24

 

 

 

هل الاستصحاب مسألة اُصولية؟

 

البحث الثاني: في أنّ بحث الاستصحاب هل هو مسألة اُصولية أو لا، وهذا يرتبط بتعريف علم الاُصول الذي قد تكلّمنا فيه في أوّل الدورة، وفي أوّل بحث البراءة، وأتكلّم فيه هنا بنحو الاختصار، فأذكر تعريفين منها:

أحدهما: للمحقق النائينيّ(قدس سره) و مدرسته، وهو: أنّ المسألة الاُصولية هي التي تقع كبرى في طريق الاستنباط.

واُورد على ذلك بانطباق هذا التعريف على بعض القواعد الفقهية، كقاعدة(لا ضرر) ونحو ذلك.

وقد أجبنا عن هذا الإشكال في محله، فلا ندخل هنا في البحث عنه.

ونقتصر هنا على ذكر الإشكال الصحيح الوارد على هذا التعريف، وهو: أنّ المسألة الاُصولية لا تقع دائماً كبرى في طريق الاستنباط، بل إنّ بعض المسائل تقع صغرى لذلك، كأبحاث الظهورات من قبيل: أنّ الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، ونحو ذلك ممّا ينقّح الصغرى لكبرى حجّيّة الظهور، وبعض المسائل لا تقع كبرى ولا صغرى، بل تكون دخيلة في الصغرى، بمعنى إثبات بعض قيودها، كما في بحث إمكان الترتّب و إمكان اجتماع الأمر و النهي، ونحو ذلك ممّا يستفاد منه ـ لو ثبت ـ أنّ صيغة الأمر و النهي الواردتين في المقام مثلاً ظاهرتان في أمر ممكن، وهذا صغرى لكبرى حجّيّة الظهور قد ثبت قيده، وهو كون الأمر الظاهر فيه ممكناً ببحث إمكان الترتب، أو اجتماع الأمر و النهي.

وعلى أيّ حال، فالاستصحاب في الشبهة الحكمية ـ بناءً على هذا التعريف ـ داخل في علم الاُصول؛ لأنّه يقع كبرى للاستنباط.

وثانيهما: ما هو المختار: من أنّ علم الاُصول منطق الفقه، توضيح ذلك: أنّ الأشياء الدخيلة في الاستنباط الفقهي للحكم الكلّي على قسمين، ومنذ البدء كما ترى خرج ما يكون دخيلاً في الحكم الجزئي لا الكلي، كقاعدة الفراغ، و التجاوز، و اليد، و الاُصول العملية في الشبهات الموضوعيّة:

25

القسم الأوّل: ما اُخذت فيه مادّة من مواد الفقه، و مواد الفقه هي كل عنوان أوّلي أو ثانوي متعلّق لحكم واقعيّ، كالصعيد مثلاً الذي هو عنوان أوّلي، و كالضرر الذي هو عنوان ثانوي، وهذا ليس داخلاً في علم الاُصول، وبهذا خرجت قاعدة لا ضرر، و البحث عن معنى الصعيد و نحوه.

والقسم الثاني: ما لم تؤخذ فيه مادّة من موادّ علم الفقه، كما هو شأن منطق كل علم، فعلم المنطق المعروف هو منطق لكلّ العلوم؛ ولذا لم تؤخذ فيه أيّ مادّة من أيّ علم، و يكون صورة فارغة صرفاً يمكن ملؤها بموادّ مختلفة من علوم مختلفة، و من كل علم بحسب موادّه كما هو واضح، وبعد علم المنطق توجد بحوث منطقية اُخرى هي منطق لما تحتها من العلوم و ليست خالية من المادة صِرفاً، وإلاّ لدخلت في علم المنطق، ولكنها خالية من مادّة علم تكون منطقاً له، فمثلاً مبدأ استحالة انفكاك المعلول عن العلّة الذي هو مبدأ فلسفي يكون منطقاً لكل العلوم الطبيعية، وهكذا.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ علم الاُصول هو العلم الذي لا يكون ضيّقاً بنحو تؤخذ فيه مادّة من المواد الفقهية فلا يصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا يكون وسيعاً بنحو يكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيه الموادّ بدرجة سَقَطَ عن قابليّة كونه منطقاً لسائر العلوم، و بقي منطقاً لعلم الفقه و دخيلاً في الاستنباط، بلا اشتراط أن يقع كبرى في طريق الاستنباط.

هذا. و البحث عن وثاقة الراوي وإن كان ـ أيضاً ـ دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول و مثل علم الرجال، وهو أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهرياً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: (الجعل) و (الإبراز) و (التنجيز و التعذير). فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، و الملازمة بين وجوب شيء و وجوب ذيه، و نحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله. والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتق على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبس، ونحو ذلك. والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

وبناءً على هذا التعريف يدخل الاستصحاب في الشبهة الحكمية في علم الاُصول؛ لكونه دخيلاً في استنباط الحكم الكلّي من أخذ مادّة فقهية فيه، وليس وسيعاً إلى درجة يكون منطقاً لعلم آخر أيضاً، وليس كبحث وثاقة الراوي ممّا هو غير مربوط بالحكم، بل هو حكم ظاهري، كحجّيّة خبر الواحد و نحوها من أحكام تذكر في علم الاُصول.

26

 

 

 

الفرق بين الاستصحاب و قواعد اُخرى مشابهة له:

 

البحث الثالث: في الفرق بين الاستصحاب و قواعد اُخرى، وهي قاعدة الاستصحاب القهقرائي، و قاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي و المانع، فنقول:

أمّا الاستصحاب القهقرائي فهو الذي يتمسّكون به في باب الظهورات، وهو أصل عقلائي، ويذكرون في الفرق بينه و بين الاستصحاب الطردي: أنّه في الاستصحاب الطردي يكون المتيقّن متقدّماً زماناً على المشكوك، وفي الاستصحاب القهقرائي الثابت بالارتكاز العقلائي في باب تغيّر اللغة يكون المشكوك متقدّماً زماناً على المتيقّن.

أقول: بما أنّ هذا الاستصحاب في باب الظهورات مدركه هو الارتكاز العقلائي، فلا بُدّ من تحليل هذا الارتكاز لتتّضح حقيقة هذا الاستصحاب، والارتكاز العقلائي هنا ليس على أساس تعبّد صِرف، وإنّما هو على أساس الأماريّة و الكشف، باعتبار أنّ العقلاء لم يروا باُمّ أعينهم تغيّر اللغة إلاّ نادراً؛ لكون تغيّرها في غاية البطء، وهذا بخلاف تغيّر ظواهر كثيرة في العالم، كالحياة والموت، والصحّة والمرض وغير ذلك؛ ولهذا يكون ثبوت معنىً لغوي عندهم مستلزماً لبقائه ولو بنحو الغلبة الشديدة التي أوجبت ارتكاز أصالة الثبات في نظرهم، فاللفظ إذا كان له معنىً وشكّ في تغيّر ذاك المعنى على إجماله وبقطع النظر عن تعيينه، بنوا على أصالة عدم التغيّر، وهذا ما ينطبق عليه الاستصحاب الطردي، ثمّ إذا تعيّن معنى اللفظ في زماننا، ضمّ ذلك إلى هذا الاستصحاب الذي هو في الحقيقة أمارة لاأصل، وتكون مثبتاته حجّة، واستنتج من ذلك باعتبار حجّيّة مثبتاته كون معنى اللفظ في ما سبق ـ أيضاً ـ هو هذا المعنى.

فتحصّل: أنّ الاستصحاب القهقرائي ـ بحسب الحقيقة ـ غير موجود أصلاً، وأنّ الاستصحاب الثابت في باب اللغة بالمعنى المرتكز في أذهان العقلاء مرجعه الى الاستصحاب الطردي نفسه.

وأمّا قاعدة اليقين فقد ذكر: أنّ الفرق بينها وبين الاستصحاب هو: أنّ الاستصحاب يكون متقوّماً بالشكّ في البقاء بعد القطع بالحدوث، وأمّا في قاعدة اليقين فيسري الشكّ إلى نفس المتيقّن السابق، ويجعله مشكوكاً.

