97

الفصل الثاني. الأوامر

صيغة الأمر

ويقع الكلام هنا أيضاً في جهات:

* دلالة صيغة الأمر على الطلب.

* كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب.

* دلالة الجملة الخبريّة.

* الأصل في الواجب التعبّديّة أو التوصّليّة؟

* ظهور صيغة الأمر في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة.

* ورود الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه.

* دلالة الأمر على المرّة أو التكرار.

* الفور والتراخي.

99

دلالة صيغة الأمر على الطلب

الجهة الاُولى: في دلالتها على الطلب.

لا إشكال في أنّ صيغة «افعل» تدلّ على الطلب، وإنّما الكلام في كيفيّة دلالتها على الطلب، حيث إنّ صيغة «افعل» من الهيئات، وهي تدلّ على معنىً حرفيّ لا على معنىً اسميّ، فلا تكون صيغة الأمر دالّة بالمباشرة على مفهوم الطلب كما يدلّ عليه لفظ الطلب، فإنّ هذا مفهوم اسميّ، إذن فيقع الكلام في أنّه ما هو المعنى الذي تدلّ عليه صيغة «افعل» الذي يكون مغزاه ومآله إلى الطلب؟

وينبغي منذ البدء أن نستبعد ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّها موضوعة لإبراز اعتبار نفسانيّ، وهو اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، فإنّه مبنيّ على مبناه من كون الوضع عبارة عن التعهّد، فرتّب على ذلك أنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصديقيّة الكاشفة عن وجود شيء في النفس يعبّر عنه بالاعتبار أو الإرادة، أو بأيّ تعبير آخر، بينما نحن قد وضّحنا في بحث الوضع: أنّ الدلالة الوضعيّة إنّما هي دلالة تصوّريّة، والتي ليست إلّا عبارة عن إخطار معنىً في الذهن من دون أيّ كشف عمّا في نفس المتكلّم، وأمّا الدلالة التصديقيّة فهي ظهور حاليّ سياقيّ له ملاك آخر غير الوضع، فحينما نتكلّم عن المدلول الوضعيّ لصيغة الأمر لا يمكن أن نذكر الدلالة التصديقيّة.

100

إذا عرفت هذا فنقول:

إنّنا لتحقيق ما هو معنى صيغة الأمر نذكر ابتداءً ملخّصاً عمّا ذكرناه في الجملةالفعليّة من قبيل «ضرب» و«يضرب» حتّى نأتي بعد ذلك إلى «اضرب» التي هي أيضاً جملة فعليّة.

فقد مضى: أنّ الجملة الفعليّة من قبيل «ضرب» تدلّ على النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل بالنحو المناسب لذلك الفاعل من فاعليّته لذلك الفعل، ولكن لا ينبغي أن يتخيّل أنّ هذه هي تمام ما تفيده جملة «ضرب زيد» من النسب؛ لأنّ «ضرب زيد» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها بلا إشكال، بينما النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل نسبةٌ وعاؤها الأصليّ هو عالم الحقيقة لا الذهن، وقد برهنّا على أنّ كلّ نسبة من هذا القبيل يستحيل أن تكون تامّة، بل هي نسبة تحليليّة ناقصة ذهنيّة، إذن ففي «ضرب زيد» توجد نسبتان: إحداهما: نسبة ناقصة مستفادة من هيئة الفعل بين الفعل وذات ما، والاُخرى: نسبة تامّة بين ذات ما وزيد مستفادة من هيئة الجملة، أي: الفعل والفاعل، وقد وضّحنا: أنّ النسبة التامّة عبارة عن النسبة التصادقيّة، أي: نسبة التصادق بين مفهومين بما هما فانيان في عالم الخارج، فالنسبة التامّة في «ضرب زيد» نسبة تصادقيّة بين ذات ما وزيد، فكأنّما قال: إنّ الذات التي صدر منها الضرب هو زيد، وقلنا: إنّ هذا ما يسوق إليه البرهان في مقام تحصيل مفاد «ضرب زيد»، وبيّنّا: أنّ النسبة التصادقيّة لا تكون بين المفهومين بما هما مفهومان في عالم اللحاظ، فإنّهما في عالم اللحاظ متغايران، وإنّما هي نسبة تصادقيّة بين المفهومين بما هما فانيان، ومن هنا يأتي الفرق بين «ضرب زيد» و«هل ضرب زيد؟» ونحو ذلك، حيث إنّ المفنيّ فيه يختلف، فالمفنيّ فيه في «ضرب زيد» هو وعاء الخارج، وفي الاستفهام هو وعاء

101

الاستفهام، وفي الترجّي هو وعاء الترجّي وهكذا(1)، ففي قولنا: «لعلّ زيداً ضارب» يكون «زيد» عين «ضارب» في وعاء الترجّي، وفي قولنا: «هل زيد ضارب؟» يكون «زيد» عينه في وعاء الاستفهام، كما أنّ في قولنا: «زيد ضارب» يكون «زيد» عينه بحسب وعاء الخارج وهكذا.

إذا عرفت ذلك فنقول:

لا إشكال في أنّ هناك فرقاً بين «ضرب زيد» وبين «اضرب أنت» مثلاً: إمّا في النسبة التامّة، أو في النسبة الناقصة؛ إذ لو كانت النسبة التامّة فيهما شيئاً وأحداً، والنسبة الناقصة فيهما أيضاً شيئاً واحداً، إذن لما بقي فرق في المعنى بين الإخبار عن الخارج والأمر مع بداهة الفرق بينهما.

ويوجد بدواً في تفسير هذا الفرق احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون الفرق بلحاظ النسبة التامّة، وذلك باعتبار المفنيّ فيه، فكما يقال: إنّ النسبة التامّة في الاستفهام هي النسبة التصادقيّة بين المفهومين بلحاظ وعاء الاستفهام، وفي الترجّي بلحاظ وعاء الترجّي وهكذا، فبذلك تختلف هذه الاُمور عن الإخبار الذي تكون النسبة التصادقيّة فيه بلحاظ وعاء الخارج، كذلك يقال: إنّ النسبة التامّة في «اضرب أنت» هي النسبة التصادقيّة بين ذات ما والفاعل في وعاء الطلب، إلّا أنّ هذا الاحتمال لابدّ من رفضه؛ إذ لو كان الفرق بين الفعلين بلحاظ النسبة التامّة دون الناقصة، إذن لما بقي فرق بين الفعلين في حدّ أنفسهما، بينما يشهد الوجدان اللغويّ بالفرق بينهما في حدّ أنفسهما بغضّ النظر عن وقوعهما في جملة تامّة، إذن فيتعيّن الاحتمال الثاني.



