123

ينتج وجوب الركعة المفصولة؛ وذلك لانقلاب الوظيفة بالشكّ، فمن لم يأتِ بالركعة الرابعة وهو شاكّ في ذلك وظيفته هي الإتيان بالركعة المفصولة، والجزء الثاني من الموضوع وهو الشكّ ثابت بالوجدان، والجزء الأوّل منه وهو عدم الاتيان بالركعة الرابعة ثابت بالاستصحاب، وعدم ثبوت هذا الأثر قبل الشكّ لا يضرّ بالاستصحاب، فإنّ اللازم في الاستصحاب هو كون المستصحب ذا أثر حين الاستصحاب ولو فرض قبله بلا أثر، أو ذا أثر آخر يخالف هذا الأثر أو يضادّه.

وهذا البيان يمكن إثارة شبهات حوله:

الاُولى: شبهة مبنيّة على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله): من أنّ الاستصحاب يقوم مقام العلم الموضوعي كما يقوم مقام العلم الطريقي، وهي: أنّ الاستصحاب في المقام وإن كان يثبت أحد جزئي الموضوع، وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة، لكنّه ينفي الجزء الآخر، وهو الشكّ، ويثبت العلم الذي هو بانضمامه إلى عدم الإتيان بالركعة الرابعة موضوع لوجوب الركعة الموصولة، فهو يهدم بمقدار ما يبني، فلا يفيد شيئاً.

وللمحقّق النائيني(رحمه الله) أن يجيب على هذه الشبهة: بأنّنا وإن قلنا بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي بحكومته على الأدلّة الواقعية التي أخذ في موضوعها العلم أو الشكّ، لكن في خصوص المقام لا تتم الحكومة؛ إذ لو كان الاستصحاب حاكماً على دليل لزوم الإتيان بالركعة المفصولة عند الشكّ لم يبقَ لذلك الدليل مورد، وكلّما كان المحكوم أخصّ من الحاكم، ويلزم من حكومة الحاكم عليه لغويّته وعدم بقاء مورد له لا تثبت الحكومة، ويخصّص الحاكم بالمحكوم.

الثانية: ما ذكره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(1): من أنّ جعل الحكم بوجوب الركعة المفصولة على موضوع مركّب من عدم الإتيان بالركعة الرابعة والشكّ غير معقول؛ لأنّ هذا الحكم لا يقبل الوصول؛ لأنّه إن وصل بوصول موضوعه، أي: بالعلم بعدم الإتيان بالركعة الرابعة انتفى الشكّ، وإن لم يعلم بذلك لم يصل الحكم.

وهذا الكلام من المحقّق الاصفهاني(قدس سره) مبنيّ على مبناه في باب الحكم: من أنّه لا يعقل الحكم إلاّ إذا أمكنت محرّكيّته بالوصول الوجداني. وأمّا على ما هو الصحيح: من أنّه إنّما يشترط في الحكم كونه قابلاً للتنجز ولو بغير الوصول الوجداني، فإن لم يكن قابلاً لذلك لم


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 83 بحسب طبعة آل البيت.

124

يكن ممكناً: إمّا عقلاً أو عقلائيّاً، ولا يشترط فيه إمكان وصوله وجداناً، فهذا الإشكال لا موضوع له في المقام؛ لإمكان التنجّز في المقام بالاستصحاب أو بنفس الشكّ الذي هو شكّ في مرحلة الامتثال، وهذا الاختلاف بيننا وبين المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في المبنى(1) يرتبط بأبحاث في تصوّر الحكم وحقيقته، ليس هنا محلّ شرحها.

الثالثة: مبنيّة على أصل موضوعيّ صحيح عندنا يأتي بعد هذا بيانه ـ إن شاء الله ـ، وهو: أنّ مفاد قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو أنّه اِجعَلْ الشكّ خَلَفاً لليقين في تحريكه نحو ما كان يحرّك اليقين إليه، ولا ترفع يدك عمّا كان يحرّكك اليقين إليه لو كان باقياً بمجرّد الشكّ. وعلى هذا نقول: إنّ هذا المعنى لدليل الاستصحاب لا ينطبق في مورد يكون الحكم مع الشكّ غيره مع اليقين كما في المقام، فاليقين لو كان، لكان يحرّكنا نحو الأمر بركعة موصولة، والشكّ هنا يحرّكنا نحو أمر آخر متعلّق بركعة منفصلة، بعد ما عرفت من أنّ هذا أمر اخر مغاير للأمر الأوّل ولو عرفاً.

وللمحقّق النائيني(قدس سره) أن يجيب على هذا الإشكال، بأنّ اليقين في المقام له جهتان:

الجهة الاُولى إثباته لجزء الموضوع لوجوب الركعة المفصولة، وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فيقتضي التحريك نحو الركعة المفصولة بمقدار ما يقتضيه ثبوت جزء الموضوع.

والجهة الثانية هدمه للجزء الثاني لذلك، وهو الشكّ، فيبطل بذلك ما اقتضاه في الجهة الاُولى، ويُبقيه بلا ثمرة.

والاستصحاب في المقام إنّما يقتضي خَلَفيّة الشكّ لليقين في الجهة الاُولى دون الثانية، فيثبت الاقتضاء الموجود في الجهة الاُولى من دون أن تهدمه الجهة الثانية، وبذلك يثبت الجزء الأوّل، ويضمّ ذلك إلى تحقّق الجزء الثاني وجداناً، وهو الشك، فيثبت المطلوب.

إلاّ أنّ الشأن في أنّه بعد هذا التفكيك هل تصدق عرفاً الخَلَفيّة بحيث يبقى الاستصحاب


(1) لم أرَ في كتاب الشيخ الإصفهاني في غير هذا الموضع ما يوحي إلى أنّ الحكم يجب أن يكون قابلاً للوصول الوجداني. ويوجد له في الجزء الثالث من نهاية الدراية في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ص 122 بحسب طبعة آل البيت، إن لم يكن موحياً إلى كفاية قابليّة الوصول بأيّ نحو من الأنحاد، فهو لا يوحي إلى الخلاف، حيث قال: (وقد عرفت أنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي الذي هو تمام ما بيد المولى لا يعقل أن يتّصف بصفة الدعوة إمكاناً، إلاّ بعد وصوله إلى العبد بنحو من أنحاء الوصول...).

وأنا أظنّ أنّ مقصود الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) في المقام هو: أنّ هذا الحكم غير قابل للوصول من باب أنّ أحد جزئيه وهو عدم الإتيان بالركعة الرابعة لو وصل وجداناً أو تعبّداً لانتفى الجزء الآخر، وهو الشكّ وجداناً أو تعبّداً، أي: أنّ هذه الشبهة ترجع في الحقيقة إلى الشبهة الاُولى.

125

في المقام داخلاً تحت إطلاق (لا تنقض اليقين بالشكّ، وتحرِّك نحو ما يتحركُ إليه مع فرض اليقين) أو لا؟ فإن سلّمنا بعرفيّة ذلك ارتفعت هذه الشبهة، وإلاّ فلا. والظاهر عندي عدم عرفيّة ذلك.

الرابعة: الإشكال الأخير الذي أوردناه على الوجه الثاني من أنّه يظهر من الحكم ببقاء الأثر في المقام الحكم ببقاء الأثر المعلوم أثريّته في نفسه، أي: بغضّ النظر عن دليل الاستصحاب، لا الأثر الذي يجب أن يستنبط من دليل الاستصحاب.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ إشكال الشيخ الأعظم(قدس سره) بقي بلا جواب.

المحذور الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو محذور على أحد شقّي الترديد الذين ذكرهما الشيخ الأعظم(رحمه الله)، وهو حمل الرواية على إرادة الركعة الموصولة، وهو أنّ الاستصحاب لا ينطبق على المورد حتّى لو أخذنا بقول العامّة، وفرضنا لزوم الركعة المتّصلة؛ وذلك لأصل موضوعي عند المحقّق العراقي(رحمه الله)، وهو أنّ المستظهر فقهيّاً من الروايات أنّ التشهّد والتسليم يجب أن يكون ظرفهما الركعة الرابعة، فلو صلّى شخص خمس ركعات، وجعل التشهّد والتسليم في الركعة الخامسة، لم يكن في صلاته عيب واحد وهو زيادة الركعة، بل فيها عيب آخر أيضاً، وهو عدم وقوع التشهّد والتسليم في محلّهما، وعند ئذ نقول: إنّ الاستصحاب في المقام وإن كان يثبت وجوب الإتيان بركعة اُخرى، لكنّه لا يثبت بذلك أنّ هذه الركعة التي يأتي بها هي ركعة رابعة، فإنّ ذلك تعويل على الأصل المثبت، فلا يثبت وقوع التشهّد والتسليم في محلّهما وهو الركعة الرابعة، فبالتالي لا تصحّ الصلاة بهذا الاستصحاب، فعدم مصحّحيّة الاستصحاب في باب عدد الركعات للصلاة يكون على القاعدة، بغضّ النظر عن الأخبار الدالّة على ذلك(1).

وأجاب السيد الاُستاذ على ذلك(2): بأنّنا نثبت شرط التشهّد والتسليم باستصحاب آخر، وهو استصحاب كون هذا الشخص في الركعة الرابعة، فإنّه بعد أن أجرى هذا الشخص استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، فاشتغل على إثره بركعة جديدة يحصل له العلم إجمالاً بأنّه إمّا أن دخل الآن في الركعة الرابعة، أو دخل فيها حين دخوله في الركعة التي شكّ أنّها الرابعة أو الثالثة، فعلى الأوّل هو باق بعدُ بالرابعة، وعلى الثاني قد خرج عنها، فهو يعلم


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 60.

(2) أجاب السيد الخوئي تارة بمناقشة المبنى، وهو شرط كون التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة، واُخرى بما ورد في المتن بعد فرض تسليم المبنى. راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 61 ـ 62.

126

بالدخول في الرابعة ويشكّ في الخروج عنها، فيستصحب كونه في الرابعة، فيقع التشهّد والتسليم في محلّهما.