27

أقول: إنّ هذا الكلام صحيح في الجملة، إلاّ أنّه لا بدّ لنا من تعميقه، وبيانه: أنّ ركن الاستصحاب ليس في الحقيقة هو الشكّ في البقاء، وإنّما ركنه هو شكّ اُخذ فيه الفراغ عن الحدوث، وثمرة ذلك هي: أنّه إذا علمنا إجمالاً بحدوث شيء إمّا في الآن الأوّل أو في الآن الثاني، وعلى تقدير حدوثه في الآن الأوّل يحتمل بقاؤه الى الآن الثاني، فهنا يجري الاستصحاب، لكن لا على أساس كون الشكّ في البقاء بناءً على عدم كفاية الشكّ في البقاء التقديري، فإنّ البقاء هنا تقديري، أي: أنّه فرع حدوث الحادث في الآن الأوّل المشكوك فيه، بل على أساس أنّ هذا شكّ فرغ فيه عن الحدوث، وهذا الشكّ يمسّ اليقين على حدّ مسّ الشكّ في البقاء لليقين بالحدوث أو أشدّ، فيشمله قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ».

نعم، لو علم إجمالاً بأنّ هذا الشيء إمّا كان ثاتباً في الآن الأوّل فقط، أو في الآن الثاني فقط، فهنا لا يكمن إجراء الاستصحاب لاثبات وجوده في الآن الثاني؛ لأنّ الشكّ هنا يرى عرفاً مقوّماً للعلم الإجماليّ، حيث إنّ أحد طرفي العلم الإجمالي هو ثبوته في الآن الأوّل المساوق بالفرض لعدمه في الآن الثاني،فلا يرى عرفاً هذا داخلاً في باب نقض اليقين بالشكّ(1).

فتحصل: أنّ الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ـ بحسب الأركان ـ هو: أنّ ركن الاستصحاب شكّ فرغ فيه عن الحدوث، وركن قاعدة اليقين هو شكّ في نفس الحدوث الذي كان قبل هذا متيقّناً.

وأمّا الفرق بينهما بحسب النكتة الارتكازية لهما ـ بناءً على أنّ الاستصحاب أصل عقلائي كقاعدة اليقين ـ فهو: أنّ الأمارة على المقصود في باب الاستصحاب هي نفس حدوث الشيء، بدعوى ملازمته غالباً للبقاء مثلاً، وأمّا في باب اليقين فالأمارة على المقصود هي اليقين، بدعوى كون اليقين غالباً مطابقاً للواقع مثلاً.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فقد ذكر في بيان الفرق بينها وبين الاستصحاب: أنّ متعلّق اليقين والشكّ في باب الاستصحاب شيء واحد بقطع النظر عن الفرق من حيث الحدوث والبقاء، وأمّا متعلّق اليقين والشكّ في باب المقتضي والمانع فهو أمران: فاليقين تعلّق بالمقتضي والشكّ تعلّق بالمانع.

أقول: إنّ هذا الفرق صحيح، لكنّه لا بأس بالتعمّق ـ أيضاً ـ في بيان الفرق؛ لإبراز الفرق في النكتة الارتكازية بينهما بناءً على رجوع الاستصحاب إلى أصل ارتكازي عقلائي، وبيان ذلك: أنّ مرجع قاعدة المقتضي والمانع ـ لو كان عندنا مثل هذه القاعدة ـ هي أصالة


(1) ظاهر كلامه(رحمه الله) في بحث الأصل المثبت ينافي ذلك فراجع.

28

عدم المانع؛ فان العقلاء لا يبنون على تحقّق النتيجة بمجرّد ثبوت المقتضي تعبّداً صِرفاً، وإنّما يبنون على تحقّقها باعتبار نفي وجود المانع بأمارة من الأمارات، وهذا الأصل لو قسناه إلى استصحاب عدم المانع، فالفرق بينهما هو: أنّ الاستصحاب قائم على أساس أمارية ثبوت العدم سابقاً على ثبوته لاحقاً، وأصالة عدم المانع قائمة على أساس أماريّة ثبوت المقتضي على عدم المانع، بدعوى: أنّ الغالب في المقتضيات عدم اقترانها بالمانع.

وأمّا لو قسنا القاعدة إلى الاستصحاب الجاري في الممنوع دون الجاري في المانع، فهنا إن فرض أنّ الممنوع ـ وهو الاحتراق مثلاً ـ كان ثابتاً بواسطة المقتضي ـ وهو الملاقاة مع النار ـ وشكّ في بقائه من جهة الشكّ في حدوث المانع، فنتيجة الاستصحاب متّحدة مع نتيجة قاعدة المقتضي والمانع، وعند ئذ إن قلنا: بأنّ الاستصحاب المرتكز عقلائياً إنّما هو في فرض إحراز المقتضي، فالاستصحاب يرجع هنا تقريباً إلى قاعدة المقتضي والمانع، وإلاّ فالفرق بينهما هو: أنّ الأمارة على بقاء الإحراق في الاستصحاب هي ثبوته سابقاً، بدعوى: أنّ الغالب في الشيء الحادث بقاؤه، والأمارة على بقاء الإحراق في القاعدة هي وجود المقتضي، بدعوى: أنّ الغالب في المقتضي عدم اقترانه بقاءً بمانع.

وأمّا ان فرض أنّ الممنوع كان مسبوقاً بالعدم، فهنا يقع التنافي بين قاعدة المقتضي والمانع وقاعدة الاستصحاب، والفرق بينهما هو: أنّ الاستصحاب يكون بنكتة أمارية عدم المعلول في الآن الأوّل على عدمه في الآن الثاني، والقاعدة تكون بنكتة في طرف العلّة، وهي أمارية وجود المقتضي على عدم المانع.

وهنا حساب العلّة مقدّم على حساب المعلول بملاك الأضيقيّة؛ لأنّ حساب الدائرة الأضيق تقدّم على حساب الدائرة الاوسع، فلو علمنا مثلاً أنّ الغالب في الحيوانات عدم الذكاء، وعلمنا أنّ الغالب في الفرس هو الذكاء، ثمّ رأينا فرساً شككنا في ذكائه وعدم ذكائه، كان الحساب الجاري بشأنه هو حساب الدائرة الضيّقة وهي دائرة الفرس، لا حساب الدائرة الواسعة وهي دائرة الحيوانات، وما نحن فيه من هذا القبيل، فحينما يحسب حساب المعدومات إطلاقاً يقال: إنّ الشيء المعدوم يبقى غالباً على ما هو عليه من العدم مثلاً، وحينما يحسب حساب دائرة ضيّقة منها وهي الدائرة التي وجد فيها المقتضي لانقلاب العدم الى الوجود يقال: إنّ هذا المقتضي غالباً لا يقترن بمانع، والحساب الثاني يقدّم على الحساب الأوّل.

هذا تمام الكلام في المقدّمة.

ولنشرع الآن في أدلّة حجّيّة الاستصحاب.

29

الاستصحاب

2

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة حجّيّة الاستصحاب

 

 

 

 

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس إفادته للظن.

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس السيرة العقلائية.

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس الأخبار.

 

 

 

 

 

31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس إفادته للظن:

 

الدليل الأوّل: هو الظنّ، فيقال: إنّ الحالة السابقة تورث الظنّ، فيكون الظنّ دليلاً على حجّيّة الاستصحاب، وذلك إمّا من باب الظنّ النوعي، أو من باب الظنّ الشخصي، والفرق بينهما هو: أنّه إن قلنا: إنّ الحالة السابقة ـ لو خلّيت وطبعها ـ تورث الظنّ، فتكون حجّة حتّى في مورد لم تخلّ وطبعها، أي: اقترنت بمانع يمنع عن حصول الظنّ، كان هذا معناه حجّيّة الاستصحاب من باب الظن النوعيّ. وأمّا إن قلنا: إنّ الحالة السابقة ـ لو خلّيت وطبعها ـ تورث الظنّ فمهما خلّيت وطبعها كانت حجّة، كان هذا معناه حجّيّة الاستصحاب من باب الظنّ الشخصيّ.

ونقطة الفراغ في هذا الدليل هي مسألة حجّيّة الظن التي لم يتعرّض لحالها في هذا الدليل، فلو فرضت حجّيّة هذا الظنّ بدليل الانسداد أو بدليل آخر، وضمّت هذه الكبرى الى ما فرض من الصغرى، وهي إفادة الحالة السابقة للظنّ، كان مجموع ذلك دليلاً كاملاً على حجّيّة الاستصحاب.

ويستشهد للصغرى في المقام بما يذكر في الدليل الثاني من السيرة العقلائية، فيقال: إنّ هذه السيرة من قبل العقلاء لا يحتمل تحققها من باب التعبّد الصرف، وإنّما هي من باب ما يرون في المقام من الطريقية.

والصحيح: أنّ هذا الوجه لا محصّل له لا كبرىً ولا صغرىً.

أمّا الكبرى: فلعدم ثبوت حجّيّة هذا الظنّ لا بدليل الانسداد؛ لعدم تماميّته على ما مضى

32

في محلّه، ولا بدليل خاصّ؛ لعدم أيّ دليل خاصّ على حجّيّته، وإذا اُريد التمسّك بالسيرة وعدم الردع كان ذلك رجوعاً إلى الدليل الثاني.

