر الأخير الاعتراض باستحالة كون عدم أحد الضدين موضوعاً للضد الآخر.

وقد يجاب عليه بأنّ هذه الاستحالة ثابتة في التكوينيات، أمّا الجعل والاعتبار فسهل المؤونة، ويمكن فرض جعل الحكم مغيّى بجعل ضدّه، فقد يدّعى أنّ المفهوم عرفاً من جعل الأحكام ذلك.

أمّا أنّ أيّاً من هذه التصوّرات الثلاثة هو الصحيح فسيأتي في آخر البحث ـ إن شاء الله ـ.

وأمّا هنا فنبحث عن أنّ استصحاب بقاء الحكم هل يجري بناءً على أي واحدة من هذه التصوّرات، أو لا.

فنقول: قد مضى في بحث الشبهات الحكمية إشكالان على استصحاب الحكم في الشبهات الحكمية:

أحدهما: أنّ الشكّ في الحكم مرجعه في الحقيقة إلى الشكّ في جعل زائد معاصر للجعل الأوّل، لا في امتداد الجعل الأوّل.

وثانيهما: أنّ استصحاب المجعول معارَض باستصحاب عدم الجعل.

ويوجد هنا إشكال في استصحاب الحكم عند الشكّ في النسخ تعرّض له الشيخ الأعظم(رحمه الله)(1) وتبعه المتأخرون عنه في ذكره، وهو إشكال تعدّد الموضوع من باب أنّ الحكم كان ثابتاً على الأشخاص الذين كانوا في العصر الأوّل، ونحن اُناس آخرون لم يثبت شمول الحكم لنا من أوّل الأمر.

وشيء من هذه الإشكالات الثلاثة لا موضوع لها في المقام بناءً على التصوّر الأوّل، فإنّ المشكوك حقيقة بناءً عليه هو استمرار الجعل ودوامه، ولو دوامه العرفي، لا سعة دائرة الجعل وضيقعها في الآن الأوّل حتّى يرد الإشكال الأوّل.


(1) راجع الرسائل: ص381 بحسب الطبعة المشتملة ـ على تعليقات رحمة الله.

423

كما أنّه لم يكن المقصود استصحاب المجعول حتّى يفترض تعارضه مع استصحاب عدم الجعل، وإنّما المدّعى أنّ نفس الجعل يحتمل بقاؤه فيستصحب.

كما أنّه لا مجال للإشكال الثالث: لأنّ المدّعى أنّ الحكم جعل على تمام الأفراد إلى يوم القيامة ثمّ احتمل نسخه(1).

كما لا موضوع لهذه الإشكالات على التصوّر الثالث ؛ إذ الشكّ بناءً عليه يكون في الشبهة الموضوعية، لا في الجعل حتّى يجري استصحاب عدم الجعل الزائد، وشبهة التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل إنّما هي في الشبهات الحكمية لا الموضوعية، كما مضى في محلّه.

كما لا مجال للاستشكال من ناحية تعدد الموضوع، فإنّنا نريد استصحاب الموضوع الخارجي وهو عدم جعل الحلّية مثلاً، ويكون الحكم مجعولاً على كلّ الأفراد مشروطاً بشرط شككنا في انتفائه، لا على بعض الأفراد دون بعض.

فهذه الإشكالات الثلاثة إنّما يمكن افتراض مجال لها بناءً على التصوّر الثاني، وهو كون النسخ تقييداً زمانياً للحكم.

فإن بنينا على هذا التصوير قلنا: أما الإشكالان الأوّلان فقد مضى جوابهما في بحث الاستصحاب في الشبهات الحكمية، ونفس الجواب يأتي هنا، وأمّا الإشكال الثالث فقد أجاب عنه الشيخ الأعظم (رحمه الله)(2) بكلام مجمل، وأجاب عنه المحقّق النائيني (رحمه الله)بكلام


(1) قلت له (رحمه الله): إنّ استصحاب بقاء الجعل بمعنى ذلك الاعتبار الممتدّ يمكن جعله معارضاً لاستصحاب عدم ثبوت الإرادة ومبادئ الحكم بالنسبة لغير المقدار المتيّقن الذي هو من سنخ استصحاب عدم الجعل الزائد الذي يذكر في الإشكال الأوّل والثاني من الإشكالات الثلاثة.

