51

إجمالاً ـ أيضاً ـ بوجود غرض ترخيصيّ، كما علمنا إجمالاً بوجود غرض إلزاميّ، أي: أنـّنا علمنا إجمالاً بأنّ أحد الإنائين نجس مثلاً يوجد غرض إلزامي في تركه، وعلمنا إجمالاً بأنّ الآخر طاهر مشتمل على غرض ترخيصيّ)، فنقول: إنـّه وإن كان محذور الترخيص في مورد الشبهات البدويّة عبارة عن الفوت الاحتماليّ للغرض الإلزاميّ، وفي مورد العلم الإجماليّ عبارة عن الفوت القطعيّ له، لكن محذور الإلزام ـ أيضاً ـ في الشبهات البدويّة عبارة عن الفوت الاحتماليّ للغرض الترخيصيّ، وفي العلم الإجماليّ عبارة عن الفوت القطعيّ للغرض الترخيصيّ، إذن فلو كان الغرض الترخيصيّ أهمّ، ولذا جعلت البراءة بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، فلا بدّ أن تجعل البراءة أيضاً بلحاظ القسم الثاني من التزاحم، لانحفاظ نفس تلك النسبة بين المتزاحمين، فدليل البراءة وإن كان بالمطابقة إنـّما يدلّ على تقديم الغرض الترخيصيّ بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم، لكنّه يدلّ بالالتزام أيضاً على تقديمه بلحاظ القسم الثاني منه.

وتحقيق الكلام في هذا المقام هو: أنـّه لو بنينا على ما بنى عليه السيّد الاُستاذ وغيره، من كون الحكم الظاهريّ ناشئاً من ملاك في نفسه، فعدم الملازمة بين الترخيص بلحاظ القسم الأوّل من التزاحم والترخيص بلحاظ القسم الثاني واضح، إذ لعلّ الملاك موجود في الأوّل دون الثاني. وأمـّا لو بنينا على ما هوالمختار(1) من كون


(1) اختيار ذلك في مقابل السببيّة ينشأ إمّا من فرض عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعيّ على السببيّة ثبوتاً، وإمّا من افتراض أنّ السببيّة خلاف ظاهر أدلّة الأحكام الظاهريّة. والأوّل مضى بحثه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وكان مختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في الدورة التي حضرتها إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ على السببيّة، ونقل عن الدورة المتأخّرة عدوله عن ذلك في الأحكام الظاهريّة الترخيصيّة، راجع ذلك البحث في الجزء الثاني من القسم الثاني من كتاب مباحث الاُصول.

وأمـّا لو سلّمنا إمكان ذلك ثبوتاً، فالصحيح من الناحية الإثباتيّة أنّ السببيّة التي تكون خلاف ظاهر دليل الحكم الظاهريّ إنـّما هي السببيّة المحضة؛ لأنّ الدليل ظاهر في نظر الحكم الظاهريّ إلى الحكم الواقعيّ، وحفظ أغراضه ببعض مستويات الحفظ. وأمـّا فرض حظّ من السببيّة مع أخذ الطريقيّة إلى الأغراض الواقعيّة أيضاً بعين الاعتبار، وحفظها ببعض مستويات الحفظ، فليس خلاف الظاهر.

52

الأحكام الظاهريّة ملاكها عين ملاكات الأحكام الواقعيّة، وأنّ الحكم الظاهريّ حافظ ثان للأغراض في طول الحافظ الأوّل، وهي الخطابات الواقعيّة، فنقول في مقام حلّ الإشكال: إنّ جعل المولى للبراءة في مورد الشكّ، يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن يلحظ المولى الشكّ في الحكم بنحو القضيّة الفرضيّة، ويرى قوّة المحتمل في جانب الترخيص فيجعل البراءة.

2 ـ أن يلحظ المولى الشكّ بنحو القضيّة الفرضيّة أيضاً، ويدخل في الحساب جانب الاحتمال أيضاً، كما لو رأى مثلاً أنّ المحرّمات تصل عادةً إلى العبد، فنفس شكّ العبد أمارة على الإباحة، فجعل البراءة، ولا يلزم من ذلك تحوّل البراءة من كونها أصلاً إلى كونها أمارةً؛ لأنـّنا نفرض أنّ هذا الحساب إنـّما اعتمد المولى عليه لنكتة ثابتة في خصوص مادّة معيّنة، وهي باب التحريمات والترخيصات مثلاً. أمـّا لو حصل مثل هذا الحساب في باب اشتباه الواجب بالحرام، أو في باب آخر، فقد لا يعتمد المولى عليه هناك، فتمام الملاك للتقديم ليس هو حساب الاحتمال، بل للمحتمل دخل في المطلب.

3 ـ أن يفترض أنّ المولى لاحظ الشكوك الخارجيّة، وجعل البراءة باعتبار مجموع ما للترخيصات من الكميّة والكيفيّة.

وعلى أيّ نحو من هذه الأنحاء الثلاثة، لا ملازمة بين الترخيص بلحاظ التزاحم الأوّل والترخيص بلحاظ التزاحم الثاني.

أمـّا على الأخير فواضح، إذ قد تختلف نسبة الكميّة بلحاظ الشبهات البدويّة والشبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ(1) .

وأمـّا على الثاني فواضح أيضاً؛ إذ قوّة الاحتمال الثابتة في جانب الترخيص


(1) أو يُفترض أنّ النسبتين متساويتان، ولكن مقدار الترخيص الذي حصل بجعل البراءة في الشبهات البدويّة أشبع شدّة الحاجة إلى الترخيص والتوسعة على العباد بالمستوى الذي كان قد أوجب تقديم جانب الترخيص، وبكلمة اُخرى: يفترض أنّ رجحان ملاك الترخيص على ملاك الإلزام لم يكن بلحاظ كلّ فرد فرد من الترخيص، بل كان بلحاظ شدّة حاجة العبد إلى مبلغ من الترخيصات، بحيث كان جعل الاحتياط في تمام الموارد موجباً لوقوع العبد في حرج يفوق خسارة ملاك الإلزامات الواقعيّة، وقد انحلّ ذلك بجعل البراءة في موارد الشبهات البدويّة، فلم تبقَ حاجة إلى جعل البراءة في موارد العلم الإجماليّ.

53

في مورد عدم وصول الحرمة إلى العبد، لا تثبت في مورد وصولها بنحو العلم الإجماليّ، كما هو واضح(1).

وأمـّا على الأوّل فأيضاً لا ملازمة بين الترخيص بلحاظ التزاحم الأوّل والترخيص بلحاظ التزاحم الثاني؛ إذ من الممكن افتراض أنّ درجة الغرض الترخيصيّ كانت مساوية للغرض الإلزاميّ، فقدّمه على الغرض الإلزاميّ لنكتة خارجيّة(2)، كأنْ يطابق جعله ما هو مركوز في ذهن العقلاء في أوامر الموالي العرفيّة من عدم الإلزام في الشبهات البدويّة، وثبوت قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) عندهم، وعدم رفع موضوعها عادةً عندهم بإيجاب الاحتياط، أو كأن يقال: بأنّ العبد لو اُلزِم في الشبهات البدويّة لأخذ يشعر بالضيق أزيد منه في موارد العلم الإجماليّ، فأصبح هذا مرجّحاً للترخيص هنا، ومن الواضح أنّ هذا لا يستلزم الترخيص في موارد العلم الإجماليّ؛ إذ قد لا تكون تلك النكتة موجودة فيها، وتكون نكتة اُخرى أوجبت


(1) إذا كان المفروض وجود علم إجماليّ بالترخيص في أحدهما، كما نعلم إجمالاً بالإلزام، فقوّة احتمال الترخيص فيه لا تختلف عن مورد انتفاء كلا العلمين، لأنّ العلم الإجماليّ بالإلزام الذي هو الموجب لضعف احتمال الترخيص، مزاحم بالعلم الإجماليّ بالترخيص، فلقائل أن يقول: إنّ جريان البراءة في مورد فقد العلمين يثبت بالملازمة جريانها في مورد ثبوت العلمين، بل وحتى لو لم يكن علم إجماليّ بالترخيص، فصحيح أنّ العلم الإجماليّ بالإلزام يوجب ضعف احتمال الترخيص، لكن بالإمكان قياس المورد بموارد الشّك البدويّ التي كان احتمال الترخيص فيها ضعيفاً بنفس المقدار على أساس أمارة اُخرى غير العلم الإجماليّ على الإلزام، مع فرض عدم حجّيّة تلك الأمارة، فيقال: إنّ البراءة في هذا المورد جارية، إذن يثبت بالملازمة جريانها في مورد العلم الإجماليّ الذي لم يكن احتمال الترخيص في كلّ طرف فيه بأضعف من مورد شكّ بدويّ من ذاك القبيل.

(2) وهذا لا ينافي دعوى كون السببيّة خلاف الظاهر، فإنّ المقصود من السببيّة التي تدّعى كونها خلاف الظاهر هو فرض تفريط المولى بنسبة من حفظ الأغراض الواقعيّة بسبب ملاك جديد غير تلك الملاكات الواقعيّة، وفي ما نحن فيه لم يفترض تفريط بالحفظ لملاك جديد، لأنـّنا فرضنا أنّ الغرض الترخيصيّ والغرض الإلزاميّ كانا متساويين في الدرجة، فتقديم أحدهما لنكتة خارجيّة لا يعني تفريطاً ببعض درجات حفظ الملاكات الواقعيّة، كي يكون خلاف الظاهر.

