605

 

 

 

صلب البحث في مقتضى القاعدة:

 

والكلام تارةً يقع في التعارض بلحاظ فردي دليل حجّيّة الظهور، واُخرى بلحاظ فردي دليل حجّيّة السند. وثالثة بلحاظ فرد لدليل حجّيّة السند مع فرد آخر لدليل حجّيّة الظهور.

فالكلام يقع في ثلاثة مقامات:

 

التعارض بلحاظ فردي دليل حجّيّة الظهور:

المقام الأوّل: في ما هو مقتضى القاعدة بلحاظ الظهورين المتعارضين بالقياس إلى دليل حجّيّة الظهور العامّ.

قد يبدو للذهن أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط؛ إذ تقديم أحدهما وجعله قرينة على التصرّف في الآخر خلف افتراض أنّه ليس خاصّاً، أو أظهر، أو نحو ذلك من الوجوه التي مضت للجمع العرفي، والتي تخرج الخبرين عن التعارض بهذا المعنى المقصود هنا، وعندئذ يكون الأخذ بأحدهما ترجيحاً بلا مرجّح، وبهما معاً غير معقول، فيتساقطان.

إلاّ أنّه في مقابل هذا الكلام توجد هذه العبارة المشهورة، هي عبارة: أنّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)، فمثلاً لو ورد (ثمن العذرة سحت) وورد (لا بأس بثمن العذرة) فالأولى أن يجمع بينهما بحمل كلّ منهما على القدر المتيقّن في مقابل الآخر، فيحمل مثلاًالأوّل على عذرة غير مأكول اللحم، والثاني على عذرة مأكول اللحم.

ويمكن تبرير هذه العبارة المعروفة بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّنا إنّما نرفع اليد عن الظهورين عند التعارض لأجل الضرورة، والضرورات تتقدّر بقدرها، فنحن مضطرّون إلى رفع اليد عن جزء من جزءي كلّ واحد من الظهورين، فنرفع اليد عن ظهور الأوّل في عذرة مأكول اللحم، وعن ظهور الثاني في عذرة غير الماكول. وأمّا الجزء الثاني من جزءي ظهور كلّ منهما فهو باق تحت دليل الحجّيّة من دون مبرّر لرفع اليد عنه، هكذا جاء في عبارة الشيخ الأعظم(رحمه الله) وغيره.

وجاء في كلامهم جوابه ـ أيضاً ـ وهو: أنّه كما يمكن رفع اليد عن جزء من جزءي كلّ من

606

الظهورين، والتحفّظ على الجزءين الآخرين، كذلك يمكن رفع اليد عن جزءي أحد الظهورين والتحفّظ على جزءي الآخر، ولا مرجح للأوّل على الثاني.

وتعميق المطلب هو: أنّ كلاّ من جزءي الظهورين معارض بمثله في مقابله، فظهور الأوّل في غير مأكول اللحم معارض بظهور الثاني في غير مأكول اللحم، وظهور الأوّل في المأكول معارض بظهور الثاني في المأكول، فما معنى أن نأخذ اعتباطاً من المتعارضين الأوّلين الأوّل ومن المتعارضين الآخرين الثاني؟!

الوجه الثانى: دعوى تطبيق الجمع العرفي. ونوضّح ذلك بذكر مثالين: أحدهما في الجمع في جانب الموضوع، والثاني في الجمع في جانب الحكم.

المثال الأوّل، قوله: (ثمن العذرة سحت) و(لا بأس بثمن العذرة) فكلمة (العذرة) في كلّ من الكلامين لها دلالتان؛ دلالة وضعيّة، وهي دلالتها على ماهية العذرة الجامعة بين المطلق والمقيّد، ودلالة بمقدّمات الحكمة، وهي دلالتها على الاطلاق. ولو كنّا نحن والدلالتين الوضعيتين لما كان يوجد أيّ تعارض بينهما؛ فإنّ غاية ما تدلاّن عليه أنّ ثمن العذرة بنحو القضية المهملة سحت، وأنّه بنحو القضية المهملة لا بأس به، فالتعارض إنّما هو بين إطلاق كلّ منهما والدلالة الوضعية للآخر، وحيث إنّ الدلالة الوضعية مقدّمة على الإطلاق على ما يقوله جملة منهم كالسيد الاُستاذ، فيسقط الإطلاقان، وتبقى الدلالتان الوضعيتان، ومفادهما القضية المهملة التي هي في قوّة الجزئية، وإذا كان ثمن العذرة سحتاً في الجملة فالقدر المتيقّن من ذلك عذرة غير مأكول اللحم، وإذا كان لا بأس بثمنها في الجملة، فالقدر المتيقّن من ذلك عذرة المأكول، فنستنتج حرمة الأوّل وحلّيّة الثاني.

المثال الثاني: لو قال: (افعل كذا) وقال ايضاً، (سيّان ان تفعل، أو لا) فالأوّل صريح في الرجحان، وأصل الطلب ظاهر في الوجوب، والثاني صريح في الإباحة بالمعنى الأعمّ، وظاهر في الاباحة بالمعنى الأخصّ، ولا معارضة بين الصريحين، وصريح كلّ منهما قرينة لرفع اليد عن ظاهر الآخر، فيثبت الاستحباب.

والجواب عن هذا الوجه نوضّحه أوّلا بالتكلّم عن المثال الثاني، ثمّ التكلّم عن المثال الأوّل.

فنقول: إن قوله مثلا: (سيّان ان تفعل، أو لا) له معنيان: الأوّل إرادة الإباحة بالمعنى الأخصّ، وهذا هو الظاهر، والثاني إرادة الإباحة بالمعنى الأعمّ بحدّه، أي: مجرّد نفي الوجوب والحرمة من دون نظر إلى الإباحة بالمعنى الأخص نفياً أو إثباتاً، وهذا المعنى خلاف الظاهر،

607

فعلى المعنى الأوّل يكون هذا الكلام معارضاً لرواية افعل، لا قرينة على حملها على الاستحباب؛ لأنّه ينفي أصل الطلب بإثبات الإباحة بالمعنى الأخصّ، وعلى المعنى الثاني يكون قرينة لحملها على الاستحباب. وأمّا ما يقال من أنّ هذا الكلام صريح في الإباحة بالمعنى الأعمّ، فهو إنّما يكون بمعنى أنّ الإباحة بالمعنى الأعمّ تصدق على كلا محتملي الكلام، فيكون صريحاً فيه، أي: إنّ صراحته في الإباحة بالمعنى الأعمّ تكون في طول ثبوت معنيين له: أحدهما معارض والآخر قرينة، وصراحةٌ تكون في طول معنيين من هذا القبيل لا تشكّل قرينية أقوى ممّا يستفاد من نفس المعنين، فيجب أن نحسب حساب نفس المعنيين لنرى أنّه متى ما كان الكلام مردّداً بين معنيين: أحدهما قرينة لصرف كلام آخر عن ظاهره والاخر معارض له فهل يعدّ هذا الكلام قرينة لصرف الكلام الآخر عن ظاهره، أو لا؟ فنقول:

تارةً يفرض أنّ هذا الكلام ظاهر في المعنى الذي يكون قرينة، ويكون المعنى المعارض خلاف الظاهر، وعندئذ لا إشكال في القرينيّة.

واُخرى يفرض العكس، كما في المقام، وعندئذ لا ينبغي الإشكال في عدم القرينيّة، فإنّه إن جعل المعنى الظاهر قرينة فالمفروض انّه معارض لا قرينة، وان جُعل المعنى الآخر قرينة فهو لا حجّيّة له حتّى يُعتبر قرينة، فان الحجّيّة ثبتت للمعنى الظاهر ولم تثبت للمعنى غير الظاهر، ولا معنى لافتراض القرينيّة لصراحة ناتجة من الجمع بين القرينية والمعارضة.

وثالثة يفرض الإجمال من قبيل مرسلة ابن أبي عمير: (أنّ الكرّ ألف ومئتا رطل)، وصحيحة محمد بن مسلم (أنّه ستمائة رطل)، حيث إنّه لم يذكر في الحديث أنّ المقصود هل هو الرطل العراقي، أو المكّي الذي هو ضعف العراقي، أو المدني الذي هو نصف مجموع العراقي والمكّي، فلو فرض أنّ المقصود من صحيحة محمد بن مسلم المكّي، كان قرينة على حمل المرسلة على العراقي، كما لو فرض أنّ المقصود من المرسلة العراقي كان قرينة على حمل الصحيحة على المكّي، وعندئذ نقول: إنّ أصل التعارض غير ثابت؛ إذ لم يحرز التكاذب بينهما؛ لاحتمال كون المقصود من المرسلة العراقي، ومن الصحيحة المكي، فيتوافقان، وإذا لم يحرز التكاذب بينهما فدليل الحجّيّة يشملهما معاً، ونستنبط الحكم لأمن باب قرينية إحداهما للاُخرى، فإنّ أصل التعارض غير ثابت، فنؤمن بحجّيّة كلّ منهما على إجماله(1)،


(1) اختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في مثل هذا المثال في بعض بياناته إمكان جعل كلّ واحد منهما قرينة لرفع إجمال الآخر، وذلك بناءً على ما ورد في تقرير السيّد الهاشمي (حفظه الله) للاُصول: ج 3، ص 445 ـ 447، ونوكل بيان ذلك إلى بحث المجمل والمبيّن.

608

والقرينيّة فرع التعارض، بل من باب أنّ اللازم العقلي القطعي لافتراض كون الكرّ ستمائة رطلا بأحد الأرطال إجمالا، وألف ومائتي رطلا بأحد الأرطال إجمالا، هو كونه ستمائة رطلا بالمكّي وألف ومائتين بالعراقي.

وبكلمة اُخرى: أنّ صحيحة محمد بن مسلم تدلّ ـ على أيّ حال ـ على أنّ الكرّ ليس بأكثر من ستمائة رطل مكّي، ومرسلة ابن أبي عمير تدلّ ـ على أيّ حال ـ على أنّ الكرّ ليس بأقلّ من ألف ومائتي رطل عراقي، وبهذا يتحدّد الكرّ ـ لا محالة ـ في ستمائة رطل مكّي وألف ومائتي رطل عراقي.

