26

التفصيليّ الذي قد يكون أيضاً جهلاً مركّباً، فلا يوجد فرد معيّن في الخارج يطابق المعلوم بالذات تفصيلاً، وإنـّما المقصود بذلك هو بيان ضيق الصورة المعلومة بالذات وأنـّها بمقدار الواقع(1)، ومن المعلوم أنّ انتفاء الواقع لا يوجب سعة في الصورة المعلومة بالذات، ولذا يقال في العلم التفصيليّ بلا إشكال: إنـّه متعلّق بالواقع في قبال تعلّقه بالجامع، ولو لم يكن المعلوم موجوداً في الخارج أصلاً؛ لأنّ الصورة المعلومة بالذات لا تتّسع بعدم وجود المعلوم بالذات، وكذلك الحال في العلم الإجماليّ، فالصورة المعلومة بالإجمال إن لم ترمز إلى فرد معيّن في الواقع، إمّا لعدم وجوده أصلاً، أو لكون نسبتها إلى الفردين على حدّ سواء، فهذا ليس توسعة في تلك الصورة، كما لو علم محالاً بالجامع فقط، وإنـّما هي باقية على حالها من الضيق.

هذا تمام الكلام في حقيقة العلم الإجماليّ.

 

اقتضاء التنجيز للموافقة القطعيّة

وهنا ننتقل إلى أصل المطلب، وهو أنّ العلم الإجماليّ هل يقتضي التنجيز بمقدار الموافقة القطعيّة، أو لا؟ فعن المحقّق النائينيّ في تقرير السيّد الاُستاذ(2) عدم اقتضائه للتنجيز، وذهب المحقّق العراقيّ(3) والمحقّق الإصفهانيّ(4) ـ ولعلّه المشهور ـ إلى اقتضاء التنجيز، والصحيح هو عدم التنجيز إلاّ في قسم من الشبهات الموضوعيّة. ولا يخفى أنـّنا إنـّما نتكلّم هنا بناءً على قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)،


(1) يبدو أنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) يدّعي أكثر من ذلك، فهو لا يدّعي فقط ضيق الصورة المعلومة بالذات، بل يدّعي ـ أيضاً ـ انطباقها على أحد الفردين المعيّن في الواقع والمجهول لدينا، ولذا يرى أنّ امتثال أحد الفردين لا يكفي، وذلك لعدم إحراز كونه هو المطابق للمعلوم بالإجمال، وهذا الكلام غير معقول في فرض كون نسبة العلم الإجمالي إلى الطرفين على حدّ سواء، بحيث لا يمكن لعلاّم الغيوب أيضاً أن يعيّن معلومنا الإجماليّ.

(2) ج2، ص245 .

(3) راجع المقالات: ج2، ص87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 307 - 310.

(4) راجع نهاية الدراية: ج2، ص343 - 344، وص32 - 33 .

27

وحرفيّتها كما بنوا عليها وعلى حرفيّتها.

وأمـّا بناءً على ما هو الصحيح من منجّزيّة الاحتمال بدلاً عن تلك القاعدة، فلا إشكال في أصل لزوم الموافقة القطعيّة.

فالكلام هنايقع في مطلبين: أحدهما: في أنّ العلم الإجماليّ ليس كلّما تعلّق بالحكم اقتضى وجوب الموافقة القطعيّة، ففي الشبهات الحكميّة مثلاً لا يقتضي ذلك. والآخر: في بيان ضابط التفصيل بين الموارد، والنكتة في اقتضاء العلم الإجماليّ في بعضها لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة.

 

نفي عموم الاقتضاء

أمـّا المطلب الأوّل: فنقول: إنـّه لو تعلّق العلم مثلاً بوجوب الظهر أو الجمعة لم يكن هناك مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، ويتبيّن ذلك ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ المقدار المنجّز إنـّما هو الجامع؛ إذ لم يتمّ البيان بالنسبة للحدّ الشخصيّ، فهو داخل بعدُ تحت دائرة قبح العقاب بلا بيان، فإنّ الحدّ الشخصيّ المعيّن لم ينكشف، وإنـّما انكشف الجامع.

والثاني: أنـّه يكفي في الموافقة القطعيّة للجامع الذي هو المقدار المنجّز الإتيان بأحد الفردين.

أمـّا الأمر الثاني فواضح. وأمـّا الأمر الأوّل فهو صحيح على مبنانا، وعلى المباني الثلاثة الاُخرى التي مضت عن القوم، حتى على تقدير عدم إرجاعها إلى مبنانا.

أمـّا على مبنى تعلّق العلم بالجامع فواضح، فإنّ البيان عندئذ إنـّما تمّ بمقدار الجامع؛ إذ هو الذي تعلّق به العلم لا أكثر، فلا يجب الامتثال إلاّ بذلك المقدار، وذلك يكون بالإتيان بأحد الفردين.

وأمـّا على مبنانا فأيضاً يكون الأمر واضحاً، إذ نحن أيضاً نقول بأنّ العلم تعلّق بالجامع، إلاّ أنـّنا لا نقصد بالجامع الجامع الحقيقي، وإنـّما نقصد به ما يكون رمزاً لتمام الفرد بقشوره، والموافقة القطعيّة بقدر ما تعلّق به العلم من الجامع الرمزيّ تحصل بالإتيان بأحد الفردين.

وأمـّا على مبنى الفرد المردّد فنقول: إنّ صاحب هذا المبنى يسلّم أنّ الفرد

28

المردّد لا وجود له في الخارج؛ إذ الوجود الخارجيّ يساوق التعيّن، إلاّ أنـّه يقول: إنّ طرف الإضافة للعلم هو الفرد المردّد، لأنّ كونه طرفاً لإضافة العلم لا يستلزم وجوده خارجاً، حتى يرد عليه إشكال استحالة التردّد في الوجود الخارجيّ، وفاته أنّ هذا أيضاً مستلزم للتردّد في الوجود الخارجيّ؛ لأنّ طرف إضافة العلم الذي ليس موجوداً في الخارج هو المعلوم بالذات وهو عين العلم، والعلم بنفسه من الموجودات الخارجيّة، فلزم التردّد في الوجود الخارجيّ.

وعلى أيّة حال، فبعد فرض تسليم مبناه نقول: إنّ هذا لا يقتضي لزوم امتثال زائد على امتثال الجامع، فإنـّه وإن كان المفروض أنّ المقدار المتعلّق به العلم أزيد من الجامع، لكنّ المقدار الذي يقبل التنجيز ممّا تعلّق به العلم إنـّما هو الجامع، والمقدار الزائد على ذلك الداخل في دائرة العلم لا يقبل التنجيز، فإنّ المقدار الزائد إنـّما هو عبارة عن الحدّ الشخصيّ الترديديّ، وعندئذ نسأل: ماذا يتنجّز زائداً على الجامع؟ هل يتنجّز الحدّ الشخصيّ التعيينيّ، أو يتنجّز الحدّ الترديديّ؟ فإن قيل بالأوّل قلنا: إنّ الحدّ التعيينيّ ليس هو الزائد الذي تعلّق به العلم، فإنّ المفروض أنّ العلم إنـّما تعلّق بالفرد المردّد. وإن قيل بالثاني، أعني: تنجّز الفرد المردّد والحدّ الترديديّ، قلنا: إنّ الحكم الذي وجد خارجاً ليس هو الفرد المردّد قطعاً؛ لأنّ المفروض تسليم استحالة الوجود المردّد في الخارج، فالفرد المردّد ليس هو الحكم الشرعيّ الذي وجد خارجاً قطعاً، فكيف يتنجّز؟

والخلاصة: أنّ الحدّ التعيينيّ حكم شرعيّ قابل للتنجيز، لكنّه لم يتعلّق به العلم، والحدّ الترديديّ تعلّق به العلم، لكنّه ليس حكماً شرعيّاً يوجد من قبل الشارع حتى يقبل التنجيز، فلا يتنجّز إلاّ الجامع.

وأمـّا على مبنى تعلّق العلم بالواقع، فيمكن أن يقال هنا: إنّ العلم يقتضي الموافقة القطعيّة، لأنّ الواقع لا يحرز حصوله بالإتيان بأحد الفردين، والاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ، والواقع قد تنجّز وخرج عن (قاعدة قبح العقاب بلا بيان)؛ لأنـّه ثبت بيانه بتعلّق العلم به، وعندئذ يكون احتمال الواقع المنجّز في كلّ واحد من الطرفين منجِّزاً لا محالة.

إلاّ أنّ الصحيح: أنـّه على هذا المبنى ـ أيضاً ـ لا يتنجّز إلاّ مقدار الجامع. وتوضيح ذلك: أنّ المفروض في هذا المبنى هو أنّ المعلوم الخارجيّ بالعلم الإجماليّ، وبالعلم التفصيليّ هو شيء واحد، وهو الواقع، لكنْ هناك فرق بين ذات

29

صورتي العلم أو بين المعلومين بالذات، فإحداهما: صورة صافية غير مخلوطة بالإجمال والإبهام، والاُخرى: صورة غير صافية، ومخلوطة بالإجمال والإبهام، فهذه الصورة وإن لم يمكن خارجاً تجزئتها إلى حصّتين لكنّها ـ بحسب التحليل العقليّ ـ تُجزّأ إلى حصّتين: إحداهما نور وانكشاف، والاُخرى ظلمة وإبهام، والذي يطابق تمام الفرد الخارجيّ إنـّما هو تمام هذه الصورة، لا خصوص جانب الانكشاف منها، ونحن وإن كنّا لا نتعقّل في الصورة العلميّة هذا الازدواج حتى نسمّي المجموع بالعلم، أو بأيّ اسم آخر، إلاّ أنّ مفروض هذا المبنى هو تعقّل الازدواج في صورة واحدة بين الانكشاف والإبهام، وسواء سمّينا هذا المجموع بالعلم، أو بأيّ اسم آخر، فالواقع هو أنّ البيان إنـّما يكون بمقدار ما في الصورة من نور وانكشاف، وهو بمقدار الجامع. وأمـّا ما فيها من ظلمة وإبهام فليس بياناً، ومُخرِجاً للشيء عن قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بحرفيّتها، فالمقدار المنجّز هو الجامع لا أكثر.

