268

هل يسقط الواجب بترك الفور؟

الأمر الثالث: في أنّه بناءً على الفور هل يسقط الواجب رأساً بترك الفور، أو أنّه بعد ترك الفور يبقى عليه أصل الواجب ويصبح موسّعاً، أو أنّه يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً؟

كلّ هذه الاحتمالات معقولة ثبوتاً، فمن الممكن أن يكون الواجب الحصّة الاُولى، فبتركها يسقط الواجب لا محالة، ومن الممكن أن يكون هناك واجبان: أحدهما الطبيعة المطلقة، والثاني الحصّة الاُولى، فبترك الثاني لا يسقط الأوّل، ويبقى عليه الواجب موسّعاً، ومن الممكن أن تكون هناك وجوبات متعدّدة بعدد الحصص، وتكون كلّ حصّة متأخّرة واجبةً على تقدير عدم الإتيان بالحصص السابقة، فينتج ذلك وجوب العمل فوراً ففوراً.

وأمّا بحسب الإثبات، فلابدّ من ملاحظة الوجه الذي يقال على أساسه بالفور، ليرى أنّ ذلك الوجه هل يقتضي أحد هذه الفروض بعينه حتّى يلتزم به، أو أنّه مجمل من هذه الناحية حتّى يرجع إلى الاُصول العمليّة، فنقول:

تارةً يبنى على الفور بدعوى دلالة الأمر على أخذه في متعلّقه بوجه من الوجوه، وعليه لا ينبغي الإشكال في سقوط الطلب بترك الفور؛ فإنّ الصيغة لا تدلّ إلّا على طلب واحد، وهذا الطلب الواحد قد تعلّق بالفعل مع الفور، فنسبته إلى الفعل مع الفور نسبة الوجوب إلى أجزاء الواجب الواحد، لا إلى أفراد الواحد.

وبكلمة اُخرى: إنّ المتعلّق للطلب هو العمل المقيّد بالفور، والمقيّد ينتفي بانتفاء قيده.

واُخرى يبنى على الفور بدعوى: أنّ العرف يفهم بالموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ الفور؛ حيث إنّه يعطي بفهمه العرفيّ خواصّ التحريك التكوينيّ

269

للتحريك التشريعيّ، ومن خواصّ التحريك التكوينيّ هو التحرّك فوراً، فتنعقد للأمر دلالة التزاميّة عرفيّة على الفور، وبناءً على هذا يتعيّن القول بوجوب العمل فوراً ففوراً؛ فإنّ هذا هو مقتضى الموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ وإعطائه خصائص الدفع التكوينيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الدفع التكوينيّ باليد ونحوه لو فرض فيه: أنّ الشخص لم يندفع به، ومع ذلك بقي الدفع باليد مثلا مستمرّاً، فلا إشكال في أنّ ذلك يقتضي الاندفاع في الزمان الثاني فوراً، فإن لم يندفع أيضاً وبقي الدفع مستمرّاً، اقتضى الاندفاع في الزمان الثالث فوراً، وهكذا.

نعم، لو لم يبقَ الدفع مستمرّاً، بل انقطع بعد الزمان الأوّل، فطبعاً لا دفع في الزمان الثاني حتّى يقتضي الاندفاع فوراً، فالدفع التشريعيّ أيضاً ينبغي أن يكون من هذا القبيل، فلو بقي الدفع التشريعيّ مستمرّاً، اقتضى الاندفاع فوراً ففوراً، ومقتضى إطلاق المادّة هو بقاء الدفع التشريعيّ، فإنّه إنّما أمر بذات الطبيعة غير المقيّدة بالزمان الأوّل، وإنّما فرض الدلالة على الفور لا من باب تقيّد المتعلّق بالفور، بل من باب أنّ العرف فهم بالملازمة العرفيّة لزوم الفور، ولا مبرّر لجعل ذلك قيداً للمتعلّق بعد أن كان المتعلّق بذاته مطلقاً، إذن فالطلب يبقى مستمرّاً لا محالة، وإذا بقي مستمرّاً، اقتضى الاندفاع نحو العمل فوراً ففوراً قياساً له على الدفع التكوينيّ.

وثالثة يبنى على الفور بدعوى دلالة آيتي المسارعة والانسباق عليه، وحينئذ لا إشكال في أنّ الأمر لا يسقط بترك الفور؛ إذ لا وجه لجعل الفور قيداً لمتعلّق الأمر حتّى يسقط بتركه، وإنّما فهم وجوب الفور بأمر آخر مستقلّ، فبتركه لا يسقط الأمر الأوّل بلا إشكال، وإنّما الكلام في أنّه هل يبقى العمل واجباً فوراً ففوراً، أو يصبح العمل واجباً موسّعاً؟

ذهب المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إلى أنّ الفور يسقط نهائيّاً، ويصبح العمل واجباً

270

موسّعاً، أي: لا يجب فيه الفور، وذلك بتقريب: أنّ عنوان المسارعة: تارةً يفرض: أنّه لا يصدق إلّا على الإتيان بالفرد الأوّل من الأفراد الطوليّة، واُخرى يفرض: أنّ له مصاديق طوليّة عديدة حيث يصدق على ما قبل الفرد الأخير، فالمسارعة صادقة في كلّ مورد أتى المكلف بعمل كان بإمكانه تأخيره إلى وقت متأخّر عن ذلك الوقت. فإن فرضنا الشقّ الثاني، كانت النتيجة عدم وجوب الفور من أوّل الأمر؛ إذ المسارعة مصداقها ليس منحصراً في الفور، وهذا طبعاً خلف المفروض؛ لأنّنا نتكلّم بناءً على فرض الفوريّة، فينحصر الأمر في الشقّ الأوّل، ونتيجته: أنّ الأمر بالمسارعة يسقط بمجرّد ترك الفرد الأوّل؛ لأنّ مصداق المسارعة منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل وقد فاته، فلا يبقى إلّا الأمر بأصل الواجب، فيكون واجباً موسّعاً لا فور فيه(1).

