293

بينما ظهور دليل الحكم الاختياريّ في دخل القيام في المصلحة ظهور وضعيّ للهيئة التركيبيّة لقوله: «صلِّ قائماً»، فيقدّم على الظهور الإطلاقيّ.

ويرد عليه: أنّ فرض كون دلالة قوله: «صلِّ قائماً» على دخل القيام في المصلحة بالظهور الوضعيّ للهيئة التركيبيّة لا يؤثّر في مقام تقديم دليل الحكم الاختياريّ على دليل البدليّة؛ وذلك لأنّ المعارض لإطلاق البدليّة ليس هو أصل دخل القيام في المصلحة، وإنّما هو إطلاق دخله فيها لصورة ما إذا ارتفع العذر في الأثناء، ولا إشكال في أنّ هذا بالإطلاق لا بالوضع.

الثانية: أنّ دليل الحكم الاختياريّ حاكم على دليل الحكم الاضطراريّ؛ وذلك لأنّ دليل الحكم الاختياريّ ظاهر في دخل القيام في المصلحة المطلوبة، وهذا يقتضي وجوب حفظ القدرة على القيام، وذلك يقتضي المنع من تفويت القدرة، أي: المنع من إيقاع نفسه في الاضطرار، والاضطرار هو موضوع دليل الحكم الاضطراريّ، إذن فدليل الحكم الاختياريّ رافع لموضوع دليل الحكم الاضطراريّ، فيكون حاكماً عليه، فيقدّم عليه بالحكومة.

وهذا الكلام منه(قدس سره) غريب جدّاً، ولو كنّا قد رأيناه في كلام شخص آخر ينسبه إليه، لكنّا نطمئنّ بخطأ النسبة، لكنّه قد جرى هذا الكلام على قلمه الشريف في مقالاته.

ومن الواضح: أنّ الحكومة بملاك رفع الموضوع إنّما تكون في نفي الموضوع شرعاً بلحاظ عالم الجعل والاعتبار، كما لو نفى الربا بين الوالد وولده، فيحكم على دليل حرمة الربا؛ وذلك باعتبار أنّ هذا الدليل دلّ على انتفاء موضوع الحكم الآخر، وإذا انتفى الموضوع انتفى المحمول الذي هو الحكم، ولا يكون في النهي عن إيجاد الموضوع خارجاً، كما لو نهى عن الربا بين الوالد وولده، فهذا النهي لا يكون حاكماً على دليل حكم من أحكام الربا؛ إذ لو عصى النهي وأوجد الربا

294

بين الوالد وولده فهذا الدليل لا يدلّ على انتفاء الربا ـ وهو الموضوع ـ حتّى ينتفي الحكم والمحمول، وفي ما نحن فيه لو سلّمت كلّ هذه الدلالات، فغايته النهي عن إيقاع النفس في الاضطرار، أمّا لو أوقع نفسه في الاضطرار، أو وقع قهراً في الاضطرار، فدليل الحكم الواقعيّ الاختياريّ لم ينفِ تحقّق هذا الاضطرار حتّى يكون حاكماً على دليل الحكم الاضطراريّ ومقدّماً عليه.

التقريب الثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ دليل الأمر الاضطراريّ حينما يطلق يدلّ بإطلاقه على الوجوب التعيينيّ للصلاة الجلوسيّة مثلا، كما هو الحال في كلّ أمر؛ فإنّه ظاهر بإطلاقه في التعيينيّة، وتعيينيّة هذا الأمر ملازمة للإجزاء؛ وذلك لأنّ المحتملات الثبوتيّة في العمل الاضطراريّ الذي اُمر به من حيث الوفاء بالغرض ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن يكون وافياً بتمام الغرض، فيوجب الإجزاء بملاك استيفاء الغرض، ولكن هذا الاحتمال منفيّ بظهور الأمر في التعيين؛ إذ لو كان العمل الاضطراريّ وافياً بتمام الملاك، إذن لكان الملاك في الجامع بين أن يأتي بالفعل الاختياريّ بعد زوال عذره، وأن يأتي بالفعل الاضطراريّ حين العذر، فلابدّ من الأمر بالجامع بينهما، ولا مبرّر للأمر التعيينيّ بخصوص الفعل الاضطراريّ.

الاحتمال الثاني: أن يكون وافياً ببعض الغرض لا بتمام الغرض، وأن يمكن استيفاء باقي الغرض بالإتيان بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وهذا معناه: أنّ الغرض كأنّما ينقسم إلى ملاكين: أحدهما موجود في الجامع بين الفعلين، والآخر موجود في خصوص الحصّة الاختياريّة، وهذا يوجب عدم الإجزاء، لكن ظهور الأمر الاضطراريّ في التعيينيّة أيضاً ينفي هذا الاحتمال؛ فإنّ الأمر بالحصّة الاضطراريّة إنّما هو لأجل الملاك المشترك بين الحصّتين، بينما هذا يوجب الأمر التخييريّ بالجامع، لا الأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة، ولا مبرّر للأمر التعيينيّ بالفعل الاضطراريّ.

295

الاحتمال الثالث: أن يكون وافياً ببعض الغرض لا بتمامه، وأن لا يمكن استيفاء باقي الغرض، وهذا يوجب الإجزاء بملاك العجز عن باقي الغرض، وهنا أيضاً الملاك المقتضي للأمر الاضطراريّ متعلّق بالجامع، إلّا أنّ هناك مبرّراً لتعلّق الأمر التعيينيّ بالفعل الاضطراريّ، وهو أنّه لولا الأمر التعيينيّ كما لو كان الأمر متعلّقاً بالجامع، لم يسمح العقل باختيار هذا الفرد من الجامع، أعني: الفعل الاضطراريّ؛ لأنّه مفوّت لباقي الغرض، ومعجّز عن تحصيله، إلّا أنّ حكم العقل بعدم جواز ذلك معلّق طبعاً على عدم مجيء ما يخالفه من الشارع في ذلك، والأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة يخالف ذلك، فيفرض: أنّ المولى أمر تعييناً بهذه الحصّة دفعاً لحكم العقل بعدم جواز اختيار هذه الحصّة.

فتحصّل: أنّ ظهور الأمر الاضطراريّ في التعيينيّة لا ينسجم إلّا مع هذا الاحتمال الثالث المستلزم للإجزاء، إذن فالأمر الاضطراريّ يدلّ على الإجزاء(1).

هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام توضيح مرام المحقّق العراقيّ (رحمه الله).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّه لا معنى للأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة على الاحتمال الثالث أيضاً؛ وذلك لأنّ الأمر بالفعل الاختياريّ في حقّ هذا الشخص: إمّا يفرض كونه أمراً بخصوص الحصّة الاختياريّة التي لم يسبقها الفعل الاضطراريّ، أو يفرض كونه أمراً بإيقاع الفعل الاختياريّ بين الحدّين كالزوال والغروب، من دون تقييد ذلك بتلك الحصّة الاختياريّة التي لم يسبقها الفعل الاضطراريّ.

