614

إلاّ أنّ بالإمكان استيناف البحث في المقام وإعادة النظر في أنّه هل حقّاً بطل الجمع بينهما في الحجّيّة والتخيير والترجيح، فوصلت النوبة الى التساقط، أو لا؟

فنقول: إنّ التعارض على قسمين: تعارض ذاتي، وتعارض عرضي، ونقصد بالأوّل ما إذا وجد تناف داخلي بين المدلولين، وبالثاني ما إذا كان التعارض بينهما بسبب علم إجمالي خارجي كما في دليل وجوب صلاة الجمعة ودليل وجوب صلاة الظهر.

والتعارض الذاتي تارةً يكون على أساس التناقض من قبيل (يجب) و(لايجب)، واُخرى على أساس التضاد من قبيل (يجب) و(يحرم)، فالمجموع ثلاثة أقسام، نتكلّم في كلّ واحد منها على حدة فنقول:

القسم الأوّل: أن يكون التعارض عرضيّاً كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِّ صلاة الظهر). وهنا يمكن دعوى حجّيّة كليهما ووجوب الجمع بين الصلاتين، وذلك بعدّة محاولات.

المحاولة الاُولى: وهي محاولة بدائية، أن يقال: إنّنا نأخذ بكلتا الروايتين بالرغم من العلم الاجمالي بكذب إحداهما؛ وذلك لأنّه لا يلزم من العمل بهما اجتماع تنجيز وتعذير على أمر واحد، فإنّهما منجّزان لأمرين، ولا مخالفة قطعيّة لعلم إجمالي منجّز، فهذا من قبيل العمل باستصحابي النجاسة في إنائين علمنا إجمالا بطهارة أحدهما.

وطبعاً نقول هذا في الخبر الإلزاميين عند العلم الاجمالي بالترخيص، كما في (صلِّ صلاة الجمعة) و(صلِ صلاة الظهر) لا في خبرين ترخيصيّين مع العلم الإجمالي بالإلزام.

وهذا جوابه واضح، وهو أنّ المعارضة وعدم إمكان العمل بكليهما يكون له كما أشرنا في أصل المحاولة أحد ملاكين: (الأوّل) لزوم المخالفة القطعية للتكليف الالزامي المعلوم،


قبال الخبر الآخر فقد كاشفيّته، والخبر الآخر لم يفقد كاشفيته، فهذا قد يعني أنّ العرف يحصل له علمٌ يُعتبر ارتكازيّاً كالمتّصل بسقوط الأضعف بضعفه، أي: بنكتة تخصّه، فيبقى الآخر بمنجىً عن المعارضة.

وهذا الفرض ينبغي أن يفترض خارجاً عن مورد البحث.

إن قلت: مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كلّ واحد من الخبرين حجّيّته على تقدير عدم حجّيّة الآخر تعييناً، فإذا قطعنا بعدم حجّيّة الآخر تعييناً ثبتت حجّيّة الأول.

قلت: ليس مقتضى إطلاق دليل الحجّيّة في كل واحد منهما حجيّته على مطلق تقديرات عدم حجّيّة الآخر بما فيها تقدير عدم حجّيّته بسبب التمانع بين الحجّيّتين، وإنّما مقتضى إطلاق حجّيّة كلّ واحد من الفردين على تقدير سقوط الآخر بملاك يخصّه كفقدانه لملاك الحجّيّة أو أضعفية الملاك فيه من الأوّل، وهذا التقدير ليس محرزاً.

615

(والثاني) كون إحدى الحجّيّتين تنجّز والاُخرى تعذّر عن نفس ما تنجّزه الاُولى. وطبعاً لا يمكن الجمع بين التنجير والتعذير، وفي مثال الاستصحابين شيء من الملاكين غير موجود، لكن في مثال الأمارتين يكون الملاك الثاني موجوداً، والفرق هو أنّ مثبتات الاُصول غير حجّة، ومثبتات الأمارات حجّة، فكلّ واحدة من الروايتين الدالة على وجوب إحدى الصلاتين تدلّ بالملازمة على عدم وجوب الصلاة الاُخرى، فتعذّر عن الصلاة الاُخرى في حين أنّ الرواية الاُخرى تنجّزها، فيلزم الجمع بين التنجيز والتعذير، وهذا غير ممكن.