فاجاب (رحمه الله) بأنّ من يستصحب بقاء ذلك الجعل والاعتبار الممتدّ لو كان يرى أنّ ذلك الاعتبار كاف في التنجيز ولو فرض عدم وجود الارادة والمبادئ وراءه، فاستصحابه يكفي في التنجيز، ولا يعارضه استصحاب عدم تلك المبادئ، ولو كان يرى عدم كفايته في التنجيز فاستصحابه في نفسه غير جار، فإنّ ذلك الجعل والاعتبار المطلق إنّما يكون موجباً للامتثال بمقدار شموله للمبادئ، وقد فرضنا في موارد النسخ أنّ هناك اعتباراً وجعلاً مطلقاً شاملاً لكلّ الأزمنة والأفراد إلى يوم القيامة، من دون أن تكون وراءه مبادئ الحكم بهذا النحو من الامتداد والشمول، واستصحاب اعتبار قد يكون من هذا القبيل لا أثر له.

والخلاصة: أنّ المفروض في هذا التصوّر الأوّل لاستصحاب عدم النسخ هو كفاية مثل هذا الاعتبار ما لم ينسخ للتنجيز(ولو من باب كونه بروح وضع مفاده على عهدة المكلف.)، فيجري استصحابه بلا معارض.

(2) راجع الرسائل ص381 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

424

واضح(1)، وكأنّه جعله تفسيراً لكلام الشيخ الأعظم (رحمه الله)، وكلام المحقّق الخراساني (رحمه الله)(2) في مقام الجواب ـ أيضاً ـ مجمل.

وعلى أيّ حال، فما ذكره المحقّق النائيني (رحمه الله) هو: أنّ القضية ليست خارجية حتّى يفترض أنّ موضوعها خصوص اُولئك الأشخاص الذين كانوا في العصر الأوّل، وإنّما القضية مجعولة بنحو القضية الحقيقية.

أقول: إنْ كان المفروض استصحاب المجعول الفعلي إما بالنحو الذي يتصوّره المحقّق النائيني (رحمه الله) من حدوث مرتبة الفعلية للحكم عند وجود الموضوع خارجاً، وإمّا بالنحو الذي نتصوّره نحن من المجعولات الجزئية بعدد الموضوعات التي تُرى حينما ينظر إلى الجعل بمنظار الحمل الأوّلي، فمجرّد افتراض كون القضية حقيقية لا يكفي لحلّ الإشكال، بل نحتاج في مقام حلّ الإشكال إلى مجموع أمرين:

1 ـ كون القضيّة حقيقيّة لا خارجية، وإلاّ لم يعلم ثبوت الحكم علينا ولو فرض وجودنا في ذلك الزمان.

2 ـ قبول الاستصحاب التعليقي، فإنّ الاستصحاب في المقام تعليقيّ ؛ لأنّنا لم يمضِ علينا وقت نعلم بثبوت الحكم الفعلي في حقّنا حتّى نستصحبه، وإنّما نعلم أنّه لو كنّا في ذلك الزمان لثبت الحكم الفعلي لنا.

وهذا الاستصحاب التعليقي يكون داخلاً في القسم الذي قلنا نحن بجريانه ؛ لأنّه ليست القضية المجعولة في المقام عبارة عن أنّ الشخص الذي كان في ذلك الزمان حكمه كذا، وإنّما هي عبارة عن قضية اُمّ فيها قضية بنت، أي: إنّها عبارة عن قضية موضوعها ذلك الزمان الماضي، ومحمولها قضية بنت، وهي أنّ الإنسان فيه حكمه كذا.