وأمّا الصغرى: فلأنّ كون الحالة السابقة مورثة للظنّ بالبقاء ـ لو خلّيت وطبعها ـ ممنوعة، فإنّ هذا الظنّ ناشئ من حسابات الاحتمالات المختلفة جدّاً باختلاف الموارد والاشخاص ومقدار البقاء، ومجرد الحالة السابقة لا تورث أيّ ظنّ بالبقاء. وأمّا الاستشهاد على حصول الظن بالسيرة العقلائية فغير صحيح، لأنّ بناءهم على البقاء باعتبار تحقق الحالة السابقة بما هي كذلك وإن كان ثابتاً في الجملة، ولكن ليس ذلك على أساس ظنّ منطقي، وإنّما هو على أساس وهميّ، وهو أساس الاُنس بالحالة السابقة، وبما أنّ هذا الأساس ثابت في الحيوانات، فلذا ترى أنّ هذا الجري ثابت في الحيوانات أيضاً، وبما أنّ هذا الوهم إنّما يتحقّق عندما يتكلّم في فرد معيّن لا في فرد مبهم، ترى أنّ هذا الميل النفسي إلى الحكم بالبقاء عند العقلاء إنّما يوجد عند تعيّن الفرد، فمن أنس ذهنه بصديق له عاش ستّين سنة مثلاً، ثمّ لم يره إلى سنة لسفر ونحوه، ولم يكن له أيّ إطّلاع على حاله، فلو سُئِل عن حياته يُرى أنّه يميل إلى فرض حياته، ولكن لو اُبدل هذا الشخص بشخص آخر مبهم، فقيل له: إنّ شخصاً عاش ستّين سنة ثم مضت عليه سنة ليس لنا اطّلاع على حاله، فهل هو حيّ يرزق أو لا؟ فهنا لا يميل إلى الحياة، بل يظهر الجهل المطلق، فلو كان البناء على البقاء على أساس منطقي لم يكن يفرّق بين الحالين.

 

 

33

 

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس السيرة العقلائية:

 

الدليل الثاني: قيام السيرة العقلائية على البناء على بقاء الحالة السابقة، بل استشهد بعض بثبوت السيرة عند البشر و الحيوانات.

وقد ناقش في السيرة السيّد الاُستاذ وغيره بأنّ ما يرى من البناء على الحالة السابقة من قبل العقلاء ليس على أساس الحالة السابقة والاستصحاب، وإنّما هو لاُمور اُخرى إتّفاقيّة كثبوت الإطمئنان بالبقاء أحياناً، أو الظن به اُخرى، أو كون ذلك جرياً على الرجاء والاحتياط ثالثةً، أو كونه من باب الغفلة وعدم الالتفات رابعةً(1).

ولكنّ الصحيح ما مضى من أنّ هذه السيرة موجودة في الجملة على أساس الوهم واُنس الذهن بالحالة السابقة، ونفس ما ذكروه من الغفلة يكون منشأها عادةً هو ذاك الوهم، والجري على وفق الظنّ بالحالة السابقة يكون في كثير من الأحيان في موارد لا يكتفون بالظنّ، لكن يؤثّر ضمناً ذاك الوهم الذي يوجب نوعاً من سكون النفس وعدم الاضطراب، ويشهد لهذه السيرة ذكر كثير من العلماء لها، حتى إنّه قيل: لولا هذه السيرة والبناء على الحالة السابقة لاختلّ نظام المعاش، وهو كذلك في الجملة، فكثير من الاُمور يمشي ببركة هذه الغفلة والوهم المانع من الاحتياط واضطراب النفس.

وبعد، فالكلام في المقام تارةً يقع في الصغرى وهي فرض سيرة يكشف عدم الردع عنها عن الإمضاء(2)، واُخرى يقع في الكبرى وهي عدم الردع.

أمّا الكلام في الصغرى فافتراض سيرة يكون عدم الردع عنها دليل الإمضاء يُتصور


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 11.

(2) في كون عدم الردع دليلاً على الإمضاء في المقام إشكال، وهو: أنّ من المحتمل أن تكون الأغراض الواقعيّة نسبتها إلى جعل البراءة وجعل الاستصحاب على حدّ سواء، وأن يكون المولى قد جعل البراءة لكنه لم يهتمّ بإيصال ذلك الى العبيد، باعتبار أنّ ما يصنعه العبيد ليس بأسوأ حالاً من فرض التمسّك بالبراءة؛ لأنّ انحفاظ الغرض الحقيقي بعد الردع وقبله يكون بدرجة واحدة.

وقد أجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك بأنّ الإمام(عليه السلام) يهتمّ بإيصال الأحكام مطلقاً، فلو كان الحكم هو البراءة لردع عن الاستصحاب ولو فرض أنّ نسبة الملاك الواقعي إليهما كانت على حدّ سواء.

34

بثلاثة أنحاء:

1 ـ دعوى أنّ السيرة العقلائية ثابتة في الجري العملي في أغراضهم التكوينية، وقد سرت من موارد أفعالهم وأغراضهم التكوينية إلى موارد الأحكام بمرأىً ومسمع من الإمام(عليه السلام).

2 ـ دعوى أنّ سيرتهم في الجري العملي في أغراضهم التكوينية وإن لم تسرِ إلى باب الأحكام لكنّها تشكّل خطراً على أغراض المولى: إذ هي ـ على أيّ حال ـ في معرض السريان لا محالة، فلو لم يرضَ بذلك الشارع لردع عنه.

3 ـ دعوى السيرة بين العقلاء بما هم موالي، فيُرى في المولويات العرفية الإلزامية ـ كما هو الحال في الأب بالنسبة لا بنه مثلاً، أو الالتماسية كالصديق بالنسبة لصديقه ـ الاستصحاب منجّزاً ومعذّراً، وهذا أيضاً يشكّل ـ لا محالة ـ خطراً على أغراض المولى، فلو لم يرضَ المولى بذلك للزم الردع عنه.

والتحقيق: أنّ دعوى السيرة بالنحو الثالث غير ثابتة، وعهدتها على مدعيها، وكذلك الدعوى الاُولى، فإنّ السيرة ليست محكمة إلى درجة لا يحتمل عدم إسراء العقلاء لها إلى باب الأحكام، ولو من باب ثبوت ارتكاز ذهني لهم على أنّ الأحكام الشرعية يجب اتّخاذها من الشارع، خصوصاً أنّ القول بحجّيّة الاستصحاب لم يكن رائجاً بين العلماء الأقدمين، بل إنّ المحدّثين من أصحابنا قد اكّدوا على عدم حجّيّة الاستصحاب، و ادّعوا الإجماع على ذلك، ومن البعيد جداً أن يفترض بناء أصحاب الائمة(عليهم السلام) على الاستصحاب، ثمّ ابتعاد ذهن العلماء عن قبول الاستصحاب الى هذا المستوى فلا يبقى إذن عدا دعوى مجرّد السيرة الثابتة لدى العقلاء في أغراضهم التكوينية، وعدم الردع عنها الكاشف عن الإمضاء باعتبار أنّها تشكّل خطراً على أغراض المولى.

وأمّا الكلام في الكبرى فما يتصوّر رادعاً عن السيرة في المقام هي الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم مع أدلة البراءة أو الأحتياط، وقد جعل المحقّق الخراساني(رحمه الله) ذلك رادعاً عن السيرة هنا(1)، ولم يقبل رادعيّتها عنها في باب خبر الثقة(2)، ومن هنا اعترض عليه المحقّق النائيني(رحمه الله)(3) بأنّه لا وجه لهذا الفرق، فإمّا أن تكون رادعة في كلا المقامين، أو لا


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 280، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكينيّ.

(2) راجع نفس المصدر، ص 99.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 119، وأجود التقريرات: ج 2، ص 358.

35

تكون كذلك في كلا المقامين.

