428

 

 

 

الأصل المثبت

 

التنبيه الثامن: في الاصل المثبت، وقد اشتهر بين المحققين المتأخرين مطلبان:

الأوّل: الفرق بين الأمارات والاُصول بأنّ الأمارات تثبت اللوازم زائداً على المدلول المطابقي، بخلاف الاصول.

والثاني: أنّ الاستصحاب يترتّب عليه الأثر المستصحب إذا كان أثراً شرعياً، ويترتّب عليه كلّ أثر شرعي مترتّب على المستصحب بلا واسطة، أو بواسطة أثر شرعي، ولا يترتّب عليه ما يكون بواسطة أثر عقلي.

ومن العجيب أنّه قد اشتهر هذان الأمران بين المحقّقين المتأخرين شهرة عظيمة، ولكن لا يوجد فيما يذكرونها من أدلّة على ذلك ما يكون في الوضوح بمستوى هذه الشهرة، بل هي أدلّة متزعزعة أو دعاوى بالإمكان لأحد أن يقابلها بدعوى اُخرى مثلها.

وعلى أيّ حال فالكلام يقع في هذين الأمرين في مقامين:

 

لوازم الأمارات والاُصول:

المقام الأوّل: في الأمر الأوّل وهو الفرق بين الأمارات والاُصول بحجّيّة اللوازم في الاُولى دون الثانية.

وهناك اتجّاهان لتوضيح هذا الفرق وتبريره:

الاتّجاه الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني (رحمه الله) من فرض فرق ثبوتي بينهما، أعني: أنّ سنخ الحجيّة المجعولة في الأمارات يختلف عن سنخ الحجيّة المجعولة في الاُصول، فالأوّل يقتضي حجيّة لوازم الأمارة، والثاني يقتضي عدم حجيّة لوازم الاُصول(1).

الاتّجاه الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ الفرق بينهما إثباتي، فلسان


(1)راجع فوائد الاصول ج4 ص484 ـ 489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص415 ـ 417.

429

دليل حجيّة الأمارة شمل صدفةً اللوازم، ولسان دليل حجيّة الاُصول لم يشمل صدفة ذلك(1).

والسيّد الاُستاذ ذهب إلى روح هذا الاتّجاه، أي: أنّه ذهب إلى أنّ الفرق يجب أن يفتَّش عنه في لسان الدليل، إلاّ أنّه لم يقبل كون لسان الدليل في كلّ الأمارات مقتضياً لحجيّة المثبتات، بل قال بالتفصيل في ذلك(2).

ونحن نتكلّم في كلّ من الاتّجاهين في لسان الأصحاب، ونبيّن ضمناً ما هو تحقيق الكلام في المقام فنقول:

أمّا الاتّجاه الأوّل: فقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(3) أنّ للعلم أربعة آثار:

1 ـ الأثر النفسي والوصفي من ثبوت الاستقرار والكمال مثلاً للنفس ونحو ذلك.

2 ـ الطريقيّة وانكشاف الواقع، وربط الإنسان به.

3 ـ تحريك الإنسان في عمله نحو الواقع.

4 ـ التنجيز والتعذير.

أمّا الأثر الأوّل فهو مختصّ بالعلم، ولا يقوم مقامه شيء آخر. وأمّا الأثر الثاني فالأمارة تقوم مقام العلم في هذا الأثر، وهذا معنى جعل الطريقية وتتميم الكشف. وأمّا الأثر الثالث فيقوم مقام العلم فيه الاُصول التنزيلية والمحرزة كالاستصحاب. وأمّا الأثر الرابع فلم يفرض (رحمه الله) قيام شيء مقام العلم فيه، ولا يرى إمكان جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، بل ذكر أنّ الاُصول غير التنزيلية ـ أيضاً ـ تقوم مقام العلم في الأثر الثالث، إلاّ أنّ الفرق بينها وبين الاُصول التنزيلية هو أنّ الاُصول التنزيلية اُقيمت مقام العلم في الجري العملي على طبق الشيء على أنّه كأنّه الواقع تنزيلاً وتعبّداً، والاُصول غير التنزيلية اُقيمت مقام العلم في الجري العملي من دون افتراض هذا التعبّد والتنزيل.

وهذه المطالب تنقلب عند المحقق النائيني (رحمه الله) إلى اصطلاحات فحينما يطلق اصطلاح الأمارة يقصد بذلك ما أقامه الشارع مقام العلم في الأثر الثاني، وحينما يطلق اصطلاح الأصل يقصد به ما أقامه الشارع مقام العلم في الأثر الثالث. وعلى هذا الأساس يقول: إنّ


(1) راجع الكفاية ج2 ص326 ـ 329. بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

(2) راجع مصباح الاصول ج3 ص155.

(3)راجع فوائد الاصول ج4 ص484 ـ 489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص415 ـ 417.

430

لوازم الأمارات حجّة ؛ لأنّ الكشف والطريقية لا يختصّ بالشيء دون لوازمه، فإذا انكشف شيء فقد انكشف كلّ لوازمه، ولوازم الاُصول غير حجّة ؛ لأنّ جعله قائماً مقام العلم في الجري العملي على طبق شيء لا يستلزم اقتضاء الجري العملي على طبق لوازمه.

وأورد عليه السيّد الاُستاذ بأنّه كما لا يكون التعبّد بضرورة الجري العملي على طبق شيء مستلزماً للتعبد بضرورة الجري العملي على طبق لوازمه كذلك اليقين التعبدي بشيء غير مستلزم لليقين التعبّدي بشيء من لوازمه. نعم، يوجد تلازم بين اليقين الحقيقي بشيء واليقين الحقيقي بلوازمه. وفي باب الأمارات لا يوجد يقين حقيقي بالشيء، وإنّما يوجد اليقين التعبّدي(1)، ومن هنا ذهب السيّد الاُستاذ إلى أنّه يجب التفتيش عن الفرق في لسان الدليل، لا عن فرق جوهري بين الحجّيّتين.

أقول: أمّا أن ننكر الفرق الجوهري بين الحجّيّتين بعد افتراض بطلان الفرق الجوهري الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)، فهذا موقوف على عدم وجود فارق جوهري آخر، وسوف نذكر ـ إن شاء الله ـ ما هو التحقيق في ذلك، وأمّا الإشكال الذي أورده على الفرق الجوهري المذكور في كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)فهو وارد عليه في حدود التقريب الذي بيّناه لكلامه، والذي يكون موجوداً في تقريري بحثه، لكنّني أظنّ أنّه(رحمه الله) ينظر إلى أحد أمرين انطمسا في خلال الكلام، ولم ينعكسا على التقريرين:

الأمر الأوّل: أن تدّعى الملازمة العرفيّة بين جعل الطريقيّة والكشف التعبّدي بالنسبة إلى شيء وجعل الطريقيّة والكشف التعبّدي بالنسبة إلى لوازمه، ولا تدّعى ملازمة من هذا القبيل بين جعل الأصل قائماً فقام العلم في اقتضائه للجري العملي على طبق ذلك المعلوم وجعله قائماً مقامه في ذلك بلحاظ اللوازم.

ونكتة الفرق بينهما هي: أنّ العلم ـ حسب ما افترضه المحقّق النائيني(رحمه الله) ـ له صفة الكاشفيّة وله صفة الاقتضاء للجري العملي، والشارع قد يعطي للشيء تعبّداً صفة الكشف، وقد يعطي له تعبّداً صفة اقتضاء الجري العملي على طبق شيء.

أمّا الكشف الذي أعطاه تعبّداً فلو فرض انّه كان ـ على فرض المحال ـ قد أعطاه حقيقة كان لازمه لا محالة الكشف عن كلّ الملازمات، وهذا أصبح نكتة لفهم العرف من إعطاء الكشف تعبّداً إعطاءه بالنسبة للملازمات أيضاً.


(1) مصباح الاصول ج3 ص155.

431

وأمّا صفة الاقتضاء للجري العملي فلو فرض محالاً أنّ الشارع أعطاها لغير العلم تكويناً لا تعبّداً لم يكن يسلتزم ذلك اقتضاء الجري العملي بالنسبة للملازمات، فتلك النكتة غير موجودة هنا، ولهذا لا تنعقد تلك الملازمة العرفيّة هنا.

الأمر الثاني: أن يفترض أنّ دليل التعبّد بشيء في الأمارات وفي الاُصول يكون فيه بحسب الإثبات إطلاقٌ يشمل ذاك الشيء وجميع آثار ذاك الشيء ولو كانت عقلية، بلا فرق في ذلك بين الأمارات والاصول. وهذا الإطلاق ينتج في باب الأمارات حجيّة اللوازم ؛ لأنّ من آثار كشف الشيء كشف جميع ملازماته، فدليل التعبّد بكشفه دليل على التعبّد بكشف جميع ملازماته، ولكنّه لا ينتج في باب الاُصول حجيّة اللوازم ؛ لأنّ المتعبّد به في الاُصول هو اقتضاء الجري العملي، ويكون الأصل منزّلاً منزلة العلم في اقتضائه للجري العملي، واقتضاء العلم للجري العملي على طبق المعلوم ليس من آثاره اقتضاء الجري العملي على طبق ملازمات الشيء. نعم يوجد هنا تلازم بين الاقتضائين من باب ملازمة المقتضيين، وهما العلم بالشيء والعلم بلوازمه.

ولكن هذا الأمر الثاني لا ينسجم مع مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله).