والوجه في استظهار ذلك هو: أنّ النسخ حسب التصوّر العرفي يكون على طبق ما مضى من التصوّر الأوّل، وبعد فرض التنزّل عنه يفتّش العرف عن صيغة مشابهة له، وتلك الصيغة هي أنْ نفترض أنّ الحكم قضية كانت في زمان وانتهى أمدها، وهذا يكون بجعل ذلك الزمان موضوعاً، وتلك القضية محمولاً.

وإن كان المفروض استصحاب المجعول الكلّي، أي: الجعل الكلّي بمنظار الحمل الأوّلي


(1) راجع فوائد الاُصول ج4 ص478 ـ 479 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج2 ص414.

(2) راجع الكفاية ج2 ص323 ـ 324 بحسب الطبعة المتلمة في حواشيها على تعليقات الشيخ المشكيني.

425

فعندئذ نقول: إنّ نكتة حلّ الإشكال ليست هى كون القضية حقيقية لا خارجية، وإنّما نكتة المطلب هي أنّ موضوع الحكم هل هو الطبيعة أو الأفراد ؛ إذ لو فرض الموضوع هو الأفراد فحتّى لو كانت القضية حقيقية يكون الإشكال ثابتاً ؛ لأنّ الموضوع متعدّد ـ لا محالة ـ بتعدّد الأفراد، فيكون اليقين بلحاظ بعض الأفراد والشكّ بلحاظ بعض آخر، وهذا بخلاف ما لو كان موضوع الحكم هو الطبيعة، وعندئذ تكون القضية حقيقية حتماً، فإنّه في هذا الفرض لم يحصل أيّ تغيّر في موضوع الحكم، فيجري استصحاب ثبوت الحكم على الطبيعة.

ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم (رحمه الله) حيث عبّر بأنّ القضية هنا طبيعية، ولا دخل لخصوصية الأفراد.

وبناءً على هذا الذي ذكرناه قد يشكل الاستصحاب إذا كان لسان دليل الحكم هو لسان العموم لا الإطلاق، فإنّ الموضوع عندئذ هو الأفراد، إلاّ إذا ادّعي رجوع العموم من هذه الناحية بنظر العرف إلى الإطلاق، أي: إنّ العرف يفهم أنّ الحكم للطبيعة، وهذه الدعوى صحيحة.

والنكتة في هذا الارجاع عند العرف هي عدم مدخلية أيّ خصوصية من الخصوصيات الفردية على ما هو المفروض من شمول القضية حتّى للأفراد المقدّرة الوجود، وعليه فيجري الاستصحاب.

 

استصحاب حكم شريعة سابقة:

وأمّا المقام الثاني: وهو استصحاب حكم شريعة اُخرى. فنفس الإشكالات السابقة مع تحقيق حالها تجري هنا حرفاً بحرف، إضافة إلى إشكالين آخرين:

الإشكال الأوّل: العلم الإجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشريعة.

واُجيب بانحلاله بالعلم التفصيلي أو بالعلم الإجمالي الأصغر منه دائرة ـ كما هو الصحيح ـ بلحاظ علمنا بأنّ بعض أحكام شريعتنا المعلومة لنا نسخ لتلك الشرائع.

وأقول: إنّ هذا العلم الإجمالي حتّى مع فرض عدم انحلاله لا أثر له في المقام، فإنّ تأثيره في إبطال الاستصحاب مشروط باُمور ثلاثة:

1 ـ كون الاستصحاب استصحاباً لحكم ترخيصي، فلا يوجد محذور في استصحاب الأحكام الإلزامية.

2 ـ كون العلم الإجمالي علماً بنسخ الترخيص، فإذا كان متعلّقاً بالجامع بين الترخيصات

426

والإلزاميات فلا أثر له.