وبما ذكرناه يتّضح الحال في المثال الأوّل، فإنّ المقصود من القضيّة: إمّا هي الجزئيّة أو الكلّيّة. وأمّا الطبيعيّة المهملة التي نقطع بإرادتها فهي منتزعة من مجموع المعنيين، وأحدهما يعدّ معارضاً، والآخر يعدّ قرينة، والقضيّة ظاهرة في المعنى المعارض، فلا تصلح للقرينيّة.

فتحصّل: أنّ التعارض بين الظهورين مستحكم، ولا يمكن الجمع بينهما جمعاً عرفيّاً. نعم، نفس النتيجه تتمّ ـ عن غير طريق قانون القرينيّة ـ في مورد واحد، وهو ما إذا كان الخبران قطعيّين سنداً وجهةً، فعندئذ نحن نقطع بأنّ حكم الله الواقعي في ثمن عذرة مأكول اللحم إنّما هو الحلّ، وإلاّ للزم: إمّا عدم صدور خبر الحلّ، أو كونه تقيّة، أو كون الشارع يتناقض في أحكامه وكلامه، والكلّ غير محتمل. ونقطع ـ أيضاً ـ بأنّ حكم الله الواقعي في ثمن عذرة غير مأكول اللحم إنّما هو الحرمة، وإلاّ للزم: إمّا عدم صدور خبر الحرمة، أو كونه تقيّة، أو التناقض، والكلّ غير محتمل، فتمّت النتيجة عن طريق القطع، لا عن طريق قانون القرينيّة.

هذا. ولو فرضنا أنّ أحد الخبرين قطعيّ سنداً وجهة ـ ولنفرض مثلا هو خبر الحرمة ـ دون الخبر الآخر، قطعنا بمضمون الخبر القطعي في المقدار المتيقّن، أي: نقطع مثلا بحرمة ثمن عذرة غير ماكول اللحم، وبأنّ إطلاق خبر الحلّ لثمن عذرة غير ماكول اللحم ساقط، وعندئذ إن قلنا بانقلاب النسبة فخبر الحلّ بعد سقوط إطلاقه يقيّد خبر الحرمة، فنصل ـ أيضاً ـ إلى نفس الجمع السابق عن طريق انقلاب النسبة. وإن لم نقل بانقلاب النسبة وقع التعارض بين الخبرين في ثمن عذرة مأكول اللحم، وسند خبر الحلّ داخل في التعارض لكنّ خبر الحرمة سنده غير داخل في التعارض لفرض القطع به، وإنّما يدخل في التعارض ظهوره،

609

وسياتي ـ إن شاء الله ـ في البحث عن التعارض بين السند والظهور أنّ الظهور المعارض لسند قطعي يسقط عن الحجية؛ لدخوله في (ماخالف قول ربّنا لم نقله، وهو زخرف).

ولو فرضنا أنّ الخبرين قطعيّان سنداً، وأحدهما قطعيّ جهةً أيضاً ـ ولنفرضه خبر الحرمة ـ دون الآخر، قطعنا بالحكم في قطعيّ الجهة في المقدار المتيقّن، أي نقطع بحرمة ثمن عذرة غير المأكول مثلا، وبسقوط إطلاق خبر الحلّ: فإنّ قلنا بانقلاب النسبة فالكلام الكلام، وإلاّ وقع التعارض بين أصالة الإطلاق في خبر الحرمة وأصالة الجهة في خبر الحلّ وتتساقطان.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل أنّ الجمع التبرّعي لا يخرج الخبرين عن كونهما متعارضين، ولا يكون جمعاً عرفيّاً.

هذا. ولو قلنا: إنّه جمع عرفي، فهذه مناقشة صغروية، ويبقى البحث الكبروي ـ في أنّه متى ما استحكم التعارض، فما هي الوظيفة؟ ـ ثابتاً على حاله.

فنقول: متى ما استحكم التعارض فهل مقتضى القاعدة التساقط الكلّي، أو مقتضى القاعدة السقوط الجزءي بمعنى سقوط أحدهما المعيّن دون الآخر وهو المسمى بالترجيح، أو سقوط كلّ واحد منهما في حالة دون اُخرى وهو المسمى بالتخيير؟

وهنا نضمّ المقام الثاني الذي نبحث فيه عمّا هو مقتضى القاعدة في تعارض السندين إلى المقام الأوّل الذي نبحث فيه عن تعارض الظهورين، ونجعلهما بحثاً واحداً فنقول:

 

التعارض بلحاظ فردي دليل حجية السند:

المقام الثاني: في ما هو مقتضى القاعدة في تعارض السندين، ونضمّه إلى البحث عمّا هو مقتضى القاعدة في تعارض الظهورين.

فنقول بشكل مطلق: إنّ الخبرين إذا تعارضا بلحاظ ظهورهما أو بلحاظ سندهما، فهل مقتضى القاعدة التساقط، أو الترجيح، أو التخيير؟

تحقيق الكلام في ذلك: أنّه لو فرض أنّ نكتة الحجّيّة العقلائية تقتضي بلحاظ ارتكاز العقلاء الترجيح انعقد لدليل الحجّيّة العامّ ظهور في حجّيّة خصوص ذلك الأرجح ولو مع فرض القول بأنّ مقتضى القاعدة ـ لو غضّ النظر عن الارتكاز ـ شيء آخر غير الترجيح؛ وذلك لظهور دليل الحجّيّة في كونه إمضاء لنفس الارتكاز العقلائي، وانصرافه إلى ما هو المرتكز عندهم.

610

ولو فرض أنّ تلك النكتة تقتضي بلحاظ ارتكاز العقلاء التخيير انعقد لدليل الحجّيّة ظهور في التخيير، ولو مع فرض القول بأنّه لولا الارتكاز لكان مقتضى القاعدة شيئاً آخر.

ولو فرض أنّها تقتضي التساقط سقطت دلالة دليل الحجّيّة العامّ عند التعارض حتّى مع فرض القول بخلاف ذلك لولا الارتكاز، لما عرفت من ظهور دليل الحجّيّة في إمضاء نفس الارتكاز العقلائي.

نعم، لو فرض أنّ ارتكاز العقلاء حياديّ تجاه هذا النقطة، وأنّهم يختلفون في ما بينهم في الاتّجاه الذي يتّخذونه تجاه خبرين متعارضين مثلا، فعندئذ تصل النوبة إلى إعمال القواعد اللغوية في فهم ما هي الوظيفة من دليل الحجّيّة العامّ بغضّ النظر عن تدخل الارتكاز.

والذي اشتهر بينهم هو أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط.

والدليل على ذلك حسب ما ذكره السيّد الاُستاذ(رحمه الله)(1)، واعتمد عليه هو أنّه إنّ اُريد إثبات حجّيّة كليهما بدليل الحجّيّة لم يمكن للتعارض. وان اُريد اثبات حجّيّة أحدهما المعيّن فقط كان ترجيحاً بلا مرجّح. وإن اُريد إثبات حجّيّة كلّ واحد منهما عند عدم الأخذ بالآخر، أي: عند عدم الموافقة الالتزامية والبناء على الآخر، لزم حجّيّة كليهما لو لم يلتزم بشيء منهما. وإن اُريد إثبات حجّيّة كلّ واحد منهما عندالأخذ والالتزام به فهذا وإن كان معقولا بلحاظ الأخبار العلاجية لكنّه ليس معقولاً بلحاظ دليل الحجّيّة العامّ؛ إذ يلزم منه أنّه لو لم يأخذ بشيء منهما لم يكن شيء منهما حجّة عليه، فهذه حجّيّة أمرها بيد المكلف، وهذا كما ترى يخالف السَير الفقهي وعمل الفقهاء قاطبة، وهذا بخلاف الأخبار العلاجية التي تقول: (خذ بأحدهما)، فإنّ تلك الأخبار تدلّ على وجوب الأخذ بأحدهما، وعلى أنّ ما يأخذه يكون حجّة له. وأمّا دليل الحجّيّة العامّ فلا يدلّ إلاّ على حكم واحد، وهو حجّيّة ما ياخذ به، ولا يدل على وجوب الأخذ بأحدهما.

أقول: إنّ هذا الكلام أقلّ ما يرد عليه أنّه بالإمكان أنّ يقال: إنّنا نختار الشقّ الرابع، وهو حجّيّة ما يأخذ به، فإن احتمل عقلائياً كون نكتة الحجّيّة منسجمة مع حجّيّة من هذا القبيل، أي حجّيّة أمرها بيد المكلف فإن أخذ والتزم بالحديث كان حجّة، وإلاّ لم يكن حجّة فلا بأس بالالتزام بذلك، وإن لم يحتمل ذلك؛ إذ ليس من المحتمل عقلائياً كون التزام العبد وعدم التزامه دخيلا في اهتمام المولى بالملاكات الواقعية وعدمه، أو كون ملاك الحجّيّة سنخ


(1) راجع مصابح الاصول - ج 3 ص 365 ـ 367.

611

ملاك يوجد عند التزام العبد ولا يوجد عند عدم التزامه، كان دليل الحجّيّة العامّ بضميمة عدم احتمال ذلك بحسب الارتكاز العقلائي دالّاً على وجوب الأخذ بأحدهما، فدليل الحجّيّة العامّ يدلّ على حجّيّة ما يؤخذ به بالمطابقة، وعلى وجوب الأخذ بأحدهما بالالتزام.

وطبعاً وجوب الالتزام بأحدهما حكم ظاهري كما هو الحال بلحاظ الأخبار العلاجية، أي: إنّه لو لم يلتزم بأحدهما كان الواقع منجّزاً عليه.

والتحقيق: أنّه لا بدّ من طرح اُسلوب آخر للتعرّف على ما هو مقتضى القاعدة غير ما ذكره السيّد الاُستاذ واعتمد عليه، فنقول: إنّهم تارةً يبحثون عمّا هو مقتضى القاعدة لو بقينا نحن ودليل الحجّيّة العامّ: هل هو الترجيح، أو التخيير، او التساقط.وهذا ما يُعبَّر عنه بالأصل الأوّلي، واخرى يبحثون عن أنّه لو فرض أنّنا عرفنا بنكتة من إجماع وغيره عدم التساقط ودار الأمر بين التعيين والتخيير، فهل الأصل هو التخيير أو التعيين والترجيح.

