520

 

 

 

مفردات الحديث

 

المقام الثالث: في البحث عن مفردات الحديث. وفيه مفردتان: (ضرر)، و(ضرار):

أمّا كلمة (الضرر) فقد اختلفت كلمات أهل اللغة في معناها، فذكر بعضهم أنّ معنى الضرر هو: النقص في المال، أو النفس، أو الطرف، أو العرض، وآخر أنّ معنى الضرر هو: الشدّة، والحرج، والضيق.

والصحيح الملائم للجمع بين كلا التفسيرين هو: أنّ الضرر عنوان ينتزع من النقص عند صيرورته منشأً للشدّة والضيق النفسي، فالنقص وحده لا يصدق عليه الضرر، كما إذا فرض أنّه ضاع من شخص متموّل دينار لم يكن يوجب أيّ ضيق في حاله، كما أنّ مجرّد الضيق النفسي بغض النظر عن أيّ نقص لا يصدق عليه الضرر، فكلّ واحد من التفسيرين قد تناول جانباً من جانبي الضرر.

ولا يشترط حصول الضيق النفسي بالفعل، بل يكفي كونه مقتضياً لحصول الضيق النفسي، ولو لم يحصل بعدُ، كمن احترق بيته مثلاً وهو لا يعلم بعد بذلك.

هذا. والضرر يكون في مقابل النفع، فالنفع ـ أيضاً ـ يصدق إذا تحقّق أمران: الزيادة، وحصول الانبساط النفسي ولو شأناً.

ثمّ إنّ الضرر ينقسم الى مطلق ومقيّد وذلك من ناحيتين:

الناحية الاُولى: من حيث الموضوع أي: نفس الضرر، فالضرر قد يكون مطلقاً، واُخرى مقيّداً، من قبيل الماء المطلق والمضاف، فمثال الضرر المطلق احتراق دار شخص مثلاً، ومثال الضرر المقيّد عدم الربح في التجارة، فإنّ هذا ضرر على زيد مثلاً، لكنّه ليس ضرراً عليه بما هو، كما هو الحال في الضرر المطلق، بل يكون ضرراً عليه بما هو ذو غرض نفعيّ تجاري، فهذا ضرر مقيّد، وحديث (لا ضرر) لا يشمل الضرر المقيّد، وإنّما يشمل الضرر المطلق من قبيل أنّ دليل التطهير بالماء مثلاً لا يشمل الماء المضاف كماء الرمان، وإنّما يشمل الماء المطلق.

نعم، قد يتّفق في الضرر المقيّد أنّ جهة صدق الضرر شائعة متعارفة ملتصقة

521

بالإنسان الى حدّ يتراءى بحسب النظر العرفي كأنّه ضرر مطلق. ولا مؤونة في إطلاق كلمة (الضرر) عليه بلا قيد، فيشمله حديث (لا ضرر)، وذلك كما في تخلّف الأغراض المعامليّة من الشروط الضمنيّة والصريحة حيث يحكم فيها بالخيار بقاعدة لا ضرر، فإنّ جهة صدق الضرر وهي الغرض المعاملي كأنّها لا تعتبر قيداً في نظر العرف؛ لشدّة التصاقها بالإنسان، فكأنّ الضرر مضاف ابتداءً الى الشخص بما هو شخص.

الناحية الثانية: من حيث الناظر والحاكم بصدق الضرر، فقد يكون الضرر مطلقاً كما في قطع اليد مثلاً، واُخرى يكون مقيّداً أي: بلحاظ بعض الأنظار والقوانين دون بعض، كأن تحكم الدولة مثلاً بعدم مالكيّة الشخص لما أحياه من الأرضين، فإنّ هذا ضرر في نظر النظام الرأسمالي أو الإسلامي، لا في نظر النظام الشيوعي مثلاً، وحديث (لا ضرر) يشمل الضرر المطلق . وأمّا الضرر المقيّد المختلف باختلاف الأنظار، فإن استفدنا كونه ضرراً بنظر الشارع من نفس حديث (لا ضرر) - على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه ـ(1) أو من أيّ دليل آخر، شمله حديث (لا ضرر).

وإن لم يكن ضرراً بنظر الشارع الذي حكم بقاعدة لا ضرر فالضرر في كلامه غير شامل لذلك.

ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الضرر هو النقص في المال، أو النفس، أو العرض، ونحن نستبدل كملة العرض بكملة الكرامة حتّى تكون أشمل.

وقد يستشكل في عطف العرض على المال والنفس لما يُرى من عدم صدق الضرر على العرض إذا نظر الأجنبي الى واحد من حريم الشخص مثلاً، مع أنّه لم يحفظ حقّ عرضه.


(1) الذي سوف يأتي في آخر المقام الخامس وهو في فقه الحديث بلحاظ جملة (لا ضرر) هو أنّ لا ضرر يشمل زائداً على الأضرار الحقيقية الأضرار الارتكازيّة في عرف زمان الشارع، وذلك إمّا بإطلاق لفظي بلحاظ أنّ الشارع هو فرد من أفراد العرف ويخاطب العرف، أو بإطلاق مقامي، بأن يحمل الضرر في لسان الشارع على معنى ما هو ضرر في نظر الشارع، ويقال: إنّ الإطلاق المقامي دلّ على اعتماد الشارع في تعيين ما هو الضرر عنده زائداً على الأضرار الحقيقية على الارتكاز والنظر العرفي السائد وقتئذ في المجتمع الذي كان يعيش به الشارع، فالشارع قد اعتمد الارتكاز العرفي قرينة على مراده، إذن فما اختاره (رحمه الله) هنا هو أحد الوجهين اللذين ذكرهما في ما يأتي.

522

ولكنّ التحقيق: أنّ هذا خلط بين إيجاد النقص في العرض والكرامة، وعدم مراعاة حقّ العرض والكرامة، والضرر هو الأوّل دون الثاني، وهذا المثال من الثاني دون الأوّل، وهذا نظير إيراد الضرر على الأموال المملوكة للإنسان، فإنّ معنى الإضرار بها هو نقصها لا عدم مراعاة حرمتها، فمن طالع في كتاب شخص مثلاً بدون إذنه من دون إيراد أيّ نقص عليه لم يضرّ بماله، لكنّه لم يحفظ حقّ ماله من عدم جواز التصرّف فيه بدون إذنه، وهكذا الحال فيما نحن فيه، فإنّ هذا الناظر الى حريمه لم يُنقِص شيئاً من عرضه وكرامته حتّى يكون إضراراً بالعرض، غاية الأمر أنّه لم يحفظ حقّ العرض والكرامة، ونظير ذلك أنّه من شتم شخصاً من دون أن يسبّب ذلك نقصاً في كرامته فهذا لم يراع حقّ كرامة هذا الشخص، لكنّه لم يورد أيّ ضرر على كرامته، وقد يكون السابّ إنّما أضرّ بكرامة نفسه لا بكرامة من سبّه. نعم لو تكلّم عليه عند الناس بما أوجب انحطاطه في أعين الناس والنقص في كرامته كان ذلك ضرراً على كرامته.

ثمّ إنّه قد تستبدل كلمة النقص بفعل ما يحقّق مكروهاً للشخص فيشمل موارد اُخرى للضرر قد لا تكون مشمولة للنقص، وذلك من قبيل ما إذا فرضنا أنّ شخصاً يمنع عن اشتراك زيد في أيّ شركة من الشركات، وذلك عن طريق التقائه بأصحاب تلك الشركات وصرفهم عن قبول زيد في شركاتهم، فيبقى زيد بلا شغل فهو لم ينقص شيئاً من زيد، لكنّه مع ذلك قد أضرّه حتماً، ومثل ذلك: ما إذا منع السلطان أهل بلد من الخروج من ذلك البلد ظلماً وعدواناً من دون أن ينقص منهم أيّ شيء من أموالهم وكرامتهم وغير ذلك، فهذا ضرر بلا إشكال مع أنّه ليس نقصاً.

والتحقيق: أنّ هذا النحو من الإضرار ـ أيضاً ـ يمكن إدخاله في النقص، فإنّه إيراد للنقص على حقّ العمل وحقّ الحرية ونحو ذلك من العناوين، وهذا النحو من الأضرار داخل في قاعدة (لا ضرر) فإنّه مضافاً الى أنّ العرف يرى كلمة (الضرر) شاملة لهذه الأضرار يكون مورد الرواية من هذا القبيل، فإنّ عدم إعلام سمرة حينما يريد المرور ليس إيراداً للنقص على عرض الأنصاري وكرامته كما ظهر ممّا مضى، لكنّه إيراد للنقص على حقّ حرّية الأنصاري وأهله وراحتهم واستقرارهم.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني (رحمه الله) ذكر: أنّ الضرر والنفع متقابلان تقابل العدم والملكة(1).


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 266 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

523

وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره): بأنّ الضرر عبارة عن النقص أي: انتفاء ما كان للشيء من الكمال، فهو عدم لهذا المقدار من الكمال، والنفع عبارة عن تحقّق زيادة على هذا المقدار من الكمال الثابت، فالضرر ليس عدماً لهذه ا لزيادة حتّى يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وتقابل العدم والملكة إنّما يكون فيما إذا كان العدم عدماً لتلك الملكة لا لشيء آخر، كما أنّهما ليسا متضادّين ـ أيضاً ـ؛ لأنّ المتضادّين هما: الأمران الوجوديان اللذان بينهما كمال المنافرة، والضرر ليس أمراً وجودياً، بل هو أمر عدمي، فإنّه عبارة عن عدم الكمال(1).