توضيحة: أنّ هذا الأمر إنّما ينسجم بناءً على تفسير جعل الطريقية بتنزيل الأمارة منزلة الكاشف في الآثار، فيدّعى أنّ الدليل مطلق يشمل كلّ الآثار، لكن المحقّق النائيني(رحمه الله)لا يقول بجعل الطريقية بهذا المعنى؛ إذ هذا يرجع إلى جعل الآثار من المنجّزيّة والمعذّريّة، وهو يرى جعل المنجّزيّة والمعذّريّة محالاً، وإنّما يقول بجعل الطريقيّة بمعنى إيجاد الفرد الاعتباري للعلم على نحو مجاز السكاكي، فعندئذ يترتّب عليه ـ لا محالة ـ كلّ أثر يكون بنفسه أثراً للجامع بين الفرد الوجداني والفرد الاعتباري، ويدّعى أنّ التنجيز والتعذير من هذا القبيل، ولا يترتّب عليه كلّ أثر لا يكون أثراً للجامع، وإنّما يكون أثراً للفرد الوجداني فقط، وذلك من قبيل انكشاف اللوازم، فإنّه أثر للانكشاف الحقيقي فقط، دون التعبدي.

وعلى أيّة حال، فتحقيق المطلب: أنّ الفرق الجوهري بين الأمارات والاُصول أعمق جوهريّة من الفرق بين لسان جعل الكاشفية ولسان جعل اقتضاء الجري العملي، ويكون الفرق بين الأمارات والاُصول في حجيّة اللوازم وعدمها أكثر ارتباطاً بذاك الفرق الجوهري الذي نحن نقوله منه بهذا.

وتوضيح ذلك: أنّه مضى في محلّه أنّ جعل الحكم الظاهري عبارة عن جعل الخطاب الحافظ لبعض الملاكات الواقعية عند تزاحمها في مرحلة الحفظ، فالمولى يحكّم في ذلك قانون

432

الأهمّ والمهمّ، وبعد الكسر والانكساريجعل الحكم الظاهري، وترجيح أحد الجانبين على الآخر تارةً يكون بلحاظ سنخ المحتمل واهمّيّته، واُخرى بلحاظ درجة الاحتمال وقوّته. ففي باب أصالة الحلّ وأصالة الاحتياط لاحظ المولى سنخ المحتمل، وهو الحلّيّة أو الحرمة، وهذا روح الأصل المحض. وفي باب حجيّة خبر الواحد والظهور لم يلاحظ المولى ذلك، فإنّ المولى جعل بنحو القضية الحقيقية خبر الثقة مثلاً حجّة سواء فرض مدلوله الحلّيّة أو الحرمة أو أيّ شيء آخر، فالملحوظ ليس هو خصوصية في سنخ المحتمل ابداً وانما الملحوظ هو غلبة صدق خبر الثقة وقوّة الاحتمال حسب نظر المولى إلى أفراد خبر الثقة بنحو القضيّة الحقيقيّة. وهذا هو روح الامارة المحض، ولا فرق في ذلك كلّه بين أن يجعل الحكم بلسان جعل الكاشفيّة والطريقيّة، أو جعل اقتضاء الجري العملي، أو جعل التنجيز والتعذير، أو أي شيء آخر، وإنّما كلّ هذه قشور وألفاظ، وليست هي الفارق الحقيقي بين الأمارات والاُصول. نعم، يكون لسان جعل الطريقية وقوله: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) أنسب من ألسنة اُخرى بلاغيّاً بالأمارات باعتبار النظر فيها إلى قوّة الاحتمال.

وإذا عرفت روح الأمارة المحض، وروح الأصل المحض قلنا: إنّ الأمارة بعد أن فرض أنّ المنظور في حجيّتها ليس إلاّ درجة كشفها، ولم تلحظ أيّ خصوصيّة في جانب المحتمل، فلا محالة تصبح لوازمها حجّة ؛ لأنّ درجة الكشف نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ سواء، والمفروض أنّها هي العلّة التامّة لجعل الحجيّة، ولم تلحظ أيّ خصوصيّة في جانب المحتمل، ولذا لو قامت الأمارة على ذاك المدلول الالتزامي لكان حجّة. وعليه، فتثبت هذه اللوازم بنفس ملاك ثبوت المدلول المطابقي.

وأمّا في جانب الاصول فليس الأمر كذلك، فلو فرضت ملازمة مثلاً بين حلّيّة العصير العنبي إذا غلى ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال واثبتنا الحلّيّة بالأصل، فهذا الأصل إنّما جرى بلحاظ أهميّة المحتمل، وهو الحلّيّة وعدم الإلزام، ولا ملازمة بين أهميّة الحليّة من الحرمة وأهميّة وجوب الدعاء من عدم الوجوب، ولو كان المحتمل في جانب اللازم من سنخ المحتمل في جانب المدلول المطابقي، كما لو فرضت الملازمة بين حلّيّة العصير العنبي وحلّيّة شيء آخر كالعصير التمري مثلاً، فالمحتمل في جانب اللازم بنفسه مصداق لدليل حجّيّة الأصل، وتجري فيه أصالة الحلّ، ولو فرض أنّه لم يكن مصداقاً لأصالة الحلّ وكان دليل أصالة الحلّ مختصّاً بالعصير العنبي إذن لا نعلم أنّ الحلّيّتين من سنخ واحد في درجة أهميّة المحتمل، هذا كلّه في الأمارة المحض والأصل المحض.

433

وقد يلحظ المولى كلا الجانبين، أعني جانب الاحتمال وجانب المحتمل معاً، وذلك كما في قاعدة اليد بناءً على لحاظ قوّة الكشف فيها، وقاعدة الفراغ التي يكون ظاهر دليلها هو لحاظ درجة الكشف، ولكن في نفس الوقت لوحظ فيها جانب المحتمل أيضاً، فترى قاعدة اليد إنّما تكون في قسم خاصّ من المحتملات، وهو الملكيّة، وقاعدة الفراغ ـ ايضاً ـ في قسم خاص من المحتملات، وهو الأجزاء والشرائط الداخلية في صحّة العمل مثلاً، فهذا أمر متوسّط بين الأمارة والأصل، وليكن هذا هو المقصود بالأصل التنزيلي الذي هو بين الأمارات والاُصول، وقد أدرك ذلك، أي: الأصل التنزيلي العلماء بفطرتهم، لكنّهم ـ أيضاً ـ فسّروه بما يرجع إلى عالم الألفاظ، وأرجعوا الفرق بين التنزيلي وغيره إلى القشور وأساليب أداء الحجيّة، وهذا ـ أيضاً ـ لا تكون لوازمه حجّة، لأنّه يوجد فيه جانب الأصلية، والنتيجة تتبع أخسّ المقدمات على تفصيل في ذلك:

توضيحه: أنّه لو فرضنا مثلاً الملازمة بين صحّة الصلاة التي وقت وصحّة الصوم الذي وقع، وفرضنا أنّ قاعدة الفراغ تختصّ بباب الصلاة، فهنا لايمكن إثبات صحّة الصوم بإجراء قاعدة الفراغ في الصلاة ؛ لاحتمال الاختلاف في درجة الأهميّة بين المحتملين. أمّا إذا كانت هناك ملازمة بين صحّة الصلاة التي وقعت وصحّة صلاة اُخرى وقعت أيضاً، وكانت قاعدة الفراغ تختصّ بإحداهما؛ لاختصاص الأذكريّة بها صدفةً، فهنا يمكن إثبات صحّة الصلاة الاخرى بالملازمة بغض النظر عن نكتة سوف تأتي، فإنّ المحتملين من سنخ واحد بعد إستبعاد كون صرف الأذكرية وعدم الأذكريّة دخيلاً في درجة أهميّة المحتمل.

وقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ هنا فرقاً ثبوتياً وجوهرياً بين الأمارة والأصل يؤثّر في حجيّة لوازم الأمارة دون الأصل، وهو كون النظر في الأوّل إلى درجة الاحتمال فحسب، وفي الثاني إلى درجة قوّة المحتمل وحدها، أو منضمّة إلى درجة الاحتمال. نعم، بحسب الإثبات نحتاج إلى دليل يثبت أنّ الملحوظ في الشيء الفلاني هو قوّة الاحتمال لا قوّة المحتمل حتّى تثبت حجيّة لوازمه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه يكون فيما إذا فرض أنّ الحكم الظاهري كان الملحوظ فيه الطريقية الصرف إلى الواقع، ولم تلحظ فيه أيّ نكتة اُخرى نفسيّة. وأمّا إذا فرض دخل نكتة نفسية في الحكم بطلت حجيّة اللوازم في تمام الموارد ؛ لاحتمال كون النكتة النفسيّة مختصّة بالمدلول المطابقي، إلاّ إذا فرض أنّ لسان دليل الحجيّة كان مطلقاً يشمل اللوازم أيضاً، وعندئذ تكون اللوازم حجّة ولو فرضت تلك الحجّة أصلاً لا أمارة.

434

وقد اتّضح بتمام ما ذكرناه أنّ حجيّة اللوازم تكون في موردين:

1 ـ مورد كون الملحوظ درجة الاحتمال وعدم لحاظ قوّة المحتمل، أو عدم احتمال الفرق في المحتمل بين المدول المطابقي ولازمه مع عدم احتمال نكتة نفسيّة غير موجودة في اللازم، وذلك بأن تنفى احتمال النكتة النفسية المختصّة بالمدلول المطابقي إما بالظهور اللفظي لدليل الحجيّة، أو بضمّ ارتكازات عقلائية تكون كالقرينة المتصلة.

2 ـ مورد وجود إطلاق في دليل الحجيّة يشمل اللوازم.

