106

هل التخيير استمراري؟

والآن وصلت النوبة إلى الحديث عن أنّ من قلّد فقيهاً فهل يجوز له الرجوع بعد ذلك إلى فقيه آخر غير أعلم أو لا؟

وأوّل ما يخطر بالبال بعد فرض إثبات التخيير كون التخيير استمراريّاً، إمّا تمسّكاً بإطلاق دليل التخيير لو كان الدليل لفظيّاً، أو بكون الارتكاز على التخيير الاستمراري لو كان الدليل عبارة عن الارتكاز، وإمّا تمسّكاً باستصحاب الحجّية التخييرية بعد الأخذ أو العمل بإحديهما، فالنتيجة جواز العدول.

وعمدة ما يمكن أن يذكر للقول بعدم جواز العدول أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المختار في أصل بحث التخيير عدم الدليل على التخيير وأن يكون مقتضى الأصل في الفتويين المتعارضتين هو التساقط ولكن المقلَّد اختار أحد الفقيهين للتقليد، لا لأجل التخيير بين المتساويين، بل لأجل أنّه كان أعلم، وبعد ذلك نما غير الأعلم في علمه مثلاً فتساويا، وهنا بما أنّنا لا نجزم أيضاً بالتساقط لدى التساوى إلّا من باب أنّه لا دليل على التخيير وأنّ مقتضى الأصل هو التساقط، فلا محالة نحتمل بقاء فتوى الذي قلّدناه على الحجّية ولو

107

من باب التخيير بينها وبين فتوى الآخر، فنثبت عندئذٍ حجّية فتواه بالاستصحاب في حين أنّ فتوى الآخر كانت مسبوقة بعدم الحجّية لا بالحجّية.

وهذا الوجه لا عيب فيه لو قبلنا مبناه، وهو التشكيك في أصل التخيير لدى التساوي. نعم، لو بنينا على ما بنى عليه السيّد الخوئي(رحمه الله) من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكمية بطل هذا الاستصحاب، لكنّنا لم نبن على ذلك. وعلى أيّة حال فالكلام في مبنى هذا الوجه.

والثاني: أن نكون قد استظهرنا في أصل بحث التخيير التخيير الأُصولي أو تردّدنا بين التخيير الأُصولي والتخيير الفقهي ونكون قد استظهرنا أو احتملنا أنّ الأخذ المأخوذ في موضوع الحجّية ليس الأخذ في كلّ مرّة مرّة بنحو الانحلال، بل هو أخذ واحد لتمام المدّة، فعندئذٍ تكون الفتوى التي أخذنا بها أوّلاً هي المتيقّن في الحجّية، والأُخرى مشكوكة الحجّية، ولا يصحّ استصحاب حجّية مشكوكة الحجّية بدعوى أنّها قبل الأخذ بالأُولى كانت حجّة حجّية تخييرية فالآن كما كان؛ وذلك لأنّ معنى الحجّية التخييرية بناءً على الحجّية الأُصولية هي قضية تعليقية، أي لو أخذنا بها لكانت حجّة، فاستصحاب الحجّية هنا

108

يبتلي بإشكال الاستصحاب التعليقي. إذاً لا يبقى لنا إلّا البقاء على تقليد من اخترناه منذ البدء.

وهذا الوجه أيضاً لا عيب فيه لو قبلنا مبناه، وهو عدم استظهار التخيير الفقهي، إلّا أنّ الكلام في المبنى كما عرفت.

والثالث: أنّ التبدّل من تقليد إلى تقليد قد يورّط الإنسان في المخالفة القطعية، ففي خصوص ما يوجد فيه هذا المحذور نقول فيه بعدم جواز العدول؛ وذلك كمن قلّد شخصاً يقول بالقصر في ظرف من الظروف فصلّى قصراً، ثم قلّد في يوم آخر من يقول بالتمام في نفس الظروف السابقة فصلّى تماماً، فهو يقطع ببطلان إحدى الصلاتين، بل قد يؤدّي ذلك إلى المخالفة التفصيلية، كمن قلّد رأي القصر في ظُهره ثم قلّد رأي التمام في نفس تلك الظروف في صلاة العصر، فهو عندئذٍ يقطع ببطلان صلاة العصر؛ إمّا لبطلان الظهر المستتبع لبطلان العصر أو لبطلان العصر ابتداءً.

