72

وقد ذكروا لإثبات العلّيّة الانحصاريّة وجوهاً ويظهر لك من التأمّل فيها أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم كانت مفروغاً عنها عندهم بحسب الفهم العرفيّ، فصاروا بصدد التفتيش عن النكتة الفنّيّة لذلك فاستدلّوا على المفهوم بما استدلّوا، فمثلا نقول: هل كان من المحتمل أن يتشبّث في إثبات المفهوم بقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد) مع أنّه يدّعى أنّ المفهوم ظهور عرفيّ؟ فمثل هذا الكلام ناش من مسلّميّة أصل النتيجة.

ثُمّ إنّا نرى وجداناً ـ بحسب الذوق العرفيّ ـ عدم ثبوت المفهوم في القضايا الإخباريّة، مثلا إن قيل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود)، أو قيل: (إذا جاور الماء النار اكتسب الحرارة)، لم يتوهّم العرف أنّ هذا الكلام يدلّ على انتفاء وجود النهار أو اكتساب الحرارة بانتفاء الشرط، وجميع ما استدلّوا به لإثبات العلّيّة الانحصاريّة تكون بحيث لو تمّ واحد منها لأنتج ثبوت المفهوم حتّى في القضايا الإخباريّة.

ولنا تقريب خاصّ لإثبات العلّيّة الانحصاريّة يمتاز عن تقريبات القوم بأنّه إنّما يثبت ذلك في الأحكام دون الإخباريّات، ولنذكر ذلك التقريب أوّلا، ثمّ نذكر ـ ان شاء الله ـ سائر التقريبات مع إبطالها، فنقول ومن الله التوفيق:

 

التحقيق في دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة:

التحقيق: أنّ القضيّة الشرطيّة في باب الأحكام تدلّ على اللزوم العلّيّ الانحصاريّ لطبيعة الحكم فيثبت المفهوم:

أمّا دلالتها على اللزوم: فلما عرفت من الظهور السياقيّ للمدلول التصديقيّ، فإنّ الشارع حينما يحكم بشيء كأن يقول: (إن جاءك زيد فأكرمه) ليس بصدد

73

التكلّم عن علم بالغيب، ومقتضى ظاهر كلامه الملازمة بين مجيء زيد ووجوب إكرامه، وفَرض أنّ الموضوع لوجوب الإكرام شيء آخر يكون دائماً مصادفاً لمجيء زيد من باب الاتّفاق يكون خلاف الظهور السياقيّ، فإنّه لا يعلم ذلك عادة إلّا بوسيلة العلم بالغيب.

وأمّا دلالتها على العلّيّة: فلخصوصيّة في باب الأحكام توجب ثبوت العلّيّة ولا توجد تلك الخصوصيّة في الإخباريّات.

بيان ذلك: أنّ المدلول التصديقيّ في الإخباريّات عبارة عن قصد الحكاية، وكما يمكن الحكاية عن وجود شيء عند وجود علّته، كذلك يمكن الحكاية عن وجود شيء عند ما يكون هو مع ذلك الشيء معلولا لشيء ثالث مثلا، بل ربّما لا يكون المتكلّم مطّلعاً على علّة مجيء عمرو، وإنّما هو مطّلع على أنّه مهما جاء زيد جاء عمرو. هذا في الإخباريّات.

وأمّا في الأحكام فالدلالة التصديقيّة لمثل قوله: (أكرم زيداً) بحسب الفهم العرفيّ من ظاهر الكلام ليست عبارة عن قصد الحكاية عن جعل الوجوب بل نفس جعل الوجوب، ولذا لا يشكّ العرف في أنّ مثل هذا الكلام لا يتّصف بالصدق والكذب. وعلى هذا فيثبت أنّ نفس الجعل مقيّد بالشرط الذي هو مجيؤه مثلا، لا قصد الحكاية عن الجعل، والمقيّد للجعل إنّما هو موضوع الحكم وعلّته، ولا يعقل تقيّده بما يلازم موضوع الحكم وعلّته.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد أن ثبت ـ بمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ ـ أنّ المدلول التصديقيّ ـ وهو عبارة عن الجعل ـ مقيّد بالشرط، ومعنى تقيّده به أنّه يكون تقدير الشرط مقوّماً لوجوده، نقول: إنّه على ما حقّقناه في محلّه ليس للمجعول وجود آخر في الخارج عند وجود الشرط، حتّى يفرض كون

74

الشرط تارةً علّة حقيقيّة له واُخرى ملازماً لعلّته، كما كان يفرض في باب الحكاية، حيث إنّ المحكيّ عنه له وجود خارجيّ عند وجود الشرط، فيفرض أنّ الشرط علّة حقيقيّة له تارةً وملازم له اُخرى، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، فمعنى كون الشرط علّة للحكم إنّما هو عبارة عن كون تقدير الشرط مقوّماً للجعل وكون المقدَّر محصّصاً للمجعول، وهذا هو معنى الموضوعيّة ولا نعني بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا هذا.

ففرق كبير بين باب الحكاية وباب الحكم، ففي باب الحكاية حتّى لو كانت الدلالة التصديقيّة موازية للجزاء لا للربط الشرطيّ فالشرط قيّد تلك الدلالة قلنا: كما يمكن تضييق الحكاية بما يكون علّة للمحكيّ كذلك يمكن تضييقها بما يلازم المحكيّ، وكلّ ما يلزم من ذلك هو انتفاء الحكاية بانتفاء الشرط وليس انتفاء المحكيّ بانتفائه.

أمّا في باب الجعل فليس للمجعول وجود على حدة حتّى يعقل أن تضيّق دائرة الجعل تارةً بعلّة المجعول واُخرى بملازمه، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، وما ضيّق الجعل بتقديره ليس هو إلّا المحصّص للمجعول وهو الموضوع للحكم، وليس مقصودنا بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا الموضوعيّة لا غير.

وأمّا دلالتها على كون العلّة علّة منحصرة لطبيعة الجزاء: فتثبت بمعونة نكتتين:

النكتة الاُولى: جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة بلحاظ الجزاء، فيثبت بذلك أنّ المعلّق في لبّ الواقع طبيعة النسبة لا حصّة خاصّة منها. وتوضيح المقصود:

أنّه لا إشكال في أنّ المدلول التصوّريّ للجزاء وهو قوله مثلا: (أكرمه) هو ذات النسبة بين إكرام زيد والفاعل بلا أيّ قيد. لا أقول ذلك بحكم الإطلاق، فإنّ الإطلاق لا يجري بلحاظ المدلول التصوّريّ، بل أقول: إنّ المدلول التصوّريّ

75

لقوله: (أكرمه) تكويناً ذلك، فإنّ المفروض أنّه لا يوجد في كلامه في مقام الانتساب إلّا إكرام زيد والفاعل المستتر، فقهراً ليس المدلول التصوّريّ إلّا طبيعة النسبة بين إكرام زيد والفاعل وهو المخاطب.