أقول: يرد على هذا: أوّلاً: أنّ المحقّق العراقى(رحمه الله) يدّعي أنّ التشهّد والتسليم يجب أن يقعا في الركعة الموصوفة بكونها رابعة، لا أنّه يجب أن يقعا عند اتّصاف الشخص بكونه في الرابعة، وهذا الاستصحاب إنّما أثبت اتّصاف الشخص بكونه في الرابعة، ولم يثبت اتّصاف الركعة بكونها رابعة إلاّ تعويلاً على الأصل المثبت.

وثانياً: أنّ هذا الشخص يعلم إجمالاً ـ أيضاً ـ بأنّه: إمّا لم يكن في الرابعة حينما كان في الركعة التي شكّ في أنها ثالثة أو رابعة، او لا يكون في الرابعة حينما دخل في الركعة الجديدة. فعلى الأوّل قد انتفى عدم كونه في الرابعة، وعلى الثاني لم ينتفِ، فيستصحب عدم كونه في الرابعة، ويعارض ذلك استصحاب كونه في الرابعة.

إن قلت: إنّ كونه في الرابعة له عدمان: عدم قبل الوجود، وعدم بعد الوجود. والأوّل مقطوع الارتفاع، والثاني مشكوك الحدوث، نظير من كان محدثاً ثم توضّأ ثم علم بحدوث حدث منه لا يدري أنّه حدث بعد الوضوء أو قبله، فهنا لا يجري استصحاب الحدث؛ لأنّه يعلم أنّ الحدث قبل الوضوء ارتفع، وبعده مشكوك الحدوث.

قلنا: هناك فرق بين ما نحن فيه وهذا المثال، ففي هذا المثال لا مجال للاستصحاب؛ لأنّنا نسأل: ما الذي يستصحبه؟ هل يستصحب حالته الحدثيّة المعلومة تفصيلاً قبل الوضوء، أو حالته الحدثيّة المشكوكة بعد الوضوء، أو حالته الحدثيّة المعلومة إجمالاً؟ أمّا الاُولى فمقطوعة الارتفاع. وأمّا الثانية فمشكوكة الحدوث. وأمّا الثالثة فالعلم الإجمالي منحلّ بتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه وهو الحدث قبل الوضوء.

وأمّا في المقام فلم ندّعِ نحن العلم الإجمالي بعنوان العدم قبل الوجود، أو العدم بعد الوجود، وإنّما ادّعينا العلم الإجمالي بعدم الكون في الرابعة عند الركعة السابقة، أو عند الركعة الجديدة، وهذا العلم الإجمالي ليس منحلاًّ؛ لعدم تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه، وإنّما تعلّق العلم بأنّ أحد طرفيه وهو الطرف الأوّل لو كان فقد زال، والعلم الإجمالي لا ينحلّ بهذا، وإنّما ينحلّ بتعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه، فيجري استصحاب المعلوم بالإجمال(1).

 


(1) وبكلمة اُخرى: أنّ ما نحن فيه شبيه بما لو علم إجمالاً بالطهارة في الساعة الرابعة والحدث في الساعة

127

ثمّ إنّ جريان أمثال هذه الاستصحابات في نفسها مرتبط ببحث يأتي ـ إن شاء الله ـ في مسألة لزوم اتّصال زمان اليقين بالشكّ. وضابط هذه الاستصحابات هو: أنّ الشكّ لم يحصل من ناحية نقطة الانتهاء، وإنّما حصل من ناحية نقطة الابتداء، فالمشكوك ليس على كلّ تقدير بقاء للمتيقّن، بل يكون نفس المتيقّن إذا كان المتيقّن حادثاً في الزمان الثاني.

ثم إنّ المحقّق العراقي بعد أن ذكر ما عرفته من إشكال مثبتيّة الاستصحاب اعترض على نفسه ـ على ما في تقرير بحثه ـ بأنّ عدم حجّيّة الأصل المثبت إنّما هو من باب قصور دليل الحجّيّة، فلو دلّ دليل في مورد على الحجّيّة في ذاك المورد التزمنا بها. وعليه فنقول: إن كان الاستصحاب في المقام مثبتاً فقد دلّت هذه الرواية على حجّيّة الاستصحاب المثبت في المقام(1).

ثمّ ذكر على ذلك جواباً(2) وعبارته مشوّشة، لا يتحصّل منها جواب فنّي، ولكي نعطي صورة لذلك الجواب نفترض فيه أصلاً موضوعياً، وهو أنّ حجّيّة الأصل المثبت إنّما تتعقّل بفرض تنزيل في المرتبة السابقة يكوّن أثراً شرعياً للمستصحب، ببيان: أنّه إذا اُريد استصحاب حياة زيد ليثبت الأثر الشرعي المترتّب على نبات لحيته الذي فرضناه لازماً عقلياً لبقاء حياته، فإنّما يمكن ذلك إذا فرض أنّ المولى في المرتبة السابقة أثبت تعبّداً وتنزيلاً نبات لحيته على تقدير بقاء حياته، وهذا النبات ليس أمر تكوينيّاً، وإنّما هو حكم شرعيّ؛ لأنّه نبات تعبّدي وتنزيليّ، وموضوعه بقاء الحياة لزيد، فأصبح بقاء الحياة ذا حكم شرعيّ، فيستصحب ليثبت ذلك الحكم، وهو نبات اللحية، وبالتالي يثبت أثر نبات اللحية.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّه إذا اُريد استصحاب عدم الكون في الركعة الرابعة ليثبت أثر كون الركعة الجديدة رابعة، فلا بدّ من فرض تنزيل وتعبّد في المرتبة السابقة، وهو التعبّد برابعيّة الركعة الجديدة، ومع التعبّد بذلك يرتفع الشكّ في الإتيان بالركعة الرابعة، ويتبدّل الى العلم بعدم الاتيان بها، إذ قد ثبت انّ الرابعة هي هذه الركعة الجديدة التي لم ياتِ بها بعد، فيرتفع موضوع استصحاب عدم الإتيان بالرابعة. وهذا بخلاف مثال نبات اللحية الذي لم


الخامسة، أو العكس، ومن الواضح تعارض الاستصحابين في ذلك، لا بما لو علم تفصيلاً بالطهارة في الساعة الرابعة وعلم إجمالاً بصدور الحدث في الساعة الخامسة أو صدوره حينما كان محدثاً، وقبل تطهّره في الساعة الرابعة.

(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 61.

(2) راجع نفس المصدر: ص 61 ـ 62.

128

يكن التعبّد بنبات اللحية فيه رافعاً للشكّ في الحياة.

أقول: يرد على هذا ـ بعد المناقشة في الأصل الموضوعي لما سوف يظهر (إن شاء الله) في بحث الأصل المثبت من أنّ إمكان حجّيّة الأصل المثبت لا تنحصر صورته في ما مضى ـ: أنّه(قدس سره) لم يتحفّظ على الأصل الموضوعي حرفياً عند التطبيق على المقام، فإنّ الأصل الموضوعي ليس هو التعبّد بنبات اللحية مثلاً بالفعل، وإلاّ لم تبقَ حاجة إلى استصحاب الحياة، وإنّما الأصل الموضوعي هو التعبّد بنبات اللحية على تقدير الحياة، فيثبت ذلك باستصحاب الحياة، وتطبيق ذلك على المقام يكون بأن يفرض التعبّد برابعيّة الركعة الجديدة على تقدير عدم الإتيان بها، لا برابعيّتها بالفعل، فلا بدّ من استصحاب عدم الإتيان، وليس مجرّد التعبّد والتنزيل الثاني رافعاً ومبطلاً لموضوع التعبّد والتنزيل الأوّل؛ لأنّه تعبّد تقديري.

المحذور الثالث: ما ذكره المحقّق العراقي(قدس سره) أيضاً: من أنّ الشكّ إنّما تعلّق بعنوان الرابعة لا بذات الرابعة، فإنّ آخر ركعة جاء بها إن كانت هي الرابعة واقعاً، فهو يعلم بواقع الرابعة، وإلاّ فهو يعلم بواقع عدم الإتيان بالرابعة، وإنّما الشكّ تعلّق بعنوان الرابعة، والأثر إنّما هو مترتّب على واقع الركعات لا عناوينها، أي: أنّ الواجب إنّما هو الإتيان بواقع الركعة الرابعة لا تحصيل هذا العنوان(1).

أقول: إن تمّ ما ذكره من كون الحكم هنا للواقع لا للعنوان، كفانا في ردّه أن نستصحب عدم ذات من ذوات الركعات الأربع؛ إذ هو لا يتذكّر أربع ذوات، وإلاّ لما كان يشكّ في العنوان أيضاً، وإنّما يتذكّر ثلاث ذوات، فإحدى الذوات الأربع مشكوكة حتماً، فيستصحب عدم تلك الذات، فيجب عليه أن يعمل عملاً يحرز معه الإتيان بذوات الركعات الأربع، ويكون ذلك بإضافة ركعة اُخرى ولو لم يكن لنا جواب على كلام المحقّق العراقي غير هذا لكفى.

هذا. ويوجد هنا محذور رابع يشبه كلمات المحقّق العراقي(رحمه الله) في كونه في الواقع محذوراً في إجراء الاستصحاب بمقتضى القواعد، ولا يصلح إشكالاً على التطبيق الوارد في الرواية للاستصحاب على المقام؛ لأنّ تطبيق الرواية للاستصحاب على المقام يكون بنفسه دليلاً


(1) وقد شبّه(رحمه الله) ما نحن فيه باستصحاب الفرد المردّد. راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 59 ـ 60.

129

على حجّيّة الاستصحاب المثبت، أو استصحاب الفرد المردّد، او نحو ذلك في المقام، فلنحذف ذكر هذا المحذور هنا لنذكره بعد ذلك كإشكال على تطبيق الاستصحاب على المقام وفق القواعد، وبغض النظر عن هذه الرواية.

 

فائدة في مطلبين:

ونودّ أن نذكر هنا بالمناسبة مطلبين:

الأوّل: أنّه لولا الروايات الخاصّة في المقام هل يمكن تصحيح صلاة شكّ فيها بين الثلاث والأربع بمقتضى القواعد، أو لا؟

والثاني: أنّه بغضّ النظر عن رواية تدلّ على إجراء الإمام(عليه السلام) للاستصحاب في المقام، أو تمنع عنه، هل يجري استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة، أو لا؟

أمّا المطلب الأوّل: فيقع الكلام فيه في مرحلتين:

1 ـ في إمكان تصحيح الصلاة بمقتضى القواعد بغضّ النظر عن قاعدة الاستصحاب نهائياً، وعدمه.