ولا يخفى أنّ المهمّ في هذا الوجه هو مسألة لزوم المخالفة القطعية بالعلم الإجمالي، لا المخالفة القطعية التفصيلية؛ لأنّ الجواب على لزوم المخالفة القطعية التفصيلية واضح، وذلك لأنّنا لو بنينا على كون الإجزاء في المقام ظاهريّاً فلو صلّى الظهر مثلاً قصراً بتقليد من

109

كان يرى القصر ثمّ أراد أن يصلّي العصر بتقليد من يرى في نفس الظروف التمام لابدّ له من إعادة الظهر تماماً، لا لعدم إجزاء ما أتى به من القصر لصلاة الظهر بحيث لو ترك الإعادة لعوقب على ترك صلاة الظهر، بل لأنّه لو لم يعد الظهر لقطع ببطلان عصره لفقدانه لأحد الشرطين يقيناً إمّا شرط القصر أو شرط الترتّب على الظهر، فالمهمّ في هذا الوجه هو لزوم المخالفة القطعية الإجمالية في مثل صلاتين غير مترتّبتين.

هذا، ولزوم مخالفة العلم الإجمالي مخالفة قطعية واضح في مثل القصر والتمام؛ للقطع الخارجي بوجوب أحدهما.

وقد يتّفق أنّه لا يوجد قطع خارجي بذلك، كما لو اختلف الفقيهان في وجوب الجهر أو الإخفات في صلاة الظهر يوم الجمعة، فأحدهما أفتى بالجهر والآخر بالإخفات، واحتمل المقلّد أن يكون حكم الله الواقعي في صلاة الظهر يوم الجمعة هو التخيير بين الجهر والإخفات، فهنا قد يقال: إنّه لو قلّد في جمعة من يقول بالإخفات وفي جمعة أُخرى من يقول بالجهر لم تلزم من ذلك مخالفة قطعية؛ لاحتمال كون الجهر والإخفات كلاهما صحيحاً.

ولكن بناءً على أنّ الأمارتين المتعارضتين تكفيان _ حتّى لو قلنا

110

بالتساقط _ لنفي الثالث وهو في المقام التخيير، فهو يعلم علماً إجماليّاً تعبّديّاً بوجوب الجهر أو الإخفات، فهو مرّة أُخرى يتورّط في مخالفة العلم الإجمالي مخالفة قطعية.

وقد علّق السيّد الخوئي(رحمه الله) على هذا الوجه، أعني لزوم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي أو التفصيلي:

أوّلاً: بالنقض بأنّ هذا العلم بالمخالفة يحصل حتّى في فرض وجوب العدول، كما لو أصبح الثاني أعلم، فوجب العدول إليه.

وثانياً: بالحلّ بأنّ العدول إن كان في داخل الوقت فبناءً على عدم إجزاء التقليد السابق _ كما هو الصحيح _ تجب عليه إعادة العمل السابق، ولا يتحقّق علم بالمخالفة، وبناءً على الإجزاء _ كما نقول به فيما يكون مورداً لحديث «لا تعاد» _ يكون العمل السابق صحيحاً، فأيضاً لا يوجد علم بالمخالفة، لا إجمالي ولا تفصيلي، فحتّى لو كانت الصلاتان مترتّبتين كالظهر والعصر وقلّد في الأُولى من قال بالقصر وفي الثانية من قال بالتمام لم يخلّ الترتّب بصلاة عصره؛ لأنّ المفروض أنّ صلاة ظهره محكومة بالصحّة، فالترتّب محرز.


(1) راجع التنقيح، ج1، ص130 _ 131.

111

وإن كان في خارج الوقت فالرأي الثاني إن لم يكن مشتملاً على الإفتاء ببطلان العمل وفق الرأي الأوّل وإنّما كان اقتصاراً على ما هو ثابت الصحّة عنده وتجنّباً عن العمل وفق الرأي الأوّل من باب عدم ثبوت صحّته عنده فلا قضاء عليه؛ لأنّ القضاء بأمر جديد، وموضوعه الفوت، ولم يثبت الفوت، ولا يوجد هنا علم بالمخالفة، وإن كان مشتملاً على الإفتاء ببطلان العمل وفق الرأي السابق فعليه القضاء؛ لأنّنا لا نقول بالإجزاء، وبالتالي لا يتحقّق العلم بالمخالفة، وإن قلنا بالإجزاء فمعنى الإجزاء صحّة العمل السابق رغم انكشاف الخلاف، ومعه أيضاً لا يوجد علم بالمخالفة.

أقول: إنّ كلام السيّد الخوئي(رحمه الله) في المقام مبتن أوّلاً: على فرض الإجزاء _ على القول به _ إجزاءً واقعيّاً فيصبح العمل السابق صحيحاً مطلقاً، ولهذا يقول(رحمه الله): إنّه بناءً على الإجزاء لا يوجد مبرّر لتحقّق العلم الإجمالي أو التفصيلي بالمخالفة؛ لأنّ العمل السابق أصبح صحيحاً، فحتّى لو كان العمل اللاحق مشروطاً بالترتّب على السابق فالشرط محرز، فلا مخالفة معلومة في فرض الصلاتين المترتّبتين، ولا في غير المترتّبتين.