فإن فرض الأوّل، فالإلزام بالمقيّد إلزام بالقيد لا محالة، فهذا إلزام له بعدم



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 268 ـ 269، و ص 277 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

296

الإتيان بالحصّة الاضطراريّة، فكيف يجتمع ذلك مع الإلزام التعيينيّ بالإتيان بالحصّة الاضطراريّة؟!

وإن فرض الثاني(1)، فلا قبح في تفويت باقي غرض المولى بالإتيان بالحصّة الاضطراريّة حتّى يكون هذا مبرّراً للأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة بداعي دفع هذا القبح؛ وذلك لأنّ الإتيان بالحصّة الاضطراريّة لا يكون مفوّتاً للعمل بالأمر، وإنّما هو مفوّت لغرض لم يتصدَّ المولى لتحصيله بالأمر، والغرض الذي لم يتصدّ المولى لتحصيله، ولم يأمر به لا يدخل تحت عهدة المكلّف كما هو مسلّم عند المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وهو أساس للقول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، إذن فينبغي أن يكون الأمر الاضطراريّ متعلّقاً بالجامع لنشوئه من ملاك موجود في الجامع، ولا مبرّر لتعلّقه بخصوص الحصّة الاضطراريّة.

وثانياً(2): أنّنا لو غضضنا النظر عن الإشكال الأوّل، فأيضاً نقول: لا مبرّر للأمر



(1) فكان عدم الإتيان بالحصّة الاضطراريّة قيداً لوجوب خصوص الحصّة الاختياريّة، لا قيداً للواجب.

(2) الأولى أن يقرّب الإشكال بهذا البيان: وهو أنّ الأمر التعيينيّ بالعمل الاضطراريّ: إن فرض أمراً بداعي البعث والتحريك الحقيقيّ، فهذا لا يعقل نشوؤه إلّا من ملاك في الحصّة المعيّنة دون الملاك في الجامع، كما ينبّه إلى ذلك أنّه يترتّب على هذا الأمر التعيينيّ محذوران، وهنا يذكر المحذوران الموجودان في متن كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله). وإن فرض أمراً صوريّاً بداعي المنع عن حكم العقل بلزوم ترك الحصّة الاضطراريّة حفظاً للقدرة، فالأمر الصوريّ لا معنى له، ولا أثر له، إلّا إذا رجع في حقيقته إلى الترخيص في الحصّة الاضطراريّة الذي هو ترخيص في تفويت الملاك، وحمل الأمر على التخيير ليس بأكثر مخالفة للظاهر من حمله على الأمر الصوريّ أو الترخيص، فلا يبقى مبرّر للأصل الموضوعيّ الذي فرض لهذا الدليل، وهو دلالة الأمر بإطلاقه على التعيينيّة.

297

التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة، فإنّ هذا الأمر قد نشأ من ملاك في الجامع بحسب الفرض، فيجب أن يكون متعلّقاً بالجامع، ولا يجوز تعلّقه بالحصّة الاضطراريّة. وأمّا تبرير ذلك بكون الأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة استطراقاً إلى رفع حكم العقل بقبح الإتيان بالحصّة الاضطراريّة مع فرض زوال العذر في الأثناء؛ لكونه مفوّتاً لقسم من الغرض، فممنوع؛ وذلك لأنّه يكفي في رفع حكم العقل بقبح ذلك مجرّد الترخيص من قبل الشارع في الحصّة الاضطراريّة بلا حاجة إلى الأمر التعيينيّ بها، والترخيص في ذلك يتحقّق: إمّا بدعوى: أنّ نفس الأمر التخييريّ بالجامع يستبطن الترخيص في التطبيق على هذه الحصّة، أو بأن ينشئ المولى ترخيصاً خاصّاً في ذلك، إذن فلو أمر تعييناً بالحصّة الاضطراريّة، لم يكن أمره كذلك لمجرّد الاستطراق إلى رفع حكم العقل بقبح الإتيان بتلك الحصّة حتّى يفرض مثلا: أنّه لا يترتّب على هذا الأمر محذور؛ لعدم وجوب طاعته؛ لعدم كونه أمراً حقيقيّاً بذاك المعنى، بل هو استطراق إلى رفع ذلك القبح، بل يكون أمراً تعيينيّاً حقيقيّاً بداعي البعث الحقيقيّ إلى الحصّة الاضطراريّة، بينما هو ناشئ من الملاك الثابت في الجامع، لا في خصوص تلك الحصّة، ويترتّب على هذا الأمر التعيينيّ محذوران:

1 ـ إنّه لو خالفه المكلّف، ولم يأتِ بالفعل الاضطراريّ إلى أن زال الاضطرار، فاُمر بالفعل الاختياريّ، وخالفه أيضاً إلى أن انقضى الوقت، عوقب بعقابين، وكان أسوأ حالا ممّن لم يبتلِ بالاضطرار في شيء من الوقت، وترك الواجب في تمام الوقت، مع أنّ تفويت الملاك وغرض المولى في كلا الفرضين يكون بمقدار واحد؛ فإنّه لم يفوّت في المقام ملاكاً في خصوص الحصّة الاضطراريّة؛ إذ ليس هناك ملاك في خصوصها بحسب الفرض.

2 ـ إنّه لو خالف المكلّف الأمر الاضطراريّ، ولم يأتِ بالفعل الاضطراريّ إلى

298

أن زال الاضطرار، فأتى بالفعل الاختياريّ في داخل الوقت، كان معاقباً مع أنّه لم يخلّ بشيء من غرض المولى، فهذا تسجيل جزاف للعقاب عليه، اللّهمّ إلّا أن يفرض المحقّق العراقيّ (رحمه الله): أنّ الأمر الاضطراريّ كان مقيّداً بما إذا لم يأتِ بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وهذا عود إلى ما فرّ منه؛ فإنّه افترض الأمر الاضطراريّ تعيينيّاً عملا بإطلاق الأمر، وفراراً من تقييده بلا موجب، بينما هذا تقييد له ولو عن طريق آخر، وليس هذا التقييد بأولى من ذاك التقييد(1).

التقريب الرابع: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، حيث ذكر: أنّه إمّا أن يفرض: أنّ الملاك بتمام مراتبه موجود في الجامع بين الحصّة الاختياريّة حين الاختيار والحصّة الاضطراريّة حين الاضطرار، أو يفرض: أنّ أصل الملاك موجود في الجامع، ومرتبته العالية في خصوصيّة الحصّة الاختياريّة، وهي القيام مثلا في الصلاة، والفرض الأوّل ملازم للإجزاء، والفرض الثاني يستبطن عدم الإجزاء، إلّا أنّه يستلزم توجّه أمر إلى العبد بعد زوال عذره لا بالصلاة القياميّة مثلا، بل بالقيام في الصلاة، وبتعبير آخر: يستلزم توجّه أمر إليه بالخصوصيّة لا بذي الخصوصيّة؛ لأنّ المرتبة الشديدة من الملاك المستوجبة لأمر آخر إنّما هي في الخصوصيّة، بينما دليل عدم الإجزاء وهو إطلاق دليل الأمر بالصلاة الاختياريّة إنّما يدلّ بظاهره على الأمر بذي الخصوصيّة، وهي الصلاة القياميّة مثلا، لا بالخصوصيّة وهي القيام في الصلاة، وهذا غير محتمل سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدم الإجزاء؛ إذ على الإجزاء يكون الملاك بنفسه وبمرتبته في الجامع، فلا مبرّر للأمر بصلاة



(1) على أنّ فرض الأمر الاضطراريّ مقيّداً بما إذا لم يأتِ بالفعل الاختياريّ هدمٌ لأصل هذا الدليل؛ إذ الأمر الاضطراريّ المقيّد بذلك ليس بأحسن حالا من الأمر بالجامع في المنع عن حكم العقل بترك الحصّة الاضطراريّة وعدمه.

