210

وإن فرض الدليل على الإباحة قوله(عليه السلام):«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، ففيه:

أوّلاً: أنّه مضى في بحث البراءة أنّ المقصود بالورود هو الوصول لا مجرّد بيان الشارع، ويقصد بالإطلاق الإباحة الظاهرية.

وثانياً: أنّها رواية مرسلة نقلها الصدوق(رحمه الله) عن الصادق(عليه السلام)، وليست حجّة للارسال.

وثالثاً: أنّ الرواية وردت عن الصادق(عليه السلام)، أي: وردت بعد عصر التشريع، فلا معنى لتفسيرها بالإباحة الواقعية المغياة بحدوث بيان للحرمة، بل لا بدّ من تفسيرها بإباحة ظاهرية مغيّاة بوصول الحرمة، وحمل الرواية على بيان قاعدة كلّيّة لا يتّفق مصداقها في زمان ورودها وما بعد ورودها، وإنّما اتّفق في زمن النبي(صلى الله عليه وآله) خلاف الظاهر، فإنّ ظاهرها بيان قاعدة تؤثّر فعلاً،لا بيان قاعدة قد انتهى مفعولها.

وإن فرض الدليل على ذلك قوله:«اسكتوا عمّا سكت الله عنه»، ففيه:

أولاً: أنّها مرسلة وردت عن الأمير(عليه السلام)، فلا حجّيّة لها من حيث السند.

وثانياً: أنّ الرواية غير مرتبطة بالمقام، وإنّما مفادها: إنّ ما لم يُلزمكم الله بشيء فعلاً أو تركاً لا تسألوا عنه، ولا تفحصوا، فإنّ السؤال قد يكمّل ملاك الحكم فيأتي الحكم.

الإشكال الثالث: أنّنا لو كنّا نعلم بالحرمة ثمّ شككنا في أنّ الحرمة تبدّلت إلى الكراهة أو لا، أو كنّا نعلم بالوجوب ثمّ شككنا في أنّه تبدّل إلى الاستحباب أو لا، فعندئذ إمّا نقول بأنّ الوجوب والاستحباب وكذلك الحرمة والكراهة أحكام بسيطة، أو نقول بما التزم به المحقّق النائيني(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ من أنّ الوجوب والاستحباب كلاهما عبارة عن الحكم الإيجابي والطلب، فإن ضمّ إلى ذلك الرخصة في الترك سمّي استحباباً، وإلاّ سمّي وجوباً. والنهي ـ أيضاً ـ إن ضمّ إليه الترخيص في الفعل سمّي كراهة، وإلاّ سمّي تحريماً. فإن قلنا بالأوّل فهنا يأتي كلامنا، وهو أنّ استصحاب عدم جعل المقدار الزائد من الوجوب أو الحرمة معارض باستصحاب عدم جعل الاستحباب أو الكراهة. وهنا لا يأتي ما ذكره السيّد الاُستاذ من الحكومة، فلئن كان استصحاب عدم الحرمة حاكماً على استصحاب عدم الإباحة؛ لجعل الإباحة مغياة بالحرمة في قوله مثلاً:«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فالكراهة والاستحباب لم يثبت جعلهما مغيّين بالحرمة أو الوجوب. وإن قلنا بالثاني بطل هنا استصحاب عدم جعل المقدار الزائد من الوجوب أو الحرمة؛ لأنّ أصل الأمر أو النهي مسلّم البقاء، ويجري استصحاب عدم الترخيص، فيثبت الوجوب او الحرمة.

 

211

تنبيهات حول الشبهة الحكمية:

ولنذكر هنا تنبيهات حول ما ذكره السيّد الاُستاذ من مسألة معارضة استصحاب المجعول باستصحاب عدم الجعل:

التنبيه الأوّل: أنّ السيّد الاُستاذ كان يقول بعدم جريان استصحاب الحكم مطلقاً، أي: بلا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية، ففي الشبهة الموضوعية ـ أيضاً ـ لا يجري استصحاب الحكم بغضّ النظر عن حكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ لأنّ استصحاب المجعول فيه معارض باستصحاب عدم الجعل. وأوردتُ عليه: بأنّ هذا الكلام ينافي مورد صحيحة زرارة الدالّة على استصحاب الطهارة، فإنّها لم تستصحب عدم النوم مثلاً الناقض للطهارة، وإنّما استصحبت نفس الطهارة.

فأجاب: بأنّ هذه الرواية لا بدّ من توجيهها على كلّ حال؛ إذ حتّى لو كان استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية في نفسه جارياً يكون الاستصحاب الموضوعي حاكماً عليه، فعلى أيّ حال لا بدّ من استصحاب عدم الناقض دون استصحاب الطهارة.

وهذا الكلام غير صحيح على ما سوف يأتي منّا ـ إن شاء الله ـ من تحقيق: أن الاستصحاب الموضوعي ليس حاكماً على الاستصحاب الحكمي، وإذا كان موافقاً معه جَرَيا معاً، ولم يقدّم عليه.

ثم إنّ هنا نقضاً يرد على القول بابتلاء استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية بالتعارض مع استصحاب عدم الجعل، وهو أنّه بناءً على هذا يكون الاستصحاب الموضوعي ـ أيضاً ـ مبتلىً بالتعارض مع استصحاب عدم الجعل، فإنّ استصحاب الموضوع إنّما يكون حاكماً على الاستصحاب الجاري في المجعول باعتبار أنّ المجعول يترتّب على الموضوع ترتّباً شرعياً، ولا يكون حاكماً على الاستصحاب في الجعل؛ لعدم ترتّب شرعي بينهما، فيتعارض استصحاب الموضوع مع استصحاب عدم الجعل، فينبغي إنكار الاستصحاب الموضوعي أيضاً.

والتحقيق: أنّ هنا فرقاً كبيراً بين استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة واستصحاب الحكم في الشبهات الموضوعيّة، فشبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل لو تمّت في الشبهات الحكمية لا تتمّ في الشبهات الموضوعيّة، وقد بيّنتُ هذا الفرق للسيّد الاُستاذ فبنى على التفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة.

وهذا الفرق هو: أنّ الجعل في الشبهات الحكميّة يقال عنه مثلاً: إنّه يزيد وينقص بدخول

212

المشكوك فيه وخروجه عنه، فجعل النجاسة إلى زمان زوال التغيّر جعل أقلّ وأضيق من جعل النجاسة لهذا الماء حتّى بعد زوال تغيّره إلى أن يتّصل بالمعتصم. وأمّا في الشبهات الموضوعيّة فالجعل الموجود في نفس المولى يكون محدّد الأطراف، ومعيّن المقدار، ولا يختلف بزيادة المصاديق وقلّتها، فإنّ الجعل إنّما طرأ على الطبيعة المعيّنة الحدود، ولم يطرأ على المصاديق كالمجعول حتّى يضيق ويتّسع بقلّة المصاديق وكثرتها.

نعم، هنا شبهة واحدة لتخيّل جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعية، وهي: أنّنا وإن كنّا لو نظرنا إلى ما في نفس المولى لرأينا أنّه جعلٌ معيّن محدد لا يزيد ولا ينقص، ولكنّا لو قسنا هذا الجعل إلى المصاديق فبالإمكان أن يقال: إنّنا جازمون بأنّ المولى جعل الحكم على طبيعة شاملة للفرد الذي نعلم ببقاء فرديّته، ولكن حينما شككنا بنحو الشبهة الموضوعيّة في بقاء فرديّته وعدمه نشير إلى هذا الوجود بالذات ونقول: لا ندري هل جعل المولى الحكم على طبيعة تشمل هذا الموجود أو لا؟ فنستصحب عدمه.

والجواب: أنّنا لو لاحظنا عنوان جعل المولى للحكم على طبيعة تشمل هذا الفرد فهو مشكوك، لكنّه لا أثر له، ولو لاحظنا واقع جعل المولى الحكم على طبيعة تشمل هذا الفرد فهو: إمّا معلوم الثبوت، أو معلوم العدم، فعلى تقدير أن يكون هذا الفرد في الواقع فرداً للطبيعة يكون معلوم الثبوت. وعلى تقدير عدم كونه فرداً لها يكون معلوم العدم، وقد شككنا في أنّ أيّ التقديرين هو الصحيح. وهذا سنخ ما يقال في استصحاب الفرد المردّد، فلو علمنا مثلاً بوجود شخص في المسجد مردّد بين زيد وعمرو، ثمّ رأينا زيداً في خارج المسجد، فهنا لو لاحظنا عنوان من كان في المسجد فبالامكان أو يقال: إنّنا قد شككنا في بقاء من كان في المسجد وعدمه، فإذا كان هناك أثر شرعيّ يترتّب على ذلك جرى استصحاب البقاء. وأمّا إذا لاحظنا واقع من كان في المسجد لفرض ترتّب الأثر على الواقع لا العنوان، فهنا لا يوجد شكّ في البقاء على كلّ تقدير؛ إذ على تقدير كون ذاك الشخص هو زيد نقطع بعدم بقائه، فكيف نجري الاستصحاب؟!

التنبيه الثاني: قد سبق أنّنا اخترنا في كيفيّة تصوير الحدوث والبقاء في الحكم المستصحب(وهي منطقة الفراغ في كلام السيّد الاُستاذ) دعوى أنّ العرف ينظر إلى عنوان الحكم بالنظرة المسامحيّة، وهي نظرة الحمل الأوّلي التي يرى بها الحكم شيئاً له حدوث وبقاء، ويتخيّل أنّ عنوان الحكم هذا هو واقعه، ويرى له هذا الحدوث والبقاء بتبع ما يرى ـ أيضاً ـ من حدوث وبقاء لعنوان الموضوع بالحمل الأوّلي.

213

إلاّ أنّ هذا البيان بهذا المقدار يكون ناقصاً، لأنّه قد يتّفق أنّ موضوع الحكم الثابت في صقع الاعتبار النفساني في نفس المولى لم يكن له حدوث وبقاء حتّى لدى النظر إليه بنظرة الحمل الأوّلي، كي يتمّ للحكم بتبع موضوعه حدوث وبقاء بنظرة الحمل الأوّلي.