أقول: إنّنا لا ندخل هنا في البحث عن أنّ هذه الأدلّة هل يمكن دعوى عجزها عن الردع ولو في خصوص خبر الثقة أو لا، لأنّ هذا ما بحثناه في باب خبر الثقة وقد اخترنا هناك عجزها عن ذلك، وإنّما نبحث هنا عن أنّه ـ بعد فرض الفراغ عن عجزها عن الردع في خبر الثقة ـ هل تعجز عن الردع حتّى في المقام، أو يمكن إبداء فرق بين المقامين بحيث إنّ الاستدلال بالسيرة لو تمّ في ذاك المقام لا يتم هنا بغضّ النظر عن أنّ هذا الفرق كان منظوراً للمحقّق الخراساني(رحمه الله) ومقبولاً عنده، أو لا؟

وهناك وجوه لإبداء الفرق بين المقامين نحن نذكر هنا سبعة منها:

الوجه الأوّل: أنّ السيرة كلّما كانت أقواى احتاجت إلى ردع أقوى، والسيرة في خبر الثقة قويّة إلى درجة لا يمكن الاقتصار في ردعها على هذا المقدار من عموم أو إطلاق من هذا القبيل، وهذا بخلاف المقام الذي تحتمل ـ على الأقلّ ـ الكفاية في ردع السيرة بمثل هذه العمومات والإطلاقات؛ لعدم قوّة السيرة بتلك المرتبة.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بعد فرض عدم أولوية جعل هذه الأدلّة رادعة عن جعل السيرة مخصِّصة وبالعكس: من أنّ الردع لم يكن في أوائل البعثة، فالسيرة كانت ممضاة(1) آنذاك، فنستصحب الحجّيّة في باب خبر الثقة، ولكن لا يمكننا استصحاب الحجّيّة في باب الاستصحاب؛ لأنّ هذا يعني إثبات حجيّة الاستصحاب بالاستصحاب، وهو غير معقول(2).

أقول: يرد على هذا الوجه:

أوّلاً: أنّ الاستصحاب مدركه هو خبر الثقة، فكيف نثبت حجيّة خبر الثقة بالاستصحاب؟

وثانياً: أنّ خصوص أصالة عدم النسخ ثابتة بالإجماع ونحوه، ولو أنكرنا الاستصحاب في سائر الموارد إذن يمكننا التمسّك بأصالة عدم النسخ في كلا البابين(3).


(1) ثبوت الإمضاء بالسكوت الذي يواكب تدريجيّة الشريعة في صدر التشريع مشكل.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 12.

(3) ثبوت أصالة عدم النسخ بقطع النظر عن الاستصحاب في حكم ثبت بمجرّد السكوت في أوائل الشريعة مشكل؛ لأنّ دليله إمّا ظهور الكلام في دوام الحكم، وهذا غير ثابت في السكوت المواكب لتدريجيّة الشريعة، وإمّا الوجوه اللبّيّة كالإجماع وسيرة المتشرّعة، والمتيقّن منها غير هذا الفرض.

36

هذا، ولكنّ السيّد الاُستاذ لا يقول بأصالة عدم النسخ بقطع النظر عن دليل الاستصحاب.

الوجه الثالث: أنّ ما دلّ على المنع عن العمل بغير العلم إرشادي يدلّ على وجوب كون المبدأ في عمل المكلّف علماً، وهذا شيء مسلّم لا يرتبط بالردع عن السيرة في شيء من المقامين. وأمّا أخبار البراءة فهي لا تردع عن خبر الثقة؛ لثبوتها بخبر الثقة، ولكنه لا مانع من ردعها عن الاستصحاب.

وهذا الوجه مبنيّ على القول بكفاية عدم ثبوت الردع في حجّيّة السيرة، وعدم الحاجة الى ثبوت عدم الردع.

الوجه الرابع: أنّ السيرة في خبر الواحد ـ كما يستفاد من عبارة المحقق الخراساني(رحمه الله)(1) ـ كانت سارية إلى باب الأحكام، وعليه فنفس السيرة دليل بدرجة الاطمئنان على عدم ردع نفسها، فإنّه لو حصل الردع من أمير المؤمنين والحسن(عليهما السلام) لما استمرّت السيرة في باب الأحكام إلى زمان العسكري(عليه السلام).

نعم، لو وجد دليل قويّ في مقابل هذا الدليل يدلّ على الردع بحيث يقابل في تأثيره في النفس دلالة نفس السيرة على عدم الردع، وقع التزاحم بينهما في التأثير، وعند النتيجة لا يثبت الإمضاء، ولا يكفي لذلك مجرد عموم وإطلاق.

وأمّا في المقام فحيث إنّ السيرة لم يثبت سريانها إلى باب الأحكام، بل المظنون عدم سريانها، فهي بنفسها لا تدلّ على عدم الردع، وعندئذ لا طريق إلى استكشاف عدم الردع، لأنّ طريقه هو أن يقال: إنّه لو ردع لوصل الردع، لكن نقول في المقام: إنّه لعل نفس هذا العموم والإطلاق كان بقصد الردع.

الوجه الخامس: أنّ ارتكاز حجّيّة خبر الثقة في الأحكام عند أصحاب الأئمة ـ حتى لو قلنا بأنّه لا يكشف عن عدم الردع؛ لاحتمال ثبوت ردع لم يلتفتوا إليه ـ يوجب إجمال دليل البراءة لمورد خبر الثقة الدال على الإلزام، فنضطرّ الى الأخذ بجانب الإلزام، ومثل هذا الارتكاز لم يثبت وجوده في باب الاستصحاب.

الوجه السادس: أنّ السيرة بين الموالي والعبيد ـ بحسب عالم التنجيز والتعذير ـ ثابتة في باب خبر الثقة، وغير ثابتة في باب الاستصحاب، وعندئذ يمكن إرجاع ذلك في باب خبر


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 98، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

37

الثقة ـ كما هو ظاهر عبارة الشيخ الآخوند(رحمه الله)(1) ـ إلى دعوى قصور في حقّ الطاعة، بحيث لا يشمل مورد دلالة خبر الثقة على عدم الإلزام، وهذا لو تمّ فلا حاجة إلى ثبوت الإمضاء. نعم، لو ثبت الردع كان التعويل على خبر الثقة عندئذ مخالفة قطعيّة، وهذا مناف لحقّ الطاعة حتماً.

والخلاصة: أنّه يدّعى في باب خبر الثقة قصور في حقّ الطاعة ما لم يصل الردع، فلا حاجة إلى إثبات عدم الردع. وأمّا في المقام فيقصد إثبات حجّيّة الاستصحاب باثبات جعل المولى له حجّة عن طريق إمضاء السيرة الثابت بعدم الردع، فلابدّ من إثبات عدم الردع، ولم يثبت.

وهذا الوجه يقرب جدّاً من ارتكاز الشيخ الآخوند(قدس سره) وإن لم يكن مقبولاً عندنا.

الوجه السابع: ما يناسب مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي اعترض على المحقّق الخراساني(رحمه الله) بعدم الفرق بين المقامين، وهو أن يقال: إنّ بناء العقلاء في الاستصحاب لم يكن على وجه الأمارية، وفي باب خبر الثقة كان على وجه الأمارية وما فيه من الكشف، مع تتميم كشفه وجعله علماً تعبداً، فيصبح حاكماً على(رفع ما لا يعلمون) أو الدليل الرادع عن العمل بغير العلم. وهذا بخلاف الاستصحاب.

 

 

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 100 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

38

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس الأخبار:

 

الدليل الثالث: الأخبار، وهي عدة روايات:

 

الرواية الاُولى:

صحيحة زرارة، قال: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن، فإذا نامت العين والاُذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟ قال: لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجي من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وأصل دلالة الرواية في الجملة على الاستصحاب في غاية الوضوح رغم ما سيأتي من وجه المناقشة فيها في تنبيه نعقده في ذيل الحديث عن هذه الرواية، وسيأتي الجواب ـ أيضاً ـ هناك إنشاء الله.

 

شبهة اختصاص الرواية بباب الوضوء:

ولكن وقع البحث لدى الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ حول أنّ دلالة الرواية على الاستصحاب هل تختصّ بباب الوضوء، أو أنّ لها إطلاقاً لسائر الأبواب؟

والوجه في إثارة احتمال الاختصاص بباب الوضوء هو احتمال كون اللام في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» للعهد، وإشارةً لما مضى في عبارة الرواية من اليقين بالوضوء.

وللجواب على هذا الإشكال وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ الأصل في اللام كونه للجنس ما لم تقم قرينة على الخلاف، وحمله على معنىً آخر بلا قرينة خلاف الظاهر(2).


(1) الوسائل: ج 1، باب 1 من نواقض الوضوء، ح 1، ص 245 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 284، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

39

أقول: إنّنا تارة نفترض أنّ اللام مشترك لفظي بين التعيّن الجنسي والتعيّن العهدي ونحو ذلك، واُخرى نفترض أنّه ظاهر في الاستغراق والجنس، وثالثة نفترض أنّه لا يدلّ على أيّ واحد من هذه التعيّنات، وإنّما هو موضوع للزينة أو نحوها، كما ذكر الآخوند في باب الإطلاق(1)، ورابعة نفترض أنّه موضوع لجامع هذه التعيّنات، وخصوصيّة العهد أو الجنس ونحوهما تستفاد بدالّ آخر.