299

قياميّة بعد زوال العذر لاستيفاء تمام الملاك، وعلى عدم الإجزاء تكون المرتبة الشديدة للملاك قائمة بالخصوصيّة، وذلك يقتضي الأمر بالخصوصيّة، لا بذي الخصوصيّة، فما هو ظاهر الدليل غير محتمل، وما هو محتمل في صالح عدم الإجزاء، وهو فرض الأمر بالخصوصيّة غير ظاهر من الدليل(1).

وهذا الدليل في الحقيقة إن تمّ، يبرهن على عدم دلالة دليل الأمر الاختياريّ على عدم الإجزاء، ولا يبرهن على الإجزاء، فإذا تمّ هذا الدليل، وجب الرجوع في مقام إثبات الإجزاء إلى إطلاق أو أصل ونحو ذلك.

والتحقيق: أنّ هذا الدليل غير تامّ؛ لعدّة وجوه:

الأوّل: ما تفطّن إليه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2) نفسه، وهو: أنّه ليس الأمر دائراً بين أن يكون للواجب ملاك واحد كلّه في الجامع، أو ذاته في الجامع ومرتبته في الخصوصيّة، بل من المحتمل أن يكون في الواجب ملاكان مستقلاّن يمكن فرض أحدهما في الجامع، والآخر في ذي الخصوصيّة بما هو ذو الخصوصيّة، أعني: الصلاة القياميّة، لا في الخصوصيّة وهي القيام في الصلاة مثلا، وحينئذ لا يتمّ الإجزاء، وفي نفس الوقت يكون هذا الفرض منسجماً مع ظاهر دليل الأمر الاختياريّ الذي يدلّ على الأمر بذي الخصوصيّة، لا الخصوصيّة.

الثاني: أنّنا حتّى لو فرضنا ملاكاً واحداً في المقام، بالإمكان أن يفترض: أنّ الجامع دخيل في أصل الملاك، وفي مرتبته، غاية الأمر: أنّ دخله في أصل الملاك يكون بنحو العلّيّة التامّة، ولكن دخله في مرتبته يكون بنحو الاقتضاء، ويحتاج في تأثيره إلى شرط، وهو اقتران الجامع بالخصوصيّة كالقيام، وما أكثر المقتضيات



(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 383 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نفس المصدر، ص 282 ـ 283.

300

التي تحتاج في مقام التأثير إلى شروط، فهذا الفرض ينسجم مع عدم الإجزاء، وفي نفس الوقت ينسجم مع فرض توجّه الأمر إلى ذي الخصوصيّة، وهي الصلاة القياميّة، لا إلى الخصوصيّة.

الثالث: أنّنا حتّى لو فرضنا: أنّ مرتبة الملاك تكون في الخصوصيّة، لا في ذي الخصوصيّة، فاقتضى ذلك بالدقّة العقليّة تعلّق الإرادة المولويّة بالخصوصيّة، لا بذي الخصوصيّة، قلنا: إنّ صياغة الأمر بالخطاب بالخصوصيّة بأن يقول المولى له مثلا بعد زوال العذر: «أوجد القيام في الصلاة» ليست صياغة عرفيّة، بينما صياغته بلسان الأمر بذي الخصوصيّة بأن يقول: «صلِّ قائماً» صياغة عرفيّة مقبولة يرتكبها العرف، وإن فرض كون الإرادة والحبّ بالدقّة منصبّاً على الخصوصيّة، فلا بأس بالتمسّك بإطلاق دليل الأمر بالصلاة قائماً مثلا لفرض ثبوت العذر في أوّل الوقت، وزواله بعد الإتيان بالعمل الاضطراريّ.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان لدليل الأمر الاختياريّ إطلاق يقتضي عدم الإجزاء، وقد عرفت وجوهاً خمسة للإجزاء: أحدها الملازمة الثبوتيّة، والباقي تقريبات إثباتيّة، وإنّ شيئاً منها غير قابل للقبول عدا الوجه الثالث، وهو التقريب الثاني من التقريبات الإثباتيّة.

وأمّا إذا فرض عدم إطلاق له من هذا القبيل، فقد يفرض: أنّ له إطلاقاً يقتضي الإجزاء، بأن كان منحلاًّ إلى دليل دلّ على أصل الفعل الاختياريّ بالإطلاق، ودليل آخر منفصل يقيّد ذلك الإطلاق بقيد كالقيام مثلا، لكن هذا الدليل لم يكن له إطلاق لما إذا أتى بالفعل في حال الاضطرار، كما هو الحال في أدلّة الأجزاء والشرائط للصلاة التي لم تثبت إلّا بالأدلّة اللبّيّة، كما في اشتراط الطمأنينة مثلا، إذن فإطلاق الحكم الواقعيّ الأوّليّ يبقى على حاله في حقّ العاجز من هذا القيد، فيقتضي الإجزاء لا محالة، ففي هذا الفرض لا كلام في الإجزاء.

301

وقد يفرض: أنّ دليل الفعل الاختياريّ لا يقتضي إطلاقه الإجزاء ولا عدم الإجزاء، كما لو كان دليلا مجملا أو لبّيّاً لا إطلاق له، وحينئذ فإن قلنا بتماميّة أحد الوجوه الخمسة الماضية في القسم السابق، ثبت الإجزاء بالدليل الاجتهاديّ، وإلّا وصلت النوبة إلى الأصل العمليّ.

وذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ مقتضى الأصل العمليّ هو البراءة عن وجوب الإعادة(1).

وقد يعترض على ذلك باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2) إيراداً على صاحب الكفاية: من أنّ احتمال الإجزاء: إمّا ينشأ من احتمال وفاء العمل الاضطراريّ بكلّ الملاك أو بجلّه، بحيث يكون ما عداه أقلّ من الملاك الإلزاميّ، أو ينشأ من احتمال كون الباقي غير قابل للتدارك بعد العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام.

وله (رحمه الله) في كلّ من الفرضين كلام:

أمّا الفرض الأوّل: وهو ما لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال وفاء العمل الاضطراريّ بكلّ الملاك أو جلّه، بأن يكون الملاك في الجامع بين الفعل الاختياريّ والاضطراريّ، فيقول (رحمه الله) فيه: إنّه يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في التعيين والتخيير؛ إذ لو كان العمل الاضطراريّ وافياً بالملاك، كنّا مخيّرين بينه وبين العمل الاختياريّ، وإلّا تعيّن علينا العمل الاختياريّ، ومختاره (رحمه الله) ومختار صاحب الكفاية في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة الاشتغال، لا البراءة.