(1) مضى تعليقنا على ذلك في بحث مفاد هيئة الجمل فراجع.

102

الاحتمال الثاني: أن يكون الفرق بلحاظ النسبة الناقصة التي هي مدلول هيئة الفعل، فهيئة «ضرب» موضوعة للنسبة الصدوريّة بين الفعل وذات ما، بينما هيئة الأمر موضوعة للنسبة الإرساليّة، أو الإلقائيّة، أو الدفعيّة، أو التحريكيّة ونحو ذلك من التعابير.

وتوضيح ذلك: أنّ الإلقاء له فرد حقيقيّ تكوينيّ، وذلك كما لو دفع شخص زيداً بيده فألقاه على الأرض، أو على أيّ عين اُخرى غير الأرض، وله فرد عنائيّتكوينيّ كما لو دفعه بيده نحو عمل، وذلك كَأن يلقيه بالدفع على الكتاب أو الدفتر، لكي يطالع أو يكتب، فهذا ـ في الحقيقة ـ إلقاء على العين وهو الكتاب أو الدفتر، لكنّه بنحو من العناية يصدق عليه أنّه إلقاء نحو المطالعة والكتابة ودفع نحوها، وهذا الدفع يولّد ربطاً ونسبة مخصوصة بين المدفوع وهو زيد، والمدفوع نحوه وهو المطالعة، وهذه النسبة نسمّيها بالنسبة الإرساليّة، أو الدفعيّة، أو التحريكيّة، وحينئذ يقال: إنّ مفاد «افعل» عبارة عن هذه النسبة الإلقائيّة، والإرساليّة، فحينما نريد أن نعبّر عن النسبة الصدوريّة بين زيد والمطالعة نقول: «طالع زيد»، وحينما نريد أن نعبّر عن النسبة الإرساليّة بينهما نقول: «طالع يا زيد»، وحيث إنّ دفعه باليد على الكتاب مثلاً معلول عادة لإرادة المطالعة فهيئة «افعل» الموضوعة لهذه النسبة تدل دلالة تصوّريّة بالمطابقة على هذه النسبة الإرساليّة، وتدلّ دلالة تصوّريّة بالملازمة وفي طول الدلالة الاُولى على الإرادة، من قبيل: أنّ لفظ «الشمس» تدلّ تصوّراً بالمطابقة على القرص، وبالملازمة على النهار؛ ولذا حتّى لو سمعنا من الجدار لفظة «اضرب» ينتقش في ذهننا تلك النسبة وتلك الإرادة، ويوجد وراء المدلولين التصوّريّين مدلول تصديقيّ وهو الكشف عن وجود الإرادة.

وأمّا الطلب، فإن قلنا بأنّه عين الإرادة، فقد عرفت حاله، وإن قلنا بأنّه غير الإرادة، فالشوق النفسانيّ بمجرّده لا يصدق عليه أنّه طلب، وإنّما الطلب ـ على ما

103

هو الظاهر ـ هو السعي نحو المقصود، فيكون «افعل» بنفسه مصداقاً للطلب حقيقة،فإنّه باعتبار كشفه عن الإرادة سعي نحو المقصود(1).

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: أنّ صيغة «افعل» ذكروا لها معاني عديدة: كالطلب والتعجيز والتسخير والاستهزاء ونحوها، والمعروف بين المحقّقين المتأخّرين أنّ الاختلاف إنّما هو في دواعي الاستعمال، أي: في المداليل التصديقيّة، وأمّا المدلول الوضعيّ المستعمل فيه الصيغة فهو واحد في الجميع، وهو النسبة الإرساليّة مثلاً، إلّا أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ جرياً على مبناه القائل بأنّ المدلول الوضعيّ والمستعمل فيه اللفظ إنّما هو المعنى التصديقيّ افترض لصيغة الأمر معاني عديدة(2)؛ بداهة تباين تلك المداليل التصديقيّة فيما بينها.



(1) وهناك احتمال ثالث اخترناه فيما سبق(1) من بحث مفاد هيئة الجمل، وهو: أن تكون هيئة الأمر دالّة على نسبة بعثيّة تامّة ذات أطراف ثلاثة: الآمر والمأمور والمأمور به من دون محاكاة للبعث الخارجيّ فراجع. والخلاصة: أنّ أصل افتراض أنّ «ضَرَبَ» أو «اضرِبْ» مشتمل على نسبتين، نسبة ناقصة مستفادة من هيئة الفعل وذات مّا، ونسبة تامّة بين ذات مّا وزيد مثلاً مستفادة من هيئة الفعل مع فاعله، أوّل الكلام، فإنّ فرض الفاعل ذاتاً مّا أو فرضه زيداً بالخصوص لا يؤثّر في المقام، والصحيح أنّ هيئة الفعل بنفسها تدلّ على نسبة تامّة بين الفعل والفاعل.

(2) ولو بأن يكون أحدها حقيقة والباقي مجازاً. راجع محاضرات الفيّاض، ج 2، ص 123.

والتسخير مُثّل له بـ (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين). سورة 7، الأعراف، الآية: 166.


(1) مباحث الاُصول، ج. من القسم الأوّل، ص 204 بحسب الطبعة الاُولى لدار البشير.

104

وهذا الكلام مضافاً إلى خطأ مبناه يؤدّي إلى نتيجة غريبة، وتوضيح ذلك: أنّ صيغة الأمر حينما يقصد بها مثل التعجيز والاستهزاء كما لو قال: «طِر إلى السماء» بقصد إظهار عجزه، أو قال للفقير: «اشتر قصراً» بقصد الاستهزاء به، فمن الواضح: أنّ هذا التعجيز أو الاستهزاء لا يكون مرتبطاً بالمادّة ابتداءً، فإنّ إظهار العجز لا يكون بنفس الطيران، ولو طار لما كان عاجزاً، والاستهزاء لا يكون بنفس شراء القصر، ولو اشتراه لما استُهزئ به، فلالتصاق الهيئة بالمادّة دخل في فهم التعجيز أو الاستهزاء.