وهذا ما يعبَّر عنه بالأصل الثانوي. إذن فيقع الكلام في جهتين:

 

مقتضى الأصل الأوّلي في الخبرين المتعارضين:

الجهة الاُولى: فيما هو مقتضى الأصل الأوّلي عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير والتساقط.

فنقول: إنّ هناك فروضاً أربعة:

الفرض الأوّل: أن يفترض العلم الخارجي بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت موجودة في الخبرين المتعارضين فهي أقوى في أحدهما المعيّن منها في الآخر، فلنفرض مثلا أنّه وقع التعارض بين رواية لزرارة ورواية لمحمد بن مسلم، إلاّ أنّ رواة الرواية الاُولى كانوا أكثر وثاقة بكثير من رواة الرواية الثانية، فقطعنا بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت فهي أقوى في رواية زرارة، وعندئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجّيّة لرواية محمد بن مسلم؛ إذ: إمّا أنّ نكتة الحجّيّة غير موجودة عند التعارض، فرواية محمد بن مسلم غير حجّة، أو موجودة وهي أقوى في رواية زرارة، ومقدّمة على رواية محمد بن مسلم، فأيضاً رواية محمد بن مسلم غير حجّة، وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لرواية زرارة بلا معارض، ففي هذا الفرض يتعيّن الترجيح.

الفرض الثاني: أن يفترض العلم الخارجي بأنّ نكتة الحجّيّة إن كانت موجودة في المتعارضين فنسبتها إلى كليهما على حدّ سواء، كما إذا لم تكن مزيّة لأحد السندين على

612

الآخر، ونضمّ إلى ذلك استظهار عدم وجود نكتة نفسيّة توجب جعل المولى للحجّيّة لإحدى الروايتين بعينها، وذلك باستظهار الطريقيّة الصرف من دليل الحجّيّة، وعندئذ نقطع بأنّ إطلاق دليل الحجّيّة لكل واحد من الخبرين عند الأخذ والالتزام بالآخر مثلا ساقط حتماً: إمّا لعدم وجود نكتة الحجّيّة راساً عند تعارض الخبرين، أو لأن نكتة الحجّيّة ليست بأقوى في أحدهما، فلا تقتضي حجّيّته على التعيين، أي: حتى عند الأخذ بالآخر. وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ واحد منهما عند الأخذ والالتزام به بلا معارض، ففي هذا الفرض يتّجه التخيير.

الفرض الثالث: أن نحتمل الترجيح لأحدهما المعيّن، وهو خبر زرارة مثلا، ولا نحتمل الترجيح للآخر، وهو خبر محمد بن مسلم مثلا، وعندئذ نقطع بسقوط إطلاق دليل الحجّيّة لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ بخبر زرارة: إمّا لعدم وجود نكتة الحجّيّة في فرض التعارض رأساً، أو لتساوي نسبتها إليهما، فلا تقتضي حجّيّة خبر محمد بن مسلم تعييناً، أي: حتّى عند الأخذ بخبر زرارة، أو لأرجحيّتها في خبر زرارة، فيقدّم على خبر محمّد بن مسلم. وعليه فيبقى إطلاق دليل الحجّيّة لخبر زرارة عند الأخذ به سليماً عن المعارض، وبذلك يثبت عدم التساقط، وعدم انتفاء نكتة الحجّيّة عند التعارض راساً، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، فتدخل المسألة فيما سيأتي ـ إن شاءالله ـ من الجهة الثانية التي يبحث فيها عن الأصل الثانوي المعيّن للتعيين أو التخيير عند دوران الأمر بينهما بعد فرض الفراغ عن عدم التساقط.

الفرض الرابع: أن يحتمل الترجيح في كلّ واحد منهما سواء احتمل التساوي أولا، واحتمال الترجيح في كلّ واحد منهما يكون: إمّا لاحتمال النكتة النفسية بناء على عدم استظهار الطريقية الصرف من دليل الحجّيّة، أو لاحتمال النكتة الطريقية للترجيح في كلّ واحد منهما، كما لو كان أحدهما أعدل والآخر أفقه، فاحتملنا أرجحية خبر الأعدل لأبعديّته عن الكذب والمسامحة، واحتملنا أرجحيّة خبر الأفقه لأبعدّيته عن الخطأ في النقل بالمعنى، وعندئذ يقال في بداية الأمر بالتساقط، لاحتمال حجّيّة كلّ منهما حتّى عند الأخذ بالآخر، فلا يمكن إثبات التخيير بالتمسّك بإطلاق دليل الحجيّة لكلّ واحد منهما عند الأخذ به، لا لما ذكره السيّد الاُستاذ من لزوم عدم الحجّيّة عند عدم الأخذ بشيء منهما، بل لأن إطلاق دليل الحجّيّة لخبر زرارة عند الاخذ به معارض بإطلاقه لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ بخبر زرارة، وكذلك إطلاقه لخبر محمد بن مسلم عند الأخذ به معارض بإطلاقه لخبر زرارة عند الأخذ بخبر محمد بن مسلم، حيث إنّ المفروض احتمال التعيين في كلّ واحد منهما

613

بأن يكون حجّة حتّى عند الأخذ بالآخر؛ لأنّنا احتملنا الترجيح في كلّ واحد منهما: إمّا بنكتة طريقيّة، او بنكتة نفسيّة. وبكلمة اُخرى: تكون دلالة الدليل على مطلق الحجّيّة في أحدهما معارضة بدلالته على الحجّيّة المطلقة في الآخر، فالتخيير لا معنى له، وإذا لم يتعقّل التخيير تعيّن التساقط؛ لأنّ حجّيّتهما معاً غير معقولة لتعارضهما، وحجّيّة أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجح، فبعد إبطال الجمع بينهما في الحجّيّة والترجيح والتخيير يتعيّن التساقط(1).

 


(1) لا يخفى أنّ التفصيل بين الفروض الأربعة التي تعرّض لها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إنّما يتمّ في صورتين، وكلتاهما لا واقع لهما:

الصورة الاُولى: أن نفترض أنّ دليل الحجّيّة العامّ قد انعقد له الظهور في حجّيّة كلّ واحد من المتعارضين، فنركّز كلامنا على مدى حجّيّة هذا الظهور، فعندئذ يقال مثلا في الفرض الاوّل من الفروض الاربعة: إنّ ظهور العام في حجّيّة الفرد الذي لا نحتمل أقوائيّة نكتة الحجّيّة فيه ساقط عن الحجّيّة يقيناً، للقطع بخروج هذا الفرد: إمّا مع معارضه، وإمّا وحده، فيبقى الفرد الآخر الذي علمنا بأقوائية نكتة الحجّيّة فيه على تقدير ثبوتها لدى التعارض مشمولا للمساحة الحجّة من ظهور العامّ.

إلاّ أنّ هذه الصورة لا واقع لها في المقام؛ وذلك لأنّ ظهور العامّ في حجّيّة كلّ واحد من المتعارضين غير منعقد؛ لأنّ عدم إمكان حجّيّة المتعارضين معاً واضح ارتكازي كالمتّصل، فيمنع عن انعقاد مجموع هذين الظهورين.

الصورة الثانية: أن نفترض أنّ المقيّد الارتكازي يركّز على إسقاط خصوص أحد الظهورين للعموم مثلا فيبقى الظهور الآخر فارغاً عن المعارض، ففي الفرض الأوّل مثلا من الفروض الأربعة أصبح ظهور العامّ في حجّيّة الفرد الذي لا يحتمل فيه أقوائيّة نكتة الحجّيّة منتفياً بخصوصه، فبقى مقتضي ظهور العامّ في حجّيّة الفرد الآخر بلا مزاحم.

إلاّ أنّ هذه الصورة ـ أيضاً ـ لا واقع لها؛ لأنّ النكتة التي بها سقط ظهور العامّ في ذلك الفرد ليست متعيّنة في نكتة تخصّه.

لا يقال: إنّ ظهور العام في أحد الفردين قد علمنا سقوطه على أيّ تقدير وبهذا أصبح الظهور الآخر بلا معارض.

فانه يقال: إنّ المقيّد الارتكازي الذي ينجي الظهور الآخر من التعارض بإسقاط الظهور الأوّل ليس هو نفس سقوطه، ولا العلم بسقوطه، وإنّما هو النكتة التي توجب سقوط الحجية المستفادة من الظهور الاول، وتلك النكتة مردّدة في المقام بين أن تكون نكتة لاتخصّ ذلك الظهور، وهي التعارض والتمانع مثلا وبين أن تكون نكتة تخصّه، وهي أضعفية ملاكه من ملاك الآخر مثلا، وعلمنا الإجمالي بإحديهما أوجب اليقين بسقوط ذاك الظهور، ولكن بما أنّ النكتة التي تخصّ ذاك الظهور بالسقوط ليست إلاّ طرفاً للعلم الاجمالي، ولا نعلم بها بالذات كي تكون مقيّدة ارتكازيّة كالمتّصل، فلا محالة تكون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات، فلا يوجد لدينا مقيّد ارتكازي كالمتّصل، وبالتالي لا يخرج العامّ من الإجمال بلحاظ الظهور الآخر.

نعم، لو فرضنا أنّ الفاصل في الوثاقة مثلا بين الراويين كان كبيراً إلى درجة رآى العرف أنّ أحد الخبرين في

614

إلاّ أنّ بالإمكان استيناف البحث في المقام وإعادة النظر في أنّه هل حقّاً بطل الجمع بينهما في الحجّيّة والتخيير والترجيح، فوصلت النوبة الى التساقط، أو لا؟

فنقول: إنّ التعارض على قسمين: تعارض ذاتي، وتعارض عرضي، ونقصد بالأوّل ما إذا وجد تناف داخلي بين المدلولين، وبالثاني ما إذا كان التعارض بينهما بسبب علم إجمالي خارجي كما في دليل وجوب صلاة الجمعة ودليل وجوب صلاة الظهر.