54

تقديم جانب الإلزام، أو أنّ نفس تلك النكتة التي اقتضت تقديم جانب الترخيص في الشبهات البدويّة، وهي المطابقة لمرتكزات العقلاء مثلاً، اقتضت هنا العكس.

وقد يفرض أنّ الغرض الترخيصيّ لم يتعلّق بمطلق إطلاق العنان، بل تعلّق ـ كما هو الظاهر المحدوس ـ بإطلاق العنان تجاه المباحات الذي لا يساوق إطلاق العنان تجاه المحرّمات، بأن يكون العبد ـ بعد فرضه غير مطلق العنان بلحاظ المحرّمات ـ مطلق العنان بلحاظ المباحات. وعليه ففي مورد الشكّ البدويّ يحتمل المولى ثبوت الغرض الترخيصيّ، بأن يكون المشكوك في الواقع حلالاً، لكن في مورد العلم الإجماليّ لا يحتمله، لأنّ الترخيص ـ ولوفي أحد الجانبين تخييراً ـ مساوق لإطلاق العنان بوجه من الوجوه تجاه المحرّمات. وهذا واضح لو فرض أنّ المقصود بمساوقة الترخيص للترخيص تجاه الحرام مساوقته له ولو في نظر العبد.

وأمـّا لو كان المقصود مساوقته له في نظر المولى وفي الواقع، فهنا قد يستشكل في المقام بأنـّه ليس كلّ علم إجماليّ حصل للعبد لا بدّ أن يكون مطابقاً للواقع، وتامّاً في نظر المولى. وعليه فقد يقع التزاحم بين الأغراض حتى في مورد العلم الإجماليّ بنحو يوجب تقديم جانب الترخيص.

لكن لا يخفى أنـّه لو دلّ دليل بالخصوص في أطراف العلم الإجماليّ على الترخيص، أمكن أن يستكشف بذلك تزاحم الأغراض عند المولى ولو من باب تخطئته للعلوم الإجماليّة لعبده مثلاً، لكن لو كنّا نحن والدليل المتعارف، لا يمكننا التعدّي إلى موارد العلم الإجماليّ؛ لعدم الملازمة، والعبد العالم بالعلم الإجماليّ يرى ـ لا محالة ـ أنّ هذا العلم مطابق للواقع، وتامّ في نظر المولى، وهذا نظير أنـّه لا يتعدّى في الترخيص إلى موارد العلم التفصيليّ، مع أنـّه في موارد العلم التفصيليّ ـ أيضاً ـ قد يكون علم العبد خاطئاً في الواقع، وعند المولى، فيقع التزاحم بين الأغراض.

الأمر الثاني: ارتكاز المضادّة بين الحكم الواقعيّ والترخيصيّ في الأطراف، الذي أدركه الأصحاب بسلامة وجدانهم وإن تخيّلوه ارتكازاً عقليّاً، فاختاروا المانع الثبوتي من جريان الاُصول، ونحن قلنا: إنـّه ارتكاز عقلائيّ ناشىء من تعايشاتهم العقلائيّة، لا من عقلهم صِرفاً، وهذا الارتكاز ـ بعد أن علمنا من ظاهر أدلّة الاُصول، أو من الخارج أنـّها ليست بصدد نسخ الحكم الواقعيّ ونفيه ـ يصبح قرينة على عدم إرادة الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ولو بنحو الضيق في المحمول.

55

والفرق بين هذين الأمرين واضح، فإنّ الأمر الأوّل عبارة عن دعوى نكتة لفظيّة قائمة على أساس ارتكازهم بلحاظ اللغة والألفاظ، والأمر الثاني عبارة عن نكتة معنويّة قائمة على أساس ارتكازهم بما لهم موالي وعبيد ومصالح ومفاسد وأغراض، فلو فرضنا أنّ مناسبات الألفاظ واللغة لا تقتضي اختصاص مفاد الدليل بإعمال قوانين التزاحم في القسم الأوّل من التزاحم، فدلّ الكلام ـ لولا النكتة الثانية ـ على الترخيص في موارد العلم الإجماليّ، كَفَت النكتة الثانية للانصراف، ومع الانصراف لا بدّ عقلاً من الاحتياط، بل لا تبعد دعوى أنـّه توجب تلك النكتة دلالة الحكم الواقعيّ بالملازمة العرفيّة على إيجاب الاحتياط في مورد العلم الإجماليّ.

وتظهر ثمرة عمليّة بين هاتين النكتتين في الشبهات التحريميّة الموضوعيّة بلحاظ قوله: «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه»، حيث إنّ كلمة (بعينه) قرينة على النظر إلى تقديم جانب الترخيص، حتى بلحاظ الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال، فالنكتة الاُولى غير جارية هنا، وإنـّما تختصّ بمثل (رفع ما لا يعلمون)، (وكلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)، ونحو ذلك ممّا لم تؤخذ فيه كلمة (بعينه)، لكنّ الارتكاز ثابت ـ أيضاً ـ في موارد الشبهات التحريميّة الموضوعيّة، فيقيّد به إطلاق الحديث، ولوكنّا نحن والنكتة الاُولى، لكنّا نلتزم في الشبهات التحريميّة الموضوعيّة بجواز المخالفة القطعيّة للعلم الإجماليّ.

ولا يقال: إنّ كلمة (بعينه) صريحة في الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ، وليست دلالة الحديث على ذلك بالإطلاق، كي يقيّد الإطلاق بالارتكاز.

فإنـّه يقال: إنّ دلالة الحديث على البراءة في أطراف العلم الإجماليّ وإن كانت واضحة بلحاظ كلمة (بعينه)، لكنّ الارتكاز المانع عن جريان البراءة ليس ثابتاً في تمام موارد العلم الإجماليّ، فمثلاً في مورد الشهبة غير المحصورة، لا يكون هذا الارتكاز ثابتاً، وكذلك في بعض موارد اُخرى، كما يأتي تفصيل ذلك ـ إن شاء الله ـ، فالارتكاز يمنع عن انعقاد الإطلاق في الحديث لموارد العلم الإجماليّ الواجد لشرائط معيّنة.

وتظهر الثمرة ـ أيضاً ـ بين النكتتين في الاُصول التي جعلت بلسان الكشف، فإنّ النكتة الثانية تجري فيها، لكنّ النكتة الاُولى لا تجري فيها، وذلك لأنّ العرف لا يتعقّل التبعيض في الكشف، ولا يساعد في باب الكشف على التفكيك بين الأمرين، بأن يقال: إنّ هذا الاحتمال كاشف عن الواقع، في قبال الاحتمال الآخر، لكنّه غير كاشف في قبال وجود غرض إلزاميّ معلوم بالإجمال، وهذا بخلاف باب الترجيح، فلا بأس بأن يقال: إنّ هذا الاحتمال يقدّم على الاحتمال الآخر بما هو، ولا يقدّم على

56

الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال.

وقد ظهر من تمام ما ذكرناه: أنّ الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ إنـّما ينفى لمحذور إثباتيّ من دون أن يكون في ذلك محذور ثبوتيّ، ولذا لو دلّ دليل على الترخيص في أطراف العلم الإجماليّ ـ كما في بعض موارد جوائز السلطان، وآخذ الربا الذي تاب، وبعض موارد اُخرى قد يقف عليه المتتبّع ـ نلتزم بالترخيص فيها، وجواز المخالفة القطعيّة إن تمّ عندنا الحديث سنداً ودلالة.

ثمّ إنّ ما عرفته من النكتتين المانعتين عن إجراء الاُصول المرخّصة في قبال العلم الإجماليّ بالإلزام، لا تمنعان عن إجراء الاُصول الملزمة في قبال العلم الإجماليّ بالترخيص، فلو علمنا إجمالاً بحلّيّة أحد الأمرين ولو مع احتمال حلّيّة كليهما أيضاً، وكان مقتضى الأصل العمليّ الاجتناب عنهما، وجب الاجتناب عنهما، ولايمنع عن ذلك شيء من النكتتين، أمـّا النكتة الثانية، فلوضوح عدم ارتكاز التصادم في نظر العرف والعقلاء بين الإلزامين الظاهريين والغرض الترخيصيّ المعلوم بالإجمال. وأمـّا النكتة الاُولى، فلأنّ غاية ما تقتضيه هو احتمال أن يكون الغرض الترخيصيّ المعلوم بالإجمال مقدّماً عند المولى على احتمال الإلزام في كلّ من الطرفين، لكن احتمال ذلك لا يفيد شيئاً، ولا بدّ من الاحتياط في كلا الجانبين، حتى على القول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، ما دام أنـّه قد ثبت أنّ احتمال الإلزام في كلّ واحد من الطرفين لا يرضى المولى بمخالفته في نفسه، في قبال احتمال الترخيص، فإنّ هذا كاف في عدم جريان قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)(1)، فلا يبقى لنا مؤمّن في المقام، لا عقليّ؛ لعدم جريان القاعدة، ولا شرعيّ؛ لأنّ الترخيص بملاك التزاحم الثاني لم يثبت، وبملاك التزاحم الأوّل قد ثبت خلافه.