وبما أنّ المدلول التصديقيّ لذلك هو الجعل الثابت في نفس المولى نقول هنا: إنّنا نستفيد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّ مقتضى تطابق عالم الإثبات والثبوت هو أنّه كما لم يكن الموجود في عالم الإثبات إلّا طبيعة النسبة بلا دخل خصوصيّة في التعليق، كذلك في عالم الثبوت ـ وهو ما في نفس المولى ـ ليست خصوصيّة دخيلة في التعليق. فهذا الجعل المنكشف بهذا الكلام وإن كان في نفسه جعلا واحداً لكنّه معلّق بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ بحكم الإطلاق وأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت، وإن شئت فعبّر بأصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ.

ثُمّ إنّ مقصودنا بكون هذا الجعل معلّقاً بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ من دون دخل خصوصيّة في التعليق هو: نفي احتمال دخل خصوص بعض ملاكات أشخاص الحكم في التعليق، وبقاء بعض الملاكات على إطلاقها، وبالتالي ثبوت بعض حصص الحكم غير مشروط بالشرط.

فإن قلت: تعليق الشارع لحكم على شرط لا يكون إلّا بسبب اقتضاء ملاكه لذلك، فأصل دخل الملاك في التعليق مقطوع به، وإنّما الشكّ في أنّ خصوصيّة الدخل هل هي مخصوصة بملاك معيّن أو شاملة لجميع الملاكات، وأيّ ترجيح للثاني على الأوّل؟

فلو قال مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه) يكون لملاك الإكرام دخل في التعليق، وهنا احتمالان: أحدهما: أن يكون الدخيل في التعليق جميع ملاكاته، فيكون

76

المعلّق في لبّ الواقع جميع الحصص الناجمة عن تعدّد الملاكات. والثاني: أن يكون الدخيل في التعليق ملاك خاصّ من ملاكات وجوب الإكرام، فلا يكون المعلّق إلّا حصّة معيّنه من النسبة، وكلاهما مشتمل على نوع تقييد، فكيف يمكن تعيين الاحتمال الأوّل بالإطلاق؟

نعم، لو فرضنا أنّ التعليق لا يقتضيه الملاك بل يقتضيه نفس الحكم، ولكن احتملنا وجود مانع في بعض حصص الحكم عن التعليق أمكن أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الحكم هو أنّ المعلّق ذات طبيعة الحكم بلا دخل للحصّة الفارغة عن ذاك المانع في التعليق، ولكن من المقطوع به في القضايا الشرطيّة في شرعنا كلاًّ أو جلاًّ أنّ الأمر ليس كذلك.

قلنا: أوّلا: لو تمّ هذا الكلام فإنّما يتمّ لو فرض أنّ محتملات التعليق منحصرة في أمرين: أحدهما دخل ملاك خاصّ من ملاكات الحكم في التعليق، والآخر دخل كلّ الملاكات فيه، ولكن هنا احتمال ثالث وهو كون الدخيل: الجامع بين الملاكات، وعندئذ نقول: إنّ الجزاء مقيّد قطعاً بأحد هذه الملاكات على جميع المحتملات الثلاثة، وعنوان أحد الملاكات ينطبق على كلّ واحد منها على سبيل البدل، وقد شككنا في قيد زائد وهو تقيّده بملاك خاصّ من تلك الملاكات ـ الذي هو عبارة عن الاحتمال الأوّل ـ أو تقيّده بجميع تلك الملاكات، أعني: دخل كلّ منها في التعليق ـ وهو عبارة عن الاحتمال الثاني ـ والشكّ في القيد الزائد ينفى بالإطلاق.

وثانياً: لو فرض الأمر منحصراً في الاحتمالين الأوّلين يقال هنا كلام آخر، وهو: أنّه لو فرض دخل جميع الملاكات في التعليق فلا حاجة في نظر العرف إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض عندئذ أنّ جميع حصص النسبة معلّقة لا حصّة خاصّة.

77

ولو فُرض دخل ملاك خاصّ وقع الاحتياج إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض أنّ المعلّق عندئذ حصّة خاصّة من النسبة، فلابدّ من تخصيصها بالذكر.

والخلاصة: أنّ الاحتمال الأوّل والثاني وإن كان كلاهما مساوقاً للتقييد لكن القيد على النحو الثاني لا حاجة في نظر العرف إلى بيانه، بخلافه على النحو الأوّل، فينفى التقييد على النحو الأوّل بعدم البيان، والتقييد على النحو الثاني يكون مناسباً للمفهوم لا منافياً له(1).

إن قلت: أيّ فرق بين قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) وقوله: (أكرم زيداً العالم)، ونحوه قوله: (أكرم زيداً) مثلا؟ فلو كان مقتضى الإطلاق كون المعلّق على الشرط طبيعة الحكم لا حصّة خاصّة مثلا، كان مقتضى الإطلاق في المعلّق على أيّ شيء ـ شرطاً كان أو وصفاً أو لقباً أو غيرها ـ ذلك، ولا وجه للتفصيل بين تعليق وتعليق، مع أنّهم أنكروا المفهوم للوصف واللقب، خصوصاً الثاني وهو اللقب.



(1) لا يخفى أنّ خصوصيّة ملاك مّا لو كانت دخيلة في التعليق فهي حيثيّة تعليليّة للتعليق، وليست قيداً في الجعل المعلّق أو الحكم، كتقيّد الحكم ـ بالصلاة المعلّق على زوال الشمس ـ بالخلوّ من الحيض مثلا، فلا معنى لنفيه بالإطلاق. وترتّب جعل واحد ناشئ من أحد الملاكات على الشرط كاف في صدق ترتّب طبيعيّ الجعل بما هو عليه؛ لأنّ الملاك ـ كما قلنا ـ لم يكن قيداً في هويّة الجعل أو الحكم.

نعم، لو كان المدّعى ثبوت التعليق بمعنى التوقّف ـ وهو الربط المنظور إليه بالعين اليسرى ـ لم يكن يكفي توقّف فرد من الطبيعيّ على الشرط في توقّف الطبيعيّ عليه؛ إذ يكفي في عدم توقّفه عليه وجود فرد آخر خارج حدوده، إلّا أنّ هذا رجوع إلى وجه آخر لإثبات المفهوم فرغنا قبلا عن عدم تماميّته غير وجه العلّيّة الانحصاريّة التي نتكلّم عنها فعلا.

78

قلت: إنّ مقتضى التحقيق في هذا المقام هو أن يقال: إنّ الإكرام في قوله مثلا: (أكرم زيداً) له نسبتان: نسبة تامّة بعثيّة أو طلبيّة بينه وبين المخاطب، ونسبة ناقصة بينه وبين زيد. فهناك جملتان: جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، وجملة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ولا تفيد سوى معنى إفراديّ وهو إكرام زيد، ومن المستحيل أن تكون هذه النسبة الناقصة في عرض النسبة التامّة، ببرهان: أنّه لو كان كذلك لكان قوله: (أكرم زيداً) ممّا لا يصحّ السكوت عليه؛ لاشتماله على جملتين: إحداهما يصحّ السكوت عليها والاُخرى لا يصحّ السكوت عليها، وهذا كما ترى بديهيّ البطلان.