2 ـ في إمكان تصحيح الصلاة بالنظر إلى قاعدة الاستصحاب.

أمّا المرحلة الاُولى، فقد يقال: إنّه يمكن تصحيح الصلاة بأن يقوم فيأتي بركعة جديدة بناءً على منع ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) من اشتراط كون التشهّد والتسليم في ظرف الركعة الرابعة، فلو وقعا في ركعة خامسة وقعا في غير محلّهما(نعم، لا إشكال في أنّه لو وقعا في ركعة ثالثة وقعا في غير محلّهما لاشتراط الترتيب)، وعند ئذ نقول: إنّ النقيصة مقطوعة العدم، وكون هذه الركعة زائدة مشكوك بالشبهة المصداقية، فتجري البراءة عن مانعيّة هذه الركعة، فياتي بها.

ويمكن الاستشكال في هذه البراءة بوجهين:

الأوّل: أنّنا نعلم إجمالاً بمانعيّة هذه الركعة أو جزئيّتها، فالبراءة عن مانعيّتها تعارض بالبراءة عن جزئيّتها. ولا يقال: إنّ هذا علم إجماليّ بالوجوب أو الحرمة، والأمر فيه دائر بين المحذورين، فلا ينجّز هذا العلم. فإنّه يقال: إنّه حيث أنّ الجزئيّة والمانعيّة من الأحكام الضمنيّة يكون بالإمكان موافقتهما القطعية بإعادة الصلاة؛ إذ يحصل بذلك الامتثال القطعي للأمر النفسي، وامتثال الأوامر الضمنيّة إنّما يكون بامتثال الأمر النفسي، كما أنّه يمكن مخالفتهما القطعية بترك الصلاة رأساً.

130

والجواب: أنّ البراءة عن المانعيّة لا تعارض هنا بالبراءة عن الجزئيّة، باعتبار أنّ الشكّ في الجزئيّة هنا يكون مورداً للشكّ في الامتثال، حيث إنّه يعلم بجزئيّة ركعات أربع، ويشكّ في أنّه هل امتثل ذلك أو لا، فالمورد مورد الاشتغال لا البراءة. وأمّا في جانب المانعيّة فهو يعلم تفصيلاً بمانعيّة ركعة اُخرى بعد هذه الركعة؛ لزيادتها حتماً، ويشكّ في مانعيّة هذه الركعة شكّاً بدويّاً، وهذه شبهة مصداقية للتكليف، فتجري البراءة فيه(1).

والثاني: أنّنا نعلم إجمالاً بمانعيّة هذه الركعة أو مانعية التشهّد والتسليم الآن، إذ لو كان قد أتى بركعات أربع فهذه الركعة زائدة ومبطلة للصلاة. ولو كان قد أتى بثلاث ركعات، فإن تشهّد وسلّم كان ذلك زيادة؛ لوقوعهما قبل الركعة الرابعة، وهو خلاف الترتيب، فيعلم إجمالاً بزيادة أحد الأمرين ومانعيّته، فيقع التعارض بين البراءتين.

وهذا الإشكال لا جواب عليه بناءً على مبنانا في تنجيز العلم الإجمالي وتعارض الاُصول الذي حقّقناه في محلّه. وأمّا بناءً على الميزان الذي أخذه المحقّق النائيني(رحمه الله) في تنجيز العلم الإجمالي من كون الاُصول موجبة للترخيص في المخالفة القطعيّة، فيمكن دفع هذا الإشكال؛ لأنّ الأصول في المقام لا تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة(2). فإنّه لو تشهّد وسلّم لم يكن


(1) قد تقول: كيف تجري البراءة عن المانعية هنا في نظر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) مع أنّه مضى منه عدم جريان البراءة عن مانعيّة النجاسة لدى احتمال نجاسة الثوب بحجّة أنّ فعلية المانعية لا تتوقّف على فعلية المانع؟!

ويمكن الجواب عن ذلك ببيان: أنّه مضى منه(رحمه الله) أنّه إن بنينا على مانعية نجاسة الثوب فالبراءة لا تجري؛ لأنّ المانعية فعليّة حتّى مع عدم فعلية المانع. أمّا إن بنينا على أنّ الثوب النجس مانع بأن كانت النجاسة حيثية تعليلية لمانعية الثوب، فالشكّ في النجاسة يؤدّي إلى الشكّ في مانعية الثوب، فتجري البراءة. وفيما نحن فيه نستظهر من أدلّة مانعية الزيادة أنّ الركعة الزائدة مانعة، أي: أنّ الزيادة حيثيّة تعليليّة لمانعيّة الركعة، فالركعة حالها حال الثوب، والزيادة حالها حال النجاسة، ومع الشكّ في الزيادة نشكّ في مانعيّة الركعة، فتجري البراءة.

(2) لو بنينا على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ محذور جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي لزوم الترخيص في المخالفة القطعية، فهذا المحذور غير موجود في المقام كما هو مشروح في المتن. ولو بنينا على مبنى السيد الخوئي من أنّ المحذور في ذلك لزوم الترخيص القطعي في المخالفة، فهذا المحذور موجود في المقام بلا إشكال؛ لأنّ إحدى البراءتين ترخيص في المخالفة قطعاً، وذلك للقطع بمخالفة إحداهما للواقع. ولو بنينا على ما مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث شبهة التخيير التي ذكرها المحقّق العراقي(قدس سره) كنقض على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية، من أنّ المحذور وإن كان في الترخيص في المخالفة القطعيّة لا في الترخيص القطعي في المخالفة، ولكن مع ذلك لا يمكن إجراء الأصلين على شكل التخيير؛ لأنّ التخيير في الترخيص الظاهري يعود إلى الترخيص في الجامع، وهو لا يستنبط من الجمع بين دليل الترخيصين التعيينيّين زائداً دليل عدم الترخيص في المخالفة القطعية، فهذا المحذور بعينه يأتي في ما نحن فيه؛ لأنّ المخالفة القطعية ممكنة في المقام، غاية الأمر أنّها تؤدّي إلى المخالفة القطعيّة

131

ذلك مخالفة قطعيّة. ولو قام ولم يتشهّد لم يكن ذلك مخالفة قطعية. ولو تشهّد وقبل التسليم قام وجاء بالركعة الاُخرى، أو قام وقبل إنهاء الركعة الاُخرى تشهّد، كان ذلك مخالفة قطعية، لكن هذا مخالفة قطعيّة تفصيليّة باعتبار أنّه يتولّد من علمه الإجمالي هنا العلم التفصيلي بأنّه خالف الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة، والاُصول لا ترخّص في المخالفة التفصيلية.

وأمّا المرحلة الثانية، فبعد أن عرفت أنّه بحسب مبانينا لا يمكن تصحيح الصلاة بغضّ النظر عن الاستصحاب، فهل يمكن تصحيحها بالاستصحاب أو لا؟

التحقيق: أنّه إن قام فأضاف ركعة اُخرى كانت النقيصة مقطوعة العدم كما مضى، والزيادة يمكن دفع احتمالها بالاستصحاب، لا باستصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة الذي هو محطّ كلام الاصحاب؛ فإنّ هذا لا يثبت أنّ الركعة الجديدة ليست زيادة إلاّ بنحو الأصل المثبت، بل باستصحاب عدم الزيادة الذي يجري بعد العمل. نعم، إنّما يفيد استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة بعد فرض مقدّمتين:

(الاُولى): أن يقال: إنّ المبطل ليس عنوان الزيادة، بل منشأ انتزاعها وهو الركعة غير المأمور بها.

(والثانية): أن يقال: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يثبت الأمر بالركعة الجديدة، فيثبت بهاتين المقدّمتين أنّ الاستصحاب يرفع موضوع المبطلّية وهو الركعة غير المأمور بها.

إلاّ أنّ شيئاً من المقدّمتين غير صحيح: أمّا الاُولى فغير صحيحة فقهيّاً؛ لأنّ العنوان المأخوذ في لسان الأدلّة هو الزيادة، وذلك ظاهر في دخلها بعنوانها. وأمّا الثانية فغير صحيحة اُصولياً؛ لما سوف يظهر ـ إن شاء الله ـ في المطلب الثاني من أنّ هذا الاستصحاب لا يثبت الأمر.

وأمّا المطلب الثاني: وهو في بيان جريان استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة وعدمه بغضّ النظر عن نصّ خاصّ يدلّ على جريانه أو عدمه، فهذا الاستصحاب لا نبحث


للعلم التفصيلي كما ذكر في المتن، فيجب استثناءها، ويؤول الترخيص بعد هذا الاستثناء إلى الترخيص في الجامع الذي لا يمكن استفادته من الجمع بين دليل الترخيصين التعيينيّين والمنع عن المخالفة القطعية المؤدّية إلى المخالفة التفصيلية.

132

جريانه بلحاظ تصحيحه للصلاة؛ لما عرفت في المطلب الأوّل من أنّ هذا الاستصحاب لا يصحّح الصلاة، وإنّما الذي يصحّحها هو استصحاب عدم الزيادة بالبيان الذي مضى، وإنّما نبحث جريانه لتأكيد قاعدة الاشتغال.

والكلام تارةً يقع في إجراء هذا الاستصحاب بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة موصولة، واُخرى في إجرائه بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة مفصولة.

أمّا إجراء الاستصحاب بداعي التحريك نحو الإتيان بركعة موصولة فنقول: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في المقام هو في الحقيقة مصداق من مصاديق استصحاب عدم الامتثال، وهناك بعض النقاشات في كبرى استصحاب عدم الامتثال لدى الشكّ في الامتثال، من قبيل القول بأنّ ما يراد تحميله ظاهراً على المكلف باستصحاب عدم الامتثال من المحتمل تحقّق امتثاله ولو روحاً، وذلك بامتثال أصل الأمر الواقعي قبل جريان الاستصحاب، إذن فنحن شاكّون في امتثال هذا الاستصحاب، فلو تمسّكنا بأصالة الاشتغال فلنتمسّك بها ابتداءً بلا حاجة إلى توسيط الاستصحاب، وإلاّ فلا فائدة في هذا الاستصحاب.