وهنا لا بأس بإلفات النظر إلى نكتة تعود لما سبق، فقد مضى ذكر إشكال على ما اختاره المحقّق العراقيّ في تحقيق حقيقة العلم الإجماليّ مستخرج من كلمات المحقّق الإصفهانيّ، من أنّ الحدّ الشخصيّ للفرد هل هو داخل تحت الصورة الإجماليّة أو لا؟ فإن قيل: لا، كان علماً بالجامع. وإن قيل: نعم، لزم انقلاب العلم الإجماليّ إلى التفصيليّ إن فرض ذلك الحدّ الشخصيّ معيّناً، وإلاّ جاء إشكال الفرد المردّد.

أقول: لو اقتصر في مقام الإشكال على المحقّق العراقيّ على هذا المقدار من البيان، أمكن أن يقال في مقام التفصّي عنه: إنّ الحدّ الشخصيّ داخل في هذه الصورة الإجماليّة، لكن لا في جانب الانكشاف منها، بل في جانب الإبهام منها. إذن فلا بدّ من إضافة شيء إلى ذاك الإشكال وهو: أنّ الإبهام ـ في الحقيقة ـ ليس صورة، بل عبارة عن عدم الصورة، وإنـّما الصورة عبارة عن نفس الانكشاف.

وعلى أيّة حال، فقد تحصّل أنـّه على جميع المباني لا مقتضي لوجوب الموافقة القطعيّة.

والانصاف: أنّ هذا من فضائح القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بحرفيّتها، إذ كيف يقبل الوجدان أن يقال بجواز المخالفة الاحتماليّة لحكم علم إجمالاً من قبل المولى ـ تعالى ـ من دون جعل براءة شرعيّة في المقام، وأنـّه ليس له حقّ الطاعة أزيد من الموافقة الاحتماليّة لذلك؟!

30

ويوجد في كلماتهم (قدّس الله أسرارهم) ما يدلّ على التزامهم بحرفيّة القاعدة، من قبيل الاستدلال على سراية التنجّز إلى الواقع غير المبيّن بغير دعوى ضيق في القاعدة ـ كما سوف يأتي إن شاء الله ـ، والتزام المحقّق النائينيّ (قدس سره) لعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجّز الموافقة القطعيّة، وهو إنـّما يوجب الموافقة القطعيّة من باب تعارض الاُصول حتى البراءة العقليّة في الأطراف تساقطها وبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنـّه لا وجه للتعارض والتساقط في المقام بلحاظ البراءة العقليّة، بل بعد عدم الاقتضاء لا بدّ من الالتزام بجواز المخالفة الاحتماليّة بحكم البراءة العقليّة.

ثمّ إنّ الوجه في ما ذكرناه من عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجّز الموافقة القطعيّة إنـّما هو ما عرفته مفصّلاً، من أنّ المقدار المنكشف هو الجامع لا الحدّ الشخصيّ، فهو المقدار المنجّز، وأنـّه يكفي في موافقته القطعيّة الاتيان بفرد واحد، لا ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ثم دفعه.

فقد أفاد في المقام(1) : أنّ المقدار المنكشف هو الجامع، وهذا هو الجزء الأوّل من برهاننا على المدّعى، وأنـّه تكفي الموافقة الاحتماليّة للجامع بالإتيان بفرد واحد، ولا تحرم مخالفته الاحتماليّة بترك الآخر؛ إذ المخالفة الاحتماليّة لا قبح فيها، ولا يستحقّ العبد العقاب عليها، وإلاّ لزم أن يعاقب من ارتكب كلا الطرفين بعقابين.

ثمّ أجاب عن ذلك: بأنّ العقل يرى لزوم الامتثال القطعيّ للحكم المعلوم(2).

وكأنّ مقصوده (قدس سره) بذلك: هو أنّ كلاّ من المخالفتين الاحتماليّتين ليست حراماً


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 32 ـ 33، وص 243 ـ 244.

(2) وقال (رحمه الله): إنّ هذا بناءً على أنّ استحقاق العقاب يكون بحكم العقل. أمـّا بناءً على كونه بحكم الشرع وجعله، فلازمه استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعيّ بعد قيام الحجّة عليه، وعليه ففي كلّ طرف من الأطراف نحتمل العقاب لاحتمال كون التكليف فيه، فلا بدّ من اجتنابه.

أقول: سواء فرض استحقاق العقاب بحكم العقل، أو بحكم الشرع، فبعد فرض الإيمان بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) وفرض عدم تماميّة البيان إلاّ بقدر الجامع، يتّجه القول بجواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة للواقع؛ لأنـّها موافقة قطعيّة للجامع، وما عدا ذلك داخل تحت الأمان المستفاد من القاعدة.

31

مستقلاّ لكي يلزم تعدّد العقاب، وإنـّما هنا واجب واحد، وهو الموافقة القطعيّة، وهي واجبة بما تستبطن من سائر مراتب الموافقة الظنّيّة والاحتماليّة، إلاّ أنّ هذا الواجب الواحد وهو الموافقة القطعيّة يكون بنحو الانحلال، أي: على تقدير فقد هذه المرتبة من الموافقة يُنتقَل إلى المرتبة الأدنى المستبطنة فيها، وهكذا، فكلّ من المخالفتين الاحتماليّتين قبيح بما هو ترك لجزء واجب واحد انحلاليّ بهذا المعنى، فمن ترك كلا الطرفين يعاقب بالعقاب الواحد الذي يعاقب به من علم بالحكم تفصيلاً فتركه.

وعلى أيّة حال، فلا إشكال في حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم، ولذا لو علم تفصيلاً بالحكم ثمّ شكّ في امتثاله فلا إشكال في أنـّه لا بدّ له من الإتيان به حتى يحصل له القطع بالامتثال، وإنـّما نقول في مورد العلم الإجماليّ بأنـّه لا يقتضي التنجيز أكثر من ضرورة الإتيان بأحد الأفراد؛ لأجل أنّ الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم ـ وهو الجامع ـ تحصل بالإتيان بأحد الأفراد، لا لا جل كفاية موافقته الاحتماليّة وعدم حرمة مخالفته الاحتماليّة.

 

ضابط التفصيل في الاقتضاء

وأمـّا المطلب الثاني: فالتحقيق هو الفرق بين مثل العلم الإجماليّ بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة الذي هو شبهة حكميّة، ومثل العلم الإجماليّ بوجوب إكرام زيد و عمرو بنحو الشبهة الموضوعيّة من باب العلم بوجوب إكرام العالم، والعلم إجمالاً بكون أحدهما عالماً، ففي الأوّل لا يقتضي العلم الإجماليّ تنجّز شيء أزيدمن الجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بإحدى الصلاتين؛ إذ تحصل بذلك الموافقة القطعيّة للمقدار المعلوم، وفي الثاني لا بدّ من إكرام كليهما؛ لأنـّنا علمنا بوجوب إكرام العالم، فلا بدّ من تحصيل الموافقة القطعيّة لذلك، وهي لا تحصل بإكرام أحدهما، فلا بدّ من إكرام كليهما.

ويمكن أن يتخيّل في المقام أنـّه لا فرق بين المثالين، ففي كليهما يكفي الاتيان بالجامع بالإتيان بأحد الفردين، فإنّ الحكم لا يتنجّز إلاّ بالوصول، ووصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الكبرى والصغرى معاً، فلو علم مثلاً أنّ زيداً عالم، ولم يعلم بالكبرى، وهي وجوب إكرام العالم، لم يتنجّز عليه وجوب إكرام زيد، ولو علم

32

بوجوب إكرام العالم، ولم يعلم بالصغرى، وهي كون زيد عالماً لم يتنجّز عليه وجوب إكرام زيد أيضاً، وعليه نقول: إنـّه في مورد العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحدهما لا فرق بين افتراض الإجمال في الكبرى أو الصغرى، فلا فرق بين أن نفترض أنـّنا علمنا إجمالاً بوجوب إكرام العالم أو العادل، وعلمنا أنّ زيداً عالم وعمراً عادل، أو نفترض أنـّنا علمنا بوجوب إكرام العالم، وعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما عالم، ففي الأوّل لا إجمال في الصغرى، ولكنّ الإجمال في الكبرى أدّى إلى أن لا نعلم بوجوب الإكرام إلاّ بقدر الجامع، فلم يتنجّز إلاّ مقدار الجامع بين الطرفين الذي يكفي في إتيانه الإتيان بأحد الطرفين، فإنّ الصغرى وإن كانت معلومة بالعلم التفصيليّ، ولكن وصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الصغرى والكبرى معاً، والمفروض أنّ الكبرى لم تصل إلاّ بقدر الجامع، وفي الثاني الذي كانت الشبهة فيه موضوعيّة لا إجمال في الكبرى، ولكنّ الإجمال في الصغرى أدّى إلى نفس النتيجة، فهنا ـ أيضاً ـ لم يتنجّز إلاّ القدر الجامع بين الطرفين، لأنّ الكبرى وإن كانت معلومة بالتفصيل، لكنّ وصول الحكم لا يكون إلاّ بوصول الكبرى والصغرى معاً، والمفروض أنّ الصغرى لم تصل إلاّ بمقدار الجامع، فإنـّنا لا نعلم بعالميّة هذا بالخصوص، ولا بعالميّة ذاك بالخصوص، وإنـّما نعلم بعالميّة الجامع، فلا يتنجّز علينا إلاّ إكرام الجامع.