(1) الكفاية، ج 1، ص 130 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 271 ـ 272 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 230 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

302

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ في تصوير حال الحكم الاضطراريّ على تقدير عدم الإجزاء، أي: فرض بقاء مقدار معتدّ به من الملاك قابل للتدارك عدّة مباني:

المبنى الأوّل: ما اخترناه من تعلّق الأمر الاضطراريّ بنحو تعدّد الأمر، فهناك أمر بالجامع، وهناك أمر بالحصّة الاختياريّة، وعليه فيصبح الأمر بالجامع مقطوعاً به؛ إذ لو كان الملاك كلّه في الجامع، إذن فنحن مأمورون بالجامع، ولو كان قسم من الملاك لا يحصل بالجامع، ولابدّ فيه من الإتيان بخصوص الحصّة الاختياريّة، تحقّق في المقام أمران: أحدهما متعلّق بالجامع، فليس المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الذي ليس الأمر فيه بالجامع بحدّه الجامعيّ محرزاً، وإنّما المقام من موارد القطع بالأمر بالجامع بحدّه الجامعيّ والشكّ في أمر زائد متعلّق بخصوص الحصّة الاختياريّة، فلا محالة تجري البراءة، ولا يرتبط المورد بمبحث الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير أصلا.

المبنى الثاني: دعوى تصوير الأمر الاضطراريّ بافتراض الأمر التخييريّ بين الأقلّ وهو الفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، والأكثر وهو الفعل الاضطراريّ قبل زوال العذر مع الاختياريّ بعد زواله، ومبنيّاً عليه يكون الأمر دائراً بين شقّين:

الأوّل: فرض الإجزاء، وهو كون الأمر ابتداء بالجامع بين الفعل الاضطراريّ والاختياريّ، فهو أمر تخييريّ بين المتباينين.

والثاني: فرض عدم الإجزاء، وهو كون الأمر تخييريّاً بين الأقلّ والأكثر، وهذا معناه: أنّنا نقطع بوجود أمر تخييريّ، ونقطع بأنّ أحد عدلي هذا الواجب التخييريّ عبارة عن الصلاة القياميّة مثلا، ولا ندري أنّ العدل الآخر هل هو عبارة عن الصلاة الجلوسيّة، أو عبارة عن مجموع الصلاة الجلوسيّة والقياميّة، فيدور الأمر بين الأقلّ والأكثر، وتجري البراءة عن الزائد، فإنّه كما لو دار أمر أصل واجب بين الأقلّ والأكثر جرت البراءة عن الزائد، كذلك لو دار أمر أحد عدلي الواجب

303

التخييريّ بين الأقلّ والأكثر، جرت البراءة عن الزائد، فلا يكون المقام مرتبطاً بباب الأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، بل مرتبط بباب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، وإن شئت فقل: إنّ الجامع بين الصلاة القياميّة والصلاة الجلوسيّة معلوم الوجوب، ولا يعلم بوجوب الجامع بين الصلاة القياميّة والزائد على الصلاة الجلوسيّة الذي(1) هو نفس الصلاة القياميّة.

المبنى الثالث: دعوى عدم تعقّل الأمر الاضطراريّ في صورة زوال العذر في الأثناء مع افتراض عدم الإجزاء وبقاء مقدار معتدّ به من الملاك، كما عن مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وحينئذ إن وجد دليل على الأمر الاضطراريّ، كان بنفسه دليلا اجتهاديّاً على الإجزاء ببرهان مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله)الذي مضى، وإن لم يوجد دليل على ذلك، صار الأمر كما يقوله المحقّق العراقيّ (رحمه الله)دائراً بين التعيين والتخيير؛ إذ لو كان كلّ الملاك أو جلّه موجوداً في الجامع بين العمل الاختياريّ والاضطراريّ، لزم التخيير، ولو لم يكن العمل الاضطراريّ مشتملا على جلّ الملاك أو كلّه، كان العمل الاختياريّ واجباً تعيينيّاً، فجريان البراءة أو الاشتغال في المقام يتفرّع على المبنى في مبحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فكلّ على مبناه.

وأمّا الفرض الثاني: وهو ما لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال كون الباقي غير قابل للتدارك بعد العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام، فقد ذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله): أنّ الشكّ في التكليف هنا نشأ من الشكّ في القدرة، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال، لا البراءة.

أقول: إنّ فرضيّة بقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام غير قابل للتدارك بعد



(1) صفة لكلمة الزائد، لا لكلمة الجامع.

304

الإتيان بالفعل الاضطراريّ فيها عدّة مباني:

المبنى الأوّل: أن يلتزم على هذا الفرض بتعلّق الأمر بالجامع بين الفعل الاختياريّ والفعل الاضطراريّ، والترخيص في تطبيق الجامع على الفعل الاضطراريّ بالرغم من أنّه يوجب تفويت جزء من الملاك اللزوميّ؛ وذلك لافتراض وجود مصلحة في إطلاق العنان يتدارك بها مفسدة التفويت، وبناءً على هذا يكون حال هذا الفرض حال الفرض الأوّل، وهو فرض كون الإجزاء على أساس استيفاء الملاك، فإنّه هنا وإن لم يستوفِ الملاك، لكن استوفى ما به يتدارك مفسدة التفويت، فيأتي هنا كلّ ما شرحناه في الفرض الأوّل بما فيه من المباني الثلاثة.

المبنى الثاني: مبنى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) حيث كان يفرض: أنّ بإمكان المولى الأمر التعيينيّ بالصلاة الجلوسيّة مثلا لرفع حكم العقل بقبح التفويت، على ما مرّ سابقاً، وهذا معناه: أنّه لا يريد التحفّظ حقيقة على الصلاة القياميّة إذا أتى العبد بالصلاة الاضطراريّة؛ إذ لا يعقل أن يأمر بالصلاة الجلوسيّة تعييناً، ومع ذلك يريد التحفّظ على الصلاة القياميّة، فيكون عدم الإتيان بالصلاة الجلوسيّة قيداً في وجوب الصلاة القياميّة، فإذن وجوب الصلاة القياميّة ـ على تقدير عدم الإتيان بالصلاة الجلوسيّة ـ معلوم على كلّ حال، ولكن وجوبها على تقدير الإتيان بالصلاة الجلوسيّة غير معلوم؛ إذ لعلّ الملاك الفائت غير قابل للاستيفاء، فتجري البراءة عنه، ولا مجال لحديث الشكّ في القدرة؛ لأنّ الشكّ في القدرة إنّما يكون مجرىً لأصالة الاشتغال إذا كان الشكّ في القدرة على ما علم بدخوله في عهدة المكلّف، والغرض الذي لم يتصدَّ المولى إلى تحصيله لا يكون داخلا في عهدة المكلّف، فما يدخل في عهدته هنا إنّما هو الواجب، وهو الصلاة القياميّة، ولا شكّ في قدرته عليه، وإنّما المشكوك قدرته عليه هو الغرض، وهو لا يدخل في العهدة،

305

إلّا بالمقدار الذي تصدّى المولى إلى تحصيله، فالتفويت القطعيّ جائز، فكيفبالتفويت الاحتماليّ.