وعليه نقول: إنّ تفسير نكتة فهم مثل التعجيز أو الاستهزاء واضح بناءً على المبنى المتعارف بين الأصحاب؛ لأنّ الصيغة تدلّ عندهم حتّى في مثل مورد التعجيز والاستهزاء على الأمر والطلب؛ لأنّ المدلول التصوّريّ المستعمل فيه اللفظ في الجميع واحد، وحينئذ يكون الأمر بالطيران نكتة لإظهار عجزه؛ إذ لا يستطيع أن يمتثل، والأمر بشراء القصر نكتة للاستهزاء به. وأمّا على مبنى السيّد الاُستاذ فنكتة الدلالة على التعجيز أو الاستهزاء غير واضحة، ولا يبقى أيّ ارتباط بين مفاد الصيغة والمادّة، إلّا أن يفترض كون دلالتها على التعجيز أو الاستهزاء بمجرّد التعبّد الصرف، وهذا غريب.

الأمر الثاني: أنّ الدواعي المتعدّدة: من داعي الإرادة، أو التعجيز، أو التسخير، أو الاستهزاء وغير ذلك وإن كان كلّها منسجماً مع استعمال صيغة الأمر في معناها الحقيقيّ؛ إذ هذه كلّها خارجة عن المستعمل فيه، وهي تستعمل في كلّ هذه الفروض في النسبة الإرساليّة، فالمعنى الحقيقيّ للأمر منسجم مع كلّ واحد من هذه الدواعي، ولكن هذا لا ينافي ظهور صيغة الأمر لولا القرينة في أنّ ما في نفس المتكلّم هو الإرادة حقيقةً، ولا إشكال في هذا الظهور، ولكن يقع الكلام في تفسير هذا الظهور، وكيفيّة تكوّنه بالرغم من أنّ كلّ الدواعي تنسجم مع المدلول اللفظيّ.

105

ذكر في الكفاية(1) ـ على طريقته ـ: أنّ داعي الإرادة اُخذ قيداً في نفسالوضع، لا في المعنى الموضوع له سنخ ما تقدّم منه في بحث المعاني الحرفيّة: من أنّ قيد اللحاظ الآليّ اُخذ قيداً في نفس الوضع دون المعنى الموضوع له. وقد تبرهن بطلان ذلك في محلّه، حيث وضّحنا: أنّ الوضع ليس من الاُمور الجعليّة كالجعول الشرعيّة القابلة لتقييدات من هذا القبيل.

وإنّما الصحيح في نكتة هذا الظهور: أنّك عرفت أنّ المدلول التصوّريّ لصيغة الأمر أوّلاً هو النسبة الإرساليّة، وثانياً وفي طولها الإرادة، فلو كان المدلول التصديقيّ هو الإرادة لتطابق المدلول التصديقيّ مع المدلولين التصوّريّين، وإلّا فلا، وأصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والمدلول التصديقيّ أصل عرفيّ عامّ بحسب المناسبات المركوزة في أذهان العرف.

وإن شئت بيّنت المطلب بتعبير آخر، وهو: أنّ سائر الدواعي غير الإرادة تفترض قبلها الإرادة افتراضاً دون العكس، فمن يستهزئ، أو يعجّز، أو يسخّر يفترض أنّه قد أراد منه كذا، فترتّب عليه إظهار عجزه، أو استهزاؤه، أو تسخيره، فهو يتقمّص قميص من يريد حتّى يعجّز، أو يستهزئ، إذن فالطبع الأوّليّ هو الكشف عن الإرادة، والباقي مشتمل على مؤونة زائدة منفيّة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 102 بحسب طبعة المشكينيّ.

107

كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب

الجهة الثانية: في كيفيّة دلالة صيغة الأمر على الوجوب بعد الفراغ عن دلالتها على الطلب.

وقد تقدّم نظير ذلك في مادّة الأمر، وعرفت أنّ هناك مسالك ثلاثة لاستفادة الوجوب من مادّة الأمر:

1 ـ مسلك العقل، وهو: أنَّ العقل ينتزع الوجوب من أمر المولى عند عدم صدور الترخيص في الخلاف.

2 ـ مسلك الإطلاق، بأن يقال: إنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة هو حمل الطلب على الفرد الأخفّ مؤونة، وهو الوجوب، ببيان مضى.

3 ـ مسلك الوضع، بأن يقال: إنّ مادّة الأمر موضوعة للوجوب.

أمّا المسلك الأوّل، فلو تمّ هناك يجري هنا أيضاً حرفاً بحرف بلا فرق بين المقامين.

وأمّا المسلك الثاني، فقد يقال: إنّه لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ وذلك لأنّ صيغة «افعل» مدلولها هو الإرسال والدفع والتحريك، وليس مدلولها هو الإرادة كما في مادّة الأمر، ففي مادّة الأمر كان يقال: إنّها دالّة على الإرادة وهي ذات مراتب، فتحمل على المرتبة الشديدة مثلاً، ببيان مضى، وأمّا الإرسال والدفع فهو على حدّ واحد، لا يختلف باختلاف الوجوب والاستحباب حتّى تعيّن المرتبة الشديدة منه بالإطلاق.

108

والجواب أوّلاً: أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقيّ تكون دالّة على الإرادة لا محالة، فيصحّ جريان الإطلاق وإثبات الفرد الشديد بهذا اللحاظ.

وثانياً: أنّه قد مضى: أنّ صيغة الأمر تدلّ تصوّراً على النسبة الإرساليّة أوّلاً، وعلى الإرادة ثانياً وبالملازمة، فليجرِ الإطلاق بهذا اللحاظ.

وأمّا المسلك الثالث: وهو الوضع، فأيضاً قد يشكّك في ذلك في المقام، وذلك لما عرفت: من أنّ الإرسال والإلقاء ليس كالإرادة منقسماً إلى قسمين ومرتبتين بلحاظ الوجوب والاستحباب، حتّى يفترض وضع الصيغة للنسبة الإرساليّة الشديدة مثلاً.