ولنا حول هذا الكلام ثلاث تعليقات:

التعليقة الاُولى: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الثاني، وهو أنّ المسارعة لها أفراد عديدة بعدد ما قبل الفرد الأخير، ومع ذلك نقول: إنّ هذا لا ينتج الخلف، بل ينتج وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّنا إذا فرضنا مثلا: أنّ للواجب عشرة أفراد طوليّة، فالأمر بطبيعة العمل قد جَعَلَ الجامعَ بين الأفراد العشرة خيراً، والأمر بالمسارعة في الخيرات يوجب لزوم الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة السابقة على الفرد الأخير، فيصبح الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة خيراً، فيكون هذا فرداً جديداً لموضوع الأمر بالمسارعة في الخيرات، والمسارعة فيه عبارة عن الإتيان بالجامع بين الثمانية السابقة على التاسع، فيكون ذلك خيراً جديداً يجب المسارعة فيه بالإتيان بالجامع بين السبعة السابقة على الثامن، وهكذا، فالأمر



(1) بدائع الأفكار، ج 1، ص 253 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

271

بالمسارعة ينحلّ بتعدّد أفراد موضوعه المتولّدة من نفس الأمر؛ لأنّه أمر بنحو القضيّة الحقيقيّة، فكلّما تولّد خير أمكن المسارعة فيه يصبح مشمولا للأمر بالمسارعة ولو كان متولّداً من نفس الأمر بالمسارعة، وهذا سنخ ما يقال في (صدّق العادل) بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة، وبهذا يثبت وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثانية: أنّنا أيضاً نفرض اختيار الشقّ الثاني، ونفترض تنزّلا عن الجواب الأوّل: أنّ الأمر بالمسارعة ليس أمراً بنحو القضيّة الحقيقيّة يشمل حتّى الفرد المتولّد من نفسه، بل أمر بنحو القضيّة الخارجيّة يشير إلى الخيرات الثابتة بغضّ النظر عن هذا الأمر بالمسارعة، ويأمر بالمسارعة فيها، ولكن مع ذلك نقول: إنّنا نستنتج وجوب العمل فوراً ففوراً، وذلك بناءً على أنّ أفراد المسارعة ليست أفراداً عرضيّة ثابتة في عرض واحد، من قبيل أفراد البياض والسواد ونحو ذلك من الطبائع، وإنّما هي أفراد طوليّة للمسارعة، أي: أنّ العرف إنّما ينتزع عنوان المسارعة من الفرد الثاني بعد فرض فوات الأوّل، وهكذا إلى ما قبل الفرد الأخير، وكلّما كان أفراد طبيعة مأمور بها أفراداً طوليّة وهي في المقام أفراد المسارعة، فهم العرف من الأمر بها أنّ هذا الأمر يكون بلحاظ هذه الأفراد على وزان طبع نفس الأفراد، فكما أنّ نفس الأفراد يوجد بينها طوليّة كذلك الأمر بكلّ فرد إنّما يكون بعد فوات العمل بالأمر بالفرد السابق، ويكون أمراً اضطراريّاً بالنسبة إلى الأمر بالفرد السابق، ولذا ترى أنّه لو قال: «تطهّر قبل الفجر من الجنابة»، لم يجز للعبد تأخير الغسل إلى أن يضيق الوقت عنه، وينتقل إلى التيمّم وإن صحّ التيمّم لو صنع ذلك، والسرّ في ذلك ما قلناه: من أنّ الفردين الطوليّين لطبيعة يفهم العرف من الأمر بها كونه أمراً اختياريّاً بلحاظ الفرد الأوّل، واضطراريّاً في طول فوات الفرد الأوّل بلحاظ الفرد الثاني، فحيث إنّ الطهارة لها فردان: الفرد الأوّل هو الطهارة

272

المائيّة، والفرد الثاني هو الطهارة الترابيّة، وهذا الفرد الثاني إنّما يكون فرداً للطهارة عند تعذّر الأوّل، فهم العرف من الأمر بالطهارة الأمر الاختياريّ بالغسل، والأمر الاضطراريّ بالتيمّم بعد العجز عن الغسل لضيق الوقت مثلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فحيث إنّ أفراد المسارعة أفراد طوليّة، فلا محالة يفهم من الأمر بالمسارعة الأمر بالفرد الأوّل، وفي طول تركه وفواته الأمر بالفرد الثاني اضطراراً، وهكذا، وهذا معناه وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثالثة: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الأوّل، وهو أنّ المسارعة في الخير معناها منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل من الخير، ومع ذلك نقول: إنّه يستفاد من دليل الأمر بالمسارعة في الخيرات وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّ الخير عبارة عن الفعل الذي يكون أفضل من الناحية الشرعيّة للمكلف من تركه، فإذا كان للواجب عشرة أفراد طوليّة مثلا، فقبل أن يفوته الفرد الأوّل يكون الخير بالنسبة إليه عبارة عن الجامع بين العشرة؛ لأنّ فعله أفضل من تركه، وأمّا الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل فليس خيراً، إذ بالإمكان تحقّق تركه في ضمن الإتيان بالفرد الأوّل، فلا يكون فعل الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل أفضل من تركه، وبما أنّ المسارعة في الخيرات واجب، ومعنى المسارعة هو اختيار الفرد الأوّل، إذن يجب عليه الفور باختيار الفرد الأوّل، ولكن حينما يترك الفرد الأوّل ويفوته يصبح الجامع بين الأفراد التسعة الباقية خيراً؛ لأنّ فعله ـ بعد فرض فوت الفرد الأوّل ـ خير له من تركه، فتجب عليه المسارعة في هذا الخير، وذلك باختيار الفرد الأوّل منه الذي هو فرد ثان من الطبيعة، فإذا عصى وفاته الفرد الأوّل، أصبح الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية خيراً؛ لأنّه بعد فوات ما سبق يكون فعل الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية أفضل من تركه، فتجب المسارعة فيه باختيار فرده الأوّل الذي هو ثالث أفراد الطبيعة وهكذا، فالنتيجة هي وجوب العمل فوراً ففوراً.