المحاولة الثانية: أنّ المشكلة ـ حسب ما عرفنا في إبطال المحاولة الاُولى ـ جاءت من قبل الدلالة الالتزامية لكلّ من الروايتين، ونحن نسقط الدلالتين الالتزامية عن الحجّيّة ونأخذ بالدلالتين المطابقيّتين، ولا بأس بحجّيّتهما معاً كما هو الحال في استصحابي النجاسة، وذلك بتقريب أنّ الدلالتين الالتزاميتين يتعيّن سقوطهما والأخذ بالدلالتين المطابقيتين؛ وذلك لعدم معقوليّة العكس بأن نرفع اليد عن الدلالتين المطابقيتين ونأخذ بالدلالتين الالتزاميتين، وذلك بناءً على ما هو الصحيح من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقية في الحجّيّة، وسقوط حجّيّتها بسقوط حجّيّة الدلالة المطابقية، إذن فلو سقطت الدلالتان المطابقيّتان عن الحجّيّة سقطت الالتزاميتان أيضاً عن الحجية، فالالتزاميّتان ساقطتان على كلّ حال: إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً، وتبقى المطابقيّتان بلا معارض.

والجواب: أنّ هنا ـ في الحقيقة ـ تعارضين: تعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الظهر والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الجمعة، وتعارض بين الدلالة الالتزامية للخبر الآمر بصلاة الجمعة والدلالة المطابقيّة للخبر الآمر بصلاة الظهر، وكلّ من الدلالتين الالتزاميتين ليست في الحجّيّة في طول ما تعارضها من الدلالة المطابقية حتّى تكون متيقّنة السقوط في مقابلها، وإنّما هي في طول الدلالة المطابقية لنفس الخبر، ومعارضة للدلالة المطابقية للخبر الآخر، فلا وجه لتعيّن سقوطها في مقابل ما تعارضها من الدلالة المطابقية، بل يمكن افتراض سقوط إحدى الدلالتين المطابقيتين مع دلالتها الالتزامية وبقاء الدلالة الالتزامية مع المطابقية في الطرف الآخر(1).

المحاولة الثالثة: إبراز تعارض ثالث في المقام، بأن يقال: إنّ هناك ـ في الحقيقة ـ


(1) يوجد في كتاب السيد الهاشمي (حفظه الله) نقلا عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)جواب آخر على هذا المحاولة الثانية، وهو أنّها موقوفة على الإيمان بالطولية في الحجّيّة بين الدلالة المطابقية والالتزامية، ولكنّنا نؤمن بالملازمة بينهما في الحجّيّة لا بالطولية.

616

ثلاثة تعارضات:

1 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الظهر والمطابقية للخبر الآخر، وهو تعارض بملاك أنّ حجّيّة إحداهما تقتضي التنجيز والاُخرى تقتضي التعذير.

2 ـ التعارض بين الدلالة الالتزامية لخبر وجوب صلاة الجمعة والمطابقية للآخر، وهو ـ أيضاً ـ تعارض بنفس ذلك الملاك.

3 ـ التعارض بين نفس الدلالتين الالتزاميتين وعدم إمكان الجمع بينهما في الحجّيّة: إمّا للعلم الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين، فيلزم من الجمع بينهما المخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف المعلوم بالاجمال، أو لأنّ الجمع بينهما في الحجّيّة يستلزم سقوط المطابقيّتين عن الحجّيّة؛ لاستحالة الجمع بينها، وبسقوطهما تسقط الالتزاميتان على ما هو الصحيح من التبعية(1). إذن فلا يمكن الجمع بين الالتزاميتين في الحجّيّة.

وهذا الوجه يتمّ حتّى في مورد يفترض عدم العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي بخلاف الوجه الأوّل أعني لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة، وإذا كان بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض فقد سقطتا وبقيت المطابقيتان بلا معارض.

ولكن هذا البيان بهذا المقدار يقال في مقابله: إن كلاًّ من الدلالتين الالتزاميتين لها معارضان في وقت واحد وهما: الدلالة الالتزاميّة مع الدلالة المطابقيّة للرواية الاُخرى، فتتساقط الكلّ في وقت واحد.