مثال ذلك: أنّ إيجاب المولى للجلوس في ساعتين مثلاً يمكن أن يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن تكون الساعتان موضوعاً لوجوب الجلوس، فبما أنّ هذا الموضوع يرى له بنظرة الحمل الأوّلي امتداد وحدوث وبقاء يرى للحكم ـ أيضاً ـ بهذه النظرة نفس الامتداد والحدوث والبقاء، فيكفي لتوضيح تصوير الاستصحاب ما ذكرناه من البيان.

والثاني: أن تؤخذ الساعتان قيداً لمتعلّق الحكم وهو الجلوس، لا موضوعاً للحكم، فالجلوس بقدر الساعتين يجب دفعة واحدة، وذلك بأن يكون الوجوب بلحاظ الساعة الثانية قبل الواجب كما يتعقّله القائلون بإمكان الواجب المعلّق، بل يتعقّله حتّى المنكرون لذلك، فإنّهم يعترفون بأنّ صلاة الظهر مثلاً تصبح بكل أجزائها واجبة بمجرّد الزوال، وليست تجب تدريجاً بتدرّج الصلاة، وقد جُعِل مثل هذا نقضاً على من ينكر الوجوب التعليقي، وسواءً صحّ هذا النقض أو لم يصحّ نقول: إنّ مثل هذا الوجوب معقول عند الكلّ فإذا وجب الوقوف بعرفات مثلاً بهذا النحو من الوجوب، وتردّد مقداره بين الأقلّ والأكثر فيقال: ليس الوجوب هنا حتّى بنظرة الحمل الأوّلي شيئاً ممتدّاً له حدوث وبقاء؛ لأنّنا حينما ننظر إلى هذا الوجوب الذي هو اعتبار نفساني ولو بنظرة الحمل الأوّلي نرى أنّه يوجد دفعة واحدة بكلّ أجزائه، أي: إنّ مجرّد مسامحة العرف للعدول عن النظر إليه بما هو واقعه بنظرة الحمل الشائع إلى النظر اليه بما هو عنوانه لا يشفع لفرض حدوث وبقاء له، فكيف يجرى الاستصحاب؟!

ولتعميم الوجه المختار بحيث يشمل مثل هذا الفرض نقول: إنّ هناك مسامحة اُخرى ـ أيضاً ـ عرفيّة ووجدانيّة كالمسامحة السابقة، أي: مسامحة النظر بالحمل الاوّلي لا بدّ من ضمّها إلى تلك المسامحة، وهي: أنّ الحكم يُرى عرفاً تابعاً لمتعلّقه في تصوير الامتداد له وكأنّه ثوبٌ خيط على قدّه، أو عرضٌ تابع لمعروضه في الامتداد الزماني، فيُرى لهذا الحكم حدوث وبقاء، فيجري الاستصحاب. ويشهد لهذه المسامحة ـ أيضاً ـ عدم خطور الإشكال في هذا الاستصحاب على بال أيّ واحد منهم إلى يومنا هذا.

214

التنبيه الثالث: أنّ للسيّد الاُستاذ إشكالاً(1) في بعض أقسام استصحاب الحكم وقع تحت الشعاع لإشكاله بإيقاع المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل، في حين أنّه ليس هذا الإشكال بأقلّ وجاهة من ذاك الإشكال، وهو: أنّ الحكم تارة لا يكون تقطيعه إلاّ باعتبار قطعات الزمان من قبيل نجاسة الماء المتغيّر التي تتقطّع بلحاظ حصص لها بالحدوث والبقاء، وكذا وجوب الجلوس في المسجد ساعتين مثلاً. واُخرى يمكن تقطيعه باعتبار تعدد أفراد الموضوع كحرمة شرب الماء المتغيّر مثلاً، فإنّها تتعدّد بتعدّد أفراد الشرب، أو حرمة الملامسة قبل الطهر التي تتعدّد بتعدّد العمل، ففي القسم الأوّل لا بأس باستصحاب الحكم في نفسه بغضّ النظر عن معارضته باستصحاب عدم الجعل، فإنّ التقطيع ليس إلاّ بلحاظ الزمان المفروض غضّ النظر عنه في الاستصحاب. وأمّا في القسم الثاني فاستصحاب الحكم في نفسه غير جار بغضّ النظر عن المعارضة؛ وذلك لأنّ الملامسة مثلاً لها أفراد عديدة وكذا الشرب قد علمنا بحرمة بعضها، ولا معنى لإسراء الحرمة إلى بعض آخر وهو الملامسة بعد النقاء وقبل الغُسل مثلاً، أو الشرب بعد زوال التغيّر وقبل الاتّصال بالمعتصم بالاستصحاب، فإنّ هذا إسراء للحكم من فرد إلى فرد آخر، ولا معنىً لاستصحاب كلّي الحكم، فإنّه يكون استصحاباً للكلّي من القسم الثالث، كما لو علم بدخول زيد في المسجد وخروجه بعد ذلك، واحتمل دخول عمرو مقارناً لخروج زيد أو قبله، فهنا لا يصحّ استصحاب بقاء كلّي الإنسان.

أقول: إنّ هذا الإشكال ـ أيضاً ـ غير صحيح كإشكال المعارضة لاستصحاب عدم الجعل، وذلك يتّضح بتمهيد مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ معنى كون أفراد مّا أفراداً لكلّي واحد هو أنّه لو قشّرنا أيّ واحد من تلك الأفراد، وأفرزنا منه في الذهن أيّ خصوصية من خصوصياته الشخصية من الطول والقصر واللون مثلاً إلى غير ذلك حتّى خصوصيّة الوجود الذاتي بمعنىً فلسفي، لم يبقَ في الذهن إلاّ نفس ما يبقى من الفرد الآخر عند التقشير، فذلك الذي يبقى هو الكلّي الذي يكون تحته هذه الأفراد، وهو في كلّ الأفراد شيء واحد.

المقدّمة الثانية: أنّ أيّ شيء من العوارض والطوارئ تارة يكون عارضاً على الفرد بخصوصيّاته الفرديّة، واُخرى يكون عارضاً على ذلك الشيء الواحد الجامع بين الأفراد،


(1) راجع المصباح: ج 3، ص 37 ـ 38.

215

فمثال الأوّل هو دخول الشخص في المسجد، فإنّ هذا عرضٌ عرضَ على الشخص بمجموع أجزائه العقلية؛ ولذا لو قُشّر إلى أن بقي ذلك الجامع لا يقال: إنّ ذاك الجامع هو الذي عرض عليه هذا العارض مباشرة، وإنّما يقال: إنّ ذلك الجامع قد عرض عليه العارض في ضمن الشخص الذي عرض العارض عليه. ومثال الأوّل هو الحكم الشرعي الثابت بنحو القضية الحقيقية على طبيعة الشرب أو الملامسة مثلاً، فهذا الحكم لم يعرض على الشخص بما هو متشخّص بالخصوصيات الفرديّة من كونه مثلاً شُرباً سريعاً أو بطيئاً ونحو ذلك، وإنّما عرض على تلك الحيثيّة المشتركة؛ ولذا لو قُشّر الفرد إلى أن لم يبقَ إلاّ تلك الجهة المشتركة لرآها العرف معروضة للحكم الشرعي، وكافية في ثبوت الحكم عليها.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ الحكم الشرعي ـ على ما ظهر في المقدّمة الثانية ـ قد عرض على الحيثية المشتركة، وتلك الحيثية ـ على ما ظهر في المقدمة الاُولى ـ شيء واحد، وإنّما شككنا في بقاء هذا الحكم من باب أنّنا احتملنا أن لا تكون خصوصيّة الزمان ملغاة كسائر الخصوصيّات التي علمنا بإلغائها، وأن تكون دخيلة في الحكم، لكنّ المفروض في الاستصحاب غضّ النظر عن خصوصيّة الزمان، فيجري ـ لا محالة ـ الاستصحاب بلا إشكال.

التنبيه الرابع: في استصحاب عدم النسخ.

إنّ الشبهة الحكمية تارة تكون من باب الشبهة في سعة دائرة مفهوم ما تعلّق به الحكم وضيقه، كما في مثال نجاسة الماء المتغيّر، وهذا ما كنّا نتكلّم فيه حتّى الآن، واُخرى يكون من باب الشكّ في النسخ، وهذا ـ أيضاً ـ في الحقيقة يرجع إلى الشكّ في سعة دائرة مفهوم ما تعلّق به الحكم؛ لأنّ قيد الزمان في الحقيقة ماخوذ من أوّل الأمر في الحكم المنسوخ، والفرد الذي خرج عن الحكم بالنسخ لم يكن في الحقيقة داخلاً في الحكم من أوّل الأمر لاستحالة البداء والنسخ بمعناه الحقيقي في حقّه تعالى. ومن هنا يرد في استصحاب عدم النسخ كلا إشكالي السيّد الاُستاذ اللذين ذكرناهما في القسم الأوّل من الشبهة الحكمية:

فأحدهما: هو إشكال أنّ حرمة الشرب كانت ثابتة للفرد من الشرب الثابت قبل زوال التغيّر، ولا يمكن إسراؤها بالاستصحاب على فرد آخر، وكذلك يقال في ما نحن فيه: إنّ حرمة الشرب مثلاً كانت ثابتة لأفراد الشرب الثابتة في ما قبل السنة السابعة من هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) مثلاً، ولا نعلم بثبوتها للأفراد الاُخرى، أو إنّ النجاسة مثلاً كانت ثابتة لأفراد المياه المتغيّرة في ذلك الزمان، ولا نعلم بثبوتها للأفراد الاُخرى، أو إنّ وجوب صلاة الجمعة كان

216

ثابتاً لأفرادها التي تكون في ذلك الزمان، ولا نعلم بثبوته لباقي الأفراد، ولا معنىً لإسراء الحكم من تلك الأفراد بالاستصحاب إلى أفراد اخُرى، أو يقال: إنّ الحرمة أو الوجوب كانا ثابتين على أشخاص موجودين في ما قبل السنة السابعة من الهجرة مثلاً، ولا نعلم بثبوتها على أشخاص آخرين وُجدوا بعد ذلك، ولا معنىً لإثبات الحكم عليهم بالاستصحاب.