ولعلّ هذه الشبهة هي التي جعلت من يقول بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة كالمحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يفصّل بين مورد ومورد.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام غير صحيح، فعدم معلوميّة الصغرى بأزيد من الجامع لا ينقل التكليف المعلوم من الواقع إلى الجامع.

وتوضيح ذلك: أنّ المقدار الواصل ينحلّ ـ بحسب التحليل العقليّـ إلى أمرين: وجوب إكرام شخص، ووجوب أن يكون الإكرام مضافاً إلى العالم، فإذا أكرمنا أحدهما لم يكن ذلك موافقة قطعيّة للمقدار الواصل؛ إذ الجزء الثاني التحليليّ من جزئي المقدار المعلوم، وهو أن يكون المكرم عالماً لم يُقطع بموافقته، ولا بدّ من تحصيل القطع بموافقته، كما أنـّنا لو علمنا تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر بشرط طهارة البدن مثلاً، ثمّ شككنا في الاتيان بها بهذا الشرط، وفرضنا عدم جريان قاعدة الفراغ، وعدم إحراز الطهارة بمثل أصالة الطهارة أو استصحابها، لم يكن شكّ في أنّ المورد مورد قاعدة (أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقينيّ)، ولا مجال فيه للبراءة.

وقد تحصّل: أنّ العلم الإجماليّ في المثال الثاني له إضافة خاصّة إلى الواقع

33

من الفردين بخلافه في المثال الأوّل، وأنـّه في المثال الثاني يكون المقدار المعلوم أزيد من الجامع، وهو وجوب إكرام أحدهما؛ لأنـّنا نعلم ـ زائداً على ذلكـ بوجوب كون الإكرام مضافاً إلى العالم، أو قل: بشرط كون المكرَم عادلاً، فتحصيلاً للموافقة القطعيّة للمقدار الزائد لا بدّ من إكرام كلا الفردين، فالصحيح ليس هو ما ذهب إليه المحقّق العراقي (قدس سره)من اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة مطلقاً، ولا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بمقتضى إطلاق كلامه من عدم اقتضائه لذلك مطلقاً، وإنـّما الصحيح ـ حسب مبنى حرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ـ هو التفصيل.

والضابط الفنيّ لهذا التفصيل ليس هو كون الشبهة حكميّة أو موضوعيّة، وإنـّما الضابط لذلك كون متعلّق الحكم مقيّداً بقيد لا يعلم حصوله في هذا الفرد أو في ذاك الفرد، فنضطرّ إلى الجمع بين الفردين تحصيلاً للقطع بحصوله، فمتى ما كان هكذا وجبت الموافقة القطعيّة، ومتى ما لم يكن هكذا لم تجب، ولو كانت الشبهة موضوعيّة، كما هو الحال في الشبهات الموضوعيّة التي ليس المشكوك فيها باشتباه خارجيّ قيداً للمتعلّق، كما في مثال وجوب إكرام العالم، وإنـّما كان قيداً للمكلّف أو التكليف، كما لو شكّ بنحو الشهبة الموضوعيّة أنّ المكلّف هل هو مسافر فيقصّر، أو حاضر فيتمّ، ولم يجرِ الاستصحاب لتوارد الحالتين مثلاً، وكما لو وجب التصدّق على زيد إن نزل المطر، وعلى عمرو إنْ هبّت الرياح، وتردّد الأمر بين نزول المطر وهبوب الرياح .

هذا تمام الكلام فيما هو المختار، وهو التفصيل في قبال قول الطرفين القائل أحدهما باقتضاء التنجّز مطلقاً، والآخر بعدمه مطلقاً.

 

كلمات الأصحاب حول الاقتضاء

وأمـّا ذكر كلام الطرفين، فالمحقّق النائينيّ (قدس سره) ذهب في أجود التقريرات(1) إلى عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، واستدلّ على ذلك بأنّ العلم إنـّما تعلّق بالجامع، وهو الذي تمّ عليه البيان، فهو المنجّز ـ وهذا هو الجزء الأوّل من جزئي برهاننا على عدم الاقتضاء ـ، ولكنّه (قدس سره) لا يقول بجواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة، بل يقول بأنّ العلم الإجماليّ وإن كان بنفسه لا يقتضي تنجيز


(1) أجود التقريرات: ج 2، ص 245.

34

الموافقة القطعيّة، لكنّه لمّا كان العلم الإجماليّ مقتضياً بنحو العلّيّة ـ حسب ما ذهب إليه (قدس سره) ـ لحرمة المخالفة القطعيّة أوجب ذلك تعارض الاُصول المؤمّنة، وتساقطها في الأطراف، فيبقى الاحتمال في كلّ واحد من الطرفين بلا مؤمّن عن استحقاق العقاب، والاحتمال بلا مؤمّن منجّز لا محالة، قال (قدس سره): وإن شئت فسمّ ذلك باقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ اقتضى ذلك بالواسطة، حيث إنـّه اقتضى حرمة المخالفة القطعيّة المقتضية لتعارض الاُصول وتساقطها المقتضي لبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، وبالتالي تنجيزه.

أقول: أمـّا ما أفاده (رحمه الله) في وجه عدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، فيرد عليه ما عرفت من أنـّه لا يوجب عدم الاقتضاء مطلقاً، بل يجب استثناء ما إذا كان متعلّق الحكم مقيّداً بقيد لايعلم حصوله إلاّ بالإتيان بكلا الفردين، فهنا تجب الموافقة القطعيّة، وإلاّ لم تجب ـ أيضاً ـ الموافقة القطعيّة فيما لو علم تفصيلاً بوجوب الصلاة المقيّدة بقيد مّا، وشكّ في الاتيان بها بقيدها المطلوب.

وأمـّا ما أفاده من لزوم الموافقة القطعيّة من باب تعارض الاُصول وتساقطها وبقاء الاحتمال بلا مؤمّن، فيرد عليه: أنّ الاُصول الشرعيّة وإن كانت تتساقط ـ إن سلّم ـ لحرمة المخالفة القطعيّة، لكنّنا نتكلّم في المرتبة السابقة، وهي مقدار حقّ المولى بحكم العقل في نفسه قبل وصولنا إلى المرتبة اللاحقة، وهي تصرّف المولى في مقدار الامتثال اللازم بتزييد او تنقيص، فنقول: إنّ المقدار الذي يستحقّه المولى إنـّما هوالامتثال بمقدار الجامع، وأمـّا كلّ واحدة من الخصوصيّتين فتجري عنها البراءة العقليّة، وقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) لأنـّها غير مبيّنة، ولا معنىً لوقوع المعارضة بين إجراء القاعدتين في الخصوصيّتين؛ إذ لا منافاة أصلاً بين تنجّز الحدّ الجامع وعدم تنجّز الحدّين الخاصّين.

وقد تنبّه إلى ذلك المحقّق العراقيّ(1)(قدس سره) فنقض على القائل بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة بأنـّه لا بدّ له من القول بجواز مخالفة أحد الطرفين، مع أنـّه لا يقول بذلك.

وهذا النقض في محلّه، حيث إنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لا يلتزم بجواز مخالفة أحد الطرفين، مع أنّ هذا ممّا لا بدّ أن يلتزم به حسب مبانيه كما عرفت.


(1) هذا التنبّه موجود في المقالات: ج 2، ص 87، القسم الأوّل من الصفحة.