(1) الأقوى من هذا أن يتمسّك بما مضى في بعض تعليقاتنا السابقة من أنّ النكتة الصحيحة لكون مثل (رفع ما لا يعلمون) ظاهراً في الترخيص الحيثيّ، أي: الترخيص من حيث الشكّ وعدم العلم، من دون أن ينافي ذلك فرض الإلزام من حيث العلم الإجماليّ بحكم إلزاميّ، إنـّما هي ما شرحناه من أنّ العرف يحمل جميع الأدلّة الترخيصيّة على الحكم الحيثيّ، وذلك بأحد بيانين مضيا: من نكتة الغلبة، ومن نكتة أنّ الإباحة تعني نفي كون الحيثيّة الفلانيّة موجبة للتحريم، لا أنـّها تخلق الحلّ، وكلا هذين البيانين لا يأتيان في طرف التحريم، فلا يأتيان في المقام في الأصل الإلزاميّ، وإنـّما يختصّان بالأصل الترخيصيّ.

57

 

 

 

هل يمكن الترخيص في بعض الأطراف؟

 

وأمـّا المقام الثالث: وهو البحث عن مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً أو إثباتاً عن إجراء الاُصول الترخيصيّة في بعض الأطراف، فهنا ـ أيضاً ـ تارةً يقع الكلام في مانعيّته عن ذلك ثبوتاً، واُخرى في مانعيّته عنه إثباتاً.

 

المحذور الثبوتيّ

أمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ ثبوتاً عن جريان الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف، فبناءً على ما اخترناه في المقام الثانيّ ـ من عدم مانعيّته ثبوتاً عن جريان الأصل الترخيصيّ في تمام الأطراف ـ لا يبقى محلّ للبحث عن مانعيّته عن الترخيص في بعض الأطراف، فلئن كان الترخيص في تمام الأطراف جائزاً، فما ظنّك بالترخيص في بعض الأطراف.

وإنـّما يقع البحث هنا بعد فرض تسليم مانعيّته ثبوتاً عن الترخيص في تمام الأطراف، كما هو المعروف لديهم، فقد تعارف بينهم التسليم بكون العلم الإجماليّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، واختلفوا في أنـّه هل هو أيضاً علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة أو لا، فذهب المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إلى العلّيّة، والمشهور عن المحقّق النائينيّ (قدس سره)هوالاقتضاء، وهو مذكور في بعض عبائر تقرير الشيخ الكاظميّ على تشويش في ذلك، بحيث كأنّ مفاهيم العلّيّة والاقتضاء لم تكن واضحة الحدود عنده آنذاك.

والكلام تارةً يقع في الموقف الحلّيّ في المقام، واُخرى في الموقف النقضيّ، إذ أنّ كلّ واحد من الطرفين تصدّى للنقض على القول الآخر.

أمّا الموقف الحلّيّ، فالذي يمكن أن يستخلص من كلمات المحقّق

58

النائينيّ(1)(رحمه الله) ـ وإن لم يذكره بهذه الصورة ـ هو أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، لأنـّه لا يمكن الترخيص فيها من قبل الشارع، إذ الترخيص فيها يكون ترخيصاً في المعصية، وهو مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، لا علّة تامّة له، لأنـّه يمكن الترخيص في بعض الأطراف من قبل الشارع، إذ ليس الترخيص في بعض الأطراف وحده ترخيصاً في المعصية.

وأنت ترى أنّ الدليل المذكور في ذلك على المدّعى لا يرجع إلى محصّل، وإنـّما هو تكرار للمدّعى بعبارات اُخرى مع شيء من الاختلاف عن مفهوم المدّعى، ولعلّه (قدس سره) لم يكن يقصد الاستدلال على مدّعاه، وإنـّما كان يقصد شرح المدّعى وتنبيه الوجدان تجاهه مثلاً.

وعلى أيّة حال، فلو كان المقصود هو الاستدلال على المدّعى بما عرفت، ورد عليه: أنّ المعصية بالمعنى الذي لا يجوز للمولى الترخيص فيها ـ أيّاً كان معناها اللغويّ ـ عبارة عن مخالفة حقّ المولى وظلمه بترك ما تنجّز علينا من قبله، فلا بدّ أن نرى أوّلاً أنّ تأثير العلم الإجماليّ هل هو تنجيزيّ، وغير معلّق على عدم مجيء الترخيص، أي: أنّ حقّ المولويّة يكون ثابتاً بلا تعليق على ذلك أو أنـّه معلّق عليه؟. فإن قيل بالأوّل، كان الترخيص في المخالفة ترخيصاً في المعصية، فلم يجز مجيء الترخيص من قبل المولى. وإن قيل بالثاني لم يكن الترخيص في المخالفة ترخيصاً في المعصية، فجاز مجيء الترخيص من قبله، فلا معنىً للاستدلال على التنجيزيّة والاقتضاء بعدم جواز الترخيص من قبل المولى؛ لكونه ترخيصاً في المعصية، أو جوازه؛ لعدم كونه ترخيصاً في المعصية، بل لابدّ أن نعرف أوّلاً أنّ تأثير العلم الإجماليّ هل هو بنحو التنجيز أو الاقتضاء، ثمّ نفرّع على ذلك أنّ الترخيص في المخالفة ترخيص في المعصية أو لا، وإذا وصلت النوبة إلى النظر ابتداءً في أنّ تأثير


(1) والذي استخلصه من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) هو أنّ السرّ في عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، مع كونه علّة لحرمة المخالفة القطعيّة، هو أنّ العلم لا يتطلّب أكثر من الامتثال الجامع بين الامتثال الوجدانيّ والتعبديّ، وإذا فرض الترخيص في المخالفة القطعيّة، فقد الامتثال بكلا وجهيه . أمـّا لو رخّص في بعض الأطراف فهذا يعني جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، وهذا يعني تماميّة الامتثال التعبّدي. راجع فوائد الاُصـول : ج4، ص 62.

59

العلم الإجماليّ علّيّ أو اقتضائيّ لم يبقَ للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) إلاّ أن يقول ـ من دون هذا اللّف والدوران ـ : إنّ الوجدان حاكم بكون تأثيره اقتضائيّاً.

وأمـّا المحقّق العراقيّ (قدس سره) فقد ذكر في المقام(1) : أنـّنا لا نحتاج إلى إقامة برهان على العلّيّة، لأنـّنا متّفقون على أنّ العلم الإجماليّ ينجّز شيئاً، وأنـّه ينجّزه بنحو العلّيّة، وإنـّما الخلاف بيننا في أنـّه هل ينجّز الجامع، أو ينجّز الواقع، وقد أثبتنا أنـّه ينجّز الواقع.

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ لا يرجع إلى محصّل، فإنّ تسليم الخصم للعلّيّة بالنسبة للجامع يكون لأجل أنّ العلم الإجماليّ بلحاظ الجامع علم تفصيليّ، فحاله حال العلم التفصيليّ في العلّيّة. وأمـّا بلحاظ الطرفين فهو علم إجماليّ، فلم يثبت أنـّه على تقدير تأثيره لوجوب الموافقة بلحاظ كلا الطرفين يكون هذا التأثير ـ أيضاً ـ بنحو العلّيّة، فليس له (قدس سره) في المقام عدا أن يقول بأنّ الوجدان حاكم بكون تأثيره علّيّاً.

وإذا آل الأمر في الموقف الحلّيّ من كلا الجانبين إلى دعوى الوجدان، قلنا: إنـّنا قد حلّلنا فيما سبق هذا الوجدان بالبرهان، وأثبتنا أنّ تأثير العلم الإجماليّ ليس بنحو العلّيّة حتى بلحاظ المخالفة القطعيّة، فضلاً عن الموافقة القطعيّة، بل قلنا: إنّ العلم التفصيليّ أيضاً تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة بحسب الروح يكون تعليقيّاً، غاية الأمر أنّ المعلّق عليه ـ وهو عدم وصول الترخيص ـ يكون ثابتاً دائماً؛ لعدم تعقّل جعل الترخيص الظاهريّ على أساس عدم انحفاظ موضوع الحكم الظاهريّ وهو الشكّ(2).

 


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 87، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص307 ـ 308.

(2) وهنا شبهة في عدم إمكان جعل الحكم الظاهريّ في موارد العلم التفصيليّ بالحكم على الإطلاق، لا بأس بالتعرّض لها هنا بالمناسبة وإن كانت ـ في الحقيقة ـ أجنبيّة عن محلّ الكلام، وتلك الشبهة تتوجّه على المسلك المختار في الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ من إعمال قانون التزاحم من قبل المولى على التزاحم في التحريك، لا التزاحم في الامتثال أو الجعل، وتلك الشبهة هي: أنـّه قد يتّفق إمكان جعل الحكم الظاهريّ رغم العلم التفصيليّ بالحكم بنفس الروح التي حقّقنا إمكانيّة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ في سائر الموارد، مثاله: ما لو علمنا تفصيلاً بوجوب علاج مؤمن من مرض له بتقديم الدواء له، ولكن علم إجمالاً بحرمة

60

وأمـّا الموقف النقضيّ، فقد أورد المحقّق النائينيّ(1) (قدس سره)النقض على القول بالعلّيّة بأنـّه في موارد العلم التفصيليّ قد ثبت الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ونحوهما، فهل صار العلم الإجماليّ أعلى وأشدّ تأثيراً من العلم التفصيليّ؟!