إذا عرفت ذلك نأتي إلى تطبيق الأمر على المصاديق فنقول:

أمّا خبر الثقة وكذلك الظهور فالملحوظ في حجيّتهما هي درجة الاحتمال لا قوّة المحتمل ؛ إذ لم يؤخذ فيهما سنخ محتمل خاصّ، والمستفاد من دليل حجيّتهما ولو بمعونة الارتكاز العقلائي هو أنّه لم تلحظ في حجيّتهما أيّ نكتة نفسية في المدلول المطابقي، وإنّما لوحظت الطريقية الصِرف، فإنّ هذا هو الذي يفهم بالارتكاز العقلائي من دليل حجيّة الخبر والظهور، ولو من باب أنّ حجيّة الخبر والظهور من الاُمور العقلائية في نفسها، والعقلاء لا يلحظون في حجيّتهما نكتة نفسية في المدلول المطابقي، إذن فلوازمهما حجّة.

وأمّا أصالة الحلّ وأصالة الاحتياط فالملحوظ فيهما هو جانب المحتمل ؛ ولذا اُخذ في كلّ منهما قسم خاصّ من المحتملات، ولا إطلاق في دليل حجيّتهما يشمل اللوازم. إذن فلوازمهما غير حجّة، فلو فرضت ملازمة بين حليّة العصير العنبي ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال فاثبات الحليّة بالأصل لا يوجب ثبوت وجوب الدعاء ؛ لاحتمال الفرق في درجة الأهميّة بين المحتملين.

نعم، لو فرضت الملازمة بين حليّة العصير العنبي وحليّة العصير التمري مثلاً، فبما أنّ كلتا الحلّيّتين داخلتان تحت دليل أصالة الحلّ نعرف عدم الفرق بين المحتملين في ذلك، لكنّ التمسّك هنا بالأصل المثبت لا محصّل له ؛ إذ هو في طول جريان الأصل في اللازم في نفسه، ولولا جريانه لم نقطع بعدم الفرق بين المحتملين ؛ إذ من المحتمل أن تكون الحلّيّة في باب العنب مثلاً أهمّ من جانب الحرمة، ويكون الأمر في باب التمر بالعكس.

وأمّا قاعدة الفراغ مثلاً فهي أمر بين الأمرين، أي: لوحظت فيها درجة قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل معاً، فلو فرض أنّه فرغ من صلاة واشتغل بصلاة اُخرى، وقبل الفراغ من الصلاة الثانية شكّ في أنّه هل توضّأ قبل الصلاتين أو لا، فقاعدة الفراغ تحكم بصحّة الصلاة الاُولى وصحّتها ملازمة لصحّة الصلاة الثانية ؛ إذ لو كان متوضّئاً صحّت كلتا الصلاتين، وإلاّ

435

بطلت كلتا الصلاتين، ولكن مع ذلك لا يمكن إثبات صحّة الصلاة الثانية ؛ وذلك لأن قاعدة الفراغ وإن لو حظت فيها درجة قوّة الاحتمال، ولكن لوحظت فيها درجة أهميّة المحتمل أيضاً، ولعلّ مصلحة الحلّيّة والتسهيل في صلاة فرغ العبد عنها أقوى من مصلحة الحلّيّة والتسهيل في صلاة لم يفرغ العبد عنها، باعتبار أنّ العبد مثلاً يحس في فرض الفراغ قبل حصول الشكّ بنوع من الارتياح والخروج عن مسئوليّة الواجب، وتكون الإعادة والاحتياط أصعب عليه ممّا لو فرضت عليه الإعادة والاحتياط قبل الفراغ، وليس لدليل حجيّة قاعدة الفراغ إطلاق يشمل الملازمات. وأمّا إذا فرضنا أنّه فرغ عن كلتا الصلايتن ثمّ شكّ في الوضوء، ولكن قاعدة الفراغ جرت في الصلاة الاُولى فحسب للقطع بالغفلة عند الصلاة الثانية، فالأذكريّة لم تكن ثابتة بالنسبة لها، فهنا وإن أمكن القول بعدم احتمال الفرق بين المحتملين في درجة الأهميّة لكن مع ذلك لا نقول بثبوت صحّة الصلاة الثانية ؛ وذلك لاحتمال كون قاعدة الفراغ لوحظت فيها نكتة نفسية في موارد الأذكريّة، وأن لا تكون طريقية بحتاً، والارتكاز العقلائي الذي كان يحكم في باب خبر الثقة والظهورات بعدم وجود نكتة نفسية تختصّ بالمدول المطابقي غير موجود هنا.

يبقى الكلام في الاستصحاب، فنقول: إن فرض أنّ الاستصحاب حكم ظاهري جعل بلحاظ ترجيح المحتمل وأهميّته فلوازمه غير حجّة؛ إذ ليس النظر فيه إلى قوّة الاحتمال، ولا يوجد إطلاق في لسان دليل حجيّته يشمل اللوازم، إلاّ أنّ هذا الفرض خلاف الواقع ؛ إذ لم يؤخذ في دليل الاستصحاب قسم خاصّ من المحتملات حتّى يفترض أنّه بلحاظ ترجيح محتمل على محتمل آخر، وأهميّته منه.

وإن فرض أنّ الاستصحاب لوحظت فيه قوّة الاحتمال ولا توجد في مدلوله المطابقي أيّ نكتة نفسية، فلا محالة تكون لوازمه حجّة.

لكن الصحيح أنّ الاستصحاب وإن كان الملحوظ فيه قوّة الاحتمال، لكن لم يثبت عدم وجود نكتة نفسية تفرّق بين مدلوله المطابقي ولوازمه، وفرق كبير بين الاستصحاب وخبر الثقة.

وتوضيح ذلك: أنّ دليل حجيّة خبر الثقة إن لم نقل: إنّ لسانه بنفسه ظاهر في عدم وجود نكتة نفسية، والتمحّض في الطريقية، وذلك كلسان: (ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) ولسان: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فلا أقلّ من ظهوره في ذلك بلحاظ الارتكاز العقلائي، حيث إنّ حجيّة خبر الثقة مركوزة عقلائياً على نحو الطريقية

436

الصرف، وأمّا الاستصحاب فهو وإن كان موجوداً ـ أيضاً ـ في ارتكاز العقلاء، لكنّه لم يعلم كونه في ارتكازهم بلحاظ الطريقية إن لم يعلم خلافه، فإنّ الظاهر أنّ الاستصحاب والجري على الحالة السابقة والبناء عليها يرجع إلى لون من العادة واُنس الذهن والميل النفسي وما شابه ذلك، لا إلى الكشف والطريقية ؛ ولذا يقال: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب مشتركة بين الإنسان والحيوان، فلا يوجد هنا ارتكاز عقلائي يجعل دليل حجيّة الاستصحاب ظاهراً في الطريقية المحض، كما أنّ لسان دليل حجيّته وهو النهي عن النقض العملي ليس بنفسه ظاهراً في ذلك، كما أنّه لا يوجد في دليل الاستصحاب إطلاق يشمل اللوازم، إذن فلوازم الاستصحاب غير حجّة، وسيأتي تحقيق حال الاستصحاب بشكل أوسع في المقام الثاني ـ إن شاء الله ـ .

وأمّا الاتّجاه الثاني: وهو الاتّجاه القائل بأنّ الفرق بين الأمارات والاُصول فرق إثباتي، فهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ، على فرق بينهما في التقريب.

فالمحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر: انّ مصبّ الحجيّة في باب الأمارة هو الحكاية، وخبر الثقة كما يحكي عن المدلول المطابقي كذلك يحكي عن المدلول الالتزامي، فإنّ الحكاية لا تختصّ بالدلالة المطابقية، وعلى هذا الأساس تصبح لوازمه حجّة، وهذا بخلاف الاُصول(1).

وأورد السيّد الاُستاذ على ذلك بأنّ الحكاية فرع القصد، والمخبر قد لا يقصد اللوازم، بل قد لا يكون ملتفتاً إليها، أو يتخيّل عدم الملازمة، ومع ذلك يقال بحجيّة اللوزام(2)، وذكر ـ دامت بركاته ـ أنّ الوجه في حجيّة لوازم الخبر هو أنّ دليل حجيّة الخبر هو السيرة، والسيرة كما قامت على العمل بمدلوله المطابقي كذلك قامت على العمل بمدلوله الالتزامي، ولا يوجد شيء من هذا القبيل في باب الاُصول(3).

أقول: إنّ الفرق بين الأمارات والاُصول الذي جعل لوازم الأمارات حجّة ولوازم الاُصول غير حجّة هو أعمق ممّا ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من كون موضوع الحجيّة هو الحكاية، فالشهرة مثلاً ـ بناءً على حجيّتها بدليل قوله: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) ـ تكون لوازمها حجّة، مع أنّ الشهرة تختصّ بالمدلول المطابقي، وقد لا تكون اللوازم مشهورة.

كما أنّ الفرق أعمق ممّا ذكره السيّد الاُستاذ الذي لا يأتي في مثل الشهرة بناءً على


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 329 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

(2) راجع مصباح الاُصول ج3 ص153.

(3) المصدر السابق ص155.

437

حجيّتها بمثل قوله (خذ بما اشتهر بين أصحابك)، ولا في خبر الثقة بناءً على كون الدليل على حجيّته غير السيرة، ولا في البيّنة في باب القضاء إذا ثبتت حجيّتها بالتعبّد لا بالسيرة.

والصحيح في الضابط في حجيّة اللوازم ما عرفت من أنّه أحد أمرين:

الأوّل: الإطلاق في دليل الحجيّة يثبت اللوازم، وهذا لا تؤثّر فيه أماريّة الأمارة أو أصليّة الأصل.