والجواب: هو نفس الجواب الذي مضى هناك، فنقول إنّ الحكم كان ثابتاً على طبيعي الشرب أو الصلاة مثلاً، وعلى طبيعي الإنسان البالغ، فنستصحبه.

وثانيهما: هو إشكال معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب عدم الجعل الزائد على الأفراد المشكوكة من الشرب أو المياه أو الصلوات، أو على الأفراد المشكوك ثبوت الحكم عليهم من الناس؛ لما عرفت من أنّ النسخ يكشف في الحقيقة عن عدم الجعل.

والجواب ـ أيضاً ـ هو ما عرفته من الجواب هناك مفصّلاً.

نعم، هنا إشكال ثالث لم يكن يأتي هناك، وهو: أنّ استصحاب عدم النسخ معارض باستصحاب آخر يكون هو ـ أيضاً ـ استصحاباً لبقاء المجعول، لا استصحاباً لعدم الجعل. توضيحه: انه إذا احتملنا نسخ نجاسة الماء المتغيّر مثلاً، ثمّ تغيّر الماء، فكما يجري استصحاب نجاسة الماء المتغيّر الثابتة في أوّل الشريعة كذلك يجري استصحاب طهارة الماء الثابتة قبل تغيّره.

والجواب: أنّه إن قصد بذلك استصحاب الطهارة العارضة على هذا الفرد بخصوصيّاته الفرديّة، فقد مضى منّا أنّ الأحكام الثابتة بنحو القضايا الحقيقيّة إنّما طرأت على الطبائع الكلّية والجهة المشتركة.

وإن قصد بذلك استصحاب طهارة طبيعة الماء، وهي الحيثيّة المشتركة بين هذا الفرد وسائر الأفراد، بأن يقال: إنّ طبيعة الماء كانت طاهرة قبل التغيّر، ولا ندري هل هذه الطهارة منتقضة بالتغيّر أو لا؟ فنستصحبها، قلنا: إنّنا نقطع بالانتقاض ولو بلحاظ أوّل الشريعة، والمفروض أنّ الطبيعة في أوّل الشريعة هي عين الطبيعة بعد ذلك؛ لأنّنا قلنا: إنّنا إذا نظرنا إلى الحيثية المشتركة لم نَرَ إلاّ شيئاً واحداً وهو الجامع بين جميع الأفراد، فنحن قاطعون بالانتقاض وانفعال هذه الطبيعة بالتغيّر، وشاكّون في بقاء هذا الانتقاض، فأيّ معنىً لاستصحاب طهارة الماء؟!

نعم، لو غفلنا عن وحدة طبيعة الماء قبل احتمال النسخ وطبيعته بعد احتمال النسخ، وتخيّلنا أنّهما شيئان، فقد يقال: إنّ طبيعة الماء قبل احتمال النسخ كانت طاهرة، وكانت

217

تنجس بالتغيّر، وطبيعة الماء بعد احتمال نسخ النجاسة ـ أيضاً ـ طاهرة، ولا ندري هل تنجّست بالتغيّر أو لا، فنستصحب الطهارة، ولكن مع فرض هذه الغفلة لا يبقى معنىً لاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر الثابتة قبل احتمال النسخ؛ لأنّنا تخيّلنا أنّ هذه بعد النسخ طبيعة أُخرى غير الطبيعة التي كانت محكومة بالنجاسة قبل النسخ.

إن قلت: بناءً على هذا ينسدّ باب استصحاب الطهارة في الشبهات الموضوعيّة، فلو شككنا في طهارة ماء لاحتمال ملاقاته للنجس لا يمكننا أن نجري استصحاب الطهارة بغضّ النظر عن حكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ وذلك لأنّنا نعلم بلا شكّ بانتقاض الطهارة في بعض أفراد اُخرى، فهل نقصد هنا استصحاب طهارة هذا الفرد بالخصوص، أو نقصد استصحاب طهارة طبيعي الماء؟ فإن قصد استصحاب طهارة هذا الفرد بالخصوص قلنا: إنّ الطهارة لا تعرض على الفرد بخصوصيّاته الفرديّة. وإن قصد استصحاب طهارة طبيعي الماء، قلنا: إنّ طهارة طبيعي الماء نعلم بانتقاضها ولو في ضمن فرد آخر.

قلت: هناك فرق بين ما نحن فيه وبين هذا المثال، وهو أنّنا في هذا المثال إنّما انتقض علمنا بطهارة طبيعي الماء لا بلحاظ طبيعي الماء من دون دخل أيّ خصوصيّة غير موجودة في هذا الفرد، وإنّما علمنا بانتقاض الطهارة في الماء بما هو متخصّص بخصوصيّة لم يعلم بوجودها في هذا الفرد، وتلك الخصوصيّة هي ملاقاة النجاسة، فاستصحاب طهارة طبيعي الماء يكون بلحاظ هذا الفرد الذي لا يعلم فيه بهذه الخصوصيّة جارياً. وأمّا في المقام فنحن نعلم بانتقاض طهارة طبيعي الماء في زمن البقاء العنواني، وهو زمن التغيّر من دون دخل أيّ خصوصيّة يحتمل عدم وجودها في هذا الفرد الذي أمامنا غير خصوصيّة الزمان، فإنّ المفروض أنّ نفس هذا الفرد لو كان في أوائل الشريعة لكان محكوماً عليه بالنجاسة؛ لكونه متغيّراً، فكأنّ طهارة طبيعي الماء مقطوعة الانتقاض حتّى بلحاظ هذا الفرد، فليس هذا الفرد بلحاظ طبيعيّه مسبوقاً بالطهارة غير المنتقضة، وإنّما هو مسبوق بحالة مركّبة وهي طهارة ترتفع بالتغيّر، فلا معنىً لجريان استصحاب الطهارة. نعم، الماء المتغيّر حالته السابقة هي النجاسة، فيجري استصحاب النجاسة.

ولا يخفى أنّه ليس مقصودنا من أمثال هذه التحليلات إثبات المدّعى(وهو هنا استصحاب عدم النسخ) بهذه التحليلات، بل المدّعى يثبت بالاستظهار العرفي، وإنّما المقصود تحليل النكتة الارتكازيّة العرفيّة التي أوجبت استظهاراً من هذا القبيل، ففي المقام مثلاً إنّما نحكم باستصحاب عدم النسخ بحكم الفهم العرفي؛ ولذا نرى أنّه لم يستشكل أحد

218

مئآت السنين في استصحاب عدم النسخ قبل أن يدخل مثل هذه التدقيقات في الاُصول، بل جعل من القدر المتيقّن من الاستصحاب.

ولنذكر هنا بنحو الاختصار بهذه المناسبة(1) مدا اعتمادنا على هذه التدقيقات في مجال الظهورات العرفيّة، وخلاصة الكلام في ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ المعتبر شرعاً هو الظهور الاجتماعي العرفي، ولا إشكال في أنّ الظهور الذاتي الشخصي، أي: ما يُلقي الكلام في ذهن الشخص المعيّن من معنىً إنّما يكون معتبراً في أماريّته على الظهور الاجتماعي، ولا إشكال في أنّ هناك نكات ومناشئ كثيرة مؤثّرة في تكوّن ذاك الظهور الاجتماعي العرفي، وتلك التدقيقات تنفعنا في عدد من المجالات.

فأوّلاً: قد يتّفق أنّ ظهوراً عرفياً مّا يغفل عنه الشخص، ولا يتكوّن في نفسه ظهور ذاتي طبقاً لذاك الظهور العرفي نتيجة خفاء وخمول عنده في ارتكازيّة تلك النكات والمناشئ الموجبة لخلق الظهور الذاتي وفقاً للظهور العرفي، ويتّفق أنّه لو نشّطت له تلك الارتكازات وأُلفت نظره بالتفصيل إليها تكوّن الظهور الذاتي في نفسه، ويأخذ به باعتباره أمارة على الظهور العرفي.

مثاله: رواية عليّ بن جعفر:(سأل أخاه موسى بن جعفر(عليه السلام) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلاّ أن يضطرّ إليه)(2) فالأضطرار في هذه الرواية ظاهر في معنى انحصار الماء به، وليس بمعنى التقيّة، وقد ينكر أحد ذلك، فتُبيّن له نكتة هذا الظهور، وهي إضافة الاضطرار إلى الماء دون الوضوء، فقد ينقدح عندئذ تكويناً في نفسه الظهور الذاتي، والذي هو أمارة على الظهور العرفي.

وثانياً: قد يتّفق تشكيك الشخص في الظهور لشبهة مّا، فهو بالرغم من إحساسه الأوّلي بالظهور يرى أنّ هذا الإحساس غير صحيح؛ لأنّه لا يلتئم مع قواعد الكلام العربية مثلاً، فهو يحسّ بفهم الاستصحاب الحكمي من صحيحة زرارة، إلاّ أنّه يقول: إنّ هذا الإحساس غير صحيح لعدم تصوّر حدوث وبقاء في المقام، فلو أُلفِت نظره إلى الحدوث والبقاء العنوانيين وقيل له: لعل العرف يكتفي بذلك عن الحدوث والبقاء الحقيقيين، فقد ترتفع الشبهة عن نفسه.


(1) هذا البحث موكول إلى مبحث الظواهر، وقد بحث هنا مختصراً دفعاً لما قد يختلج بالبال، وذكره بعض الحضار من الإشكال.

(2) الوسائل: ج 3، ب 14 من النجاسات، ح 9، ص 421 بحسب طبعة آل البيت.