فإن قلت: إنّه يعلم إجمالا على هذا المبنى: إمّا بالوجوب التعيينيّ للصلاة الجلوسيّة، كما لو كان باقي الملاك غير قابل للتدارك، أو بإطلاق وجوب الصلاة القياميّة لصورة الإتيان بالصلاة الجلوسيّة كما لو كان باقي الملاك قابلا للتدارك، وهذا العلم الإجماليّ منجّز للتكليف.

قلت: إنّ هذا العلم الإجماليّ ليس منجّزاً حتّى لو كان الإلزام بالصلاة الجلوسيّة ـ على تقدير عدم إمكان تدارك الباقي ـ إلزاماً حقيقيّاً، لا شكليّاً لأجل رفع قبح تفويت الغرض؛ وذلك لأنّ أحد طرفي العلم الإجماليّ تقديريّ، فلا يكون علماً إجماليّاً بالتكليف الفعليّ على كلّ تقدير، فإنّ إطلاق وجوب الصلاة القياميّة الذي هو أحد طرفي العلم الإجماليّ معناه: أنّه لو أتى بالصلاة الجلوسيّة كانت الصلاة القياميّة بعد ارتفاع العذر واجبة عليه، وأمّا وجوبها لو لم يأتِ بالصلاة الجلوسيّة فمعلوم بالعلم التفصيلي.

نعم، يصبح العلم الإجماليّ علماً إجماليّاً بالتكليف الفعليّ بعد تحقّق الشرط خارجاً، بأن يأتي بالصلاة الجلوسيّة ومعه يخرج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، فعلى أيّ حال لا يعلم بتكليف فعليّ داخل في محلّ الابتلاء(1).



(1) إلّا إذا علم في أوّل الوقت بأنّه سيصلّي من جلوس قبل البرء، وسيبرأ عن المرض قبل انقضاء الوقت، فيحصل له العلم الإجماليّ بالتكليف الفعليّ بالصلاة الجلوسيّة في أوّل الوقت أو القياميّة في آخره.

إلّا أنّ هذا العلم الإجماليّ ـ على أيّ حال ـ لا تنجيز له، كما أشار إليه اُستاذنا الشهيد

306

هذا مهمّ ما ينبغي أن يقال على المبنى الثاني.

المبنى الثالث: أن يقال بأنّه بناءً على فوت الملاك الملزم بالصلاة الجلوسيّة، لا يعقل الأمر، لا بالجامع ولا بخصوص الصلاة الجلوسيّة؛ لأنّ كلّ واحد منهما يوجب تفويت الملاك، ومعنى ذلك: أنّ المولى لا يرضى بالتفويت، إذن فيأخذ عدم الإتيان بالصلاة الجلوسيّة قيداً في الواجب الاختياريّ، أي: أنّه يأمر بالصلاة القياميّة المقيّدة بأن لا تكون قبلها صلاة جلوسيّة، بينما لو لم يكن الإتيان بالجلوسيّة موجباً لعدم إمكان تدارك باقي الملاك، يأمر بالصلاة القياميّة بلا قيد، فما نحن فيه يدخل ـ على هذا ـ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، فوجوب الأقلّ وهو أصل الصلاة القياميّة معلوم، والقيد مشكوك، فتجري البراءة عن القيد، ويتنجّز عليه المطلق(1)، كما هو الحال في كلّ موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

هذا لو كان ملتفتاً من أوّل الأمر.

أمّا لو تخيّل أنّه سوف يبقى معذوراً إلى آخر الوقت، فأتى بالصلاة الجلوسيّة، ثُمّ ارتفع عذره قبل انتهاء الوقت، فيشكّ في وجوب الصلاة القياميّة عليه الآن، فتجري البراءة عن ذلك؛ إذ على تقدير كون الواجب هو المقيّد قد خرج عن محل ابتلائه، وسقط بالعجز، فمن حين تنبّهه والتفاته يشكّ في الوجوب المطلق للصلاة القياميّة،



في المتن؛ لأنّ المفروض لدى الشيخ العراقيّ (رحمه الله): أنّ التكليف الإلزاميّ بالصلاة الجلوسيّة لا رُوح له؛ فإنّه إنّما جعل لحلّ المشكلة العقليّة، حيث إنّه لولاه لما كان يسمح العقل بتطبيق الجامع على الفرد المرجوح، فهذا التكليف الإلزاميّ في قوّة التكليف الترخيصيّ.

(1) وهذا يعني عدم الإجزاء بعد فرض نفي احتمال الإجزاء بنكتة وفاء العمل الاضطراريّ بتمام الملاك.

307

وينفيه بالبراءة. ولا مجال لحديث الشكّ في القدرة؛ إذ محلّه ما لو تعيّن الواجب وشكّ في القدرة عليه وعدمها، لا ما إذا تردّد الواجب بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه.

هذا صفوة القول في المقام.

الاعتراض الثاني: أنّه بناءً على مبنى صاحب الكفاية من حجّيّة الاستصحاب التعليقيّ، يمكن أن يجري في المقام استصحاب الوجوب تعليقاً، فإنّه لو كان قبل إتيانه بالصلاة الجلوسيّة قد زال عذره لوجبت عليه الصلاة القياميّة، فالآن أيضاً كذلك، فتجب عليه الصلاة القياميّة.

والجواب: أنّنا لا نقطع بأنّه لو كان قبل إتيانه بالصلاة الجلوسيّة قد زال عذره، لوجبت عليه الصلاة القياميّة؛ إذ على فرض الإجزاء ـ أو على الأقلّ خصوص الإجزاء بملاك الاستيفاء ـ يكون الواجب في ما قبل زوال العذر إلى ما بعد زواله هو الجامع، إلّا أنّ المصداق الخارجيّ لهذا الجامع في مقام التطبيق يختلف باختلاف وجود العذر وارتفاعه، فإن اُريد استصحاب وجوب الصلاة القياميّة تعليقاً، فلا علم بوجوب تعليقيّ من هذا القبيل، وإن اُريد استصحاب الانحصار في التطبيق في الصلاة القياميّة على تقدير ارتفاع العذر، فليس هذا حكماً شرعيّاً وأثراً مولويّاً ليجري الاستصحاب بلحاظه، بل هو أمر عقليّ من باب تعذّر أحد فردي الجامع.

فتحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ البراءة جارية بلا إشكال.

هذا كلّه في الإعادة إذا زال العذر في أثناء الوقت.