والثاني: أنّ تكون العبرة فقط بأقوائية الاحتمال. وأمّا إذا تدّخل سنخ المحتمل دخلاً تامّاً أو دخلاً ناقصاً، أو تدخّلت نكتة نفسية ولو احتمالاً فلا يمكننا أن نتعدّى إلاّ إلى لازم ثبت دخوله في دائرة سنخ المحتمل المفروض حجيّته فيه، أو دائرة النكتة النفسيّة على شرط أن لا يكون ثبوت دخوله في تلك الدائرة عن طريق كونه بنفسه مصداقاً للأمر الذي جعل بمدلوله المطابقي حجّة، وإلاّ فالتمسّك بالمدلول الالتزامي لا محصّل له.

فخبر الثقة مثلاً لوازمه حجّة ؛ لأنّ الملحوظ فيه هو أقوائية الاحتمال، والنكتة النفسية غير ملحوظة بمقتضى ظاهر دليل الحجيّة ولو بمعونة الارتكاز العقلائي الذي يرى عدم دخل نكتة نفسية في المقام، ولا أقصد بالارتكاز العقلائي خصوص ارتكاز حجيّة شيء من دون دخل نكتة نفسية، بل يكفي أن يكون المرتكز في أذهان العقلاء أنّ الشيء الفلاني إن كان حجّة فهو إنّما يكون حجّة لأجل ما فيه من قوّة الاحتمال من دون دخل أيّ نكتة نفسية في موارده، سواء كانت حجيّته ـ ايضاً ـ مركوزة، أو لا.

ولو فرضنا أنّ خبرالثقة جعل حجّة في العبادات بالخصوص مثلاً لدخل سنخ المحتمل، ودلّ خبر الثقة على وجوب الصلاة مثلاً، وكانت هناك ملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الصوم، ثبت بذلك وجوب الصوم بالرغم من دخل سنخ المحتمل حسب الفرض، وذلك لاتحاد سنخ المحتمل في المقام.

والاُصول لوازمها غير حجّة ؛ لأنّ العبرة فيها بسنخ المحتمل الذي يحتمل اختلافه من المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي، ولا إطلاق في دليل حجيّته يشمل المداليل الالتزامية.

والاستصحاب بالرغم من كونه أمارة، بمعنى ملاحظة قوّة الاحتمال فيه دون سنخ المحتمل ـ على ما عرفت ـ، لا تكون لوازمه حجّة، ففي خصوص الاستصحاب نؤيّد الاتّجاه الثاني القائل بالرجوع إلى مرحلة الإثبات. ولتوضيح الحال في الآثار المترتّبة على المستصحب نرجع إلى المقام الثاني.

438

الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة أثر شرعي أو عقلي

المقام الثاني: في الأمر الثاني وهو الفرق بين الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة أثر تكويني كنبات اللحية مثلاً والآثار الشرعية المتسلسلة المترتّبة على المستصحب، وهذا الفرق مشهور على لسان المحقّقين المتأخرين.

ويقع الكلام في أنّه كيف يفترض لسان دليل الاستصحاب بحيث ينسجم مع كلا هذين الأمرين، اعني عدم ثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني من ناحية، وثبوت الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر من ناحية اُخرى؟

وهنا افتراضان في تصوير مفاد دليل الاستصحاب.

الافتراض الأوّل: ما هو مختار المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو تنزيل المشكوك منزلة الواقع، من قبيل تنزيل الطواف بالبيت منزلة الصلاة، إلاّ أنّ ذاك تنزيل واقعي وهذا تنزيل ظاهري، ومعنى التنزيل هو ترتيب أثر المنزل عليه على المنزّل، وجعل المنزّل كأنّه المنزل عليه في الأثر، ولكن هنا في الحقيقة لم يترتّب أثر المنزل عليه على المنزّل، فإنّ أثر بقاء حياة زيد المستصحب حياته إنّما هو مثلاً جواز التقليد واقعاً، والذي يترتّب على الحياة المشكوكة إنّما هو جواز التقليد ظاهراً، وهذا غير ذاك، إلاّ أنّه كانّه هو ذاك، وهو مثله، وهذا معنى ما يقوله المحقّق الخراساني (رحمه الله)من أنّه يكون المجعول في باب الاستصحاب هو الحكم المماثل.

وهذا الافتراض يكون توضيح انسجامه مع عدم ثبوت الآثار الشرعية المترتّبة بواسطة أثر تكويني بأن يقال: إنّ الأثرالتكويني لا يثبت بهذا التنزيل، فإنّ التنزيل إنّما يفيد التوسعة في دائرة ما يكون بيد المولى المُنزِل بما هو مولى، والأثر التكويني ليس هكذا، وإذا لم يثبت الأثر التكويني لم يثبت ما تترتّب عليه من آثار لعدم ثبوت موضوعها وجداناً ولا تنزيلاً.

يبقى أن يُقال: إنّ تلك الآثار الشرعية هي آثار للمستصحب ؛ لأنّها آثار لأثر المستصحب، وأثر الأثر أثر لذلك الشيء، إذن فلتثبت تلك الآثار بواسطة استصحاب المستصحب ابتداءً من دون توسيط إثبات الأثر التكويني، وهنا يقول المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنّ دليل الاستصحاب لا يشمل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة، للانصراف، أو أنّ القدر المتيّقن هو الأثر بلا واسطة(1).


(1) راجع الكفاية ج2 ص327 بحسب الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات الشيخ المشكيني.

439

وهنا قد يقال: إنّ هذا المنهج لا ينسجم مع القول بترتّب الآثار الشرعيّة التي تكون بواسطة أثر شرعي آخر ؛ لأنّه إذا صار القرار على دعوى عدم شمول إطلاق الدليل للأثر الذي يكون بواسطة أمر تكويني، للإنصراف عن الأثر مع الواسطة، أو وجود القدر المتيقّن، فلا فرق في ذلك بين الأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أمر تكويني والأثر الشرعي الذي يكون بواسطة أثر شرعي.

وقد ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ الآثار المتسلسلة إن كانت من سنخ واحد، أي: كلّها تكوينية، أو كلّها تشريعية، فالأثر المتأخّر يُعدّ أثراً للشيء وإن كان مع الواسطة. وأمّا إذا لم تكن من سنخ واحد كما لو ترتّب أثر شرعي على أثر تكويني للشيء، فذاك الأثر المتأخّر لا يكون أثراً لذلك الشيء(1).

وهذا الكلام لا نفهم له وجهاً ومحصّلاً إن لم يرجع إلى ما سوف نذكره في آخر البحث، ونختاره، وهو لا يرجع إليه.

والذي ينسجم مع تصوّرات المحقّق الخراساني (رحمه الله) وكأنّه المقصود من عبارته في الكفاية(2) أن يقال: إنّ تنزيل الحياة المشكوكة لزيد مثلاً منزلة الحياة الواقعية عبارة عن ترتيب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وفي الحقيقة لا تُرتَّب آثار الحياة الواقعية على الحياة المشكوكة، وإنّما يرتّب عليها أثر آخر كانّه هو أثر الحياة الواقعية، وهذا بدوره يستبطن تنزيلاً آخر، وهو تنزيل الأثر الظاهري منزلة الأثر الواقعي ؛ لأنّ حمله على مجرّد تشبيه الأثر الظاهري بالأثر الواقعي دون تنزيله المولوي منزلته في الآثار خلاف ظهور الكلام في المولوية، وكونه تشبيهاً صدر من المولى بما هو مولىً، وهذا التنزيل الثاني يرتّب


(1) راجع فوائد الاُصول ج4 ص489 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم المشتملة على تعليقات الشيخ العراقي (رحمه الله) وأجود التقريرات ج2 ص417.

(2) لم أر في الكفاية عبارة تشير إلى ذلك ولعل استاذنا الشهيد (رحمه الله) يقصد نفس تصريح الآخوند بدلالة دليل الاستصحاب على ترتيب آثار المنزّل عليه بلا واسطة دون الآثار المترتبة على ذلك بواسطة أثر تكويني حيث لا شك أنه لو فرضنا أن أثر المستصحب ينقسم عنده إلى هذين القسمين وليس له قسم ثالث وهو الأثر المترتب شرعاً على أثر المستصحب فالمفروض أن يكون قد أدخل هذا القسم في القسم الأول وهو الأثر بلا واسطة وهذا يكون توجيهه ببيان أن الأثر الأول بنفسه أصبح أيضاً منزّلاً عليه بلحاظ أثره الشرعي وعلى أي حال فقد وجدتُ هذا المعنى في كلّمات المحقق العراقي (رحمه الله) بعد فرض ارجاع التنزيل الاستصحابي إلى جعل الأثر أو المماثل راجع نهاية الافكار القسم الأول من الجزء الرابع بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وراجع المقالات ج2 ص409 بحسب طبعة مجمع الفكر الاسلامي.

440

على الأثر الظاهري الأثر الثابت للأثر الواقعي بلا واسطة، وهكذا يتسلسل الكلام إلى الأثر الأخير، ففي الحقيقة يكون التنزيل هنا منحلاًّ الى تنزيلات عديدة يكون المرتّب في كلّ واحد منها هو الأثر الثابت بلا واسطة.

هذا ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية مع تعميقه، ولعله أحسن ما اُفيد في المقام.