وأفاد المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام الجواب عن ذلك(2) : أنّ بعض الأعاظم خلط بين الأصل الجاري في مرحلة الامتثال والأصل الجاري في مرحلة التكليف، فإنّ قاعدة الفراغ وشبهها جارية في مرحلة الامتثال، ومثبتة لجعل البدل لحصول


سلوك أحد طريقيّ الذهاب إلى محلّ تواجد ذاك الدواء؛ لمغصوبيّة الطريق مثلاً، فهنا بالرغم من العلم التفصيليّ بوجوب علاج المؤمن، وتقديم الدواء له يمكن فرض الترخيص الظاهريّ في تركه؛ لأهمّيّة حرمة سلوك الطريق المغصوب مثلاً، وذلك لأنّ الترخيص الظاهريّ ـ حسب الفرض ـ هو الترخيص الناشىء عن تزاحم الغرضين في عالم المحرّكيّة، وهنا قد تزاحم غرض علاج المؤمن وغرض ترك الطريق المغصوب في المحرّكيّة، لا لعدم القدرة على الجمع بينهما، لكي يكون تزاحماً في عالم الامتثال، فإنـّه قادر على سلوك الطريق المباح والوصول إلى علاج المؤمن، من دون ابتلاء بالغصب، بل للجهل بما هو الطريق المغصوب، وعدم تمييزه عن الطريق المباح، فأيّ فرق بين الترخيص هنا والترخيص في موارد عدم العلم التفصيليّ كي يفترض إمكانيّة اجتماع الثاني مع الحكم الواقعيّ، بخلاف الأوّل؟ مع أنّ النكتة فيهما واحدة، وهي التزاحم في مقام المحرّكيّة.

وقد أفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الجواب عن ذلك: أنّ هذا المثال بابه باب التزاحم في مقام الامتثال بين وجوب الانقاذ واقعاً، ووجوب الاحتياط بترك كلا الطريقين ظاهراً، وبكلمة اُخرى: إنـّنا نقصد بالحكم الخطاب، أو ما يكشف عنه الخطاب، الناشئ عن داعي حصول التحريك على تقدير الوصول، وهذا غير ممكن في باب التزاحم الامتثاليّ بما هو أهمّ مثلاً، فلا يوجد داعي التحريك في هذا المثال نحو علاج المؤمن، حتى مع وصول هذا الحكم، كما لا يوجد داعي التحريك نحو غير الأهمّ في باب الصلاة والإزالة مثلاً، وإنـّما يمكن ذلك في خصوص فرض عدم العلم التفصيليّ بالحكم الواقعيّ، فهذا الفرض هو الذي يمكن فيه انحفاظ الحكم الواقعيّ مع الترخيص الظاهريّ.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 12.

(2) راجع المقالات : ج 2، ص 88 ـ 89، ونهاية الأفكار : القسم الثاني من الجزء الثالث ص309 ـ 315.

61

الامتثال القطعيّ تعبّداً، ونحن لا نقول: إنّ العلم علّة تامّة لوجوب تحصيل القطع بالامتثال الوجدانيّ، وإنـّما نقول: إنـّه علّة تامّة لوجوب تحصيل القطع بالامتثال، سواء كان وجدانيّاً أو تعبّديّاً، ونقول بمثل ذلك في العلم الإجماليّ أيضاً، فإذا علمنا إجمالاً مثلاً بوجوب الظهر أو الجمعة، وورد دليل تعبّديّ على أنّ ذلك الواجب هو الظهر، فهنا نلتزم بجواز الاقتصار على الظهر؛ لأنـّه إن لم يكن هو الواقع فقد جعل بدلاً عنه، وحصلت الموافقة القطعيّة تعبّداً.

والخلاصة: أنّ العلم بالتكليف ـ سواء كان تفصيليّاً أو إجماليّاً ـ يستدعي الفراغ اليقينيّ: إمـّا بالوجدان، أو بالتعبّد، ومعه لا بأس بإجراء البراءة في الطرف الآخر. وأمـّا إجراؤها في أحد الطرفين من دون تحصيل القطع بالفراغ ـ ولو الفراغ التعبّديّ ـ فغير صحيح.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (قدس سره) في المقام.

والمحقّق النائينيّ (رحمه الله) ذكر في المقام: أنّ العلم الإجماليّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وإنـّما هو مقتض له، فإنّ العلم الإجماليّ لا يزيد على العلم التفصيليّ، وفي العلم التفصيليّ يمكن الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة؛ لأجل جعل البدل من قبل الشارع، وحصول القطع بالامتثال التعبّديّ، كما في مثال موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، نعم يصحّ أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ، يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة؛ بتعميم الموافقة القطعيّة إلى الوجدانيّة والتعبّديّة، لا خصوص التعبّديّة.

فكأنـّه (رحمه الله) يقول بالاقتضاء بلحاظ خصوص الموافقة القطعيّة الوجدانيّة، وبالعلّيّة بلحاظ الأعمّ من الوجدانيّة والتعبّديّة، ويحمل كلام الخصم القائل بالعلّيّة على علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة الوجدانيّة، وإلى هذا الحدّ من الكلام كأنـّه يبدو عدم وجود خلاف حقيقيّ بينه وبين المحقّق العراقيّ.

ولكن كان ينبغي له أن يفرّع على ذلك عدم إمكان جريان الأصل الواحد في أحد الأطراف، كما فرّع ذلك عليه المحقّق العراقيّ، إلاّ أنـّه خالفه في التفريع، ففرّع على المطلب إمكان إجراء الأصل الواحد في أحد الأطراف؛ لأنـّه يفيد جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، ويوجب حصول الموافقة القطعيّة التعبّديّة.

62

ثمّ يقول (قدس سره) بعد أسطر ما هذا لفظه: العلم الإجماليّ إنـّما يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة إذا كانت الاُصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة(1).

وهذا الكلام وإن كان يقبل التأويل، لكنّ ظاهره يوافق ما في أجود التقريرات، من أنّ العلم الإجماليّ لا يقتضي أصلاً وجوب الموافقة القطعيّة، إلاّ بلحاظ تعارض الاُصول.

هذا، والمحقّق العراقي (رحمه الله) ينظر إلى ما أفاده المحقّق النائينيّ (قدس سره) من كون جريان الأصل في أحد الطرفين مساوقاً لجعل البدل، وحصول الموافقة القطعيّة التعبّديّة، فيقول(2) : إنّ جعل الأصل في المقام مساوق لجعل البدل إن اُريد به: أنّ الأصل يدلّ على جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، فهذا غير صحيح، فإنّ الأصل لا يدلّ على ذلك، لا بالمطابقة كما هو واضح، فإنّ مفاده إنـّما هو البراءة عن هذا الطرف، ولا ينظر إلى حال الطرف الآخر، ولا بالالتزام(3) ؛ لعدم حجّيّة المداليل الالتزاميّة للاُصول. وإن اُريد بذلك: أنّ دليل الأصل ـ كقوله: (رفع ما لا يعلمون) الذي هو أمارة ـ يدلّ بالالتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل، لأنّ المفروض أنّ الأصل لا يجري في هذا الطرف إلاّ مع فرض جعل البدل حتّى تتحقّق الموافقة القطعيّة التعبّديّة، ورد عليه: أنّ الأصل لا يتوقّف على مجرّد جعل البدل في المرتبة السابقة، فإنـّه لا تتحقّق بذلك الموافقة القطعيّة التعبّديّة، بل يتوقّف على وصول جعل البدل في المرتبة السابقة، فيستحيل تحقّق الوصول من نفس دليل الأصل، وبكلمة اُخرى: أنّ دليل الأصل لا بدّ أن يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنـّك عالم بجعل البدل، وهذا كذب، فالدلالة الالتزاميّة ساقطة في المقام، فلا يجري الأصل(4).

 


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 13.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 313 ـ 315.

(3) مقصود المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من الدلالة الالتزاميّة في المقام هو أنّ الأصل المرخّص إن كان تنزيليّاً، فكان لسانه لسان أنّ هذا الطرف حلال واقعاً، فقد يقال: إنّ لازم كونه حلالاً واقعاً كون الآخر حراماً؛ للعلم الإجماليّ بحرمة أحدهما، فيجيب عن ذلك بأنّ هذا تمسّك بالأصل المثبت.

(4) نعم، لو كان دليل الأصل صريحاً في جريانه في أحد الطرفين، كان هذا كناية عرفاً

63

أقول: إنّ الصحيح ـ بحسب الإطار الفكري الذي يعيشه هذان العلمان ـ هو ما أفاده المحقّق العراقيّ، لا ما أفاده المحقّق النائينيّ.

وما أفاده المحقّق النائينيّ مشوّش بناءً، ومفرّع عليه ما لا يناسبه، وما أفاده المحقّق العراقيّ غير مشوّش بناءً، ومفرّع عليه ما يناسبه.