273

الفصل الثالث. الأوامر

إجزاء الأمر الاضطراريّ والظاهريّ

* إجزاء الأمر الاضطراريّ.

* إجزاء الأمر الظاهريّ.

275

يقع الكلام في إجزاء الأمر الاضطراريّ والظاهريّ عن الواقع وعدمه.

وهناك صيغتان كبرويّتان للإجزاء لا إشكال فيهما:

إحداهما: أنّ الإتيان بغرض المولى كاف في خروج العبد عن العهدة؛ وذلك لأنّ العقل الذي هو الحاكم المطلق في باب المولويّة والعبوديّة الحقيقيّة لا يحكم على العبد بحقّ للمولى أزيد من تحصيل الغرض، فإن حصّل العبد غرض المولى، لم يبقَ في عهدته شيء.

والثانية: أنّ الإتيان بمتعلّق أمر كاف في الخروج عن عهدة شخص ذلك الأمر؛ لما مضى: من أنّ التحريك بعد العمل نحو الجامع القابل للانطباق على ما أتى به تحصيل للحاصل، وغير معقول، والتحريك إلى الطبيعة المقيّدة بأن لا تكون في ضمن ذلك الفرد المأتي به يكون أمراً جديداً.

فالكلام عن أنّ الأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل يجزيان عن الواقع أو لا؟ يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى الكلام عن أنّ العمل بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل تنطبق عليه إحدى الكبريين، بأن يكون ذلك محصّلا لغرض المولى الواقعيّ أو مصداقاً لمتعلّق الأمر الواقعيّ، أو لا؟

وطبعاً ليس المقصود: التكلّم عن قرائن خاصّة قد تحصل للفقيه على كون الأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ بنحو يدخل تحت إحدى الكبيريين ويوجب الإجزاء؛ فإنّ هذا شأن الفقيه، ويرجع إلى علم الفقه باعتباره واقعاً في طريق

276

استنباط حكم جزئيّ، ولا يعطي قاعدة عامّة تفيد في شتّى الأحكام، وإنّما المقصود: التكلّم عمّا إذا وجدت قرائن عامّة مضبوطة لاستظهار ذلك من دليل الأمر.

والكلام يقع في مقامين:

277

إجزاء الأمر الاضطراريّ

المقام الأوّل: في إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الواقع وعدمه.

ولنذكر أوّلاً المحتملات الثبوتيّة بشأن الواجب الاضطراريّ من حيث دوره في تحصيل الغرض والنتائج المترتّبة على تلك المحتملات، ثُمّ نتكلّم فيما هو المستظهر من دليل الأمر الاضطراريّ، فنقول:

المحتملات الثبوتيّة

إنّ المحتملات في الواجب الاضطراريّ أربعة:

1 ـ كونه وافياً بتمام غرض الواقع.

2 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، بحيث يكون الباقي أقلّ من مرتبة الإلزام.

3 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ولكن لا يمكن تحصيله بعد ذلك، من قبيل عطشان طلب الماء البارد، فسقي ماءً حارّاً رفع أصل العطش، فبعد ذلك لا يمكنه التلذّذ بالماء البارد.

4 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ويمكن تحصيله.

هذه فروض أربعة، نتكلّم بالنسبة لها في آثار أربعة قد يختلف فيها بعضهاعن بعض:

الأوّل: في الإجزاء عن الواقع وعدمه.

ومن الواضح: أنّ الأوّل يجزي؛ لدخوله تحت الكبرى الاُولى، وهي الوفاء بالغرض، وكذلك الثاني؛ لأنّه وإن بقي شيء من الغرض لكنّه ليس بمرتبة الإلزام بحسب الفرض، وكذلك الثالث؛ لأنّ الباقي وإن كان بمرتبة الإلزام لكنّه لا يمكن

278

استيفاؤه على أيّ حال، أمّا الرابع فلا يجزي؛ لأنّه لم يفِ بتمام الغرض، والباقي ملزم قابل للتدارك بالإعادة بحسب الفرض.

الثاني: في جواز البدار وضعاً وعدمه، بمعنى إجزائه حتّى في صورة البدار وعدمه.

وطبعاً هذا الكلام يقع في الأقسام الثلاثة الاُولى بعد الفراغ عن أنّ الرابع لا يجزي أصلا.

والتحقيق: أنّ النتيجة لا تختلف باختلاف الأقسام الثلاثة الاُولى، فنقول فيها جميعاً: إنّ الوفاء بالغرض بأحد الأنحاء الثلاثة إن كان مشروطاً بعدم البدار، لم يجز البدار، وإلّا جاز البدار.

الثالث: في جواز البدار تكليفاً وعدمه.

ولا ينبغي الإشكال في جوازه في الأوّل والثاني؛ فإنّه إن فرض وفاء العمل بالغرض حتّى مع البدار، فلا وجه لعدم جوازه، وإن فرض عدم وفائه بالغرض مع البدار، فغاية ما يفترض لغويّة العمل لا حرمته، كما لا ينبغي الإشكال في جوازه بمقتضى القاعدة في الرابع أيضاً؛ إذ لا يلزم منه فوات شيء من الغرض، فإنّه حتّى لو كان العمل وافياً في أوّل الوقت ببعض الغرض أمكن تدارك الباقي بعد ذلك إن ارتفع العذر. وأمّا في القسم الثالث، فالجواز التكليفيّ مع الجواز الوضعيّ متعاكسان، فقد قلنا في الجواز الوضعيّ بأنّ العمل لو كان وافياً بالمقدار الذي يفي به من الغرض حتّى مع البدار، جاز البدار، وإلّا فلا، وهنا ينعكس الأمر، فإن كان العمل لا يفي بشيء في أوّل الوقت على تقدير عدم استمرار العذر، جاز له البدار؛ إذ مع ارتفاع العذر يمكنه التدارك، وإن كان العمل يفي بشيء من الغرض المفروض معه عدم إمكان تدارك الباقي، فلا

279

يجوز البدار مع احتمال ارتفاع العذر؛ لأنّه يسدّ باب تدارك الباقي اللازم التحصيل.