أقول: أمّا ما ذكره (قدس سره): من أنّ الضرر والنفع ليسا متضادّين لعدم كون الضرر أمراً وجودياً، فيرد عليه: أنّ الضرر ليس عبارة عن ذات النقص بمعنى عدم الكمال، بل هو عنوان وجودي ينتزع من إضافة النقص الى الإنسان، كما أنّ النفع عنوان وجودي ينتزع من إضافة الزيادة الى الإنسان.

وأمّا ما أورده على المحقّق الخراساني (رحمه الله): من أنّ الضرر ليس عدماً للنفع حتّى يكون بينهما تقابل العدم والملكة، فلك أن تقول كتوجيه لكلام المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنّ من المحتمل كون مقصود المحقّق الخراساني من قوله: «إنّ الضرر والنفع بينهما تقابل العدم والملكة» أنّه توجد فيهما نكتة تقابل العدم والملكة وهي: عدم صدق ذلك الأمر العدمي، إلّا مع قابليّة المورد للأمر الوجودي كما في العمى والبصر، فإنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الضرر إنّما يصدق في مورد قابليّة صدق النفع، فمال الشخص إذا نقص صدق الضرر حيث إنّه إذا زاد صدق النفع. وأمّا إذا نقص شيء من المباحات الأصليّة في الصحراء فلا يصدق أنّه تضرّر زيد كما أنّه إذا زاد شيء عليها لم يصدق أنّه انتفع زيد.

هذا. ولكن لا يخفى أنّ ذات النكتة الموجودة في باب تقابل العدم والملكة غير موجودة هنا، وإنّما الموجود هنا ما يشابهها، فإن كان مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله)وجود نكتة تقابل العدم والملكة بالمسامحة صحّ كلامه، وإلّا فلا.

توضيح ذلك: أنّه في باب العدم والملكة تكون قابليّة الأمر الوجودي مأخوذة في موضوع الأمر العدمي كما في العمى والبصر، فالعمى عبارة عن انتفاء البصر عمّا يكون من شأنه البصر. وأمّا ما نحن فيه فليس الأمر كذلك؛ إذ ليست قابليّة النفع


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 317.

524

مأخوذة في موضوع الضرر، وإنّما لا يصدق الضرر إلّا مع قابليّة النفع من باب أنّ النفع والضرر مشروطان بنكتة مشتركة بينهما، مهما حصلت تمّت القابليّة للنفع والضرر معاً، ومهما لم تحصل لم تتمّ القابليّة لشيء من النفع والضرر، وتلك النكتة: هي عبارة عن إضافة ذلك الشيء الذي يزيد وينقص الى الإنسان، فمع وجود تلك الإضافة تكون زيادته نفعاً ونقصه ضرراً، ومع عدمها لا تكون زيادته نفعاً ولا نقصه ضرراً، فنرى انّ الضرر لا يصدق إلّا مع قابليّة المورد للنفع. هذا تمام الكلام في كلمة (الضرر).

وأمّا كلمة (الضرار) فمن حيث الصيغة يحتمل فيها ثلاثة احتمالات: أن يكون مصدر باب المفاعلة المزيد فيه المأخوذ من الثلاثي المجرّد وهو ضرّ، وأن يكون مصدراً للثلاثي المجرّد، أعني ضرّ، من قبيل كتب كتاباً وحسب حساباً، وأن يكون مصدراً من باب المفاعلة غير المزيد فيه أي: غير المأخوذ من المجرّد من قبيل سافر، فإنّه غير مأخوذ من سفر، فإنّ سَفَرَ يكون بمعنى كشف الستار لا بمعنى السفر.

وإذا أخذنا بالاحتمال الأوّل وهو كونه مصدراً لباب (فاعَلَ) المزيد فيه فالمشهور هو: أنّ الأصل في باب المفاعلة أن يكون بين اثنين.

وقد أشكل على ذلك المحقّق الاصفهاني(قدس سره)(1)، وأثبت أنّه ليس باب المفاعلة بين اثنين وكلامه ينقسم الى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الاستقراء والإتيان بأربعة عشر مثالاً(2) لباب المفاعلة من القرآن وغيره، وشيء منها ليس بين الاثنين من قبيل خادع ونافق، فيكون هذا دليلاً على عدم كون الأصل في باب المفاعلة هو: أن يكون بين الاثنين.

القسم الثاني: ذِكْرُ برهان عقليٍّ على عدم كون باب المفاعلة بين الاثنين. وهو(قدس سره) فهم من كلام المشهور القائلين بأنّ باب المفاعلة يفيد معنى ما بين الاثنين: أنّ


(1) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 317 - 318.

(2) الأمثلة التي ذكرها الشيخ الاصفهاني ما يلي: 1- يخادعون اللّه والذين آمنوا، 2 ـ ومن يهاجر في سبيل اللّه، 3ـ يراؤون، 4ـ وناديناه، 5ـ ونافقوا، 6ـ وشاقّوا، 7ـ ومسجد ضراراً ولا تمسكوهنّ ضراراً، 8ـ ولا تؤاخذني. ومن الاستعمالات غير القرآنيّة 9ـ عاجله بالعقوبة، 10ـ وبارزه بالحرب، 11ـ وباشر الحرب، 12ـ وساعده التوفيق، 13ـ وخالع المرأة، 14ـ وواراه في الأرض، فجميع ذلك ـ على ما يقوله (رحمه الله) ـ بين ما لاتصحّ فيه إرادة الانتساب الى الاثنين وما لا يراد منه ذلك.

525

باب المفاعلة كضارب يدلّ على نسبتين: إحداهما نسبة ضرب زيد الى عمرو مثلاً، والاُخرى نسبة ضرب عمرو الى زيد. وكذلك باب التفاعُل، إلّا أنّ الفرق بين البابين هو: أنّ النسبتين في باب التفاعُل في عرض واحد، لذا يرفع فيه كلا المعمولين، وفي باب المفاعلة طوليتان وتكون إحدى النسبتين جانبيّة؛ ولذا يرفع أحد المعمولين وينصب الآخر.

وذكر هنا المحقّق الاصفهاني (قدس سره): أنّه إمّا أن يقال بأنّ باب المفاعلة يدلّ على إحدى النسبتين فقط أي: أنّ ضارب يفيد معنى ضرب من هذه الناحية، أو يقال: بأنّه يدلّ على النسبتين. وكذلك باب التفاعل، إلّا أنّ الدلالة على النسبتين تكون بمعنى الدلالة على ما ينتزع من النسبتين وهي نسبة ثالثة، أو يقال: بأنّه يدلّ على نفس النسبتين مع طوليّة بينهما في باب المفاعلة. ولا طوليّة بينهما في التفاعل.

أمّا الأوّل: وهو دلالة المفاعلة على إحدى النسبتين فقط فهو المختار لنا في مقابل المشهور.

وأمّا الثاني: فيرد عليه: أنّه لا يبقى فرق بناءً عليه بين باب المفاعلة وباب التفاعل، مع أنّه لا إشكال في وجود الفرق بينهما.

وأمّا الثالث: فيرد عليه: أوّلاً: أنّ دلالة الهيئة على النسبتين غير صحيحة على حدّ عدم صحّة دلالة اللفظ على معنيين.

وثانياً: أنّنا لا نتعقّل طوليّة بين النسبتين، فاللفظ دلّ على مجرّد الضربين ونسبتهما الى فاعلهما. ومن الواضح: أنّهما نسبتان في عرض واحد، هذا إذا اُريدت دلالة الهيئة على النسبتين بالمطابقة مع فرض طوليّة بينهما ثبوتاً. وأمّا إذا اُريدت الطوليّة بين النسبتين إثباتاً بأن تدلّ الهيئة على إحدى النسبتين بالمطابقة، وعلى الاُخرى بالالتزام من دون لزوم استعمال الهيئة في معنيين؛ لأنّه لم تستعمل الهيئة إلّا في إحدى النسبتين التي دلّت عليها بالمطابقة. فيرد عليه: أنّ هذا فرع وجود ملازمة بين النسبتين، مع أنّه لا توجد أيّة ملازمة بينهما.

القسم الثالث: ذكر ما هو المختار له (قدس سره): وهو أنّ باب المفاعلة يدلّ على التعدية، فإن كان الفعل لازماً يصبح متعدّياً بذهابه الى باب (فاعَلَ) ويكون معناه حين إدخال هيئة (فاعَلَ) عليه: هو عين معناه حين إلحاق حرف الجرّ به، فمعنى (جالست زيداً) هو عين معنى (جلست إلى زيد).

وإن كان الفعل متعدّياً فلا يتغيّر معنى الفعل، وإنّما يكون باب المفاعلة مؤكِّداً

526

لتعديته، بمعنى: أنّ الفعل قبل إدخال هيئة فاعل عليه كان متعدّياً بذاته من دون أن يكون تعدّيه ملحوظاً بالاستقلال، وبعد إدخال هيئة فاعل عليه يكون تعدّيه متقصّداً وملحوظاً بالاستقلال، وهذا يفيد نوع توكيد للتعدّي. هذا ما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في المقام، وعلينا البحث في كلّ هذه الأقسام الثلاثة من كلامه.