أمّا لو أفتينا بالإجزاء الظاهري فالإجزاء لا يبقى له أثر في نفي العلم

112

بالمخالفة، فإنّه يعلم ببطلان إحدى الصلاتين لا محالة، ويعلم ببطلان الصلاة الثانية إذا كانتا مرتّبتين؛ وذلك لأنّ الإجزاء الظاهري لا يصحّح الواقع، فيبقى عالماً بأنّ إحدى الصلاتين فاقدة شرط صحّتها الواقعية.

وثانياً: على فرض ملاحظة العلم الإجمالي الذي يحصل أخيراً بسبب العدول بأنّه إمّا أنّ عمله الأوّل باطل أو عمله الثاني باطل، ولهذا يقول: أنّه بناءً على عدم الإجزاء لا يوجد إشكال في المقام؛ لأنّه يعيد العمل الأوّل في داخل الوقت ويقضيه في خارج الوقت لو كانت الفتوى الثانية تثبت بطلان العمل السابق.

وهذا يعني في الحقيقة: أنّه لو قصد العلم الإجمالي بوجوب القضاء أو الإعادة عليه للعمل الأوّل أو بطلان العمل الثاني فالجواب: أنّ القضاء أو الإعادة ثابت عليه بنفس الفتوى الثانية، فأحد طرفي العلم الإجمالي قد تنجّز عليه بخصوصه، وبه ينحلّ العلم الإجمالي. ولو قصد العلم الإجمالي ببطلان عمله الأوّل الذي انتهى وقته أو عمله الثاني فهذا علم مردّد بين ما خرج عن محلّ الابتلاء، وهو العمل الأوّل _ أمّا القضاء فبأمر جديد _ وما هو داخل في محلّ الابتلاء وهو العمل الثاني وهذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً.

أقول: إنّ بالإمكان ملاحظة العلم الإجمالي بلحاظ الزمان الأوّل

113

لا بلحاظ الزمان الثاني، فهو من أوّل الأمر يعلم إجمالاً بأنّه إمّا أنّ القصر في عمله الحالي باطل أو أنّ التمام في عمله الاستقبالي باطل، والعلم الإجمالي في التدريجيات منجَّز.

وهذا الإشكال يبقى مسجَّلاً حتّى لو قلنا بالإجزاء وبأنّ الإجزاء إجزاء واقعي، فإنّ واقعية الإجزاء يجب أن تفسّر بما لا ينافي كون حجّية الفتوى حكماً ظاهريّاً، وذلك لا يكون إلّا بمعنى الالتزام بأنّ العمل بالفتوى المخالفة للواقع يوجب فوات ملاك الواقع أو فوات جزء من الملاك، ولكن بما أنّه لا يمكن تداركه أصبح العمل مجزياً. أمّا لو فرض أنّ الإجزاء الواقعي كان على أساس إدراك تمام الملاك بالعمل بتلك الفتوى فهذا يعني موضوعية الفتوى لتبدّل الحكم الواقعي لا حجّية الفتوى ظاهراً، وهذا خلف.

وعليه فحتّى مع فرض الإجزاء الواقعي يكون منذ البدء عالماً إجمالاً بأنّه إمّا أنّه ملزم واقعاً في الزمان الأوّل بالتمام، أو أنّ التمام في الزمان الثاني أيضاً باطل، وهذا علم إجمالي منجّز لا تجوز مخالفته القطعية.

وقد اتّضح بما ذكرناه أيضاً الجواب على النقض بموارد وجوب العدول، فإنّ وجوب العدول عادةً يكون أمراً طارئاً غير مترقّب منذ

114

البدء، في حين أنّ جواز العدول في الزمان الثاني من باب استمرارية التخيير غالباً واضح منذ الزمان الأوّل، فالمكلّف منذ البدء ليست أمامه وجوب العدول في الزمان الثاني حتّى يعارض جواز تقليد للأوّل في الزمان الأوّل بلحاظ ما لديه من العلم الإجمالي، وحينما يحين حين وجوب العدول يكون الطرف الأوّل خارجاً عن محلّ ابتلائه.

على أنّه في مورد ما إذا فرض وضوح وجوب العدول في الزمان الثاني منذ الزمان الأوّل لو فرض تقليده للأوّل واجباً في الزمان الأوّل أمكن القول _ بناءً على كون محذور الترخيص في المخالفة القطعية إثباتيّاً لا ثبوتيّاً _ بأنّ المحذور الإثباتي إنّما يكون في مورد الحكم الترخيصي المؤدّي إلى المخالفة القطعية، دون مورد تحقّق ملاك الإلزام الظاهري في حكمين إلزاميين أدّيا صدفة إلى المخالفة القطعية لعلم إجمالي.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّه لا مفرّ من إشكال الابتلاء بالمخالفة القطعية في المقام في فرض استمرارية التخيير ݢإلّا بناءً على القول بأنّ الموافقتين الاحتماليتين المقترنتين بالمخالفتين الاحتماليتين ليست بأولى من المخالفة القطعية المقترنة بالموافقة القطعية.