35

وأمـّا القول باقتضاء العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة ـ الذي ذهب إليه المحقّق العراقيّ(1) والمحقّق الإصفهانيّ(2) (قدس سرهما)، ونسب إلى المشهور، وذهب إليه المحقّق النائينيّ (قدس سره) في تقرير الشيخ الكاظميّ(3) ـ فالذي يستخلص من كلمات المحقّق العراقيّ (رحمه الله) ـ على تشويشها ـ دليلاً على ذلك وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ ـ حسب ما عرفت من مبناه من كون افتراقه عن العلم التفصيليّ في نفس العلم، أو صورة المعلوم بالذات لا في المعلوم بالعرض ـ يكون عارضاً في الذهن على صورة إجماليّة، والعلم التفصيليّ يكون عارضاً في الذهن على صورة تفصيليّة، وليس العلم عارضاً على الواقع الخارجيّ، ببرهان: أنّ العلم يخطأ، ولا يوجد هنا واقع خارجيّ أصلاً، فهنا حدّان ذهنيّان: أحدهما حدّ إجماليّ، والآخر حدّ تفصيليّ، والعلم الإجماليّ عرض على الأوّل، والعلم التفصيليّ عرض على الثاني. أمـّا في الخارج فلا يوجد عدا حدّ واحد، وهو الحدّ الشخصيّ، وليس لما في الخارج حدّان: حدّ إجماليّ وحدّ تفصيليّ، والعلم يعرض على الصورة الذهنيّة لا على ما في الخارج، ولا يسري كلّ من العلمين من حدّه إلى حدّ الآخر، فالعلم الإجماليّ عرض على الحدّ الإجماليّ، ولا يسري إلى الحدّ التفصيليّ، وكذلك العكس ـ أيضاً ـ مستحيل استحالة عروض أيّ عارض على غير معروضه، فإنّ الحدّ الإجماليّ والحدّ التفصيليّ أمران متباينان. وأمـّا التنجّز فليس عارضاً على الصورة الذهنيّة كالعلم حتّى يقال: إنـّه يقف على ما يقف عليه العلم من الحدّ الإجماليّ، ولا يسري إلى الحدّ التفصيليّ، وإنـّما هو عارض على الواقع الذي قلنا: إنـّه ليس له حدّان، وإنـّما له حدّ واحد، وهو حدّه الشخصيّ، فيتنجّز الواقع بهذا العلم، وإذا تنجّز الواقع بهذا العلم تنجّز الطرفان، إذ يحتمل في كلّ واحد من الطرفين وجود الواقع المنجَّز، واحتمال الواقع المنجَّز منجِّز لا محالة، فما يقال من أنـّه كما أنّ العلم الإجماليّ لا يسري كذلك التنجّز لا يسري خلط بين الحدود الذهنيّة المعروضة للعلم والحدّ الخارجيّ المعروض للتنجّز.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّ معروض التنجّز ـ حسب ما هو الصحيح من كون المتجرّي


(1)راجع المقالات:ج2، ص 87، ونهاية الأفكار:القسم الثاني من الجزء الثالث، ص309.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 32ـ 33، وص 343ـ 344.

(3) راجع ج 4، ص 9.

36

معاقباً بنفس ملاك عقاب العاصي ـ ليس هو الواقع بوجوده الخارجيّ، بل هوالوجود العلميّ للحكم، فإنّ لزوم طاعة المولى إنـّما هو بملاك تعظيمه وأداء حقّه، ومن المعلوم أنّ تعظيمه لا يتحقّق بمجرّد امتثال حكمه الواقعيّ، سواء وصل بمرتبة من مراتب الوصول أو لا، ويتحقّق بامتثال ما علم من حكمه، سواء كان العلم مطابقاً للواقع أو لا. إذن فالتنجّز عارض على الصورة الذهنيّة لا على الواقع.

وثانياً: أنـّنا سلّمنا أن معروض التنجّز هو الواقع، لكنّ الواقع إنـّما هو جزء العلّة للتنجّز، والجزء الآخر هو البيان والوصول؛ إذ لو لم يبيّن كان داخلاً تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، والبيان إنـّما تمّ بمقدار الجامع، وأمـّا ماذكره من : (أنّ القول بعدم سريان التنجّز ـ كما لا يسري العلم ـ خلط بين الحدود الذهنيّة المعروضة للعلم والحدّ الخارجيّ) فهو خلط في المقام؛ إذ لم يكن المقصود دعوى عدم سراية التنجّز من الحدّ الإجماليّ إلى الحدّ التفصيليّ، وإنـّما المقصود هو أنّ الواقع الخارجيّ بنفسه له حدّان، لا بمعنى الحدّ الإجماليّ والحدّ التفصيليّ المتباينين، بل بمعنى الحدّ الجامعيّ والحدّ الشخصيّ المتداخلين، فإنّ الشيء له حدود عديدة صاعدة ونازلة حسب ما له من جوامع وكلّيّات، فلابدّ أن نرى ما هو المقدار المبيّن من الواقع؟ هل هو الحدّ الجامعيّ فقط، أو هو مع حدّه الشخصيّ؟ والمفروض أنّ صورة العلم الإجماليّ مزدوجة من جهة انكشاف وجهة إبهام، وما يطابق جهة انكشافها هو الحدّ الجامعيّ، وما يطابق جهة إبهامها هو الحدّ الشخصيّ، فالبيان إنـّما يتمّ بمقدار الجامع، ويكفي في امتثاله القطعيّ الاتيان بأحد الطرفين، فلا تجب الموافقة القطعيّة للواقع على تفصيل قد عرفته.

الوجه الثاني(1) ـ أنـّنا سلّمنا أنّ العلم تعلّق بالجامع، لكن الجامع تارةً ينظر إليه قبل تحصّصه وانطباقه في الخارج، واُخرى ينظر إليه مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، والأوّل كما في الواجب التخييريّ بالتخيير العقليّ أوالشرعيّ، فإذا أوجب المولى الصلاة التي هي جامع بين أفرادها، وهو الواجب التخييري العقليّ، أو أوجب باب التخيير الشرعيّ أحد الاُمور من الخصال الثلاث في الكفّارة، الذي هو جامع انتزاعيّ بينها، فهنا لا يلزم إلاّ الإتيان بفرد واحد من تلك الأفراد، لحصول الجامع بذلك. وأمـّا في ما نحن فيه فقد تعلّق العلم بالجامع مفروغاً عن تحصّصه


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 300 و 309.

37

وانطباقه في الخارج، وإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتنجّز تلك الحصّة، وذلك الأمر الموجود في الخارج.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يخلو عن غموض، فلو كان مقصوده: أنّ التحصّص والخصوصيّة داخل تحت العلم؛ لأنـّنا علمنا بالجامع مفروغاً عن تحصّصه وتخصيصه في ضمن فرد، فتتنجّز الخصوصيّة؛ لانكشافها لنا، ورد عليه: أنّ ما هو تحت العلم يكون عبارة عن عنوان الخصوصيّة، والانطباق الذي هو أمر كلّي، وما يقصد إثبات تنجيزه عبارة عن واقع الخصوصيّة، فهذا يكون من باب اشتباه العنوان بالمعنون والمفهوم بالمصداق.

ولوكان مقصوده: أنـّه وإن كان ما هو تحت العلم هو عنوان الخصوصيّة والتحصّص لا واقعها، ولكنْ لمّا تعلّق العلم بجامع متخصّص بخصوصيّة، ونحن لا نعلم بواقع تلك الخصوصيّة، إذن لا بدّ أن نأتي بكلا الفردين؛ إذ لو أتينا بأحدهما لم يحصل القطع بالاتيان بالجامع بما هو متخصّص بتلك الخصوصيّة المخصوصة، ورد عليه: أنـّه إنْ اُريد بذلك أنّ حصّة معيّنة من الجامع داخلة تحت العلم فلا بدّ من تحصيل القطع بإتيانها، فهذا غير معقول بعد أن كان المفروض عدم العلم بواقع الخصوصيّة، وإن اعترف بأنّ المقدار المعلوم هو الجامع بين الحصّتين، وادّعى مع هذا تنجّز تلك الحصّة للعلم بتحصّص ذلك الجامع، فلا وجه لذلك؛ إذ المفروض أنّ المقدار المعلوم والمبيّن هو الجامع بين الحصّتين، وخصوصيّة الحصّتين باقية بعدُ تحت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) .

وكلّ هذه الكلمات إنـّما نشأت من القاعدة التي خلقوها، ثمّ قدّسوها وهي قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، حيث إنّ مقتضى حرفيّتها جواز ارتكاب بعض الأطراف، مع أنّ الوجدان يدلّ بوضوح على أنـّه لو علم إجمالا بحكم من قبل المولى اقتضى ذلك لزوم الموافقة القطعيّة، فوقعوا في ضيق من ناحية التزامهم بمبانيهم المفروغ عن صحّتها عندهم، فالتزم المحقّق النائينيّ (قدس سره) بعدم اقتضاء العلم الإجماليّ لتنجيز الموافقة القطعيّة، واحتال عن طريق تساقط الاُصول، وعزّ على المحقّق العراقيّ (رحمه الله)أن يلتزم بعدم اقتضائه لتنجيزها، فاضطرّ ـ جمعاً بين المبنى والوجدان الحاكم بتنجيز الموافقة القطعيّة ـ إلى أن يتكلّم بهذه الكلمات التي هو أجلّ شأناً من أن لا يلتفت إلى بطلانها، ولو أنـّهم بدلاً عن هذا التزموا بشيء بسيط، وذلك بأن رجعوا إلى أصل المبنى مرّةً اُخرى، وتأمّلوا فيه فتنازلوا عن قاعدة (قبح

38

العقاب بلا بيان) أو عن حرفيّتها، فقيّدوها وخصّصوها بما لا يشمل فرض العلم الإجماليّ، لاستراحوا عن كلّ هذه الكلمات والإشكالات.

والصحيح: أنّ العلم الإجماليّ وإن لم يكن بياناً إلاّ بمقدار الجامع لكنّه يقتضي تنجيز الموافقة القطعيّة للواقع، وهذا نقول به حتى على مبنانا من منجّزيّة نفس الاحتمال، أي أنّ من ترك أحد طرفي العلم الإجماليّ فهو أشدّ استحقاقاً للعقاب ممّن خالف الاحتمال البدويّ للتكليف من دون مؤمّن شرعيّ(1) .