ولنبدأ بالقسم الثالث فنقول: أمّا ما ذكره: من عدم تغيّر معنى الفعل المتعدّي بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليه فغير صحيح، والصحيح: هو تغيّر المعنى، كما يكون ذلك واضحاً في الأفعال التي يتغيّر مفعولها بعد تغيّر معناها بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليها كطرحت الثوب وطارحت زيداً الثوب، فمفعوله كان هو الثوب فأصبح زيداً(1)، وكأنّ الخلط نشأ من ملاحظة الأفعال التي لا يتغيّر مفعولها بعد تغيّر معناها بإدخال هيئة (فاعَلَ) عليها، كضربت زيداً وضاربت زيداً، فتخيّل أنّ المعنى لم يتغيّر.

وأمّا ما ذكره من أنّ الفرق بين باب المفاعلة والمجرّد المتعدّي: هو كون التعدّي ملحوظاً مستقلاً، فلو كان المراد منه أنّ المفاعلة موضوعة لمفهوم التعدّي فلا معنى له، فإنّ مفهوم التعدّي معنى اسمي ليس له أيّ دخل بالمقام، ولا يستفاد من ضاربَ مثلاً مادة وهيئة كما هو واضح.

ولو كان المراد: أنّ المفاعلة تدلّ على منشأ انتزاع التعدّي، فمنشأ انتزاع التعدّي هو نفس معنى الفعل الذي دلّ عليه المجرّد، فلم يبق فرق بين المفاعلة والمجرّد.

هذا. والذي يستفاد من ذيل عبارته (قدس سره) هو شيء آخر غير ما استفدناه من أوّل العبارة، وهو أنّ الفرق بين المجرّد وباب المفاعلة: هو أنّ باب المفاعلة موضوع لإفادة ما يفيده المجرّد مع التعدّي بمعنى: تقصّد الفاعل حين إصدار الفعل بلوغ الفعل الى المفعول، فمثلاً خدعه يكون في ذاته متعدّياً، ويكون بمعنى: أنّه ألبس عليه الأمر، ولكن لا يستفاد منه كونه تلبيساً متقصّداً، وأمّا خادعه فمعناه هو التلبيس مع التقصّد والعمد.

ويرد على هذا: منع مساعدة العرف عليه خصوصاً في بعض الموارد كقابلته، فإنّه يصحّ أن يقال: قابلته صدفة وكصادفته، فإنّ المادّة فيه لا تنسجم مع ما ذكره من المعنى.


(1) لا يخفى أنّ هذا ملحق بقسم تبدّل الفِعل اللازم الى المتعدّي، فإنّ الفعل كان متعدّياً الى مفعول واحد وبإدخاله في هيئة المفاعلة عُدّي الى اثنين.

527

وأمّا ما ذكره: من أنّ فائدة باب المفاعلة الذي يكون مجرّده لازماً هي ما يفيده حرف الجرّ، فهذا في الحقيقة خلط بين قسمين من التعدّي:

الأوّل: التعدّي بمعناه الحقيقي وهو كون الفعل صدورياً لا حلولياً من قبيل ضَرَبَ، ومعنى التعدّي: هو أنّ معنى الفعل يكون سنخ معنىً ينتهي من الفاعل الى المفعول به، ويتقّوم بالفاعل والمفعول به معاً، فالنسبة التي تدلّ عليها هيئة الفعل بنفسها تتطلّب في أحد طرفيها مصبّين وحدّين: أحدهما الفاعل، والثاني المفعول به، فهي نسبة تكون من أحد الطرفين ذات رأس واحد وهو مادّة الفعل، ومن الطرف الآخر ذات رأسين: وهما الفاعل والمفعول به، ومن هنا ظهر أنّ المفعول به طرف للنسبة التامّة كالفاعل.

والثاني: التعدّي الحاصل بحرف الجرّ، وهذا في الحقيقة ليس تعدّياً بمعنى تغيير معنى الفعل الحلولي بنحو يصبح صدوريّاً بحيث تكون النسبة في أحد طرفيها ذات رأسين، بل يبقى الفعل على حلوليّته، وإنّما حرف الجرّ شأنه تحصيص المادّة وتقييدها بالمجرور، فيصبح المجرور طرفاً للنسبة الناقصة، ثمّ تنسب هيئة الفعل هذا المعنى المحصّص المقيّد الى الفاعل، والتّعدية الناشئة من تغيير صيغة الفعل كتحويله الى باب الإفعال أو المفاعلة تكون من القسم الأوّل، ففرق كبير بين (جالست زيداً) و (جلست الى زيد). فجالست يعطي معنىً يتقوّم بمعمولين، أي: يحتاج بنفسه الى فاعل ومفعول به ويكون صدوريّاً، وأمّا (جلست الى زيد)، فجلست يفيد معنىً حلوليّاً، وقد قيّد بكونه الى جنب زيد، ونسب هذا الجلوس المقيّد الى الفاعل.

ومن هنا تظهر عدّة اُمور:

منها: عدم صحّة ما ذكره المحقّق الاصفهاني (قدس سره): من أنّ فائدة باب المفاعلة في الأفعال هي فائدة حرف الجرّ .

ومنها: أنّ ما ذكره النحاة: من أنّ الفعل اللازم يتعدّى بحرف الجرّ غير صحيح، إلّا إذا اُريد من ذلك التعدّي بمعنى أعمّ يشمل هذا النحو من التعدّي وهو تحصيص المادّة وتقييدها بشيء، وهو مباين هويّةً لتعدّي الفعل الذي يكون بنفسه متعدّياً، وإن كان يعطي نتيجته ويفيد فائدته، فجلست الى زيد يفيد فائدة جالسته، فإن كان

528

مقصودهم هو هذا فلا مشاحّة في الاصطلاح(1).

ومنها: أنّ ما يقال: من أنّ معنى (ذهب به) هو معنى (أذهبه) في غير محلّه، فإنّ تقيّد الذهاب بقيد (به) لا يغيّره عن معناه الأصلي، وإنّما يقيّده بأمر زائد، فيكون معناه: أنّه ذهب ذهاباً أصحب الآخر معه فيه، بحيث كأنّه كان تحت تسلّطه وتبعيّته، وهذا هو المعنى الذي قُصد بنحو المجاز و التشبيه البليغ اللطيف من قوله تعالى: ﴿ذهب اللّه بنورهمأي: كأنّه تعالى أخذ نورهم وذهب به إلى الخارج، ثمّ رجع من دون رجوع النور.

ومنها: بطلان ما استشهد به السيّد الاُستاذ على مختاره، توضيح ذلك: أنّ


(1) لا يخفى أنّه في لغة النحاة وإن كان ربّما يسمّى كلّ تعلّق للجار والمجرور بالفعل تعدّياً للفعل الى ذاك المجرور بواسطة حرف الجرّ، ولكنّ المصطلح الخاصّ لحرف التعدية ليس هذا، ولذا يجعلون التعدية أحد معاني الباء مثلاً، ولا يفرضون أنّ الباء دائماً هو للتعدّي0 وقد جاء في المغني في حرف الباء ذكر عدّة معاني لها ثانيها التعدية، وجعل المايز بين هذا القسم وسائر أقسام الباء أنّ هذا القسم يصيّر الفاعل مفعولاً، ففرق مثلاً بين الباء في (ذهبت بزيد)، وهي للتعدية وبين الباء في (مررت بزيد) والفارق: هو أنّ زيداً في (مررت بزيد) ليس مارّاً أي: ليس فاعلاً اُبدل الى مفعول، بل هو ممرور به، ولكنّه في (ذهبت بزيد) ذاهب أي: هو فاعل قد أصبح مفعولاً في المقام.

ولكنّ المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) في المقام لم يقصد بالتعدية التعدية بمعناها الخاصّ، بل قصد التعدية بمعناها العامّ الثابت في جميع موارد حروف الجرّ، ولذا مثّل له بـ(كتب إليه، وجلس إليه) فورود إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عليه من الخلط بين معنيين للتعدّي واضح.

بل لا يبعد أن يقال: إنّه حتّى المعنى الخاصّ للتعدّي بالباء الذي عبّر عنه صاحب المغني بأنّه يصيّر الفاعل مفعولاً يختلف عن تعدّي باب المفاعلة أو الإفعال أو التفعيل، فالتعدية بهذه الهيئات تعني تغييراً جوهريّاً في معنى الفعل مؤدّياً الى تبدّل النسبة الحلوليّة الى النسبة الصدوريّة، في حين أنّ التعدية في (ذهب بزيد) ليست هكذا، ويكون المجرور في ذلك طرفاً للنسبة الناقصة لا التامّة، وقد التفت المبرّد والسهيلي الى الفرق بين (ذهب بزيد) و (اذهب زيداً) والفرق الذي ذكراه هو مظهر من مظاهر هذا الفرق الجوهري الذي أشرنا إليه، فقد ذكرا: أنّ بين التعديتين فرقاً، وإنّك إذا قلت: (ذهبت بزيد) كنت مصاحباً له في الذهاب بخلاف ما إذا قلت: (اذهبت زيداً)، فإنّه ليس من الضروري من مفاد (اذهبت) أنّك قد ذهبت معه. وأورد صاحب المغني عليهما بالنقض بقوله تعالى ﴿ذهب اللّه بنورهم﴾ إذ لا يعقل افتراض أنّ اللّه تعالى قد ذهب مع نورهم، وكأنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان بصدد الجواب عن مثل هذا الإشكال، فذكر ما في المتن من أنّ المقصود بالآية: معنى بلاغي وتشبيه بديع.