فعلى الأوّل لا يكون اللام دالّاً على العموم؛ لفرض كونه مشتركاً ومجملاً، وأمّا الإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة في مدخول اللام فيبطله احتفاف الكلمة بما يصلح للقرينية؛ لأنّ اللام على أحد معانيه قرينة على العهد.

وعلى الثاني يكون اللام بنفسه دالّاً على العموم، ويثبت المقصود بلا حاجة إلى الإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة.

وعلى الثالث والرابع نحتاج إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة، واللام ـ عندئذ ـ وإن لم يكن صالحاً للقرينيّة على العهد؛ لأن العهد لا يستفاد في موارد العهد من اللام حسب الفرض، وإنّما يستفاد من السياق، لكنّنا ننقل الكلام ـ على هذا ـ إلى السياق ونقول: إنّ السياق قد يكون ظاهراً في العهد، وقد يكون بنحو مجمل وصالح للقرينيّة على العهد باعتبار ذكر حصّة خاصّة من قبل، كما في المقام، فأيضاً لا يتمّ الإطلاق.

وعليه نقول: إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) لو قصد بقوله:(إنّ اللام ظاهر في الجنس) الوجه الثاني، بأن يكون الشمول مستفاداً بنحو العموم من اللام، فهذا غير صحيح؛ لما حقّقناه في محله من أنّ اللام ليس موضوعاً للاستغراق، وإنّما هو موضوع لجامع التعيّن، ولو كان مقصوده ما يناسب الوجه الثالث والرابع فهذا لا يكفي في إثبات المطلوب بإجراء مقدّمات الحكمة؛ لكون السياق صالحاً للقرينيّة، ومانعاً عن إجراء مقدّمات الحكمة.

الوجه الثاني: دعوى: أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» تعليل للجزاء المحذوف في قوله:«وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» بناءً على ما هو المشهور من أنّ الجزاء محذوف، تقديره: وإلاّ فلا يجب عليه الوضوء، فيقال: إنّ التعليل يقتضي التعدّي وعدم الاختصاص بالمورد، فلا بد من ان يكون الحكم لكل يقين لا لخصوص اليقين بالوضوء.

وهذا التقريب بهذا المقدار واضح البطلان، فإنّنا نتكلم في أنّ قوله:«لا تنقض اليقين


(1) راجع الكفاية: ج 1،ص 380، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

40

بالشك» هل قصد به مطلق اليقين، أو أنّ اللام للعهد مثلاً، فقصد به اليقين بالوضوء، وكون هذا تعليلاً لا يؤثّر شيئاً في المقام أبداً، فإنّ تعليليّته لا تعطيه شمولاً، ومجرّد كونه تعليلاً لا يوجب التعدّي من المورد، وإنّما علينا أن نرى مقدار سعة العلّة، فإن كان بمقدار المورد يقتصر على المورد، وإن كان أوسع من المورد يتعدّى من المورد، وكونه بمقداره أو أوسع هو مصبّ البحث في المقام.

ولكن المحقّق العراقي(قدس سره) غيّر صياغة الكلام فذكر: أنّ المنساق عرفاً من هذا التعليل في المقام هو الشكل الأوّل من القياس، فيجب أن يكون اليقين المحكوم عليه بعدم النقض أوسع من اليقين بالوضوء(1).

والمحقّق الأصفهاني(قدس سره) ذكر تماماً عكس ذلك، فذكر في المقام بعد أن كان من المفروغ عنه عنده حمل هذا الحديث على الشكل الأوّل: أنّ الأوسط في الكبرى يجب أن يكون مساوياً تماماً للأوسط في الصغرى، وفي المقام الأوسط المتكرّر هو اليقين، وهو في الصغرى مقيّد بالوضوء، فيجب أن يكون في الكبرى ـ أيضاً ـ مقيّداً به، فيصبح قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» مختصّاً باليقين بالوضوء، فَلِكي تستفاد من الحديث القاعدة الكلّيّة لا تكفي دعوى: أنّ اللام في اليقين ليس العهد، بل لابدّ من إثبات أنّ اليقين في قوله:«فانه على يقين من وضوئه» أيضاً غير مقيّد بالوضوء، فعندئذ يتّجه الاستدلال بالحديث(2).


(1) راجع المقالات: ج 2،ص 344 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، وراجع ـ أيضاً ـ نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 42.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 43 بحسب طبعة آل البيت.

ولا يخفى: أنّ المفهوم من عبارة المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) ليس هو دعوى وحدة ما وقع محمولاً في الصغرى، وهي قوله:«فانه على يقين من وضوئه» وما وقع موضوعاً في الكبرى وهي قوله:«لا تنقض اليقين بالشك» بل هو دعوى اتّحاد الحدّ الأوسط بقيوده المقوّمة، بمعنى الجامع بين أن يكون الموضوع في الكبرى والمحمول في الصغرى كلاهما عبارة عن اليقين بالوضوء، أو أن يكون قيد الوضوء في الصغرى مذكوراً من باب الموردية لا المقوّميّة، فالحدّ الأوسط في كلّ من الصغرى والكبرى هو جامع اليقين رغم وجود قيد الوضوء في طرف المحمول في الصغرى بلحاظ الموردية.

والمحقق العراقي(رحمه الله) حينما ادّعى أنّ المناسب للشكل الأوّل هو أن يكون اليقين المحكوم عليه في الكبرى بعدم النقض أوسع من اليقين بالوضوء لا يقصد به دعوى الأوسعية بلحاظ القيود المقوّمة للمحمول في الصغرى، فلا تقابل إذن بين ما يقوله المحقّق العراقي وما يقوله المحقّق الأصفهاني(رحمهما الله)، ولذا نرى أنّ عبارة(نهاية الأفكار) جمعت بين كلتا المقالتين، أيّ أنّه من ناحية ادّعت لزوم اتّحاد الحدّ الأوسط في الصغرى والكبرى بقيوده، ومن ناحية اُخرى ادّعت ضرورة كون الموضوع في الكبرى جامع اليقين.

41

أقول: إنّ الحقّ في المقام مع المحقّق العراقي(قدس سره) ونوضّح ذلك بذكر مقدمتين:

الاُولى: أنّ الشكل الأوّل له حدود ثلاثة متغايرة، ولا يمكن أن يكون الحدّ الأصغر مع الحدّ الأوسط متّحداً، كأن يقال: الإنسان إنسان، والإنسان حيوان، فالإنسان حيوان. فإنّ هذا ليس استدلالاً، وإنّما مردّه الى قضية واحدة.

الثانية: أنّ العرف حينما يرى كون ثبوت الأوسط للأصغر في غاية الوضوح يقلب التعبير بإثبات الأوسط للأصغر الى التعبير بثبوت الأصغر بنحو مفاد كان التامّة، فمثلاً حينما يسأل السائل: هل يجوع الحيوان الناطق؟ والمجيب يرى أن الجواب مايلي: (الحيوان الناطق حيوان، والحيوان يجوع، فالحيوان الناطق يجوع) فهو في التعبير العرفي يستبدل الصغرى بإثبات الأصغر بنحو مفاد كان التامّة فيقولّ: هو حيوان ناطق، والحيوان يجوع، فهو يجوع.

وبعد هاتين المقدّمتين نقول: إنّ الأوسط في المقام إمّا أن يفرض هو اليقين، أو يفرض هو اليقين بالوضوء، فإن فرض الأوّل انطبق الحديث تماماً على ما قلناه، أيّ: أنّ الصغرى كانت هكذا: (اليقين بالوضوء يقين)، وبما أنّ ثبوت الأوسط للأصغر كان في غاية الوضوح من قبيل قولنا: (الحيوان الناطق حيوان) انقلب الكلام بمقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية من هذا التعبير الى التعبير بثبوت الأصغر بقوله: «فانه على يقين من وضوئه»، وبناءً على هذا الوجه يثبت المطلوب.

وإن فرض الثاني، أيّ: أنّ الأوسط في المقام هو اليقين بالوضوء قلنا: إذن ما هو الأصغر في المقام؟! فإن قيل: إنّ الأصغر هو اليقين بالوضوء كالأوسط لزم اتّحاد الأصغر والأوسط، وهذا خلف ما ذكرناه في المقدّمة الاُولى، وإن قيل: إنّ الأصغر هو اليقين الجزئي في قضية معيّنة قلنا: لم يسبق في الحديث ذكر يقين جزئي معيّن، وإنّما المذكور هو قضيّة فرضية، والشيء الفرضي يكون تشخّصه بنفس العناصر المفروضة فيه لا بوجود خارجي، والعناصر المفروضة فيه هي اليقين وكونه يقيناً بالوضوء، فيصبح الكلام في قوّة أن يقال: اليقين بالوضوء يقين بالوضوء، فرجع الإشكال بلزوم اتّحاد الأصغر والأوسط. وعليه فانحصر الأمر في أن يكون الأوسط هو اليقين، فيدلّ الحديث على الاستصحاب في مطلق اليقين، وهو المطلوب(1).