 


(1) قد يقال: إنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ التنجّز حتى بناءً على إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) إنـّما هو فرع الوصول، غاية ما هنا أنـّه يكتفى بناءً على إنكار تلك القاعدة بالوصول الاحتماليّ، واشتداد التنجّز إنـّما يتبع اشتداد الوصول، والمفروض أنّ العلم الإجماليّ إنـّما هو وصول للجامع، وليس وصولاً لأحد الأمرين، فكيف يوجب اشتداد تنجّزه؟!

والجواب: أنـّه لعل مقصود اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) دعوى أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال (وهو نوع من الوصول) منجّز أكثر من منجّزيّة الشكّ البدويّ.

39

 

 

 

هل يمكن الترخيص في تمام الأطراف؟

 

وأمـّا المقام الثاني ـ وهو البحث عن مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ـ فالكلام فيه تارةً يقع في مانعيّته ثبوتاً، واُخرى في مانعيّته إثباتاً عنه.

 

المحذور الثبوتيّ

أمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة، فالصحيح فيها أنّ العلم الإجماليّ لا يمنع عن إمكان الترخيص في تمام الأطراف، كما يظهر ذلك بالالتفات إلى مبنانا في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإضافة بعض البيانات، وتوضيح ذلك: أنـّه مضى في محلّه: أنّ الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ يكون ببيان أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين التزاحم، وتقديم الغرض الأهمّ عند تزاحم أغراضه في عالم المحرّكيّة، لا تزاحمها في عالم الامتثال المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق النائينيّ (قدس سره)؛ إذ الإباحة لا امتثال لها حتى يقع التزاحم في الامتثال، ولا تزاحمها في عالم الحكم المصطلح عليه بالتزاحم في مدرسة المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، إذ ذلك فرع وحدة المتعلّق المفقودة في مانحن فيه، وإذا كان الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال المولى لقوانين باب التزاحم، وتقدّم الغرض الأهمّ من الأغراض المتزاحمة في عالم المحرّكيّة، لم يكن منافياً للحكم الواقعيّ لا بلحاظ تضادّ المبادىء؛ إذ الحكم الظاهريّ ينبع من نفس مبادىء الأحكام الواقعيّة، وليست له مبادىء اُخرى وراء مبادئها، ولا بلحاظ تفويت الغرض؛ إذ لا بأس به إذا كان لأجل المزاحمة بغرض أهمّ.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ يأتي بعينه في ما نحن فيه؛ إذ لا فرق بين ما نحن فيه وموارد الشكّ البدوي، عدا أنـّه في تلك الموارد لا يعلم إلاّ بأحد الغرضين: اللزوميّ والترخيصيّ، لا على التعيين، وفيما نحن فيه يعلم بخصوص الغرض اللزوميّ، ويعلم

40

غالباً أيضاً بغرض ترخيصيّ، واشتبه أحدهما بالآخر، وقد يتّفق أنـّا لا نعلم بغرض ترخيصيّ، كما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، واحتملنا نجاستهما معاً. ولنتكلّم في الغرض الأوّل، ومنه يظهر الحال في الغرض الثاني.

فنقول: إذا اشتبه غرض لزوميّ بغرض ترخيصيّ؛ لأنـّنا علمنا بوجود نجس وطاهر مثلاً، لكنّنا لم نتمكّن من تمييز أحدهما عن الآخر، فعندئذ يقع التزاحم بين الغرضين: الغرض اللزوميّ وغرض كون المكلّف في سعة، وشعوره بالاختيار، وأنـّه يكون بحيث إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وهو تزاحم بحسب عالم المحرّكيّة، وكما أنّ بإمكان المولى أن يوجب الاحتياط في الطرفين تحفّظاً على الغرض اللزوميّ لأهمّيّته، كذلك بإمكانه أن يرخّص لاهتمامه بالغرض الترخيصيّ، فيتحفّظ عليه تحفّظاً كاملاً أو ناقصاً، فإيجاب الاحتياط وكذلك الترخيص كلاهما حكمان ظاهريّان لا ينافيان الحكم الواقعي بعين البيان الذي مضى حرفاً بحرف.

ولكن قد بيّن في المقام المحذور في الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ببعض الوجوه، ونحن نذكر بهذا الصدد كلمات المحقّق النائينيّ والمحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ (قدّس الله أسرارهم) مع مناقشتها:

أمـّا كلام المحقّق النائينيّ(1)(رحمه الله) فهو أنّ الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ ترخيص في معصية التكليف الواصل، والترخيص في معصية التكليف الواصل قبيح لا يصدر من المولى الحكيم. وقد تبعه على ذلك السيّد الاُستاذ أيضاً(2).

وحاصل هذا الكلام هو دعوى المضادّة بين الحكم الظاهريّ وحكم العقل، ساكتاً عن المضادّة بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال، وهذا السكوت حسن؛ إذ لا مضادّة بينهما.

وعلى أيّة حال، فهذا الوجه ـ كما ترى ـ موقوف على كون قبح المعصية تنجيزيّاً غير معلّق على شيء يرفعه الشارع، وإلاّ لارتفع موضوع القبح. فلنتكلّم في هذه النقطة، وهي تنجيزيّة قبح المعصية .

فنقول: إنـّنا لا نساعد على تنجيزيّة قبح المعصية إلاّ بمعنيين:


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 6، وأجود التقريرات: ج 2، ص 241.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 346، والدراسات: ج 3، ص 220.

41

الأوّل: أنـّه ليس للمولى رفع مولويّته حتى تجوز بالتالي معصيته، أي أنّ العبد يجب أن يكون كالخاتم في يد المولى يحرّكه كيفما شاء، ولا يمكن للمولى أن يسلب عن نفسه هذا الحقّ. وهذا كلام صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه غير مرتبط بما نحن فيه، فإنّ المولى بتقديمه تشريعاً لغرضه الأهمّ الذي هو الغرض الترخيصي على غرضه المهمّ لم يسلب عن نفسه حقّ المولويّة، وإدارة المكلّف كيفما شاء، وإنـّما أعمل بذلك حقّ المولويّة.

الثاني: أنـّه بعد أن كان حقّ المولويّةـ الذي هو عبارة عن حقّ تحرّك العبد حسب تحريك مولاه ـ ثابتاً وغير مسلوب عن المولى لا يمكن للمولى أن يرخّص العبد في مخالفة هذا الحقّ، وهتكه لحرمة مولاه. وهذا أيضاً صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه أيضاً غير مربوط بما نحن فيه، فإنّ تقديم المولى لغرضه الأهمّ الترخيصيّ على غرضه المهمّ ليس عبارة عن ترخيص العبد في سلب المولى حقّه وظلمِه، وإنـّما حقّ المولى على العبد هو تحرّكه حسب ما يحبّ المولى بعد إعماله لكلّ ملاحظاته وتشريعاته وحسابه لتمام أقسام التزاحمات بين أغراضه، وليس تقديمه للغرض الأهمّ الترخيصيّ إلاّ إعمالاً لمولويّته، لا ترخيصاً للعبد في هتك حرمته، وكيف تنهتك حرمته بالمشي حسب ميله بعد ملاحظته لتمام أغراضه المتزاحمة؟!

فهذان معنيان لتنجيزيّة قبح المعصية لا إشكال فيهما، لكنّهما لا يرتبطان بالمقام.

وليس هنا شيء ثالث إلاّ دعوى أنـّه ليس للمولى تقديم غرضه الأهمّ الترخيصيّ على غرضه المهمّ الإلزاميّ، ولا بدّ من إطاعة غرضه الإلزاميّ وإن كان غرضه الترخيصيّ أهمّ عنده، وهذا ـ في الحقيقة ـ تحديد لمولويّة المولى كتحديد مولويّته في الاُمور غير المقدورة للعبد، إذ ليس للمولى إلزام العبد بها، ومن المعلوم أنّ تحديد مولويّة المولى في المقام، ومنعه عن أن يُفدي غرضه المهمّ في سبيل غرضه الأهمّ ضروريّ البطلان.

وقد ظهر ممّا بيّنّاه في وجه عدم مضادّة الحكم الظاهريّ للحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال من كونه نتيجة لإعمال قوانين التزاحم بين الأغراض الفرق بين العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ، ووجه عدم إمكان جعل الترخيص في الثاني بخلاف الأوّل، وهو أنـّه في الثاني لا تزاحم بين الأغراض في عالم المحرّكيّة لعدم الاشتباه بينها كي يعمل قوانين باب التزاحم، وتكفي لحفظ الأغراض نفس

42

الخطابات الأوّليّة، ولو جعل الترخيص لأنتج عكس المطلوب من حفظ الأغراض، فإنـّه تفويت محض للغرض بلا أيّ موجب.

هذا، وقد تكلّمنا في بحث القطع في مسألة عدم إمكان الترخيص في مخالفة العلم التفصيليّ بشكل أوسع.

وأمـّا كلام المحقّق الخراسانيّ(1) (قدس سره) في المقام فقد ذكر: أنّ الحكم المعلوم بالإجمال إن فرض بلوغه إلى مرتبة الفعليّة ـ ولو بنفس العلم الإجماليّ، لم يكن الترخيص لا في تمام الأطراف؛ للزوم اجتماع حكمين فعليّين، والحكمان الفعليّان متضادّان، ولا في بعضها؛ لمضادّته له لو كان في ذاك الطرف، والمفروض أنـّه يحتمل كونه في ذاك الطرف، فيلزم احتمال التضادّ، وإن فرض أنـّه لم يصل بعد إلى مرتبة الفعليّة، حتى بنفس العلم الإجماليّ، بل تتوقّف فعليّته على شيء آخر كالعلم التفصيليّ، أمكن الترخيص في المقام.