529

السيّد الاُستاذ ذهب الى أنّ التعدّي واللزوم في الأفعال ليس أمراً داخلاً في صميم المعنى، وإنّما هو لمجرّد الاستعمال الاعتباطي يؤخذ من العرب تعبّداً، واستشهد على ذلك بأنّه قد يرى الفعل الواحد الموضوع لمعنى واحد يستعمل تارة متعدّياً، واُخرى لازماً من قبيل أضرّه وأضرّ به(1).

أقول: الواقع أنّ معنى أضرّ معنى صدوري يتعدّى بنفسه الى المفعول به، لكنّ حذف المفعول به جائز فقد يحذف، وفي مثال أضرّ حُذف المفعول به، وقيّدت المادّة بما يكون التقييد به مُغنياً عن المفعول به المحذوف، فصار أضرّ به.

ثمّ إنّه يرد على المحقّق الاصفهاني (قدس سره) القائل: بأنّ المفاعلة في الأفعال اللازمة تفيد نفس النسبة المستفادة من حرف الجرّ المتعدّى به الفعل (لو بني على أنّ صيغة المفاعلة وضعت وضعاً واحداً نوعيّاً للتعدية، لا أوضاعاً متعدّدة، وبني على أنّ وضع الهيئات نوعي كما هو المشهور، لا شخصي): أنّ أمثلة المفاعلة تختلف فيما تعطيها من النسب الحرفيّة، فمثلاً (كاشفه) يعطي معنى كشف له، و (جالسه) يعطي معنى جلس إليه، و (سايره) يعطي معنى سار معه، فنتساءل: أنّ المفاعلة وضعت لأيّ نسبة من نسب الحروف، وأيّ تقييد من التقييدات؟

فإن قيل: إنّه يكون موضوعاً لجامع التعدية، فإن اُريد بذلك عنوان التعدية فهو مفهوم اسمي ليس هو المستفاد من هيئة (فاعَلَ). وإن اُريد بذلك واقع النِسَب الخاصّة المتعدّية فهي نسب متباينة.

وإن قيل: إنّ هيئة (فاعَلَ) موضوعة لنسبة واحدة تنسجم مصداقاً مع هذه المعاني، أي: تختلف مصاديقها بحسب اختلاف الموارد، فقد تتّحد تلك النسبة في المصداق مع نسبة (إلى)، وقد تتّحد في المصداق مع نسبة (اللام) وهكذا، فعندئذ نتساءل: ما هي تلك النسبة؟ فإنّ هذا الشيء يحتاج الى تحليل وبيان، ولم يحلّل ولم يبيّن.

وأمّا القسم الثاني من كلامه، فالذي يستفاد من كلام المشهور في تفسير معنى المفاعلة ليس هو ما ذكره من دلالة الفعل في ذلك الباب على نسبتين طوليّتين، وإنّما الذي يستفاد من كلامهم هو أنّ هذا الباب وضع لنسبة المادّة الى الفاعل مضمّناً


(1) الموجود في الدراسات والمصباح في بحث (لا ضرر) يختلف عمّا هو المنقول هنا وينافيه، راجع الدراسات: ج 3، ص 323، والمصباح: ج 2، ص 522.

530

معنى المشارِكيّة (بالكسر) على نحو التقييد، فإذا قال: (ضارب زيد عمراً) دلّ ذلك على ضرب زيد لعمرو المقيّد بكونه مشاركاً لعمرو، وكأنّما قال: شارك زيد عمراً في الضرب، فباب المفاعلة يكون بين الاثنين بنحو يكون أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً به؛ لما عرفت من أنّه يدلّ على نسبة المادّة الى الفاعل مع إشراب معنى المشارِكيّة، فلا تلزم دلالة هيئة واحدة على معنيين، ولا عدم الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل، ولا عدم إعطاء المفاعلة معنى يكون بين اثنين.

هذا. ولكنّه لا يمكن المساعدة على هذا الذي يستفاد من كلامهم؛ لاختلاف معنى باب المفاعلة عن معنى (شارك زيد عمراً)، فإنّه في مثل هذا يكون الأصل بحسب المتصوّر الذهني هو المنصوب، والتابع هو المرفوع، مع انّ المستفاد من باب المفاعلة هو العكس، نعم، لو فرض تضمين معنى المشارَكيّة (بالفتح) لا المشارِكيّة (بالكسر) ارتفع هذا الإشكال.

وأمّا القسم الأول من كلامه (قدس سره) فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما أتى به من الأمثلة وهي أربعة عشر مثالاً، بل جميع ما يكون من قبيل تلك الأمثلة ـ إن وجد غيرها ـ لا يكون بمقدار ينافي ما يدّعى: من أنّ الأصل في باب المفاعلة هو أن يكون بين الاثنين.

وثانياً: أنّ جملة ممّا ذكره من الأمثلة إمّا تكون ممّا لا مجرّد له، أو ممّا يكون له مجرّد بغير معناه كبارز، وساعد، ونادى، ونافق، ووارى، وباشر، وبعضها وإن كان له مجرّد بمعناه، لكنّه موضوع لمعنى لا يناسب أن يكون بين أثنين، كخالَعَ وكآخذ مثلاً بمعنى المعاقبة، فبما أنّها من العالي الى السافل فوقوعها بين الاثنين بعيد عن الاعتبار، ومراد المشهور من وضع المفاعلة لما بين الاثنين: هو المفاعلة المأخوذة من المجرّد الذي يلائم معناه لفرض وقوعه بين الاثنين.

هذا كلّه لو فرضنا أنّ المراد بالأصل في المقام هو الغلبة. وأمّا لو قلنا: إنّ المراد بذلك هو أنّ باب المفاعلة بلحاظ سائر معانيه إنّما كان لشبهها بما بين الاثنين، فالمحور لمعاني باب المفاعلة الذي تكون بقيّة المعاني بلحاظه هو هذا المعنى، فسافر مثلاً لوحظت فيه مشابهته لما بين الاثنين من حيث إنّ ما يقع بين الاثنين كأنّه له نحو امتداد، والسفر ـ أيضاً ـ له نحو امتداد لطوله، فلو فرضنا أنّ المراد هو ذلك، كما هو الأقرب الى الاعتبار لا يأتي عليه الإشكال الذي أورده مهما كثرت أمثلة سائر المعاني غير معنى ما بين الاثنين ما دامت ملحوظة فيها جهة الشبه بذاك المعنى.

531

فإن قلت: لماذا لا يفرض أنّ هيئة المفاعلة موضوعة للجامع بين مطلق انحاء التجاوز والامتداد والطولانيّة في باب المفاعلة حتّى تشمل جميع موارد المشابهة والذي يكون لما بين الاثنين؟

قلت: إنّ فرض الأمر كذلك غير ممكن؛ لإنّه إمّا أن تكون الهيئة موضوعة لعنوان الجامع، أو لمنشأ الانتزاع، والأول مفهوم اسمي وليست الهيئة موضوعاً له، وليس الثاني إلّا نسباً متباينة لا جامع بينها.

ثمّ إنّ هنا وجهاً في تصوير معنى باب المفاعلة أحسن من القول بكون شأن هذا الباب تضمين معنى الشركة، حتّى لو فرض أنّ المعنى المضمَّن هو المشارَكيّة لا المشارِكيّة، وهذا الوجه: هوأن يقال: إنّ صيغة (فاعَل) كضارب مثلاً مشتملة على اُمور ثلاثة:

1 ـ مادّة الضرب مثلاً، وهذه تدلّ على معناها الأصلي وهو الضرب.

2 ـ الشيء الزائد على ذلك بدخوله في باب المفاعلة كألف (فاعَلَ) وهذا يدلّ على تحصيص المعنى المستفاد من تلك المادّة، وفرض الضربين عملية واحدة تبتدىء بحسب عالَم المتصوّر الذهني من زيد مثلاً وتنتهي الى عمرو.

3 ـ هيئة المجرّد المحفوظة لا بحدّها في صيغة (فاعَلَ) المندكّة في تلك الصيغة، وهذه الهيئة تنسب المعنى المستفاد من مجموع المادّة الأصليّة مع تلك الزيادة الى الفاعل. وبهذا التفسير نتحفّظ على دلالة باب (فاعَلَ) على معنى بين الاثنين من دون الوقوع في محذور وحدة الدال وتعدّد المدلول مع التحفّظ على الفرق بين باب التفاعل وباب المفاعلة.

وهذا التصوير أحسن من التصوير السابق، أعني: تضمين معنى الشركة ولو بمعنى المشارَكيّة (بالفتح) لا المشارِكيّة (بالكسر)؛ وذلك لأنّه لا ريب في استشمام معنى المفعوليّة للمنصوب في هذا الباب، أي: كونه مفعولاً لذلك الفعل الذي فرض صدوره في المقام، لا لمجرّد الشركة، وهذا الاستشمام لا يبقى له تفسير في الأفعال التي يتغيّر مفعولها بإدخال صيغة المفاعلة عليها، كما في (طرحت الثوب) و (طارحت زيداً الثوب)، بناءً على التصوير السابق، وأمّا تفسيره بناءً على التصوير الذي ذكرناه ففي غاية الوضوح؛ إذ قد فرضت عملية المطارحة عملية تبتدىء بحسب عالَم المتصوّر الذهني من الفاعل وتنتهي الى زيد.