ارتفاع العذر بعد الوقت:

وأمّا المسألة الثانية: وهي ما إذا ارتفع العذر بعد انقضاء الوقت، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟

فالكلام في ذلك يقع في ثلاثة مقامات:

308

1 ـ إنّ دليل وجوب القضاء هل يقتضي بإطلاقه القضاء على من أتى بالصلاة الاضطراريّة في داخل الوقت، ثُمّ زال عذره في خارج الوقت، أو لا؟

2 ـ لو كان في دليل القضاء إطلاق لما نحن فيه، فهل لدليل الأمر الاضطراريّ اقتضاء للإجزاء بحيث يقيّد إطلاق دليل القضاء، أو لا؟

3 ـ إن لم يوجد لا في دليل القضاء اقتضاء عدم الإجزاء، ولا في دليل الأمر الاضطراريّ اقتضاء الإجزاء، فما هو مقتضى الاُصول العمليّة؟

أمّا المقام الأوّل: وهو أنّه هل لدليل القضاء إطلاق يمنع عن الإجزاء بعد أن كان دليل الأمر الأوّليّ ساقطاً حتماً، أو لا؟

فبما أنّ الاُصوليّ وظيفته درس الصيغ الكلّيّة، نقول: إنّ الحال يختلف باختلاف استظهار وتشخيص ما هو الموضوع في دليل وجوب القضاء، فلو كان الموضوع هو فوت الفريضة الفعليّة، فلا موضوع هنا للقضاء بلا إشكال؛ لأنّه قد أتى بالفريضة الفعليّة، فإنّ فريضته الفعليّة في الوقت كانت عبارة عن الصلاة الاضطراريّة وقد أتى بها. ولو كان الموضوع هو فوت الفريضة الشأنيّة، أعني: فوت ما هو واجب لولا الطواري، فلا إشكال في وجوب القضاء؛ لأنّ الواجب لولا الطواري هي الصلاة الاختياريّة وقد فاتت. ولو كان الموضوع هو خسارة الملاك وفوته، لا فوت الواجب الفعليّ أو الشأنيّ، فيكون المقام شبهة مصداقيّة لدليل وجوب القضاء؛ إذ على تقدير الإجزاء ـ أو على الأقلّ على تقدير الإجزاء بملاك الاستيفاء ـ لم يفت الملاك، وعلى تقدير عدم الإجزاء فات الملاك، ولا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

نعم، قد يحرز موضوع دليل القضاء بالاستصحاب، وذلك إذا كان المقصود من فوت الملاك الأمر العدميّ، أي: عدم حصول الملاك، فيحرز ذلك بالاستصحاب. وأمّا إذا كان الموضوع فوت الملاك بمعنىً وجوديّ، بأن قصد به عنوان الخسارة المنتزع من

309

الأمر العدميّ، فلا يمكن إحراز ذلك بالاستصحاب، إلّا على نحو الأصل المثبت.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وفقاً لصيغ متعدّدة، ويكون استظهار إحدى الصيغ في ذمّة الفقه.

وأمّا المقام الثاني: فلو كان لسان دليل الحكم الاضطراريّ لسان جواز البدار، وقلنا في صورة ارتفاع العذر في الأثناء بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة، فعدم وجوب القضاء أوضح، بلا حاجة إلى استيناف كلام(1).

أمّا لو فرض مثلا: أنّه لم يكن بلسان جواز البدار، بل كان مختصّاً بصورة استمرار العذر إلى آخر الوقت، فحينئذ نرجع إلى الوجوه الخمسة للإجزاء التي ذكرناها في صورة ارتفاع العذر في الأثناء، فنقول:

الوجه الأوّل: كان هو دعوى الملازمة العقليّة بين الأمر الاضطراريّ والإجزاء، فلو تمّ ذلك في صورة ارتفاع العذر في الأثناء مع فرض جواز البدار، هل يتمّ في المقام، أو لا؟



(1) الفروض المتصوّرة في المقام ثلاثة:

الأوّل: كون لسان دليل الحكم الاضطراريّ شاملا لمن برئ في أثناء الوقت مع القول بدلالته على الإجزاء عن الإعادة، وهنا يكون الإجزاء عن القضاء واضحاً بلا كلام، كما جاء في المتن.

والثاني: كون لسان دليل الحكم الاضطراريّ شاملا لمن برئ في أثناء الوقت مع عدم القول بدلالته على الإجزاء عن الإعادة، وهنا نقول: إنّ دليل الحكم الاضطراريّ لا يدلّ أيضاً على الإجزاء عن القضاء؛ لأنّ وجوه الدلالة منحصرة في الوجوه الخمسة الماضية، والمفروض بطلانها، وإلّا لثبت الإجزاء عن الإعادة.

والثالث: كون لسان دليل الحكم الاضطراريّ غير شامل لمن برئ في أثناء الوقت، وهنا نرجع إلى الوجوه الخمسة للإجزاء... إلى آخر ما ورد في المتن.

310

قد يقرّب تماميّة ذلك في المقام بتقريب: أنّ القيام في الصلاة مثلا: إمّا أنّه دخيل في ملاك الصلاة الأدائيّة، حتّى مع عدم القدرة على القيام، أو لا، فلو كان دخيلا في ذلك حتّى مع عدم القدرة، فلا معنى للأمر بالصلاة الجلوسيّة في الوقت، ولو لم يكن دخيلا في ذلك عند العجز عن القيام، كان ذلك مستلزماً للإجزاء؛ إذ لو صلّى من جلوس للعجز في تمام الوقت عن القيام، لم يفته شيء من الملاك حتّى يحتاج إلى القضاء.

إلّا أنّ الصحيح: عدم تماميّة ذلك في المقام؛ إذ هناك احتمال ثالث، وهو أن يكون القيام دخيلا في جزء من ملاك الصلاة الأدائيّة، وغير دخيل في الجزء الآخر، فيكون المولى قد أمر بالصلاة الأدائيّة من جلوس حفاظاً على ملاك الصلاة الأدائيّة بلحاظ ذلك الجزء الذي لا يكون القيام دخيلا فيه، وأمر بالقضاء تداركاً لذلك الجزء الذي كان القيام دخيلا فيه، فقد فات بفوت القيام في الصلاة، فهذا الوجه، أعني: الملازمة العقليّة لو تمّ فيما سبق، لا يتمّ في المقام.

الوجه الثاني: الإطلاق المقاميّ حينما نعرف أنّ المولى في مقام بيان تمام الوظيفة.

وهذا أيضاً إن تمّ في ما مضى، لا يتمّ هنا إلّا بمؤونة زائدة؛ إذ حتّى لو كان المولى في مقام بيان تمام الوظيفة فالصلاة الجلوسيّة هي تمام وظيفته بلحاظ الأمر الأدائيّ لفرض استمرار العذر، إلّا إذا أحرز بعناية زائدة أنّه بصدد بيان تمام الوظيفة حتّى بلحاظ تبعات المطلب بعد الوقت.

الوجه الثالث: التمسّك بالإطلاق عند ما يكون لسان الدليل لسان البدليّة والتنزيل، فيدلّ على البدليّة والتنزيل بلحاظ تمام المراتب.

وهذا لو تمّ، يتمّ في المقام أيضاً؛ فإنّ إطلاق البدليّة والتنزيل يدلّ هنا أيضاً على

311

استيفاء كلّ مراتب الملاك، فلا يبقى مجال للقضاء(1).

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من فرض الدلالة على الإجزاء بلحاظ ظهور الأمر في التعيين الذي لا يناسب عنده إلّا مع الإجزاء، وهذا لو تمّ هناك لا يتمّ هنا؛ إذ هنا لابدّ من كون الأمر تعيينيّاً على كلّ تقدير؛ لأنّ العذر مستوعب لتمام الوقت، فلا يبقى للعبد في داخل الوقت إلّا الفعل الاضطراريّ.