وقد يقال: ليس الجوازان متعاكسين، بل متى ما لم يجز البدار تكليفاً لم يكن هناك جواز وضعيّ؛ لأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

أقول: إن فرض: أنّ عدم إمكان تدارك الباقي في القسم الثالث كان على أساس التضادّ بين الملاك الأصغر والملاك الأكبر، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، وإنّما يكون عدم جواز البدار على أساس إرشاد العقل إلى عدم البدار حفاظاً على المصلحة الأوفى، لا أنّ هناك نهياً مولويّاً عن ذلك. وإن فرض: أنّ عدم إمكان التدارك كان على أساس مانعيّة الملاك الأصغر عن الملاك الأكبر، فإن بنينا على إنكار المبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، فأيضاً لا مجال لهذا الإشكال، وإن سلّمناها لكن بنينا على أنّ المبغوضيّة الغيريّة لا تبطل، فأيضاً لا مجال للإشكال.

نعم، لو كان عدم إمكان التدارك على أساس المانعيّة، وقلنا بالمبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، وقلنا بمبطليّة المبغوضيّة الغيريّة، فهناك مجال للاستشكال في صحّة البدار بما عرفت من دعوى أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وقد يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين:

الجواب الأوّل: أنّ المبغوضيّة الغيريّة إن كانت موجبة للبطلان في سائر الموارد، ففي خصوص هذا المقام لا يمكن أن تكون موجبة للبطلان؛ وذلك لأنّ المبغوضيّة في المقام إنّما هي في طول صحّة العمل، حيث إنّه لو صحّ أوجب خسارة قسم مهمّ من الغرض لا يمكن تداركه، فلو نفت صحّةَ العمل لزم أن تنفي نفسها، ويكون وجودها مستلزماً لعدمها، وهذا غير معقول، فلا يقاس المقام بمثل

280

مبغوضيّة الصلاة في الدار المغصوبة التي توجب بطلانها؛ فإنّها ليست في طول صحّة الصلاة، فإنّ الصلاة حتّى إذا كانت باطلة تكون مبغوضة في المكان المغصوب باعتبارها غصباً وتصرّفاً في مال الغير.

ويرد عليه: أنّ المبغوضيّة عارضة في ذهن المولى على العمل الصحيح؛ لكونه صحيحاً، حيث إنّه يوجب فوات قسم مهمّ من الغرض، وهي إلى الأبد مبغوضيّةٌ للعمل الصحيح، ولا يخرج معروض المبغوضيّة عن كونه هو الصحيح. نعم، هذه المبغوضيّة أوجبت أن لايقدر العبد الملتفت إليها على إيجاد مصداق المبغوض، وهو العمل الصحيح في الخارج؛ لاحتياجه إلى قصد القربة الذي لا يتمشّى مع الالتفات إلى المبغوضيّة، وهذا لا يعني: أنّ مبغوضيّة العمل الصحيح أوجبت عدم نفسها ونفت صحّة معروضها، وإنّما يعني: أنّها أوجبت عدم إمكان إيجاد مصداق ذلك المبغوض في الخارج، وهذا لا محذور فيه.

الجواب الثاني: أن يقال: إنّ هذا النهي الغيريّ لو اقتضى البطلان في غير المقام لايقتضي البطلان في المقام؛ إذ لو اقتضى البطلان في المقام، لزم تعلّقه بغير المقدور؛ لأنّه إنّما هو متعلّق بالعمل الصحيح؛ لأنّ غير الصحيح لا يوجب عدم إمكان تدارك الغرض، والعمل الصحيح أصبح غير مقدور بالنهي؛ لأنّ النهي أوجب بطلانه، بينما النهي كالأمر في أنّه يجب أن يتعلّق بالعمل المقدور.

وهذا البيان يمكن دفعه بأكثر من وجه واحد، فلئن سلّمنا أنّ النهي يجب تعلقه بالمقدور، قلنا: إنّ ذلك إنّما يكون في النهي لا في المبغوضيّة، وفيما نحن فيه نفترض المبغوضيّة، وهي يمكن أن تتعلّق حتّى بالعمل الذي يستحيل صدوره من المكلّف.

والصحيح في مقام الجواب عن الإشكال: منع الاُصول الموضوعيّة له؛ فإن مجموع اُصوله الموضوعيّة: من فرض المانعيّة، وتسليم المبغوضيّة والمحبوبيّة

281

الغيريّة، ومبطليّة المبغوضيّة الغيريّة غير مسلّم لدينا، ولا أقلّ من إنكار كون المبغوضيّة الغيريّة موجبة للبطلان.

الرابع: في جواز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً وعدمه.

فنقول: إنّه في القسم الثالث وهو ما لو كان العمل الصحيح الاضطراريّ موجباً للوفاء بمقدار من مصلحة العمل الاختياريّ، وفوات مقدار من الغرض مهمّ، وغير قابل للتدارك لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً، سواء فرض: أنّ وفاء العمل بمقدار من المصلحة وصحّته كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو فرض: أنّه لم يكن مشروطاً بذلك، فإنّه على الأوّل يُحرم نفسه من تحصيل غرض المولى وامتثال أمره نهائيّاً، وعلى الثاني يُحرم نفسه من القسم المتبقي من الغرض الذي فرض كونه بمقدار الإلزام، ولا يمكن تداركه.

وفي القسمين الأوّلين يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً لو فرض: أنّ وفاء العمل بما يفي به من مصلحة ـ بحسب الفرض ـ ليس مشروطاً بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار، أمّا لو كان مشروطاً بذلك فلا يجوز؛ لأنّه يستوجب فوات كلّ الغرض؛ لعجزه عن العمل الاختياريّ وبطلان عمله الاضطراريّ باشتراط أن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

وفي القسم الرابع يأتي حكم القسم الثالث، فيقال: إنّه لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار بسوء الاختيار سواء فرض: أنّ الجواز الوضعيّ للعمل كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو لم يفرض ذلك، فإنّه على الأوّل قد فوّت على نفسه تمام الملاك؛ لعجزه إلى آخر الوقت ـ بحسب المفروض ـ عن الإتيان بالعمل الاختياريّ وبطلان عمله غير الاختياريّ؛ لفقد شرطه، وعلى الثاني قد فوّت على المولى قسماً مهمّاً من الغرض؛ إذ مع بقاء العجز إلى آخر الوقت لا يمكنه تدارك ذلك بوجه من الوجوه.