لكنّنا نقول: إنّ الفرق بين جعل البدل وجعل البراءة ليس إلاّ فرقاً لسانيّاً، وإنّ التعبير تارةً بهذا واُخرى بذاك تفنّن في العبارة، ولا يرتبط ذلك بفرق جوهريّ بين الاُصول، وإنـّما روح الحكم الظاهريّ في الجميع يرجع إلى درجة اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ عند الشكّ، فلو لم يهتمّ بغرضه إلى درجة يكلّف العبد كلفة إعادة العمل عند الشكّ في صحّة عمله، رخّص العبد في ترك الإعادة، إمـّا بلسان: لا تُعِد، وإمـّا بلسان: بلى قد ركعت مثلاً، أفهل ترى أنـّه لو قال: بلى قد ركعت، فهذا ليس تحدّياً لحكم العقل، لأنـّه عبّدنا بحصول الامتثال، ولو قال: لا تُعِد(1) كان ذلك تحدّياً لحكم العقل؛ لأنـّه رخّص من دون التعبّد بذلك؟.

نعم، مثل هذه التفرقة بين اللسانين ليس غريباً على اُصول كانت تفرّق بين لسان جعل الكاشفيّة ولسان إيجاب الاحتياط، فترى أنّ موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) يرتفع بوضوح بجعل الكاشفيّة، ولكن تشكل كيفيّة تصوير ارتفاعه بمجرّد إيجاب الاحتياط، لأنّ المفروض أنّ الشارع لم يجعل البيان.

والحاصل: أنـّه لا فرق ـ بحسب الروح والجوهرـ بين أن يرخّص المولى بلسان جعل البدل، والتعبّد بحصول الامتثال، أو يرخّص بلسان جعل البراءة. واعتراف المحقّق العراقيّ بإمكان الأوّل اعتراف ضمنيّ منه بحسب وجدانه بإمكان الثاني، فتحصّل أنّ نقض المحقّق النائينيّ يكون ـ وبحسب الواقع ـ وارداً عليه.

هذا. وللمحقّق العراقيّ نقضان في المقام:

الأوّل: نقض موجود في تقرير بحثه، ولم يذكره في مقالاته، وهو أنـّه بعد أن فرّق بين العلم التفصيليّ والعلم الإجماليّ في التنجيز، كما سلّم الخصم بذلك، يلزم من عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة وجواز إجراء الأصل في


عن جعل الطرف الآخر بدلاً، بناءً على أنّ جريان الأصل لا يتصوّر إلاّ مع حفظ الامتثال التعبّديّ القطعيّ.

(1) ولم يكن ذلك كناية عن معنى: بلى قد ركعت.

64

بعض أطرافه ـ إن لم يكن له معارض ـ انسحاب ذلك إلى العلم التفصيليّ، فإذا شكّ في صحّة صلاته ولم تجرِ قاعدة الفراغ، كان له التمسّك بأصالة البراءة؛ للشكّ في وجوب الصلاة فعلاً عليه.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ على ما في تقرير بحثه.

وقد يقال: إنّ استصحاب بقاء الوجوب، أو استصحاب عدم الإتيان بالواجب، حاكم على البراءة في المقام.

والصحيح ـ كما يأتي إن شاء الله ـ : عدم جريان استصحاب بقاء الوجوب، لكن يكفي الاستصحاب الموضوعيّ في المقام.

إلاّ أنّ التمسّك بحكومة الاستصحاب في المقام لا يكفي لدفع النقض، فإنـّهم لا يجرون البراءة في المقام، حتّى بقطع النظر عن الاستصحاب، ولا تجري البراءة حتّى عند من ينكر الاستصحاب.

وعلى أيّ حال، فالصحيح في المقام عدم ورود هذا النقض؛ وذلك لأنّ عدم جريان البراءة عند الشكّ في الامتثال في مورد العلم التفصيليّ ليس لأجل محذور ثبوتيّ، بل لأجل القصور الإثباتيّ في دليل البراءة، لأنّ موضوع دليل البراءة هو الشكّ في الحكم، وهنا لا يشكّ في الحكم.

وتوضيح المقصود: أنـّه إن اُريد إجراء البراءة عن و جوب ثابت على الجامع بين الفرد الأوّل المأتيّ به على تقدير صحّته، والفرد الثاني غير المأتيّ به، فهذا الوجوب مقطوع به. وإن اُريد إجراء البراءة عن وجوب ثابت على ما لا يشمل الفرد الأوّل على تقدير صحّته، فهذا الوجوب غير محتمل. وإن اُريد إجراء البراءة عن الوجوب الأوّل ـ وهو وجوب الجامع بين الفرد الأوّل المأتيّ به على تقدير صحّته، والفرد الثاني ـ من باب أنّ هذا الوجوب وإن لم يكن مشكوكاً حدوثاً لكنّه مشكوك بقاءً، ورد عليه: أنّ روح الحكم وجوهره ـ وهو الحبّ والبغض ـ لا يسقط بالامتثال، فالمولى حتّى بعد الامتثال حينما ينظر إلى ما فعله يحبّه ويرتضيه، وإنـّما الذي يسقط في المقام هو فاعليّة الحكم، وهذا ثابت في الأحكام التشريعيّة، وفي المقاصد التكوينيّة، فمن يريد عملاً بالإرادة التكوينيّة، بأن يفعله هو، أو بالإرادة التشريعيّة، بأن يفلعه عبده، لاتفترق حالته النفسيّة تجاه ذلك الشيء من محبوبيّته له بدرجة الإلزام قبل العمل وبعده، وإنـّما الذي يسقط وينتهي هو الفاعليّة التكوينيّة في فرض إتيانه بنفسه، أي أنـّه بعد العمل لا يبقى لذلك الحبّ تحريك تكوينيّ،

65

والفاعليّة التشريعيّة في فرض إتيان عبده، أي أنـّه بعد عمل العبد لا يبقى لذلك الحبّ تحريك تشريعيّ.

فتحصّل: أنـّه لا موضوع لجريان البراءة في فرض الشكّ في الامتثال في العلم التفصيليّ.

ولو فرض جعل أصل خاصّ غير البراءة المعروفة عند الشكّ في الامتثال لالتزمنا به، كما ثبت ذلك في بعض الموارد، كفرض الشكّ في جهة القبلة، على رأي من يقول بجواز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ، مع البدار فيه، وإن علم أنّ القبلة سوف تتعيـّن له.

ولا يقال: إنّ العلم هنا إجماليّ لا تفصيليّ.

فإنـّه يقال: إنـّه ينبغي أن يكون هذا العلم الإجماليّ غير منظور إليه لهم في بحثهم عن تنجيز العلم الإجماليّ وعدمه، ويكون ملحقاً بالعلم التفصيليّ؛ لأنّ الكلام إنـّما هو في البراءة التي كانت تجري في الشكّ البدويّ هل تجري مع العلم الإجماليّ أو لا، فلو فرض مورد لا يقبل البراءة، حتّى لو كان الشكّ بدويّاً، فلا معنىً للبحث عن جريان البراءة فيه مع العلم الإجماليّ. وهذا المثال من هذا القبيل، فلو وجب مثلاً إكرام عالم على سبيل البدل، وعلم إجمالاً بعالميّة زيد أو عمرو، وكان هناك شخص ثالث معلوم العالميّة تفصيلاً ـ سنخ ما افترضناه من أنـّه ستنكشف القبلة تفصيلاً ـ فلا معنىً لجريان البراءة عن أطراف العلم الإجماليّ، إذ حتّى لو كان الشكّ بدويّاً لم يكن مجرىً للبراءة.

الثاني: نقض موجود في تقرير بحثه(1)، وفي مقالاته(2)، وكأنّ هذا النقض اشتهر في ذلك الزمان، حتّى أنّ الشيخ الكاظميّ (رحمه الله) أطال الكلام في تقريره في مقام الجواب عنه، ثمّ التفت إلى أنـّه طال الكلام في ذلك فذكر: أنـّنا أطلنا الكلام؛ لأنّ هذه الشبهة أصبحت مغروسة في أذهان بعض الطلبة، فأطلنا الكلام في شرح بطلانها، حتّى لا يبقى شيء منها في الذهن، وبعد هذا البيان لا أظنّ أحداً تبقى في ذهنه هذه الشبهة(3).


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 317 ـ 320.

(2) ج 2، ص 12.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 10 ـ 11.

66

وعلى أيّة حال، فهذا النقض عبارة عن أنـّه: لو لم يكن العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فلماذا لا نثبت التخيير تمسّكاً بإطلاق دليل الأصل في كلّ واحد منهما على تقدير عدم ارتكاب الآخر، بعد فرض سقوط الإطلاقين الأحواليّين الشاملين لحال ارتكاب الآخر بسبب لزوم المخالفة القطعيّة؟

وسنبحث هذا النقض قريباً ـ إن شاء الله ـ في بحثنا الإثباتي في المقام.