والتعارض الذاتي تارةً يكون على أساس التناقض من قبيل (يجب) و(لايجب)، واُخرى على أساس التضاد من قبيل (يجب) و(يحرم)، فالمجموع ثلاثة أقسام، نتكلّم في كلّ واحد منها على حدة فنقول:

القسم الأوّل: أن يكون التعارض عرضيّاً كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِّ صلاة الظهر). وهنا يمكن دعوى حجّيّة كليهما ووجوب الجمع بين الصلاتين، وذلك بعدّة محاولات.

المحاولة الاُولى: وهي محاولة بدائية، أن يقال: إنّنا نأخذ بكلتا الروايتين بالرغم من العلم الاجمالي بكذب إحداهما؛ وذلك لأنّه لا يلزم من العمل بهما اجتماع تنجيز وتعذير على أمر واحد، فإنّهما منجّزان لأمرين، ولا مخالفة قطعيّة لعلم إجمالي منجّز، فهذا من قبيل العمل باستصحابي النجاسة في إنائين علمنا إجمالا بطهارة أحدهما.

وطبعاً نقول هذا في الخبر الإلزاميين عند العلم الاجمالي بالترخيص، كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِ صلاة الظهر) لا في خبرين ترخيصيّين مع العلم الإجمالي بالإلزام.

وهذا جوابه واضح، وهو أنّ المعارضة وعدم إمكان العمل بكليهما يكون له كما أشرنا في أصل المحاولة أحد ملاكين: (الأوّل) لزوم المخالفة القطعية للتكليف الالزامي المعلوم،


قبال الخبر الآخر فقد كاشفيّته، والخبر الآخر لم يفقد كاشفيته، فهذا قد يعني أنّ العرف يحصل له علمٌ يُعتبر ارتكازيّاً كالمتّصل بسقوط الأضعف بضعفه، أي: بنكتة تخصّه، فيبقى الآخر بمنجىً عن المعارضة.

وهذا الفرض ينبغي أن يفترض خارجاً عن مورد البحث.

إن قلت: مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كلّ واحد من الخبرين حجّيّته على تقدير عدم حجّيّة الآخر تعييناً، فإذا قطعنا بعدم حجّيّة الآخر تعييناً ثبتت حجّيّة الأول.

قلت: ليس مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كل واحد منهما حجيّته على مطلق تقديرات عدم حجّيّة الآخر بما فيها تقدير عدم حجّيّته بسبب التمانع بين الحجّيّتين، وإنّما مقتضى إطلاق حجّيّة كلّ واحد من الفردين على تقدير سقوط الآخر بملاك يخصّه كفقدانه لملاك الحجّيّة أو أضعفية الملاك فيه من الأوّل، وهذا التقدير ليس محرزاً.

615

(والثاني) كون إحدى الحجّيّتين تنجّز والاُخرى تعذّر عن نفس ما تنجّزه الاُولى. وطبعاً لا يمكن الجمع بين التنجير والتعذير، وفي مثال الاستصحابين شيء من الملاكين غير موجود، لكن في مثال الأمارتين يكون الملاك الثاني موجوداً، والفرق هو أنّ مثبتات الاُصول غير حجّة، ومثبتات الأمارات حجّة، فكلّ واحدة من الروايتين الدالة على وجوب إحدى الصلاتين تدلّ بالملازمة على عدم وجوب الصلاة الاُخرى، فتعذّر عن الصلاة الاُخرى في حين أنّ الرواية الاُخرى تنجّزها، فيلزم الجمع بين التنجيز والتعذير، وهذا غير ممكن.

المحاولة الثانية: أنّ المشكلة ـ حسب ما عرفنا في إبطال المحاولة الاُولى ـ جاءت من قبل الدلالة الالتزامية لكلّ من الروايتين، ونحن نسقط الدلالتين الالتزامية عن الحجّيّة ونأخذ بالدلالتين المطابقيّتين، ولا بأس بحجّيّتهما معاً كما هو الحال في استصحابي النجاسة، وذلك بتقريب أنّ الدلالتين الالتزاميتين يتعيّن سقوطهما والأخذ بالدلالتين المطابقيتين؛ وذلك لعدم معقوليّة العكس بأن نرفع اليد عن الدلالتين المطابقيتين ونأخذ بالدلالتين الالتزاميتين، وذلك بناءً على ما هو الصحيح من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية في الحجّيّة، وسقوط حجّيّتها بسقوط حجّيّة الدلالة المطابقية، إذن فلو سقطت الدلالتان المطابقيّتان عن الحجّيّة سقطت الالتزاميتان أيضاً عن الحجية، فالالتزاميّتان ساقطتان على كلّ حال: إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً، وتبقى المطابقيّتان بلا معارض.

والجواب: أنّ هنا ـ في الحقيقة ـ تعارضين: تعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الظهر والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الجمعة، وتعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الجمعة والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الظهر، وكلّ من الدلالتين الالتزاميتين ليست في الحجّيّة في طول ما تعارضها من الدلالة المطابقية حتّى تكون متيقّنة السقوط في مقابلها، وإنّما هي في طول الدلالة المطابقية لنفس الخبر، ومعارضة للدلالة المطابقية للخبر الآخر، فلا وجه لتعيّن سقوطها في مقابل ما تعارضها من الدلالة المطابقية، بل يمكن افتراض سقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها الالتزامية وبقاء الدلالة الالتزامية مع المطابقية في الطرف الآخر(1).

المحاولة الثالثة: إبراز تعارض ثالث في المقام، بأن يقال: إنّ هناك ـ في الحقيقة ـ


(1) يوجد في كتاب السيد الهاشمي (حفظه الله) نقلا عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)جواب آخر على هذا المحاولة الثانية، وهو أنّها موقوفة على الإيمان بالطولية في الحجّيّة بين الدلالة المطابقية والالتزامية، ولكنّنا نؤمن بالملازمة بينهما في الحجّيّة لا بالطولية.

616

ثلاثة تعارضات:

1 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الظهر والمطابقية للخبر الآخر، وهو تعارض بملاك أنّ حجّيّة إحداهما تقتضي التنجيز والاُخرى تقتضي التعذير.

2 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الجمعة والمطابقية للآخر، وهو ـ أيضاً ـ تعارض بنفس ذلك الملاك.

3 ـ التعارض بين نفس الدلالتين الالتزاميتين وعدم إمكان الجمع بينهما في الحجّيّة: إمّا للعلم الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين، فيلزم من الجمع بينهما المخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف المعلوم بالاجمال، أو لأنّ الجمع بينهما في الحجّيّة يستلزم سقوط المطابقيّتين عن الحجّيّة؛ لاستحالة الجمع بينها، وبسقوطهما تسقط الالتزاميتان على ما هو الصحيح من التبعية(1). إذن فلا يمكن الجمع بين الالتزاميتين في الحجّيّة.

وهذا الوجه يتمّ حتّى في مورد يفترض عدم العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي بخلاف الوجه الأوّل أعني لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة، وإذا كان بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض فقد سقطتا وبقيت المطابقيتان بلا معارض.

ولكن هذا البيان بهذا المقدار يقال في مقابله: إن كلاًّ من الدلالتين الالتزاميتين لها معارضان في وقت واحد وهما: الدلالة الالتزاميّة مع الدلالة المطابقيّة للرواية الاُخرى، فتتساقط الكلّ في وقت واحد.

المحاولة الرابعة: وهي المحاولة الصحيحة: أنّه متى ما كانت عندنا طائفتان من الأدلّة، وكان كلّ دليل من إحدى الطائفتين معارضاً بدليل من الطائفة الاُخرى، وإحدى الطائفتين في ما بينها مبتلاة بتعارض داخلي، سقطت تلك الطائفة، وبقيت الطائفة الاُخرى بلا معارض. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ الدلالتين الالتزاميتين طائفة، والمطابقيتين طائفة اُخرى وما بينهما تعارض، وما بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض على ما عرفت من الوجهين في المحاولة الثالثة، فتتساقطان، وتبقى المطابقيتان بلا معارض.

والبرهان على هذه القاعدة نبيّنه من خلال تطبيقه على نفس هذا المثال، فنقول: إنّ الدليلين المتعارضين إنّما يكون تقديم أحدهما على الآخر ترجيحاً بلا مرجح لو لم يكن في هذا التقديم عيب إلاّ محذور هذا الترجيح بلا مرجّح، وذلك بأن كان كلّ من الخبرين تامّاً


(1) يرد هنا ـ أيضاً ـ إشكال إنكار الطولية بين المطابقية والالتزامية في الحجّيّة.

617

من باقي الجهات. وأمّا إذا كان تقديم أحدهما على الآخر لا يمكن لجهة اُخرى بخلاف العكس، فتقديم الآخر عليه ليس ترجيحاً بلا مرجّح وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ تقديم الدلالة المطابقية لأحد الخبرين على الدلالة الالتزامية للآخر في نفسه ليس فيه محذور، ولكنّ تقديم الدلالة الالتزامية لأحد الخبرين على المطابقيّة للاخر فيه محذور في نفسه، أي: حتّى لو جاز لنا تقديم الدلالة الالتزاميّة على المطابقية من دون ترجيح يبقى في نفس هذا التقديم إشكال، وهو أنّه لماذا نقدّم الدلالة الالتزامية لهذا الخبر على المطابقية لذاك الخبر ولا نقدّم عدلها وهي الالتزاميّة لذاك على المطابقيّة لهذا، فإنّ اختيار هذا التقديم دون ذاك التقديم ترجيح بلا مرجح، وتقديم كليهما غير ممكن؛ لما عرفت من أنّه لا يمكن الجمع بين الدلالتين الالتزاميتين في الحجّيّة: إمّا لاستلزام مخالفته التكليف القطعي، أو لتبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية، فإذا عرفنا أنّ تقديم الدلالة الالتزامية على المطابقية في نفسه فيه محذور بغضّ النظر عن أنّه ترجيح لها على المطابقية بلا مرجح، وتقديم المطابقية على الالتزامية ليس فيه محذور، تعيّن تقديم المطابقية، وخرج عن كونه ترجيحاً بلا مرجح(1).