وبذلك يتنقّح أنّه مهما اجتمعت نسبة تامّة ونسبة ناقصة على شيء واحد ـ كما في هذا المثال، حيث إنّهما اجتمعتا على كلمة (الإكرام) ـ كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامّة، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ النسبة ليست عارضة على طرفيها كعروض العرض على محلّه، بل طرفاها مقوّمان لها، وعليه فلا يعقل أن يجري الإطلاق في النسبة بالنظر إلى طرفيها. نعم، بعد فرض تقوّمها بالطرفين وتحقّقها لو علّقت على شيء أمكن دعوى الإطلاق فيها بالنظر إلى ما علّقت عليه.

فظهر: أنّ نسبة الإكرام إلى المخاطب لا يتصوّر فيها الإطلاق بالنظر إلى الإكرام والمخاطب؛ لأنّهما مقوّمان لها لا أنّها معلّقة عليهما، ولا بالنظر إلى زيد الذي هو الواجب إكرامه؛ لما عرفت من أنّ النسبة الناقصة اُخذت في موضوع النسبة التامّة، فهي مقوّمة للنسبة التامّة لا أنّ النسبة التامّة معلّقة عليها، فحال اللقب بالنظر إلى هذه النسبة التامّة حال المقوّم لا المعلّق عليه، ونحوه الوصف بخلاف الشرط.

وفي نهاية الكلام نشير إلى أنّ ما ذكرناه من التقريب للإطلاق في الجزاء في باب الأحكام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المختار من أنّ الجعل والحكم عبارة عمّا في

79

عالم نفس المولى ويكون قوله: (أكرمه) كاشفاً عنه. وأمّا إذا بنينا على أنّه بقوله مثلا: (أكرمه) يوجد الحكم والجعل فلا يتمّ هذا التقريب، فإنّه مضى أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري بلحاظ المدلول التصديقيّ وعالم الثبوت بدعوى أصالة تطابق عالم الإثبات معه، فيثبت أنّ ما في نفس المولى من الجعل مطابق لما في كلامه، ولكن لو فُرض أنّه ليس في نفس المولى جعل فكيف نقول: إنّ مقتضى الأصل تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت؟ وأين عالم الثبوت حتّى يكون عالم الإثبات مطابقاً له؟

النكتة الثانية: بعد أن عرفت أنّ المعلّق بمعنى المترتّب على الشرط هو شخص الحكم ولكنّه لا بما هو شخص الحكم، بل بما هو قد انطبقت عليه طبيعة الحكم، فالتعليق في لبّ الواقع سرى إلى طبيعة الحكم، بقي في المقام نقص آخر في اقتناص المفهوم، وهو: أنّ طبيعة الحكم يمكن أن تكون مترتّبة على هذا الشرط وهو مجيء زيد مثلا الموجب لإكرامه، وتكون في نفس الوقت مترتّبة على شرط آخر أيضاً وهو مرضه الموجب أيضاً لإكرامه، فكيف نثبت انحصاريّة العلّة؟

والجواب: قد ظهر ممّا سبق أنّ المعلّق في جعله هذا هو شخص الحكم، وإن سرى التعليق في لبّ الواقع إلى ذات الطبيعة. ولا شكّ في أنّ الشرط في شخص كلّ حكم أو كلّ جعل علّة منحصرة بالنسبة لذاك الشخص؛ إذ قد مضى منّا برهان ملفّق(1) على أنّ الموضوع لشخص الحكم يكون علّة منحصرة له، وهو: أنّه لو لم



(1) مضى ذلك في بحث مناقشة كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، حيث مضى تحليل كلام المحقّق العراقيّ إلى دعاوى أربعة مع مناقشة جميع تلك الدعاوى، وقد ذكر الكلام المذكور هنا لدى مناقشة دعواه الثانية.

80

يكن الموضوع لشخص الحكم خصوص عنوان (المجيء) مثلا فلا يخلو الأمر من أحد أمرين: الأوّل: أن يكون للمجيء عِدل وهو المرض مثلا، وهذا خلف فرض كون المعلّق شخص الحكم، فإنّه يستحيل أن يكونا معاً موضوعاً لشخص واحد من الحكم، بأن يكون كلّ واحد منهما تمام الموضوع له؛ فإنّ الجعل الواحد لا يعقل له إلّا موضوع واحد. والثاني: أن لا يكون الموضوع للحكم عنوان المجيء بل عنوان أحدهما، أي: واحد من المجيء والمرض مثلا، وهذا خلاف ظاهر الكلام، فإنّ ظاهره أنّ نفس عنوان المجيء موضوع، فقد تنقّح أنّ الشرط علّة منحصرة لشخص الحكم الذي يحمله الجزاء، فإذا سرى التعليق في لبّ الواقع إلى طبيعة الحكم علمنا أنّ الشرط علّة منحصرة لطبيعة الحكم.

وإن شئت فعبّر بأنّ التعليق على شكل العلّيّة الانحصاريّة يسري من هذا الشخص من الحكم ـ الذي ثبت له ذلك بوصفه مصداقاً لطبيعة الحكم ـ إلى كلّ شخص آخر مماثل له(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا البرهان على ثبوت المفهوم للشرط قد قام على أساس افتراض كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء، فتكون تلك الدلالة معلّقة تبعاً على الشرط أو مترتّبة على الشرط بتبع التصوّريّة، وعندئذ نثبت بالإطلاق كون الحكم معلّقاً أو مترتّباً على الشرط بما هو ذات طبيعة الحكم، ثمّ نثبت انحصار العلّة به وعدم وجود بديل لهذا الشرط بالبيان الذي عرفت.

لكنّنا لدينا نقاش في أصل دعوى كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء دون الجملة الشرطيّة.

توضيح ذلك: أنّ البرهان الذي مضى لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ظهور الجملة الشرطيّة

81


ـ في الإنشائيّات ـ في كون الدلالة التصديقيّة موازية للنسبة الحرفيّة الكامنة في الجزاء، دون النسبة الربطيّة الثابتة بين الشرط والجزاء، كان عبارة عن أنّه لو كانت موازية في الظاهر العرفيّ للربط الشرطيّ لا للجزاء لانسلخت الجملة الشرطيّة الإنشائيّة عن كونها إنشائيّة وأصبحت إخباريّة تحتمل الصدق والكذب، في حين أنّ الفهم العرفيّ في القضيّة الشرطيّة لا يساعد على ذلك.



ولكنّي أقول: إنّ تبعيّة الجملة الشرطيّة للجزاء في الإنشائيّة والإخباريّة صحيحة حتّى لو افترضنا أنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الربط بين الشرط والجزاء؛ وذلك لأنّ النكتة في إنشائيّة الإنشاء وخبريّة الخبر هي أنّ مفاد الخبر هو ما في النفس من قصد الكشف عن الواقع، فإن طابق الكشف الواقع كان صادقاً وإلّا كان كاذباً. وأمّا الإنشاء كالطلب فبما أنّ نفس المنكشف موجود في نفس المتكلّم أصبح مفاده عرفاً نفس هذا المنكشف كالطلب لا قصد الكشف عنه، ولذا لا يحتمل فيه الصدق والكذب.