إلاّ أنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما فرض من عدم إمكان شمول التنزيل للأثر التكويني إنّما يتمّ في التنزيل الواقعي الذي يرتّب على المنزّل عليه حقيقةً ما هو من سنخ أثر المنزّل، من دون أيّ فرق بينهما، فهذا مختصّ بالآثار الشرعيّة بلا إشكال، لأنّها التي يكون أمر توسيعها بيد الشارع بما هو شارع دون الآثار التكوينية، وليس مقصود صاحب الكفاية في المقام دعوى التنزيل الواقعي، وإلاّ لكان الاستصحاب حكماً واقعياً، ولما احتجنا في توضيح ترتّب الآثار الشرعية المتسلسلة إلى تحليل التنزيل إلى تنزيلات عديدة.

وأمّا التنزيل الظاهري والذي هو المقصود في المقام، فشموله للأثر التكويني بمكان من الإمكان ؛ لأنّه ليس إثباتاً لذاك الأثر حقيقةً كي يقال: إنّه أمرٌ تكويني لا يثبت بالتشريع، وإنّما هو إثبات لما فرض ادّعاءً، وبتنزيل آخر أنّه ذاك الأثر رغم الفرق بينهما بكون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، أو كون أحدهما تكوينياً والآخر اعتبارياً وجعليّاً. إذن فالحلقة التكوينية من الآثار المتسلسلة لا مبرّر لسقوطها من الحساب كي يؤدّي ذلك إلى سقوط الحلقات الشرعية المترتبة على تلك الحلقة التكوينية.

إلاّ أن يُفترض اقتصار التنزيل على موارد المماثلة التامّة بين أثر الواقع وأثر المشكوك من غير ناحية كون الأوّل واقعياً والثاني ظاهرياً، فيقال: إنّ هذا في الأثر التكويني غير ممكن ؛ لأنّ الأثر الذي يثبت بالاستصحاب ليس تكوينياً، بل هو اعتباري وجعليّ، فانتفت المماثلة.

ولكنّك ترى أنّ هذا الافتراض قيد إضافي منفيّ بالإطلاق ما دمنا اعترفنا بأنّ ادّعاء كون هذا الأثر كذاك الأثر، أو تنزيله منزلته يجبر وجود مثل هذا الفرق.

ولو أصررنا على ضرورة المماثلة التامّة بين الأثرين من غير ناحية كون أحدهما واقعياً والآخر ظاهرياً، لورد النقض بما إذا كان أحد الآثار خارجاً عن محل الابتلاء، وكان يترتّب عليه أثر داخل في محل الابتلاء، فذاك الأثر الخارج عن محل الابتلاء ليس ثبوته فعلاً حكماً وإلزاماً وتحريكاً، في حين أنّ واقع ذاك الأثر جعل لحالة الدخول في محلّ الابتلاء بوصفه

441

إلزاماً وتحريكاً لمن يتوجّه إليه، ومثاله: ما لو استصحبنا حياة زيد، وكان أثرها وجوب الصلاة في يوم الجمعة الماضي، وكان الأثر المترتّب على هذا الأثروجوب الصلاة في اليوم الحاضر، فهنا يرتّبون وجوب الصلاة في اليوم الحاضر على استصحاب الحياة مع أنّ لازم الكلام في المقام عدم ترتيبه، وكذلك ما لو فرضنا أنّ عمراً يستصحب حياة زيد، وأثرها الشرعيوجوب الصلاة على بكر، والأثر المترتّب على هذا الأثر هو وجوب الصلاة على عمرو، فالأثر الأوّل لا يثبت بالنسبة للمستصحب وهو عمرو؛ لأنّه ليس حكماً له، كما لا يثبت لبكر ؛ لأنّه ليس هو صاحب اليقين السابق والشكّ اللاحق، لكن الأثر الثاني يثبت في المقام.

والخلاصة: أنّ كون حلقة من حلقات سلسلة الآثار تكوينية لا يوجب بطلان تنزيل المشكوك منزلة ذي الأثر بلحاظ هذا الأثر التكويني ما دام التنزيل ليس حقيقياً، بل هو ظاهريّ، ويتقوّم حسب الفرض بتنزيل ثان، وهو تنزيل الأثر الظاهري التشريعي منزلة الأثر التكويني استطراقاً إلى ترتيب الأثر الشرعي المترتّب على الحلقة التكوينية.

ودعوى انصراف التنزيل إلى الأثر المباشر لا يضرّ في المقام، كما لم يضرّ حسب الفرض في سلسلة الآثار التي كانت كلّها شرعية ؛ لأنّ المفروض انحلال التنزيل إلى تنزيلات عديدة يترتّب في كلّ واحد منها الأثر المباشر.

إلاّ أن تضمّ إلى ذاك الانصراف المدّعى دعوى انصراف آخر من دون بيان نكتة له، وهو الانصراف إلى الأثر الشرعي دون التكويني، فيقال: إنّ الحلقة التكوينية تسقط بالانصراف الثاني، فتسقط الحلقات المتأخّرة عنها بالانصراف الأوّل، فيتمّ التفصيل المطلوب في المقام.

وثانياً: أنّ فرض لسان دليل الاستصحاب هو التنزيل وجعل الحكم المماثل بلا موجب، سواءً فرضنا مفاد (لا) في الحديث هو النفي، أو فرضناه هو النهي، بان تكون (لا) ناهية، أو نافية اُريد بها النهي.

فلو فرضنا مفادها هو النفي فالمقصود هو نفي الانتقاض الخارجي لليقين، لا النقض العملي، ونفي الانتقاض الخارجي لليقين عبارة اُخرى عن التعبّد ببقاء اليقين وجعل الطريقية ولو بلحاظ مرتبة الجري العملي، كما يقوله المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولا وجه لإرجاع الكلام إلى جانب المتيقّن، وحمله على تنزيل المشكوك منزلة المتيّقن.

ولو فرضنا أنّ مفاد الحديث هو النهي كما هو ظاهر في عبارة (لا ينبغي لك أن تنقض

442

اليقين بالشكّ) فإمّا أن يقصد به النهي عن النقض الحقيقي، أو يقصد به النهي عن النقض العملي.

فإن قصد به النهي عن النقض الحقيقي الذي هو غير مقدور كان كناية عن عدم القدرة على نقضه، من قبيل أن يقال: (لا تكسِر البناء الفلاني) بمعنى لا تستطيع كسره، ومرجع بيان عدم القدرة عن نقض اليقين هو التعبّد ببقاء اليقين، وجعل الطريقية ولو بلحاظ الاقتضاء للجري العملي.

وإن قصد به النهي عن النقض العملي فليس هذا نهياً تكليفيّاً وإلزامياً، إذ الاستصحاب يجري في المباحات والترخيصيات أيضا، كما هو مورد صحيحة زرارة. إذن فهو كناية عن ثبوت اقتضاء الجري العملي على طبق اليقين السابق.

فتحصّل: أنّه لا يستفاد من دليل الاستصحاب التنزيل، وإنّما يستفاد منه اقتضاء الجري العملي على طبق اليقين السابق، أو عبّر بإبقاء اليقين العملي.

وصحيحٌ أنّ صحيحة عبدالله بن سنان لم يذكر فيها اليقين، بل ذكر فيها الواقع، حيث قال(عليه السلام): (إنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه)، لكن هذا ـ ايضاً ـ لا يعيّن التنزيل، فإنّه لم يذكر إلاّ الصغرى، أمّا الكبرى وهي القاعدة التي توجب في موردها الحكم بالطهارة فلا يتعيّن أن تكون بصياغة التنزيل، ولم يثبت كون الارتكاز العقلائي في المقام على عنوان التنزيل، كي يقال: إنّ الكبرى المحذوفة تحمل على ذلك.

الافتراض الثاني: ما اتّضح عند إبطال الافتراض الأوّل من أنّ مفاد الاستصحاب هو النهي عن النقض العملي باليقين، أو التعبد ببقاء اليقين ولو بلحاظ الجري العملي، ونحو ذلك ممّا نسمّي جامعه بإبقاء اليقين العملي، وهذا يختصّ بنفس ما تعلّق به اليقين، أعني نفس المستصحب دون أثره التكويني، أو الأثر الشرعي المترتّب على الأثر التكويني.

وعندئذ يشكل ـ أيضاً ـ إثبات الآثار الشرعية المتسلسلة التي لا يفصلها عن المستصحب أثر تكويني؛ وذلك لأنّ مفاد دليل الاستصحاب هو إبقاء اليقين العملي بلحاظ نفس مصبّ اليقين، ولم يكن للسان الدليل إطلاق أزيد من هذا، فكيف نثبت ترتّب الآثار الشرعية على المستصحب؟!

نعم، نثبت إرادة الشارع ترتيب الأثر الأوّل بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية، ولكن باقي الآثار لا تثبت وإن سلّمنا كونها آثاراً للمستصحب، من باب أنّ أثر الأثر أثر، فإنّ ثبوت الأثر الأوّل لم يكن بملاك كون مصبّ دليل الاستصحاب رأساً هو

443

إثبات الأثر، كما هو الحال على مسلك التنزيل حتّى يقال: إنّ الإطلاق الحكمي لذلك يشمل كلّ آثار المستصحب مثلاً ولو مع الواسطة، وإنّما كان ذلك بملاك دلالة الاقتضاء التي يقتصر فيها على المقدار الرافع لمحذور اللغوية، بل هنا نترقّى أزيد، ونقول: إنّ الأثر الأوّل ـ أيضاً ـ لا يثبت ؛ إذ لا يلزم من عدم ثبوته لغوية دليل الاستصحاب ؛ لأنّ دليل الاستصحاب ليس مورده أمراً تكوينياً يلغو التعبّد به إلاّ بلحاظ إثبات الأثر تعبداً، وإنّما مورده في بعض رواياته الطهارة الحديثية، وفي بعضها الطهارة الخبثية، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ إنّ استصحاب الطهارة ليس بلحاظ ترتّب أثر عمليّ شرعيّ عليه، وهو عدم وجوب إعادة الصلاة، وإنما يجري استصحاب الطهارة بلحاظ ما يترتّب عقلاً على نفس الاستصحاب، من عدم كون المكلّف ملزماً بالإعادة، فإنّ الطهارة كانت شرطاً للواجب، لا موضوعاً للحكم.