282

هذا تمام الكلام في مرحلة الثبوت، وقد ظهر: أنّه بلحاظ مرحلة الثبوت يتعيّن الإجزاء في الصور الثلاث الاُولى من الصور الأربعة المحتملة ثبوتاً، وعدم الإجزاء في الصورة الرابعة.

البحث الإثباتيّ

بقي الكلام في مرحلة الإثبات بحسب ظاهر الدليل، فنقول:

إنّ الكلام في ذلك يقع في مسألتين:

الاُولى: ما إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت، فهل تجب الإعادة، أو لا؟

والثانية: ما إذا ارتفع العذر بعد الوقت فهل يجب القضاء، أو لا؟

ارتفاع العذر أثناء الوقت:

أمّا المسألة الاُولى: فتارةً نفترض: أنّه قد اُخذ في موضوع دليل الأمر الاضطراريّ استمرار العذر إلى آخر الوقت، وهذا ـ في الحقيقة ـ خارج عن موضوع الكلام؛ إذ بعد ارتفاع العذر ينكشف أنّه لم يكن هناك أمر اضطراريّ حتّى يجزي أو لا يجزي، غاية الأمر: أن يفترض أنّه كان قد ثبت له ظاهراً انطباق الأمر الاضطراريّ عليه(1)، فيدخل في إجزاء الأمر الظاهريّ وعدمه الذي سوف يثبت فيه عدم الإجزاء.

واُخرى نفترض: أنّ موضوع دليل الأمر الاضطراريّ كان هو العذر حين العمل من دون اشتراط الاستمرار إلى آخر الوقت، فهنا تأتي مسألة إجزاء الأمر الاضطراريّ



(1) بناءً على الاستصحاب الاستقباليّ، أو بفرض قيام بيّنة مثلا على أنّ الاضطرار سيستمرّ.

283

وعدمه، وحينئذ فإمّا أن يفرض: أنّ دليل الحكم الاختياريّ يشمل بإطلاقه من صدر منه الفعل الاضطراريّ ثُمّ زال عذره، أو يفرض: عدم الإطلاق فيه لذلك.

أمّا إذا فرض إطلاقه لذلك، فمن الواضح: أنّ مقتضى هذا الإطلاق عدم الإجزاء، إلّا أنّ الكلام يقع في أنّ دليل الأمر الاضطراريّ هل يكون مقيّداً لهذا الإطلاق، أو لا؟

وهناك اُسلوبان لإثبات التقييد:

الاُسلوب الأوّل: ما عن مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من دعوى الدلالة الالتزاميّة العقليّة لدليل الأمر الاضطراريّ، بتقريب: أنّه قد مضى: أنّ الصور الثبوتيّة لوفاء الأمر الاضطراريّ بالملاك أربعة، وأنّه في الصور الثلاث الاُولى يتمّ الإجزاء، وفي الصورة الرابعة لا يتمّ الإجزاء، إذن فلو أبطلنا الصورة الرابعة هنا ببرهان عقليّ، تعيّن الإجزاء، فنقول في مقام إبطالها: إنّ دليل الأمر الاضطراريّ ينسجم مع الصورة الاُولى والثانية من تلك الصور، بأن يكون الفعل الاضطراريّ وافياً بتمام الملاك، أو بمعظمه بحيث يكون الباقي غير ذات أهمّيّة، وغير واجب التدارك، فحينئذ يكون من المعقول الأمر الاضطراريّ بأن يكون هذا المكلّف ـ بحسب الحقيقة ـ مخيّراً بين الإتيان بالفعل الاضطراريّ حين العذر أو الفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، ولا ينسجم مع الصورة الرابعة من تلك الصور، أي: ما لو بقي مقدار مهمّ من الملاك قابل للتدارك؛ إذ على فرض الصورة الرابعة لا يمكن تعقّل الأمر الاضطراريّ بمجرّد العذر في وقت العمل؛ فإنّ الأمر الاضطراريّ لا يعقل إلّا بأحد أشكال ثلاثة كلّها غير صحيحة في المقام:

الأوّل: أن يجب على هذا الشخص معيّناً الفعل الاضطراريّ، وهذا واضح البطلان؛ إذ لا شكّ في أنّه يجوز له أن يصبر إلى أن يزول العذر في الوقت، ويأتي بالفرد الاختياريّ.

284

الثاني: أن يكون مخيّراً بين الفعل الاضطراريّ حين العذر والفعل الاختياريّ بعد زوال العذر على حدّ التخيير بين المتباينين كما افترضنا ذلك على الصورة الاُولى والثانية، وهذا غير معقول؛ إذ معنى ذلك: أنّه إذا أتى بالفعل الاضطراريّ حين العذر ثُمّ ارتفع العذر، لم يجب عليه الإتيان بالفعل الاختياريّ، بينما هذا غير معقول؛ إذ المفروض بقاء مقدار مهمّ من الملاك بدرجة الإلزام، فلماذا لا يجب تداركه؟!

الثالث: أن يكون مخيّراً بين الأقلّ والأكثر، أي: بين الإتيان بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر فقط، أو الإتيان بالفعل الاضطراريّ عند العذر وبالفعل الاختياريّ بعد زواله، وهذا أيضاً غير معقول؛ لعدم معقوليّة التخيير بين الأقلّ والأكثر، فمرجع ذلك إلى وجوب الفعل الاختياريّ، فقط، فلم يثبت عندنا أمر اضطراريّ نتكلّم عن إجزائه وعدمه، وهو خلف.

فإذن الأمر الاضطراريّ بنحو الصورة الرابعة في محلّ الفرض غير معقول، وبنفي الصورة الرابعة يثبت الإجزاء لا محالة.