والربط بين الشرط والجزاء حينما يكون الجزاء خارجيّاً خارجيّ، فتكون الدلالة التصديقيّة عبارة عن قصد الكشف عن ذاك الربط، فتكون القضيّة خبريّة، وحينما يكون الجزاء ثابتاً في النفس ثابت في النفس، فيكون المدلول التصديقيّ عبارة عن نفس الربط لا قصد الكشف عنه، فتكون القضيّة إنشائيّة. وعليه فدعوى ظهور الشرطيّة ولو في خصوص الإنشائيّة ـ على الأقلّ ـ في كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء ـ كي لا تنسلخ عن كونها قضيّة إنشائيّة ـ غير صحيحة.



بل نُقل لي عن الدورة المتأخّرة لبحث اُستاذنا الشهيد عن الدورة التي سجّلتُ منها بحث المفاهيم القول بأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سواءً كانت حكائيّة أو إنشائيّة هو كون



82


مركز الدلالة التصديقيّة الربط الشرطيّ لا الجزاء، وذلك ببيان: أنّ النسبة الموجودة في داخل الجزاء كانت بحسب عالم الدلالة التصوّريّة طرفاً للنسبة الربطيّة بين الشرط والجزاء، فجعلها محوراً في عالم الدلالة التصديقيّة يكون خلاف أصالة التطابق بين العالمَين، فالظاهر أنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هي النسبة الربطيّة كي تبقى النسبة الجزائيّة طرفاً في كلا العالمَين.

وقد وجدنا هذا البيان بعد ذلك في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 3، ص 159.

هذا. وبالإمكان أن يقال: إنّ سلخ الدلالة التصديقيّة عن الجزاء والإيمان بكونها بإزاء الربط الشرطيّ ـ أو قل: سلخها عن التعليق ـ لا يبطل مفهوم الشرط، فلتكن الدلالة التصديقيّة بإزاء الربط الشرطيّ لا الجزاء، ولكن أليس هذا الربط الشرطيّ له طرفان: أحدهما الشرط، والآخر النسبة التصوّريّة التامّة بين الموضوع والمحمول في الجزاء، والربط دلّ على ترتّب الطرف الثاني على الأوّل، كي ينتهي الأمر في عالم الدلالة التصديقيّة إلى التصديق بكون النسبة الجزائيّة مترتّبة على الشرط، فإذا أثبتنا بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ـ بلحاظ هذه الدلالة التصديقيّة ـ أنّ طرفها ذات النسبة الجزائيّة وهي النسبة الإرساليّة مثلا بما هي كذلك ومن دون دخل أيّة خصوصيّة في ذلك، فلا محالة بانتفاء الشرط تنتفي هذه النسبة وبانتفائها ينتفي الحكم ويثبت المفهوم.

الجواب: أنّ هذا البيان وإن أثبت علّيّة الشرط للجزاء ولكنّه سدّ علينا باب إثبات الانحصار؛ وذلك لأنّ هذا البيان جعل طبيعيّ النسبة الجزائيّة مترتّباً على الشرط ليس شخص الحكم؛ لأنّ الحكم ـ وهو المدلول التصديقيّ ـ لم يحمله الجزاء بل حمله الربط الشرطيّ، وطبيعيّ النسبة الجزائيّة يتحمّل شرطين متبادلين، بأن يُجعل تارةً على شرط

83


كي يترتّب الطبيعيّ عليه، واُخرى على شرط آخر كي يترتّب الطبيعيّ عليه أيضاً، وليس طبيعيّ النسبة الجزائيّة عبارة عن حكم واحد كي يقال: إنّ الحكم الواحد لا يقبل شرطين متبادلين فيثبت الانحصار، ولا عبارة عن كلّ الأحكام كي يقال: لو بقي الجزاء من دون هذا الشرط في مورد كان خلف ترتّب كلّ الأحكام على هذا الشرط، حتّى يثبت المفهوم بنفس كون المعلّق مطلق الوجود بلا حاجة إلى مسألة العلّيّة الانحصاريّة./p>

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بمجموع ما سردناه مواطن الضعف في برهان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله):

فأوّلا:إنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الربط الشرطيّ وليس الربط الجزائيّ، فلم يثبت تعليق شخص الحكم؛ لأنّ المعلّق هو الجزاء وليس هو المصبّ الحامل للدلالة التصديقيّة.

وثانياً: إنّ احتمال دخل خصوصيّة بعض الملاكات لا يمكن نفيه بالإطلاق؛ لأنّه حيثيّة تعليليّة للجعل وليس حيثية تقييديّة للجعل.

لعلّ بعض هذه الاُمور هو الذي أوجب ما نقل من عدول اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن البرهنة بالبرهان اللمّيّ على ثبوت المفهوم للشرط في الدورة الأخيرة لبحثه.

بقي في المقام تقريب آخر لإثبات مفهوم الشرط، وهو: أن نقول: بعد أن انتهينا إلى أنّ المعلّق هي النسبة التامّة المستبطنة في الجزاء بدلالتها التصوّريّة نجري الإطلاق بلحاظ هذه النسبة، ولا نفسّر الإطلاق ابتداءً بمعنى مطلق الوجود ولا بمعنى صرف الوجود الذي يطبّق في كلماتهم على أوّل الوجود، حتّى يعترض على ذلك بأنّ المعنى الصحيح للإطلاق إنّما هو كون النظر مرتكزاً على حاقّ الطبيعة مع رفض جميع القيود، فالإطلاق نفسّره بهذا التفسير الصحيح فنقول: إنّ المعلّق على الشرط ـ بمعنى المترتّب على الشرط لا بمعنى

84


التعليق بالعين اليسرى ـ هو ذات طبيعة الحكم المستبطن في الجزاء، إلّا أنّ هذا ينتهي إلى تعليق مطلق الوجود؛ لأنّ حكم الطبيعة إذا ثبت على واقع الطبيعة بلا أيّ قيد سرى ـ لا محالة ـ إلى كلّ حصصها وأفرادها، كما يسري وجوب الإكرام في قولنا: (أكرم العالم) إلى جميع أفراد العالم، مع أنّ الموضوع للحكم ليس إلّا طبيعة العالم من دون قيد، فإذا ترتّبت كلّ أفراد طبيعة الحكم على الشرط انتفى كلّ أفراد الطبيعة في فرض انتفاء الشرط لا محالة.

إلّا أنّ هذا التقريب إنّما كان يتمّ فيما لو كان الجزاء محكوماً بتعليقه بالعين اليسرى على الشرط، لا فيما إذا كان الشرط هو المحكوم بترتّب الجزاء عليه بالعين اليمنى كما هو المفروض فعلا، فإنّ الإطلاق عندئذ في الجزاء المترتّب على الشرط ليس شموليّاً.

وهذا أشبه شيء بما نقوله في مثل (الرمّان مفيد): من أنّ الإطلاق الشموليّ ثابت في الموضوع وهو الرمّان؛ لأنّه حكم عليه بالفائدة، والحكم مترتّب على ما كان رمّاناً، فكلّما وجد فرد من الرمّان وجد طبيعيّ الرمّان فسرى عليه ـ بالانحلال ـ الحكم بكونه نافع ومفيد. وأمّا بلحاظ المحمول وهو المفيد فلا يثبت الإطلاق الشموليّ ولا تثبت للرمّان تمام الفوائد والمنافع؛ لأنّنا لم نحكم على الفائدة إلّا بثبوتها للرمّان، ويكفي في صدق ذلك ثبوت فائدة واحدة له؛ لأنّ الطبيعيّ يوجد بفرد واحد، ولم نحكم على طبيعة (ما كان فائدة) بترتّبها على الرمّان كي يسري ذلك في كلّ موارد صدق الفائدة.