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ بيان للتضادّ بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ، لا بينه وبين حكم العقل بلزوم الامتثال، عكس الوجه الأوّل.

ويقول (رحمه الله): إنـّه في مورد الشكّ البدويّ ـ أيضاً ـ لو كان الحكم فعليّاً لم يمكن الترخيص في مخالفته، وإنـّما نلتزم فيها بالترخيص؛ لثبوت عدم فعليّة التكليف فيها ولو بقرينة نفس أدلّة الترخيص.

فظهر أنّه(رحمه الله) لايرى ـ في الحقيقة ـ فرقاً بين العلم الإجماليّ والشك البدويّ، بل في كلّ منهمايرى أنّ التكليف إن بلغ مرتبة الفعليّة لا يمكن الترخيص في مخالفته، وإلاّ أمكن الترخيص فيها، وإنـّما جاء الفرق بين الشّك البدويّ والعلم الإجماليّ من ناحية أنـّه في الشّك البدويّ فرض ثبوت عدم فعليّة التكليف ولو بقرينة أدلّة الاُصول، وفي العلم الإجماليّ فرض افتراضاً تعلّقه بالتكليف الفعليّ، فوقع التكلّم في هذا الفرض، وقيل بعدم إمكان الترخيص في أطرافه.

بل يمكن أن يستنتج من مبانيه أنـّه لا يفرّق ـ بحسب الروحـ بين الشكّ البدويّ والعلم التفصيليّ، ففي العلم التفصيليّ ـ أيضاً ـ إن فرض التكليف بالغاً مرتبة الفعليّة لا يمكن الترخيص في الخلاف، وإن كانت فعليّته موقوفة عل أمر غير حاصل


(1) راجع الكفاية: ج 2، أوّل بحث الشكّ في المكلّف به، ص 208 بحسب الطبعة المقرونة بحاشية المشكينيّ.

43

أمكن الترخيص فيه، وإنـّما جاء الفرق بين العلم التفصيليّ والعلم الإجماليّ من ناحية استبعاد أن تكون لفعليّة الحكم بعد تعلّق العلم التفصيليّ به حالة منتظرة، بخلاف فرض تعلّق العلم الإجماليّ به(1).

أقول: إن كان مراده (قدس سره) من فعليّة المعلوم بالإجمال فعليّة تحفّظ المولى عليه، حتى بلحاظ تزاحم الأغراض، فعدم إمكان الترخيص في ذلك صحيح، إلاّ أنّ هذا الكلام مرجعه إلى أنّ التكليف الذي يُلزِم المولى الاحتياط بالنسبة له عند اشتباهه بإباحة لا يمكن أن يرخّص فيه، وهذا واضح، ويشبه قولنا: إنّ التكليف الذي لا يرخّص المولى فيه لا يرخّص فيه، وليس الكلام في هذا، وإنـّما الكلام في أنـّه: هل يمكن للمولى رفع اليد عن تكليفه المعلوم بالإجمال، من قبيل رفعه اليد عن التكليف المشكوك، أو لا؟ وبكلمة اُخرى: أنّ الفعليّة بهذا المعنى هي بنفسها محلّ البحث، فالتكلّم مع فرض هذه الفعليّة أمراً مفروغاً عنه خروج عن محلّ البحث.

وإن كان مراده من فعليّته فعليّته ذاتاً بقطع النظر عن مسألة المزاحمة ـ سواء كان المقصود فعليّة المبادىء، أو كان المقصود فعليّة الموضوع ـ فكون ذلك منافياً للترخيص في الأطراف ممنوع؛ لمابيّنّاه من إمكان الترخيص من باب تفويت غرض مهمّ لأجل غرض أهمّ.

وأمـّا كلام المحقّق العراقيّ (قدس سره) في المقام، فهو دعوى مضادّة الترخيص في المقام لحكم العقل والحكم الواقعيّ معاً، وجعل (رحمه الله)مضادّة الترخيص للحكم


(1) كأنّ الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ في المقام لدى المحقّق الخراسانيّ هو أنـّه ليس من المحتمل كون تفصيليّة العلم أحد الموانع عن فعليّة الحكم، في حين أنـّه من المعقول افتراض الإجمال مانعاً عن الفعليّة، فيقال: إنـّنا إنـّما نتكلّم عن فرض العلم بحكم كان من سائر الجهات غير جهة الشكّ فعليّاً، فحكم من هذا القبيل لو تعلّق به العلم التفصيليّ أصبح فعليّاً من كلّ الجهات؛ لأنـّه حتى لو كان العلم دخيلاً في الفعليّة فقد حصل. أمـّا لو تعلّق به العلم الإجماليّ لا التفصيليّ بقي احتمال كون تفصيليّة العلم، وعدم اقترانه بالشكّ دخيلاً في الفعليّة، فإن ثبت عدم دخله في الفعليّة، وبالتالي أصبح الحكم فعليّاً من جميع الجهات، كان ذلك علّة تامّة للتنجيز. وإن كانت تفصيليّة العلم دخيلة في الفعليّة، أو قل: إنّ الإجمال والشكّ كان مانعاً عن الفعليّة، فالحكم لم يصبح فعليّاً من جميع الجهات، إذن جازت مخالفته القطعيّة، ولم يكن العلم الإجماليّ مقتضياً للتنجيز فضلاً عن العلّيّة التامّة.

44

الواقعيّ نتيجة مضادّته لحكم العقل.

وتوضيح ذلك يتوقّف على استذكار ما مضى في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ من مختاره في الجمع بينهما، وهو أنـّه (قدس سره)يتصوّر أنّ للمولى في الأحكام الواقعيّة إرادتين مولويّتين: إحداهما: المطلوبيّة النفسيّة لذات الصلاة مثلاً، والاُخرى: الغرض المقدّميّ المتعلّق بخطابه بقوله: (صلِّ)، فإنـّه يخاطب بهذا الخطاب، بغرض تحريك العبد نحو الصلاة، وتحصيل الغرض الأوّل، ويقول: إنّ الحكم الظاهريّ فيه محذوران: أحدهما: محذور مضادّته من حيث المبدأ للغرض الأوّل، والآخر: محذور كونه نقضاً للغرض الثاني، فيدفع (رحمه الله)المحذور الأوّل بتعدّد الرتبة بالتفصيل الذي مضى في محلّه، والمحذور الثاني بأنّ الغرض المقدّميّ المتعلّق بالمقدّمة ـ وهو إيصالها إلى ذي المقدّمة ـ يستحيل أن يكون أوسع من مقدار قابليّة المقدّمة للإيصال إلى المطلوب، ومقدار قابليّة الخطاب للإيصال هو الإيصال على تقدير تنجّزه، فمع عدم تنجّزه، إمّا بنفسه لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، أو بواسطة نفس الترخيص الظاهريّ، لا موضوع للغرض المقدّميّ، حتى يلزم من الترخيص الظاهريّ نقض الغرض .

هذا ما أفاده (رحمه الله) في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وقد مضى تفصيل الكلام فيه والتعليق عليه في محلّه.

أمـّا استثمار هذا المطلب في المقام فكما يلي:

إنّ العلم الإجماليّ يؤثّر في تنجيز المعلوم بالإجمال، وهذا التأثير إن فرضناه معلّقاً على عدم ترخيص الشارع، فلا مانع من ترخيصه في المقام؛ إذ لا يضادّ حكم العقل لارتفاع موضوعه به، ولا الغرض المقدّميّ للخطاب؛ اذ يرتفع بالترخيص تنجيزه، فينتفي موضوع الغرض المقدّميّ، فلا يحصل نقض الغرض، ولا الغرض النفسيّ الواقعيّ؛ لأنّ تعدّد الرتبة بالتقريب الثابت في موارد الشكّ البدويّ ثابت هنا أيضاً. وإن فرضناه تنجيزيّاً فالترخيص يضادّ حكم العقل لتنجيزيّته والغرضَ المقدّميّ لتماميّة موضوعه؛ إذ الخطاب قابل للتحريك والإيصال إلى المطلوب لغرض تنجّزه، فقد تعلّق به الغرض المقدّميّ.

ثمّ يختار (رحمه الله) تنجيزيّة حكم العقل بتقريب: أنّ التضادّ بين الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال والترخيص ارتكازيّ، والتضادّ بينهما معلول لتنجيزيّة حكم العقل، فتثبت بذلك تنجيزيّة حكم العقل.