219

وثالثاً: قد يتّفق أنّ إبراز نكتة وتقريب لظهور مّا لا يقدح في نفس الشخص الإحساس بالظهور الذاتي، ولكن مع ذلك قد يوجب له الجزم والاطمئنان بمجموع القرائن، وبتكثير النظائر، وبالسبر والتقسيم والحصر، ونحو ذلك بكون الحال في هذا المورد الذي لم يحسّ فيه بالظهور الفلاني تماماً كالمورد الآخر الذي أحسّ به فيه، فمثلاً يرى أنّه لا فرق بين دلالة مقدّمات الحكمة على مفهوم الشرط الذي لم يتكوّن في نفسه ظهور ذاتي على طبقه، ودلالتها على الإطلاق في مثل(أحلّ الله البيع) مثلاً الذي انقدح في نفسه الظهور الذاتي على طبقه، فيعرف أنّ عدم تكوّن هذا الظهور الإطلاقي في نفسه في الشرط مثلاً نشأ من عامل خارجي كأن درس عند اُستاذ كان ينكر مفهوم الشرط ونحو ذلك، فيأخذ عندئذ بهذا الظهور.

أمّا إذا لم يحصل له مثل هذا الجزم والاطمئنان فلا عبرة له بتلك النكات والتحليلات الفنيّة.

التنبيه الخامس: لا إشكال بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من تصوير المجعول في مقابل الجعل في جريان الاستصحاب الحكمي في الشبهات الموضوعية لو لم يجر الاستصحاب الموضوعي لنكتة مّا؛ إذ من الواضح أنّ المجعول يطول بطول الموضوع، فمع الشكّ يمكن استصحاب بقاء المجعول، ولكن يقع الكلام في ذلك بناءاً على مبنانا من إنكار المجعول؛ إذ يمكن أن يقال عندئذ: إنّه لا مجال لاستصحاب النجاسة مثلاً عند الشكّ في بقاء التغيّر؛ إذ لو قصد استصحاب المجعول فقد فرضنا إنكار المجعول، ولو قصد استصحاب الجعل فنحن قاطعون ببقاء جعل نجاسة الماء المتغيّر.

نعم، في الشبهة الحكميّة قد تصوّرنا للحكم حدوثاً وبقاء عنوانياً، فقلنا: إنّ نجاسة الماء حين ثبوت التغيّر هي حدوث عنواني للحكم، ونجاسته بعد زوال التغيّر هي بقاء عنواني للحكم، وعلى هذا الأساس كنّا نجري الاستصحاب. وأمّا في الشبهة الموضوعيّة فلا شكّ في حدود الجعل حتّى يشكّل حدوث وبقاء عنواني.

والجواب: أنّ هنا مسامحة ثانية يرتكبها العرف عند تحقّق الموضوع خارجاً، وهي: أنّه حينما ينظر إلى عنوان الماء المتغيّر بالحمل الأوّلي ـ وقد تحقّق المصداق والمعنون في الخارج ـ فهو يرى أنّه ينظر إلى المعنون ويرى العنوان بهذا النظر(أي: بالنظر إليه بالحمل الأوّلي) نفس المعنون ومنطبقاً عليه، وإلاّ لما كان عنواناً له، ومن هنا يرى عندئذ حدوثاً وبقاءً عنوانياً للحكم بتبع حدوث وبقاء الموضوع الخارجي، فيجري استصحابه.

220

 

 

 

التفصيل بين الحكم الشرعي الثابت بحكم العقل والثابت

بدليل شرعي:

 

وأمّا التفصيل الثاني ـ وهو التفصيل بين حكم الشرع المستفاد عن طريق حكم العقل وحكم الشرع المستفاد بدليل لفظي ونحوه، وهو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، ووافقه السيّد الاُستاذ في الجملة(2)، وخالفه أكثر المحقّقين المتأخّرين، فمجموع ما يستفاد من الكلمات في تقريب ذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ حكم الشرع هنا تابع لحكم العقل، ويكون بملاك حكم العقل، وملازماً له، وحيث إنّ حكم العقل لا يقع فيه الشكّ؛ إذ الحاكم لا يشكّ في حكمه، فلا يقع ـ أيضاً ـ شكّ في حكم الشرع الذي يكون بملاكه.

وهذا الوجه ينبغي أن يكون مختصّاً بالحكم الشرعي المستفاد من باب تبعيّة الحكم الشرعي لأحكام العقل العملي، ولا يجري في الحكم الشرعي المستفاد عن طريق العقل النظري المدرك لمصلحة أو مفسدة لزوميّة؛ لوضوح أنّ بالإمكان أن يدرك العقل النظري وجود مصلحة او مفسدة في شيء ويشكّ في حدود وجود تلك المصلحة أو المفسدة، وحيث إنّ الحكم الشرعي إنّما هو تابع لتلك المصلحة أو المفسدة، فلا محالة يقع الشكّ فيه، وإنّما هناك مجال للتوهم بلحاظ أحكام العقل العملي، بأن يقال مثلاً: إنّها مجعولة للعقلاء، والعقلاء لا يشكّون في جعلهم، أو إنها أحكام ذاتيّة للعقل موجودة في اُفق العقل فقط، كما ذهب إليه المحقق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل(3)، فلا يتصوّر الشكّ فيها.

وتحقيق الكلام في المقام بلحاظ أحكام العقل العملي هو: أنّه يوجد في تحقيق حقيقة أحكام العقل العملي مباني أربعة، ونحن نذكرها هنا من دون الكلام في تحقيق ما هو الصحيح


(1) راجع الرسائل: ص 325 ـ 326 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله، وكذلك راجع ص 378 ـ 379 من نفس الطبعة.

(2) يستفاد من المصباح عدم ارتضاء السيّد الخوئي لهذا التفصيل إطلاقاً، راجع المصباح ج 3، ص 35 ـ 36.

(3) راجع فوائد الشيخ الخراساني ص 330 بحسب ما أُلحق في الطبع بتعليقه على الرسائل.

221

منها، فإنّ هذا ليس محلّه هنا، وإنّما نتكلّم هنا بالمقدار المرتبط بالمقام، وهو وقوع الشكّ في الحكم الشرعي ليكون مجال للاستصحاب وعدمه بالنسبة لكلّ واحد من هذه المباني الأربعة:

المبنى الأوّل: ما اختاره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) من أنّ تلك الأحكام هي في الحقيقة أحكام جعليّة، جعلتها العقلاء حفظاً للنظام والمصالح الاجتماعيّة، فما رأوا فيه مصلحة اجتماعيّة حسّنوه ومدحوا فاعله، وما رأوا فيه مفسدة اجتماعيّة قبّحوه وذمّوا فاعله، والشارع الذي هو رئيس العقلاء جرى طبعاً طبق منهجهم، فصنع ما صنعوه، وجعل ما جعلوه، ومدح من مدحوه، وذمّ من ذمّوه، ومدحه ثوابه، وذمّه عقابه. وذكر المحقّق الإصفهاني مبنيّاً على ذلك: أنّه لا يتصوّر أنْ يشكّ شخص في حسن شيء أو قبحه، فإنّ ذلك من صنع العقلاء، وهو منهم، وبالتالي لا يشكّ في الحكم الشرعي المستكشف من ذلك(1)؛ لكونه بملاكه وتابعاً له، بل ذهب(قدس سره) إلى انه لا يتصوّر الشكّ حتّى بنحو الشبهة الموضوعيّة، بأن يقال مثلاً: إنّ الكذب المضرّ قبيح، ثمّ يشكّ في مضرّيّة كذب مّا، فيشكّ في قبحه وبالتالي في حكمه الشرعي؛ وذلك لأنّ الحسن والقبح إنّما هما من صفات الأفعال الاختيارية، واختيارية الشيء فرع الوصول والعلم به، فمع الشكّ وعدم الوصول ليس اختيارياً حتّى يحسن أو يقبح، إذن فعند الشكّ يقطع بارتفاع الحسن أو القبح، ولا يشكّ فيه(2).

أقول: يرد على ذلك:

أوّلاً: أنّ عقلائية الحسن والقبح وكون ذلك بجعلهم لا يمنع من أن يشكّ شخص فيه، فإنّه قد تفرض تمامية الجعل من قبل العقلاء السابقين، ثمّ يأتي شخص ويشكّ في تحقّق هذا الجعل وعدمه من قبل العقلاء، فإنّ هذا الجعل التابع للمصالح والمفاسد العامّة ليس شيئاً لا يمكن بقاؤه مجهولاً؛ إذ ليس كل مصلحة أو مفسدة عامة أو بديهية يعرفها عموم الناس؛ لأنّ للمصالح والمفاسد مراتب، وقد يقع الشكّ لبعض في بعضها، وهذه الجعول العقلائية حالها


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهاني لا يؤمن باستكشاف الحكم الشرعي الجعلي المولوي في موارد الحسن والقبح العقليين، وإنّما يؤمن بأنّ ما لدى العقلاء من الحسن والقبح والمدح والذم والثواب والعقاب هو الموجود ـ أيضاً ـ لدى المولى.

(2) لعلّ مجموع ما نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إلى الشيخ الإصفهاني في المقام منتزع من مجموع ما ورد في الجزء الثالث من نهاية الدراية ص 31 ـ 38، و ص 333 ـ 348، بحسب طبعة آل البيت.

222

حال جعول العقلاء للّغة التي كثيراً مّا ترى وقوع الشكّ فيها، فيشكّ شخص في حدود المعنى اللغوي الذي جعلته العقلاء للفظ الفلاني، فلا يدري أنّ كلمة(الماء) مثلاً تشمل الماء المخلوط بالتراب بالنسبة الكذائية أو لا؟ بالرغم من أنّه أيضاً عاقل، وليس العقلاء يشترطون في جعلهم لحسن شيء أو قبحه اتّفاق كلّ من يأتي إلى يوم القيامة على كونه ذا مصلحة أو ذا مفسدة.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ العقلاء لا يشكّون في الحسن والقبح الذي يجعلونه تبعاً لما يدركونه من المصالح والمفاسد، ولكن لماذا لا يشكّون في الحكم الشرعي المستكشف بهذا الطريق؟! ومجرّد فرض أنّ الشارع هو رئيس العقلاء فلا يخالفهم في تحسين ذي المصلحة وتقبيح ذي المفسدة لا يستلزم عدم فرض أو سعية جعل الشارع من جعل العقلاء، فهو باعتباره أعقل وأكمل منهم قد يدرك مدىً أبعد للمصلحة أو المفسدة التي أدركوها ولم يستطيعوا أن يدركوها بتلك الحدود الواسعة.