فإن أنكرنا كبرى استصحاب عدم الامتثال بهذا البيان أو بأيّ بيان آخر، لم يبقَ مورد للبحث عن استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في المقام. وتحقيق الحال في كبرى استصحاب عدم الامتثال يأتي في محلّه إن شاء الله.

أمّا هنا فنفترض افتراضاً صحّة كبرى استصحاب عدم الامتثال في الجملة، أي في موارد الشكّ في امتثال الأوامر الاستقلاليّة، فيقع الكلام في أنّه هل يجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم الامتثال في باب الأوامر الضمنيّة لكي يجري في المقام استصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة، أو لا؟

ولننبّه ابتداءً على أنّ كلامنا إنّما هو في إجراء استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة في أثناء الصلاة. أمّا إذا لم يعتنِ باحتمال عدم الإتيان بها، وأتمّ الصلاة بالتشهّد والتسليم، كان بعد ذلك استصحاب عدم الإتيان بها في قوّة استصحاب عدم امتثال الأوامر الاستقلاليّة.

ثم إنّ في كيفيّة إجراء استصحاب عدم الامتثال مسلكين:

المسلك الأوّل: أن يقال بجريان استصحاب عدم الامتثال باعتباره مثبتاً لبقاء الوجوب؛ لأنّ الوجوب مقيّد بقاءً بعدم الامتثال على ما يحكم به العقل القاطع من سقوط الوجوب بالامتثال، فعدم الامتثال موضوع للوجوب بقاءً، فباستصحابه يثبت الحكم،

133

فالاستصحاب وإن كان لا يجري إلاّ في الأحكام الشرعيّة أو موضوعاتها، لكن عدم الامتثال موضوع للحكم الشرعي ولو بقاءً، فلا بأس باستصحابه.

المسلك الثاني: أن يقال: إنّه لا حاجة إلى كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم شرعي، فحتّى بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الوجوب لا يسقط بالامتثال، وأنّ عدم الامتثال ليس مأخوذاً في موضوع الحكم بقاءً، وإنّما الذي يسقط بالامتثال هو فاعليّة الحكم لا فعليّته، نقول بجريان الاستصحاب في باب الامتثال رغم عدم كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي؛ وذلك باعتبار إمكان جعل الاُصول المؤمّنة والمنجّزة في مرحلة الامتثال، كما في قاعدة الفراغ، فإذا كان الأصل مؤمّناً كان حاكماً على قاعدة الاشتغال الجارية في مرحلة الامتثال، وإذا كان منجِّزاً كان مؤكِّداً لها، وقبول المرحلة للتنجيز والتعذير كاف في جريان الاستصحاب ولو لم يكن المستصحب حكماً أو موضوع حكم، فإنّ دليل الاستصحاب يدلّ على لزوم الحركة والمشي نحو ما لو كان اليقين ثابتاً كان يحرّك عقلاً إليه بما هو يقين طريقي. وفي ما نحن فيه لو كان اليقين بعدم الامتثال ثابتاً لكان يحرّك نحو الامتثال، فعند الشكّ ـ أيضاً ـ لا بدّ من الحركة نحو الامتثال. ويأتي توضيح ذلك في تنبيه من تنبيهات المسألة إن شاء الله.

والآن نتكلّم في موضوع بحثنا تارةً على المسلك الأوّل، واُخرى على المسلك الثاني:

أمّا لو بنينا على المسلك الأوّل، وهو: أنّ استصحاب عدم الامتثال يجري لكونه منقّحاً لموضوع الحكم بقاءً، فبالإمكان أن يقال: إنّ هذا وإن كان يصحّح استصحاب عدم الامتثال في التكاليف الاستقلالية، ولكن يمكن أن يورد عليه في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ الوجوب الضمني إنّما يسقط بسقوط ما هو في ضمنه من الوجوب الاستقلالي، وهو لا يسقط إلاّ بالانتهاء من العمل، بأن يأتي بالركعات الأربع مع التشهّد والتسليم، فهو الآن عالم بعدم سقوط الوجوب، فلا معنىً لاثبات الوجوب باستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة.

الإيراد الثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يمكنه أن يثبت وجوب الإتيان بالركعة الرابعة؛ لأنّ هذا الوجوب مشروط بالقدرة ككلّ وجوب، وإنّما يكون قادراً على الإتيان بالركعة الرابعة إن لم يكن قد أتى بها، أي: أنّه إنّما يكون قادراً على امتثال هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقاً للواقع. وجعل حكم ظاهري مشروط بالمطابقة للواقع غير معقول؛ لأنّه غير قابل

134

للوصول حتّى يحرّك(1).

ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإيراد إنّما يرد إذا استظهرنا فقهياً وجوب الركعة الرابعة بما هي رابعة. وأمّا إذا استظهرنا وجوب ذات الركعات، أي: أنّه تجب ركعة وركعة وركعة وركعة، فهذا الاستصحاب إنّما يثبت وجوب إتيان ركعة. وهذا أمر بشيء مقدور حتماً.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا الإشكال يتسجّل حتّى بناءً على كون الواجب ركعة وركعة وركعة وركعة، بغضّ النظر عن عناوين الأعداد، وذلك بالالتفات إلى مسألة مانعيّة الزيادة، وأنّ عدم الزيادة ـ أيضاً ـ واجب ضمني كالركعة الرابعة، ولا بدّ من لحاظ مجموع الوجوبات الضمنيّة، فيظهر بذلك أنّ الذي يثبت بهذا الاستصحاب هو وجوب ركعة مع عدم الزيادة، أو قل: يثبت عليه وجوب الإتيان بركعة في صلاة لا يوجد فيها زيادة(2). وهذا الحكم يشكّ في القدرة على امتثاله، وإنّما يكون قادراً عليه إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، وإلاّ تحقّقت الزيادة بالركعة الجديدة. وعليه، فالإشكال ثابت على حاله.

نعم، إنّ هذا الإشكال مبنيّ على مبنىً مختار لنا من كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفياً، فيكون عند ئذ مشروطاً بالقدرة. وأمّا على سائر المباني في الاستصحاب فلا يرد هذا الإشكال(3).

 


(1) ولا يقال: إنّنا وإن شككنا في القدرة لكنّنا نتمسّك بأصالة الاشتغال، وذلك بدعوى: أنّ الشكّ في التكليف إن كان ناتجاً من الشكّ في القدرة كان مجرىً لقاعدة الاشتغال، فإنّه يقال: إنّ أصالة الاشتغال كانت ثابتة منذ البدء، فلا داعي إلى توسيط الاستصحاب.

(2) أو قل: إنّ الواجب عليه هو الإتيان بركعة غير زائدة، وهو غير قادر على ذلك على تقدير أنّه قد أتى بالركعة الرابعة.

(3) قد يقال: إنّه لا فرق في المقام بين افتراض كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفيّاً وعدمه، فإنّه حتّى بناءً على عدم كون مفاده حكماً تكليفيّاً لا إشكال في أنّ الاستصحاب أصل عمليّ يجب أن ينتهي إلى أثر عمليّ وإلى التحريك أو التعذير، ومع فرض عدم القدرة على التحرك لا معنى لإجرائه، وقد تقيّدت القدرة على التحرّك بمطابقته للواقع حسب الفرض، فأصبح جريان الاستصحاب مشروطاً ـ أيضاً ـ بمطابقته للواقع.

والجواب: أنّ الاستصحاب لو كان مفاده مجرّد تنجيز الواقع مثلاً، كفى في قابليّة الواقع للتنجيز احتمال القدرة، فإنّ معنى تنجيزه ـ عند ئذ ـ هو ضرورة محاولة المكلّف للوصول إليه ما لم يثبت لديه عجزه عن الوصول، (وطبعاً ليس المقصود بالتنجيز ذاك الحكم العقليّ الذي لا يقبل دخل الشرع فيه، وإنّما المقصود به إبراز اهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهو كاف لضرورة المحاولة من قبل المكلف رغم شكّه في القدرة؛ لأنّه يعلم أنّه على تقدير تحقّق القدرة فالمولى لا يرضى بفوات الواقع).

أمّا لو كان مفاد الاستصحاب جعل حكم تكليفي، فهو كأيّ حكم آخر مشروط بالقدرة، ومع الشكّ في

135

ثمّ إنّ حال هذين الإشكالين يختلف وروداً وعدماً باختلاف المباني في باب سقوط الوجوبات الضمنيّة، فلنذكر أوّلاً تلك المباني وحال هذين الإشكالين بناءً عليها، ثمّ ننتقل إلى بيان ما هو الصحيح من تلك المباني:

أما المباني في باب الوجوبات الضمنية فهي ما يلي:

إمّا أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنيّة تسقط كلّها دفعة واحدة بانتهاء العمل، لا بالتدريج.

وإمّا أن نبني على أنّ امتثال بعضها يوجب سقوط ذاك البعض، فمن أتى بثلاث ركعات مثلاً سقطت عنه الوجوبات الضمنية المتعلّقة بتلك الركعات، ولو أبطل صلاته تولّد أمر جديد(1) وبعث جديد بتلك الأجزاء من باب وجود الملاك، ولازم هذا المبنى كون الأمر الضمني الباقي متعلّقاً بركعة رابعة في هذه الصلاة لا بركعة رابعة كلّية؛ وذلك لأنّ الصلاة المطلوبة للمولى هي أربع ركعات في صلاة واحدة، لا أربع ركعات ملفّقة، فالأمر بالركعة الرابعة أمر متعلّق برابعة لتلك الثلاث التي يمتثل بها الأوامر الضمنيّة السابقة، فما دامت تلك الثلاث باقية على كلّيتها تكون هذه ـ أيضاً ـ كلّيّة، ومهما طبّقت خارجاً على مصداق معيّن انحصر مصداق هذا الأمر ـ أيضاً ـ فيما يكمّل ذاك المصداق؛ لأنّه أمر برابعة تلك الثلاث.

 


القدرة يشكّ في أصل هذا الحكم. واستصحاب القدرة ـ أيضاً ـ لا يفيد شيئاً؛ لأنّ هذا الاستصحاب ـ أيضاً ـ مفاده جعل الحكم التكليفي وفق الحكم المترتّب على القدرة، وهذا الحكم بنفسه مشكوك المقدوريّة، فمرّةً اُخرى نقع في إشكال صيرورة الاستصحاب مشروطاً بمطابقته للواقع.