 


(1) اعتُرض على اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّه بناءً على هذا البيان لو تعارض خبر واحد مع خبرين لزم تقديم الخبرين عليه؛ لأنّ كلّ واحد من الخبرين حينما نحسب حسابه مع ذاك الخبر الوحيد نرى أنّ الخبر الوحيد بغضّ النظر عن كون تقديمه على هذا الخبر ترجيحاً بلا مرجّح فيه نقص مستقلّ، وهو ابتلاؤه بالمعارضة للخبر الآخر. إذن فتقديم هذا الخبر على الخبر الوحيد يخرج عن كونه ترجيحاً بلا مرجّح.

فأجاب (رحمه الله) عن ذلك بأنّنا نحسب حساب الخبر الوحيد الذي هو حجّة لو خلّي ونفسه مع الجامع بين الحجّتين المتعارضتين معه، ونقول: إنّ تقديمه على الجامع بين الحجّتين ترجيح بلا مرجّح، فإنّه كما يمكنك ترجيح الجامع بين الحجّتين عليه كذلك يمكنك تقديمه على الجامع بينهما، وبالتالي تقديمه عليهما معاً، ولا أرجحّيّة لإحدى العمليتين على الاُخرى.

واُورد عليه (رحمه الله) بأنّ نفس البيان يأتي في طائفتين متعارضتين مع ابتلاء إحدى الطائفتين بالتعارض الداخلي، فيقال: إنّ أحد الشقيقين في داخل الطائفة المتعارضة يمكن تقديمه على شقيقه وعمّه، كما يمكن العكس.

فأجاب: بأنّ نفس هذا البيان يأتي في الشقيق الآخر، فإِعماله في أحدهما ترجيح بلا مرجّح، وفيهما معاً غير ممكن.

هذا، وقد ورد في كتاب السيد الهاشمي ـ حفظ الله ـ عن اُستاذنا الشهيد إبطال أصل هذا الوجه، بأنّ كلّ فرد من الطائفة المتعارضة له معارضان: أحدهما من نفس طائفتها، والآخر من الطائفة الثانية. وإطلاق دليل الحجّيّة لا يمكن أن يشمل الكلّ، وشموله لبعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح في عرض واحد، فتطبيق مشكلة الترجيح بلا مرجّح أوّلا على الطائفة المتعارضة ثمّ القول بأنّ الفرد المتعارض من الطائفة الثانية قد تخلّص من التعارض

618

وبكلمة اُخرى نقول(1) بالنظر إلى تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقية: إنّ اقتضاء الحجّيّة للدلالة الالتزامية لخبر وجوب الجمعة مثلا لو كان مانعاً عن فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر، لزم كون عدم فعليّة الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر موقوفاً على اقتضاء الحجّيّة للدلالة الالتزامية لخبر وجوب الجمعة، واقتضاء الحجّيّة لها موقوف على فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الجمعة؛ إذ لو لم تكن الدلالة المطابقية حجّة لم يكن بالإمكان حجّيّة الدلالة الالتزامية؛ لما عرفت من التبعيّة. وهذا معناه أنّ عدم فعليّة الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر موقوف بالواسطة على فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الجمعة، ونفس البيان يأتي في الطرف الآخر. وهذا معناه مانعيّة كلّ من الفعليتين لحجّيّة الدلالة المطابقية عن الاُخرى. وهذا يستبطن الدور المحال. إذن فلا يمكن مانعية كلّ من اقتضائي الحجّيّة للدلالتين الالتزاميتين عن حجّيّة الدلالة المطابقية في الخبر الآخر، ومانعية أحد الاقتضائين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح. إذن فشيء من الاقتضائين لا يصلح للمانعية. وهذا معناه حجّيّة الدلالتين المطابقيتين بلا أيّ مزاحم.

فتحصل من كلّ ذلك أنّنا لو لاحظنا دليلا لفظياً للحجّيّة، وغضضنا النظر عن تحكيم الارتكازات العقلائية ـ كما هو موضوع بحث الأصحاب ـ فما اختاروه من أنّ الأصل هو التساقط غير صحيح، بل الأصل في هذا القسم وهو ما لو كان التعارض فيه عرضياً وكنا نحتمل الترجيح في كلّ واحد منهما هو حجّيّة الدلالة المطابقية لكلا الخبرين، وعدم حجّيّة


بسقوط معارضه في نفسه ممّا لا وجه له.

ومن هنا انتقل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب هذا الكتاب من هذا الوجه إلى وجه آخر، وهو: أنّ العلم الإجمالي بسقوط إحدى الدلالتين من مجموع الدلالات الأربع منحلّ بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الدلالتين الالتزاميتين الترخيصيتين المولّد للعلم التفصيلي بسقوطهما؛ لأنّ حجّيّة إحدى الالتزاميتين بعينها ساقطة بمنجّزيّة العلم الإجمالي، وحجّيّة إحداهما لا بعينه لا أثر له؛ إذ لا يثبت بها إلاّ نفي أحد الوجوبين لا بعينه، وهو ثابت وجداناً بحسب الفرض للعلم بعدم ثبوت وجوبين، ولولاه لما كان تعارض بين الدليلين.

أقول: إنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو قلنا بعلّيّة العلم الإجمالي بوجوب الموافقة القطعية، وإلاّ فسقوط حجّيّة كلّ واحدة من الالتزاميتين بعينها إنّما يكون بلحاظ التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، لا بعلم تفصيلي بعدم حجّيّتهما في ذاتهما، وإذا كان كذلك فإعمال أثر التعارض أوّلا في الالتزاميتين بإسقاطهما، ثمّ القول بأنّ المطابقيتين قد تخلّصتا من المعارضة لا مبرّر له.

(1) جُعل هذا في نقل السيّد الهاشمي (حفظه الله) محاولة مستقلّة، وأبطلت بمنع الطولية في الحجّيّة بين الدلالتين المطابقية والالتزامية.

619

الدلالة الالتزامية لهما، إلاّ إذا كان الخبران ترخيصيّين، وكان عندنا علم إجمالي بالإلزام، فيسقطان، كما يسقط الاستصحاب في مستصحبي الطهارة عند العلم الإجمالي بالنجاسة.

نعم، لو خرجنا عن موضوع هذا البحث، وحكّمنا الارتكازات العقلائية ـ كما هو الصحيح ـ اتّجه هنا التساقط؛ لان التفكيك بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الحجّيّة في الأمارات ليس مقبولا عرفاً وإن كان مقبولا عرفاً في الاُصول. إذن فهذا التفكيك يكون على خلاف الارتكاز العقلائي.

القسم الثاني: أن يكون التعارض ذاتياً على أساس التناقض من قبيل: (يجب) و(لا يجب) وعندئذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجّيّة؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يعذّر، ولا يمكن الترجيح؛ لإنّه ترجيح بلا مرجّح. وأمّا التخيير فيمكن تصويره بإحدى صور:

1 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم حجّيّة الآخر.

2 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم صدق الآخر.

3 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر.

4 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط الالتزام به.

5 ـ حجّيّة الفرد المردّد.

6 ـ حجّيّة عنوان أحدهما أي الجامع بينهما.

7 ـ حجّيّة غير ما علم إجمالاً بكذبه.

والصحيح بطلان كلّ الصور فيتّجه التساقط.

والوجه في: البطلان أنّه يشترط في التخيير المعقول أربعة شروط، وكلّ صورة من هذه الصور فاقدة لأحد الشروط أو أكثر، وبتوضيح ذلك يتّضح ـ أيضاً ـ بطلان ما يمكن أن يفترض للتخيير من صور اُخرى. وبيان الحال مايلي:

إنّ غرض الاُصولي من التخيير هو رفع التعارض بين إطلاقي دليل الحجّيّة للخبرين المتعارضين بتقييد حجّيّة كلّ منهما بحالة دون الحالة الاُخرى مثلا، وتصوير تقييد الحجّيّة بنحو يعالج التعارض إنّما يتمّ لو اجتمعت شروط أربعة:

1 ـ أن لا تكون الحجّيّتان المشروطتان باقيتين على التعارض كالحجّيّتين المطلقتين، وإلاّ فإنّنا لم نصنع شيئاً.

2 ـ أن لا يكون الشرط في الحجّيّتين بنحو يوجب الاستحالة.

3 ـ أن لا تكون الحجّيّة المشروطة في أحد الطرفين منافية للحجّيّة المطلقة في الطرف

620

الآخر، وإلاّ وقع التعارض بين دلالة دليل الحجّيّة عليها وإطلاق دليل الحجّيّة في الطرف الاخر المقتضي للحجّيّة المطلقة له.

4 ـ أن تكون الحجّيّة المفروض إثباتها حصّة من حصص الحجّيّة التي يدلّ عليها دليل الحجّيّة العامّ، قيّد إطلاقه وبقيت تلك الحصّة من باب أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، ولا تكون حجّيّة مباينة للحجّيّة المستفادة من الدليل العامّ.

وكلّ واحدة من الصور الست التي عدد ناها تفقد ـ على الأقلّ ـ شرطاً واحداً من هذه الشروط، فإنّك ترى: أنّ الصورة الاُولى وهي حجّيّة كلّ منهما بشرط عدم حجّيّة الآخر فاقدة للشرط الثاني، فان معنى ذلك مانعيّة الحجّيّة الفعلية في كلّ واحد من الطرفين عن الحجّيّة الفعلية في الطرف الآخر، والتمانع من الطرفين يستبطن الدور المحال. نعم، هي واجدة للشرط الأوّل؛ إذ لا تعارض بين الحجّيّتين المشروطتين؛ لأنّ كلاًّ منهما مشروطة بعدم الحجّيّة الفعلية للآخر، ففعليّة الحجّيّة في أحد الطرفين ترفع موضوع الحجّيّة في الطرف الآخر، فلا معنى لوقوع التنافي بين حجّيّتين مشروطتين من هذا القبيل، كما هي واجدة للشرط الثالث، فلا منافاة بين حجّيّة مشروطة بعدم الحجّيّة الاُخرى في أحد الجانبين وحجّيّة مطلقة في الجانب الآخر، فإنّ الحجّيّة المطلقة في الجانب الآخر ترفع موضوع الحجّيّة في الجانب الأوّل، ولا منافاة بين صدق القضية الشرطية وعدم صدق شرطها، وكما هي واجدة للشرط الرابع؛ فإنّ الحجّيّة المشروطة بعدم حجّيّة اُخرى حصّة من الحجّيّة المطلقة التي دلّ عليها الدليل العامّ بإطلاقه، فبالإمكان تقييده وإخراج ما عدا تلك الحصّة عنه.