وثالثاً: أنّ فرض عدم تصوير الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة بالبيان الماضي غير صحيح.

فأوّلاً: قد مضى في بحث التجرّي منع كون الاختيار تابعاً للعلم والوصول.

وثانياً: لو فرض الاختيار تابعاً للعلم والوصول قلنا: لم يثبت أنّ الحسن والقبح بعد فرضهما أمرين جعليين يتبعان الاختيار، ولماذا لا يكونان كسائر الجعول المتعلّقة بأشياء بعناوينها الواقعيّة؟!

المبنى الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل من أنّ الحسن والقبح العقليين عبارة عن انبساط وانقباض يحصلان في القوّة العاقلة حينما تدرك الأفعال الحسنة والأفعال القبيحة، فكما أنّ القوى المودعة في الحواسّ الخمس تنبسط وتلتذّ حينما تحسّ بما يلائمها، وتنقبض وتتاثّر حينما تحسّ بما ينافرها، فالقوّة الذائقة مثلاً تلتذ بالحلاء وتنفعل وتنقبض بالمرارة، فيقال: إنّ هذا الطعم لذيذ، وهذا الطعم غير لذيذ، كذلك القوّة العاقلة الدرّاكة حينما تدرك ما يلائمها من الوفاء والمواساة وكتمان السرّ ونحو ذلك تنبسط وتلتذّ، ويقال عن تلك الأشياء: إنّها من المحسّنات العقليّة، وحينما تدرك ما ينافرها من الظلم والخيانة ونحو ذلك تشمئزّ وتتأثّر، ويقال عن تلك الأشياء: إنّها من القبائح

223

العقلية(1).

ونقول بناءً على هذا المبنى: إنّنا لو اقتصرنا على مجرّد أنّ القوّة المدركة المخلوقة فينا تنبسط بإدراك بعض الأشياء وتشمئزّ وتتأثّر بإدراك بعض الأشياء الاُخرى، فهذا بمجرّده لا معنى لأن يستكشف به الحكم الشرعي؛ إذ لا وجه لدعوى الملازمة بين الحكم الشرعي وانبساط هذه القوّة أو انقباضها، كما لا ملازمة بين الحكم الشرعي وانبساط القوّة الذائقة مثلاً وانقباضها، ولو قلنا مثلاً: إنّ وضع الله تعالى في الإنسان هذه القوّة المدركة الواجدة لهذه الخاصيّة يكون لأجل حفظ المصالح الاجتماعيّة، فقد وضع الله فينا قوّة مدركة تنبسط للأشياء التي فيها مصالح اجتماعيّة، وتنقبض عن الأشياء التي فيها مفاسد اجتماعيّة، وبذلك جُبلنا على حفظ المصالح الاجتماعيّة والتجنّب عن المفاسد الاجتماعيّة، فيستكشف الحكم الشرعي بملازمته لانبساط القوّة المدركة وانقباضه من باب كونه كاشفاً عن المصالح والمفاسد، فالحكم الشرعي في الحقيقة يتبع تلك المصالح والمفاسد، فعندئذ من الواضح تعقّل الشكّ في دائرة المصالح والمفاسد، وبالتالي الشكّ في دائرة الحكم الشرعي.

المبنى الثالث: أنّ الحسن والقبح العقليّين أمران موضوعيّان ثابتان في لوح الواقع يدركهما العقل تماماً كالاُمور التي يدركها العقل النظري، وليسا جعليّين كما في المبنى الأوّل، ولا موجودين في اُفق الإدراك وذاتيّين للإدراك كما في المبنى الثاني، وعلى هذا المبنى من الواضح تعقّل الشكّ فيهما، وبالتالي الشكّ في الحكم الشرعي.

المبنى الرابع: أن نفكّك بين الحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذم ومنشئهما، أي: وقوع الشيء موقعه ووقوعه في غير موقعه فالثاني وهو منشأ استحقاق المدح والذم أمر واقعي موضوعي يدركه العقل، والأوّل وهو استحقاق المدح والذم ـ أيضاً ـ أمر واقعي موضوعي، لكن اُخذ في موضوعه العلم بالمنشأ، أي: كون الشيء واقعاً في موقعه أو غير واقع في موقعه. وهذا ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ(2).

وعلى هذا يجب أن نرى أنّ المدّعى هل هو الملازمة بين الحكم الشرعي ومنشأ الاستحقاق أو هو الملازمة بين الحكم الشرعي وهذا الاستحقاق الذي اُخذ في موضوعه


(1) راجع الفائدة 13 من فوائد الشيخ الخراساني(رحمه الله) المطبوعة بطبعة مكتبة بصيرتي الملحقة بتعليقته على الرسائل ص 330 ـ 331.

(2) لم أجده في فحصي الناقص في مصباح الاُصول للسيّد سرور تقريراً لبحث السيّد الخوئي(رحمه الله)ولا في الدراسات للسيّد علي الشاهرودي.

224

العلم بالمنشأ، فإن قلنا بالأوّل كان حال هذا المبنى هو حال المبنى الثالث، فمن المعقول الشكّ في ذلك المنشأ كتعقّل شكّ العقل النظري في الاُمور الموضوعيّة، فإنّ ذلك المنشأ أمر واقعي موضوعي ثابت خارج نطاق العقل والإدراك، وإذا شكّ فيه فقد شكّ في الحكم الشرعي. وإن قلنا بالثاني لم يتصوّر الشكّ في غير حالة الوسوسة وما يلحق بها(1)، فإنّه: إمّا أن يعلم بكون الشيء واقعاً في موقعه أو في غير موقعه، أو لا يعلم به، وهذا العلم أمر وجداني يراجع فيه وجدانه، فإن كان موجوداً فقد ثبت الحسن والقبح حتماً، وإلاّ لم يكن هناك حسن وقبح حتماً.

الوجه الثاني: أنّه لا يتصوّر في أحكام العقل العملي وبالتالي في الأحكام الشرعيّة التابعة لها شكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة إلاّ مع فرض الجهل بحدود الموضوع، ومعه لا يحرز بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب، فإنّه لو علم الموضوع بحدوده وقيوده كأن علم مثلاً أنّ القبيح من الكذب هو الكذب المضرّ لا أعمّ ولا أخصّ من ذلك، فمن الواضح أنّه لا يعقل الشكّ في بقاء قبح كذب بنحو الشبهة الحكميّة، وإنّما يقع الشكّ في ذلك بنحو الشبهة الحكميّة من باب انتفاء قيد نحتمل دخله في الموضوع، فكيف نُجري الاستصحاب مع عدم إحراز وحدة الموضوع؟!

وهذا الإشكال قد يورد على الاستصحاب في مطلق الشبهات الحكميّة أعمّ من أن يكون دليل الحكم فيها حكم العقل العملي أو الدليل اللفظي؛ إذ لا يتصوّر الشكّ في أيّ حكم بنحو الشبهة الحكمية إلاّ مع عدم معرفة حدود موضوعه.

والذي يجاب به عادة عن هذا الاشكال الذي يورد على مطلق الشبهات الحكميّة أمران،فيجب أن يُلحظ المختار من الجوابين هناك ليُرى أنّه هل يجري في المقام أو لا؟ فإن جرى في المقام لم يتمّ هذا الوجه، وإلاّ تمّ هذا الوجه.

والتحقيق: أنّه إن اقتصر في باب مطلق الشبهات الحكميّة على الجواب الأوّل عن هذا الإشكال فبالإمكان أن يقال بعدم جريانه في المقام، فيتسجّل الإشكال هنا. وأمّا إن قلنا بصحّة الجواب الثاني كما هو المختار، فلا يبقى وجه للتفكيك بين الشبهات الحكميّة في الأحكام الثابتة بالدليل اللفظى وبينها في الأحكام الثابتة بواسطة العقل العملي. والوجهان مايلى:


(1) المقصود بذلك فرض دوران الأمر بين ثبوت منشأ الحسن في نطاق الإدراك بمقدار ضئيل جداً وعدمه بحيث يكون الفارق بين طرفي الدوران ضئيلاً إلى حدّ يقع الشكّ والتردّد فيه.

225

الأوّل: ان يُلتزم بأنّ القيد كما يمكن أن يرجع إلى المادة ويكون حيثيّة تقييديّة لمتعلّق الحكم ومعروضه كذلك يمكن أن يرجع إلى أصل الحكم، خلافاً لما في تقرير بحث الشيخ الأعظم(قدس سره)، فيكون عندئذ حيثيّةً تعليليّة لعروض الحكم على المادّة، فبناءً على هذا المبنى يقال: إنّ ما احتمل دخله إن كان يحتمل دخله في المادّة وفي معروض الحكم، تمّ فيه هذا الإشكال بغضّ النظر عن الجواب الثاني؛ إذ ما علم بوجوبه أو بحرمته مثلاً غير ما شكّ في وجوبه أو حرمته. وأمّا إن كان يحتمل دخله في الحكم ولا يحتمل دخله في معروض الحكم، فهنا يجري الاستصحاب عند فقد ذاك الشيء بلا إشكال؛ لأنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته هو نفس ما كان يعلم بوجوبه أو بحرمته.

وهذا الوجه جريانه في المقام وعدمه موقوف على أن نرى أنّه بناءً على تصوير رجوع القيد إلى الحكم ومفاد الهيئة في الأحكام الشرعية المستفاد بدليل لفظي هل يتصوّر ـ أيضاً ـ رجوعه إلى الحكم في أحكام العقل العملي أو لا؟ فإن تصوّرنا ذلك جرى هذا الجواب في المقام، وإن قلنا: إنّ القيد في أحكام العقل العملي دائماً يرجع إلى المادّة كما هو مختارنا في بحث الواجب المطلق والمشروط، والمفروض أنّ الحكم الشرعي يكون بملاك حكم العقل العملي، فدائماً يكون المشكوك غير المعلوم، ولا يجري الاستصحاب في المقام بغضّ النظر عن الوجه الثاني.