أمّا لو قلنا: إنّ الترخيص في المخالفة القطعية غير ممكن ثبوتاً أو

115

أنّه غير مقبول عرفاً في مقابل المخالفة الاحتمالية المقترنة بالموافقة الاحتمالية رغم افتراض المخالفة القطعية مقترنة بموافقة قطعية فإشكال العلم الإجمالي بالمخالفة يبقى في المقام بلا جواب.

ولنختم الحديث عن مسألة العدول ببيان ما هو الموضوع لعدم العدول لو آمنّا به.

فنقول: إنّ هذا يختلف باختلاف مدارك المنع عن العدول، وقد ذكرنا لذلك مدارك ثلاثة:

فعلى المدرك الأوّل وهو: استصحاب حجّية فتوى من كان أعلم مقترناً بعدم ثبوت حجّية فتوى من ساواه أخيراً ليس في الحقيقة للتقليد معنى يفترض هو الموضوع لحرمة العدول، بل يكون الموضوع لعدم جواز تقليد الثاني مجرّد أن أصبح الأوّل أعلم قبل الثاني، فحتّى من لم يكن قد قلّد ذلك الأعلم ولكن كان يجوز له تقليده يستصحب الآن جواز تقليده فيقلّده ولا يقلّد الثاني.

وعلى المدرك الثاني وهو: كون التخيير أُصوليّاً موضوعه الأخذ يصبح الأخذ هو موضوع عدم جواز العدول.

وعلى المدرك الثالث وهو: العلم الإجمالي بالمخالفة يصبح موضوع عدم جواز العدول هو العمل بفتوى الأوّل.

116

مسألة 12: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط ويجب الفحص عنه(1).


تقليد الأعلم

(1) نحن نفترض أوّلاً أنّ المقلَّد شَخَّصَ الأعلم وأنّه عرف الخلاف بينه وبين غير الأعلم فهل يجب عليه تقليد الأعلم أو لا؟

تارة نفترض أنّ المقلّد هو الذي يريد أن يشخّص وظيفته في التقليد باعتبار أنّ التقليد في أصل التقليد لا معنى له، وعندئذٍ إن قطع بجواز أصل التقليد له لأحدهما وتردّد بين التعيين والتخيير كان عليه _ إحرازاً لفراغ الذمّة _ أن يقلّد الأعلم في أصل جواز تقليد غير الأعلم، فإن سمح له الأعلم بذلك صحّ له أن يقلّد غير الأعلم إن شاء، وإن أوجب عليه تقليد الأعلم بقي على تقليد الأعلم في سائر أعماله. وإن لم يقطع بجواز ذلك واحتمل وجوب الاحتياط ولو بالأخذ بأحوط القولين احتاط أيضاً بتقليد الأعلم في أصل جواز تقليد الأعلم.

وأُخرى نفترض أنّ المقلّد رجع إلی مجتهد في وجوب تقليد الأعلم وعدمه وثوقاً به واعتماداً عليه، فعندئذٍ يقع على عاتق هذا المجتهد

117

تمييز ماذا ينبغي له أن يفتي به، هل يفتي بوجوب تقليد الأعلم أو لا؟

وهنا نقول: تارةً نبحث المسألة بناءً على أصالة التساقط في فرض التساوي، وأُخرى بناءً على التخيير في فرض التساوي.

أمّا بناءً على التساقط لدى التساوي فتارة نفترض أنّ دليلنا على أصل التقليد هو الارتكاز، وأُخرى نفترض أنّ دليلنا على أصل التقليد هو الدليل اللفظي.

أمّا بناءً على الارتكاز فبعد فرض التساقط في الارتكاز لدى التساوي لا يكون مجرّد الأعلمية ولو بمقدار ضئيل منجياً لفتواه عن التساقط في الارتكاز، وإنّما الذي ينجي فتواه عن التساقط في الارتكاز إذا كانت أعلميّته وترجيحه على غير الأعلم بفاصل كبير ملحوظ بحيث يفترض أنّه بتزاحم رأيه مع رأي غير الأعلم يكون رأي غير الأعلم هو الذي يسقط عن الكاشفية ورأي الأعلم يبقى على الكاشفية بالمستوى المألوف لأدنى درجات الاستنباط غير المبتلى بالمعارض؛ وذلك بأن يكون الفاصل في الفقه والفهم بين الأعلم وغير الأعلم بمقدار كاف لصدق الاجتهاد لو كان هذا الفاصل فحسب موجوداً في أحد.