إن قلت: إنّنا نثبت الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب تمسكاً بنفس دليل ذلك الأثر، من باب ثبوت موضوعه بالاستصحاب، فمثلاً لو دلّ الدليل على وجوب التصدّق عند حياة زيد فنحن قد أثبتنا حياته بالاستصحاب، وعندئذ نتمسّك لإثبات وجوب التصدّق بعموم ذاك الدليل الدالّ على أنّه كلّما كان زيد حيّاً وجب التصدّق، فيثبت الأثر المقصود.

قلنا: لو كان الاستصحاب موسِّعاً لدائرة موضوع الحكم واقعاً ودالّاً على أنّ المقصود من كلمة (الحياة) في لسان الشارع هو ما يعمّ الحياة الواقعية والحياة المحتملة البقاء صحّ التمسّك عندئذ بدليل وجوب التصدّق عند حياة زيد، لكنّ المفروض أنّ الاستصحاب ليست له حكومة واقعية، وإنّما هو حكم ظاهري، وموضوع دليل وجوب التصدّق إنّما هو الحياة الواقعية، لا الحياة التعبّدية، فلا يمكننا أن نثبت بالجمع بين هذه الصغرى التعبدية وهي الحياة المتعبّد بها والكبرى الواقعية وهي وجوب التصدق عند الحياة الأثر المطلوب، وهو فعلية الوجوب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنّ المشكلة إنّما استفحلت في المقام مبنيّاً على التصوّر الميرزائي، والمتعارف من افتراض أثر شرعي للمستصحب نحتاج إلى إثباته حتّى يتنجّز علينا عقلاً، فنتكلم في أنّه كيف يمكن إثبات ذلك الأثرمع كون المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب إنّما هو إثبات ذات المستصحب لا أكثر، وهذا التصوّر بحسب التدقيق غير مطابق للواقع، وبعد رفع اليد عنه تنحلّ المشكلة بكمال السهولة، ويتّضح الفرق بين الآثار الشرعية المتسلسلة والأثر الشرعي المترتّب بواسطة أثر تكويني، ولتوضيح المقصود

444

نتكلّم في جهتين:

 

الجهة الاُولى: في الأثر المباشر.

فنقول: إنّنا أثبتنا في محلّه أنّه ليست للحكم الشرعي مرحلتان: مرحلة الجعل، ومرحلة المجعول والفعلية، وهي المرحلة التي تكون موضوعاً لحكم العقل بالتنجيز، وإنّما هنا مرحلة واحدة، وهي مرحلة الجعل، ويترتّب التنجيز العقلي على نفس العلم بمجموع الكبرى وهي الجعل الكلّي، والصغرى وهي الموضوع الخارجي، سواء كان العلم بأحدهما أو كلا العلمين علماً وجدانياً، أو علماً تعبّدياً بلسان التنزيل، أو بلسان إبقاء اليقين، أو بأيّ لسان آخر.

إذن فحينما نستصحب حياة زيد التي هي موضوع لوجوب الصلاة مثلاً فالصغرى وهي الحياة علمت تعبّداً، والكبرى وهي وجوب الصلاة عند حياة زيد معلومة وجداناً، فلا محالة يترتّب على ذلك التنجيز عقلاً.

 

الجهة الثانية: في الاثر الشرعي غير المباشر الذي يتصل بالمستصحب بواسطة الآثار الشرعية.

فنقول إذا ثبت بالبيان الماضي الأثر المباشر ثبت لا محالة الأثر غير المباشر، وذلك لأنّ الأثر غير المباشر مرجعه إلى الأثر المباشر، فإنّ معنى كون الحكم الأوّل موضوعاً لحكم ثان، أي: إنّه مهما وجبت الصلاة علينا فقد وجب التصدّق مثلاً هو أنّ مجموع الكبرى والصغرى في الحكم الأوّل وهما حياة زيد وجعل وجوب الصلاة على تقدير حياته موضوع للحكم الثاني وهو وجوب التصدّق، فالمستصحب يكون بالنسبة للآثار المترتّبة جزء الموضوع، وجزء جزء الموضوع، وهكذا، ويكون هذا الجزء من الموضوع معلوماً بالتعبّد، وباقي الأجزاء معلوماً بالوجدان مثلاً، وكبرى الأثر المطلوب إثباته وهي الجعل معلومة ـ ايضاً ـ بالوجدان مثلاً، ويترتّب عقلاً على معلومية هذه الاُمور التنجيز، وبهذا المعنى يتمّ أن يقال: إنّ أثر الأثر أثرٌ إذا كان كلاهما شرعيين، أي: إنّ موضوع الموضوع موضوع.

فإذا كان مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ممّا مضى من أنّ كون أثر الأثر أثر يتمّ إذا كانا من سنخ واحد هو هذا، فما ألطف هذا الكلام، فإنّهما إن كان تكوينيين فمن العلوم أنّ علّة العلّة علّة، وإن كانا تشريعيين فقد عرفت أنّ موضوع الموضوع موضوع، ولكن ليست عليّة الموضوع موضوعاً، فإن كان هذا هو مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) ولكنّه لم يتّضح في خلال تعبيرات مَن

445

وصلت إلينا إبحاثه عن طريقهم، فلعلّه ما أكثر التحقيقات اللطيفة للمحقق النائيني(رحمه الله) التي فاتتنا، ولم تصلنا عنه، إلاّ أنّ كون هذا مقصوداً له بعيد.

هذا تمام الكلام في أصل تنبيه الأصل المثبت.

وبقي التنبيه على اُمور:

 

تنبيهات الاصل المثبت

 

بطلان الاستصحاب المثبت بالتعارض:

الأمر الأوّل: قد يبطل الاستصحاب المثبت لا عن طريق بيان عدم حجيّته في نفسه ـ كما عرفت ـ بل عن طريق اسقاطه بالمعارضة لاستصحاب عدم ذلك الأثر التكويني.

وهذا يختلف من حيث الأثر العملي عن طريقتنا في أنّه بناءً على طريقتنا يجري استصحاب عدم ذلك الأثر وتترتّب عليه الآثار الشرعية لعدم ذلك الأثر، وبناءً على هذا الطريق قد سقط هذا الاستصحاب بالتعارض.

وذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله)(1): أنّ الاستصحاب المثبت على تقدير جريانه في نفسه حاكم على الاستصحاب النافي لذلك الأثر التكويني ؛ لدخول ذلك في الأصل السببي والمسبّبي، فاستصحاب الحياة مثلاً حاكم على استصحاب عدم الإنبات.

وذكر المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) في المقام ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن يكون المبنى كون استصحاب شيء مثبتاً لجميع ملازمات ذلك الشيء، سواءً كانت في سلسلة المعلولات أو العلل، أو كانت في عرض المستصحب معلولة لشيء ثالث.

وذكر: أنّه في هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات، واستصحاب عدم الإنبات ـ ايضاً ـ حاكماً على استصحاب الحياة؛ لأنّه كما ينظر استصحاب العلّة إلى المعلول كذلك العكس، فيحصل التوارد بين الاستصحابين ويتساقطان.

الفرض الثاني: أن يكون المبنى هو أنّ استصحاب شيء يثبت جميع معلولات ذلك


(1) راجع الرسائل ص385 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع نهاية الأفكار القسم الأوّل من الجزء الرابع ص182 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

446

الشيء، ولكن استصحاب المعلول لا يثبت العلة.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات دون العكس.

الفرض الثالث: أن يكون المبنى أنّ الاستصحاب لا يثبت إلاّ الآثار الشرعية، إلاّ أنّه لا يختصّ بالآثار الشرعية المباشرة أو التي تكون بواسطة أثر شرعي، بل يثبت حتّى الآثار الشرعية التي تكون بواسطة أثر تكويني.

وذكر: أنّه على هذا الفرض يقع التعارض بين الاستصحابين ؛ لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي وجوب التصدّق مثلاً المترتّب على الإنبات، واستصحاب الحياة يثبت وجوب التصدّق، فيتعارضان.

والسيّد الاُستاذ حذف فرض كون الاستصحاب مثبتاً لجميع العلل والمعلولات والملازمات وأضاف فرضاً آخر، وهو فرض كون حجيّة الاستصحاب من باب الأمارية والظنّ، وقال: إنّه على هذا يكون استصحاب الحياة حاكماً على استصحاب عدم الإنبات(1).

فمجموع الفروض أصبحت أربعة:

أمّا الفرض الأوّل، وهو فرض إثبات كلّ الملازمات بما فيها العلل والمعلولات فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله) فيه من تساقط الاستصحابين يمكن أن يورد عليه: ان استصحاب عدم الإنبات لا ينظر إلى الحياة ؛ إذ لا معنى لأن ينظر إلى الحياة لكي ينفيها استطراقاً إلى نفي موضوع وجوب التصدّق الذي هو أثر لأثر الحياة ؛ وذلك لأنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي رأساً موضوع وجوب التصدّق، فما معنى الرجوع إلى الوراء بنفي الحياة النافي للإنبات؟!