والثاني: أن يقال: إنّ نفس القيد الراجع إلى المادّة والذي يكون حيثيّة تقييديّة يكون في نظر العرف على قسمين: فتارة يراه العرف حيثيّة تقييديّة، فلا يجري الاستصحاب، واُخرى يراه حيثيّة تعليليّة فيجري الاستصحاب. وهذا الوجه صحيح بناءً على ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث إشتراط بقاء الموضوع ووحدته من أنّ العبرة في ذلك بالنظر العرفي، ويجري هذا الوجه في المقام.

فإن قلت: إنّ العبرة إنّما تكون بنظر العرف في فهم الدليل اللفظي، فإذا كان الحكم الشرعي ثابتاً بدليل لفظي كان العرف محكّماً في فهم موضوعه. وأمّا إذا كان ثابتاً بدليل العقل فلا معنىً لتحكيم العرف في فهم موضوعه.

قلت: لم يكن المقصود الرجوع إلى نظر العرف في فهم مفاد الدليل حتّى يتمّ هذا التفصيل، وإنّما كان المقصود الرجوع إلى نظرهم الذاتي بغضّ النظر عن تفسيرهم لظاهر دليل الحكم؛ وذلك لما سوف نحقّقه ـ إن شاء الله ـ في بحث اشتراط بقاء الموضوع ووحدته من أنّ العبرة في الاستصحاب بهذا النظر العرفي في تشخيص بقاء الموضوع، وهذا غير تحكيم نظر العرف

226

في تعيين موضوع دليل الحكم على ضوء ما يفهمه من ظاهر الدليل؛ ولذا قد يكون الدليل ظاهراً في التقييديّة لكن العرف يحكم بحسب نظره الذاتي لا بحسب استظهاره من الدليل بكون القيد حيثيّة تعليليّة؛ ولذا قرأنا في الكفاية أنّ العبرة في بقاء الموضوع ووحدته هل هي بالنظر العقلي أو بدليل الحكم أو بالنظر العرفي(1)؟ فجُعِل النظر العرفي في مقابل ظاهر دليل الحكم، والمدّعى هو أنّ العبرة بالنظر العرفي، وسوف يأتي إثبات ذلك في محله ـ إن شاء الله ـ.

الوجه الثالث: ما يختصّ ـ أيضاً ـ بالعقل العملي، وهو مبنيّ على مبنىً مشهور من أنّ الحسن بالذات والقبيح بالذات منحصر في العدل والظلم، وسائر الأشياء إنّما تتّصف بالحسن والقبح باعتبار انطباق عنوان العدل والظلم عليها، وعليه نقول: إنّه لا تتصوّر الشبهة الحكميّة في باب الحسن والقبح؛ إذ كلّ فعل من الأفعال لو عرفنا أنّه عدل أو ظلم لم نشكّ في كونه حسناً أو قبيحاً، وبالتالي لم نشكّ في حكمه الشرعي. نعم، يمكن تصوير الشبهة الموضوعيّة بأن يشكّ في عنوان العدل والظلم، وعندئذ لا يجري استصحاب الحكم:

أوّلاً: لحكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ إذ يستصحب بقاء الفعل على صفة العدل أو الظلم، فيجري عليه الحكم، إلاّ أنْ يفرض أنّ موضوع الحكم وما يكون حسناً أو قبيحاً إنّما هو ما علم بكونه عدلاً أو ظلماً؛ إذن فلا أثر للاستصحاب الموضوعي، ولكن عندئذ لا معنىً ـ أيضاً ـ للاستصحاب الحكمي للقطع بارتفاع الحكم.

وثانياً: للشكّ في بقاء الموضوع ويشترط في الاستصحاب القطع ببقائه، وعنوان العدل والظلم يكون ـ حتّى في نظر العرف ـ حيثيّة تقييديّة لا تعليليّة، فكتمان السرّ أو إفشاؤه إنّما يكون حسناً أو قبيحاً لا بما هو هو، بل بما هو عدل أو ظلم.

والجواب: ما نقّحناه في مبحث القطع من أنّ حسن العدل وقبح الظلم ليس هو الحكم المباشر للعقل العملي، وإنّما هو إشارة إلى أحكام العقل العملي الثابتة قبل هاتين القضيّتين، فإنّه لا معنىً لموضوع هاتين القضيّتين من العدل أو الظلم إلاّ إعطاء ذي الحقّ حقّه أو سلب الحقّ عمّن يستحقّه، فقد فرض مسبقاً في موضوع هاتين القضيّتين الحقوق التي هي أحكام للعقل العملي، إذن فحسن كتمان السرّ ونحوه، وقبح إفشائه ونحوه يكون ثابتاً لهذه العناوين التفصيليّة ابتداءً بحكم العقل العملي، لا بواسطة انطباق عنوان العدل والظلم عليها، وإنّما هما عنوانان منتزعان عنها في طول أحكام العقل العملي، وفي تلك الأحكام تتصوّر الشبهة الحكميّة.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 346 ـ 347 بحسب الطبعة التي تشتمل في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

227

 

 

 

التفصيل بين الشكّ في المقتضي والرافع:

 

وأمّا التفصيل الثالث، وهو التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع فقد ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن تبعه، وذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله): أنّ أوّل من تنبّه إلى ذلك المحقّق الخونساري(رحمه الله)(1)، ولعلّ مقصوده(قدس سره) هو أنّ أوّل من طبّق ذلك(2) على ما يستفاد من أخبار الاستصحاب هو المحقّق الخونساري، وإلاّ فأصل فكرة التفصيل موجودة قبله بقرون، وأذكر ـ إن لم تخنّي الذاكرة ـ أنّ المحقّق في المعارج ذكر في مقام الاستدلال على الاستصحاب ـ وهذا من طرائف ما قيل في الاستصحاب ـ: أنّ فرض عدم بقاء المستصحب: إمّا يكون من باب احتمال عدم المقتضي، وإمّا يكون من باب احتمال وجود المانع. أمّا الأوّل فالمفروض خلافه، وهو وجود المقتضي، فإنّنا نتكلّم في هذا الفرض. وأمّا احتمال وجود المانع فهو معارَض باحتمال عدمه. وهذا كما ترى مشتمل على أصل فكرة التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ولو بهذه الصياغة.

ثمّ إنّهم ذكروا تمهيداً مفصّلاً في المقام بصدد بيان معاني المقتضي والرافع، وتعيين ما هو المقصود هنا(3)، لكنّني لا أرى مزيد فائدة في بسط الكلام في ذلك بعد ما سوف يتبيّن لك ـ إن شاء الله ـ من أنّه لا أساس لهذا التفصيل، ويكفي لاتّخاذ فكرة إجماليّة عن هذا التفصيل تمهيداً للدخول في البحث عنه أن نقتصر على ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) في مقام بيان ضابط التفصيل، وهو أنّ الشيء إذا كان بحيث لو بقي هو وعمود الزمان لم ينتفِ، وإنّما ينتفي لحادث يحدث فيؤثر في انتفائه كان الشكّ في ذلك شكّاً في الرافع، ومثاله بقاء الشابّ إلى عدّة سنوات، فإنّه إنّما ينتفي لحادث خارجي من انهدام جدار عليه أو اصطدام بسيارة ونحو ذلك،


(1) راجع الرسائل: ص 336 ولكن الموجود في الرسائل في مكان آخر هو استظهار هذا القول من المحقّق في المعارج، راجع الرسائل: ص 328، وص 360 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) عبارة الرسائل صريحة في أنّ المحقّق الخونساري فتح باب النقاش في إطلاق دلالة الروايات.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 324 ـ 331 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات: ج 2، ص 353 ـ 357، ومصباح الاُصول: ج 3، ص 20 ـ 26.

228

ومثاله في الشرعيّات الطهارة والنجاسة التي لا ترتفع إلاّ بسبب خارجي، وإذا كان بحيث ينتفي بنفس حركة عمود الزمان كان الشكّ فيه شكاً في المقتضي، ومثاله بقاء الإنسان في أواخر عمره الطبيعي إلى عدّة سنوات فإنّه يكفي لفنائه نفس مرور الزمان عليه، ومثاله في الشرعيّات الخيار الذي يفوت بالتأخير بناءً على فوريّته.

هذا. ولعلّه يمكن تلخيص أهمّ الأدلّة على التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع في ثلاثة أدلّة رئيسة:

 

الدليل الأوّل:

أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب هو وحدة المتيّقن والمشكوك، والوحدة بالدقّة غير موجودة؛ لأنّ المتيقّن هو الحصّة الحدوثيّة والمشكوك هو الحصّة البقائيّة، إذن فلا بدّ من فرض عناية، وذلك: إمّا بأن يفرض بالعناية تيقّن المشكوك باعتبار اليقين ببقاء المقتضي، أي: بأن يعتبر اليقين بالمتقضي بالمسامحة يقيناً بالمقتضى، وإمّا بأن يفرض بالعناية نفس اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء باعتباره يقيناً بشيء فيه اقتضاء البقاء. وكلتا العنايتين ـ كما ترى ـ تستوجبان تخصيص الحكم بفرض إحراز المقتضي والشكّ في الرافع.

وأجاب عن ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ الظاهر عرفاً هو إعمال العناية بشكل آخر، وهو التجريد عن خصوصيّة الزمان، فيرى المشكوك عين المتيقّن(1).

ويحتمل في عبارته(قدس سره) ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بذلك هو ملاحظة الجامع بين الحصّة الحدوثيّة والحصّة البقائيّة، وهذا وإن كان من البعيد كونه مقصوداً له(قدس سره) إلاّ أنّه ينطبق على عبارته.

وهذا يرد عليه: أنّ الجامع بين الحدوث والبقاء الذي فرض تعلّق اليقين به لم يتعلّق الشكّ به أصلاً، بل هو مقطوع به حتّى عند الشكّ في البقاء، فلا معنىً للاستصحاب.