(1) لا يخفى: أنّه من الممكن افتراض أنّ الأصغر عبارة عن الرجل الذي لم يأته أمر بيّن، فيقول: هذا الرجل على يقين من وضوئه، واليقين من الوضوء لا ينقض بالشكّ.

42

وأظنّ ظنّاً اطمئنانياً أنّ هذا هو مقصود المحقّق العراقي(قدس سره) وإن كان في عبارته قصور.

الوجه الثالث: دعوى: أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم اختصاص الحكم باليقين بالوضوء، بتقريب: أنّ النقض إنّما استعمل مع اليقين باعتبار ما لليقين من الإبرام والاستحكام، وهذه المناسبة لا يكون لتعلّق اليقين بالوضوء أيّ دخل فيها، وإنّما طرف هذه المناسبة هو نفس اليقين، فنتعّدى من المورد إلى مطلق موارد اليقين بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع(1).

أقول: إنّ هذا الوجه فيه خلط بين مناسبة الحكم والموضوع ومناسبة الألفاظ بعضها مع بعض، فإنّ ما ذكر من أنّ اليقين مستبطن للإبرام والاستحكام، فصحّت نسبة النقض اليه الذي لا يسند إلاّ إلى شيء مبرم ليس بياناً لمناسبة الحكم والموضوع، وإنّما هو بيان لمناسبة إسناد النقض إلى اليقين بحسب عالم اللغة، وهذه المناسبة تصحّح إسناد النقض إلى اليقين بحسب عالم اللغة من دون فرق بين أن يسند إلى جامع اليقين أو إلى قسم خاصّ من اليقين مقيّد بشيء، وعدمُ دخل ذلك القيد في تلك المناسبة لا يبطل صحّة هذا الإسناد كما هو واضح.

نعم، هنا بيان آخر لصحّة اسناد النقض الى اليقين وهو: أنّ اليقين يقتضي بحسب الارتكاز العرفي الجري على طبقه حتى بعد زواله، فمخالفته بعد زواله نقض له، وهذا يبيّن لنا ـ في الحقيقة ـ مناسبة للحكم الاستصحابي مع موضوعه، ومع وجود هذه المناسبة العرفية والارتكاز العرفي ينصرف الكلام من حيث سعة الحدود وضيقها الى ذلك، كما سوف نشير إليه في أحد الوجوه الآتية، فلو أنّهم بيّنوا المطلب بهذا اللسان لكان صحيحاً.

الوجه الرابع: أنّ التعبير بهذا اللسان، أي: بلسان عدم نقض اليقين بالشكّ قد تعدّد وروده في أبواب عديدة من الفقه، فيستكشف من ذلك أنّها قاعدة كلّية، وأنّه قصد باليقين جنس اليقين، حيث إنّ الظاهر إرادة معنىً واحد من هذا التعبير بهذه الصياغة الواحدة في الموارد المتعدّدة(2).

والتحقيق: أنّ هذا لا يورث القطع بالمقصود. نعم، الانصاف: حصول الظنّ بذلك، ولكن


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 337 ـ 338 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 360.

(2) ذكر صاحب الكفاية هذا الوجه بعنوان التأييد، وذلك في الجزء الثاني، ص 284، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

43

ليس هذا ظنّاً لفظيّاً حتّى يدخل في كبرى حجّيّة الظهور، فلا دليل على حجّيّة مثل هذا الظنّ.

الوجه الخامس: أنّنا نستفيد من قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» بالرغم من أخذ كلمة الوضوء في الكلام، وكذا من قوله: «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ـ حتّى لو جعل اللام للعهد ـ القاعدة الكلية غير المختصّة بالمورد؛ وذلك لأنّ التعليل في كلام الإمام(عليه السلام)ظاهر في كونه مسوقاً مساق التقريب إلى الذهن، والتقريب إلى الذهن إنّما يكون إذا اُخذ بالتعليل المركوز في الأذهان، والتعليل المركوز في الأذهان إنّما هو اقتضاء نفس اليقين لعدم النقض بالشكّ، وأمّا اقتضاء اليقين بالوضوء ـ بما هو يقين بالوضوء ـ لعدم النقض فليس أمراً مركوزاً، ولا يصلح لمقربيّة الحكم إلى الذهن، إذن فتلغى بهذه القرينة خصوصية المورد(1).

وهذا الكلام بهذا المقدار غير تامّ، فان التعليل في كلام الإمام(عليه السلام) ليس ظاهراً في خصوص كون الداعي له التقريب إلى الأذهان، بل قد يكون لداع آخر، وهو داعي إعطاء قاعدة عامّة وتعميم الحكم من المورد، وعليه فلعلّ الداعي في ما نحن فيه من ذكر التعليل هو داعي تعميم الحكم من المورد وهو الشكّ الناشىء من احتمال النوم إلى سائر احتمالات الحدث، ولم يكن الشكّ من ناحية النوم موجوداً في كلام الإمام(عليه السلام) حتّى يفرض اللام في الشكّ ـ أيضاً ـ عهدياً.

نعم، يمكن تطوير هذا الوجه، وذلك بأن يقال: إنّ التعليل في كلام الإمام(عليه السلام) إذا كان بشيء مركوز في الأذهان ـ ولو بنحو يختلف حدوده سعةً وضيقاً عمّا في العبارة ـ يوجب انصراف الكلام إلى ذلك الشيء المرتكز بحدوده من السعة والضيق، وحيث إنّ المركوز في المقام هو عدم نقض اليقين بما هو يقين بلا خصوصية لباب الوضوء أو باب الطهارة، فيفهم من الكلام الحكم العام(2). وهذه هي مناسبة الحكم والموضوع التي أشرنا إليها في ذيل الوجه الثالث.

بقي هنا شيء، وهو أنّ فرض التعليل إشارة إلى أمر ارتكازي إنّما يتّم على ما سلّمناه نحن من ارتكازية الاستصحاب للعقلاء ولو على أساس الوهم. وأمّا الأصحاب الذين أنكروا ذلك عند ذكر الاستدلال على الاستصحاب بالسيرة العقلائية، فذكرهم لهذا الارتكاز هنا


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 284، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 360، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 338 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

44

تهافت في الكلام.

وأذكُر من بحث السيد الاُستاذ: أنّه حينما وقع في مثل هذا الشيء أجاب بأنّ المقصود من الارتكاز هنا إنّما هو ارتكاز قاعدة: أنّ الشخص لا يرفع اليد عن طريق غير مخطور الى طريق مخطور عند ما يواجه طريقين من هذا القبيل، وهذه القاعدة لا إشكال في ارتكازيّتها(1).

أقول: يرد على هذا: أنّه وان كانت هذه القاعدة ارتكازية لكنّه لو اُريد تطبيقها في المقام تطبيقاً حقيقيّاً فغير ممكن؛ لأن العمل باليقين السابق ليس سلوكاً لطريق غير مخطور واقع في مقابل طريق مخطور؛ إذ المفروض احتمال الانتقاض، فالعمل به ـ أيضاً ـ سلوك لطريق مخطور. ولو اُريد دعوى: أنّه طبّقت هذه القاعدة في المقام تعبّداً كان ظهور هذا الكلام في كونه اشارة الى أمر ارتكازي معارضاً بظهوره في كون التطبيق حقيقياً لا تعبدياً.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو حمل ذلك على قاعدة ارتكازية طبّقت في المقام تعبّداً فلا يمكن الاستفادة من ارتكازيته بالتعدّي إلى غير المورد؛ لأنّها وإن كانت ارتكازيّة ولكن تطبيقها كان تعبدياً، ولابدّ من الاقتصار في التعبّد على المورد.

نعم، يمكن التمسّك بالارتكاز في مقام التعميم مع فرض البناء على ما ذكروه من إنكار ارتكازية الاستصحاب بدعوى: أنّ الميل إلى البناء على الحالة السابقة وإن لم يكن بدرجة يصبح ارتكازاً عقلائياً للاستصحاب ولكنه يكون بدرجة تشكّل ارتكاز عدم الفرق بين مورد ومورد، فإذا ورد دليل على الاستصحاب في مورد اُلغيت خصوصية المورد بارتكاز عدم الفرق.

الوجه السادس: أنّ الخصوصيّة المأخوذة في العلّة إذا كانت منتزعة من المورد كان تصدّي المولى للتعليل ظاهراً عرفاً في إلغاء تلك الخصوصية، وذلك كما في قوله:(لا تشرب الخمر لانه مسكر، أو لإسكاره، أو لإسكاره بالتخمّر)، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ خصوصية الوضوء منتزعة من المورد.