 

المحذور الإثباتي

وأمـّا مانعيّة العلم الإجماليّ إثباتاً عن جريان الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف، فبعد فرض عدم إمكان جريان الأصل في تمام الأطراف ـ إمـّا لمانع ثبوتيّ وإمـّا لمانع إثباتي ـ يذكرون في المقام مانعاً إثباتيّاً عن إجراء الأصل في بعض الأطراف، وهو أنّ إجراءه في أحد الطرفين معيّناً تمسّكاً بدليل الأصل ترجيح بلا مرجّح، وإجراءه بنحو التخيير ليس مفاداً للدليل، فإنّ مفاد الدليل هو جريان الأصل في كلّ واحد من الطرفين بعينه لا الترخيص التخييريّ.

أقول: إنّ هذا الوجه لا نحتاج إليه في مثل (رفع ما لا يعلمون) ممّا لا يكون ناظراً إلى القسم الثاني من التزاحم ـ أعني التزاحم الملحوظ فيه غرض إلزاميّ معلوم بالإجمال ـ بمقتضى ما بيّناه من النكتة الاُولى من نكتتي مانعيّة العلم الإجماليّ عن إجراء الاُصول إثباتاً، فإنّ مثل هذا الأصل لا يجري في أطراف العلم الإجماليّ في نفسه، بقطع النظر عن برهان الترجيح بلا مرجّح، لأنّ المفروض عدم ناظريّة دليله إلى فرض وجود المعلوم بالإجمال، فحتّى لو كان الأصل في أحد الطرفين غير مبتل بالمعارض، كما لو جرى في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف، لا يجري هذا الأصل لنفس تلك النكتة، فإنـّما نحتاج إلى هذا الوجه في مثل قوله: (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه) ممّا لا ترد فيه النكتة الاُولى.

وعلى أيّة حال، فيمكن الإيراد على هذا الوجه بإشكالين:

 

67

الترخيص التعييني

الإشكال الأوّل: أنّ إجراء الاُصول في أحد الطرفين معيّناً لا يوجب دائماً مشكلة الترجيح بلا مرجّح، فقد يتّفق إمكان التمسّك بدليل الأصل في أحدهما بعينه بلا لزوم هذا المحذور، وذلك كما لو فرضنا أنّ التكليف الإلزاميّ في أحد الطرفين مظنون وفي الطرف الآخر موهوم ولم يكن ترجيح محتمليّ أو أيّ مرجّح آخر في جانب الموهوم حتّى يزاحم الترجيح الاحتماليّ في جانب المظنون، وعندئذ فلا نحتمل كون الأصل الترخيصيّ جارياً في جانب المظنون دون الموهوم بناءً على ما هوالصحيح من أنّ الأحكام الظاهريّة تكون للتحفّظ على ملاكات نفس الأحكام الواقعيّة في طول الحافظ الأوّل، ولكن نحتمل العكس، والمفروض عدم جريان كلا الأصلين، فنستنتج من ذلك أنّ المظنون خارج عن إطلاق دليل الأصل قطعاً، والجانب الموهوم يحتمل دخوله فيه، فيتمسّك فيه بإطلاقه.

نعم، هذا البيان لا يأتي على مبنى السيّد الاُستاذ وغيره: من أنّ الأحكام الظاهريّة ناشئة من ملاكات في نفسها، إذ ـ عندئذ ـ كما يحتمل وجود الملاك في خصوص الترخيص في جانب الموهوم كذلك يحتمل وجود الملاك في خصوص الترخيص في جانب المظنون.

وعلى أيّ حال، فهذا البيان كما طبّقناه على فرض الترجيح الاحتماليّ كذلك يمكن تطبيقه على فرض الترجيح المحتمليّ، بأن يقال: إذا علمنا بأنّ المعلوم بالإجمال على تقدير ثبوته في أحد الطرفين المعيّن أهمّ منه على تقدير ثبوته في الطرف الآخر، فهنا أيضاً نقطع ـ على مبنانا من كون الأحكام الظاهريّة لأجل الحفاظ على ملاكات الواقع ـ بعدم جريان الأصل في الطرف الأهمّ، ويتمسّك ـ عندئذ ـ بإطلاق دليل الأصل في طرف المهمّ.

وهذا الإشكال سيأتي ـ إن شاء الله ـ في أواخر بحث الإشكال الثاني تعميقه، ببيان شمول العامّ بإطلاقه لعنوان (الفرد الثاني)، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ هناك حلّه بما ورد من دليل خاصّ على الاحتياط في الشبهات المحصورة.

نعم، هذا الوجه وجه سيّال يأتي في غير هذا الباب أيضاً، فيمكن الأخذ به في باب آخر لم يرد فيه دليل خاصّ على خلاف المقصود، فمثلاً لو كان دليل حجّيّة خبر الثقة دالاًّ بإطلاقه على حجّيّة كلّ واحد من الخبرين المتعارضين وكان أحد المخبرين أرجح في ملاك الحجّيّة، وهو الوثاقة ـ لا في صفة اُخرى كالجود والكرم مثلاً ـ أمكن

68

القول بأنـّه لا يسقط الإطلاقان بالتعارض، بل نتمسّك بإطلاق دليل الحجّيّة في خصوص خبر الأوثق بعد القطع بعدم حجّيّة الخبر الآخر، هذا لو لم نقل: إنّ حجّيّة خبر الواحد في نفسها مشروطة بعدم معارضة أماريّتها بأمارة ظنّيّة اُخرى، بأن كان المحذور في الحجّيّة منحصراً في عدم إمكان حجّيّة كليهما، وكون حجّيّة أحدهما ترجيحاً بلا مرجّح.

 

الترخيص التخييريّ

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام(1) من أنـّه لا مانع إثباتيّ عن إجراء الأصل الترخيصيّ في المقام بشكل ينتج التخيير، وجعل هذا نقضاً على من ينكر العلّيّة التامّة للعلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.

وتقريب الإشكال: هو أنّ القول بتعارض الإطلاقين لكون جريانهما معاً موجباً للترخيص في المخالفة القطعيّة، وجريان أحدهما ترجيحاً بلا مرجّح، إنـّما يتمّ بلحاظ الإطلاق الأحواليّ، فإنّ الإطلاق الأفراديّ لدليل الأصل بالنسبة لكلّ واحد من الطرفين ليس مبتلياً بالمعارض، وإنـّما المحذور ينشأ من الإطلاق الأحواليّ في كلّ واحد من الفردين، حيث إنّ البراءة في كلّ واحد منهما ثابتة بالإطلاق، حتّى في حال ارتكاب الآخر، فيلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة، فنحن إنـّما نلتزم بسقوط الإطلاقين الأحواليّين مع بقاء الإطلاقين الأفراديّين على حالهما، فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، والإطلاق حجّة ما لم يعلم بخلافه، فنقول: إنّ كلّ واحد منهما مرخّص فيه، بحكم البراءة على تقدير عدم ارتكاب الآخر، ولا يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة بارتكاب كليهما، إذ في ظرف المخالفة القطعيّة لا يوجد ترخيص، وعليه فمن ينكر كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة لا بدّ له أن يلتزم بعدم وجوبها، وهذا نظير أنـّه لو ورد : « أكرم كلّ عالم»، وعلمنا من الخارج أنـّه لا يجب إكرام كلّ من زيد وعمرو العالمين تعييناً، فعندئذ لا نقول بجواز ترك إكرام كليهما معاً، بل نتمسّك بإطلاق الدليل لإثبات وجوب إكرام


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 317ـ .32، والمقالات: ج 2، ص 12.

69

كلّ واحد منهما على تقدير عدم إكرام الآخر، وينتج من ذلك التخيير.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام.

وهذا التقريب أحسن ممّا كان يقال قبل صاحب الكفاية من أنّ دليل البراءة وإن لم يجرِ في هذا المعيّن وفي ذاك المعيّن، لكنّه يجري في أحدهما التخييريّ.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم(1) (قدس سره): بأنّ أحدهما التخييري ليس شيئاً وراء هذا المعيّن وذاك المعيّن، وإن اُريد الفرد المردّد ورد عليه إشكال الفرد المردّد.

فشبهة التخيير بالشكل الذي طرحه المحقّق العراقيّ أمتن من التقريب الذي أجاب عنه الشيخ الأعظم بذاك الجواب.

وقد يجاب عنها بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما نقله السيّد الاُستاذ(2) عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله)من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر، وفي ما نحن فيه الإطلاق ممتنع؛ لمنافاته لحرمة المخالفة القطعيّة، فيمتنع التقييد أيضاً، بأن تكون البراءة في كلّ واحد من الطرفين مقيّدة بعدم ارتكاب الآخر، فتسقط البراءتان رأساً.

وأورد السيّد الاُستاذ عليه(3) بمنع كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، حيث إنّ التقابل بينهما في رأي السيّد الاُستاذ تقابل التضادّ.

وقد مرّ منّا أنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب.

وعلى أيّ حال، فبقطع النظر عن المبنى لا يتمّ هذا الوجه في المقام، ولا حاجة إلى الدخول في المناقشة في المبنى فإنـّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ كلّ واحد من الإطلاقين ليس في نفسه ممتنعاً، وإنـّما الممتنع اجتماعهما، والقابليّة التي تؤخذ في تقابل العدم والملكة إنـّما هي القابليّة في مصبّ التقابل، ومصبّ التقابل في ما نحن فيه ـ وهو كلّ واحد من الإطلاقين في نفسه ـ غير


(1) طريقة البحث في رسائل الشيخ الأعظم تختلف عن هذه الطريقة، راجع الرسائل: ص 245 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 244 ـ 245، ومصباح الاُصول: ج 2، ص354، والدراسات: ج 3، ص 227.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 354، والدراسات: ج 3، ص 228.