وأمّا بناءً على الدليل اللفظي للتقليد، فإن آمنّا بالارتكاز أيضاً وكان للارتكاز جانب سلبي مانع عن التخيير لدى التساوي فهنا

118

يأتي عين ما شرحناه من أنّ الأعلمية المختصرة لا تنجي فتواه عن التساقط؛ لأنّ الارتكاز في هذا الفرض أيضاً يوجب التساقط، وظهور الدليل اللفظي أيضاً يكون محكوماً للارتكاز، وإنّما الذي يوجب إنقاذ فتواه من التساقط لدى الارتكاز العقلائي هو الفاصل الكبير في الفقه وفهم الأحكام.

أمّا إذا لم يفرض للارتكاز جانب سلبي أو لم نكن نؤمن بالارتكاز وكان دليلنا على التقليد هو الدليل اللفظي فحسب فهنا قد يتصوّر أنّ الفارق المختصر بين الأعلم وغيره كافٍ لوجوب تقليد الأعلم؛ وذلك لأنّ سقوط فتوى غير الأعلم قطعي على كلا الفرضين، أعني فرض التساقط وفرض ترجيح رأي الأعلم، فيصبح رأي الأعلم بمنجىً عن مشكلة التعارض، وهو غير مقطوع السقوط؛ لمكان احتمال الترجيح على الأقلّ، فنتمسّك لإثبات حجّيته بإطلاق الدليل.

إلّا أنّ الظاهر أنّ هذا البيان غير صحيح؛ فإنّ هذا التقريب المقتضب يجب أن يرجع إلى أحد بيانات ثلاث كلّها غير صحيحة:

البيان الأوّل: أن يفترض أنّ الدليل اللفظي قد انعقد له الظهور في الحجّية بالنسبة لكلتا الفتويين. وعندئذٍ نقول: إنّ ظهوره في الحجّية بالنسبة لفتوى الأعلم ساقط عن الحجّية يقيناً، وظهوره في الحجّية

119

بالنسبة لفتوى الأعلم غير معلوم السقوط فنأخذ في ذلك بقانون حجّية الظهور.

إلّا أنّ هذا البيان واضح البطلان؛ بداهة عدم انعقاد الظهور في الحجّية لكلا الرأيين المتضادّين؛ لأنّ عدم إمكان حجّية كلا الرأيين المتضادّين ارتكازي ارتكازاً كالمتّصل؛ وذلك مانع عن انعقاد الظهور.

البيان الثاني: أن يقال: إنّ أصل ظهور دليل التقليد لفتوى غير الأعلم مقطوع السقوط، سواء كان ذلك على فرض التعارض والتساقط أو على فرض ترجيح فتوى الأعلم، وعليه فظهور دليل التقليد في حجّية فتوى الأعلم قد نجی من المعارض الداخلي، فلا مبرّر لسقوطه، فيبقى دالّاً على حجّية فتوى الأعلم.

إلّا أنّ هذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ سقوط ظهور الدليل بلحاظ فتوى غير الأعلم لم يكن بسبب وضوح نكتة تخصّها، بل كان بسبب وضوح الجامع بين ما يخصّها وهو مرجوحيّتها وما يعمّها ويعمّ الفتوى الأُخرى، وهو التمانع في الحجّية، وبما أنّ أحد فردي هذا الجامع يشمل فتوى الأعلم أيضاً فلا محالة يسري الإجمال إلى إطلاق الدليل لفتوى الأعلم أيضاً.

البيان الثالث: أن يقال: إنّ ظهور الدليل في حجّية كلّ من الفتويين

120

على الإطلاق وإن كان ساقطاً بالتعارض لكن ظهوره في حجّية كلّ واحدة من الفتويين على تقدير عدم حجّية الأُخرى ثابت على حاله، وبذلك تحصل لنا قضيّتان شرطيّتان:

الأُولى: أنّ فتوى زيد مثلاً حجّة على تقدير عدم حجّية فتوى عمرو.

والثانية: أنّ فتوى عمرو مثلاً حجّة على تقدير عدم حجّية فتوى زيد.

والشرط في القضية الشرطية بلحاظ الأعلم محرز؛ للقطع بعدم حجّية فتوى غير الأعلم إمّا لسقوطها وحدها أو لسقوط المتعارضين، فالمشروط أيضاً محرز، وهو حجّية فتوى الأعلم.

وهذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ القضية الشرطية المستفادة في المقام ليست هي حجّية فتوى الأعلم على كلّ تقادير سقوط فتوى غير الأعلم حتّى تقدير سقوطه بالتمانع، بل هي حجّية فتوى الأعلم على تقدير مانع عن الحجّية خاصّ بفتوى غير الأعلم، وهذا التقدير غير محرز.

إذاً فحتّى بناءً على الدليل اللفظي أيضاً لا نستطيع أن نثبت حجّية رأي الأعلم على الإطلاق.