ثمّ إنّه إذا فرض أنّ الضرار مصدر لباب المفاعلة المزيدة كما فرضناه حتّى

532

الآن، ففيه من حيث المعنى احتمالات:

1 ـ كونه بمعنى ما بين الاثنين.

2 ـ كونه بمعنى يشبه ما بين الاثنين مراعاة لحقّ أصالة المعنى الأوّل في باب المفاعلة، وذلك عبارة عن فرض تأكّد وشدّة في الضرر وذلك يشبه المعنى الأصلي للمفاعلة؛ لكونه ـ أيضاً ـ مشتملاً على نوع من الدوام، والشدّة، والتعمّق في الضرر.

3 ـ كونه ـ أيضاً ـ بمعنى يشبه المعنى الأصلي للمفاعلة وهو تعمّد الضرر وتقصّده، فإنّ هذا ـ أيضاً ـ يعطي معنى تعمّق في الضرر، وعناية خاصّة به، كما هو الحال في المعنى الأصلي للمفاعلة.

وإذا فرض أنّ الضرار مصدر لباب المفاعلة غير المأخوذة من الثلاثي فعندئذ يكون تفسيره بما يشبه معنى ما بين الاثنين، لا بنفس المعنى الذي يكون بين الاثنين أقرب إلى الذهن.

وإذا فرض أنّ الضرار مصدر للثلاثي المجرّد ففيه احتمالات:

1 ـ أن يكون بمعنى الضرر.

2 و 3 ـ أن يكون مأخوذاً فيه نوع من العناية بالضرر إمّا بمعنى الشدّة والتأكّد، أو بمعنى التعمّد والتقصّد، ولذا غيّرت صيغة المصدر من الوزن الأوّل وهو الضرر الى وزن فعال أي ضرار.

وعليه فقد أصبحت المعاني المحتملة في الضرار أربعة:

1 ـ كونه بمعنى الضرر، وهذا في نفسه بعيد حتّى إذا فرض مصدراً للثلاثي المجرّد، فإنّ العرف يفهم من تغيير المصدر من صيغة الضرر إلى صيغة ثانية له على وزن ضرار إرادة نوع عناية بالضرر وتعمّق فيه بمعنى التأكّد أو التقصّد، وعلاوة على ذلك لا يناسب هذا المعنى حديث (لا ضرر ولا ضرار)؛ لأنّه يلزم من ذلك: أن يكون تكراراً وعطفاً للمرادف على المرادف بهذه الصيغة، أي: صيغة تكرار (لا) النافية، من قبيل أن يقال: ما رأيت إنساناً ولا بشراً، وركاكة ذلك بحسب النظر العرفي واضحة.

2 ـ كونه بمعنى ما بين الاثنين، وهذا المعنى معلوم العدم في بعض الروايات، وهي الرواية التي طبّقت عنوان المضارّ على سمرة مع أنّه لم يكن الضرر من الطرفين، إلّا أن يفرض أنّه إنّما استعمل هنا فعل ما بين الاثنين بلحاظ أنّه من أحد الطرفين كان الضرر ثابتاً واقعاً، وهو جانب سمرة، ومن الطرف الآخر وهو الأنصاري كان الضرر ثابتاً على قول سمرة الذي يرى نفسه محقّاً، وفيه من البعد ما لا يخفى، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله)

533

يطبّق عنوان المضارّ حسب نظره هو، لا ملفّقاً من نظره ونظر سمرة.

وعلى أيّ حال فهذه الرواية ضعيفة السند على أنّه يبقى الكلام بلحاظ باقي الروايات.

والصحيح في دفع هذا الاحتمال: هو أن يقال: إنّ هذا ـ أيضاً ـ يلزم منه التكرار بتلك الصيغة، فإنّ كلا الضررين فيما يكون بين الاثنين منفيّ بقوله: (لا ضرر) كما لا يخفى، وهذا التكرار بهذا النحو فيه ما لا يخفى من ركاكة التعبير.

3 ـ كونه بمعنى الضرر الشديد المؤكّد، وهذا ـ أيضاً ـ يلزم منه التكرار بذاك النحو، فإنّ الضرر الشديد منفيّ بقوله: (لا ضرر).

4 ـ كونه بمعنى تقصّد الضرر، وهذا هو المتعيّن في المقام، ولسنا نقصد بذلك إثبات كون الضرار في المقام بهذا المعنى بما عرفته من السبر والتقسيم بعد الشكّ في كون هذا أحد المعاني العرفيّة للضرار وعدمه حتّى يقال: إنّ هذا إثبات للمعنى اللغوي بالاستحسانات، بل نحن لا نشكّ في كون هذا معنى عرفياً لكلمة (الضرار) فنعيّنه في المقام بالاستظهار العرفي باعتبار لزوم التكرار الركيك على الاحتمالات السابقة، وعدم لزومه على هذا الاحتمال.

وبيان عدم لزوم التكرار على هذا الاحتمال: هو أنّ حديث (لا ضرر) ـ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه ـ ينفي الحكم الضرري، ويبقى ـ عندئذ ـ حكم ليس ضرريّاً بنفسه، لكنّه يُتَقَصّد ويُتعمّد به الضرر مثاله: أنّ الحكم بكون الناس مسلّطين على أموالهم بنفسه ليس ضرريّاً، لكنّه قد يستغلّه أحد الشريكين فيُعمِل هذا الحقّ الذي ليس بنفسه ضرريّاً بنحو يوجب الضرر على الشريك الآخر، وذلك من قبيل أن لا يأذن لشريكه أن ينتفع بهذه العين بوجه من الوجوه من بيعها وتقسيم ثمنها، أو إجارتها وتقسيم اُجرتها، أو الانتفاع بها بأي نحو من الأنحاء(1)، فمثل هذا منفي


(1) لا يخفى أنّ هذا المثال يناسب ـ أيضاً ـ أن يكون مثالاً لضرريّة الحكم؛ لأنّ حصّة من السلطنة وهي السلطنة على هذا النحو من منع الشريك عن التصرّف أصبحت ضرريّة. ولكنّ الظاهر أنّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ليس هو هذا المعنى، بل مقصوده: أنّه لو لم يكفِ في مقام منع هذا الشريك عن هذا التصرّف نفي هذه الحصّة من السلطنة بأن كان عاصياً متعمّداً لالتزام هذا النحو من التصرّف متذرّعاً بالشركة، ولم يمكن ردعه خارجاً عن ذلك، إلّا بقطع الشركة، وتقسيم المال رغماً عليه، فهنا تصل النوبة الى التمسّك بـ( لا ضرار)؛ لإثبات جواز إجباره على التقسيم، وقطع الشركة رغم أنّ أصل الشركة ليس ضرريّاً في المقام.

534

بقوله: (لا ضرار)، ولا يلزم من ذلك تكرار.

والخلاصة: أنّ الضرار على ما يفهم عرفاً معناه هو الضرر مع أخذ شيء من التأكّد والتعمّق فيه، وهذا التأكّد والتعمّق قد يكون بلحاظ الجانب الخارجي للضرر، وهو عبارة عن شدّة الضرر، أو طوله ونحو ذلك، وقد يكون بلحاظ الجانب النفسي من الضرر، وهو عبارة عن تعمّده، وتصيّده، والتفنّن فيه، ونحو ذلك من التعابير. والمتعيّن في المقام هو الثاني؛ لما عرفت من أنّ الأوّل يلزم منه التكرار الركيك في المقام.

ويؤيّد ذلك نفي الفقهاء بالقاعدة جملة من الأحكام التي ليست ضرريّة في نفسها حتّى تكفي في نفيها كلمة (لا ضرر)، وإنّما تستغلّ للإضرار ويتعمّد بها الضرر، وذلك من قبيل نفي كون الطلاق بيد الزوج حينما يستغلّ الزوج ذلك في الإضرار، ونفي سلطنة الشريك حينما يستغلّها في ذلك.

وقد يقال في المقام: إنّ الضرار له معنى مباين لمعنى الضرر، فإنّ الضرر عبارة عن النقص، والضرار ليس نقصاً، وإنّما هو شدّة وضيق من دون نقص، ويستشهد لذلك باستعمال الضرار في كلّ مورد استعمل فيه من الآيات القرآنية في الضيق والشدّة من دون نقص، كقوله تعالى: ﴿والذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين(1)، وقوله تعالى: ﴿ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا(2).

أقول: بل إنّ الضرار في أمثال هذه الموارد ـ أيضاً ـ يوجب النقص، كما مضى منّا في مثال منع شخص من الخروج من البلد، أو الاشتراك في الشركات، فإنّه نقص في حقّ استقرار الشخص وراحته وحريّته وسكون باله ونحو ذلك ممّا يعدّ حقّاً عقلائيّاً أو قانونيّاً، على أنّ الضرر ـ أيضاً ـ استعمل في بعض الآيات فيما نظنّ أنّه لم يلحظ فيه نقص من غير ناحية الضيق والشدّة، كما في قوله تعالى: ﴿ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنّهم لن يضرّوا اللّه شيئاً يريد اللّه أن لا يجعل لهم حظّاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم * إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّوا اللّه شيئاً ولهم عذاب أليم(3).


(1) س 9 التوبة، الآية 107.

(2) س 2 البقرة، الآية 231.

(3) س 3 آل عمران، الآية 176 ـ 177.