والصورة الثانية، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط كذب الآخر فاقدة للشرط الثاني، فإنّ حجّيّة من هذا القبيل غير معقولة للغويّتها، لأنّ كذب الآخر يساوق صدق الأولّ لفرض التناقض بينهما، فلو ثبت بدليل من الخارج صدق الأوّل كفانا ذلك الدليل، وإلاّ لم يصلنا موضوع حجّيّته، فلم تصل الحجّيّة، فلا أثر لها.

والصورة الثالثة، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر فاقد للشرط الثالث، فإنّ حجّيّة أحدهما بشرط عدم الالتزام بالآخر تنافي حجّيّة الآخر مطلقاً، أي: سواء التزم به أو لا، كما هي فاقدة للشرط الأوّل لو اُريد بالالتزام الموافقة الالتزامية؛ إذ بالامكان أن يترك الالتزام بكلّ واحد منهما، فيصبح كلاهما حجّة، فترجع المنافاة بين الحجيتين.

والصورة الرابعة، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط الالتزام به: إن اُريد بالالتزام فيها

621

الالتزام العملي، أي: أن يكون عمله بنحو ينسجم مع أحد الخبرين، فهي فاقدة للشرط الثاني؛ إذ حجّيّة شيء بشرط العمل به غير معقولة للّغوية، فإنّ الحجّيّة تكون للعمل، فإذا صارت بشرط العمل لم يبق لها أثر، وفاقدة للشرط الأوّل؛ إذ بالامكان أن يعمل عملا ينسجم مع كلا الخبرين، فإذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على عدم الوجوب، كان بإمكانه أن يفعل، والفعل ينسجم مع الوجوب ومع عدم الوجوب، فتجتمع الحجّيّتان، وترجع المنافاة بينهما. وإن اُريد بالالتزام فيها الموافقة الالتزامية فالإشكال الأوّل يرتفع، وقد يتصوّر أنّ الإشكال الثاني ـ أيضاً ـ يرتفع بدعوى عدم معقولية الالتزام بكليهما.

وعلى أيّ حال، فنحن نقول: سواء اُريد بالالتزام الموافقة الالتزامية أو الموافقة العملية لا أقلّ من عدم توفّر الشرط الثالث، فإنّ حجّيّة أحدهما بشرط الالتزام به تنافي حجّيّة الآخر مطلقاً، أي: سواء التزم بالأوّل أو لا، فبهذا البرهان نبطل تصوير التخيير بهذا النحو، لا بما ذكره السيّد الاُستاذ من استبعاد كون أمر الحجّيّة بيد الشخص، بحيث لو لم يلتزم لم يكن حجّة عليه، فإنّ التخيير بهذا النحو باطل بالبرهان القاطع كما عرفت، لا بمجرّد استبعاد من هذا القبيل.

والصورة الخامسة، وهي حجّيّة الفرد المردّد، والسادسة، وهي حجّيّة أحدهما الجامع بينهما، والسابعة، وهي حجّيّة غير ما علم كذبه إجمالا يرد عليها إشكال مشترك، وهو: أنّ النتيجة المقصودة من هذه الحجّيّة هل هي إيصال مفاد أحد الدليلين بعينه وإثبات الضيق، أو التوسعة للمكلّف، أو هي إيصال أحدهما إجمالا من دون تعيين أحد المفادين؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فهو غير معقول؛ إذ نسبة هذه الحجّيّة في مرحلة الايصال إلى كلّ من المفادين على حدّ سواء. وإن كان المقصود هو الثاني فوصول أحدهما إجمالا ثابت بالعلم الوجداني، فإنّ المكلّف يعلم إجمالا بالوجوب أو عدمه؛ لأنّهما نقيضان لا يرتفعان، والوصول الوجداني لمّا يتردّد بين الوجوب وعدمه لا ينجّز، ولا يعذّر، فكيف بالوصول التعبدي؟

وليس مقصودي أنّ إطلاق دليل الحجّيّة لا يشمل هذه الحجّيّة لأنّها لغو لا فائدة فيها، حتّى يقال: إنّ إشكال اللغوية إنّما يرد لو صدّر المولى تشريعاً خاصّاً أو بياناً خاصّاً لهذه الحجّيّة لا بالإطلاق، وإنّما المقصود أنّ هذه الحجّيّة لا تفيد الفقيه أيّ فائدة، وليست هي التي يُتكلّم عنها في مقام إثبات الحجّيّة التخييرية، وهدف البحث أن يُرى هل يستفاد من دليل الحجّيّة العامّ حجّيّة لأحد الخبرين أو كليهما في الجملة بحيث تؤثّر أثراً عملياً للفقيه، أو لا.

622

ويرد على كلّ واحدة من هذه الصور إشكال يخصّها.

فالصورة الخامسة، وهي حجّيّة الفرد المردّد تقرّب بأحد تقريبين:

الأوّل: تقريب إثباتي، بأن يقال: إنّ دليل الحجّيّة يكون تحت مفاده ثلاثة أفراد: حجّيّة هذا بعينه، وحجّيّة ذاك بعينه، وحجّيّة الفرد المردّد، فإذا سقطت الاُوليان بالتعارض بقيت الحجّيّة الثالثة، ولا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل الحجّيّة بلحاظ الحجّيّة الثالثة.

الثاني: تقريب ثبوتي، بأن يقال: إنّ ملاك الحجّيّة موجود في كلّ منهما، وإنّما لم تثبت الحجّيّة لهما لمانع، والمانع هو العلم الاجمالي، وهو إنّما يمنع عن حجّيّتهما معاً، ولذا لو دلّ دليل على حجّيّة أحدهما لم يمنع عنه العلم الاجمالي، فإذا منع المانع عن حجّيّتهما معاً فلا مانع من حجّيّة الفرد المردّد، فيكون حجّة؛ لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود.

ويرد على كلا التقريبين إشكال مشترك، وهو عدم معقوليّة الفرد المردّد، وإنّ التردّد يساوق الكلّيّة، ولا يجامع الجزئية والتشخّص على ما حقّق في محلّه، فيستحيل حجّيّة الفرد المردّد ثبوتاً، ولا يشملها دليل الحجّيّة إثباتاً، فالشرط الثاني والرابع من الشرائط الأربعة منتفيان.

ويرد على التقريب الأوّل: أنّنا لو سلّمنا معقوليّة الفرد المردّد فلسفياً، فلا نسلّم عرفاً كون حجّيّة الفرد المردّد داخلاً في اطلاق دليل الحجّيّة في مقابل حجّيّة هذا وحجّيّة ذاك، فالشرط الرابع منتف.

وعلى التقريب الثاني: أن وجود المقتضي وهو ملاك الحجّيّة أوّل الكلام، فإنّنا إنّما نستكشف وجوده بالدليل الاثباتي، ومع فرض سقوطه لا كاشف لنا عن وجود المقتضي والملاك ثبوتاً، إلاّ إذا بنينا على بعض مبان باطلة تأتي الإشارة إليه، من قبيل حجّيّة الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية، فدليل الحجّيّة وإن سقطت دلالته على الحجّيّة عن كونه حجّة، لكنّ دلالته على وجود ملاك الحجّيّة باقية على الحجّيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك.

والخلاصة: أنّ الشرط الرابع مفقود.

والصورة السادسة، وهي حجّيّة أحدهما الجامع بينهما تقرّب بأحد تقريبين:

الأوّل: أن الجامع بين الخبرين خبر، فإذا سقط إطلاق دليل الحجّيّة لهذا الخبر بالتعارض مع إطلاقه لذاك الخبر فليبقَ إطلاقه للجامع ويرد عليه: أنّ الجامع بين خبرين لا يخبرنا عن شيء أبداً مضافاً الى أنّ دليل حجّيّة الخبر إنّما انصبّ على كلّيّ الخبر بما هو حاك عن أفرده الخارجية، والجامع بين خبرين ليس أحد الأفراد الخارجية، فالشرط الرابع مفقود.

623

الثاني: أن كلاّ من الخبرين يدلّ بالمطابقة على مفاده، وبالتضمّن على الجامع بين مفاده ومفاد أخيه؛ إذ الجامع موجود في ضمن الفرد، فإذا سقط عن الحجّيّة بمقدار دلالته على الخصوصيّة للتعارض، فلتبقَ دلالته التضمّنيّة حجّة.

وفيه: أنّ هذا مبنيّ على قبول التفرقة عرفاً في مفاد دليل الحجّيّة بالنسبة للدلالات التضمّنيّة التي تجزّى بالتحليل العقلي، من قبيل أن يخبرنا المخبر بوجود زيد في الغرفة، ونحن نعلم بعدمه، فنجعل الخبر حجّة في أصل وجود إنسان في الغرفة، وهذا باطل جزماً وليس حاله حال التفكيك بين الأفراد التي يشملها العامّ مثلا في الحجّيّة، فالشرط الرابع مفقود بمعنى أنّ حجّيّة هذه الدلالة التضمّنية وإن كانت داخلة في إطلاق دليل الحجّيّة إلاّ أنّها إنّما كانت داخلة فيه في ضمن حجّية الخبر لاثبات الخصوصيّة، ولم تكن حجّيّته لاثبات الخصوصيّة وحجّيّته لإثبات الجامع فردين داخلين في إطلاق دليل الحجّيّة، إذا سقط أحدهما بقي الآخر.