ثمّ إنّني أتذكّر أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان يستدلّ لإثبات المفهوم للشرط بدليل إنّيّ، وهي صحيحة أبي بصير الواردة في الوسائل عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير ـ يعني المرادي ـ قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام)

85


عن الشاة تذبح تتحرّك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال: لا تأكل، إنّ عليّاً(عليه السلام) كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل». وسائل الشيعة، ب 12 من أبواب الذبح، ح 1.

وجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الراوي كأنّما احتمل أنّ خروج دم كثير عبيط كاف في صدق التذكية، فأجابه الإمام(عليه السلام) بعدم كفاية ذلك واشتراط تحرّك الرجل أو الطرف، واستشهد بكلام الإمام عليّ(عليه السلام) حيث كان يقول: «إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»، فلولا دلالة القضيّة الشرطيّة على نفي العِدل للشرط إذن لم يكن كلام عليّ(عليه السلام) دليلا على عدم قيام خروج دم كثير عبيط مقام تحرّك الرجل أو الطرف.

إلّا أنّه يمكن المناقشة في دلالة الحديث بأنّ تحرّك الرجل أو الطرف يدلّ على درجة من الحياة أقوى من فرض مجرّد خروج دم كثير عبيط، ولا إشكال في أنّه إذا شرط الحكم بحدّ من الحدود دلّ على انتفاء الحكم في الحدّ الأخفّ الذي هو موجود دائماً مع الحدّ الأوّل وقد يوجد وحده، وإلّا لكان ذكر الشرط لغواً. وإنّما الكلام يقع في حدّ آخر قد يجتمع مع الحدّ الأوّل وقد يفترقان. فحال هذه الراوية حال أن يقول: (إذا زالت الحمرة المشرقيّة فصلّ)، ولا إشكال في دلالته على عدم كفاية استتار القرص الذي هو قبل زوال الحمرة دائماً.

ولعلّ هذا هو السرّ في استدلاله(عليه السلام) في المقام بكلام عليّ(عليه السلام)رغم أنّ المذكور فيه كلمة (إذا) لا كلمة (إن)، و(إذا) ظرف يتعلّق بالجزاء فيصبح الكلام من الشرط المسوق لتحقّق الموضوع، اللّهمّ إلّا أن يستظهر أنّ المقصود من (إذا) هنا محض الشرطيّة دون الظرفيّة.

ثمّ إنّ المنقول ـ كما أشرنا ـ عن دورة الدرس الأخيرة لاُستاذنا(رحمه الله) هو عدوله عن الإيمان بوجود برهان لمّيّ لإثبات المفهوم للشرط واكتفاؤه بدعوى الاستظهار العرفيّ ودلالة الوجدان العرفيّ على ذلك.

86


وقد نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ عن الدورة الأخيرة أنّه قال(رحمه الله):

إنّ مفهوم الشرط لا يمكن إثباته بالبرهان وإنّما ندّعيه بالتبادر والوجدان والانصراف. وينصرف همّنا إلى التنسيق بين الوجدانات التي قد يتراءى أنّها متضاربة لكي نتأكّد من صحّة وجداناتنا أوّلا، ولكي نعرف حقيقة هذه الدلالة الوجدانيّة على المفهوم هل هي بالوضع أو بالإطلاق مثلا، فإنّ لذلك أثراً في مقام التعارض والجمع مع باقي الأدلّة.

وتلك الوجدانات التي قد يتراءى التضادّ بينها خمسة:

1 ـ الوجدان القائل بأنّه لو استعمل الشرط في غير فرض العلّيّة الانحصاريّة لم تلزم مؤونة المجاز.

2 ـ الوجدان القاضي بدلالة مثل قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) على المفهوم.

3 ـ الوجدان القاضي بأنّه لو لم يقصد بالقضية الشرطيّة المفهوم لم يلزم المجاز.

4 ـ الوجدان القاضي بأنّ المفهوم ـ على تقدير القول به ـ قابل للتجزئة، فلو ثبت بديلٌ للشرط بدليل جعلنا ذاك الدليل مقيّداً للمفهوم وبقينا ننفي باقي البدائل بالمفهوم.

5 ـ الوجدان القاضي بعدم المفهوم في القضايا الإخباريّة كقوله: (إن شربت السمّ تموت).

أمّا الوجدان الأوّل مع الثاني: فيوجد أمامهما للمحقّقين اتّجاهان:

الأوّل: الجمع بينهما ببيان أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة بالإطلاق لا بالوضع، فبفرض عدم انحفاظ العلّيّة الانحصاريّة لا يلزم المجاز.

والثاني: إنكار الوجدان الثاني كما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) الذي لم يتمّ عنده الإطلاق فأنكر مفهوم الشرط.

والصحيح هو: الجمع بين الوجدانين بإنكار توقّف الدلالة على المفهوم على ثبوت

87


العلّيّة الانحصاريّة، بل تكفي دلالة الجملة على النسبة التوقّفيّة(2).

وأمّا الوجدان الثالث: فدلالة الشرط على النسبة التوقّفيّة وإن كانت بالوضع فيتراءى لزوم التنافي بينه وبين الوجدان الثاني، لكنّ الصحيح أنّ مجرّد كون النسبة توقّفيّة لا يكفي لاقتناص المفهوم، بل نحتاج إلى إطلاقين: أحدهما: الإطلاق الدالّ على أنّ المعلّق هو طبيعة الحكم لا شخصه، والآخر: الإطلاق الدالّ على أنّ التوقّف ثابت في جميع الحالات، فتوقّف وجوب الإكرام على المجيء يشمل مثلا حالة الصحّة وحالة المرض، فعدم إرادة المفهوم يكون بالتخلّف عن أحد الإطلاقين ولا يلزم من ذلك مجاز.

وأمّا الوجدان الرابع: فقد انحلّ تضادّه مع الوجدان الثاني بما عرفت من حاجة المفهوم إلى الإطلاق، والإطلاق طبعاً قابل للتبعيض.

وأمّا الوجدان الخامس: فيرتفع التضادّ بينه وبين الوجدان الثاني بالالتفات إلى أنّ النسبة التصوّريّة في الجزاء المعلّقة على الشرط موطنها النفس ولا تعكس نسبة خارجيّة؛ لأنّها نسبة تامّة والنسبة التامّة ليس لها أصل خارجيّ، وهذه النسبة حينما تكون نسبة إرساليّة فبانتفاء الشرط تنتفي النسبة الإرساليّة، أي: ينتفي الحكم، أمّا حينما تكون نسبة حكائيّة فغاية ما تنتفي بالشرط هي الحكاية لا المحكيّ.

انتهى ما أردنا نقله عن الأخ السيّد علي أكبر.