نعم، لو كان الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً بنحو كان يوجب

121

سقوط رأي غير الأعلم عن الكاشفية وعدم سقوط رأي الأعلم عن الكاشفية، وذلك بفرضيّة أنّ مقدار الترجيح كان بنفسه بقدر ملاك الاجتهاد الكامل، فعندئذٍ لا إشكال في أنّ دليل التقليد يكون منصرفاً إلى رأي الأعلم.

هذا كلّه بناءً على الإيمان بالتساقط لدى التساوي.

وأمّا بناءً على التخيير لدى التساوي، فإن كان دليل التخيير هو الارتكاز الممضى بعدم الردع أو المحقَّق لظهور الدليل اللفظي في التخيير فالظاهر أنّ هذا الارتكاز يشمل فرض الفاصل المختصر بين الأعلم وغير الأعلم. نعم، لا شكّ في أنّه لا يشمل فرض الفاصل الكبير بينهما الذي يوجب سقوط خصوص فتوى غير الأعلم عن الكاشفية دون الأعلم.

وإن كان دليل التخيير هو فرض الإطلاق البدلي للدليل اللفظي لحجّية فتوى الفقيه أو الدليل اللفظي الوارد في الأخبار العلاجية فأيضاً يكون هذا الدليل ثابتاً لدى فرض الفاصل المختصر بينهما، ويثبت التخيير عندئذٍ رغم الأعلمية المختصرة، أمّا مع الفاصل الكبير بالنحو الذي أشرنا إليه فالإطلاق منصرف عن فتوى غير الأعلم إلى فتوى الأعلم لا محالة.

122

ثم إنّ هناك طريقاً آخر لتعيين الأعلم للتقليد ولو كانت الأعلمية بدرجة مختصرة، إلّا أنّ هذا الطريق مبتن على مبان قد ظهر من بحثنا بطلانها، فيكون هذا الطريق في الحقيقة فرضاً في فرض. وحاصله أن يفترض أوّلاً: قيام دليل لبّي لدى التساوي على عدم التساقط من إجماع أو ارتكاز أو نحو ذلك، وثانياً عدم وجود دليل لفظي على التخيير لدى تعارض الفتويين، وثالثاً عدم وضوح الارتكاز على التخيير إمّا مطلقاً أو في خصوص ترجيح أحدهما في العلم، وبعد كلّ هذا يصبح الأمر لدى أعلميّة أحدهما دائراً بين التعيين والتخيير، وبما أنّ أصل التكاليف منجّزة سابقاً إمّا بالعلم الإجمالي أو بالشكّ قبل الفحص فالأصل هو التعيين، أعني وجوب تقليد الأعلم.

هذا تمام الكلام وفق القواعد في فرض معرفة الأعلم ومعرفة الاختلاف في الفتوى.

أمّا لو عرفنا الاختلاف في الفتوى ولم نعرف فرض الأعلمية فبناءً على التساقط لدى التساوي يجب الفحص عن الأعلم أو الأخذ بأحوط الأقوال؛ إذ بدون ذلك لا يحرز العمل بالحجّة، لأنّ المفروض هو التساقط لو كانوا متساوين.

وبناءً على التخيير يكون الشكّ في الأعلمية بدرجة توجب

123

الترجيح مساوقاً للشكّ في المعارض؛ لأنّ فتوى المساوي ليست معارضة في الحجّية، لأنّنا فرضنا التخيير وقد مضى أنّ الفحص عن المعارض في باب الأمارات لو لم يفترض علم إجمالي بوجود المعارض غير واجب.

وأمّا لو لم نعرف الاختلاف في الفتوى ولو بعلم إجمالي فحتّى لو عرفنا بوجود الأعلمية بالدرجة التي توجب الترجيح لدى الاختلاف بل وحتّى لو عرفنا الأعلم بالذات لم تسقط فتوى غير الأعلم عن الحجّية؛ لأنّ مجرّد احتمال المعارض لا يسقط الأمارة عن الحجّية.

هذا. وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه حتّى الآن: أوّلاً: أنّ الأعلمية إنّما يثبت لها الأثر في إبطال التساقط أو إبطال التخيير لو كانت بفاصل كبير ملحوظ، أمّا لو كانت بفاصل مختصر فلا أثر لها ما دمنا نمشي في البحث وفق القواعد العامّة. وثانياً: أنّه مع عدم معرفة وجود الأعلم أو عدم معرفة الاختلاف لا يجب الفحص. نعم، مع فرض معرفة الاختلاف والعلم الإجمالي بوجود الأعلمية بالمقدار الذي يوجب الترجيح يجب الفحص أو الاحتياط بالأخذ بأحوط الأقوال.

ولكن كلّ هذا إنّما أتممناه وفق القواعد العامّة.