535

فإنّ الظاهر أنّ الذي كان يتصوّر من الضرر في حقّه تعالى هو تأثّره وتأذّيه من قبيل تأثّر المؤمن حينما يرى المعاصي، لا نقصان ماله مثلاً، وقوله تعالى: ﴿لن يضرّوكم إلّا أذى(1) وقد فسّر الأذى بالمشاغبة.

نعم، تعيّن حمل هذه الآيات على إرادة الضرر لا الضرار مبنيّ على دعوى: أنّ الضرار مصدر للمفاعلة لا للثلاثي، وقد استعمل الضرار في بعض الآيات فى مورد النقص، كما في قوله تعالى: ﴿مِن بَعْد وصيّة يوصى بها أو دين غيرَ مضارّ(2) بناءً على أنّ (الضرار) مصدر لفاعَلَ دون الضرر ـ وعلى العكس من ذلك مصدر فَعَلَ ـ وقد فسّرت الكلمة هنا بأن يدّعي دَيْناً على نفسه لشخص كذباً فيضّر بذلك الورثة لورود النقص على مالهم.

وعلى أيّ حال، فالمتفاهم عرفاً من الضرار هو ما ذكرناه من الضرر مع لحاظ شيء من التأكّد والعناية في الجانب الخارجي منه، أو في الجانب النفسي منه، والمتعيّن في المقام هو الثاني كما مضى.

 


(1) س 3 آل عمران، الآية 111.

(2) س 4 النساء، الآية 12.

536

 

 

 

مفاد هيئة جملة (لا ضرر)

 

المقام الرابع: في مفاد الهيئة التركيبيّة لجملة لا ضرر.

إنّ استعراض الوجوه في مفاد (لا ضرر) يكون على مستويين:

الأوّل: استعراض الاتّجاهات الفقهيّة في الحكم الشرعي المستفاد من ذلك.

والثاني: استعراض المحتملات اللغويّة لجملة (لا ضرر) وقد تكون عدّة من تلك المحتملات تفيد اتجاهاً واحداً من الاتّجاهات الفقهيّة المذكورة في المستوى الأوّل، وعدّة اُخرى منها تفيد اتّجاهاً آخر وهكذا، ونحن نستعرض أوّلاً تلك الاتّجاهات، وهذا هو المستوى الأوّل، ثمّ ندخل في المستوى الثاني، ونعيّن أنّ أيّ عدّة من المحتملات اللغويّة تفيد أيّ واحدة من تلك الاتّجاهات، ثمّ ننظر الى مجموع تلك المحتملات لنختار ما هو الصحيح منها، ونعيّن ما ينتجه ذاك الاحتمال من اتّجاه فقهي فنقول:

أمّا على المستوى الأوّل: فالاتّجاهات الفقهيّة الرئيسيّة في (لا ضرر) ثلاثة:

الأوّل: أنّ مفاده نفي الحكم الضرري، ولهذا الاتجاه جناحان:

1 ـ ما يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره)، واختاره المحقّق النائيني(رحمه الله)ومدرسته: من أنّه ينفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر، وهذا يعمّ فرض كون الضرر ناشئاً من نفس الحكم، كما في الحكم بصحّة البيع الغبني ولزومه مثلاً، وسيأتي ـ إن شاء اللّه ـ هذا المثال مع مناقشته والبحث فيه، أو من الجري على طبقه والعمل به، كما في وجوب الوضوء حينما يكون الوضوء ضرريّاً، من دون فرق ـ أيضاً ـ بين أن يكون الضرر ناشئاً من نفس متعلّق الحكم بالذات، كما في هذا المثال، أو ناشئاً من مقدّمات له.

2 ـ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني (رحمه الله): من أنّه رفع حكم الموضوع الضرري، فلا يشمل مثلاً: ما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلّق به الحكم ضرريّا، بل كانت مقدّماته ضرريّة.

الثاني: أنّ مفاده تحريم الضرر، وهذا ما ذهب إليه جملة من الأصحاب كالنراقي(رحمه الله) ـ على ما أظنّ ـ من القدماء، وشيخ الشريعة الاصفهاني(قدس سره) من المتأخّرين.

537

وهذا ـ أيضاً ـ له جناحان:

1 ـ خصوص التحريم التكليفي.

2 ـ ما يعمّ التحريم التكليفي والوضعي بمعنى البطلان.

الثالث: أنّ مفاده نفي الضرر غير المتدارك، وهذا ما ذهب إليه الفاضل التوني(رحمه الله)، وبعض المحقّقين المتأخّرين عنه. وهذا ـ أيضاً ـ له جناحان:

1 ـ نفي الضرر غير المتدارك بمعنى جعل التدارك، فمن أضرّ بأحد كما لو أتلف ماله وجب عليه تداركه.

2 ـ نفي الضرر غير المتدارك سواء أكان ذلك بنفي الحكم الضرري، أم بتدارك الضرر الواقع، فإذا كان الضرر مربوطاً بالحكم رفع ذلك الحكم الضرري، وإذا كان مربوطاً بعمل شخص خارجاً بغض النظر عن الحكم، كما إذا أتلف شخص مال غيره حكم بالتدارك.

وأمّا على المستوى الثاني: فلنذكر مقدّمة:

إنّه من الواضح أنّ المقصود من (لا ضرر) ليس ما هو الظاهر من مثل هذا التركيب في غير هذه الجملة من الجمل المتعارفة غير المربوطة بباب التشريع، كما في (لا رجل في الدار) فإنّه يستفاد من ذلك عدم وجود الرجل خارجاً، ولا يستفاد هذا من (لا ضرر) بنكتة وجود الضرر خارجاً بالبداهة، وكونه صادراً من المشرّع بما هو مشرّع وبصدد التشريع. ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم(قدس سره) من قوله: «بعد تعذّر إرادة الحقيقة»(1) .

وبعد هذا نقول: إنّ الوجوه التي تنتج الاتّجاه الفقهي الثاني أربعة، ونقطة الانقسام فيها تبدأ من حرف (لا):

الأوّل: أن يفرض أنّ (لا) استعمل هنا مجازاً في النهي، فهذا إنشاء صرف يستفاد منه حرمة الضرر.

الثاني: أن يفرض أنّ (لا) استعمل في الإخبار عن النفي، والمراد الجدّي ـ أيضاً ـ هو الإخبار عن النفي، ويفرض أنّ خبر (لا) المحذوف هو كلمة (مستساغ) مثلاً، لا كلمة (موجود)، أو يُفرض أنّ خبرَه هو (موجود)، لكنّ المقصود به ليس هو الوجود في الخارج، بل الوجود في الإسلام بناءً على ما سوف يأتي ـ إن شاء اللّه ـ من


(1) راجع الرسائل: ص 314 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

538

أنّ ما يكون مستساغاً (1) في شريعة، أو قانون يفرض له نحو وجود في تلك الشريعة، أو ذلك القانون فيقال مثلاً: الرهبانيّة موجودة في المسيحيّة وغير موجودة في الإسلام، والبيع موجود في الإسلام، لكنّ الربّا غير موجود فيه، فيقصد بالوجود هنا هذا المعنى من الوجود، وعلى هذا فالجملة تكون إخباراً صرفاً عن نفي الضرر، وتفيد حرمته.

الثالث: أن يفرض أنّ (لا) استعمل في الإخبار عن نفي الضرر لكنّ المراد الجدّي منه هو النهي عنه، من قبيل استعمال الجملة الخبريّة في الخبر وإرادة الأمر منه جدّاً في مثل: يصلّي ويسجد ونحو ذلك، فتدلّ الجملة ـ عندئذ ـ على النهي عن الضرر كالأوّل، لكنّها تدلّ عليه بالكناية، وفي الأوّل كان النهي هو المدلول الصريح للكلام.

الرابع: أن يفرض أنّ (لا) استعمل في إنشاء النفي، والمراد الجدّي هو إنشاء النهي، من قبيل أنّ الشخص ينشىء لشخص آخر جواز التصرّف في كتاب له مثلاً، فيقول: «تصرّف في هذا الكتاب»، ويكون المراد الجدّي له هو إنشاء الملكيّة، ففيما نحن فيه ـ أيضاً ـ يقصد إنشاء النهي، لكنّه يستعمل الكلام في إنشاء النفي.

توضيح ذلك: أنّه حيث إنّ سبب الضرر وهو إجازة الشارع يكون تحت السلطان التشريعي للمولى، فكأنّه يفرض أنّ المسبّب وهو الضرر يكون تحت سلطانه التشريعي، فيُفنيه تشريعاً، وهذا معنى إنشاء النفي.

وأمّا الوجوه التي تنتج الاتّجاه الفقهي الأوّل، وهو نفي الحكم الضرري فثلاثة:

الأوّل: أنّ الضرر المنفيّ اُريد به الحكم الضرري، كما يظهر من الشيخ الأعظم(قدس سره)، وذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله) ومدرسته.

الثاني: أنّه اُريد بالضرر المنفيّ الحالة الضرريّة التي تطرأ على المكلّف من ناحية الحكم الشرعي، فيُنفى ـ لا محالة ـ ذلك الحكم الضرري.

الثالث: أنّه اُريد بالضرر الموضوع الضرري على حدّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) .

أمّا الوجه الأوّل: فتصويره يكون بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ أن يكون على حدّ المجاز في الحذف، فـ(لا ضرر) معناه لا حكم ينشأ منه


(1) المقصود بالاستساغة هنا الإباحة بالمعنى الأعمّ الشامل لفرض الوجوب أيضاً.