ويمكن دفعه بأنّ الإلقاء وإن كان لايتحصّص بلحاظ نفس الإلقاء بما هوهو إلى شديد وضعيف، ولكن يتحصّص بلحاظ منشئه؛ إذ قد ينشأ من إرادة شديدة، واُخرى من إرادة خفيفة، فبالإمكان افتراض كون صيغة الأمر موضوعة لنسبة الإرسال الناشئ من الإرادة الشديدة، فإذا أصبح المدلول التصوّريّ الوضعيّ عبارة عن ذاك الفرد الناشئ من الإرادة الشديدة، كان مقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصديقيّ والتصوّريّ الكشف عن وجود إرادة شديدة في نفس المولى.

هذا، ونحن في مبحث مادّة الأمر وإن قلنا: إنّه لا يمكن الاستغناء عن دعوى الوضع في مقام استفادة الوجوب؛ لعدم تماميّة مسلك الإطلاق ولا مسلك العقل، إلّا أنّه في صيغة الأمر يمكن الاستغناء عن الوضع، وذلك بأن يقال: إنّ الإلقاء الذي هو أمر تكوينيّ خارجيّ يستبطن طبعاً سدّ كلّ أبواب العدم؛ فإنّ الإلقاء معناه: قهره وجرّه نحو الفعل جرّاً، وهذا لا يكون إلّا بسدّ تمام أبواب العدم، فإذا صدرت صيغة «افعل» واستفدنا من ظاهر حال المولى وكلامه أنّه في مقام الدفع التشريعيّ، قلنا: إنّ المدلول التصوّريّ هو الإلقاء التكوينيّ، والإلقاء التكوينيّ يستبطن سدّ تمام أبواب العدم، والمدلول التصديقيّ هو الدفع التشريعيّ، ومقتضى

109

أصالة التطابق بين المدلول التصديقيّ والمدلول التصوّريّ هو كون الدفع التشريعيّ سدّاً لتمام أبواب العدم، وسدّ تمام أبواب العدم في عالم التشريع معناه الوجوب، فهذا يكون وجهاً لاستفادة الوجوب بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، لكن بتقريب أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ، لا بتقريب آخر.

هذا حال الصيغة، وفي مادّة الأمر أيضاً يمكن دعوى: أنّ العرف يستفيد منها معنى الدفع والإلقاء، فيأتي نفس التقريب(1).



(1) في دلالة مادّة الأمر تصوّراً على معنى الدفع أو الإلقاء التكوينيّ تأمّل واضح، فلو تمّ ذلك في صيغة الأمر بالبيان الذي عرفته في المتن من اُستاذنا (رحمه الله)، فالتعدّي منها إلى المادّة لا وجه له، بل المتعيّن عندئذ هو التفصيل بين مادّة الأمر وصيغته، بدعوى دلالة الصيغة بالبيان الماضي عن اُستاذنا على الوجوب بالإطلاق، وعدم دلالة المادّة عليه إلّا بالوضع.

وهنا نشير إلى أمرين:

الأمر الأوّل: أنّه لو تمّت الدلالة الإطلاقيّة في الصيغة، أو فيها وفي المادّة على الوجوب، فهذا لا يعني ضرورة إنكار الدلالة على الوجوب وضعاً؛ إذ لا مانع من اجتماع الدلالة الوضعيّة مع نكتة الإطلاق في مورد واحد، بحيث يقال: لو لم تتمّ الدلالة الوضعيّة، إذن لتمّ الإطلاق، ولكن تشخيص ذلك في المقام لا يخلو من صعوبة؛ وذلك لأنّ الدليل الوحيد على الوضع والحقيقة هو التبادر، فإذا تمّت نكتة الإطلاق فكيف نجزم بالوضع مع احتمال كون التبادر مستنداً إلى الإطلاق؟

وهناك محكّان قد يمكن أن يميّز بأحدهما الوضع للوجوب وعدمه:

المحكّ الأوّل: أن نفحص عن مورد لا يكون المولى في مقام البيان، فلا يتمّ فيه الإطلاق، لنرى: هل يتمّ التبادر هناك أم لا، فلو تمّ التبادر كان آية الوضع.

إلّا أنّ تطبيق هذا المحكّ في غاية الصعوبة؛ وذلك لأنّه لو عُرف أنّ المولى لا يريد

110



إفهام الوجوب، بطلت الدلالة الوضعيّة أيضاً، ولو عرف أنّه في مقام إفهام الحكم وجوباً كان أو استحباباً، تمّت نكتة الإطلاق، فلابدّ من التفتيش عن حالة وسطيّة، وهي: ما إذا كان بصدد إفهام المعنى بقدر ما يدلّ عليه الوضع، ولم يكن في مقام البيان أكثر من ذلك.

المحكّ الثاني: أن نفترض قرينة متّصلة أو ارتكازيّة كالمتّصل على عدم إرادة الوجوب، كما لو قال مثلاً: «اغتسل للجمعة» وكانت الضرورة المتشرّعيّة قرينة كالمتّصل على عدم الوجوب، ونقول عندئذ: إنّه لو كان الوضع للوجوب، إذن مقتضي تبادر الوجوب موجود في ذهننا، ولكنّه منصدم بالقرينة المانعة عن تأثيره، وهذا معنى الإحساس بمؤونة المجاز أو ثقل المجاز، أو الإحساس بعدم كون الكلام جارياً وفق الوضع الطبيعيّ، في حين أنّه لو لم يكن الوضع للوجوب، لم يكن في الذهن مقتض للتبادر، فلا يتمّ الإحساس بثقل المجاز.

الأمر الثاني: أنّ دلالة صيغة الأمر على الوجوب بالإطلاق بالتقريب الذي أفاده اُستاذنا (رحمه الله) أيضاً غير مقبولة لدينا، وعليه فتبادر الوجوب من صيغة الأمر دليل على الوضع للوجوب حتماً.

أمّا وجه الإشكال في الدلالة الإطلاقيّة التي أفادها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فتوضيحه مايلي:

إنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) انطلق من حصر الفرق بين مثل «اضرب» ومثل «ضَرَب» في احتمالين:

الأوّل: الفرق بلحاظ النسبة الناقصة، وهي النسبة الصدوريّة.