الاحتمال الثاني: وهو المظنون كونه مراده(قدس سره) هو أن يكون المقصود إلغاء خصوصيّة الزمان ولحاظ ذات الشيء، فكأنّ حدوثه عين بقائه، وكأنّ ذات الشيء كان متيّقناً ثمّ شكّ فيه. وهذا المعنى هو الذي تناسبه عبارة تلميذه المحقّق العراقي(رحمه الله) حيث عبّر في مقام بيان كلام


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 286 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

229

اُستاذه بالتغافل عن الزمان(1).

ويرد عليه: أنّ هذا معناه إرجاع مفاد الحديث إلى قاعدة اليقين لا إلى الاستصحاب؛ فإنّه إذا فرض أنّ الحديث لا يلتفت إلى خصوصيّة الزمان وكون اليقين بالحصّة الحدوثيّة والشكّ في الحصّة البقائيّة، وإنّما يفرض شيئاً واحداً حصل العلم به ثمّ حصل الشكّ فيه من دون تعدّد بين المتيقّن والمشكوك حتّى بلحاظ الزمان، إذن فهذا مصداقه الذي يكون مصداقاً له حقيقة وعرفاً هو مورد قاعدة اليقين، غاية الأمر أن يفرض الاستصحاب ـ أيضاً ـ فرداً مسامحيّاً عرفيّاً لتلك القاعدة باعتبار المسامحة بلحاظ الزمان، وفرض المشكوك عين المتيقن حتّى من هذه الناحية.

وأمّا الاحتمال الثالث فلا نذكره الآن، ولا ينطبق على عبارته(قدس سره)، وهو في الحقيقة نفس مختارنا في مقام إبطال هذا الدليل الأوّل على عدم حجيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي، فنؤجّله إلى ذكر المختار.

والتحقيق في المقام: أنّ هذا الدليل الأوّل يرجع بروحه إلى إرجاع مفاد حديث الاستصحاب ـ أيضاً ـ إلى قاعدة اليقين؛ لأنّه قد فرض أنّ الحديث يفترض وحدة المتيقّن والمشكوك، إلاّ أنّه فرض وجود المقتضي وحدة عنائيّة، إذن فالحديث يدلّ على قاعدة اليقين، وجعل قاعدة المقتضي والمانع، فرداً عنائياً لها، وبكلمة اُخرى: إنّنا لو قلنا بأنّ وحدة المتيقّن والمشكوك تكون بلحاظ اليقين بالمقتضي الذي هو بالمسامحة يقين بالمقتضى، إذن فهذه العناية بعينها موجودة في موارد العلم بالمقتضي والشكّ في المقتضى ابتداءً وبغض النظر عن العلم بالحدوث، وفي الحقيقة قد أصبح رُكنا الاستصحاب عبارة عن الشكّ في الشيء واليقين بمقتضيه، وهذه هي قاعدة المقتضي والمانع.

وقد ظهر: أنّ مقتضى هذا الدليل ليس هو حجّيّة الاستصحاب ولو من باب فرضه فرداً عنائياً ومسامحياً لقاعدة اليقين مثلاً، وإنّما مقتضاه حجّيّة قاعدة اليقين، وجعل قاعدة المقتضي والمانع فرداً عنائياً لها مع بيان: أنّ قاعدة المقتضي تنطبق على بعض موارد الاستصحاب.

وحلّ المطلب هو أنّ هذا الدليل الأوّل موقوف على تسليم أصل ظهور دليل


(1) قد ورد في نهاية الأفكار، القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 84 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، التعبير بالتغافل عن التقطيع الزمني.

230

الاستصحاب في الوحدة المطلقة بين المتيقن والمشكوك، فيتصدّى صاحب هذا الدليل لإثبات الوحدة المطلقة مسامحة بعناية لحاظ العلم بمقتضي الشيء علماً بالشيء، ويتصدّى المحقّق الخراساني(رحمه الله) لإثبات الوحدة المطلقة مسامحة بالتغافل عن الزمان، بينما نحن لا نسلّم أصل ظهور دليل الاستصحاب في الوحدة المطلقة بين المتيقّن والمشكوك؛ لأنّ منشأ هذا الظهور: إمّا هو حذف المتعلّق، ويرد عليه: أنّه إن سلّمت دلالة حذف المتعلّق على الوحدة المطلقة فإنّما هي فيما لم يرد في الكلام القرينة على خلافها، وقد ورد في الكلام القرينة على ذلك، وهو تطبيقه(عليه السلام) على اليقين بحدوث الطهارة والشكّ في بقائها. وإمّا هو كلمة(النقض) من باب أنّ الشكّ في الشيء لا معنى لأن يقال: إنّه نقض أو ليس نقضاً لليقين بشيء آخر. ويرد عليه: أنّ ما تقتضيه كلمة(النقض) إنّما هي عدّ الشكّ ارتفاعاً لليقين، وما يقابله من العلم بقاءً لليقين، وهذا ثابت عند الوحدة من كلّ الجهات سوى الزمان؛ وذلك لما عرفت سابقاً في التنبيه الثاني من تنبيهات التفصيل الأوّل من أنّ العرض يكسب في نظر العرف حدوثاً وبقاءً من حدوث معروضه وبقائه، فإن لم يسلّم بهذا بطل استصحاب الحكم في كثير من فروض الشكّ في الحكم، وهي الفروض التي يكون فيها الحكم بجميع أجزائه ثابتاً من أوّل الأمر، فقد مضى أنّ وجوب الجلوس في ساعتين مثلاً إذا كانت الساعتان تحديداً لمقدار الجلوس لا ظرفاً للوجوب، وكان وجوب تمام أجزاء الجلوس ثابتاً من أوّل الأمر فإنّما يمكن استصحاب بقاء وجوب الجلوس باعتبار أنّ الوجوب يكسب حدوثاً وبقاءً من معروضه، وهو الجلوس، فلو اُنكر هذا لزم إنكار الاستصحاب في مثل هذه الموارد، وهذا ما لا يلتزم به القائل بعدم حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي. ولو سلّم بما قلناه جرى مثل هذا في المقام، فنقول: إنّ اليقين يكتسب حدوثاً وبقاءً من متعلّقه وهو المتيقن.

 

الدليل الثاني:

وهو دعوى أنّ الارتكاز العقلائي في باب الاستصحاب يختصّ بموارد إحراز المقتضي، وذلك يوجب بأحد تقريبين تخصيص الحجّيّة الشرعية بموارد إحراز المقتضي.

التقريب الأوّل: دعوى أنّ دليل الاستصحاب وهو قوله: «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» لولا الارتكاز لما كان له إطلاق لغير مورده؛ لاحتمال كون اللام للعهد، وكونه إشارة إلى اليقين بالوضوء، فنحن إنّما نتعدّى من مورده إلى سائر الموارد بارتكاز عدم الفرق، وهذا التعدّي مختصّ بالموارد المشابهة لمورد الحديث، وهي موارد إحراز المقتضي، فإنّ مورد

231

الحديث هو مورد قد أُحرز المقتضي فيه، واحتمال الفرق بين موارد إحراز المقتضي وغيرها وارد، والارتكاز العقلائي الموجب للتعدّي عن المورد كان مخصوصاً بالأوّل.

والجواب بعد فرض تسليم عدم تماميّة الإطلاق اللفظي في الحديث في نفسه لاحتمال العهد في اللام: أنّ التعدّي إلى غير المورد لم يكن بملاك مجرّد القطع بعدم الفرق من قبيل القياس المقطوع العلّة، بل كان بملاك أنّ الارتكاز العرفي أسقط قيد المورد وهو الوضوء، فكأنّه غير مذكور، فتكوّن الإطلاق اللفظي من قبيل ما لو حكم الشارع بانفعال الماء القليل الموضوع أمام باب المسجد الفلاني، فالعرف هنا يُلغي قيد وضعه على باب المسجد، ويحمله على المثالية في حين أنّه لا يُلغي قيد القلّةِ مثلاً، فيتم الإطلاق اللفظي في الكلام من ناحية القيد الملغى. نعم، بعد أن اُلغي في ما نحن فيه قيد الوضوء يبقى احتمال دخل جزء تحليلي من ذلك القيد وهو إحراز المقتضي، لكن ذاك القيد بعد إلغائه بحسب الارتكاز ليس جزؤه التحليلي صالحاً للبيانية والتقييد، وإذا انعقد الإطلاق اللفظي فقد ثبتت حجّيّة الاستصحاب حتّى في موارد الشكّ في المقتضي.

التقريب الثاني: دعوى أنّه حتّى لو سلّمنا الإطلاق اللفظي بفرض اللام للجنس مثلاً يكون الارتكاز صارفاً للكلام إلى خصوص موارد إحراز المقتضي؛ وذلك لأنّه إذا كان في مورد الكلام الصادر عن الشارع ارتكاز عقلائي كان ذلك سبباً في انصراف ذاك الكلام إلى حدود ذلك الارتكاز. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الاستصحاب ارتكازيّ، والارتكاز مختصّ بفرض إحراز المقتضي.

والجواب: منع الصغرى، بمعنى: أنّ ارتكازيّة الاستصحاب وان صحّت ببعض المعاني لكنّها ليست ارتكازاً مركّزاً وواضحاً بحيث يصبح كالعهد، ويجلب النظر، ويصرف الكلام إليه، ولا هو محدّد بشكل واضح، وإنّما هو ارتكاز ذو مراتب باختلاف الموارد من ناحية الشكّ في المقتضي أو إحرازه أو غير ذلك، وليس هنا تفاوت كبير دفعي بين بعض مراتبه دون بعض، فبما أنّ هذا الارتكاز ضعيف وتحديده ـ أيضاً ـ ضعيف فهو غير قادر على صرف الكلام إلى مقدار مرتكز محدّد.

 

الدليل الثالث:

وهو عمدة الأدلّة تاريخياً، فإنّه الذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) ناسباً له إلى المحقّق

232

آقا حسين الخوانساري(رحمه الله)(1)، ويمكن تحليله الى مقدمتين:

المقدمة الاُولى: أنّ النقض وإن أضيف في الحديث إلى اليقين لكنّه بحسب الواقع مضاف الى المتيقّن.

المقدمة الثانية: أنّه لا يصحّ إسناد النقض إلى المتيقّن إلاّ مع فرض إحراز المقتضي.