وقد تقول: إنّ مبنى الاُستاذ(رحمه الله) هو: أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها إبرازات لاهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهذا غير الحكم التكلفيّ، ويكفي في معقوليّة ذلك احتمال القدرة، فإنّ معنى الاستصحاب ـ عند ئذ ـ هو أنّ الواقع على تقدير ثبوته لا يرضى المولى بفواته، وهذا يكفي في تحريك العبد نحو محاولة الامتثال بمجرّد احتماله للقدرة عليه.

والجواب: أنّ اُستاذنا(رحمه الله) وإن كان يؤمن بأنّ روح الأحكام الظاهرية هو ذلك، ولكنّ الكلام فعلاً في لسان دليل الاستصحاب لا في روحه؛ إذ لو سلّمنا أنّ لسان دليل الاستصحاب هو لسان الحكم التكليفي، وأنّ هذا اللسان لا يناسب عرفاً شموله لفرض عدم القدرة، فهو يختصّ بفرض القدرة، وبالتالي لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بالقدرة، أو قل في المقام لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بمطابقته للواقع، ومع علمه بذلك لا حاجة له إلى الاستصحاب.

(1) ذكر اُستاذنا(رضوان الله عليه): إنّنا نتكلّم على المنهج المعروف من جعل الكلام في البعث، لا في روح الحكم الذي هو الحبّ، والذي يكون من الواضح عدم تجدّده بالإبطال، بل عدم زواله بالامتثال.

136

وإما أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنية تسقط بالتدريج كما مضى في المبنى الثاني، إلاّ أنّه نقول: إنّ الأمر بالركعات الثلاث مثلاً لا يكفي في سقوطه الإتيان بها، بل يشترط في سقوطه شرط متأخّر، وهو الإتيان بباقي الصلاة فيما بعد. وهذه المباني كلّها تكون بغضّ النظر عمّا أشرنا إليه من أنّ الحقّ هو عدم سقوط الأمر بالامتثال حتّى إذا كان استقلالياً.

وحال ما مضى من الإشكالين يختلف باختلاف هذه المباني.

أمّا الإشكال الأوّل ـ وهو أنّ وجوب الركعة الرابعة مقطوع البقاء، فلا معنى لاثباته باستصحاب عدم الإتيان بها ـ فهو يختصّ بالمبنى الأوّل؛ إذ على المبنى الثاني لا علم ببقاء الوجوب، فإنّ الوجوب ساقط لو كان قد أتى بها، وكذلك على المبنى الثالث، فإنّ الوجوب ساقط على تقدير أنّه أتى بها، وأنّه سوف يأتي بباقي الصلاة.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّ الوجوب المستفاد بالاستصحاب لا يقدر على امتثاله إلاّ إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، والحكم الظاهري المشروط بالمطابقة للواقع لا يقبل الوصول، وبالتالي لا يقبل التحريك ـ فبناءً على المبنى الأوّل الذي تسجّل فيه الإشكال الأوّل لم يبقَ موضوع لهذا الإشكال؛ لأنّ الاستصحاب ـ حسب ما فرض في الإشكال الأوّل ـ لا يثبت وجوباً ظاهرياً حتّى يتكلّم في اشتراطه بالقدرة، وبالتالي بموافقته للواقع وعدمه. نعم، بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل تصل النوبة إلى الإشكال الثاني. والحقّ عدم وروده؛ لثبوت القدرة على الامتثال حتماً ولو بإعادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالركعة الرابعة أمر بكلّي الرابعة ولو في ضمن صلاة اُخرى؛ إذ لم تنطبق بعدُ الأوامر الضمنية السابقة ـ بناءً على هذا المبنى ـ على ما أتى به من الركعات الثلاث، حتّى يقال بلزوم انطباق هذا الأمر الضمني ـ أيضاً ـ بركعة في هذه الصلاة.

وأمّا على المبنى الثاني فيتسجّل هذا الإشكال الثاني؛ وذلك لأنّ الأمر بالركعة الرابعة ـ على ما عرفت من لازم هذا المبنى ـ قد تعلّق برابعة هذه الصلاة بالذات، فيأتي ـ لا محالة ـ إشكال إرتباط القدرة على ذلك بمطابقة الاستصحاب للواقع؛ إذ لو كان في الواقع قد أتى بركعة رابعة لم يقدر على امتثال هذا الحكم الظاهري إمّا من باب دخل عنوان الرابعة فيه، أو من باب دخل عدم الزيادة فيه.

وأمّا على المبنى الثالث فلا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لأنّ الشرط المتأخّر دخيل في تحقّق امتثال الأوامر الضمنية السابقة، والأمر بالصلاة في الرتبة السابقة على الامتثال أمر بالكلّي، وهو قادر على الإتيان به ولو ضمن فرد آخر. وفي الرتبة المتأخّرة عن الامتثال المساوق

137

لفرض الإتيان بالشرط في ظرفه المتأخّر يكون ساقطاً بكلّ ما فيه من الأوامر الضمنية. فالأمر في مرتبة وجوده قابل للتحريك، وفي المرتبة الاُخرى ليس موجوداً أصلاً.

بقي في المقام شيء، وهو أنّه إذا تكلّمنا في آخر الوقت الذي لا يمكنه أن يأتي فيه بفرد جديد، تسجّل الإشكال الثاني (وهو إشكال عدم القدرة إلاّ على تقدير موافقة الاستصحاب للواقع) على جميع المباني الثلاثة؛ لأنّه غير قادر على فرد جديد، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل نورد هذا الإشكال بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل؛ إذ معه لا تصل النوبة إلى هذا الإشكال كما عرفت. وعلى المبنى الثاني والثالث نورده بلا حاجة إلى التنزّل؛ لعدم ورود الإشكال الأوّل فيهما.

وأمّا بيان ما هو الصحيح من هذه المباني الثلاثة، فالحق عدم سقوط الوجوبات الضمنيّة بالتدريج:

أمّا على مبنانا من عدم سقوط الوجوب الاستقلالي بالامتثال، فالأمر واضح، فإنّه ـ عندئذ ـ لا مجال لسقوط الأمر الضمني ـ أيضاً ـ نهائياً. نعم، حينما يأتي ببعض الأجزاء يسقط الأمر الاستقلالي عن الفاعلية من بعض الجهات دون بعض، أي: لا يحرّك نحو سدّ باب العدم الذي انسدّ، ويحرّك نحو سدّ أبواب اُخرى.

وأمّا على مبنى سقوط البعث والأمر الاستقلالي بالامتثال، لكون بقائه تحصيلاً للحاصل، وبعثاً نحو أمر قد حصل وتحقّق، فقد يتخيّل أنّ هذا البيان يأتي في الأوامر الضمنية أيضاً، فالأمر بالتكبيرة مثلاً قد سقط بعد الإتيان بها؛ لأنّه لو بقي لكان بعثاً نحو شيء حاصل.

لكنّ الصحيح عدم تأتّي هذه الشبهة في الأوامر الضمنيّة.

ونوضّح ذلك بالحديث في مقامين:

الأوّل في مقابل المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنيّة سقوطاً محتّماً.

والثاني في مقابل المبنى الثالث القائل بسقوطها مشروطاً بالشرط المتأخّر.

أمّا المقام الأوّل: وهو في إبطال المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنية سقوطاً محتّماً، فنحن نبرهن على بطلان هذا المبنى بوجوه أربعة، الأوّل والثاني منها يحلاّن أصل شبهة كون بقاء الأمر الضمني طلباً للحاصل، والثالث والرابع لا يحلاّن الشبهة وإن كانا يبرهنان على عدم السقوط، فان شئت فسمِّ الأوّلين بالجواب الحلّي، والأخيرين بالجواب النقضي.

138

الوجه الأوّل: ما حقّقناه في بحث التعبّدي والتوصّلي، وفي بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين من أنّ الأمر الاستقلالي الواحد يستحيل أن يتعلّق بالكثير بما هو كثير، وإنّما يتعلّق في اُفق الجعل بشيء واحد بسيط، وتلبس هذه الأجزاء المتعدّدة لباس الوحدة في ذلك الاُفق، حيث إنّ متعلّقات الطلب موجودة بعين ذلك الطلب، كما أنّ متعلّقات العلم والحب والبغض ونحوها موجودة بعين وجودها، فهي موجودة بوجود وحداني، فهو أمر واحد متعلّق بشيء واحد لا معنى لتجزّئه في اُفق الجعل إلى أوامر ضمنية، حتّى يقال: إنّ الأمر الضمني بالتكبيرة مثلاً لو لم يسقط بعد الإتيان بالتكبيرة لكان طلباً للحاصل. نعم، هذا الواحد نأتي به بعد ذلك إلى عالم ذهننا ونجّزّئه، فيبدو لنا بعوث كثيرة، وإن هي إلاّ أجزاء تحليليّة تماماً، من قبيل الأجزاء الحدّية كالجنس والفصل العالي والسافل.

الوجه الثاني: بعد التنزّل عن البيان الأوّل، والغفلة عن استحالة تعلّق بعث واحد بأشياء كثيرة بما هي كثيرة نستعين بأصل موضوعي من دون ضمان صحّته، ونوكل أمر تحقيقه ببحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وحاصله: أنّ الأمر الضمني أمر بالجزء المقيّد بسائر الأجزاء، فالتقيّد ماخوذ في كلّ جزء جزء، والأمر الضمني تعلّق بالحصّة. وعليه نقول: لا يلزم من عدم السقوط طلب الحاصل؛ لأنّ الحصّة الخاصّة بما هي حصّة خاصّة لم تحصل، والتقيّد داخل في المطلوب، وهو لا يحصل إلاّ بحصول طرفيه، إلاّ أن يلتزم بتحليل الأمر بالمقيّد ـ أيضاً ـ إلى الأمر بذات المقيّد والأمر بالتقيّد. لكن كون ذلك تجزئه في عالم التحليل الذهني لا في واقع عالم الأمر أوضح منه في الأمر بأجزاء تركيبيّة؛ فإنّ التقيّد لا ينظر إليه مستقلاًّ، وإنّما ينظر إليه مندكّاً وبما هو معنىً حرفي، فنبرز في هذا البيان أوضحيّة المطلب.