والثاني: الفرق بلحاظ النسبة التامّة، وهي النسبة التطابقيّة. وبرهن على نقص الاُولى وتمام الثانية بأنّ الاُولى خارجيّة المنشأ؛ لأنّ النسبة الصدوريّة بين الفعل والفاعل ثابتة

111



خارجاً سواء تصوّرها أحد أو لا، والثانية ذهنيّة المنشأ؛ لأنّ النسبة التصادقيّة محلّها الذهن فحسب، وأمّا ما في الخارج فهو الاتّحاد لا التصادق. وقد مضى في بحث المعاني الحرفيّة البرهان على أنّ النسبة التي تكون خارجيّة المنشأ تكون ناقصة، والتي تكون ذهنيّة المنشأ تكون تامّة، ثُمّ برهن (رحمه الله) على بطلان كون الفرق بين «اضرب» و«ضرب» في النسبة التامّة بدليل إحساسنا بالفرق بينهما قبل فرض إكمالهما بملاحظة الفاعل، فانحصر الأمر في أن يكون الفرق بين الصيغتين في النسبة الناقصة، وذلك لا يكون إلّا بمعنى: أنّ النسبة الناقصة في «ضرب» هي الصدوريّة، وفي «اضرب» هي البعثيّة أو الإرساليّة، وبهذا البيان تعيّن أن تكون النسبة البعثيّة أو الإرساليّة ناقصة، في حين أنّ الذي يبدو بادئ الأمر في النظر أن تكون تلك نسبة تامّة؛ لأنّ نسبة البعث الموجودة في باب الأمر إنّما هي أمر ذهنيّ، وليست أمراً خارجيّاً، وهي من مخلوقات عالم ذهن الآمر ابتداءً، وليست محاكاة لما في الخارج، ومن هنا حاول اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)إرجاع هذه النسبة إلى أمر يحاكي ما في الخارج، فافترض: أنّ النسبة البعثيّة هنا محاكاة للنسبة البعثيّة الموجودة في الدفع والإلقاء التكوينيّين، وبما أنّ الدفع والإلقاء التكوينيّين يسدّان جميع أبواب العدم فبمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والمدلول التصديقيّ يثبت أنّ النسبة البعثيّة التشريعيّة التي هي المدلول التصديقيّ للأمر أيضاً تسدّ جميع أبواب العدم، إلّا أنّ سدّ البعث التكوينيّ لجميع أبواب العدم كان تكوينيّاً، وسدّ البعث التشريعيّ لجميع أبواب العدم يكون تشريعيّاً، وليس سدّ جميع أبواب العدم تشريعاً إلّا بالوجوب، فهذا نوع بيان للإطلاق لإثبات الوجوب.

أقول: إنّ حصر الفرق بين «اضرب» و«ضرب» في الوجهين الماضيين غير حاصر، والأقرب إلى الذهن من ذلك في النظر هو: أنّ نفس النسبة البعثيّة نسبة تامّة تدلّ عليها

112



صيغة الأمر دلالة تصوّريّة بالوضع، وعلى واقع البعث والإرادة دلالة تصديقيّة بظهور الحال والسياق الذي هو منشأ الدلالات التصديقيّة، وهي ذهنيّة المنبت والمولد، ولا تحاكي نسبة تكوينيّة بين الملقى والملقى عليه في الإلقاء التكوينيّ، وهذه النسبة هي نسبة تامّة بين أركان ثلاثة: الباعث والمبعوث والمبعوث إليه، فصيغة الأمر أجنبيّة عن كلتا النسبتين اللتين فرضتا في «ضَرَبَ» من الصدوريّة والتصادقيّة، وإنّما تشتمل على نسبة واحدة تامّة، وافتراض حكايتها تصوّراً عن الدفع التكوينيّ ثُمّ بالملازمة عن الإرادة لغلبة نشوء الدفع التكوينيّ عن الإرادة، ثُمّ بالدلاله التصديقيّة على الكشف عن الإرادة ليس إلّا تعمّلاً وتمحُّلاً لا داعي إليه، بل هي تعطي راساً بالدلالة التصوّريّة نسبة البعث، وتكشف بالدلالة التصديقيّة عن وجود واقع البعث والإرادة حقيقة في ذهن الآمر، وعليه فمبرّر الإطلاق الذي أفاده اُستاذنا (رحمه الله) منتف، وبالتالي لا تكون دلالة الأمر على الوجوب إلّا وضعيّة.

113

دلالة الجملة الخبريّة

الجهة الثالثة: لا إشكال في صحّة استعمال الجملة الخبريّة في الطلب، واستفادته منها بقرينة ظهور الحال في كون المتكلّم في مقام إعمال المولويّة لا في مقام الإخبار الصِرف، وإنّما الكلام يقع في مقامين:

1 ـ في كيفيّة تخريج دلالتها على الطلب.

2 ـ في أنّ هذه الدلالة على الطلب بعد تخريجها هل تقتضي الوجوب، أو الجامع بين الوجوب والاستحباب؟

تخريج دلالة الجملة الخبريّة على الطلب:

أمّا المقام الأوّل: وهو في كيفيّة تخريج دلالة الجملة الخبريّة على الطلب، ففيه مسلكان:

المسلك الأوّل: هو المسلك المشهور بين المتأخّرين كصاحب الكفاية ومن تابعه، وهو: أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في نفس النسبة الصدوريّة، فالمعنى المستعمل فيه في الجملة الخبريّة في مقام الطلب هو عين المعنى المستعمل فيه في الجملة الخبريّة في مقام الإخبار، وكأنّ مقتضى الطبع أن يفهم منها الإخبار، إلّا أنّها بإعمال عناية دلّت على الطلب، وحيث إنّ ذلك يكون بعناية احتجنا إلى قرينة تدلّ على إعمال تلك العناية، هذا.