70

ممتنع، فلو تعارض مثلاً إطلاقان بالعموم من وجه كأكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، فالجمع بين الإطلاقين ثبوتاً غير ممكن، لكنّ كلّ واحد من الإطلاقين في نفسه ممكن، فهل يتوهّم أحد أنّ الدليلين سقطا حتّى بلحاظ مادّتي الافتراق، لأنّ الإطلاق صار ممتنعاً، فامتنع التقييد بمادّتي الافتراق أيضاً؟ طبعاً لا، ومانحن فيه من هذا القبيل، حيث لم يكن الإطلاق في نفسه ممتنعاً، ولذا يلتزم هو (قدس سره)بجريان أصل واحد، إن لم يكن مبتلى ً بالمعارض، وإنـّما الممتنع هو اجتماع الإطلاقين، وإلاّ لم يجرِ الأصل حتّى بلا معارض، بل لم يجرِ الأصل في غير أطراف العلم الإجماليّ حسب هذه المباني، لأنّ إطلاق دليل البراءة لمورد العلم الإجماليّ ممتنع، فيمتنع تقييده بغير مورد العلم الإجماليّ أيضاً، ثمّ يلزم امتناع حجّيّة خبر الواحد، لأنّ إطلاقها لدليل البراءة ممتنع، فتقييدها بغيره ـ أيضاً ـ ممتنع، بل يمكن التعدّي أزيد من هذا.

وثانياً: أنـّنا قطعنا النظر عمّا ذكرناه، لكن القابليّة التي تؤخذ في باب العدم والملكة ـ الذي بابه في الحقيقة باب الألفاظ لا الواقعيّات ـ إنـّما تؤخذ في جانب العدم لا في جانب الوجود، فمثلاً البصر وعدم البصر متقابلان تقابل السلب والإيجاب، وحينما يراد الإتيان بما يكون تقابله تقابل العدم والملكة يبدّل عدم البصر بالعمى مع إبقاء البصر على حاله، فيقال: إنّ العمى عبارة عن عدم البصر في مورد قابل للبصر، فالجدار الذي لا يقبل البصر لا يصدق عليه العمى، لكن لو وجد ما يكون البصر من ذاتيّاته يصدق عليه البصر وإن لم يكن قابلاً للعمى، فالذي يناسب كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة إنـّما هو امتناع الإطلاق إذا امتنع التقييد، كما ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في بحث التعبّديّ والتوصليّ(1) : أنّ تقييد الأمر بقصد الأمر ممتنع، فكذلك إطلاقه، ولا معنىً لأن يفرّع على كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة امتناع التقييد إذا امتنع الإطلاق كما ذُكر في ما نحن فيه.

الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ(2)، وهو ـ في الحقيقة ـ إدخال لبعض التصرّفات في المبنى، حيث إنـّه إلى هنا كان البناء على أنّ المحذور في جريان الاُصول في جميع الأطراف، إنـّما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فذُكر أنـّه


(1) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 113، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 146.

(2) راجع المصباح: ج 2، ص 355، والدراسات: ج 3، ص 228.

71

بعد تقييد الإطلاق الأحواليّ لا يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، ولكن ذكر السيّد الاُستاذ هنا: أنـّه لاينحصر المحذور في ذلك، بل مجرّد الترخيص القطعيّ في الحرام قبيح ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، ففي المقام وإن لم يلزم الترخيص فيها، إذ في ظرف المخالفة القطعيّة لا ترخيص في المقام، لكنّه يلزم الترخيص القطعيّ في المخالفة، لأنـّنا نقطع عند اشتباه الخمر بالماء مثلاً في مورد العلم الإجماليّ بأنّ الشارع رخّصنا في أن نشرب الخمر بشرط أن نترك شرب الماء، وهذا ترخيص قطعيّ في المخالفة.

ولم يذكر السيّد الاُستاذ وجهاً لما فعله من التصرّف في المحذور المدّعى، من كون الترخيص القطعيّ في المخالفة قبيحاً وإن لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، عدا النقض(1) على القول بجواز إجراء الأصلين لو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، بأنـّه لو جاز هذا للزم أن يجوز إجراء الأصلين من دون تقييد للإطلاق فيما إذا لم يمكن تكويناً الجمع بين الطرفين، كما لو علمنا إجمالاً بأنـّه يحرم في هذا الآن مثلاً الكون في أحد المكانين، ولايمكن الكون في كليهما في آن واحد، فإنـّه ـ عندئذ ـ لا يلزم من إجراء الأصلين الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لعدم إمكانها، لكنّه يلزم الترخيص القطعيّ في المخالفة(2).

ولنا مع السيّد الاُستاذ كلام في مقامين:

المقام الأوّل: في أنـّه لو سلّم ما ذكره من كون الترخيص القطعيّ في المخالفة


(1) جاء ذكر ذلك في الدراسات، ولم يذكر في المصباح.

(2) وبالإمكان الجواب على هذا النقض: بأنـّه لو فرض أنّ استحالة الجمع لا تبقي مجالاً لإطلاق الترخيص في كلّ من الطرفين لحالة ارتكاب الآخر، فقد رجعنا مرّةً اُخرى إلى تقييد كلّ من الإطلاقين بفرض عدم ارتكاب الآخر، فهذا عين ما نتكلّم عنه، وليس نقضاً عليه، والمحقّق العراقيّ ملتزم بصحته بناءً على نفي العلّيّة، ولو فرض أنّ هذه الاستحالة لا تنافي الإطلاق، فإطلاق الترخيص في كلٍّ من الطرفين لحالة ارتكاب الآخر باق على حاله، رغم استحالة فعله على تقدير ارتكاب الطرف الآخر ولو بمعنى أنـّه لو أمكنك الإتيان بهذا رغم الإتيان بضده فلا بأس بذلك، إذن هذا يعني الترخيص في المخالفة القطعيّة ولو بمعنى أنـّه لو أمكنك محالاً الإتيان بهما فلا بأس بذلك، والترخيص في القبيح قبيح، حتى لدى استحالته على تقدير تصوير الترخيص فيه لدى الاستحالة، فأيضاً لا يصلح هذا نقضاً على ما نحن فيه.

72

محذوراً ـ وإن لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ فهل ترتفع بهذا شبهة التخيير أو لا؟

فنقول: تارةً يفرض أنّ مدّعاه هو محذوريّة الترخيص القطعيّ في المخالفة، إذا كان ترخيصاً فعليّاً قطعيّاً، بمعنى أنـّه لا ضير في الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير معلوم الحصول، وعندئذ فشبهة التخيير وإن كانت ترتفع في مثل ما لو علم بحرمة أحد المائعين؛ إذ لو ترك كليهما يصير كلا الترخيصين فعليّاً لحصول شرطهما، لكن يمكن دعوى التخيير مع إضافة قيد آخر فيما لو فرض أطراف العلم الإجماليّ ثلاثة مثلاً، فإنّ من الممكن أن يقيّد الترخيص في كلّ واحد منهما بترك أحد الآخرين وفعل الآخر، فعندئذ لا يحصل في آن من الآنات القطع بالترخيص الفعليّ في المخالفة، فإنـّه لو ترك الجميع، أو فعل الجميع فلا ترخيص، ولو فعل بعضاً دون بعض كان هناك ترخيص في بعض دون بعض.

إن قلت: كيف يرتكب فعل الأوّل مع أنـّه لم يتحقّق شرط إباحته من فعل أحد الآخرين؟

قلت: أوّلاً: نفرض أنـّه عصى بارتكاب الأوّل، فيجوز له ارتكاب أحد الآخرين بشرط ترك الآخر.

وثانياً: أنـّنا نفرض كون الترخيص في كلّ واحد منها مشروطاً بترك أحد الآخرين، وفعل الآخر في مجموع عمود الزمان ولو متأخّراً، فإذا علم بأنـّه سوف يرتكب الثاني، ويترك الثالث، جاز له ارتكاب الأوّل.

وأتذكّر أنـّي أوردت هذا النقض على السيّد الاُستاذ حينما كنت أحضر بحثه، فلم يأتِ بشيء.

واُخرى يفرض أنّ مدّعاه هو محذوريّة الترخيص القطعيّ في المخالفة، وإن كان مشروطاً بشرط غير معلوم الحصول، فترتفع شبهة التخيير حتى في مثل فرض أطراف العلم الإجماليّ ثلاثة، لكنّ هذاينافي مبناه في باب الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه، حيث يقول هناك(1): إنّ الحكم الواقعيّ ثابت على حاله، وإنـّه يثبت بالاضطرار الترخيص في الوجود الأوّل فحسب، ويبقى العلم الإجماليّ منجّزاً بمقدار المخالفة القطعيّة.


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 250، والمصباح: ج 2، ص 389.