الوجه الثالث: أنّ سقوط الوجوب إمّا يكون بمعنى سقوط الجعل، أو بمعنى سقوط المجعول. أمّا الأوّل فغير مقصود في المقام حتماً؛ لوضوح أنّ الجعل إنّما يسقط بالنسخ لا بالامتثال. وأمّا سقوط المجعول فلا يكون إلاّ بانتفاء أحد قيود الموضوع، فيفرض في المقام أنّ عدم الإتيان قيد من قيود الموضوع، وقد انتفى. وهنا نسأل: هل عدم الاتيان بكلّ جزء موضوع لوجوب ذاك الجزء فحسب، فعدم الإتيان بالتكبيرة مثلاً موضوع لوجوب التكبيرة دون الحمد وغيره، وعدم الإتيان بالحمد موضوع لوجوب الحمد دون التكبيرة وغيرها، أو عدم الإتيان بأيّ واحد منها قيد لموضوع وجوب كلّ تلك الأجزاء، أو قل: قيد لموضوع الوجوب الاستقلالي؟ فإن قيل بالأوّل كان معنى ذلك فرض وجوبات وجعول استقلاليّة لفرض موضوعات مقدّرة الوجود متباينة، والجعل عبارة عن إنشاء قضيّة

139

حقيقيّة على موضوع مقدّر الوجود، فهناك قضايا حقيقية متعدّدة، ووجوبات استقلالية متعدّدة، وهو خلف الفرض. وإن قيل بالثاني لزم سقوط أصل وجوب الصلاة بالتكبيرة مثلاً، وهذا ـ أيضاً ـ خلف المفروض؛ لأنّ المدّعى إنّما هو السقوط التدريجي لا السقوط الدفعي في ابتداء العمل.

الوجه الرابع: أنّه إذا سقط الأمر بالركعات الثلاث بالإتيان بثلاث ركعات، فالأمر بالركعة الرابعة هل يسقط ـ أيضاً ـ ولو بأن يفرض أنّه يأتي مكانه أمر جديد مستقلّ متعلّق بالجامع بين الركعة الرابعة وصلاة جديدة مثلاً، أو لا يسقط ويبقى متعلّقاً بطبيعي الركعة الرابعة، أو يصبح متعلّقاً بخصوص الرابعة في هذه الصلاة؟

أمّا الأوّل، فغير معقول؛ إذ يلزم من سقوط الأمر قبل الامتثال عدم قابلّيته للتحريك مع أنّه خلف فرض السقوط التدريجي الذي هو المدّعى، دون سقوط الكلّ دفعة من أوّل الأمر كما مضى.

وأمّا الثاني، فأيضاً غير معقول؛ لما مضى من أنّ الصلاة المطلوبة هي عبارة عن ركعات أربع في عمل واحد دون ركعات ملفّقة، والأمر بالرابعة أمر برابعة لنفس الثلاث التي يمتثل بها الأوامر السابقة، فبعد تعيّنها في فرد معيّن لا بدّ من تعيّن هذا أيضاً.

فينحصر الوجه المعقول في الثالث؛ ولذا جعلناه فيما مضى لازم هذا المبنى الثاني، لكنّ هذا الوجه خلاف الوجدان لكلّ إنسان في مطلوباته الارتباطيّة الحاكم بأنّ المطلوب يبقى على طبيعيّته وكلّيّته وإن أتى ببعض العمل، ولا فرق في حساب البعث والأمر بين تكميل هذا الفرد أو الإتيان بفرد جديد.

وأمّا المقام الثاني: فيمكن البرهنه على بطلان المبنى الثالث بما مضى من الوجه الأوّل والثالث:

أمّا الأوّل، فلأنّه يقال: إنّ الوجوب الاستقلالي الواحد تعلّق بشيء واحد، ولا ينحلّ في عالم الأمر إلى أوامر عديدة حتّى يفرض سقوطها تدريجاً بلا فرق بين فرض سقوطها تدريجاً غير مشروط بشرط متأخر كما في المقام الأوّل، أو مشروطاً به كما في هذا المقام.

وأمّا الثالث، فلأنّه هنا ـ أيضاً ـ يقال: هل عدم كلّ جزء قيد لوجوب ذلك الجزء، أو للوجوب الاستقلالي؟ فعلى الأوّل يلزم كونها واجبات استقلالية. وعلى الثاني يلزم سقوط الواجب دفعة في أوّل العمل، وهو خلف. نعم، لا يلزم سقوطه دفعة في أوّل العمل مطلقاً كما في المقام الأوّل، بل بشرط أن يكون ـ في علم الله ـ سوف يأتي بباقي العمل.

140

وأمّا الوجه الثاني والرابع، فلا يأتيان في المقام:

أمّا الوجه الثاني، فلأنّ تقيّد التكبيرة مثلاً بباقي الأجزاء كما يتصوّر بمعنى تقيّدها بتعقّبها بباقي الأجزاء بالفعل، كذلك يتصوّر بمعنى تقيّدها بأنّه سوف يتعقّبها باقي الأجزاء، فإنّ الوجه في الالتزام بهذا التقيّد هو دعوى أنّه لولاه للزم انطباق الواجب الضمني على الإتيان بالتكبيرة ولو مع ترك باقي الأجزاء، وكون ذلك امتثالاً للوجوب الضمني، وليس كذلك، فلا بدّ من إخراج هذه الحصّة، وهذا الإخراج ـ كما ترى ـ يحصل بالتقييد بالنحو الثاني كما يحصل بالتقييد بالنحو الأوّل. والتقييد بالنحو الأوّل وإن كان ينافي المبنى الثالث؛ إذ القيد لا يحصل إلاّ بعد الإتيان بباقي الأجزاء بالفعل، فلا وجه للسقوط قبله ولو مشروطاً، لكن التقييد بالنحو الثاني لا ينافي هذا المبنى، أي: السقوط مشروطاً بالإتيان بعد ذلك بباقي الأجزاء، فإنّه مع فرض تحقّق هذا الشرط يكون القيد (وهو أن يكون بحيث سوف يعقبه باقي الأجزاء) ثابتاً من أوّل الأمر، ولكنّه ينافي المبنى الثاني وهو السقوط بلا شرط؛ إذ مع فرض عدم تحقّق الشرط في ظرفه لا يكون القيد ثابتاً.

وأمّا الوجه الرابع، فقد قلنا هناك: هل الأمر بالرابعة بعد الإتيان بالثلاثة قد سقط أو هو باق على حاله، ويكون امتثاله بالإتيان بطبيعي الرابعة، أو باق على حاله ولا بدّ من تطبيقه على رابعة في هذه الصلاة؟ أمّا الأوّل والثاني فغير معقول. وأمّا الثالث فخلاف وجداننا في مطلوباتنا الارتباطية الحاكم ببقاء الطلب على الجامع، وكون نسبته إلى تتميم هذا الفرد والإتيان بفرد آخر على حدٍّ سواء. وهذا البيان لا ياتي في المقام؛ وذلك لأنّ انحصار امتثال الأمر بالرابعة برابعة في ضمن هذه الصلاة يكون في طول سقوط الأمر بالثلاثة الأُوَل، وذلك يكون في طول أن يكون سوف يأتي بالرابعة في هذه الصلاة، إذن فانحصار امتثال الأمر بالرابعة برابعة في ضمن هذه الصلاة يكون في طول فرض امتثاله في ضمن هذه الصلاة، وإذا كان في طول ذلك فليس امتثاله في ضمن هذه الصلاة محتّماً على المكلّف، فالمولى بعدُ تكون نسبة طلبه إلى الإتيان برابعة في ضمن هذه الصلاة أو الإتيان برابعة في ضمن صلاة اُخرى على حدٍّ سواء؛ لأنّ فرض الإتيان بها في ضمن صلاة اُخرى دون هذه الصلاة مساوق لعدم سقوط الأمر بالثلاثة الأُوَل (لعدم تحقق الشرط المتأخّر في ظرفه)، وهذا مساوق لعدم تعيّن امتثال أمر الركعة الرابعة بالإتيان بها في هذه الصلاة.

إن قلت: يلزم هنا ـ أيضاً ـ أن يكون طلب المولى ـ على تقدير أنّه سوف يأتي بالرابعة في هذه الصلاة ـ طلباً لرابعة في هذه الصلاة دون طبيعي الرابعة، وهذا ـ أيضاً ـ خلاف وجداننا

141

في مطلوباتنا الارتباطية.

قلت: المفروض أنّه على تقدير الامتثال وفي طول فرض الامتثال لا يوجد طلب، فلا يوجد وجدان يشخّص نوعيّة الطلب، وإنّما يوجد الطلب في المرتبة السابقة على الامتثال، وفي هذه المرتبة يكون الطلب باقياً على كلّيّته. وأمّا إذا بنينا على ما هو الصحيح من ثبوت الطلب حتّى بعد الامتثال، فهذا مساوق لما هو مختارنا من عدم سقوط الوجوب بالامتثال حتّى في الواجبات الاستقلالية. وعليه لا يبقى موضوع للبحث عن تعيين ما هو الصحيح من هذه المباني الثلاثة.

ثم إنّ هنا وجهاً آخر لإبطال المبنى الثالث، وهو أنْ يُبنى على ما هو الصحيح عندنا في الواجب الارتباطي من أنّ كلّ جزء من الأجزاء ليس مقيّداً بالجزء الآخر، فلو فرضنا انحلال الوجوب الاستقلالي في عالم الأمر إلى وجوبات عديدة بعدد الأجزاء، كان مقتضى برهان كون بقاء طلب الأمر بعد الامتثال طلباً للحاصل سقوط وجوب كلّ جزء بمجرّد الإتيان به منجّزاً؛ لأنّه لو أمر به كان طلباً للحاصل، فإنّ المطلوب هو ذات الجزء وقد حصل لا الجزء المقيّد بشرط متأخّر حتّى يفرض سقوطه أيضاً مشروطاً بشرط متأخر، فلا بدّ من السقوط منجّزاً لا مشروطاً.