أقول: بما أنّ كلّ الطرق التي توصل إلى مفهوم الشرط قد اُبطلت بدليل، ما عدا طريق دعوى التعليق المنظور إليه بالعين اليسرى، أو قل: النسبة التوقّفيّة التي لم يكن الإشكال عليها عدا أنّه لا دليل عليها، فكأنّ هذا هو السبب في أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حينما أراد أن يلتجئ في دعوى مفهوم الشرط إلى مجرّد دعوى الوجدان والظهور العرفيّ التجأ إلى فرض هذه النسبة.


(1) يبدو أنّ مقصوده(رحمه الله) بالنسبة التوقّفيّة هي ما مضت تسميته بالنسبة التعليقيّة المنظور إليها بالعين اليسرى.

88

 

تقريباتٌ اُخرى لإثبات العلّيّة الانحصاريّة والمناقشة فيها:

بقي الكلام في تقريبات القوم لإثبات العلّيّة الانحصاريّة مع إبطالها، فنقول ـ ومن الله التوفيق ـ:

قد ذكر لإثبات العلّيّة الانحصاريّة وجوه:

الوجه الأوّل: دعوى أنّ أداة الشرط موضوعة للدلالة على العلّيّة الانحصاريّة.

وفيه: منع ذلك، كما نرى بالوجدان أنّه ليس أيّ مؤونة في استعمال أداة الشرط في فرض عدم العلّيّة الانحصاريّة، كأن يقال: (إن جاور الماء النار اكتسب الحرارة) مع أنّه يكتسبها أيضاً من غير النار، أو يقال: (من شرب الخمر دخل جهنّم)، أو يقال: (من شرب السمّ يموت)، ونحو ذلك من الأمثلة.

وهذا التقريب ـ أعني: دعوى الدلالة الوضعيّة على ذلك ـ وإن ذكر في الكتب لكنّي لا أظنّ أنّ أحداً من المحقّقين التزم به، فإنّهم اعترضوا عليه بأنّ الضرورة قاضية بأنّ الجملة الشرطيّة في غير مورد العلّيّة الانحصاريّة ـ كما مثّلنا به ـ خالية عن عناية المجاز، ولو كانت العلّيّة الانحصاريّة داخلة في الموضوع لأحسسنا بمؤونة المجاز.

الوجه الثاني: دعوى أنّ أداة الشرط وإن لم تكن موضوعة للعلّيّة الانحصاريّة لكنّها منصرفة إليها. ولبيان انصرافها إلى العلّيّة الانحصاريّة تقريبان:

الأوّل: ما بنى عليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقام إثبات دلالة صيغة الأمر على الوجوب، والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذهب إلى دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالوضع، لكن أفاد بعد فرض التنزّل عن دلالتها بالوضع عليه أنّها تدلّ عليه بهذا التقريب، وهو الذي قلنا: إنّه بنى عليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ الوجوب فرد

89

كامل وشديد من الطلب، والاستحباب فرد ناقص وضعيف منه، والفرق بين هذين الفردين يكون بالكمال والنقص والشدّة والضعف، وكمال الشيء وشدّته داخل في حقيقة ذلك الشيء، فشدّة الطلب طلب، لا أنّها شيء آخر غير الطلب. وأمّا النقصان والضعف فليس داخلا في حقيقة الشيء بل هو أمر عدميّ، فإنّه عبارة عن عدم الكمال والشدّة، والخلاصة: أنّ كلاًّ من هذين الفردين متخصّص بخصوصيّة وخصوصيّة الفرد الكامل داخلة في حقيقته، ولكن خصوصيّة الفرد الناقص غير داخلة في حقيقته، وعلى هذا فنقول: إن كان ما في عالم الثبوت الفرد الكامل فهو طلب بتمامه، فما في عالم الإثبات ينطبق على ما في عالم الثبوت بتمامه، وإن كان ما في عالم الثبوت الفرد الناقص فهو ليس طلباً بتمامه؛ لأنّه متخصّص بخصوصيّة خارجة عن حقيقة الطلب، فما في عالم الإثبات لا ينطبق على ما في عالم الثبوت بتمامه؛ لأنّه لم يبيّن في عالم الإثبات إلّا ذات الطلب لا تخصّصه بخصوصيّة خارجة عن حقيقة الطلب، فمقتضى الإطلاق وأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت كون الموجود في عالم الثبوت الفرد الكامل. إذن فالمطلق منصرف إلى الفرد الكامل وهو الوجوب، بمعنى أنّ إطلاقه يقتضي كون المقصود منه الفرد الكامل.

هذا ما بنى عليه المحقّق العراقيّ(قدس سره) في باب دلالة الأمر على الوجوب، فقد يسري هذا البيان إلى ما نحن فيه بعد دعوى أنّ العلّيّة الانحصاريّة أكمل الأفراد، فالمطلق ينصرف إليها بالبيان الذي عرفت.

ويرد عليه:

أوّلا: منع الكبرى، فإنّ تلك الخصوصيّة التي هي أمر عدميّ وعبارة عن عدم الشدّة والكمال لا ترى في نظر العرف خصوصيّة زائدة ومحتاجة إلى مؤونة زائدة

90

في مقام البيان حتّى تنفى بالأصل، بل يرى العرف نسبة كلا الفردين في مقام البيان على حدّ سواء وفي عرض واحد، لا أنّ أحدهما مشتمل على خصوصيّة زائدة دون الآخر.

وثانياً: منع الصغرى، فإنّ كون العلّيّة الانحصاريّة أكمل الأفراد أوّل الكلام، فلو صحّ كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في محلّه ـ وهو دلالة الأمر على الوجوب ـ لا يمكن إسراؤُه هنا، فإنّ العلقة الموجودة بين العلّة ومعلولها لا تختلف شدة وضعفاً بعدم ثبوت علّة اُخرى لذلك المعلول وثبوتها، بل الربط في كلا الفرضين على حدّ سواء.

هذا إذا أخذنا الربط واللزوم في الجملة الشرطيّة بلحاظ العين اليمنى، وأمّا إذا أخذناه بلحاظ العين اليسرى فقد عرفت أ نّا لا نحتاج عندئذ إلى إثبات العلّيّة الانحصاريّة، بل يكفي مجرّد الربط اللزوميّ في اقتناص المفهوم.

الثاني: دعوى أنّ العلّيّة الانحصاريّة أكمل الأفراد، واللفظ ينصرف إلى أكمل أفراد المعنى عرفاً بلا حاجة إلى التمسّك بالإطلاق بالتقريب الذي عرفت.

وأورد عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): منع الكبرى والصغرى:

أمّا منع الكبرى: فلأنّ ملاك الانصراف هو شدّة علاقة اللفظ مع بعض أفراد الطبيعة، وكون الشيء أكمل أفراد الطبيعة لا يقوّي علاقته باللفظ حتّى ينصرف إليه.

وأمّا منع الصغرى: فلأنّ الربط اللزوميّ لا يختلف شدّة وضعفاً بانحصار العلّة وعدمه.