وعلى أساس هذا البيان بنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1)



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 231 ـ 234 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

وأمّا كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) فليست واضحة في البيان الفنّيّ الذي أفاده هنا اُستاذنا للبرهنة على الإجزاء وإن كان ينبغي توجيه روح المطلب بهذا البيان. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 245 ـ 246 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

ثُمّ إنّ هذه الصياغة المذكورة في المتن مصاغة بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الاُولى

285

وغيرهما على الإجزاء.

ولنا حول هذا البرهان عدّة كلمات:

الكلام الأوّل: أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ذكر في بحث المطلق والمقيّد: أنّه إذا ورد مثلا «اعتق رقبة» وورد «اعتق رقبة مؤمنة» فالجمع بينهما يمكن ثبوتاً بنحوين:

أحدهما: حمل المطلق على المقيّد بأن يفرض: أنّ المراد بقوله: «اعتق رقبة» هو عتق الرقبة المؤمنة.

والثاني: الحمل على التخيير بأن يكون الشخص مخيّراً بين أن يعتق رقبة



من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: أنّ حصول الغرض يستوجب الإجزاء، ويمكن صياغتها بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الثانية، وهي كبرى: أنّ الإتيان بمتعلّق الأمر يستلزم الإجزاء، وذلك بأن يقال: إنّ الأمر المتوجّه إلى هذا الشخص لا يخلو من أن يكون أمراً بالفرد الاضطراريّ معيّناً، أو يكون أمراً تخييريّاً بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره على شكل التخيير بين المتباينين، أو يكون تخييراً بين الأقلّ والأكثر، أي: الفرد الاضطراريّ وحده والفرد الاضطراريّ مع الفرد الاختياريّ، أو يكون أمراً بالفرد الاختياريّ معيّناً.

والرابع خلف فرض عدم اشتراط استمرار العذر. والأوّل باطل يقيناً؛ إذ لا شكّ في جواز تأخير العمل في داخل الوقت إلى زمان ارتفاع العذر. والثالث باطل؛ لبطلان التخيير بين الأقلّ والأكثر، فيتعيّن الثاني، وهو التخيير بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره، فإذا أتى بالفرد الأوّل فقد أتى بمتعلّق الأمر الواقعيّ، وذلك يستلزم الإجزاء.

وتبقى على ذلك الملاحظات الثلاث التي أفادها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

286

مؤمنة، أو يعتق رقبة كافرة ثُمّ رقبةً مؤمنة، إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل.

هذا ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في بحث المطلق والمقيّد(1).

فنقول هنا: لئن كان من المعقول في باب المطلق والمقيّد التخيير بين عتق رقبة مؤمنة فقط وعتق رقبة مؤمنة قبلها عتق رقبة كافرة، فلماذا لا يعقل في المقام التخيير بين العمل الاختياريّ فقط وبين العمل الاختياريّ وقبله العمل الاضطراريّ الذي هو الشقّ الثالث من الشقوق التي فرض بطلانها جميعاً؟ وأيّ فرق بينهما؟

وقد ذكرت مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في بحث الواجب التخييري(2): أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر غير معقول، إلّا إذا اُرجع إلى التخيير بين المتباينين، بأن يخيّر بين ذات الأقلّ بشرط لا وذات الأقلّ بشرط شيء، فلئن كان هذا معقولا في موارد التخيير بين الأقلّ والأكثر، ومعقولا في المطلق والمقيّد، بأن يتخيّر مثلا بين عتق الرقبة المؤمنة بشرط لا عن عتق الكافرة، وبين عتق الرقبة المؤمنة بشرط أن يعتق قبل ذلك الكافرة، فلماذا لا يعقل فيما نحن فيه، بأن يتخيّر بين العمل الاختياريّ بشرط لا عن العمل الاضطراريّ، والعمل الاختياريّ بشرط سبق العمل الاضطراريّ؟!

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر غير معقول، لا في



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 379 بحسب طبعة مطبعة مهر بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 186 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، راجع المتن والتعليق. وفوائد الاُصول، ج 1، ص 235 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أيضاً المحاضرات، ج 4، ص 44 ـ 47 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

287

المقام ولا في بحث المطلق والمقيّد؛ وذلك لأنّ التخيير بينهما بلا رجوع إلى التخيير بين المتباينين غير معقول، وبالرجوع إلى التخيير بين المتباينين بأن يخيّر بين الأقلّ بشرط لا والأقلّ بشرط شيء إنّما يعقل لو كان هناك شقّ ثالث على تقدير وجود ذات الأقلّ، أي: أمكن تحقّق ذات الأقلّ من دون تحقّق القيد العدميّ ولا القيد الوجوديّ، وذلك كما لو خيّر بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن أيّ تسبيحة اُخرى وبين ثلاث تسبيحات، فإنّه يمكن انتفاؤهما معاً مع وجود ذات الأقلّ، وذلك بأن يأتي بتسبيحتين، أمّا لو لم يكن لهما ضدّ ثالث كما لو خيّر بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن الثالثة وبين التسبيحة بشرط الثلاث، فهذا التخيير غير معقول؛ لأنّ الجامع بين القيدين مع تحقّق ذات الأقلّ أمر لابدّ منه تكويناً، فما معنى تعلّق الأمر الضمنيّ بأحدهما على سبيل التخيير؟!

وما نحن فيه، وكذلك باب المطلق والمقيّد من هذا القبيل؛ فإنّ العمل الاختياريّ بشرط لا عن العمل الاضطراريّ مع العمل الاختياريّ المنضمّ إلى العمل الاضطراريّ لا ثالث لهما بعد فرض إيجاد العمل الاختياريّ، وكذلك عتق الرقبة المؤمنة بشرط لا عن عتق الكافرة، وعتقها مع عتق الكافرة لا ثالث لهما بعد فرض أصل عتق المؤمنة.