الوجه الخامس: ما حصّلناه من كلمات المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): من أنّ عدم الإجزاء إنّما يكون إذا كانت المرتبة العالية للملاك مرتكزة في خصوصيّة الصلاة الاختياريّة، وهي القيام، ولو كان كذلك وجب أن يكون الأمر بعد زوال العذر متعلّقاً بالخصوصيّة، لا بذي الخصوصيّة، بينما لا يدلّ ظاهر الدليل على ذلك.

وهذا لو تمّ فيما سبق، لا يتمّ في المقام إذا كان دليل القضاء مثل لسان «اقضِ ما فات كما فات»؛ فإنّ هذا اللسان لا ينحصر مفاده بالأمر بذي الخصوصيّة، فإنّه إذا استمرّ العذر إلى آخر الوقت، فلم يصلِّ إلّا من جلوس، صدق الفوت أيضاً على الخصوصيّة، فيشملها قوله: «اقضِ ما فات كما فات».

وأمّا المقام الثالث: وهو أنّه لو عجزنا عن الدليل الاجتهاديّ، فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟



(1) أمّا لو أخذنا بتقريبه الآخر الذي ذكرناه في ذيل الوجه الثالث تحت الخطّ ـ أو قل: في ذيل التقريب الثاني من تقريبات الاستظهار تحت الخطّ ـ: من استظهار البدليّة في التكليف لا في الآثار والملاكات، فهذا التقريب لا يأتي هنا، أي: أنّه لو فرض: أنّ دليل البدليّة لم يشمل فرض البرء في الأثناء، واختصّ بالمريض الذي أطبق مرضه على كلّ الوقت، وفرض: أنّ دليل القضاء كان موضوعه من فاتته الفريضة الشأنيّة، أي: لولا الطوارئ، فالذي برئ بعد الوقت يثبت عليه القضاء، ولا يكون دليل الأمر الاضطراريّ دالّاً على الإجزاء عن القضاء بشأنه.

312

فقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ مقتضى الأصل العمليّ هو البراءة، وذكر: أنّ جريان البراءة عن القضاء يكون بطريق أولى من جريان البراءة عن الإعادة في الوقت(1).

والتحقيق: أنّه تارةً نفترض: أنّ القضاء ليس بأمر جديد، كما لو كان نفس الأمر الأوّل في الحقيقة أمرين: أحدهما: الأمر بجامع الصلاة الأعمّ من الصلاة في الوقت وخارجه، والثاني: الأمر بإيجاد الصلاة في الوقت، واُخرى نفترض: أنّ القضاء بأمر جديد، موضوعه الفوت.

أمّا في الفرض الأوّل، فالصحيح هو جريان البراءة من باب: أنّ الصحيح في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو البراءة؛ فإنّ ما نحن فيه من هذا القبيل. وتوضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ هذا الشخص مأمور بأمر تعيينيّ ـ إمّا بالأصالة، أو من باب تعذّر أحد الفردين ـ بالصلاة الجلوسيّة داخل الوقت، وهو مأمور بأمر آخر الذي هو عبارة عن الأمر بالجامع بين الصلاة في الوقت والصلاة خارجه، وهذا الأمر بالجامع مردّد بين أن يكون أمراً بخصوص الصلاة القياميّة، فلا إجزاء، أو أن يكون أمراً تخييريّاً بالجامع بين الصلاة القياميّة بلا قيد الوقت والصلاة الجلوسيّة الاضطراريّة في الوقت، فيثبت الإجزاء. فإذا قلنا بالبراءة عن التعيين عند الدوران بين التعيين والتخيير، تجري البراءة هنا، ولكن ليست البراءة هنا بأولى من البراءة عن الإعادة في ما لو ارتفع العذر في الأثناء، بل الأمر على العكس، فإنّه كان يلزم هناك دوران الأمر بين التعيين والتخيير مع تيقّن وجوب الجامع بحدّه الجامعيّ، بينما هنا ليس الأمر هكذا، فإنّه بلحاظ الأمر الثاني لا علم لنا بوجوب الجامع بين الصلاة القياميّة والصلاة الجلوسيّة.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 130 بحسب طبعة المشكينيّ.

313

وأمّا في الفرض الثاني، فالبراءة تجري عن وجوب القضاء بلا إشكال، وهي هنا أولى منها عن الإعادة في ما لو ارتفع العذر في الأثناء؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ الشكّ هنا شكّ بدويّ في أصل التكليف، بينما هناك كان على بعض المباني تردّداً بين التعيين والتخيير، وعلى بعض المباني تردّداً بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

الثاني: أنّ إشكال إثبات الوجوب بالاستصحاب التعليقيّ الذي مضى هناك يكون هنا أوضح بطلاناً؛ لأنّه لا يصحّ أن نقول مثلا: لو كان قد انتهى الوقت قبل أن يصلّي من جلوس، كان يجب عليه الصلاة من قيام، والآن كما كان؛ وذلك ـ بغضّ النظر عن الإشكال الماضي هناك ـ لأنّ وجوب القضاء موضوعه الفوت، لا انتهاء الوقت، فيرجع الاستصحاب إلى قولنا: لو انتهى الوقت قبل هذا، لفاته الواقع، والآن كما كان، وهذا يكون من الاستصحاب التعليقيّ في الموضوعات، وهو لا يجري حتّى لو قلنا بجريانه في الأحكام.

314

إجزاء الأمر الظاهريّ

المقام الثاني: في إجزاء الأمر الظاهريّ عن الواقع وعدمه.

والكلام تارةً يقع في فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، واُخرى في فرض تبدّل الحكم الظاهريّ:

أمّا إذا فرض انكشاف الخلاف بالجزم واليقين، فمقتضى الطرحة الأوّليّة للكلام هو القول بعدم الإجزاء؛ إذ الحكم الظاهريّ في مرتبة متأخّرة من الحكم الواقعيّ، وفي طوله، وموضوعه الشكّ في الحكم الواقعيّ، فهو لا يتصرّف في الحكم الواقعيّ، فيكون الحكم الواقعيّ باقياً على حاله، ويتطلّب ـ لا محالة ـ من العبد الإعادة أو القضاء، إلّا أنّه قد يقرّب الإجزاء بعدّة تقريبات، أهمّها تقريبان:

التقريب الأوّل: ما ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه الله) من التفصيل بين حكم ظاهريّ ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع، كأصالة الحلّ والطهارة في رأيه، وحكم ظاهريّ ثبت بلسان إحراز الواقع وإن كان لبّاً حكماً ظاهريّاً وراء الواقع، ففي الأوّل مقتضى القاعدة الإجزاء، بخلاف الثاني، فمثلا لو صلّى مع أصالة الطهارة ثُمّ انكشف الخلاف، فمقتضى القاعدة الإجزاء؛ لأنّ دليل أصالة الطهارة يوسّع من موضوع دليل اشتراط الطهارة في الصلاة، فتصبح الصلاة واجدة لشرطها، بينما لو صلّى مع إثبات الطهارة بالأمارة مثلا، فهذه الأمارة لا تفيد شيئاً بعد انكشاف الخلاف؛ إذ إنّ شرط صحّة الصلاة غير موجود؛ لعدم الطهارة، لا طهارة واقعيّة بحسب الفرض، ولا طهارة ظاهريّة؛ لأنّ الدليل لم يدلّ على جعل طهارة ظاهريّة(1).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 133 ـ 134 بحسب طبعة المشكينيّ.