إذن، فاستصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات، دون العكس.

ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المفروض في هذا المبنى أنّ استصحاب شيء يثبت جميع ملازمات ذلك الشيء، إذن فاستصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق، اذ هو من ملازمات الحياة، فاذا كان استصحاب الحياة يثبت رأساً وجوب التصدّق من دون حاجة إلى إثبات الإنبات فهو يعارض استصحاب عدم الإنبات الذي يثبت عدم وجوب التصدّق، ويتساقطان ولا


(1) راجع مصباح الأصول ج3 ص159 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

447

يكون أحد الاستصحابين مقدّماً على الآخر بناءً على المبنى المتعارف في وجه تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وقد اتّضح بما ذكرناه أنّ الصحيح في المقام هو التعارض، لا ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من التوارد.

الوجه الثاني: مبنيّ على مبنى المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّه يكفي في الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب، ويثبت ذلك الأثر، ومثّل لذلك السيّد الاُستاذ باستصحاب الفقيه بعض أحكام الحائض، حيث إنّه لا يترتّب على ذلك في حقّه إلاّ جواز الافتاء الذي هو أثر للاستصحاب لا المستصحب.

وعليه، نقول في المقام:إنّ استصحاب عدم الإنبات ينفي الحياة لا لنفي الإنبات النافي لوجوب التصدّق فحسب، حتّى يقال لا معنى لذلك بعد كونه بنفسه نفياً للإنبات،بل الأثر يترتّب على نفس الاستصحاب، وهو اسقاطه لاستصحاب الحياة بالحكومة. إذن، فكلّ من الاستصحابين ـ لو خلّي وطبعه ـ يكون داخلاً في إطلاق دليل الاستصحاب فيقع التعارض والتوارد ويتساقطان.

وأمّا الفرض الثاني، وهو فرض إثبات المعلولات فحسب، فما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله)فيه من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم الإنبات صحيح على التصوّرات المشهورة في تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي.

وأمّا الفرض الثالث، وهو فرض إثبات الآثار الشرعية فحسب ولو بواسطة أثر تكويني، فما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله) فيه من تعارض الاستصحابين وتساقطهما بالإمكان الإيراد عليه بأنّ استصحاب عدم الإنبات يقدّم على استصحاب الحياة ـ بعكس ما هو المترقّب من تقدم استصحاب الحياة على استصحاب عدم الانبات ـ، وذلك بناءً على الإيمان بمجموع مبنيين:

1 ـ إنّه إذا كان عندنا عامّ يشمل الأفرادبالعموم، وأحوال كلّ فرد بالإطلاق، ودار الامر بين إخراج فرد بالتخصيص وإخراج أحد أحوال فرد آخر بالتقييد، كان الثاني أولى لتقدّم العموم على الإطلاق.

2 ـ تماميّة الاستدلال للاستصحاب بالصحيحة الثالثة التي جاء فيها (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) فإذا فرض الجمع بين هذين المبنيين قلنا: إنّ جملة: (لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات) لها ظهور في العموم، ودار الأمر بين إخراج فرد منه وهو استصحاب

448

اليقين والشكّ في بقاء عدم الإنبات الناتج من الشكّ في بقاء الحياة، وإخراج بعض آثار استصحاب بقاء الحياة وهو الأثر المترتّب على الإنبات،والثاني أولى بحسب ما هو المفروض في المبنى الأوّل من هذين المبنيين.

وأمّا الفرض الرابع، فذكر السيّد الاُستاذ فيه:أنّ استصحاب الحياة حاكم على استصحاب عدم الإنبات لان المفروض أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأمارية والظن، وإذا حصل الظن بالحياة فقد حصل الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل حصول الظنّ بعدم الإنبات.

ولعلّ مفروضه هو كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ الشخصي، وإلاّ فبالإمكان أن يتناقض ظنّان نوعيان ويتعارضا.

فلنفرض الكلام في الظنّ الشخصي ومع ذلك نقول: إنّ هذا المقدار من البيان في المقام ناقص ؛ إذ كما يمكن أن يقال أنّ الظنّ بالحياة يوجب الظنّ بالإنبات، ومعه يستحيل الظنّ بعدم الإنبات، كذلك يمكن العكس، وهو أن الظنّ بعدم الإنبات يوجب الظنّ بعدم الحياة، ومعه يستحيل الظنّ بالحياة، فإنّ الحياة والإنبات وإن كان الأوّل منهما دائماً هو العلّة للثاني وجوداً وعدماً، ولكن كما أنّ العلم بالعلّة أو الظنّ بها يصبح علة للعلم بالمعلول أو الظنّ به كذلك العلم بالمعلول أو الظنّ به يصبح علة للعلم بالعلة أو الظنّ بها.

كما أنّ مجرّد كون الحياة علّة للإنبات لا يوجب حكومة الأمارة الموجودة في جانب الحياة على الأمارة الموجودة في جانب الإنبات، أفترى أنّه لو بدّل الاستصحاب بخبر الثقة قدّم الخبر الحاكي حياة زيد على الخبرالحاكي عدم الإنبات؟! طبعاً من الواضح أنّ الخبرين يتعارضان.

وتحقيق الحال في هذا المقام هو: أنّه إن كان الاستصحاب يورث الظنّ سواء فرض نوعياً أو شخصياً، فهذا الظنّ يجب أن يكون قائماً على أساس حساب الاحتمالات إمّا بنحو الحساب الكاشف عن نكتة في طبيعة الشيء، كما يقال: إنّ غلبة السوادفي الغربان تكشف عن اقتضاء طبيعة الغراب للسواد مثلاً فكذلك في المقام يقال: إنّ غلبة بقاء الحوادث والأحوال تكشف عن اقتضائها للبقاء. وإمّا بنحو القضيّة الخارجية من قبيل ما إذا أخبرنا مخبر صادق عن أنّ تسعة من هؤلاء الأفراد الخمسة عشر قد سمّوا محمّداً، فكلّ واحد منهم نراه نظنّ أنّ اسمه محمّد.

فإن فرض الأوّل، أعني الظنّ على أساس اكتشاف طبيعة الشيء واقتضائه، فهذا معناه

449

أنّه يوجد عندنا كشفان:

أحدهما: الكشف عن كون طبيعة الحياة مقتضية للاستمرار والبقاء.

وثانيهما: الكشف عن كون طبيعة عدم اللحية مقتضية للبقاء.

ولا منافاة بين الكشفين أبداً، لكن يوجد التنافي بين تأثير المنكشفين، وجانب اقتضاء طبيعة الحياة يقدّم على جانب اقتضاء عدم اللحية ؛ لافتراض أنّ بقاء الحياة علّة للالتحاء ومؤثّرة فيه تكويناً.

وهذا هو السرّ في ما ارتكز في ذهن السيّد الاُستاذ من حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم اللحية، ويكون ما نحن فيه شبيهاً بما لو أخبرنا ثقة بوقوع نار في البيت الفلاني، وأخبرنا ثقة آخربأنّه هطل على تلك النارفي نفس الوقت ماء كثير، فإنّنا نصدّق كلا الخبرين، ولا يكون أيّ تعارض بينهما، ونحكم بأنّ الماء غلب على النار،ولم يحترق البيت ؛ لأنّ الماءالكثير يغلب على النار تكويناً.

ولو كان الاستصحاب أمارة تعبّدية وحجّة شرعاً من باب الأمارية الصِرف، فأيضاً يكون الجاري هو استصحاب الحياة دون استصحاب عدم الإنبات ؛ لأنّها فرضت كالأمارة التكوينية، إذ المفروض أنّه جعل حجّة بلحاظ الأماريّة الصِرف، فيتبع قوانين الأمارية التكوينية.

وإن فرض الثاني،أعني الظنّ على أساس القضية الخارجية، كما لو افترضنا العلم بخمسة عشر اُمور خمسة منها عبارة عن وجود خمسة رجال، وخمسة أخرى عبارة عن عدم التحائهم، وخمسة ثالثة عبارة عن وجود خمسة نساء، وأخبرنا صادق بأنّ تسعة اُمور من هذه الخمسة عشر باقية، فعندئذ يكون كلّ واحد من هذه الاُمور التسعة ـ لوخلّي وطبعه ـ مظنون البقاء على أساس هذا الإخبار، ولكن من الطبيعي هنا أن يتعارض الظنّ ببقاء كلّ رجل بنحو القضية الخارجية مع الظن بعدم التحائه بعد فرض الملازمة بين البقاء والالتحاء، ولا توجد أيّ حكومة أو تقدّم في المقام.

وطبعاً الصحيح في ما يفرض من الظنّ الاستصحابي هو الأوّل، أعني كونه ظنّاً قائماً على أساس اكتشاف طبيعة الشيء، لا على أساس القضية الخارجية، فإنّ حوادث العالم ليست محصورة في خمسة عشر أمراً مثلاً حتّى يمكن افتراض إجراء الحساب فيها بنحو القضية الخارجية.

خفاء الواسطة

الأمر الثاني: في خفاء الواسطة.

450

ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره): أنّه مع خفاء الواسطة يجري الاستصحاب بمسامحة العرف، وأمضى ذلك المحقّق الخراساني (رحمه الله).