3 ـ الالتفات إلى أطراف العلم الإجمالي حتّى يترتّب أثر على كلّ من الاستصحابات، فإذا لم نعلم من أحكام تلك الشريعة إلاّ حكماً واحداً مثلاً وهو حكم الجعالة الذي يستفاد ثبوتها في زمن يوسف (عليه السلام) من قصّة يوسف في القرآن مثلاً ونحن غير مطّلعين على حكم آخر، فمجرّد إجراء استصحاب بقاء حكم آخر نحن غير ملتفتين إليه لا أثر له حتّى يجري ويعارض استصحاب حكم الجعالة مثلاً.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله)(1) من أنّه إن فرض أنّ شريعتنا نسخت الشريعة السابقة بتمامها ثمّ شرّعت أحكاماً يطابق بعضها ما في الشرائع السابقة، ويخالف بعضها ما في تلك الشرائع، فلا مجال لاستصحاب حكم الشريعة السابقة. وإن فرض أنّه ليس الأمر هكذا، بل إنّ شريعتنا تنظر إلى كلّ واحد من تلك الأحكام السابقة فينسخه أو يمضيه، فأيضاً لا مجال لاستصحاب حكم الشريعة السابقة ؛ لأنّ غاية ما يستفاد من ذلك الاستصحاب أنّ حكم الشريعة السابقة باق حتّى الآن، ولكن حكم الشريعة السابقة لا يفيدنا، وإنّما نحن نحتاج إلى إمضائه من قبل شريعتنا، وهو لم يثبت بالاستصحاب.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ نفس استصحابه الثابت بشريعتنا معناه إمضاء شريعتنا لذلك الحكم(2).

أقول: المظنون أنّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) هو أنّ مولوّيّة موسى أو عيسى (عليهما السلام)مثلاً غير ثابتة في حقنّا، وإنّما هي ثابتة في حقّ اُمّته، فتشريعه لا ينفذ في حقّنا، وإنّما الذي ينفذ في حقّنا هو تشريع مولانا محمد(صلى الله عليه وآله)، والاستصحاب يثبت أنّ موسى أو عيسى (عليهما السلام)قد جعل هذا الحكم جعلاً مطلقاً شاملاً لنا، وهذا لا يُثبت أنّ مولانا محمداً (صلى الله عليه وآله) أمضى ذلك الحكم في شريعته، إلاّ بالملازمة العقلية، من باب أنّ النبيّ السابق لا يشرّع حكماً مطلقاً شاملاً لنا، إلاّ إذا كان الملاك والمصلحة عامّاً ثابتاً في حقّنا، فيشرّع الحكم على الإطلاق برجاء أن يُمضى من قبل نبيّنا مثلاً، وإذا كان الملاك عامّاً ـ فلا محالة ـ يُمضى من قبل نبيّنا. وهذا لا يرد عليه ما ذكره السيّد الاُستاذ.

وهذا الكلام بعد تسليم مبناه يتمّ بناءً على أنّ إمضاء نبيّنا (صلى الله عليه وآله) لكلّ حكم سابق يكون


(1) راجع فوائد الاصول ج4 ص480 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود والتقريرات ج2 ص415.

(2) راجع مصباح الاصول ج3 ص150.

427

بإمضائه بالخصوص. أمّا لو فرضنا أنّ له إمضاءً كلّيّاً موضوعه هو كلّ حكم من أحكام النبيّ السابق الذي لم ينسخ أي الأحكام التي تكون مطلقة وشاملة لنا، فاستصحاب بقاء ذلك الحكم ينقّح موضوع الإمضاء، ويثبت الإمضاء.

وعلى أيّ حال، فهذا الكلام إن كان هو مقصود الشيخ النائيني (رحمه الله) فهو باطل من أساسه، لما يرد عليه من أنّنا ننظر إلى موسى أو عيسى (عليهما السلام) بالمعنى الحرفي، ونستصحب تشريعه بما هو تشريع للمولى الحقيقي الذي مولويّته ذاتية وثابتة لا ترتفع.