ونقول في مقام تتميم كلامه(قدس سره) بما مضى من أنّه إن لوحظ الربط اللزوميّ بالعين اليمنى فلا يختلف شدّةً وضعفاً بالانحصار وعدمه، وإن لوحظ بالعين اليسرى فلا حاجة إلى إثبات العلّيّة الانحصاريّة لاقتناص المفهوم.

الوجه الثالث: دعوى أنّ إطلاق الشرط بعد الفراغ عن دلالة القضيّة على اللزوم

91

العلّيّ يدلّ على كون العلّة منحصرة في الشرط، فيقع الكلام هنا في مقامين:

أحدهما: وجه دلالة القضيّة على اللزوم العلّيّ.

والآخر: كيفيّة دلالة إطلاق الشرط على كون العلّة منحصرة في الشرط.

أمّا المقام الأوّل ـ وهو وجه دلالة القضيّة على اللزوم وعلى العلّيّة ـ: فنقول: أمّا دلالتها على اللزوم فيدّعى أنّها بالوضع؛ لما نراه من المؤونة في القضايا الشرطيّة غير اللزوميّة كقولنا: (إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق).

وأمّا دلالتها على العلّيّة فليست للوضع؛ لأنّ القضايا الشرطيّة في غير موارد العلّيّة لا يحسّ فيها بمؤونة ومسامحة، بل لأنّه لا إشكال في أنّ الجزاء في عالم الإثبات جعل متفرّعاً على الشرط بــ (فاء) ذكرت في اللفظ أو لوحظت مقدّرة، فذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ مقتضى المطابقة بين عالم الثبوت وعالم الإثبات كون الجزاء في عالم الثبوت أيضاً متفرّعاً على الشرط فيثبت أنّه معلول للشرط، لا أنّ الشرط معلول للجزاء أو أنّهما معلولان لشيء ثالث.

وليس مراده(قدس سره) أنّ التفريع موضوع للعلّيّة، وإلّا لعاد محذور المجازيّة في فرض استعمال القضيّة الشرطيّة في غير مورد العلّيّة، بل مراده أنّه بما أنّ الجزاء رتّب على الشرط في عالم الإثبات، كذلك يكون بمقتضى أصالة الإطلاق وتطابق عالم الثبوت والإثبات مترتّباً على الشرط في عالم الثبوت أيضاً، فتثبت علّيّة الشرط بالإطلاق لا بالوضع. هذا.

والفرق بين ما مضى منّا في إثبات اللزوم وما ادّعي هنا أنّ المدّعى هنا دلالة القضيّة عليه بالوضع، لكنّا قلنا: إنّها لا تدلّ عليه بالوضع، ولذا لا نحسّ بمؤونة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة الماضويّة، بل تدلّ عليه بمقتضى الظهور السياقيّ الثانويّ للمدلول التصديقيّ بالتقريب الذي مضى ذكره.

92

كما أنّ الفرق بين ما مضى منّا في إثبات العلّيّة وهذا التقريب أ نّا أثبتنا العلّيّة بنكتة تختصّ بخصوص باب الأحكام، وهذا التقريب عبارة عن أنّ أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات تدلّ على العلّيّة بالوجه الذي عرفت بدون فرق في ذلك بين باب الأحكام وغيرها.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ الترتّب غير منحصر في الترتّب العلّيّ، بل يمكن أن يكون ترتّباً زمانيّاً أو ترتّباً طبعيّاً، أعني: من قبيل ترتّب الكلّ على الجزء، كأن يقال: (إذا وُجد الواحد وُجد الاثنان)، فدعوى دلالة الترتّب في عالم الإثبات على الترتّب العلّيّ في عالم الثبوت استدلال بالعامّ على الخاصّ.

وثانياً: أنّ أصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات ليس معناها التطابق بين عالم الواقع والإثبات، بل معناها التطابق بين عالم نفس المتكلّم والإثبات كما هو واضح، وعلى هذا فصِرف عقد القضيّة في نفس التكلّم بهذا الترتيب ـ بأن عقد أوّلا الشرط وعقد مرتّباً عليه الجزاء ـ كاف في صحّة إبراز هذا الترتّب في عالم البيان بدون أن نحسّ بأيّ مؤونة في ذلك، وليس هذا مستلزماً لأن يكون الجزاء في عالم الواقع متفرّعاً على الشرط، ولذا لا نحسّ بأيّ مؤونة في إبراز هذا الترتّب في البيان لنكتة تحقّقه في عالم نفس المتكلّم بدون أن يكون الجزاء في الواقع متفرّعاً على الشرط.

وأمّا المقام الثاني ـ وهو وجه دلالة الإطلاق على كون العلّة منحصرة في الشرط بعد الفراغ عن دلالة القضيّة على اللزوم العلّيّ ـ: فقد جاء في الكفاية ذكر تقريبات ثلاثة لذلك: تارةً بلحاظ الإطلاق الأحواليّ، واُخرى بلحاظ الإطلاق العِدليّ، وثالثة بلحاظ الإطلاق الشؤونيّ.

93

أمّا التقريب الأوّل ـ وهو الإطلاق الأحواليّ، وهو بحسب ترتيب الكفاية تقريب ثان لتقريبات إطلاق الشرط(1) ـ: فبيانه: أنّ المفروض أنّ القضيّة دلّت على علّيّة الشرط، ومقتضى الإطلاق كونه علّة في جميع الأحوال سواءً قارنه شيء أو تقدّم عليه أم لا، ولو فرض وجود علّة اُخرى كان ذلك خلاف هذا الإطلاق، فإنّه يلزم من ذلك أنّه إن قارنت الشرط هذه العلّة الاُخرى أو تقدّمت عليه لم يكن الشرط في هذا الحال علّة تامّة؛ لاستحالة اجتماع علّتين على معلول واحد.

وهذا التقريب غير تامّ، ونشرح الكلام في ذلك تارةً: بالنسبة لفرض تقارن علّة اُخرى مع الشرط، واُخرى: لفرض سبقها عليه:

أمّا بالنسبة لفرض تقارن علّة اُخرى مع الشرط فيقال: إنّ تقارنها معه يوجب صيرورته جزء العلّة، فيتوهّم أنّ ذلك دليل على أنّ الشرط علّة منحصرة تحفّظاً على مفاد الإطلاق الذي يقتضي كون الشرط علّة تامّة مطلقاً.

ولكن يرد عليه:

أوّلا: النقض بما لو كانت العلّة الاُخرى مضادّة بالذات للشرط فلم يمكن اجتماعهما، فليس من الحالات المعقولة للشرط فرض تقارنه مع تلك العلّة حتّى يجري الإطلاق الأحواليّ بلحاظ هذا الحال، فلو احتمل وجود علّة اُخرى بهذا النحو لم يكن الإطلاق رافعاً لهذا الاحتمال.

وثانياً: النقض بما لو كانت العلّة الاُخرى مضادّة بالعرض للشرط، كما لو قيّدت علّيّتها بفرض عدم الاقتران بالشرط، فلو اتّفق تقارنها معه لم يؤدّ ذلك إلى



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 305 بحسب طبعة المشكينيّ.

94

صيرورة الشرط جزء علّة حتّى يفترض أنّ هذا خلاف إطلاق دليل الشرط.