114

ويمكن تصوير ما أرادوه من دلالة الجملة الخبريّة على الطلب مع استعمالها في نفس ما تستعمل فيه عند الإخبار، وإبراز نكتة احتياج ذلك إلى العناية بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الجملة الخبريّة بحسب طبعها الأوّليّ لها مدلول تصوّريّ، وهي النسبة الصدوريّة، ومدلول تصديقيّ، وهي الحكاية عن وقوع تلك النسبة في الخارج، وبالإمكان الحفاظ على كلا المدلولين في موارد الطلب، فيحمل قوله مثلاً: «إذا قهقه المصلّي أعاد صلاته» على أنّه يحكي حقيقةً ويخبر عن أنّ المصلّي الذي ابتلي بالقهقهة في أثناء الصلاة يعيد صلاته، وحينئذ يتّجه هنا سؤالان:

أحدهما: أنّه كيف يحتفظ بكلا الأمرين مع أنّ الخبر الذي ينتج عن هذا كذب؛ إذ قد لا يعيد صلاته ولو مخالفةً للشرع؟

والثاني: أنّ هذا كيف أصبح دالّاً على الطلب مع أنّه بصدد الإخبار حقيقةً؟

وجوابهما عبارة عن نكتة واحدة، وهي: أنّ بالإمكان الالتزام بأنّ هذا الإخبار إخبار عن صدور الإعادة من الإنسان لا مطلقاً وكيف ما اتّفق، بل من خصوص ذلك الإنسان الذي هو في مقام الامتثال، وتطبيق عمله على الشريعة، وبهذا يتمّ الجواب على كلا السؤالين:

أمّا الأوّل، فلأنّ من فرض فيه أنّه يطبّق عمله على القواعد الشرعيّة يعيد العمل حتماً، فهذا إخبار في وعاء مخصوص لا مطلقاً.

وأمّا الثاني، فلأنّ كون المطبّق عمله على الشريعة معيداً حتماً يكون ملازماً ـ لا محالة ـ لكون الإعادة مطلوبة للشارع، فيدلّ هذا الإخبار بالملازمة على الطلب.

وبما ذكرناه ظهر وجه العناية في هذا التخريج، وهي: أنّه لابدّ من أجل تصحيح ذلك من تضييق دائرة الإخبار، فظهور الحال في كون المتكلّم في مقام من مقامات

115

المولويّة صار مقيّداً لفاعل جملة «يعيد»، وطبعاً هذه عناية تحتاج إلى مثل هذه القرينة.

الوجه الثاني: أن نحافظ على المدلول التصوّريّ، وهي النسبة الصدوريّة، والمدلول التصديقيّ، وهو قصد الحكاية، ولكن لا بمعنى: قصد الحكاية عن تلك النسبة الصدوريّة كما هو الحال في الوجه السابق، بل بمعنى: قصد الحكاية عن ملزومها(1).

وتوضيح ذلك: أنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ من طلب المولى وتحريكه، وعليه فيصحّ للمتكلّم أن يخبر عن الطلب الذي هو الملزوم بلسان الإخبار عن اللازم، وهو ما يسمّى بالكناية، من قبيل قولهم «زيد كثير الرماد» في مقام الإخبار عن الكرم، حيث كانت كثرة الرماد تنشأ في الأعصر السابقة من الكرم، ووجه العناية هنا ليس تضييق الفاعل، بل هو حمل الكلام على الكناية؛ إذ مقتضى الطبع هو الإخبار عن المدلول المطابقيّ، لا جعل المدلول المطابقيّ قنطرة إلى الملزوم.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّنا نحافظ على المدلول التصوّريّ للجملة الخبريّة، ولكن نسلخها عن المدلول التصديقيّ الخبريّ، وهو قصد الحكاية والإخبار، فلا نفترض قصد الحكاية لا عن المدلول المطابقيّ ولا عن ملزومه، بل يقال: حيث إنّ هذه النسبة الصدوريّة في كثير من الأحيان تتحقّق خارجاً في طول النسبة الإرساليّة من المولى كما يقال: «دفعته فاندفع»، إذن فتنعقد ـ بعد إقامة القرينة على الالتفات إلى هذه الطوليّة ـ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة في طول الدلالة التصوّريّة على النسبة الصدوريّة، وعندئذ يكشف الكلام عن الطلب



(1) لا يخفى: أنّ قصد الحكاية عن نفس النسبة الصدوريّة التصوّريّة محفوظ في الأخبار الكنائيّة، لكنّه استطراق إلى مدلول نهائيّ، وهو قصد الحكاية عن الملزوم.

116

والإرادة بالنحو المتقدّم في صيغة الأمر(1)، غاية الأمر: أنّ دلالة الأمر التصوّريّة على النسبة الإرساليّة كانت مطابقيّة، ودلالة الجملة الخبريّة التصوّريّة عليها التزاميّة، ولكن بعد أن انعقدت ـ على أيّ حال ـ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة صحّ أن يكشف الكلام عن الطلب والإرادة.

والعناية هنا عبارة عن فرض الانتقال التصوّريّ من النسبة الصدوريّة إلى النسبة الإرساليّة؛ إذ مجرّد تصوّر النسبة الصدوريّة لا يكفي لهذا الانتقال؛ لوضوح: أنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ أيضاً من غير النسبة الإرساليّة، فلولا القرينة يقف ذهن السامع على النسبة الصدوريّة.

الوجه الرابع: أن نحافظ أيضاً على المدلول التصوّريّ للجملة الخبريّة، وهو النسبة الصدوريّة، ونسلخها أيضاً عن المدلول التصديقيّ، وهو قصد الحكاية، ولا نلتزم بالانتقال تصوّراً من النسبة الصدوريّة إلى النسبة الإرساليّة كما في الوجه السابق، ولكن ندّعي: أنّ النسبة الصدوريّة قابلة لتعلّق شيئين نفسيّين بها من



(1) مقصود اُستاذنا (رحمه الله): أنّ الذهن ينتقل تصوّراً بواسطة القرينة من النسبة الصدوريّة التصوّريّة إلى النسبة الإرساليّة التكوينيّة؛ لأنّ النسبة الصدوريّة من لوازم النسبة الإرساليّة، وبما أنّ النسبة الإرساليّة التكوينيّة في غالب الأحيان تكون في طول الإرادة التشريعيّة للمولى تصبح الدلالة التصديقيّة عبارة عن هذه الإرادة.