الكلام الثاني: أنّ هذا البرهان مشتمل على فرض شقوق ثلاثة للأمر الاضطراريّ على تقدير الصورة الرابعة المنتجة لعدم الإجزاء مع إبطال كلّ واحد منها، بينما هناك شقّ رابع لا دليل على بطلانه، وهو افتراض أمرين: أحدهما تعلّق بالجامع بين الفعل الاختياريّ والاضطراريّ، وهو الذي نسمّيه بالأمر الاضطراريّ، والآخر تعلّق بخصوص العمل الاختياريّ، فإن لم يعمل إلى أن ارتفع العذر في الوقت، ثمّ أتى بالعمل الاختياريّ، كان هذا امتثالا لكلا الأمرين، وإن أتى بالفعل الاضطراريّ ثُمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت، فقد امتثل الأمر

288

بالجامع بعمله الاضطراريّ، ولكن هذا المقدار لا يجزي عنه؛ لوجود أمر آخر عليه بالعمل الاختياريّ لم يمتثله.

فإن قلت: إنّ الأمر بالجامع لغو صرف؛ إذ يكفي عنه الأمر بالعمل الاختياريّ؛ حيث إنّه بامتثاله يحصل الجامع أيضاً دون العكس.

قلت: أوّلا: لابدّ ـ على أيّ حال ـ من وجود أمرين؛ فإنّ المكلّفين على ثلاثة أصناف: فمنهم من هو صحيح قادر على العمل الاختياريّ في تمام الوقت، ومنهم من يحصل له العذر ثُمّ يرتفع عنه العذر في أثناء الوقت، ومنهم من يستمرّ به العذر إلى آخر الوقت.

فبالنسبة إلى الأوّلين لابدّ من أمر بالعمل الاختياريّ الذي هو الواجد لتمام الملاك، وهذا الأمر لا يفيد بالنسبة إلى الثالث لعدم قدرته على العمل الاختياريّ طيلة الوقت، فلابدّ من أمر آخر، وهذا الأمر الآخر كما يمكن تصويره بأن يكون أمراً بالفعل الاضطراريّ مخصوصاً بالمضطرّ الذي استمرّ اضطراره إلى آخر الوقت، كذلك يمكن تصويره بأن يكون أمراً بالجامع بين الفعل الاضطراريّ في حال الاضطرار والفعل الاختياريّ شاملا لكلّ أقسام المكلفين، فمن يستطيع الإتيان بالفعل الاختياريّ يمكنه امتثال الجامع في ضمن هذا الفرد، ومن يبقى عذره إلى آخر الوقت يمتثل الجامع في ضمن الفرد الاضطراريّ.

وثانياً: أنّه من الجائز أن يكون للمولى غرضان: أحدهما في الجامع، والآخر في خصوص العمل الاختياريّ، فلا لغويّة في افتراض أمرين: أحدهما بالجامع والآخر بالحصّة، بحيث لو أتى بالجامع وترك الحصّة كان عذابه أخفّ ممّا لو ترك العمل رأساً.

الكلام الثالث: أنّ برهان مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لو تمّ، فإنّما تكون نتيجته ثبوت الحكم الاضطراريّ فيمن اضطرّ أوّل الوقت، والإجزاء بالإتيان بذلك عند

289

الاضطرار وإن زال عنه العذر في آخر الوقت إذا فرض أنّ الأمر الاضطراريّ كان ثابتاً في حقّ من لم يستوعب اضطراره طول الوقت بالتصريح، وأمّا إذا كان بالإطلاق ومن باب عدم التقييد بمن استوعب اضطراره تمام الوقت، فنتيجة هذا البرهان ليست هي ثبوت الحكم الاضطراريّ مع الإجزاء، بل النتيجة هي وقوع التعارض بين إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ وإطلاق دليل الحكم الاختياريّ؛ حيث إنّ شمول إطلاق دليل الحكم الاختياريّ لمن أتى بالفعل الاضطراريّ في أوّل الوقت ثُمّ ارتفع عذره في الأثناء يوجب عدم إجزاء العمل الاضطراريّ، بينما إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ يوجب بلحاظ برهان مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله)النافي للصورة الرابعة الإجزاء، فكلّ منهما يدفع الآخر، فإن لم يكن مرجّح لأحد المتعارضين على الآخر من قبيل أن يكون أحدهما بالعموم والآخر بالإطلاق مثلا، تساقطا، ورجعنا إلى الأصل، وهو يقتضي عدم وجوب الإعادة على ما سوف يأتي إن شاء الله، فبالأخرة وصلنا إلى نتيجة الإجزاء المطلوب في المقام، وإن كان أحدهما أرجح، قدّم(1).

الاُسلوب الثاني: دعوى: أنّه وإن لم تكن ملازمة عقليّة بين الأمر الاضطراريّ والإجزاء، ولكن المستظهر بحسب ظاهر الأدلّة هو الإجزاء.

وهذا له عدّة تقريبات:



(1) ولو كان الترجيح مع دليل العمل الاختياريّ، وقدّم على دليل العمل الاضطراريّ، كان معنى ذلك بعد فرض البناء على أصل برهان مدرسة المحقّق النائينيّ: عدم شمول الأمر الاضطراريّ لصورة ارتفاع العذر في أثناء الوقت، لا شموله لها مع عدم الإجزاء.

هذا. وعمدة التعاليق الثلاثة هو التعليق الثاني الذي يردّ البرهان بإبطال نكتته حلاّ.

290

التقريب الأوّل: أنّه إذا عرفنا أنّ المولى كان بصدد بيان كلّ وظيفة فعليّة للمكلّف، قلنا: إنّه لو لم يكن مجزياً لكان يبيّن: أنّ الوظيفة الفعليّة بعد زوال العذر هي الإعادة، فنعرف بالإطلاق المقاميّ الإجزاء.