ونحن نؤجّل الاستدلال على المقدّمة الاُولى مع مناقشتها ونبدأ ببسط الكلام في المقدمة الثانية، فنقول: إنّ الذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) في إثبات المقدّمة الثانية هو أنّ النقض يكون في مقابل الإبرام، ولا يصدق بحسب ما له من المعنى الحقيقي إلاّ إذا فرض وجود هيئة اتّصالية تقطع، فيقال مثلاً:(نقضت الحبل) أي: قطّعته، وبما أنّه ليس المفروض في المقام هيئة اتّصالية بين المتيقّن والمشكوك فلا يصدق النقض حقيقة، وإنّما يجب أن يكون استعماله مجازاً، والاستعمال المجازي يحتاج إلى علاقة، وعلاقته في المقام هي وجود المقتضي واستمراره الذي يعدّ بالمسامحة وجوداً للمقتضى او استمراراً له، فيصحّ إسناد النقض بمناسبة هذا الاستمرار، إذن فلا تثبت حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي.

ويرد عليه: أنّ النقض ـ كما ذكر ـ يكون في مقابل الإبرام، والإبرام مصدر ثان للبرم بمعنى الفتل، والإبرام هو إجادة البرم وإحكامه، والنقض يعني حلّ البرم، فقد يسند إلى الهيئة البرميّة فيقال مثلاً: نقضتُ البرم الموجود في الحبل، وقد يسند إلى ما يدلّ على ذات الشيء بما هو متّصف بالهيئة البرميّة ككلمة(الحبل) فإنّها تدلّ على الخيوط المفتولة بما هي مفتولة، فيقال: نقضت الحبل، وعلى كلّ حال فالمصحّح لإسناد النقض هو الهيئة البرميّة لا الهيئة الاتّصالية، وغاية ما نصنعه عند فرض استمرار المقتضي استمراراً بالمسامحة للمقتضى هي تصحيح الهيئة الاتّصالية بالمسامحة، وليس المصحّح لاستعمال كلمة(النقض) الهيئة الاتّصالية.

والظاهر: أنّ النقض ليس مطلق حلّ الفتل، وإنّما معناه: حلّه بشدّة، فنقض الحبل يعطي بحسب معناه الحقيقي الحلّ الشديد للحبل، ويستعمل مجازاً في مطلق الرفع، أي: سواء كان رفعاً للهيئة البرميّة او الاتّصالية أو أيّ شيء آخر إذا اُريد تطعيم الرفع بالشدّة والقوّة، ويكون فرض الشدّة هو العلاقة بين المعنى الحقيقي للنقض والمعنى المجازي له، ويكون تطعيم


(1) لم أرَ في الرسائل نسبة هذا الدليل إلى المحقّق الخوانساري، راجع الرسائل: ص 336، 360 ـ 361 و363 ـ 366 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

233

الرفع بالشدّة والقوة حتّى يعبّر عنه بالنقض بمناسبات شتّى من قبيل قوّة المرفوع، فيقال مثلاً:(نقضت الحبل من مكانه) إذا كان ملصقاً بالمكان، ولا يقال:(نقضت الحجر من مكانه) إذا كان موضوعاً في مكان فيرفع، أو إرادة تفهيم أنّ الرفع كان رفعاً كاملاً للشيء وإلى أقصى حدّ مثلاً كما يقال: نقضت الشبهة، فإنّ الشبهة وهي المرفوع ليس فيها قوّة واستحكام، بل فيها مفهوم الضعف، ولكن مع ذلك يقال نقضت الشبهة لقصد تفهيم دحضها ورفعها تماماً.

ولعل مناسبة التطعيم بالقوّة والشدّة في المقام والتعبير بالنقض والنكتة البلاغية في ذلك هى: أنّه اُريد إبراز فظاعة رفع اليد عن اليقين بالشكّ أو المتيقّن بالمشكوك، فعبّر بالنقض الذي يفيد معنى الشدّة في الرفع؛ لكونه أبلغ في إبراز فظاعة هذا الرفع.

هذا. ويمكن في المقام أن يوجّه كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) بإدخال تأويل فيه، وذلك بأن يقال: إنّه(رحمه الله) لم يفرض النقض رفعاً للهيئة الاتّصالية، بل يسلّم أنّه رفع للهيئة البرميّة لا الاتّصالية، لكنّه يقول: إنّ الهيئة البرمية يمكن فرضها بالمسامحة بين المتيقّن والمشكوك إذا فرضت الملازمة بينهما، فهذه الملازمة بينهما كأنّها فتل لأحدهما بالآخر، والملازمة الحقيقية غير موجودة، ولكن إذا كان المتيقّن فيه اقتضاء البقاء فكأنّ الملازمة موجودة، ويكتفى بالملازمة الاقتضائية. وأمّا مع الشكّ في المقتضي فالملازمة الاقتضائية ـ أيضاً ـ غير محرزة، فلا توجد هيئة برميّة ولو بالمسامحة، وبهذا يصبح الدليل مختصّاً بصورة الشكّ في الرافع.

والجواب: أنّ هذا إنّما يتمّ لو اُضيف النقض في العبارة إلى تلك الملازمة أو إلى ما يدلّ على ذات المتلازمين بما هما متلازمان، فإنّ النقض بمعنى حلّ الفتل يضاف إلى ما اُخذ فيه معنى البرم والملازمة، كما في(نقضتُ البرهان) حيث اُخذ في مفهوم كلمة(البرهان) الملازمة بين المقدمات والنتيجة. وأمّا إذا اضيف النقض إلى ما ليس فيه معنى الملازمة أو الفتل كما اُضيف إلى المتيقن في المقام حسب الفرض، فهنا لا معنىً لأن نأوّل الكلام بالحمل على نقض البرم باعتبار فرض الملازمة التي لم يشر إليها في الكلام أصلاً، وإنّما يفرض افتراضاً وجود تصوّرها في ذهن المتكلم.

والخلاصة: أنّ إسناد النقض إلى شيء لا يكفي فيه مجرّد تصوير هيئة برميّة بالمسامحة، بل لا بدّ من كون معنى البرميّة ماخوذاً في مصبّ النقض بحسب عالم اللفظ والاستعمال، نظير أنّ نسبة الجريان مثلاً إلى الميزاب بفرض ميزابيّة الميزاب منزّلةً منزلة الماء بعلاقة الظرف والمظروف إنّما تصحّ إذا اُخذت الميزابيّة في الكلام، وقيل:(جرى الميزاب)، ولا يصح أن يقال:(جرى الحديد) لمجرد الاطّلاع على أنّ ذلك الحديد ميزابٌ.

234

والمتحصّل من كلّ ما مضى: أنّ نظر الشيخ الأعظم(قدس سره) إن كان إلى فرض الهيئة الاتّصالية فتلك الهيئة وإن كان يمكن دعوى أخذها في اللفظ، بدعوى: أنّ اليقين بمعنى المتيقّن استعمل في الفرد الطويل الأمد، فيتضمّن الاتّصال، لكن الهيئة الاتّصالية لا تفيد في المقام؛ لأنّ النقض يكون في مقابل الإبرام، ويحتاج إلى الهيئة الفتليّة التي هي عبارة عن التفاف شيء بشيء لا عن الاتّصال بمعنى الامتداد. وإذا كان نظره إلى الهيئة البرميّة المفروضة مسامحة بمناسبة التلازم الاقتضائي فتلك الهيئة غير ماخوذة في الكلام.

والصحيح: ما أشرنا إليه من أنّ النقض قد اُخذ في مفهومه أمران:

أحدهما: الحلّ، فهو ليس قطعاً للاتّصال والامتداد، وإنّما هو حلّ للفتل.

وثانيهما: الشدّة والقوّة، وبهذا يفترق عن كلمة(الحلّ). وأظنّ أنّه لأجل ذلك ذكروا في اللغة: أنّ النقض خلاف الإبرام، ولم يذكروا: أنّه خلاف البرم؛ وذلك لأنّ الإبرام عبارة عن جودة البرم وإحكامه، وعندئذ يمكن استعمال كلمة(النقض) مجازاً بأحد وجهين:

الأوّل: أن يسلخ عنه العنصر الأوّل من مفهومه رأساً، ويستعمل بلحاظ العنصر الثاني فقط، واعتبارِ الشدّة والقوّة بنكتة من النكات.

والثاني: أن يلحظ كلا عنصريه، ويتحفّظ على كليهما باعتبار من الاعتبارات.

وفي تطبيق ذلك على المقام نقول: إمّا أن نبني على ما بنى عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ المقصود من اليقين هو المتيقّن، وإمّا أن لا نبني عليه، بل نقول: إنّ المقصود به هو اليقين وهو الحق على ما سوف ياتي إن شاء الله.

فان بنينا على الأوّل، أي: أنّ المقصود باليقين هو المتيقن قلنا: إنّ كلمة(النقض) قد سلخت في المقام عن مفهوم الحلّ رأساً، واُريد بها مطلق الرفع، وإنّما استعملت كلمة(النقض) بمناسبة العنصر الثاني وهي الشدّة والقوّة. والنكتة البلاغية في تطعيم الرفع هنا بالشدّة والقوّة واضحة، وهي: أنّ المتكلم حينما يردع عن شيء مّا يناسب أن يُبرِز المردوع عنه بأفظع صورة ممكنة، فقد عبّر عن رفع اليد عن اليقين بالنقض إبرازاً لفظاعة رفع اليد عن اليقين.

وإن بنينا على الثاني ـ أي: إنّ المقصود باليقين هو اليقين لا المتيقّن ـ فالعنصر الأوّل من مفهوم النقض ـ أيضاً ـ محفوظ في المقام؛ وذلك باعتبار ما يُرى في مفهوم اليقين من التفاف حول المتيقّن، وانفتال معه، كما هو الحال في سائر الصفات الحقيقية ذات الإضافة، وبهذه المناسبة ينسب النقض إلى العهد وإلى البيعة، فكأنّه يقول: لا تنقض اليقين ولا تفصله عن المتيقّن.