539

الضرر، نظير ما يقال في: واسأل القرية، أي: واسأل أهل القرية مثلاً.

2 ـ أن يكون على حدّ المجاز في الكملة، فاستعمل اسم المُسبّب وهو الضرر مجازاً في سببه، وهو الحكم الذي ينشأ منه.

3 ـ ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره): من أنّه اطلق لفظ (الضرر) على الحكم الذي ينشأ منه الضرر، لا مجازاً بل حقيقة(1)، وذلك تطبيقاً لقاعدته التي نقّحها هو(قدس سره): من أنّ السبب يكون مصداقاً لمسبّبه التوليدي عرفاً، وإن افترقا فلسفيّاً، فالإلقاء في النار مثلاً بنفسه إحراق، وإن كان الإحراق فلسفيّاً هو عين الاحتراق، فإنّ الاحتراق إذا نسب الى الفاعل سمّي إحراقاً، وهو غير الإلقاء في النار فلسفيّاً. فطبّق (قدس سره) هذه القاعدة على ما نحن فيه، وذكر: أنّ الضرر يصدق على نفس الحكم باعتباره مسبّباً توليديّاً له.

واعترض عليه بعض: بأنّ مثل الضرر الناشىء من التوضّوء عند وجوب الوضوء ليس مسبّباً توليديّاً للوجوب، وإنّما الوجوب مقدّمة من المقدّمات الإعداديّة له.

ولكنّ الظاهر أنّ مقصود المحقّق النائيني(قدس سره) ليس هو إلحاق المقام بالمسبّبات التوليديّة فلسفيّاً وبالدّقة العقليّة، بل مقصوده إلحاقه بها عرفاً باعتبار أنّ الكلام في الاستظهار العرفي، وبما أنّه كان الحكم الضرري بالنسبة للعبد المنقاد كالعلّة التامّة لتحقّق الضرر يسند العرف الضرر الى الحكم ويعنونه به، ولذا يقال عرفاً مثلاً: إنّ جعل الحكومة للقانون الكذائي إضرار بالرعيّة من دون أيّ مسامحة في هذا التعبير.

وأمّا الوجه الثاني: فلا يشتمل على أيّ مجازيّة، فإنّ المفروض أنّه اُطلق فيه الضرر على نفس الحالة الضرريّة الواردة على المكلّف، إلّا أنّه لابدّ من ارتكاب التقييد في المقام؛ إذ ليس كلّ ضرر منفيّاً في الخارج، وإنّما المنفي هو الضرر الناشىء من الحكم، إذن فيلتزم بالتقييد فيما نحن فيه بأحد وجهين:

1 ـ التقييد من ناحية الأسباب، أي: لا ضرر مسبّباً عن الحكم، فينفى ـ لا محالة ـ السبب وهو الحكم.

2 ـ التقييد من ناحية الظروف، أي: لا ضرر في ظرف تطبيق السلطة التشريعيّة للمولى، فالضرر منفيّ في الخارج، لكن لا في كلّ أرجاء الخارج، بل أنّ العالَم


(1) راجع منية الطالب للشيخ النجفي، ج 2، ص 207 ـ 208.

540

الخارجي بالمقدار الذي يكون تحت تطبيق السلطة التشريعيّة للمولى لا ضرر فيه، فالآفة السماويّة الواقعة على شخص مثلاً وإن كانت ضرراً، لكنّها غير مرتبطة بعالَم نفوذ السلطنة التشريعيّة للمولى، وإنّما هي مرتبطة بعالَم نفوذ سلطنته التكوينيّة. وهذا التقييد ـ أيضاً ـ يشبه التقييد الأوّل، ويفيد نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر.

وأمّا الوجه الثالث: فهو ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله): من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع من قبيل (لا ربا بين الوالد وولده)، و (يا أشباه الرجال ولا رجال).

ولتوضيح مقصوده(قدس سره)، والمحتملات الموجودة في كلامه لا بدّ من ذكر أنحاء نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فإنّ ذلك يتصوّر على أنحاء عديدة، فهو يقسّم في بادىء الأمر الى قسمين:

القسم الأول: ما نسمّيه بالحكومة ـ وهو ما لا تسمح نكتته بنفي أصل الحكم، بل لابدّ من أن يكون المنفي إطلاق الحكم لا أصله ـ وذلك أن يفرض الحكم لازماً ذاتيّاً للموضوع لا ينفكّ عنه، وحيث إنّ اللازم إنّما ينتفي إذا انتفى الملزوم فحينما لا يكون الحكم ثابتاً فكأنّ الموضوع غير ثابت، فيعبّر بنفي الملزوم، لتفهيم نفي اللازم من قبيل قوله: «يا اشباه الرجال ولا رجال» حيث فرض الوفاء، والبطولة، والثبات من اللوازم التي لا تنفكّ عن الرجولة، فنفى الرجولة بانتفاء هذه الصفات.

وهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما يمكن أن يكون على نحو النفي التركيبي، كذلك يمكن أن يكون على نحو النفي البسيط، فما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله): من أنّ الحكومة لا تكون إلّا بنحو النفي التركيبي، وهو نفي عنوان الموضوع عن الفرد غير صحيح، فإنّه كما يمكن ذلك كما هو صريح قوله: «شكّك ليس بشيء» وظاهر قوله: «لا ربا بين الوالد وولده»، كذا يمكن نفي وجود الموضوع بأن يقصد أنّ الربا بين الوالد والولد غير موجود، فينتفي بذلك الحكم، وهذا هو النفي البسيط، وذلك من قبيل قولك: «التائب عن الذنب لا ذنب له»، فهذا ينفي وجود الذنب، وهو الكذب الذي صدر منه مثلاً بالرغم من ثبوته واقعاً بداعي نفي أثره، وهو العقاب مثلاً، ويكون النفي نفياً بسيطاً.

وعلى أيّ حال فهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يختصّ بنفي إطلاق الحكم، ولا يمكن نفي أصل الحكم به، فإنّ المفروض أنّ نكتة ذلك فرض كون الحكم أثراً لا ينفكّ عن الموضوع، وهذا لا ينسجم مع نفي أصل الحكم؛ إذ بذلك يخرج عن كونه أثراً ولازماً له.

541

القسم الثاني: ما يمكن نفي أصل الحكم به، كما في «لا رهبانيّة في الإسلام ولا غش» ونحو ذلك . وهذا يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ موضوع الحكم موجود في عالم التشريع بوجود نفس الحكم، فإنّ الحكم له موضوع لا محالة، كما أنّ له محمولاً، فإذا وجد في عالم التشريع فقد وجد بموضوعه ومحموله، فلموضوع الحكم وجود من سنخ وجود الحكم، وبنفيه ينتفي الحكم لا محالة، فيمكن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بهذا النحو، بشرط أن يكون ثبوت الحكم لذلك الموضوع مترقّباً ومأنوساً في ذهن العقلاء؛ لكونه ثابتاً في الشرايع السابقة، أو لكونه ثابتاً عند العقلاء مثلاً حتّى يكون بيان نفي ذلك الحكم بنفي هذا الموضوع عرفيّاً، فالرهبانيّة مثلاً كانت موجودة في المسيحيّة ونفيت في الإسلام. وهذا الوجه هو الذي ذكره المحقّق الاصفهاني(قدس سره)في المقام.

ولكنّ الصحيح: أنّ هذا ليس وجهاً عرفيّاً، ولذا ترى أنّه لا يتمّ في نفي الحكم التحريمي، فلا يقال مثلاً: «لا طلاق في الإسلام» بمعنى نفي حرمته، كما يقال: « لا رهبانيّة في الإسلام» بمعنى نفي استساغته، مع أنّه كما كانت الرهبانيّة مستساغة في المسيحيّة، كذلك كان الطلاق حراماً في المسيحيّة، فلئن صحّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بهذه النكتة فهي نكتة مشتركة بين فرض كون الحكم استساغيّاً وكونه تحريميّاً، فإنّ الموضوع في الحكم التحريمي ـ أيضاً ـ له وجود في عالم التشريع من سنخ وجود حكمه، فلماذا لا يصحّ ذلك في الحكم التحريمي؟! نعم هذا الوجه قد يتمّ في بعض الموارد بعنايات فائقة من تصريح، أو غير ذلك.

الثاني: أن ينفى الحكم بنفي الوجود الاستساغي للموضوع.

توضيح ذلك: أنّ كلّ شيء يكون محكوماً بحكم استساغي في شريعة يكون له وجود استساغي في تلك الشريعة، وبهذا الاعتبار يقال مثلاً: إنّ شرب الخمر غير موجود في الإسلام، وهذا النحو من الوجود ليس هو ما مضى من وجود الموضوع بوجود حكمه، فإنّه بذلك المعنى يكون شرب الخمر ـ أيضاً ـ موجوداً في الإسلام، فإنّ نسبة الحرمة إليه كنسبة الحكم الاستساغي الى ما يستساغ، وإنّما هذا النحو من الوجود يكون باعتبار أنّ ما يستساغ في شريعة يوجد خارجاً في العالَم الذي طبّقت عليه تلك الشريعة، فكأنّه فرض بهذه المناسبة أنّ له نحو وجود في تلك الشريعة، فإذا نُفي هذا الوجود له في الشريعة نُفي بذلك الحكم الاستساغي فيها وبهذا يظهر السرّ في صحّة قولنا: «لا رهبانيّة في الإسلام» بداعي نفي استساغته، وعدم صحّة

542

قولنا: «لا طلاق في الإسلام» بداعي نفي حرمته؛ لأنّ الشيء المحرّم في شريعة لا يوجود في عالم تطبيق تلك الشريعة خارجاً حتّى يفرض بهذه المناسبة له نحو وجود في الشريعة؛ حتّى يصحّ نفي الحرمة بلسان نفيه في الشريعة.