ولكن الوجه الذي نحن ارتأيناه فيما سبق لدلالة صيغة الأمر على الطلب لم يكن هذا، بل كان دعوى وضع الهيئة للنسبة البعثيّة التامّة تصوّراً، وتكشف تلك النسبة عن الإرادة والبعث التشريعيّ، وهنا أيضاً يمكن تطبيق نفس الفكرة، بأن يقال: إنّ النسبة الصدوريّة خارجاً تتبع النسبة البعثيّة ذات أطراف ثلاثة، فينتقل الذهن ـ بعد قيام قرينة على الالتفات إلى ذلك ـ من النسبة الصدوريّة إلى النسبة البعثيّة التامّة، وينكشف بها على مستوى الدلالة التصديقيّة الطلب والإرادة.

117

قبل المتكلّم، فكما قد يتعلّق بها التصديق والإخبار كذلك قد يتعلّق بها الطلب والإرادة، فكما قد يكون المدلول التصديقيّ هو الأوّل كذلك قد يكون المدلول التصديقيّ هو الثاني بلا حاجة إلى ضمّ دلالة تصوّريّة على النسبة الإرساليّة؛ لأنّ الطلب والإرادة يتعلّق ابتداءً بالنسبة الصدوريّة كما يتعلّق بها الإخبار والحكاية.

إلّا أنّ هذا يحتاج إلى إعمال رويّة لنعرف أنّه إذن ما هي العناية؟ إذ قد يتبادر إلى الذهن أنّه لا توجد عناية في ذلك، فإنّ النسبة الصدوريّة قد يتعلّق بها التصديق، واُخرى يتعلّق بها الطلب، وكلاهما أمر زائد على النسبة الصدوريّة.

إلّا أنّ جواب ذلك: أنّ المؤونة موجودة هنا أيضاً؛ لأنّ التصديق بالنسبة، والكشف عنها، والعلم بها دائماً هو طريق محض إلى النسبة، لا يرى بها إلّا المعلوم والمنكشف، فكأنّه لا يزيد عليه، بينما الإرادة ممّا يُرى مستقلاًّ، لا ممّا يُرى به، فكأنّها تزيد على النسبة(1) وإن كان بالدقّة كلاهما أمراً زائداً على النسبة.

فهذه وجوه أربعة لتخريج دلالة الصيغة الإخباريّة على الطلب مع إبراز العناية الكامنة في ذلك.

وأقرب هذه الوجوه مالم تكن قرينة على أحدها بالخصوص هو الوجه الأوّل؛ لأنّ ذاك الوجه يُحافظ فيه على الدلالة التصديقيّة الخبريّة، غاية ما هناك: أنّه تقيّد فيه مادّة الفاعل، بينما في سائر الوجوه يرفع اليد عن أصل ظهور الجملة الخبريّة في المدلول التصديقيّ الإخباريّ. وكلّما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل ظهور الجملة أو تقييد المادّة، قدّم الثاني، فالوجه الأوّل هو الموافق للصناعة لولا قرينة



(1) وهذه مؤونة قويّة تجعل هذا الوجه أبعد من كلّ الوجوه السابقة.

118

خاصّة على سائر الوجوه(1).

المسلك الثاني: هو مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث اختار: أنّ دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ليست من باب استعمالها في معناها الموضوع له الأصليّ وإرادة الطلب بشيء من المناسبة، وإنّما استعملت في معنىً جديد ابتداءً. وقد انساق إلى ذلك على أساس مبناه في الوضع، حيث يرى أنّ الموضوع له هو المدلول التصديقيّ ابتداءً، لا المدلول التصوّريّ، والمدلول التصديقيّ في الجملة الخبريّة حينما تستعمل بداعي الإخبار مباين له فيها حينما تستعمل بداعي الطلب والإنشاء، وقد استشهد لكون الجملة الخبريّة منسلخة عن معناها رأساً حينما تستعمل بداعي الطلب بأنّه لو كان مدلولها الأصليّ محفوظاً في موارد الطلب، للزم جواز استعمال كلّ جملة خبريّة في مقام الإنشاء والطلب، مع أنّنا نرى بالوجدان أنّ الجملة الاسميّة لا تستعمل في ذلك، وكذلك الجملة الفعليّة إذا كان فعلها بصيغة الماضي، إلّا إذا وقع جزاءً في جملة شرطيّة، كأن يقال: «إذا قهقه في صلاته، أعاد الصلاة». وأمّا الفعل المضارع فيصحّ استعماله في الطلب مطلقاً، فيقال مثلاً: «يعيد» أو «يسجد سجدتي السهو» ونحو ذلك، فلو كان المصحّح للاستعمال المناسبة بين



(1) وبعده يكون أقوى الوجوه هو الوجه الثاني بناءً على ما قلناه: من أنّ قصد الحكاية عن نفس النسبة الصدوريّة محفوظ فيه، غاية الأمر أنّه استطراق إلى المعنى الكنائيّ، وهذا أولى من الوجهين الأخيرين اللذين سلخ الكلام فيهما عن قصد الحكاية نهائيّاً. والوجه الثالث بعد توجيهه بما أشرنا إليه في تعليقنا عليه أقوى من الوجه الرابع؛ لأنّ ما اشتمل عليه الوجه الرابع من كون المدلول التصوّريّ هو النسبة الصدوريّة، والمدلول التصديقيّ منسلخاً عن الكشف والإخبار عنه، ومتحوّلاً إلى الطلب برغم أنّ النسبة الصدوريّة لم تفرض استطراقاً إلى نسبة بعثيّة مناسبة للطلب خلاف الظاهر جدّاً.

119

الطلب والجملة الخبريّة، فأيّ فرق بين جملة وجملة؟(1).

أقول: إنّ أصل المبنى لهذا المسلك ـ وهو كون المدلول الوضعيّ عبارة عن الدلالة التصديقيّة ـ قد ظهر بطلانه فيما تقدّم من بحثنا في الوضع.

وأمّا الشاهد الذي استشهد به في المقام لمسلكه، فتعليقنا عليه هو: أنّه لا ينبغي



(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 132 ـ 138 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

والمقدار الموجود من البيان في المحاضرات يحسّ فيه بنقص، بيانه: أنّه (رحمه الله) كان بصدد الردّ على صاحب الكفاية(قدس سره) الذي يرى أنّ الجملة الخبريّة استعملت في نفس ما استعملت فيه لدى الحكاية، إلّا أنّه قصد بها الطلب. والمناسبة لإفادة الطلب بالجملة الخبريّة عبارة عن شدّة الشوق إلى المتعلّق ممّا يؤدّي إلى فرض وجوده، ومن هنا أصبحت دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب آكد من صيغة الأمر.