45

هذا ما أفاده (رحمه الله) في المقام، ويرد عليه عدّة إيرادات:

منها ـ أنـّه سلّمنا وقوع التضادّ بين الترخيص وحكم العقل، لكنّ سراية التضادّ إلى الترخيص والحكم الواقعيّ ـ حسب تصوّراته (قدس سره)ـ ليست في محلّها(1)، وذلك لأنّ الثابت بالبرهان هو أنّ الغرض المقدّميّ لا يكون أوسع من قابليّة المقدّمة واستعدادها، فمن ينصب جهاز تبريد الماء مثلاً في زقاق، لا يقصد بذلك إشباع الجائعين، أو إرواء غير من يمرّ بهذا الزقاق، وإنـّما يقصد إرواء المارّين بهذا الزقاق، لا أنّ الغرض المقدّميّ يجب أن لا يكون أضيق من قابليّة المقدّمة، فقد يكون غرضه مثلاً إرواء خصوص العدول، مع أنّ هذا الجهاز يكون قابلاً لإرواء العدول والفسّاق معاً، غاية الأمر أنـّه لا ينصب شرطيّاً على الجهاز يمنع الفسّاق من الشرب، فمثل هذا الفرض ليس مستحيلاً، ولو جعل في مثل هذا الفرض شرطيّاً على الجهاز لمنعِ الفسّاق من الشرب لم يكن ذلك نقضاً لغرضه المقدّميّ، كما هو واضح، وعليه نقول في ما نحن فيه: إنّ الغرض المقدّميّ لعلّه أضيق من قابليّة المقدّمة، وغير ثابت في مورد العلم الإجماليّ، فلا يكون الترخيص نقضاً لغرضه(2) .

ومنها ـ أنـّه ما هو المقصود من ارتكاز التضادّ بين الحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال والترخيص؟ هل المقصود بذلك ارتكاز العقلاء بحسب تعايشهم العقلائيّ، أو المقصود به ارتكازهم بلحاظ حكم العقل محضاً؟ فإن كان المقصود هو الأوّل فهو صحيح لا إشكال فيه، إلاّ أنـّه ينشأ من أنّ الأغراض اللزوميّة إذا كانت معلومة بالإجمال فغالباً تكون أقوى لدى المزاحمة من الغرض الترخيصيّ، ومن الممكن أن يكون الغرض الشرعيّ المعلوم بالإجمال على خلاف ذلك، فبهذا لايثبت عدم إمكان الترخيص ثبوتاً. وإن كان المقصود هو الثاني، قلنا: إنّ المفروض


(1) وعندئذ فلو كان الدليل على المضادّة بين الترخيص وحكم العقل بالتنجّز، أي: الدليل على تنجيزيّة تأثير العلم الإجماليّ في التنجيز عبارة عن ارتكاز التضادّ بين الحكمين ـ كما هو مفروض كلامه ـ إذن لم يبقَ دليل على هذه المضادّة أيضاً.

(2) كأنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) يرى أنّ روح الحكم عبارة عن اهتمام المولى بتحصيل غرضه بقدر ما يصلح الخطاب لكونه مقدّمة مؤثّرة في تحصيل الغرض، ففرض الضيق في هذا الغرض المقدّميّ يساوق تقييد الحكم الواقعيّ، وهذا خلف، فإنّ المفروض تصوير الحكم الظاهريّ مع الحفاظ على الحكم الواقعيّ.

46

أنّ التضادّ بين الحكم الواقعيّ والترخيص إنـّما ينبع من حكم العقل بالتنجيز، حتى مع فرض الترخيص، فكيف يعقل أن يكون حكم العقل به أجلى من حكم العقل بالتنجيز حتى يستدلّ به عليه؟!

والظاهر أنّ ما أوقعه (رحمه الله) في هذا الاشتباه هو الخلط بين الارتكاز العقلائيّ والعقليّ(1).

ومنها: ما أوردناه على المحقّق النائينيّ (قدس سره): من أنّ تنجيزيّة حكم العقل بقبح المعصية لا نتعقّلها بوجه صحيح، إلاّ بمعنيين ليس لهما أثر فيما نحن فيه، كما مضى شرح ذلك.

هذا. وللمحقّق العراقيّ (قدس سره) كلام آخر في إثبات تنجيزيّة حكم العقل، غير الذي ناقشناه حتى الآن(2)، وهو أنـّه بعد أن تعلّق العلم بالحكم، فأيّ أثر يتعقّل للإجمال الموجود في المقام؟ وكيف يمنع العلم عمّا له من التنجيز الحتميّ؟ وقال (رحمه الله): لا إجمال أصلاً في المقام فيما هو موضوع التنجيز، فإنـّه وإنْ تردّد الأمر بين وجوب الصلاة ووجوب الصوم مثلاً، لكن موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة ليس هو أمر المولى بالصلاة بخصوصيّة كونه أمراً بالصلاة ـ نظير أن يكون موضوع وجوب إطاعة


(1) وكأنّ مقصود المحقّق العراقي: جعل ارتكاز التضادّ بين الحكم الواقعيّ والترخيص في مورد العلم التفصيليّ شاهداً على تنجيزيّة أثر العلم التفصيليّ، وبالتالي شاهداً على تنجيزيّة أثر العلم الإجماليّ أيضاً، بعد ما بيّن من أنّ العلم الإجماليّ بالقياس إلى المصبّ القابل للتنجيز تفصيليّ، فالإشكال عليه بأنـّه لا يمكن أن يكون حكم العقل بالتضادّ أجلى من حكمه بالتنجيز، وينبغي إيراده عليه بلحاظ نفس العلم التفصيليّ ابتداءً لا بلحاظ العلم الإجماليّ، ولولا هذا كان بإمكانه أن يقول في الجواب عن هذا الإشكال: إنّ ارتكاز التضادّ في التفصيليّ أجلى من التنجيز في الإجماليّ.

(2) الظاهر أنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) يرى هذا الكلام مع الكلام السابق وجهاً واحداً، فهو يثبت أنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ بهذا لبيان الموجود هنا، ويثبت أنّ العلم التفصيليّ تأثيره تنجيزيّ، وليس تعليقيّاً بالبيان الماضيّ، ويستنتج من مجموع الأمرين: أنّ تأثير العلم الإجماليّ إذن تنجيزيّ. راجع المقالات: ج 2، ص 86 ـ 87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 305 ـ 307.

47

الوالد هو خصوص أمره بما يكون فيه مصلحة للابن ولو في نظر الأب مثلاً(1) ـ وإنـّما موضوع وجوب إطاعته (تعالى) هو ذات أمره، بقطع النظر عن خصوصيّات ما تعلّق به الأمر، ومن المعلوم أنـّه تعلّق العلم بأمره (تعالى) تفصيلاً لا إجمالاً، فلا محالة يكون تأثيره تنجيزيّاً كتأثير العلم التفصيليّ إذ هو علم تفصيليّ.

أقول: نعم، بحسب جوهر المطلب وروحه لا يمكن الفرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ، فإنّ العلم الإجماليّ أيضاً بحسب ما هو موضوع للتنجيز علم تفصيليّ، لكنّنا نقول: إنّ تأثير العلم التفصيليّ أيضاً بحسب الروح معلّق على عدم ترخيص الشارع في المخالفة بلحاظ تزاحم الأغراض، غاية الأمر أنّ المعلّق عليه دائماً حاصل في العلم التفصيليّ، لتعيّن الأغراض، فلا يقع تزاحم بينهما في مقام الحفظ والمحرّكيّة، بخلاف موارد العلم الإجماليّ.

وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه: أنّ من الممكن ثبوتاً الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ.

 

المحذور الإثباتيّ

وأمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في تمام الأطراف، فالمشهور عدم مانعيّته إثباتاً عن جريانها في تمام الأطراف، وإنـّما يتمسّكون في مقام إسقاط الاُصول بالمانع الثبوتيّ، والوجه في ذلك هو أنّ كلّ طرف من الأطراف يصدق عليه مثلاً أنـّه ممّا لا يعلمون، فيدخل تحت إطلاق الدليل.

نعم، ذهب المحقّق النائينيّ(2) (قدس سره) في خصوص الأصل التنزيليّ كالاستصحاب إلى وجود مانع إثباتيّ بلحاظ لسان دليل ذلك الأصل يمنع عن جريان الاُصول في الأطراف ولو لم يستلزم المخالفة العمليّة، ويأتي الكلام عن ذلك في بحث الاستصحاب ـ إن شاء الله ـ، وبقطع النظر عن خصوص هذه الجهة، يقولون بعدم مانعيّة العلم الإجماليّ إثباتاً عن جريان الاُصول.

إلاّ أنّ الصحيح هو مانعيّة العلم الإجماليّ عن ذلك إثباتاً، كما يتّضح ذلك


(1) هذا المثال توضيح من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) وليس في كلام المحقّق العراقي (قدس سره).

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 3، ص 5، وأجود التقريرات: ج2، ص 240 ـ 241.

48

بمراجعة الفهم العرفي، فمثلاً لو قال مولىً عرفيّ لعبده: إذا رأيت شخصاً يغرق ولم تحرز كونه محبوباً لي وأنـّي أهتمّ بنجاته، فليس من اللازم عليك إنجاؤه، ثمّ رأى العبد شخصين يغرقان يعلم إجمالاً بأنّ واحداً منهما محبوب للمولى، ويهتمّ المولى بنجاته، فتركهما حتى غرقا معاً، ثمّ اعتذر عند المولى: بأنـّي رأيت أنّ كلّ واحد منهما داخل تحت العنوان الذي بيّنته من عدم إحراز كونه محبوباً لك فتركته، لعُدّ ذلك من المضحكات.

وبكلمة مختصرة: أنّ عدم شمول دليل الترخيص لأطراف العلم الإجماليّ ـ يكون في المرتبة السابقة عن التفتيش عن نكتة ذلك ـ من الواضحات بحسب الفهم العرفي.