بقي في المقام شيء: وهو أنّه قد مضى منّا في تصوير توجيه الأمر بالأجزاء غير المنسيّة إلى الناسي لبعض الأجزاء وجه، وهو أن يؤخذ التذكّر قيداً في نفس الواجب لا في الوجوب، وذلك بأن يقال: أيّها المتذكّر لبعض الأجزاء اِئتِ بما تكون متذكّراً له. وعنوان ما يكون متذكراً له يختلف في مقام الانطباق باختلاف الأشخاص في التذكّر وعدمه، فغير الناسي يجب عليه كلّ العمل لأنّه يتذكّر الكلّ، والناسي لأيّ مقدار يخرج ذلك المقدار عن هذا العنوان بالنسبة له.

وقد يتوهّم جريان هذا التوجيه في المقام لتصوير سقوط الواجبات الضمنية بالتدريج، وذلك بأن يؤخذ عدم الإتيان قيداً في الواجب لا في الوجوب، بأن يقال: يجب عليك المقدار غير المأتيّ به.

والجواب عن ذلك: أنّنا نتساءل: أيّ شيء تفرضه ظرفاً لعدم الإتيان الماخوذ قيداً في الواجب؟ هل ظرفه هو تمام الوقت، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به في شيء من الوقت أو ظرفه هو بعض الوقت على سبيل البدل، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به في بعض الوقت، أو ظرفه هو ظرف العمل، كما هو كذلك فيما ذكرناه

142

من مسألة الناسي، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به عندما يأتي بالمقدار الآخر؟ فإن قيل بالثاني فلا أثر لهذا القيد في المقام؛ فإنّ هذا القيد حاصل في كلّ الأجزاء دائماً؛ إذ ما من جزء إلاّ وهو لا يأتي به في بعض الوقت وإن كان يأتي به في بعض آخر، فعندما أتى بجزء مّا لم يخرج ذلك الجزء عن كونه موصوفاً بأنّه لا يأتي به في بعض الوقت على سبيل البدل حتّى يقال بأنّه سقط وجوبه على هذا الأساس. وإن قيل بالأوّل أو الثالث ورد عليه:

أوّلاً: أنّه يلزم من ذلك أنّ من صلّى ينكشف له بعد صلاته أنّه لم تكن تجب عليه الصلاة؛ لأنّ الواجب هو الذي لا يأتي به في تمام الوقت أو في وقت العمل وقد أتى بذلك.

وثانياً: أنّه لا معنى لا يجاب ما لا يأتي به في تمام الوقت أو في ظرف العمل؛ لأنّ هذا الشيء بهذا العنوان يستحيل أن يتحقّق في الخارج إلاّ بأن ينسلخ عن عنوانه.

هذا كلّه لو أخذنا بالمسلك الأوّل في استصحاب عدم الامتثال، وهو القول بجريانه من باب أنّ عدم الامتثال موضوع لحكم شرعي وهو الوجوب بقاءً.

وأمّا لو بنينا على المسلك الثاني: وهو استصحاب عدم الامتثال بغضّ النظر عن فرضه موضوعاً لحكم شرعي، فالإشكال الأوّل غير وارد؛ لأنّه ليس الاستصحاب جارياً بلحاظ الشكّ في وجوب الركعة الرابعة حتّى يقال: لا شكّ لنا في بقاء الوجوب.

وأمّا الإشكال الثاني، فإن بنينا على المبنى الأوّل أو الثالث من المباني الثلاثة التي ذكرناها في حال الوجوبات الضمنية، لم يرد، كما لم يرد على المسلك الأوّل. وأمّا لو بنينا على المبنى الثاني فهناك كان الاستصحاب بلحاظ وجوب الركعة الرابعة؛ ولذا قلنا: بما أنّ وجوبها قد تعلّق برابعة في هذه الصلاة يحصل لنا الشكّ في القدرة، ويكون ثبوت القدرة مشروطاً بمطابقة الاستصحاب للواقع، فتسجّل الإشكال، وأمّا هنا فالاستصحاب لا يكون بلحاظ وجوبها، وإنّما هو بلحاظ لزوم الامتثال، أي: أنّ الاستصحاب يدلّ على لزوم الحركة نحو ما كُنّا نتحرّك إليه بحكم العقل لو كنّا نعلم بعدم الإتيان بالركعة الرابعة، وعليه فيجب أن نرى: أنّنا لو كنّا نعلم بذلك كان هذا العلم ـ مع كون المفروض تعلّق وجوب الركعة الرابعة بركعة في هذه الصلاة بالذات ـ يحرّكنا عقلاً نحو ماذا؟ فإن قيل: إنّه

يحرّكنا نحو الإتيان بالرابعة في هذه الصلاة بالذات تسجّل الإشكال هنا أيضاً؛ إذ لا يعلم بثبوت القدرة على ذلك إلاّ بناءً على مطابقة الاستصحاب للواقع، وإن قيل ـ ولو من باب القول بباطل في باطل ـ: إنّ هذا الوجوب الضمني المتعلّق برابعة في خصوص هذه الصلاة لا يجب امتثاله، بل يكون المكلّف ـ بغضّ النظر عن حرمة قطع الصلاة ـ مخيراً بين أن يأتي

143

بركعة رابعة أو يبطل الصلاة ويأتي بصلاة جديدة؛ وذلك لانحفاظ الغرض بكلا المنهجين، وإنّما جعل المولى الوجوب متعلّقاً بخصوص الركعة في هذه الصلاة بالذات لكونه مجبوراً على ذلك، فلا يرد الإشكال للقدرة على ذلك ولو بأن يصلي صلاة جديدة.

ثمّ إنّنا تكلّمنا حتّى الآن في استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة بداعي التحريك نحو ركعة موصولة.

وأمّا إجراؤه بداعي التحريك نحو ركعة مفصولة ـ وهذا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)على ما مضى، حيث قال: إنّ موضوع وجوب الإتيان بالركعة المفصولة مركّب من الشكّ في الإتيان بالرابعة مع عدم الإتيان بها واقعاً، والجزء الأوّل ثابت بالوجدان، والثاني نثبته بالاستصحاب ـ فقد يتراءى أنّ هذا الاستصحاب الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) يتمّ على القاعدة من دون ورود شيء من الإشكالين: أمّا إشكال كون بقاء الوجوب معلوماً فلا معنىً لإثباته باستصحاب موضوعه، فلا يرد هنا؛ لأنّ المقصود هنا إثبات وجوب جديد وهو وجوب الركعة المنفصلة، لا الوجوب السابق حتّى يقال: نعلم ببقائه. وأمّا إشكال عدم القدرة إلاّ على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع، فمن الواضح عدم وروده؛ لأنّه قادر على الركعة المفصولة؛ إذ لم يؤخذ فيها عنوان الرابعة، ولا تلزم منها الزيادة قطعاً؛ لأنّها مفصولة.

إلاّ أنّ التحقيق في المقام أن يقال: إنّ الملاك الموجب لوجوب ركعة مفصولة لا بدّ أن تفرض فيه إحدى فرضيّتين:

الفريضيّة الاُولى: كون الملاك في الجامع بين الركعة الموصولة عند عدم الشكّ والركعة المفصولة عند الشكّ.

وعلى هذه الفرضية يكون الوجوب متعلّقاً بذاك الجامع، وهو بعدُ لم يتشهّد ولم يسلّم، فالوجوب ـ على ما هو الصحيح في سقوط الوجوبات الضمنية ـ باق على حاله، فلا معنىً لاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة من باب فرضه موضوعاً لحكم شرعي وإثبات وجوب ركعة منفصلة كما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله).

نعم، لا باس باستصحاب عدم الإتيان بالرابعة على المسلك الثاني، أي: من باب جريان الاُصول الشرعية في ميدان الامتثال بلا حاجة إلى إرجاع الشكّ إلى الشكّ في التكليف، فيجري هذا الاستصحاب بناءً على تسليم أصل استصحاب عدم الإتيان في باب الشكّ في الامتثال.

الفرضيّة الثانية: أن يفرض ملاك في الصلاة ذات أربع ركعات متّصلة، ويفرض أنّ

144

الشاكّ يوجد في حقّه ملاك آخر مباين للملاك السابق ذاتاً أو مرتبة (بأن يكون أضعف مرتبة من الملاك الأوّل) يوجب وجوباً جديداً، ويُفرض أنّ العبد بمجرّد أن يشكّ يعجز عن تحصيل الملاك الأوّل، فلا يحصل لا بالإبطال والإعادة، ولا بالتكميل بعد الإتيان بالركعة الجديدة، ولا بالتكميل من دون الإتيان بالإعادة، ولا بركعة الاحتياط، فإنّما عليه أن يحصّل الملاك الجديد، وهذا الملاك الجديد يحصل بأحد أمرين:

الأوّل: الإتيان بركعة منفصلة.

والثاني: الإبطال والإعادة؛ إذ لو أبطل وأعاد صحّت صلاته حتماً.

ومن هنا يظهر أنّ الواجب عليه هو الجامع بين الإتيان بركعة منفصلة والإعادة عند الإبطال، فبناءً على هذه الفرضية لا بأس بما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة من باب كونه موضوعاً لحكم شرعي، لكن ليس هذا الحكم الشرعي هو وجوب ركعة الاحتياط كما ذكره(قدس سره)، بل الجامع بينه وبين الإعادة عند الإبطال(1).

هذا. والظاهر من الأدلّة الفقهيّة في المقام إنّما هو الفرضيّة الاُولى؛ حيث يقول ما مفاده: (ألا اُعلّمك ما لا يضرّك معه التمام والنقصان)(2) فإنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّه بهذه العملية لا يفوته شيء من الملاك الأوّل.

نعم، لا نضايق من دعوى: أنّ العرف يرى وجوبين متعدّدين.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه: أنّ الاستصحاب سواء أجريناه بداعي التحريك نحو ركعة متّصلة أو أجريناه بداعي التحريك نحو ركعة منفصلة يجب أن يكون من باب جريان الاُصول الشرعية في ميدان الامتثال لا من باب استصحاب موضوع حكم شرعيّ.

 

الرواية الرابعة:

رواية إسحاق بن عمّار قال: «قال لي أبوالحسن الأوّل(عليه السلام): إذا شككت فابنِ على اليقين. قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم»(3).


(1) بالإمكان أن يفترض أنّ الملاك الذي يحصل بالركعة المنفصلة كان أقوى ممّا يحصل بالإبطال والإعادة، فاوجبت الشريعة الأوّل تعييناً.