والصورة السابعة يكون الإشكال الوارد عليها على الإطلاق منحصراً في الإشكال المشترك الذي بيّنّاه، وهو أنّ إيصال مفاد كلا الخبرين غير معقول، وإيصال مفاد أحدهما ثابت بالوجدان، ولا تفيدنا فائدة جديدة؛ وذلك للعلم بصدق أحدهما؛ لأنّ المفروض أنّهما متناقضان، إلاّ أنّنا لو تنزّلنا عن هذا الإشكال بافتراض عدم العلم بصدق أحدهما جاء إشكال آخر في بعض الحالات، وهو أنّه مع عدم العلم بصدق أحدهما نحتمل كذبهما معاً، وعلى تقدير كذبهما معاً يكون المعلوم بالإجمال في بعض الأحيان غير متعيّن حتّى في الواقع، فغير المعلوم بالاجمال ـ ايضاً ـ لا تعيّن له، فتستحيل حجّيّته ثبوتاً، ولا تكون حجّيّته داخلة تحت إطلاق دليل الحجّيّة إثباتاً، فالشرط الأوّل والرابع من الشروط الأربعة منتفيان.

القسم الثالث: أن يكون التعارض ذاتياً على أساس التضادّ.

وأقصد بالتضاد أن يمكن او يحتمل ارتفاعهما، ولا يمكن أو لا يحتمل اجتماعهما، وذلك في مقابل التناقض بمعنى عدم إمكان أو احتمال اجتماعهما أو ارتفاعهما، ومثاله: أن يدلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الأباحة بالمعنى الاخص، وهنا يتجه التخيير بصورته الثانية، أعني حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر، فإنّه شامل للشروط الاربعة.

أمّا الشرط الأوّل وهو عدم التنافي بين الحجّيّتين المشروطتين، فتقريب ثبوته على مبنى المشهور من كون التعارض بين الحجّيّتين قوامه الوصول، هو أنّ هاتين الحجّيّتين لم تصلنا إلاّ

624

فعليّة إحداهما على سبيل الاجمال لعلمنا بكذب أحدهما الذي هو شرط في حجّيّة الاخر، ولا يمكن أن تصلنا كلتاهما؛ إذ لا يكون ذلك إلاّ بوصول موضوعهما، وموضوع حجّيّة كلّ منهما مركَّب من الشكّ في صدقه وكذبه مع كذب الآخر، فلو وصلنا كذبهما لا نتفى الجزء الأوّل من موضوع الحجّيّة فيهما، وهو الشكّ، كما أنّه لو علمنا بكذب أحدهما تفصيلا بقي الآخر حجّة بلا معارض، وسقط ما علم بكذبه تفصيلا لزوال الشكّ.

وأمّا الشرط الثاني، وهو معقولية الحجّيّة فلأنّ حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر معقولة ولا تستلزم دوراً، ولا لغوية؛ إذ فرض كذب الآخر لا يساوق فرض صدق الأول حتّى تلغو حجّيّته المقيّدة بهذا الفرض.

وإمّا الشرط الثالث وهو عدم التنافي بين الحجّيّة المشروطة في أحدهما والحجية المطلقة في الآخر، فتقريب تحقّقه على المشهور ـ أيضاً ـ هو: أنّ الحجّيّتين يستحيل وصولهما معاً؛ إذ الخبر المفروض حجّيّته مطلقاً إن علم بكذبه فحجّيّته غير واصلة، وإن لم يعلم بكذبه فحجّيّة الآخر غير واصلة لاشتراطها بكذب هذا، ولم يعلم كذبه.

وأمّا الشرط الرابع وهو كون الحجّيّة المفروض ثبوتها داخلة في إطلاق دليل الحجّيّة، فمن الواضح أنّ حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الاخر حصّة من الحجّيّة مشمولة لإطلاق دليل الحجّيّة.

وأمّا التخيير بصورته الاُولى ففيه ما عرفت من الدور.

وأمّا التخيير بصورته الثالثة ففيه ما عرفت أيضاً في القسم الثاني.

وأمّا التخيير بصورته الرابعة فلا أقلّ من فقدانه للشرط الثالث كما عرفت في القسم الثاني.

وأمّا التخيير بصورته الخامسة والسادسة فيرد عليه ما كان يرد عليه في القسم الثاني، عدا الاشكال المشترك بين الصور الثلاث الأخيرة.

وأمّا التخيير بصورته السابعة فإن فرض عدم تعيّن المعلوم بالإجمال كذبه ـ على تقدير كذبهما معاً في الواقع ـ كما لو كان علمنا بكذب أحدهما من باب حكم العقل بعدم اجتماع الضدين، ورد عليه ما مضى من أنّ غير المعلوم إجمالا كذبه ـ أيضاً ـ لا تعيّن له، فلا معنىً لحجّيّته، ويكون الشرط الثاني والرابع منتفياً كما مضى. وإن فرض تعيّنه كما لو علم أنّ الراوي لأحدهما شيعيّ والراوي للآخر سنّيّ، وعلمنا بكذب ما رواه السنّيّ، لكننا لم نعرف أنّ أيّهما كان رواية شيعيّاً والآخر سنّيّاً مثلا، فهنا بالإمكان أن يفترض جعل الحجّيّة لغير ما

625

رواه السنّي، إلاّ أنّ هذا بحسب الروح والنتيجة يرجع إلى التخيير بصورته الثانية، إذ يصبح كلّ من الخبرين حجّة بشرط أن لا يكون هو المعلوم إجمالا كذبه المساوق لكون الآخر كذباً، فكأنّما صار كلّ منهما حجّة لدى كذب الآخر.

ثمّ إنّ القسم الأوّل من التعارض، أعني التعارض العرضي من قبيل (صلِّ صلاة الظهر) و(صلِّ صلاة الجمعة) قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة فيه ـ إذا فرض النظر إلى دليل لفظي للحجيّة بغضّ النظر عن تحكيم الارتكازات فيه ـ هو حجّيّة كلتا الدلالتين المطابقيّتين. أما لو تنزّلنا عن ذلك، وفرضنا أنّ الجمع بينهما في الحجّيّة لا يمكن للغفلة مثلا عمّا مضى من أنّ الدلالتين الالتزاميّتين متعارضتان، وأنّه متى ما وقع التعارض بين طائفتين مع كون إحداهما مبتلاة بالتعارض الداخلي بقيت الاُخرى سليمة عن المعارض، أو حكّمنا ما مضى من ارتكاز عدم التفكيك بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الحجّيّة، فعندئذ هل تصل النوبة إلى التخيير أو إلى التساقط؟

التحقيق: أنّه إن فرض العلم الإجمالي بصدق أحدهما التحق بالقسم الثاني، وجرى فيه ما مضى في القسم الثاني حرفاً بحرف، ولا يعقل فيه التخيير بنفس النكات التي أوجبت عدم معقوليّة التخيير في القسم الثاني. وإن فرض عدم العلم الاجمالي بصدق أحدهما التحق بالقسم الثالث في معقولية التخيير بالصورة الثانية لنفس النكات الماضية في القسم الثالث.

نعم، لا تتعقّل باقي صور التخيير إلاّ الصورة السابعة عند ثبوت التعيّن للمعلوم بالإجمال كذبه واقعاً حتّى على فرض كذبهما معاً، وقد عرفت أنّها بحسب الروح والنتيجة ترجع الى الصورة الثانية.

وعلى أيّ حال فنتيجة التخيير بمعنى حجّيّة كلّ منهما على تقدير كذب الآخر في القسم الثالث وفي القسم الأوّل عند التحاقه بالقسم الثالث، والتنزّل عن الجمع بينهما في الحجّية هي نفي الثالث للعلم بحصول شرط الحجيّة في أحدهما إجمالا للعلم بكذب أحدهما إجمالا، فنعلم بحجيّة أحدهما إجمالا، فبذلك يُنفى الثالث.

وكان في الفقه اتّجاه وميل عند الفقهاء إلى نفي الثالث، ولكن عجزوا في الاُصول عن تصوير وجه فنّي معقول لذلك، فقد يُتشبّث بمثل نفي الثالث بالدلالة الالتزامية وبقائها على الحجّيّة بعد سقوط المطابقية، والتخريج الفنّي للمطلب إنّما هو ما ذكرناه.

هذا كله لو تكلّمنا بالنظر إلى دليل لفظي للحجّيّة بغض النظر عن تحكيم الارتكازات العقلائية.

626

وأمّا بالنظر إلى تحكيم الارتكازات العقلائية فهذا التخيير ونفي الاحتمال الثالث وإن لم يكن على طبقه ارتكاز عقلائي، ولكن ليس الارتكاز العقلائي على خلافه أيضاً، بل العقلاء حياديّون تجاه هذه المسألة، ولا مانع لديهم من التخيير ونفي الثالث. إذن فنبقى نتمسّك بإطلاق الدليل المقتضي للتخيير بالنحو الذي وضّحناه.

هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى، أعني تعيين الأصل الأوّلي عند التعارض بلحاظ دليل الحجّيّة العامّ.

 

مقتضى الأصل الثانوي في الخبرين المتعارضين:

الجهة الثانية: في ما هو مقتضى الأصل الثانوي في الخبرين المتعارضين بلحاظ دليل الحجّية العامّ بعد فرض ضمّ دليل كالاجماع على عدم التساقط.