وأمـّا النكتة في ذلك فأمران:

الأمر الأوّل: أنـّنا لا ندّعي أنّ قوله مثلاً: (ما لا يعلمون) غير شامل لهذا الطرف أو لذاك الطرف، حتى يقال: إنّ هذا خلاف الإطلاق ومقدّمات الحكمة، بل إنـّنا نقول: إنّ المحمول الذي حمل على موضوع (ما لا يعلمون) يوجد فيه ضيق، فبالرغم من تطبيقه على موضوعه في ما نحن فيه لا يثبت التأمين، وذلك لأنّ الظاهر عرفاً من الترخيص في المشكوك بما هو مشكوك المستفاد منه عرفاً الحكم الظاهريّ، إنـّما هو عدم الاهتمام بالإلزام الاحتماليّ، والمشكوك بما هو كذلك في قبال الترخيص الاحتماليّ، وتقدّم الثاني على الأوّل لأقوائيّته محتملاً كما في الاُصول، أو احتمالاً كما في الأمارات، فليكن فيما نحن فيه ـ أيضاً ـ الإلزام الاحتماليّ في كلّ واحد من الجانبين بما هو كذلك غير مهتمّ به في قبال الترخيص الاحتماليّ، لكنّ هذا لا ينافي الاهتمام من جهة اُخرى، وذلك بأن يهتمّ بالإلزام القطعيّ في قبال ما اشتبه من ترخيص قطعيّ أو احتماليّ، فبالنتيجة إنـّما تثبت البراءة في خصوص تزاحم الأغراض في باب الشبهات البدويّة.

وبكلمة اُخرى: أنّ هنا لونين من التزاحم: أحدهما: تزاحم غرض إلزاميّ احتماليّ لغرض ترخيصيّ احتماليّ، والآخر: تزاحم غرض إلزاميّ قطعيّ لغرض ترخيصيّ قطعيّ، وهذان القسمان كما هما مختلفان ذاتاً، قد يختلفان حكماً، فيحفظ مثلاً جانب الإلزام قطعيّاً أو احتماليّاً في مورد العلم الإجماليّ، في حين أنـّه لم يحفظه في الشكّ البدويّ، ولا ملازمة بين تقديم جانب الترخيص في مورد الشكّ البدويّ، وتقديمه في مورد العلم الإجماليّ، فإنّ الذي يخسر المولى في مقابل

49

الحفظ القطعيّ لغرضه الترخيصيّ في مورد الشكّ البدويّ هو فوت غرض إلزاميّ احتماليّ لغرضه، لكنّ الذي يخسر المولى في مقابل الحفظ القطعيّ الترخيصيّ في مورد العلم الإجماليّ هو فوت غرض قطعيّ، وهذا المحذور أشدّ، فقد يكون مقتضى إعمال قوانين باب التزاحم بين الغرض الإلزاميّ والترخيصيّ الاحتماليّين تقديم الثاني، ومقتضى إعمالها بين الغرض الإلزاميّ القطعيّ والغرض الترخيصيّ تقديم الأوّل، وفي مورد العلم الإجماليّ يكون كلا اللّونين من التزاحم ثابتاً، فبلحاظ كلّ طرف في نفسه يوجد تزاحم غرض احتماليّ إلزاميّ لغرض احتماليّ ترخيصيّ، وبلحاظ كلا الطرفين يوجد تزاحم غرض إلزاميّ قطعيّ لغرض ترخيصيّ، فيجب إعمال قوانين باب التزاحم بلحاظ كلّ واحد منهما، ومثل قوله: (رفع ما لا يعلمون) لا تكفي دلالته بالإطلاق على تقديم جانب الغرض الترخيصيّ في مورد العلم الإجماليّ في التزاحم الأوّل لإثبات تقدّمه في التزاحم الثاني أيضاً؛ لما عرفت من عدم الملازمة بينهما، والعُرف إنـّما يفهم ـ بحسب المناسبات اللغويّة واللفظيّة ـ من مثل (رفع ما لا يعلمون) تقديم جانب الغرض الترخيصيّ بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، ولا يفهم تقديمه بلحاظ القسم الثاني أيضاً، والنكتة في ذلك هي مناسبة العنوان المأخوذ في الكلام مع الحكم(1)، حيث إنّ العنوان المأخوذ في الكلام هو


(1) إنـّي أرى أنّ هذا المقدار من المناسبة لا يصلح نكتة لظهور دليل الترخيص في المعنى المدّعى في المقام، فالصحيح ذكر نكتة اُخرى لذلك: وهي أنّ أدلّة الترخيص عادةً تدلّ ـ بحسب الفهم العرفي ـ على الحكم الحيثيّ، فإذا قال المولى مثلاً: (الجبن حلال) لا يفهم من ذلك أكثر من أنّ الجبن من حيث هو جبن حلال. أمـّا لو فرضت حرمته صدفة في مورد مّا لكونه مغصوباً، أو لكونه مضرّاً بسلامة جسم الآكل، أو لسبب آخر كنهي الوالد مثلاً، فهذا لا يعتبر تقييداً لإطلاق قوله: (الجبن حلال)، ولا يقع التعارض مثلاً بالعموم من وجه بين دليل حلّيّة الجبن ودليل حرمة أكل المغصوب، كي يقدّم الثاني على الأوّل ببعض البيانات، بل يقال رأساً: إنّ قوله: (الجبن حلال) إنـّما دلّ على حلّيّة الجبن في ذاته، وهذا لا ينافي حرمته من حيث الغصب، وعليه فقوله: (رفع ما لا يعلمون) أيضاً من هذا القبيل، فهو يدلّ على أنّ (ما لا يعلمون) من حيث إنـّه (ما لا يعلمون) لا محذور في ارتكابه، وهذا لا ينافي وجود محذور في ارتكابه صدفةً من حيث كونه معلوماً بالإجمال.

50

عنوان (ما لا يعلمون)، وعنوان المشكوك وشبه ذلك، والمشكوك عبارة عمّا فيه احتمالان: احتمال غرض إلزاميّ واحتمال غرض ترخيصيّ، فالعرف يفهم من ذلك أنّ المولى قدّم احتمال الغرض الترخيصيّ على احتمال الغرض الإلزاميّ بلحاظ التزاحم بينهما، وهذا لا ينافي عدم تقديم الغرض الإلزاميّ القطعيّ عند تزاحمهما.

وقد يخطر بالبال في المقام إشكال (ولنجعل مصبّ كلامنا فرض ما إذا علمنا


وهذا الذي ذكرناه واضح في الفهم العرفي، إلاّ أنـّه قد يثار سؤال فنيّ في المقام، وهو أنـّه ما هي النكتة في الفرق بين الإباحة والتحريم مثلاً، حيث يفهم من دليل الإباحة الحكم الحيثيّ، ولكن يفهم من دليل التحريم التحريم المطلق، فإذا قال: (الجبن حلال) ثمّ عرفنا أنّ الجبن المغصوب حرام من ناحية الغصب لا يعتبر هذا تقييداً لدليل الحلّ؛ لأنّ دليل الحلّ إنـّما دلّ على أنّ الجبن من حيث هو حلالٌ، ولم يدلّ على أكثر من ذلك، ولكن إذا قال: الجبن حرام، ثمّ عرفنا أنّ الجبن يحلّ حينما يصبح دواءً للمريض، يكون هذاتقييداً لإطلاق دليل الحرمة، فما هي النكتة في الفرق بين الأمرين؟

ويمكن الجواب على ذلك بأحد وجهين:

إمـّا بإبداء نكتة الغلبة، وهي غلبة كون الأحكام الترخيصيّة العقلائيّة حيثيّة، وغلبة الخلاف في الأحكام الإلزاميّة. فالغلبة في الأحكام العقلائيّة هي التي أثّرت في ظهور الكلام في الموردين.

وإمـّا بإبداء نكتة اُخرى، وهي أنّ دليل الحرمة يكون مفهومه عرفاً أنّ الحيثيّة المأخوذة في الكلام تأتي منها الحرمة، فمثلاً لو قال: (يحرم الخمر) فهذا يعني أنّ الخمريّة حيثيّة توجب الحرمة، ومقتضى إطلاق الدليل كون هذه الحيثيّة غالبة على أيّ حيثيّة اُخرى مزاحمة لها، فلو كان الخمر صدفةً دواءً للمريض كان مقتضى إطلاق دليل الحرمة حرمته عليه أيضاً؛ لأنّ حيثيّة الحرمة موجودة على أيّ حال. وأمـّا دليل الحلّ فحتى إذا قلنا: إنّ الحلّ حكم وجوديّ مجعول من قبل المولى، يكون المدلول الأقصى النهائيّ له عرفاً نفي كون تلك الحيثيّة موجبة للحرمة، وعدم كون تلك الحيثيّة كحيثيّة الجبن مثلاً موجبة للحرمة لا تنافي فرض حيثيّة اُخرى في بعض الموارد كالغصب توجب الحرمة. وهذا البيان صادق حتى في الحلّيّات الاقتضائيّة، ولا يختصّ بالحلّيّات اللااقتضائيّة، فإنّ دليل الحلّ في الحلّيّات الاقتضائيّة ـ أيضاً ـ ليس مفاده العرفي بأكثر من أنّ تلك الحيثيّة لا تخلق الحرمة، ولو فرض أنّ سبب عدم خلقها للحرمة وجود ملاك يقتضي الحلّ، وهذا لا ينافي فرض حيثيّة اُخرى صدفةً في بعض الموارد تخلق الحرمة.