73

فإنّ هذا يرد عليه بناءً على ذلك: أنّ الترخيص في الوجود الأوّل يرجع إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير محرز الثبوت، وتوضيح ذلك: أنّ الوجود الأوّل هنا ليس مجرّد عنوان مشير ـ نظير قوله: إنّ الإمام بعدي خاصف النعل، فعنوان خاصف النعل مجرّد عنوان مشير إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولا يكون غيره إماماً ولو في الواقع فرض خاصف النعل ـ بل عنوان الوجود الأوّل بنفسه له موضوعيّة في المقام، فالقضيّة تنحلّ إلى قضيّتين شرطيّتين، وهما: الترخيص الظاهريّ في هذا الطرف مشروطاً بكونه الوجود الأوّل، والترخيص الظاهريّ في ذاك الطرف مشروطاً بكونه الوجود الأوّل، ويلزم من هذا الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير محرز الثبوت.

المقام الثاني : في أنّ الترخيص القطعيّ في المخالفة، هل هو محذور في نفسه وإن لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، أو لا؟. وهنا نحن والسيّد الاُستاذ متّفقون على أصل واضح، وهو أنّ الحكم الظاهريّ ليس بذاته من القبائح كقبح الظلم، ولا من المحالات كاستحالة الدور والتسلسل، وإنـّما استحالته تكون باعتبار مصادمته للحكم الواقعيّ في مرتبة من مراتبه من الجعل، أو مبدأ الجعل أو أثر الجعل، أي ما يتعقّبه من حكم العقل، وعليه نسأل: أنّ الترخيص الظاهريّ فيما نحن فيه لماذا أصبح محالاً؟ وفي أيّ شيء يصادم الحكم الواقعيّ؟

أمـّا مصادمته له في الجعل فالسيّد الاُستاذ يرى في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعي أنّ كلا الجعلين سهل المؤنة لا تضادّ بينهما.

وأمـّا مصادمته له في المبادىء، فهو يرى: أنّ مبدأ الحكم الواقعيّ في متعلّقه، و مبدأ الحكم الظاهريّ في نفسه وليس في متعلّقه، لكي يضادّ مبدأ الحكم الواقعيّ.

وأمـّا مصادمته له في الأثر العقليّ، فليس هناك أثر عقليّ للحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال إلاّ أمران: أحدهما: حرمة المخالفة القطعيّة، والآخر: وجوب الموافقة القطعيّة، فهذا الترخيص القطعيّ يصادم أيّاً من الأثرين؟

أمـّا حرمة المخالفة القطعيّة فلا معنى لمصادمته لها بعد أن كان المفروض عدم استلزام الترخيص القطعيّ في المخالفة للترخيص في المخالفة القطعيّة.

وأمـّا وجوب الموافقة القطعيّة، فلا معنىً ـ أيضاً ـ لمصادمته إيّاه بعد أن كان المفروض أنّ وجوب الموافقة القطعيّة اقتضائيّ معلّق على عدم الترخيص.

فلا يبقى في المقام عدا أن يقال: إنّ الترخيص في المخالفة ـ وإن لم يستلزم

74

الترخيص في المخالفة القطعيّة في نفسه ـ قبيح إذا عرف العبد بأنـّه ترخيص في المخالفة، بحيث إنّ ترخيص المولى في المخالفة ـ مع عدم إحراز العبد لكونه ترخيصاً في المخالفة ـ ليس قبيحاً، ولكن بضمّ اطّلاع العبد على ذلك يصبح قبيحاً، وهذا شيء لا نتعقّله، وعهدته على مدّعيه، وهو خلف ما مضى من الأصل المسلّم بيننا: من أنّ الحكم الظاهريّ محذوره إنـّما هو المصادمة للحكم الواقعيّ ببعض مراتبه، لا أنـّه في نفسه محذور من المحاذير.

الوجه الثالث: ما لعلّه مذكور في الدراسات(1) : من أنّ الحكم الظاهريّ يجب أن يكون محتمل المطابقة للواقع، فلو علمنا مثلاً بالكراهة أو الإباحة، لا يكون الحكم الظاهريّ فيه الحرمة، وإن أمكن جعل الحرمة في ذلك، فهو حكم واقعيّ لا ظاهريّ، وعليه فالإباحة المشروطة بترك الآخر غير معقولة في ما نحن فيه؛ إذ لا نحتمل الإباحة المشروطة في شيء من الطرفين، بل أيّ واحد منهما إمـّا حرام مطلقاً، أو مباح مطلقاً.

ويرد عليه: أنـّه لا وجه لاشتراط احتمال مطابقة الحكم الظاهريّ للواقع، وإنـّما يشترط فيه أمران: أحدهما: الشكّ، والآخر: كون الحكم الظاهريّ صالحاً للتنجيز المحتمل أو التعذير عنه، لأنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن الخطاب الناشىء من تزاحم الملاكات الواقعيّة، وإعمال قوانين التزاحم، فلو انتفى الشكّ لم يكن هناك تزاحم، ولو لم يكن الحكم الظاهريّ صالحاً للتنجيز المحتمل أو التعذير عنه لم يكن إعمالاً لقوانين باب التزاحم، وتقديم أحد الجانبين على الآخر مثلاً، فلو علمنا مثلاً بالكراهة، فلا معنىً للحكم الظاهريّ؛ لعدم الشكّ، ولو علمنا إجمالاً بالكراهة أو الإباحة، فلا معنىً للحكم الظاهريّ بالحرمة، لعدم صلاحيّته لتنجيز المحتمل أو التعذير عنه. وأمـّا الإباحة المشروطة في ما نحن فيه فهي صالحة للتعذير عن الواقع تعذيراً ناقصاً، أي: مختصّاً بفرض ترك الآخر.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّ هنا إطلاقين أفراديّين، وإطلاقين أحواليّين، لو تحفّظنا عليها كلّها لزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلابدّ من رفع اليد عن اثنين من أربعة، وهذا كما يمكن برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين، كذلك يمكن برفع اليد عن الإطلاق الأحواليّ والأفراديّ من أحد الجانبين، ويرتفع بذلك أيضاً


(1) وقع في الدراسات وفي المصباح الخلط بين هذا الوجه والوجه السابق.

75

المحذور، وتقديم الطريقة الاُولى على الثانية ترجيح بلا مرجّح، وكذلك العكس، فتتساقط الكلّ.

ويرد عليه: أنّ رفع اليد عن الإطلاق ليس جزافيّاً، وإنـّما هو بملاك التعارض، والإطلاق الأفراديّ في أحد الطرفين ليس معارضاً لأيّ من الإطلاقين الأفراديّ والأحواليّ في الطرف الآخر، إذ يرتفع محذور المخالفة القطعيّة برفع اليد عن إطلاق أحواليّ واحد في أحد الجانبين، والتحفّظ على الإطلاقات الثلاثة الاُخرى، وإنـّما التعارض يكون بين الإطلاقين الأحواليّين، وهذا التعارض يجبرنا على رفع اليد عن أحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما، ورفع اليد عن أيّ واحد منهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فنرفع اليد عنهما معاً. وأمـّا الإطلاق الأفراديّ فلا يوجد أيّ ملاك لرفع اليد عنه؛ إذ ملاك التساقط هو التعارض، والإطلاق الأفراديّ ليس مبتلياً بالمعارض، ولا معنىً لإسقاطه اُسوةً له بالإطلاق الأحواليّ.

الوجه الخامس: أن يقال: كما يمكن تقييد الإطلاق في كلّ واحد من الطرفين بعنوان الأوحديّ، كذلك يمكن تقييده بعنوان الوجود الأوّل، وتقديم الترخيص في الوجود الأوحديّ على الترخيص في الوجود الأوّل ترجيح بلا مرجّح، وكذلك العكس، فيتساقط جميع الترخيصات.

وهذا أيضاً يظهر جوابه من جواب الوجه السابق، فإنّ الإطلاق يجب التحفّظ عليه بأكبر قدر ممكن، ويرفع اليد فقط عن المقدار الذي يكون سبباً لتولّد المحذور، فإن كان إطلاق معيّن مولّداً للمحذور يرفع اليد عنه، وإن كان مجموع إطلاقين أو إطلاقات مولّداً للمحذور يرفع اليد عن ذينك الإطلاقين، أو عن تلك الإطلاقات، ونحن متسالمون على أنـّه لا محذور في كون عنوان الأوحديّ داخلاً تحت الإطلاق. وأمـّا عنوان الوجود الأوّل، فإن سلّمنا منكم أيضاً عدم المحذور في شمول الإطلاق له، أضفناه إلى عنوان الأوحديّ تقليلاً للتقييد بقدر الإمكان، ولا يكون شمول الإطلاق لكلّ من عنواني الأوحديّ والوجود الأوّل موجباً للترخيص في المخالفة القطعيّة، حتى يتعارضا، وإن لم نسلّم ذلك تعيّن ما ذكرناه من ثبوت الإباحة على عنوان الأوحديّ.

والصحيح: أنـّه لا يمكن التحفّظ على الإطلاق بلحاظ عنوان الوجود الأوّل، لأنّ إطلاق الحديث لعنوان الوجود الأوّل في كلّ واحد من الطرفين معارض بإطلاقه لعنوان الوجود الثانيّ في الطرف الآخر، إذ تلزم من مجموعهما المخالفة القطعيّة،