(2) هذا المضمون وارد في رواية عمّار الساباطي غير التامة سنداً في الوسائل: ج 8، باب 8 من الخلل الواقع في الصلاة، ح 3، ص 313 بحسب طبعة آل البيت.

(3) الوسائل: ج 5، باب 8 من الخلل الواقع في الصلاة، ح 2، ص318.

145

وجعل الشيخ الأنصاري(رحمه الله) عدم دلالة هذا الحديث على المقصود، وكونه وارداً في بيان قاعدة لزوم تحصيل اليقين بالفراغ أمراً مفروغاً عنه، وتكلّم في الصحيحة الثالثة في حملها على هذا المعنى، وأنّ هذا المعنى مستفاد من بعض الروايات، ومثّل لذلك بهذه الرواية(1). بينما السيّد الاُستاذ ادّعى ظهور هذه الرواية في الاستصحاب(2).

والكلام تارةً يقع في سند الحديث، واُخرى في دلالته:

 

سند الحديث:

أمّا سند الحديث فقد عبّروا عنه بالموثّقة، وهذا التعبير نشأ ممّا في الوسائل، حيث ذكر هذا الحديث في باب الخلل في الصلاة، ونقله عن الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمّار، وهذا اشتباه منه(قدس سره)، فإنّ الصدوق في الفقيه لم يذكره ابتداءً عن إسحاق، بل قال: روي عن إسحاق بن عمّار(3)، ومثل هذا لا يدخل في ما ذكره في مشيخته من كون الروايات التي يرويها عن إسحاق يرويها بالسند الفلاني. إذن فالرواية مرسلة لا اعتبار بها سنداً(4).

 

دلالة الحديث:

وأمّا دلالة الحديث فتوجد في الحديث ثلاثة احتمالات:

الأوّل: ما فرضه الشيخ(رحمه الله) مفروغاً عنه من إرادة قاعدة اليقين، بمعنى تحصيل اليقين بالفراغ.

الثاني: قاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه في الاُصول، أي: البناء على اليقين عند الشكّ في صحّته، أي: في تحقّق المتيقّن في نفس الزمان الذي كنّا نتيقّن بتحقّقه فيه.

الثالث: الاستصحاب.

أمّا الاحتمال الأوّل فهو خلاف الظاهر جدّاً؛ وذلك لنكتتين:


(1) الرسائل: ص 331 ـ 332 حسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة الله.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 64 ـ 65.

(3) الفقيه: ج 1، ح 1025.

(4) لا يبعد صحّة فهم صاحب الوسائل وأن يكون تعبير مشيخة الفقيه بقوله: (وما كان فيه عن إسحاق بن عمّار...) شاملاً بإطلاقه لذلك فيكون المقصود بما في الفقيه من قوله: (روي عن إسحاق بن عمّار) هو رواية كتاب إسحاق له.

146

1 ـ إنّه لم يفرض في الحديث كون الشكّ في ميدان الفراغ، ولم يشر إلى ذلك أيّ إشارة، مع أنّ هذا مؤونة تحتاج إلى البيان، وذكر الصدوق له في باب الخلل في الصلاة والشكّ في الركعات قد يكون بسبب كون ذلك مصداقاً من مصاديق الحديث، وليس شاهداً على أنّ الحديث كان مشتملاً على قرينة كانت تصرفه إلى مثل تلك الموارد.

2 ـ إنّه عبّر(عليه السلام) (إبنِ على اليقين) ولم يقل: حصّل اليقين، وهذا ظاهره الفراغ عن يقين ثابت يأمر ببناء عمله عليه، لا الأمر بتحصيل اليقين حتّى يحمل على لزوم تحصيل اليقين بالفراغ، والنكتة في ذلك هي: أنّ متعلّق المتعلّق المصطلح عليه في اُصول المحقّق النائيني(رحمه الله)بالموضوع يكون بحسب نظر العرف مأخوذاً مقدّر الوجود، فلو قيل: أكرم العالم كان معنى ذلك وجوب إكرام عالم فرض وجوده، وليس أمراً بإيجاد العالم ـ إن لم يكن موجوداً ـ وإكرامه. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ حيث إنّه جعل البناء متعلّقاً للأمر واليقين متعلقاً لهذا المتعلق(1)، بخلاف مالو قال: حصّل اليقين؛ فإنّه لو قال هكذا كان تحصيل اليقين بنفسه متعلّقاً للأمر.

وأمّا الاحتمال الثاني والثالث فالتحقيق: أنّه إذا دار أمر هذه العبارة بين هذين المعنيين فالثالث هو المتعيّن.

توضيحه: أن هذه الجملة ـ كما عرفت ـ تستبطن فرض يقين مفروغاً عنه يُبنى عليه العمل، وهذا اليقين المستبطن في الكلام هل هو مستبطن في جانب الشرط، أي قوله: «إذا شككت»، أو في جانب الجزاء، أيّ: قوله: «فابنِ على اليقين»؟ الظاهر عرفاً هو الأوّل دون الثاني؛ وذلك لأنّ الجزاء في نظر العرف لا يحلّل بنفسه إلى قضية شرطيّة تجعل هي جزاء للشرط الأوّل، بأن يصبح معنى الكلام في المقام هكذا: (إذا شككت فابنِ على اليقين إن كان لك يقين) وإنّما المفهوم عرفاً أنّ كل شرائط هذا الجزاء فرغ عنها في جانب الشرط، ثمّ رتّب على ذلك الجزاء. وعليه، فاليقين في المقام مستبطن في جانب الشرط، فيصبح معنى الكلام:


(1) لا يخفى أنّ مجرّد جعل الشيء متعلّقاً للمتعلّق ليس دليلاً على كونه موضوعاً بالمعنى المصطلح للمحقّق النائيني(رحمه الله)، أو قل: على كونه مقدّر الوجود، فقد يُجعل متعلّق للمتعلّق بداعي تحصيص المتعلّق، فلو قال مثلاً: أكرم العالم بالخُبز نرى أنّه يفهم عرفاً أنّ العالم موضوع، وأنّه لا يجب إيجاده إن لم يكن موجوداً، ولكن الخُبز الذي هو ـ أيضاً ـ متعلّق للمتعلق ليس إلاّ محصّصاً للإكرام، ويجب عليه طبخ الخبز وصنعه إن لم يكن مطبوخاً ومصنوعاً. ولو قال: صلِّ على إحدى الموادّ الفلانية (أي التي يصحّ السجود عليها) ولم يكن يمتلك شيئاً منها، ولكن كان بإمكانه إيجاد بعضها، وجب عليه إيجاده لكي تصحّ صلاته، ويبدو أنّ المسألة دائرة مدار المناسبات العرفيّة، أو المناسبات الشرعية والمتشرعية المؤثّرة في ظواهر الألفاظ.

147

(إذا شككت وكان لك يقين فابنِ على اليقين). وعليه نقول: إنّه إذا اُريد باليقين المفروض وجوده في المقام اليقين الذي نحتاجه في الاستصحاب وهو اليقين بالحالة السابقة، فحذف اليقين في المقام طبيعيّ؛ وذلك باعتبار الملازمة الغالبيّة بين الشكّ واليقين عادةً؛ إذ ما من شكّ إلاّ ويوجد معه يقين بحالة سابقة لا أقلّ من العدم الذي هو الأصل في الأشياء، إلاّ في الاُمور الذاتية، فيقال: إنّ المتكلّم اعتمد في مقام بيان الشيء هنا على ذكر لازمه العادي، واقتصر على غالبيّة الملازمة، ولم يصرّح بثبوت اليقين. وأمّا إذا اُريد باليقين اليقين الذي نحتاجه في قاعدة اليقين وهو اليقين بنفس ما شكّ فيه بعد ذلك، فهذا قلّ ما يتّفق للإنسان في شكوكه، فإنّ الشكّ ـ بحسب الغالب ـ ليس مسبوقاً بيقين زال بنحو الشكّ الساري، فهذا اليقين لا بدّ من ذكره، وليس ممّا يعتمد في بيانه على الملازمة الواضحة، وعليه فالمعنى الثاني يحتاج إلى مؤونة زائدة بخلاف الثالث.

فالإنصاف تماميّة هذه الرواية دلالةً، بل هي أحسن من الروايات السابقة من ناحية تصريحه(عليه السلام) بكون ذلك قاعدة عامّة، إلاّ أنّها ضعيفة سنداً كما عرفت.

هذا. ولو غضضنا النظر عمّا ذكرناه، وكانت نسبة العبارة في نفسها إلى الاستصحاب والقاعدة على حدٍّ سواء، قلنا: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب دون القاعدة تصرف العبارة إليه خصوصاً مع فقهائية الاستصحاب، أي: كونه مذكوراً ومطرحاً للبحث عند الفقهاء والاُصوليين منذ وجد الاُصول، بخلاف قاعدة اليقين التي هي فكرة مستحدثة عندهم.

وممّا يؤيد ظهور الرواية في الاستصحاب أنّ الراوي فهم بحسب اعتقاده المقصود، ولم يتردّد فيه، فانتقل إلى السؤال عن أنّ هذا أصل كلّي أو لا، ومن الواضح أنّ العبارة لو لم تكن ـ بالرغم من كلّ ما عرفت ـ ظاهرة في الاستصحاب فلا أقلّ من عدم ظهورها في قاعدة اليقين، ومن البعيد جدّاً أن ينتقل ذهن الراوي إذا كان سوّياً في تفكيره ـ بالرغم من ارتكازيّة الاستصحاب وفقهائيّته وكونه معترفاً به ولو في الجملة لثبوته في باب الطهارة الحدثية والخبثية على الأقلّ بناءً على المناقشة في التعدّي من مورد الصحيحتين الاُوليين، وغالبيّة ملازمة اليقين الاستصحابي مع الشكّ بخلاف اليقين في القاعدة ـ إلى قاعدة اليقين.

بقي هنا شيء: وهو أنّه لو فرض كون ذكر الصدوق لهذا الحديث في باب الخلل والشكّ في الركعات قرينة على أنّ الحديث كانت فيه قرينة تدلّ على وروده في باب الركعات، جاء هنا إشكال صيرورة ذلك موافقاً للتقيّة، وعند ئذ نقول: إن صحّ حمل الحديث على الاستصحاب بنحو لا يستلزم موافقة العامّة فبها ونعمت، وإلاّ حمل التطبيق على التقيّة،