فقد ذكروا ـ بعد أن اختاروا أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو التساقط ـ: أنّه لو ضمّ إلى دليل الحجّيّة العام دليل كالإجماع على عدم التساقط، وصلت النوبة إلى أصل ثانوي، وعندئذ فلو فرضنا القطع بأنّ ملاك الحجّيّة على تقدير وجوده يكون في أحدهما المعيّن أقوى فقد ثبت الترجيح؛ إذ بدليل عدم التساقط اكتشفنا وجود الملاك، وقد علمنا أنّه على تقدير وجوده فهو أقوى في أحدهما المعيّن، إذن فهو المتعيّن للحجّيّة، ولو فرضنا القطع بالتساوي على تقدير وجود الملاك فقد ثبت التخيير. ولو فرضنا احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن دون الآخر دار الأمر بين الترجيح من طرف واحد والتخيير، فنحتاج إلى استيناف بحث عن أنّه لدى دوران الأمر في الحجّيّة بين التعيين والتخيير هل الأصل هو التعيين، أو التخيير؟ ولو فرضنا احتمال الترجيح في كل واحد من الطرفين فالأمر دائر بين التخيير والترجيح من كلا الطرفين، فأيضاً نحتاج إلى البحث عن أنّه عند دوران الأمر في الحجّية بين التعيين والتخيير فهل الأصل هو التعيين أو التخيير؟

أقول: قد عرفت ممّا مضى منّا أنّه في الأقسام الثلاثة الاُولى، أعني فرض العلم بالترجيح ـ على تقدير وجود الملاك ـ وفرض العلم بالتساوي ـ على تقديره ـ، وفرض احتمال الترجيح من طرف واحد ـ على تقديره ـ لا نحتاج إلى البحث عن افتراض قيام دليل خاصّ على عدم التساقط، بل نصل بنفس الاصل الأوّل إلى ما وصلوا اليه بعد ضمّ دليل خاص على عدم التساقط وضمّ هذا الدليل لا يصنع شيئاً، وذلك لما مضى من أنّه:

في القسم الأوّل نقطع بعدم حجّيّة ما ليس الملاك فيه أقوى: إمّا لعدم الملاك فيهما راساً، أو

627

لأقوائيّته في الآخر، فإطلاق دليل الحجّيّة للآخر لا معارض له، فثبت الترجيح بلا حاجة إلى أصل ثانوي وضمّ دليل على عدم التساقط وليس هناك ارتكاز عقلائي يمنع عن الترجيح.

وفي القسم الثاني يكون إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ منهما عند الالتزام بالآخر ساقطاً جزماً: إمّا لعدم الملاك، أو لعدم أقوائيّته فيه للقطع بالتساوي، فيكون إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ منهما عند الالتزام به ثابتاً بلا معارض، والالتزام بكليهما ليس عقلائياً، ولو ثبتت حجّيّة كلّ واحد منهما عند الالتزام به ثبت وجوب الالتزام بأحدهما تخييراً؛ لعدم احتمال اختصاص الحكم بمن اشتهى الالتزام دون من لم يشتهه. وبهذا ثبت التخيير بلا حاجة إلى أصل ثانوي.

وفي القسم الثالث يكون إطلاق دليل الحجّيّة لمحتمل الترجيح على تقدير الالتزام به بلا معارض، وبذلك نقطع بثبوت الملاك في الجملة، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير.

نعم، في القسم الرابع يكون الأصل الأوّلي هو التساقط ولو ـ على الأقل ـ في خصوص ما إذا كان التعارض بنحو التناقض(1)، فتصل النوبة إلى البحث عن الأصل الثانوي بعد فرض ضمّ دليل ناف للتساقط.

وعلى أيّ حال ففي القسم الثالث والرابع نحتاج إلى تنقيح ما هو مقتضى الأصل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّيّة.

ودوران الأمر بين التعيين والتخيير يكون في ثلاثة أبواب:

الأوّل: دوران الأمر بينهما في جعل التكاليف، كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر أو التخيير بينه وبين الجمعة. والحق فيه هو أصالة التخيير، لا التعيين؛ لأنّ الوجوب التعييني للظهر وإن كان مبايناً لوجوب الجامع بينهما، لكن أصالة البراءة عن وجوب الظهر لا تعارضها أصالة البراءة عن وجوب الجامع؛ إذ البراءة عن وجوب الجامع لا تجري؛ لأنّها لا ترفع كلفةً؛ لأنّ كلفة وجوب الجامع مقطوع بها؛ إذ هي مشتركة بين وجوب الجامع ووجوب الظهر، ولكنّ وجوب الظهر فيه كلفة زائدة وهي التقيّد بخصوص الظهر. وتفصيل الكلام موكول الى بحث الأقلّ والأكثر.


(1) وتفصيل الأمر ما مضى من أنّه في فرض التناقض يكون مقتضى الأصل التساقط المطلق، وفي فرض التضادّ يكون مقتضى الأصل ثبوت الحجّيّة بمقدار نفي الثالث، وفي أكثر من ذلك يكون مقتضى الأصل هو التساقط.

628

الثاني: دوران الأمر بينهما في عالم الامتثال، كما لو عجزنا عن الجمع بين واجبين: أحدهما محتمل الأهمّيّة دون الآخر. وهنا قالوا: إنّ الأصل هو التعيين؛ لكون الشكّ في مرحلة الامتثال. وتفصيل الكلام موكول إلى بحث التزاحم.

الثالث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّيّة، كما إذا كان لدينا خبران: أحدهما نحتمل فيه ثبوت الحجّيّة تعييناً كما نحتمل تساويهما في الملاك، فيدور الأمر بين أن يكون كلّ منهما حجّة تخييراً او يكون محتمل الأهمية هو الحجّة وحده تعييناً. وهذا هو الأمر المبحوث عنه في المقام.

وقد اختار المشهور القول بالأخذ بجانب التعيين سواء في الفرضية الثالثة أو الرابعة التي يدور الأمر فيها بين التعيينين والتخيير، وتكون الوظيفة في الفرضية الرابعة الاحتياط بالجمع بين التعيينين إن أمكن.

ولكن لا بدّ لنا من أجل التعرّف على حقيقة الأمر من النظر بدقّة إلى هذا الدوران، ولذا فسوف نتكلّم على فرضيّتين:

الاُولى: فرضيّة عدم انحلال العلم الاجمالي الكبير بوجود تكاليف ثابتة في أصل الشريعة الذي يقتضي التنجيز بالنسبة إلى جميع الشبهات الإلزاميّة.

الثانية: فرضيّة انحلال العلم الإجمالى الكبير بتكاليف معلومة تفصيلا بقدر التكاليف المعلومة إجمالا، وإجراء أصالة البراءة في الشبهات الاُخرى غير المعلومة، كما هو المعروف من أنّ المعلوم من التكاليف تفصيلا بما في الكتب الأربعة مثلا أو غيرها من الأمارات يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي الكبير:

أمّا على الفرضية الأولى، فإذا كان عندنا دليلان: أحدهما دلّ على الوجوب والآخر دلّ على عدم الوجوب(1) فهنا صور ثلاث:

فإمّا أن يكون الدليل الدالّ على الوجوب هو الدليل المتحمل الأقوائية، أو بالعكس، أو يكون كلّ منهما محتمل الأقوائية.

أمّا الصورة الاُولى، فالحكم فيها هو الإتيان بالفعل المحتمل الوجوب ولو احتياطاً؛ إذ حتّى لو التزم بخبر الإباحة لا بخبر الوجوب يبقى الوجوب منجّزاً عليه بالعلم الإجمالي. نعم،


(1) أمّا لو فرض أنّ الدليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة، فالعلم الاجمالي الكبير هنا ساقط عن التأثير؛ لأنه ليس بأكثر تأثيراً من فرض علم صغير بالإلزام المردّد بين وجوب شيّ وحرمته، فيلحق هذا بفرض انحلال العلم الاجمالي الكبير.

629

لا يصحّ منه الافتاء بالوجوب إلاّ بعد أخذه بخبر الوجوب؛ إذ مع الأخذ به يكون هو الحجّة قطعاً، سواء كانت الحجّيّة تعيينيّة أو تخييريّة. أمّا مع عدم الأخذ به فيقع الشكّ في حجّيّته، ومع الشكّ لا يصحّ الإفتاء بمضمونه.

وأمّا الصورة الثانية، فيصحّ فيها الإفتاء بمضمون دليل عدم الوجوب والعمل به إذا أخذ به؛ إذ مع الأخذ به يكون حجّة قطعاً، فيصحّ رفع اليد عندئذ عن تنجيز العلم الاجمالي بعد وصول الحجّة على الترخيص، ولا يصحّ الإفتاء بمضمون دليل الوجوب حتّى مع الأخذ به؛ للشك في حجّيّته. نعم، لو لم يأخذ بدليل نفي الوجوب لا بدّ له من الاحتياط في العمل؛ لأنه يشكّ عندئذ في حجّيّة دليل عدم الوجوب، ومع الشكّ لا يجوز رفع اليد عن العلم الإجمالي وتنجيزه.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي ما لو كان كلّ منهما محتمل الأقوائيّة، فمن ناحية العمل لا بدّ له فيها من الاحتياط بسبب العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه حتّى لو أخذ بدليل عدم الوجوب يبقى هذا الدليل غير ثابت الحجّيّة، فعليه أن يعمل بفرض الوجوب، ولكن ليس له الإفتاء بمضمون دليل الوجوب حتّى لو أخذ به؛ لإنّه حتّى مع الأخذ به يبقى غير ثابت الحجّيّة.

وأمّا على الفرضية الثانية، وهي فرضيّة انحلال العلم الإجمالى وجريان البراءة في الشبهات مطلقاً فتارةً نتكلّم في دليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب، واخرى نتكلّم في دليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة:

أما الفرض الأوّل، وهو ما لو كان أحدهما دالّا على الوجوب والآخر دالّا على عدم الوجوب، فتارةً يكون احتمال التعيين في طرف الوجوب، واُخرى في طرف الإباحة، وثالثة في كلا الطرفين.

فإن كان احتمال التعيين في طرف الوجوب فقد يقال انسياقاً مع المشهور الذين قالوا بالتعيين لدى دوران أمر الحجّيّة بين التعيين والتخيير: إنّ الأمر يدور بين حجّيّة تعيينيّة لدليل الوجوب وحجّيّة تخييرية، والحجّيّة التخييريّة تعني أحكاماً ثلاثة، وهي: حجّيّة دليل الوجوب بشرط الأخذ به، وحجّيّة دليل الإباحة بشرط الأخذ به، ووجوب الأخذ بأحدهما.

ومعنى وجوب الأخذ بأحدهما أنّه لو لم يلتزم بأحدهما فالواقع منجّز عليه، وليس معناه الوجوب النفسي الواقعي.

وهذا الحكم الثالث، أعني وجوب الالتزام بأحدهما إنّما احتجنا إليه لفرض انحلال العلم