وأما المحقّق النائيني (رحمه الله) فلم يقبل ذلك، وذكر: أنّ خفاء الواسطة أو بعض الارتكازات ومناسبات الحكم والموضوع(1) إن أوجب في دليل ذلك الحكم ظهوراً في كونه مترتباً رأساً على نفس المستصحب، إذن لم نحتج إلى التمسّك في إجراء الاستصحاب بخفاء الواسطة ؛ إذ الأثر الشرعي صار حقيقةً أثراً للمستصحب، فيجري الاستصحاب بلحاظه، وإلاّ فلا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بمسامحة العرف في مقام التطبيق بعد أن كان مفهوم دليل الاستصحاب ومفهوم دليل ذلك الحكم واضحاً، فمفهوم دليل الاستصحاب هو ترتّب الآثار التي تكون آثاراً للمستصحب بلا واسطة تكوينية، ومفهوم دليل ذلك الحكم هو أنّه حكم على الواسطة لا على المستصحب، ونتيجة ذلك ـ لا محالة ـ عدم جريان الاستصحاب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام بعد افتراض أنّه ليست هنا ارتكازات ومسامحات تجعل دليل الحكم ظاهراً في كونه حكماً للمستصحب، وإلاّ لما كان من الاستصحاب المثبت الخفي الواسطة، وإنّما دليل الحكم ظاهر في كونه حكماً لتلك الواسطة الخفية: أنّ المباني المتصورة في عدم حجيّة الاستصحاب حينما يكون الاثر بواسطة أمر تكويني عديدة:

الأوّل: ما اخترناه من أنّ الاستصحاب لا ينظر في لسانه إلى التعبّد بالأثر ولو كان مباشراً، وإنّما يثبت تعبداً نفس المستصحب، ويترتّب على ثبوته وثبوت الكبرى التنجيز، وعندئذ من الواضح عدم جريان الاستصحاب في موارد خفاء الواسطة ؛ إذإنّ خفاء الواسطة لا يجعل الأثر الشرعي أحسن حالاً من الأثر المباشر، والاستصحاب بمدلوله اللفظي لا يثبت الأثر المباشر، غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بترتّب التنجيز عند إحراز صغرى التكليف وكبرى التكليف معاً، ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بالتنجيز حينما اُحرزت الكبرى ولكن لم تحرز الصغرى، وإنّما اُحرز تعبداً شيء تكون الصغرى أثراً تكوينياً خفيّاً له، والمفروض أنّ التعبّد الاستصحابي بالشيء ليس مساوقاً للتعبّد بأثره.


(1) ذكر (رحمه الله): أنّ الظاهر أنّ عبارة التقرير تلائم كون المراد افتراض أنّ خفاء الواسطة سبّب ظهور دليل الحكم في كونه مترتّباً على المستصحب (وقال(رحمه الله): هذا غير معقول ؛ لأنّ الواسطة مهما كانت خفيّة يكون أخذها في لسان الدليل تنبيهاً للعرف إليها، ولا معنى لصرف الدليل إلى ما تترتّب عليه هذه الواسطة) وتلائم كون المراد افتراض أنّ بعض الارتكازات سبّب هذا الظهور (وقال (رحمه الله): إنّ هذا يصبح كلاماً غير مرتبط بما نحن فيه نهائياً ؛ إذ لا علاقة له بخفاء الواسطة).

451

الثاني: أنّ الاستصحاب أثبت ذات المستصحب فقط، وهو صغرى، ونضمّ إليها الكبرى المعلومة فيثبت الأثر، وهو فعليّة الحكم لا محالة.

وهذا المبنى حاله حال المبنى السابق كما هو واضح، إذ المفروض أنّ الاستصحاب لا ينظر إلى الآثار، والكبرى التي تثبت الأثر قد فرضنا أنّها تثبته على الواسطة الخفية،وأنّه ليست هناك مسامحة عرفية تجعل الكبرى ظاهرة في كون الأثر للمستصحب.

الثالث: أنّ الاستصحاب إنّما ينظر إلى الأثر المباشر، ولا يكون لدليل الاستصحاب نظر إلى الأثر مع الواسطة، وذلك لقصور دليل الاستصحاب في نفسه، لا بلحاظ الانصراف.

وإذا سلّمنا كون الاستصحاب ناظراً إلى الأثرالمباشر جاءت شبهة: أنّ مسامحة العرف تجعل الأثر المترتّب على الواسطة الخفيّة كأنّه الأثر المباشر ؛ لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها.

وحلّ الشبهة ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث اشتراط بقاء الموضوع من أنّ العرف إنّما يكون حجّة في موردين: (أحدهما): في باب مفاهيم الألفاظ وظهوراتها. (والثاني): في باب التطبيق إذا كان نظره نظراً مولويّاً وإنشائيّاً، لا نظراً إدراكيّاً وإخباريّاً، وذلك كما لو قلنا بأنّ عناوين المعاملات أسام للمسبّبات، وجاء حكم على البيع كحلّيّة البيع مثلاً، فهنا يحكّم نظرالعرف الإنشائي ؛ إذ يحكمُ مثلاً بأن المعاطاة تولّد المسبّب. وأمّا في المقام فحكم العرف يكون عبارة عن الإخبار والإدراك في مقام التطبيق، فيرى أنّ الأثر أثر للمستصحب؛ وذلك لأنّه لا يرى الواسطة لخفائها. ونظر العرف في مثل ذلك لا يكون حجّة.

الرابع: أن يقال: إنّ دليل الاستصحاب لولا الانصراف لشمل كلّ الآثار ولو كانت مع الواسطة، إلاّ أنّه منصرف عن الأثر مع الواسطة. وعندئذ إن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً في دليل الاستصحاب من قبيل قيد عدم الواسطة، أي: إنّنا أدّعينا الانصراف عن موارد وجود الواسطة كان ذلك حاله حال المبنى السابق ؛ إذ لا يبقى في البين إلاّ مسامحة العرف في التطبيق من باب عدم إدراكه للواسطة في المقام. وإن قلنا: إنّ الانصراف أوجد قيداً أضيق من ذلك، وهو قيد عدم وجدان الواسطة لا عدم وجودها، أي: إنّنا ادّعينا الانصراف عن موارد وجدان الواسطة، فالاستصحاب في المقام يكون حجّة ؛ لأنّ المفروض أنّ العرف لم يجد الواسطة.

بقي الكلام في فروع قد يُرى أنّها تتفرع على حجيّة الأصل المثبت وعدمها.

ولنذكر هنا فرعين رئيسين، ويتضح من البحث فيهما حال سائر الفروع:

الفرع الأوّل: إنّنا حينما نستصحب شهر رمضان في اليوم الثلاثين نرتب آثار العيد على

452

اليوم الذي بعده، في حين أنّنا نحتمل أنّه ليس بعيد، وإنّما العيد هو اليوم السابق، فهذا تمسّك بالأصل المثبت مبنيّاً على خفاء الواسطة ومسامحة العرف، فكأنّ العرف يرى أنّ العيد هو اليوم الذي يكون بعد آخر يوم حكم عليه بأنّه من شهر رمضان، وإلاّ فاستصحاب بقاء شهر رمضان في اليوم الثلاثين كيف يثبت عيدية اليوم الذي بعده؟!

وهذا الإشكال سيّال يأتي في أوّل كلّ شهر، وفي أيّ يوم من أيّام الشهور حينما يوجد أثر مختصّ بذلك اليوم.

وأجاب عن ذلك السيّد الاُستاذ(1) بجواب طريف، وهو أنّنا في أوّل اليوم الثاني نعلم إجمالاً بتحقّق العيد: إمّا في هذا اليوم، أو في اليوم السابق، فنستصحبه، إذ على تقدير كونه في هذا اليوم هو باق، وعلى تقدير كونه في اليوم السابق ليس باقياً، فقد شككنا في بقاء العيد، فيجري استصحابه.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يتمّ بناءً على اشتراط كون المشكوك على تقدير ثبوته بقاءً للمتيّقن وعدم كونه نفس المتيقن، فإنّ هذا اليوم: إمّا هو العيد المتيّقن إجمالاً، أو مباين للعيد وليس بقاءً للمتيّقن حتماً، بأن يكون في الواقع تتمّة للمتيّقن من دون انبساط اليقين عليه، فإمّا أنّ اليقين منبسط عليه أو أنّه مباين للمتيّقن.

وقد ذكرت له هذا الكلام فقال نحن لا نشترط ذلك في الاستصحاب.

وأيضاً لا يتمّ هذا الكلام بناءً على مضرّية احتمال عدم اتّصال المشكوك بالمتيّقن، فإنّه هنا من المحتمل كون المتيقّن هو اليوم السابق، والمشكوك هو اليوم اللاحق، وبينهما الليل.

وهذا ـ أيضاً ـ ذكرته له فقال: نحن لا نرى مضرّية احتمال عدم الاتّصال.

وهنا إشكال آخر أوردته عليه، فقبله في ذلك الوقت، إلاّ أنّه لم يذكر في التقريرات، وذكر جريان استصحاب العيد بالتقريب الذي مضى، وذلك الإشكال هو: أنّ هذا الاستصحاب مبتلىً بمعارض أحسن منه أو معارض مثله. بيان ذلك: أنّه إذا كان الأثر مترتّباً على النهار الأوّل من الشهر مثلاً من قبيل صلاة العيد، فهنا يجري استصحاب عدم النهار الأوّل الثابت بالعلم التفصيلي في الليل. وهذا هو الاستصحاب الأحسن. وإن كان الأثر مترتّباً على أوّل الشهر الأعمّ من الليل والنهار فهنا يوجد استصحاب من سنخ الاستصحاب الذي ذكره السيّد الاُستاذ، ويعارضه ؛ وذلك لأنّه في الآن الأوّل من الليل كما يحصل لنا علم إجمالي


(1) راجع مصباح الاُصول ج3 ص165.