ويرد عليه: أنّ هذا إنْ تمّ فإنّما يتمّ في ما لو كانت الخصوصية ثابتة في نفس الجملة المعلَّله الواردة في الكلام، ولا يكفي مجرد ثبوتها في المورد، وفي المقام لا يكون الوضوء الذي هو متعلّق اليقين مأخوذاً في المعلَّل، فإنّ المعلّل هو عدم وجوب الوضوء، فكأنّه قال:(وإلاّ فلا


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 19.

45

يجب عليه الوضوء، فإنّه على يقين من وضوئه).

نعم، هذا الشيء المعلَّل مورده هو فرض اليقين بالوضوء، لكن هذا المقدار غير كاف لإلغاء الخصوصيّة(1).

 


(1) قد تقول: هذا الكلام غير واضح؛ لأَن خصوصيّة الوضوء كانت ثابتة في الجملة المعلَّله، وهي مثلاً جملة: (لا يجب عليه الوضوء).

نعم، اليقين بالوضوء لم يكن ثابتاً فيها، وهذا تماماً من قبيل: (لا تشرب الخمر لأَنّه مسكر)؛ فإنّ الخمريّة كانت مذكورة في الجملة المعلَّله، ولكن مسكريّة الخمر لم تكن مذكورة فيها، فكما يقال في هذا المثال: إنّ العلّة هي المسكريّة لا مسكرية الخمر، كذلك فلنقل في المقام: إنّ العلّة هي اليقين لا اليقين بالوضوء.

والجواب: أنّ الوضوء المأخوذ في الجملة المعلَّلة يحتمل أن يكون غير الوضوء المذكور في العلّة؛ لأَنّ الوضوء المذكور في العلّة عبارة عن الوضوء السابق، أمّا الوضوء المذكور في الجملة المعلَّلة فقد يكون عبارة عن وضوء جديد، وذلك إذا فرضنا التقدير: (لا يجب عليه الوضوء). نعم، لو فرضنا التقدير مثلاً: (فوضوؤه باق) اتّحد الوضوءان، لكن الشكّ والتردّد بين التقديرين كاف في عدم إمكانيّة التعدّي.

والواقع: هو أنّ مقياس التعدّي عن خصوصية موضوع الجملة المعلّلة هو أن لا تكون تلك الخصوصية في الجملة المشتملة على العلّة إلاّ بأن يكون موضوعاً في تلك الجملة، فتلك الخصوصية إن لم تكن مأخوذة في العلّة أصلاً فالتعدي يكون واضحاً؛ لأن العلّة غير مقيّدة بها، فتفيد العموم لا محالة، وإن كانت مأخوذة في جملة العلّة على شكل الموضوع حمل العرف ذلك على كونه هو الأصغر، والمحمول هو الأوسط، فقوله: (يحرم الخمر لأنّه مسكر) يحمل على أنّ ذكر الخمر في جملة العلّة، أعني: (أنّه مسكر) إنّما كان لأجل كونه هو الحدّ الأصغر، فأراد حمل الأوسط على الأصغر لا لأجل كونه قيداً في العلّة.

ولا فرق في هذا المقياس بين أن تكون تلك الخصوصية مأخوذة في الجملة المعلّله، أو تكون مورداً لها، فلو قال: (لا تأكل الرمان؛ لأنّه حامض) اُلغيت خصوصية الرمان المأخوذة في الجملة المعلّله؛ لأنّها غير ماخوذة في محمول الجملة التي بيّنت العلّة. ولو قال مشيراً الى الرّمان: (لا تأكل هذا؛ لأنّ الرمان حامض) اُلغيت ـ أيضاً ـ خصوصية الرّمان لنفس النكتة رغم أنّ خصوصية الرّمان لم تكن مأخوذة في الجملة المعلّلة، بل كانت مورداً لها. ولو قال: (لا تأكل هذا الرمان؛ لأنّه رمّان حامض) لم تلغ خصوصية الرمان؛ لأنّها اُخذت في محمول الجملة المبيِّنة للعلة، فأصبحت قيداً في الأوسط. ولا نقصد بالموضوع والمحمول ما يكون كذلك في مصطلح علم النحو في صياغة المبتدأ والخبر، أو الفعل والفاعل، بل كلّما يراه العرف في قوّة ذلك دخل في الحساب، فلو قال مثلاً: (لا تشرب الخمر لإسكاره)، أو قال: (لا تأكل الرمان لحموضته)، أو قال مشيراً الى رمّان: (لا تأكل هذا لحموضة الرمان) قلنا أيضاً: إنّ الخمر أو الرمّان: موضوع، وهو الأصغر، والسكر أو الحموضة هو الأوسط المحمول على الأصغر، فالمقياس في تشخيص ذلك هو الذوق العرفي، لا محض صياغة الكلام.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ فيما نحن فيه وإن كان قيد الوضوء مأخوذاً بلحاظ صياغة الكلام في المحمول لا في الموضوع، ولكن لقائل أن يقول: إنّ العرف يفرضه موضوعاً وحدّاً أصغر، فكأنّه قال: وإلاّ فوضوؤه متيقّن، كما أنّ لقائل أن يقول: إنّ الموضوع والحدّ الأصغر عبارة عن الضمير في قوله: «فإنّه» أي: هو على يقين من وضوء، وكلّ من كان على يقين من وضوء لا ينقض يقينه بالشكّ، فعلى الثاني لا يدّل الحديث على أكثر من الاستصحاب في

46

الوجه السابع: ماذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ اليقين من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، ويستحيل انفكاكه عن المضاف إليه، ولذا جعل له في المقام مضاف إليه، وهو الوضوء، فلا يكون ذكر الوضوء قرينة على التقييد(1).

وعبارته(قدس سره) وإن كانت قاصرة فقد تحمل على أنّ ذكر الوضوء في المقام يكون من باب استحالة انفكاك اليقين من المضاف إليه، وعندئذ يرد عليه: أنّ هذا خلط بين وجود اليقين في عالم النفس وذكر مفهوم اليقين في عالم اللفظ، فإنّ الذي لا ينفكّ عن الإضافة إنّما هو الأوّل لا الثاني، فليكن ذكر الوضوء في عالم اللفظ قرينة على التقييد.

ولكن صدور هذا المعنى من المحقّق النائيني(رحمه الله) مستبعد والظاهر أنّ مقصوده: أن كون اليقين من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، واستحالة انفكاكه في عالم النفس عن الإضافة يجعل عرفاً ذكرَ المضاف إليه خالياً عن مؤونة زائدة، فلا يدلّ على التقييد.

وهذا المقدار كاف في مقام الاستدلال بالرواية رغم أن قوله: «على يقين من وضوئه» ليس ظاهراً في عدم دخل القيد؛ إذ غاية الأمر أنّ كون اليقين ممّا لا ينفكّ عن الإضافة مَنَعَ القيدَ عن الظهور الفعلي في القيديّة، لكنه لا يخرج عن احتمال صلاحيته للقرينية، فيوجب


باب الوضوء، وعلى الأوّل يدّل الحديث على الاستصحاب في جميع موارد اليقين السابق والشكّ.

وبهذا يتّضح أنّ من يستظهر من الحديث بفهمه العرفي الاستصحاب في جميع موارد اليقين السابق والشك لا مجال لإقامة البرهان على بطلان كلامه عن طريق احتمال كون اللام للعهد، فيكون من المحفوف بما يصلح للقرينية؛ وذلك لإمكان استظهار أنّ الموضوع في جملة العلّة هو الوضوء، وهو داخل في مورد الجملة المعلّله، فتلغى خصوصيته، ولا يبعد القول بأنّه متى ما لم تكن في جملة العلّة قرينة على إرادة دخل القيد المأخوذ من موضوع الجملة المعلَّله في الأوسط يكون نفس دخله في موضوع الجملة المعلَّله قرينة على أنّه من الحدّ الأصغر لا الاوسط، كما في قولنا: (لا تشرب الخمر لإسكاره) فخمريّة الخمر داخلة في الحدّ الأصغر بقرينة أخذها في موضوع الجملة المعلّله. أمّا إذا كانت في جملة العلّة قرينة على ذلك، فقد دخل في الأوسط رغم أخذه في موضوع الجملة المعلّله، مثاله: (لا تأكل الرمّان؛ لأنّه رمّان حامض)، فإنّه لولا دخل الرمّانيّة في الأوسط يرى أنّ تكرار الرمان في جملة العلّة يكون بلا نكتة؛ إذ كان بالإمكان الاكتفاء بذكره الثابت ضمن الضمير في: (فإنّه)، ولم تكن حاجة الى التكرار.