هذا. ومقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي بهذا النحو نفي تمام مراتب الاستساغة حتّى الإباحة، ولكن يمكن إرادة نفي بعض المراتب، كأن يقال: «لا تَحَمُّلَ للضرر عن الغير في الإسلام» أي: لا يجب ذلك في الإسلام، فإنّ الاستساغة قد تكون بمرتبة الوجوب، وقد تكون بمرتبة الاستحباب، وقد تكون بمرتبة الترخيص مثلاً.

الثالث: أن يُنفى الحكم بنفي الوجود الخارجي للموضوع باعتبار كون الحكم الاستساغي سبباً لوجوده في الخارج، وكونه ينتفي بانتفاء الحكم الاستساغي، فينفى الحكم بنفيه على حدّ نفي السبب بلسان نفي المسبّب.

وهذا فرقه عن سابقه مضموناً: هو أنّ المنفي في السابق هو الوجود الاستساغي، وهنا هو الوجود الخارجي.

وفرقه عنه في الأثر: هو أنّه في القسم السابق يمكن نفي خصوص بعض مراتب الاستساغة بتقييد الإطلاق، وأمّا هذا القسم من النفي فلا يصحّ، إلّا إذا اُريد نفي الترخيص إطلاقاً؛ إذ بانتفاء الوجوب فقط مثلاً لا ينتفي ذلك الشيء خارجاً، وإنّما ينتفي ذلك الشيء بانتفاء استساغته بتمام مراتب الاستساغة.

ثمّ إنّ حديث الرفع لا ينطبق عليه شيء من هذه الأقسام الثلاثة عدا القسم الأوّل، وهو نفي الحكم بلسان نفي وجود الموضوع باعتبار أنّ للموضوع وجوداً من سنخ وجود حكمه، وأمّا في الوجود الاستساغي، أو الوجود الخارجي فلا يناسب مثل عنوان «ما اضطرّوا إليه»، فإنّه ينتج عكس المقصود وقد اُريد من حديث الرفع رفع الحكم بلسان رفع الموضوع باعتبار وجوده في اُفق الحكم بنفس وجود الحكم، وقد قلنا: إنّ هذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع غير صحيح، إلّا في مورد اُعمِلت فيه عنايات فائقة، وحديث الرفع من هذا القبيل. وقد مضى شرح الكلام فيه في مبحث البراءة.

هذا تمام الكلام في أقسام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

والآن نتكلّم في الفروض المعقولة منها في المقام.

فنقول: أمّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة، أي: بالنكتة التي تختصّ بنفي إطلاق الحكم فهو غير منطبق على جملة (لا ضرر) لا بنحو النفي

543

البسيط ولا بنحو النفي التركيبي.

ونمهّد لتوضيح ذلك بإلفات النظر الى نكتتين:

الاُولى: أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون في المقام كنفي الحكم الضرري ابتداءً فيما مضى من احتياجه الى المجاز في الحذف، أو المجاز في الكلمة، أو تطبيق عنوان المسبّب التوليدي على السبب وفق القاعدة الميرزائيّة؛ وذلك لأنّ الضرر بالعنوان الأوّلي ليس هو ذات الموضوع، وهو الوضوء مثلاً، بل هو الحالة الضرريّة كالاستبراد وتشقّق اليد والمرض مثلاً، فتطبيقه على الموضوع وهو الوضوء ـ أيضاً ـ يكون إمّا من باب المجاز في الحذف، أي: (لا وضوء ينشأ منه الضرر)، أو من باب المجاز في الكلمة باستعمال اسم المسبّب وهو الضرر مجازاً في سببه، وهو الوضوء، أو من باب أنّ الضرر مسبّب توليديّ للوضوء، فطبّق عنوانه على سببه وفق القاعدة الميرزائيّة.

والثانية: أنّه إذا دار الأمر بين هذه الاُمور الثلاثة، أعني: المجاز في الحذف، والمجاز في الكملة، وتطبيق عنوان المسبّب التوليدي على السبب حقيقة، فالثالث هو المتعيّن في المقام، فإنّ القاعدة الميرزائيّة صحيحة، وتؤمّن لنا إبقاء الكلام على معناه الحقيقي. فنحن نمشي على هذا المسلك في المقام.

وبعد الالتفات الى ذلك نقول في المقام: إنّ حمل (لا ضرر) على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة، أي: بالنكتة التي تختصّ بنفي إطلاق الحكم غير صحيح، لا بنحو النفي البسيط، ولا بنحو النفي التركيبي.

أمّا النفي البسيط فلأنّه إنّما يتلائم مع خصوص موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني مثلاً، ولا يتلائم مع متعلّقه الضرري كالوضوء الضرري؛ لأنّ الحكم لا ينتفي بانتفاء متعلّقه، وإنّما الحكم هو الذي يستدعي تحقّق المتعلّق خارجاً، والحكم ثابت قبل تحقّق متعلّقه ولو فرض عدم تحقّقه الى الأبد، وإنّما الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه.

وأمّا النفي التركيبي بأن يقصد بنفي الضرر نفي كون الوضوء الضرري وضوءاً، فلا يرد عليه ما عرفته من الإشكال، فإنّه إذا انتفى اتّصافه بكونه وضوءاً انتفى وجوبه لا محالة، لكن يرد عليه إشكال آخر، وهو أنّ النفي التركيبي المؤدّي الى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون معناه هنا عدم كون الوضوء الضرري وضوءاً، وهذا معناه عدم تسلّط النفي أصلاً على المدلول الاستعمالي لكلمة (الضرر)، فإنّ الضرر

544

استعمل حسب الفرض في معناه الحقيقي وإن اُطلق على الوضوء بدعوى كونه مصداقاً له. نعم، لو فرض أنّ الضرر استعمل مجازاً بمعنى الوضوء مثلاً بمثل المجاز في الكلمة، تمّ تسلّط النفي على المدلول الاستعمالي لكلمة (الضرر)، لكنّنا قلنا: إنّنا نمشي على ما هو الفرض الأحسن المتعيّن: من كون المقام من قبيل جعل المسبّب التوليدي عنواناً ثانياً للسبب، فيتسجّل في المقام عدم ارتباط النفي أصلاً بمعنى الضرر الذي استعمل فيه لفظ الضرر، وهذا ليس بياناً عرفيّاً.

وهذا بخلاف مثل (لا ربا بين الوالد وولده)، فإنّ تفسيره بالنفي التركيبي بمعنى: أنّ الربا بين الوالد والولد ليس رباً، لا يرد عليه هذا الإشكال، فإنّه قد تسلّط النفي على المعنى المستعمل فيه لكلمة (الربا).

نعم، حتّى في مثل هذا المثال نقول: إنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو حمل الكلام على النفي البسيط لا النفي التركيبي؛ لأنّه أدخَل أداة النفي ابتداءً على الربا، ولم يذكر شيئاً آخر، ولم ينف ِ عنواناً عن شيء حتّى يكون النفي تركيبيّاً، فحملُ الكلام الذي يكون بلسانه الأوّلي نفياً بسيطاً على النفي التركيبي يكون لنكتة، والنكتة العامة في المقام: هي أنّه مهما كان الكلام بلسانه الأوّلي نفياً بسيطاً، لكن كان هناك ارتكاز لنكتة ما في ذلك الكلام تفهم من الكلام لو حمل على النفي التركيبي، ولا تفهم منه لو حمل على النفي البسيط، إلّا بمعونة نفس ذلك الارتكاز، حُمِل الكلام على النفي التركيبي. ففي قوله مثلاً: «لا ربا بين الوالد وولده» الارتكاز يقتضي أنّ نفي الربويّة والزيادة بالرغم من وجودها تكويناً، كأنّه يكون بلحاظ أنّ كيس الوالد والولد واحد، فكأنّه أخرج الزيادة من أحد جيبيه، وأدخلها في جيبه الآخر، فلا زيادة، وهذه النكتة المرتكزة تفهم من نفس الكلام بغض النظر عن الارتكاز لو حمل النفي على النفي التركيبي، أي: فسّر الكلام هكذا: (ليست الزيادة زيادة بين الوالد وولده) والوجه في فهم ذلك من الكلام هو أنّ عنوان الزيادة اُثبتت في الموضوع ونُفيت في المحمول، والعرف يترقّب من ذلك أن يكون نفيه في المحمول بلحاظ غير لحاظ إثباته في الموضوع، بأن يكون الإثبات والنفي بلحاظين مختلفين، لا أن يكون شيء واحد اُثبت حقيقة، ونُفي نفس ذلك الشيء ادّعاءً، وعليه يُفهم ـ لا محالة ـ من الزيادة في الموضوع في هذا الكلام ذات الزيادة الصوريّة، وفي المحمول كونها زيادة واقعيّة باعتبار تعدّد الكيس. وهذا الكلام ينفي كون الزيادة زيادة واقعيّة لوحدة الكيس، ففهمت نكتة وحدة الكيس من نفس الكلام.