وفي المقابل قد يدّعى ورود بعض النصوص الخاصّة الدالّة على

124

لزوم اتّباع الأعلم، فلو تمّ ذلك فقد يثبت به أوّلاً: أنّ الأعلمية المختصرة أيضاً واجبة الاتّباع؛ وذلك تمسّكاً بإطلاق دليل شرط الأعلمية. وثانياً: أنّ الفحص عنه واجب لدى الشكّ في الأعلمية؛ لأنّ الحجّية اختصّت به فيما بين المتعارضين. وإليك بعض تلك النصوص:

1_ مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها قوله(علیه السلام): «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

2_ ما عن داود بن الحصين بسند تام عن الصادق(علیه السلام) وفيه: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر».

3_ ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبدالله(علیه السلام) وفيه: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله، فيمضي حكمه» . وفي السند ذبيان بن حكيم.

4_ ما في عهد الإمام(علیه السلام) إلى مالك الأشتر: «ثم اختر للحكم بين


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص106، الباب9 من أبواب صفات القاضي، ح1.

(2) المصدر السابق، ص113، ح20.

(3) المصدر السابق، ص123، ح45.

125

الناس أفضل رعيّتك في نفسك».

5_ مرسلة الاختصاص قال رسول الله؟ص؟: «من تعلّم علماً ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو يصرف به الناس إلی نفسه يقول: أنا رئيسكم فليتبوّء مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة».

6_ مرسلة تحف العقول عن الصادق(علیه السلام): «من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ».

7_ ما روي عن رسول الله؟ص؟: «من تقدّم على قوم من المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين».

8_ مرسلة عيون المعجزات عن الإمام الجواد(علیه السلام) مخاطباً لعمّه عبدالله بن موسى حينما أجاب على أسئلة القوم بغير الصحيح:


(1) نهج البلاغة، ص434، الرسالة 53.

(2) بحار الأنوار، ج2، ص110، الباب 15 من كتاب العلم، ح16.

(3) تحف العقول، ص375.

(4) تمهید الأوائل وتلخيص الدلائل، ص104.

126

«يا عمّ، عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمݧَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأُمّة من هو أعلم منك؟».

9_ ما روي عن أبي عمر زاذان من كلام للحسن(علیه السلام) جواباً لمعاوية وفيه: «وأُقسم بالله لو أنّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله؟ص؟ لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، وما طمعتَ فيها يا معاوية، فلمّا خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها، فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله(علیه السلام): ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا...».

وسند الحديث ما يلي: أمالي الطوسي عن جماعة عن أبي المفضّل عن عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله العرزمي عن أبيه عن عمّار أبي اليقظان عن أبي عمر زاذان قال: «لمّا وادع الحسن بن علي(علیه السلام): معاوية...»، وهذا السند ضعيف من عدّة جهات، فأبو المفضّل الشيباني مضعّف من قبل الأصحاب، ومحمد بن عبيدالله العرزمي لم يوثّق، وعمّار أبو اليقظان إن كان هو الأسدي فلا توثيق له، وإن كان هو الساباطي فهو موثّق.


(1) بحار الأنوار، ج50، ص100، الباب5 من أبواب تاریخ الإمام التاسع و...، ح12.

(2) المصدر السابق، ج44، ص63، الباب 19 من أبواب ما يختص بالإمام الزکي، ح12.

127

10_ ما عن علي(علیه السلام) في نهج البلاغة: «إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به...».

11_ ما عن علي(علیه السلام) في نهج البلاغة: «أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه...».

والظاهر أنّ هذه الروايات عدا الروايات الأربعة الأُولى راجعة إلى الإمامة أو الولاية، وإسراء مفادها إلى التقليد بما هو مجرّد الرجوع إلى أهل الخبرة في الفتاوى الفقهية لا مبرّر له.

والروايات الثلاث الأُولى واردة في الترافع لدى حاكمين واختلافهما في الحكم، فمن المحتمل أنّ الترجيح الوجوبي بالأعلمية مثلاً كان لأجل الوصول إلى فصل النزاع؛ إذ لولا هذا الترجيح لبقي النزاع قائماً، ولا مبرّر للتعدّي إلى المقام.

والرواية الرابعة واردة في القضاء، ولا أظنّ أنّ المقصود بأفضل الرعيّة أفضلهم في العلم بالفقه، بل الظاهر أنّ المقصود أفضلهم من حيث مجموع الكمالات المؤثّرة في باب القضاء، من العلم والموضوعية في القضاء، والصبر والحلم أمام مشاكل القضاء،


(1) نهج البلاغة، ص484، الحكمة 96.

(2) المصدر السابق، ص247، الخطبة 17.