أمّا في رواية: (فإنّه على يقين من وضوئه) فبما أنّ موضوع الجملة المعلّله يمكن أن يفرض هو الوضوء، أي: وإلاّ فوضوؤه باق؛ لأنّه على يقين منه، ولا ينقض اليقين بالشكّ. ويمكن أن يفرض نفس ذلك الشخص، أي: وإلاّ فهذا الشخص لا يتوضّأ؛ لأنّه على يقين من وضوئه، ومن يكون على يقين من وضوئه لا يتوضّأ، جاء في الحديث احتمالان: كون الوضوء من الحدّ الأصغر أو من الحدّ الأوسط، ولا برهان على امتناع استظهار الأوّل.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 359 ـ 360، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 337 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

47

الإجمال لا محالة. والوجه في كفاية ذلك في الاستدلال هو: أنّ عدم الظهور الفعلي لجملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) في التقيّد بالوضوء يرفع المانع عن التمسّك بإطلاق قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ»؛ إذ مجرّد ذكر شيء مجمل في ما قبل ذلك يكون على أحد معنييه صالحاً للقرينية على إرادة العهد والإشارة إلى حصّة خاصّة من اليقين لا يكون قرينة على ذلك، ولا صالحاً للقرينيّة عليه في نظر العرف(1).

 


(1) يمكن أن يراد بهذا الكلام أحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ العهد الذكري لا يحسن عرفاً إلاّ إذا كان المعهود مذكوراً ذكراً قطعياً لا احتمالياً، و اليقين الخاصّ ليس مذكوراً ذكراً قطعياً؛ لأنّنا فرضنا إجمال قوله: «على يقين من وضوئه» لاحتمال كون ذكر قيد الوضوء لأجل محاكاة وضع اليقين الذي هو من الصفات الحقيقية ذات الإضافة التي لا تنفكّ عن المضاف إليه، لا لأجل التقييد.

والجواب: أنّ المعهود مذكور ذكراً قطعياً، غاية ما هناك أنّه مردّد بين اليقين الخاصّ وطبيعة اليقين.

والثاني: أن يقال: إنّ إجمال قوله: «على يقين من وضوئه» وتردّده بين ما يصلح للقرينيّة على العهد إلى خصوص اليقين الخاصّ وما لا يصلح للقرينية على ذلك يجعله غير صالح للقرينيّة، ففرق بين تردّد شيء بسبب الإجمال بين ما يكون قرينة بالفعل وما لا يكون قرينة، وبين تردّده بين ما يصلح للقرينية وما لا يصلح، فالأوّل ينزّله من القرينيّة الفعلية إلى ما يصلح للقرينيّة، والثاني ينزّله من الصلاحية للقرينية إلى عدم الصلاحية.

والجواب: أنّه إذا كان لا دافع لاحتمال العهد؛ لأنّ اللام مشترك لفظي بين الجنس والعهد، أو لأنّ السياق صالح للقرينية على العهد، وإذا كان على تقدير العهد لا دافع لاحتمال العهد إلى اليقين الخاصّ؛ لأنّ القيد مردّد بين محاكاة وضع اليقين الذي يستحيل انفكاكه في النفس من المضاف اليه وبين القيدية، إذن لا دافع ـ لا محالة ـ لاحتمال كون اللام عهداً إلى اليقين الخاصّ. ولا نقصد بصلاحية القرينية إلاّ ذلك، ولا مبرّر لتنزيل الإجمال والتردّد بين ما يصلح للقرينية وما لا يصلح إلى عدم الصلاحية.

والثالث: أن يقال: إنّ اللام ليس للعهد، بل لجامع التعيين، فقرينة العهد لا تكون إلاّ السياق، والسياق لا يقتضي العهد إلاّ إذا كان اليقين السابق ذكره يقيناً خاصّاً، وهذا المعهود غير مذكور ذكراً قطعياً في ما سبق؛ لاحتمال كون ذكر القيد في ما سبق مجاراةً ومحاكاةً لحالة اليقين النفسية، لا لتخصيص اليقين، في حين أنّه لا يحسن العهد الذكري إلاّ مع ذكر المعهود ذكراً قطعياً.

إلاّ أنّ دعوى: أنّ السياق لا يقتضي العهد إلاّ عهدية اليقين الخاصّ عهدتها على مدّعيها.

على أنّ هذا كلّه مبنيّ على ظاهر عبارة المتن من افتراض الإجمال في قوله: «فإنّه على يقين من ضوئه» بمعنى تردّده بين كون ذكر الوضوء من باب القيدية أو من باب المحاكاة عن حالة اليقين النفسية.

ولكنّنا لو حملنا قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» على الجملة الإخبارية فافتراض هذا الإجمال في المقام غير مفهوم مادام هذا الكلام ليس بياناً للحكم الشرعي حتى نقول: إنّه هل هو بيان للحكم على مطلق اليقين أو على يقين خاصّ، وإنما الحكم الشرعي قد بيّن بعد ذلك بقوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» والمحكي بهذا الإخبار كان في واقعه يقيناً خاصّاً، أي: يقيناً بالوضوء، وذكر الوضوء تقييد للحكاية لا محالة، غاية ماهناك: أنّ الدافع لهذا التقييد مردّد بين دخله في ما سيأتي من الحكم وهو النهي عن نقض اليقين بالشكّ، وحكايته لواقع حال اليقين الذي

48

الوجه الثامن: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّه يقوى احتمال كون (من وضوئه) متعلقاً بالظرف لا باليقين، فكأنّه قال: «فإنّه من وضوئه على يقين»، فليس اليقين المذكور قبل جملة: (لا ينقض اليقين بالشك) خاصّاً، فضلاً عن أن يجعل اليقين في تلك الجملة خاصّاً من باب اشتماله على لام العهد(1).

والكلام في ذلك تارةً يقع في الصغرى، وهي صحّة حمل هذه العبارة على كون (من وضوئه) متعلقاً بالظرف لا باليقين، واُخرى في الكبرى، أي: أنّه بعد تسليم تعلّقه بالظرف يقع الكلام في تماميّة دلالته على المقصود.

أمّا الأوّل، فالظاهر(2) من مثل هذا التركيب في لغة العرب كقولك: (على سلامة من دينه) وقولك: (على بيّنه من ربّه) وقولك: (أنا على بصيرة من ديني) ونحو ذلك هو كون الجار والمجرور متعلقاً بالظرف لا بالمجرور، فإنّك ترى أنّ هذا التركيب وهو: (على يقين من وضوئه) و (على بصيرة من أمره) ونحو ذلك مستساغ صحيح، مع أنّ المجرور وهو كلمة اليقين أو البصيرة ونحوهما ممّا لا يصح في لغة العرب تعدّيه بمن(3)، فلا يقال: (أنا أتيقّن من وضوئي) أو (أنا بصير من أمري) وإنّما يقال: (أنا أتيقّن بوضوئي) أو (أنا بصير بأمري).

هذا، مضافاً إلى أنّ المجرور في بعض هذه الأمثلة لا يمكن جعله متعلّقاً للجار والمجرور من حيث المعنى ولو فرض استعمال كلمة(من) مكان الباء مثلاً، فالجار والمجرور في قولك: (على سلامة من ديني) لا يمكن من حيث المعنى أن يتعلّق بالسلامة ولو اُبدلت كلمة(من) بأيّ حرف جرّ آخر، وفي قولك: (على بيّنة من ربّه) لا يمكن تعليق الجار والمجرور من حيث المعنى بالبيّنة، فإنّه لم يكن المقصود ظهور وجود الربّ له حتى يعلّق الجار والمجرور بالبيّنة.

 


كان، أو محاكاته لوضع اليقين بشكل عامّ المستحيل انفكاكه عن المضاف إليه، ولكن على أيّة حال لا يخرج الوضوء عن كونه قيداً للمحكيّ، إذن فالمعهود حتى لو كان هو اليقين الخاصّ فهو مذكور في الكلام ذكراً قطعياً، فالسياق يصلح للقرينيّة لا محالة.

ولعلّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان شيئاً آخر قصرت عبارتنا عن إفادته.

(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 284 ـ 285، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) راجع بهذا الصدد نهاية الدراية: ج 5، ص 46 بحسب طبعة آل البيت.

(3) لا يخفى: أنّ هذه التعليلات لا تصلح دليلاً على أنّ هذا التركيب في لغة العرب ظاهر في تعلّق الجار والمجرور الثاني بالظرف على الإطلاق، وإنّما تصلح دليلاً على ذلك في كلّ مورد تمّ شيء من هذه التعليلات، ومن تلك الموارد ما نحن فيه.