315

وقد اُورد على ذلك من قبل مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بعدّة إيرادات:

منها: ما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ حكومة دليل على دليل قد تكون واقعيّة، ويكون دليل الحاكم في عرض دليل المحكوم، من قبيل «الطواف بالبيت صلاة» الحاكم على دليل اشتراط الطهارة في الصلاة، وحينئذ لا بأس بتوسعة موضوع دليل المحكوم، أو تضييقه بدليل الحاكم، واُخرى تكون حكومة ظاهريّة، ويكون دليل الحاكم في طول المحكوم، وفي المرتبة المتأخّرة عنه، واُخذ في موضوعه الشكّ في المحكوم، وحينئذ فلا يعقل صيرورته موسِّعاً أو مضيِّقاً حقيقة لموضوع دليل المحكوم؛ إذ هو في مرتبة متأخّرة عنه، فيتمحّض دور هذا الحاكم في مقام تشخيص الوظيفة العمليّة عند الشكّ، فلا معنى للإجزاء، وأصالة الطهارة مثلا من هذا القبيل؛ لأنّها حكم ظاهريّ موضوعه الشكّ في الواقع، فهو في مرتبة متأخّرة عن الواقع وفي طوله، ولا يعقل توسيعه للواقع(1).

ويرد عليه: أنّ دليل أصالة الطهارة إنّما هو في طول الحكم الواقعيّ من ناحية الطهارة والنجاسة، أي: أنّ موضوعه هو الشكّ في طهارة الثوب مثلا ونجاسته، فحكومته على دليل نجاسة ملاقي البول مثلا حكومة ظاهريّة، فهو يحكم بالطهارة ظاهراً دون أن يضيّق دائرة موضوع الحكم بالنجاسة، أو يوسّع دائرة موضوع الحكم بالطهارة واقعاً، وليس مدّعى صاحب الكفاية كون أصالة الطهارة موسّعة أو مضيّقة لموضوع دليل الطهارة والنجاسة حتّى يقال: إنّها في طول الحكم الواقعيّ،



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 250 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 198 ـ 199 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وراجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 255 ـ 258 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

316

فلا توسّع أو تضيّق موضوع الحكم الواقعيّ، وإنّما مدّعاه كون أصالة الطهارة موسّعة لموضوع حكم واقعيّ آخر، وهو الحكم بوجوب إيقاع الصلاة في الثوب الطاهر، وأصالة الطهارة ليست في طول هذا الحكم، ولم يؤخذ في موضوعها الشكّ في هذا الحكم حتّى يستدلّ بهذه الطوليّة على عدم الحكومة الواقعيّة، والتوسيع الواقعيّ لموضوع الحكم.

ومنها: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وأمضاه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أيضاً، وهو أنّ الحكومة في نظر صاحب الكفاية ـ على ما يذكره في بحث التعادل والتراجيح(1) ـ منحصرة في التفسير اللفظيّ بمثل: أي وأعني، بينما أصالة الطهارة ليس لسانها لسان التفسير لدليل وجوب إيقاع الصلاة في الطاهر(2).

والجواب: أنّ من الجائز أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) لا ينظر هنا إلى الحكومة بمعنى التنزيل وإسراء الحكم، وإنّما يدّعي توسعة الموضوع حقيقة التي هي ـ في الحقيقة ـ عبارة عن الورود لا الحكومة، فكأنّما يريد أن يقول: إنّ الدليل الذي دلّ على اشتراط الطهارة في الصلاة إنّما دلّ على اشتراط مطلق الطهارة، سواء فرضت واقعيّة أو ظاهريّة، وأصالة الطهارة تولّد حقيقة فرداً من الطهارة، وهي الطهارة الظاهريّة، وكون مبنى صاحب الكفاية: أنّ الحكومة لا تتمّ إلّا بالنظر التفسيريّ اللفظيّ قرينة على أنّ مراده هنا هو ما ذكرناه، فإنّ اشتراط التفسير اللفظيّ إنّما يقوله صاحب الكفاية في الحكومة بمعنى التنزيل والادّعاء استطراقاً إلى إسراء الحكم، ولا يقوله هو ولا غيره في إيجاد فرد حقيقيّ للموضوع؛ ولذا يقول صاحب الكفاية بورود الأمارات على الاُصول مع أنّه ليس من أدلّتها تفسير بمثل: أي وأعني.



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 376 و 379 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 249 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 198 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

317

ومنها: ما اتّفق أيضاً عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من النقض بسائر أحكام الطهارة، من قبيل اشتراط طهارة الماء في الوضوء، ومن قبيل الحكم بطهارة الملاقي إذا كان الملاقى طاهراً ونحو ذلك، حيث لا يظنّ بصاحب الكفاية، ولا بأيّ فقيه آخر أن يقول مثلا: لو توضّأ أحد بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، ثُمّ انكشف الخلاف، صحّ وضوؤه، ولو لاقت يده مع ما ثبتت طهارته بأصالة الطهارة، ثُمّ انكشفت نجاسته، لم تنجس يده(1).

ولصاحب الكفاية (رحمه الله) أن يجيب عن هذه النقوض بفرضيّة اُصوليّة عهدة إثباتها صغروريّاً، أو نفيها كذلك في ذمّة الفقه، وذلك بأن يقول: إنّ أصالة الطهارة إنّما توسّع موضوع حكم اُخذ فيه الطهارة، ولا تضيّق موضوع حكم اُخذ فيه النجاسة؛ وذلك لأنّ أصالة الطهارة توجد طهارة اُخرى ظاهريّة في مقابل الطهارة الواقعيّة، ولا تُفني النجاسة الواقعيّة، فإذا ثبت في الفقه أنّ الطهارة هي الشرط في الصلاة، ولكن النجاسة هي المانعة عن صحّة الوضوء، أو الموجبة لتنجّس الملاقي، كان التفصيل بين دليل شرطيّة الطهارة في الصلاة من ناحية، ومثل دليل عدم صحّة الوضوء بالماء النجس، أو تنجّس ملاقي النجس من ناحية اُخرى بأن يحكم دليل أصالة الطهارة على الأوّل دون الأخيرين أمراً معقولا.

فإن قلت: إنّ أصالة الطهارة التي تدلّ بالمطابقة على إثبات الطهارة لو لم تدلّ بالملازمة العرفيّة على نفي النجاسة، فكيف يصحّح صاحب الكفاية الوضوء بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة بناءً على كون النجاسة مانعة عن الوضوء! فإنّه لا إشكال في أنّه يُبنى على صحّة الوضوء ظاهراً مادام الشكّ، مع أنّه لم يثبت عدم



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 251 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 199 ـ 200 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 254 ـ 255 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.