وثالثاً: النقض بما لو فرض أنّ العِدل المحتمل كان علّة لوجوب حصّة خاصّة من الإكرام المذكور مثلا في جانب الجزاء، فمثلا: نفترض أنّ مجيء زيد الذي هو الشرط علّة لوجوب طبيعة إكرامه، لكن مرضه المحتمل كونه عدلا للمجيء يكون على فرض عِدليّته علّة لوجوب خصوص الضيافة لا مطلق طبيعة الإكرام، فوجوب مطلق طبيعة الإكرام له علّة واحدة، فهذا الاحتمال أيضاً غير منفيّ بالإطلاق.

وهذا النقض الأخير إنّما أوردناه جدلا على أساس غفلتهم عن نكتة، أمّا مع الالتفات إلى تلك النكتة فهذا النقض غير وارد، وتلك النكتة هي: أنّ الإطلاق الثابت في قوله: (أكرمه) من ناحية المادّة يكون بحسب نظر العرف في طول طروّ مفاد الهيئة ـ وهو الوجوب ـ عليها لا في عرضه، فالوجوب لم يطرأ على الإكرام مع فرض الإطلاق في عرضه حتّى يقال: إنّه إنّما ينتفي بالمفهوم وجوب الإكرام المطلق ولا ينتفي وجوب حصّة خاصّة من الإكرام وهو الضيافة مثلا. بل طرأ على نفس طبيعة الإكرام المهملة الثابتة في ضمن المطلق والمقيّد، وفي طول طروّ الوجوب يجري الإطلاق ويثبت أنّه إذا جاء زيد لم يجب إكرامه بنحو خاصّ ـ كالضيافة ـ بل كفى مطلق إكرامه، لكن بما أنّ هذا الإطلاق لم يكن في عرض طروّ الوجوب وكان الوجوب طارئاً على ذات الإكرام الثابت في ضمن المطلق والمقيّد، فالمنفيّ في جانب المفهوم بفرض العلّيّة الانحصاريّة أيضاً وجوب الإكرام، سواء كان في ضمن المطلق أم في ضمن المقيّد، فهذا النقض الثالث غير وارد بحسب واقع المطلب.

ورابعاً: الحلّ بأنّ فرض كون الشرط علّة ناقصة يتصوّر على نحوين: أحدهما:

95

كونها ناقصة بالقصور الذاتيّ، والآخر: كونها ناقصة من ناحية اجتماعها مع علّة اُخرى، فنقصانها عرضيّ ناشئٌ من ناحية التزاحم بين العلّتين لا ذاتيّ.

وعندئذ نقول: لو فرض قيام دليل على كون الشرط علّة تامّة بقطع النظر عن الإطلاق الأحواليّ تماماً، نافياً للنقصان الذاتيّ والعرضيّ بالمعنى الذي سيظهر، أمكن دعوى ثبوت الانحصار بالإطلاق الأحواليّ. ولكن الواقع أنّه لا دليل على التماميّة سوى الإطلاق الأحواليّ بتقريب: أنّ قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) دلّ بإطلاقه على وجوب إكرامه عند مجيئه سواءً كان مجيؤه مقارناً لشيء آخر أم لا، ولو كان مجيؤه جزء العلّة لا تمامها وكان وجوب إكرامه مختصّاً بفرض مقارنة المجيء مع المرض مثلا لكان يقول: (إن جاءك زيد وكان مريضاً فأكرمه)، فنكشف بعدم عطف شيء آخر عليه أنّ المجيء علّة تامّة لوجوب الإكرام.

وأنت ترى أنّ هذا التقريب إنّما يدلّ على انتفاء النقصان الذاتيّ دون النقصان العرضيّ الناشئ من ناحية تزاحم العلّتين، فإنّه في فرض وجود علّة اُخرى لوجوب الإكرام قد تجتمع مع المجيء يصحّ أن يقال: إنّ وجوب إكرام زيد ثابت عند مجيئه سواءً قارن مجيؤه شيئاً آخر أم لا، كما هو واضح.

والخلاصة: أنّ إثبات انحصار العلّة في الشرط بالإطلاق الأحواليّ بتقريب: أنّه لو كانت هنا علّة اُخرى للزم عدم كون الشرط عند اجتماعه معها علّة تامّة، متوقّف على الفراغ عن ثبوت كون الشرط علّة تامّة بمعنى انتفاء النقصان الذاتيّ والعرضيّ معاً، ولم يدلّ دليل على ذلك أصلا.

هذا تمام الكلام بالنسبة لفرض تقارن علّة اُخرى مع الشرط.

وأمّا بالنسبة لفرض تقدّم علّة اُخرى على الشرط فنقول: لو تقدّمت عليه علّة اُخرى: فتارةً: يفرض أنّ السبق إنّما يكون بلحاظ حال حدوث العلّة الاُخرى مع

96

معاصرتها بقاءً لحدوث الشرط، واُخرى: يفرض أنّه بعد أن انتهى أمد العلّة الاُخرى وسقط الحكم الناشئ منها بالامتثال مثلا وُجد الشرط في الخارج:

أمّا في الفرض الأوّل: فلا محالة يكون الشرط جزء العلّة للحكم بقاءً، فحاله حال فرض التقارن من هذه الناحية، إلّا أنّه يكون هذا الفرض خلاف ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث(1).

وأمّا في الفرض الثاني: فإن فرض أنّ المعلّق ذات الطبيعة المعرّاة عنها جميع الخصوصيّات ـ كما هو فهمنا لمعنى الإطلاق ـ أمكن أن يوجد بالعلّة السابقة فرد من الطبيعة وبالشرط فرد آخر منها، والمفروض أنّ العلّة السابقة انتهى أمدها فلم



(1) وهذا بالإمكان دفعه بأن يقال: إنّ القضيّة الشرطيّة إنّما تقتضي الحدوث عند الحدوث بطبيعة ذات الشرط وحده، أي: لو بقينا نحن والشرط الموجود في القضيّة فهو يقتضي حدوث الجزاء عند حدوثه، وهذا لا ينافي زوال الحدوث عند الحدوث لدى تحقّق علّة اُخرى سابقاً. وهذا نظير ما مضى من أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على كون الشرط علّة تامّة إنّما تكون بمعنى كونه في ذاته علّة تامّة، ولا ينافي تحوّله إلى جزء العلّة بنكتة اجتماعه بعلّة اُخرى، فيكون النقص عرضيّاً لا ذاتيّاً.

ثُمّ إنّه قد يقال في فرض استمرار المعلول بقاءً لحين طروّ العلّة الثانية: إنّ العلّة الثانية انسلخت عن العلّيّة؛ لقاعدة أنّ المعلول يسند إلى أسبق علله، فيلزم ـ فيما لو كانت العلّة الثانية عبارة عن الشرط ـ انسلاخ الشرط عن العلّيّة، وهو خلاف إطلاق دلالة الشرطيّة على علّيّة الشرط.

والجواب ـ لو قبلنا بهذه القاعدة في مثل المقام ـ: أنّ هذا الانسلاخ أيضاً نوع نقص عرضيّ لعلّيّة الشرط، أي: أنّ علّيّته الذاتيّة موجودة ولا تدلّ الشرطيّة أيضاً على انتفاء هذا النقص.