وخلاصة ردّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله) هي: أنّه لو كانت المناسبة لإفادة الطلب هذا الذي ذكر مع وحدة المستعمل فيه، فهذه المناسبة موجودة في كلّ أقسام الجملة الخبريّة، فلماذا خصّص تفهيم الطلب بالمضارع، أو الماضي إذا وقع جزاءً للشرط؟! فهذا دليل على أنّ سبب صحّة الاستعمال مناسبة اُخرى مخصوصة بالمضارع وبالماضي إذا وقع جزاءً للشرط.

أقول: نقص هذا البيان أنّه لم يذكر لنا ما هي تلك المناسبة المختصّة بالمضارع وبالماضي لدى وقوعه جزاءً للشرط، ولعلّ مقصوده هو أنّ معنى الأمر ـ الذي هو على مبناه عبارة عن الإلقاء في العهدة ـ يناسب الإخبار المستقبليّ دون الإخبار عن الماضي، أو عن أمر ثابت؛ لأنّ المضيّ والثبوت لا ينسجمان مع الإلقاء على العهدة، فهذا هو الذي صحّح استعمال المضارع في الإلقاء على العهدة. أمّا لو قلنا: إنّ المضارع لا زال مستعملاً في المعنى الخبريّ، وقصد به الطلب باعتبار أنّ الفراغ عن الوجود يناسب شدّة الطلب، فهذه النكتة مشتركة بين جميع أقسام الخبر.

120

الاستشكال في استعمال الفعل الماضي في مقام الطلب في الجملة من دون أن يقع جزاءً للشرط، وكيف لا مع أنّ من الشائع مثل قولنا: «غفر الله لك» أو «رحمك الله وأثابك» أو «عافاك الله» ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّه ليس المقصود الإخبار، بل الطلب والسؤال. نعم، لا إشكال في أنّ هذا غير مطّرد، فلا يقول المولى لعبده: «صلّيت» أو «صمت» في مقام الأمر بالصلاة أو الصوم، ولكن يقول له: «تصلّي» و«تصوم»، والسرّ في ذلك: أنّ الطلب يوجد فيه النظر الاستدعائيّ، وكون هذا الطلب هو السبب لتحقّق الفعل، وهذا لا يناسب بحسب الارتكاز العرفيّ مع فرض الفراغ عن تحقّقه ومضيّه الذي هو مفاد الفعل الماضي، والذي يكون أيضاً ببعض المعاني مفاد الجملة الاسميّة. نعم، حينما يقلب الماضي إلى شبه المضارع كما في جزاء القضيّة الشرطيّة، حيث أصبح تعليقيّاً صحّ استعماله في مقام الطلب، وأمّا مثل «غفر الله لك» أو «عافاك الله» الذي يستعمله العبد في مقام الطلب من المولى فكأنّه تأدّباً وتعظيماً للمولى بغضّ النظر عن كون طلبه هو السبب لنشوء الفعل من المولى، فيرتفع التهافت بين النظرتين.

دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب أو الجامع بين الوجوب والاستحباب:

وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه بعد تخريج دلالة الجملة الإخباريّة على الطلب بأحد الوجوه التي عرفت فهل تقتضي خصوص الوجوب، أو الجامع بين الوجوب والاستحباب؟

لابدّ في ذلك من مراجعة ما عرفته من وجوه تخريج دلالتها على الطلب، فنقول:

أمّا على الوجه الأوّل: فالجملة الإخباريّة في مقام الطلب تكون ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّ العناية في الوجه الأوّل كانت عبارة عن تقييد الفاعل، بمن

121

يطبّق عمله على وفق الشريعة، وتشتدّ هذه العناية لو فرض الطلب استحبابيّاً؛ إذ ليس كلّ من يطبّق عمله على وفق الشريعة يعمل بالمستحبّات، فلابدّ من إضافة في تقييد الفاعل، بأن يفرض أنّه يخبر عن حال من يطبّق عمله على وفق الشريعة حتّى في الأمر الاستحبابيّ، حتّى لا يكون كذباً.

وأمّا على الوجه الثاني: فأيضاً تكون الجملة الخبريّة للطلب ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّه فرض في ذلك الوجه سلوك مسلك الكناية والإخبار عن الشيء بلسان الإخبار عن لازمه، حيث إنّ النسبة الصدوريّة كثيراً ما تنشأ من طلب المولى، ومن الواضح: أنّ هذه الملازمة فيما إذا كان الطلب وجوبيّاً تكون أقوى وآكد منها حينما يكون استحبابيّاً، بل يمكن أن يقال بعدم الملازمة في الاستحباب لشيوع ترك الناس حتّى المتشرّعة للمستحبّات.

وأمّا على الوجه الثالث: فأيضاً تكون الجملة الخبريّة للطلب ظاهرة في الوجوب؛ وذلك لأنّ المفروض فيه هو انتقال الذهن بالملازمة من المدلول التصوّريّ المطابقيّ ـ وهو النسبة الصدوريّة ـ إلى مدلول تصوّريّ التزاميّ وهو النسبة الإرساليّة، فإذا دلّت الجملة تصوّراً ـ ولو بالملازمة ـ على النسبة الإرساليّة، جاء البيان الأخير الذي بيّنّاه في دلالة صيغة «افعل» على الوجوب: من أنّ الإرسال التكوينيّ يستبطن سدّ جميع أبواب العدم تكويناً، فمقتضى أصالة التطابق بين الإرسال التكوينيّ المدلول عليه بالصيغة تصوّراً والتسبيب التشريعيّ المدلول عليه بالصيغة تصديقاً هو الحمل على الوجوب؛ لأنّ سدّ جميع أبواب العدم تشريعاً عبارة عن الإيجاب(1).



(1) هذا البيان منسجم مع طريقة اُستاذنا (رحمه الله) في فهم الطلب والوجوب من صيغة