128

والورع والتقوى ونحو ذلك. ومن المحتمل أن يكون إصدار هذا التكليف من قبل أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى مالك الأشتر حكماً ولائيّاً عليه، لا إفتاءً فقهيّاً يتعدّى من مورده إلى باب التقليد بمثل دعوى عدم احتمال الفرق.

وفي ختام هذا البحث لا بأس بالإشارة إلى أمرين:

الأمر الأوّل: شورى الإفتاء

قد يقصد بشورى الإفتاء مجرّد التشاور والتباحث في الإفتاء؛ لأجل تلاقح الأفكار شبيهاً بما هو متعارف في زماننا ممّا يسمّى بجلسة الاستفتاء، ثم ينفصل أحدهم عن الآخر بالحصيلة التي اقتنع بها ويتّبعه مقلَّدوه، في حين أنّ المألوف في جلسة الاستفتاء المتعارفة اليوم هو أنّ المقلَّد واحد والآخرون أقمار له يساعدونه على تهيئة الفتاوى.

والشورى بهذا المعنى ليست بحاجة إلى بحث جديد.

وقد يقصد بشورى الإفتاء تحقيق الفتاوى وكتب الرسالة العملية مثلاً على شكل تسجيل رأي الأكثريّة، وهذا يبدو أنّه ليس أمراً واجباً؛ فإنّ أدلّة التقليد أثبتت الحجّية لرأي الفقيه الفرد بوصفه من أهل

129

الخبرة، ولكن يقع الكلام في جواز ذلك وعدم جوازه، أي هل يكفي التقليد من هيئة شورويّة من هذا القبيل أو لا؟

الإشكال الذي يخطر بالبال في مقام إبطال ذلك هو ما قد يقال: من أنّ دليل التقليد إنّما ثبّت الحجّية لرأي الفقيه، وهيئة الفقهاء ليست فقيهاً من الفقهاء.

وهذه الإشكال لا مورد له لو كان دليلنا على التقليد هو الارتكاز؛ لأنّ ارتكاز الرجوع إلى أهل الخبرة لا يأبى عن الرجوع إلى هيئة الخبراء، بل يراه أقوى وأفضل كما هو مألوف اليوم في الأُمور الهامّة، سواء في قضايا الطبّ أو الاقتصاد أو الحرب أو غيرها من الأُمور التخصّصية.

وأمّا لو كان دليلنا على التقليد عبارة عن الأدلّة اللفظية فهنا قد يكون الإشكال أقوى، لكنّه مع ذلك يوجد عليه جوابان:

أحدهما: دعوى تعدّي العرف من الفرد إلى الهيئة خاصّة بناءً على الإيمان بوجود ارتكاز عقلائي على مراجعة الهيئات التخصّصية مؤثَّر على ظواهر الأدلّة اللفظية.

والثاني: أنّ التقليد لأكثريّة الهيئة تشتمل لا محالة على تقليد الأفراد الذين يشكّلون تلك الأكثريّة، ولا يكون الأمر خارجاً عن المفاد اللفظي

130

الثابت حسب الفرض لأدلّة التقليد اللفظية وهو الأخذ برأي الفرد المتخصّص، وغاية ما يلزم من ذلك هو التبعيض في التقليد في المسائل حيث إنّ الأفراد الذين يشكّلون الأكثريّة يختلفون من مسألة إلى مسألة، ولا بأس بهذا التبعيض في التقليد بعد الإيمان بأصل التخيير في الفتاوى المتعارضة للفقهاء المتساوين أو شبه المتساوين، أمّا لو آمنّا بالتساقط فليس يبطل فقط الرجوع إلى الهيئة لدى الاختلاف، بل يبطل الرجوع إلى الفرد أيضاً ويتعيّن الأخذ بأحوط الأقوال.

وقد اتّضح بذلك أنّ تشكيل شورى الفقهاء بمعنى تسجيل رأي الأكثريّة في كلّ مسألة مسألة _ لا بمعنى مجرّد التباحث لتلاقح الأفكار _ أمر معقول بعد البناء على التخيير في المتساوين أو مع الفارق القليل فيما بينهم في درجة التفقّه.

نعم، ينبغي أن نلتفت إلى أنّه لو كان أحد الفقهاء أعلم من الآخرين بمستوى ملحوظ، وهو المستوى الذي قلنا أنّه يعيّنه للتقليد فهنا عادةً لا يجوز تبديل تقليده بتقليد الشورى الراجع إلى تقليد الأكثريّة؛ لأنّ هذا الأعلم يفوق رأيه عادةً على رأي الأكثريّة في الإحكام والإتقان بدرجة كبيرة. نعم، لا بأس بتشاوره مع الباقين، فإنّ الشخص مهما كان عبقريّاً لا يخلو التشاور وتلاقح الأفكار من فائدة له، لكن هذا رجوع إلى الشورى بالمعنى الأوّل.