إلّا أنّ هذا التقريب يتوقّف على وجود قرينة خاصّة على كون المولى في مقام بيان كلّ وظيفة فعليّة للمكلّف بهذا الصدد، وإلّا فمقتضى الطبع الأوّليّ للكلام: أنّه في مقام بيان الوظيفة الاضطراريّة دون أن يستظهر من ذلك كونه في مقام بيان كلّ الوظائف الفعليّة. على أنّه حينما يتمّ إطلاق من هذا القبيل يكون معارضاً لإطلاق دليل الحكم الاختياريّ الشامل لمن أتى بالعمل الاضطراريّ في أوّل الوقت ثُمّ ارتفع عذره المقتضي لعدم الإجزاء، فإمّا يتساقطان، ونرجع إلى الأصل المقتضي لعدم الإعادة، أو يتقدّم أحدهما حينما يكون أقوى بحيث يصلح قرينة على الآخر، دون العكس، ولا يبعد أن يكون الغالب في الإطلاق المقاميّ أنّه الأقوى ولو لضيق دائرته وسعة دائرة الإطلاق المتعارف، لكنّ هذا إنّما يفيد إذا كان الإطلاق المقاميّ في طول التصريح في دليل الأمر الاضطراريّ بشموله لمن عمل عملا اضطراريّاً ثُمّ ارتفع عذره، ولا يفيد إذا كان الإطلاق المقاميّ في طول إطلاق دليل العمل الاضطراريّ لمن عمل ثُمّ ارتفع عذره في الأثناء، فإنّ هذا الإطلاق ليس مقاميّاً.

التقريب الثاني: يتوقّف على أن يستفاد من لسان دليل الحكم الاضطراريّ البدليّة والتنزيل منزلة الوظيفة الاختياريّة، فمتى ما استفيد ذلك: إمّا من اللسان اللفظيّ للدليل كما في مثل «التراب أحد الطهورين»(1)، أو من باب اقتناص هذا



(1) ورد في صحيحة محمّد بن مسلم: «قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أجنب، فتيمّم بالصعيد وصلّى، ثُمّ وجد الماء. قال: لا يعيد، إنّ ربّ الماء ربّ الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين». وسائل الشيعة، ج 3، باب 14 من التيمّم، ح 15، ص 370 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

291

العنوان من مجموع القرائن المقاميّة واللفظيّة ونحو ذلك، كان مقتضى إطلاق البدليّة هو البدليّة على الإطلاق، أي: البدليّة في كلّ الجهات والمراتب، وإذا كان كذلك أوجب الإجزاء لا محالة.

وهذا تقريب تامّ في كلّ مورد انتزع من دليل الحكم الاضطراريّ لفظاً أو مقاماً البدليّة والتنزيل منزلة العمل الاختياريّ، وإشكال التعارض مع إطلاق دليل الحكم الاختياريّ لا يأتي هنا؛ لأنّه إذا فرض: أنّ لسان دليل الحكم الاضطراريّ كان هو لسان البدليّة والتنزيل منزلة العمل المحكوم بالحكم الاختياريّ، كان ناظراً ـ لا محالة ـ إلى الوظيفة الواقعيّة الاختياريّة، فيكون حاكماً على دليل الحكم الواقعيّ الاختياريّ بملاك النظر(1). هذا.



(1) لا يخفى: أنّ هذا المطلب تارةً يصاغ بصياغة مناسبة للكبرى الاُولى من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: أنّ حصول الغرض يستلزم الإجزاء، بأن يقال: إنّ ظاهر دليل الوظيفة الاضطراريّة البدليّة عن الوظيفة الاختياريّة في تمام المراتب والملاكات، وهذا هو الذي يكون بحاجة إلى نكتة خاصّة في اللفظ كما في مثل: «التراب أحد الطهورين»، أو إلى اقتناص هذا العنوان من مجموع القرائن المقاميّة واللفظيّة، ونحو ذلك.

واُخرى يصاغ بصياغة تناسب الكبرى الثانية من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: استلزام الإتيان بالمتعلّق للإجزاء، وذلك بأن تترك مسألة البدليّة في الأثار والملاكات، بل يقال فقط: إنّ دليل العمل الاضطراريّ يكون عادةً ناظراً إلى الحكم الاختياريّ، وعلاج مشكلة الاضطرار التي منعت المكلّف في حينه عن العمل الاختياريّ، وهذا النظر يعطيه ظهوراً في البدليّة، ولا أقصد البدليّة في الآثار والملاكات أو المراتب، وإنّما أقصد البدليّة في التكليف، فلو كان هذا الدليل له إطلاق لمن اضطرّ في أوّل الوقت وبُرئ في آخره، لكان ـ لا محالة ـ ظاهراً في أنّ حكمه الاختياريّ تحوّل إلى الحكم التخييريّ بين العمل

292

وقد ذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله) تقريباً(1) لدلالة إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ على الإجزاء لا يبعد رجوعه إلى هذا التقريب، ولكن أعقبه بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أنّ إطلاق البدليّة لتمام المراتب في دليل الحكم الاضطراريّ الحاكم بالصلاة الجلوسيّة مثلا يعارض ظهور دليل الحكم الاختياريّ في دخل القيام في المصلحة ولو ببعض مراتبها(2).

والجواب على ذلك ما عرفته من حكومة دليل الحكم الاضطراريّ بملاك النظر.

الإشكال الثاني: تصعيد للإشكال الأوّل، بتقريب: أنّه إذا وقع التعارض بين إطلاق دليل البدليّة ودليل الحكم الاختياريّ، قدّم دليل الحكم الاختياريّ.

وذكر في مقام تقريب ذلك نكتتين(3):

الاُولى: أنّ ظهور دليل البدليّة في البدليّة في جميع المراتب يكون بالإطلاق،



الاضطراريّ في أوّل الوقت والاختياريّ في آخره، أو أنّ الحكم من أوّل الأمر كان تخييريّاً بين العمل الاختياريّ في حال الاختيار والاضطراريّ في حال الاضطرار، وإذا كان الأمر كذلك، فقد حصل الإجزاء ـ لا محالة ـ بإتيان متعلّق الأمر.

ولا يشذّ عن هذا الذي ذكرناه إلّا فرض نادر، وهو فرض ما إذا لم يكن دليل الاضطرار ناظراً إلى الحكم الاختياريّ: إمّا بأن يكون دليلا لبّيّاً لا نظر له، أو بأن يكون دليلا لفظيّاً أوجب شيئاً في حال الاضطرار، لا كعلاج لمشكلة الاضطرار حتّى يكون ناظراً إلى الحكم الاختياريّ.

(1) راجع المقالات، ج 1، ص 274 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) نفس المصدر، ص 275.

(3) نفس المصدر.