المحاولة الرابعة: وهي المحاولة الصحيحة: أنّه متى ما كانت عندنا طائفتان من الأدلّة، وكان كلّ دليل من إحدى الطائفتين معارضاً بدليل من الطائفة الاُخرى، وإحدى الطائفتين في ما بينها مبتلاة بتعارض داخلي، سقطت تلك الطائفة، وبقيت الطائفة الاُخرى بلا معارض. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ الدلالتين الالتزاميتين طائفة، والمطابقيتين طائفة اُخرى وما بينهما تعارض، وما بين نفس الدلالتين الالتزاميتين تعارض على ما عرفت من الوجهين في المحاولة الثالثة، فتتساقطان، وتبقى المطابقيتان بلا معارض.

والبرهان على هذه القاعدة نبيّنه من خلال تطبيقه على نفس هذا المثال، فنقول: إنّ الدليلين المتعارضين إنّما يكون تقديم أحدهما على الآخر ترجيحاً بلا مرجح لو لم يكن في هذا التقديم عيب إلاّ محذور هذا الترجيح بلا مرجّح، وذلك بأن كان كلّ من الخبرين تامّاً


(1) يرد هنا ـ أيضاً ـ إشكال إنكار الطولية بين المطابقية والالتزامية في الحجّيّة.

617

من باقي الجهات. وأمّا إذا كان تقديم أحدهما على الآخر لا يمكن لجهة اُخرى بخلاف العكس، فتقديم الآخر عليه ليس ترجيحاً بلا مرجّح وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ تقديم الدلالة المطابقية لأحد الخبرين على الدلالة الالتزامية للآخر في نفسه ليس فيه محذور، ولكنّ تقديم الدلالة الالتزامية لأحد الخبرين على المطابقيّة للاخر فيه محذور في نفسه، أي: حتّى لو جاز لنا تقديم الدلالة الالتزاميّة على المطابقية من دون ترجيح يبقى في نفس هذا التقديم إشكال، وهو أنّه لماذا نقدّم الدلالة الالتزامية لهذا الخبر على المطابقية لذاك الخبر ولا نقدّم عدلها وهي الالتزاميّة لذاك على المطابقيّة لهذا، فإنّ اختيار هذا التقديم دون ذاك التقديم ترجيح بلا مرجح، وتقديم كليهما غير ممكن؛ لما عرفت من أنّه لا يمكن الجمع بين الدلالتين الالتزاميتين في الحجّيّة: إمّا لاستلزام مخالفته التكليف القطعي، أو لتبعيّة الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية، فإذا عرفنا أنّ تقديم الدلالة الالتزامية على المطابقية في نفسه فيه محذور بغضّ النظر عن أنّه ترجيح لها على المطابقية بلا مرجح، وتقديم المطابقية على الالتزامية ليس فيه محذور، تعيّن تقديم المطابقية، وخرج عن كونه ترجيحاً بلا مرجح(1).

 


(1) اعتُرض على اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّه بناءً على هذا البيان لو تعارض خبر واحد مع خبرين لزم تقديم الخبرين عليه؛ لأنّ كلّ واحد من الخبرين حينما نحسب حسابه مع ذاك الخبر الوحيد نرى أنّ الخبر الوحيد بغضّ النظر عن كون تقديمه على هذا الخبر ترجيحاً بلا مرجّح فيه نقص مستقلّ، وهو ابتلاؤه بالمعارضة للخبر الآخر. إذن فتقديم هذا الخبر على الخبر الوحيد يخرج عن كونه ترجيحاً بلا مرجّح.

فأجاب (رحمه الله) عن ذلك بأنّنا نحسب حساب الخبر الوحيد الذي هو حجّة لو خلّي ونفسه مع الجامع بين الحجّتين المتعارضتين معه، ونقول: إنّ تقديمه على الجامع بين الحجّتين ترجيح بلا مرجّح، فإنّه كما يمكنك ترجيح الجامع بين الحجّتين عليه كذلك يمكنك تقديمه على الجامع بينهما، وبالتالي تقديمه عليهما معاً، ولا أرجحّيّة لإحدى العمليتين على الاُخرى.

واُورد عليه (رحمه الله) بأنّ نفس البيان يأتي في طائفتين متعارضتين مع ابتلاء إحدى الطائفتين بالتعارض الداخلي، فيقال: إنّ أحد الشقيقين في داخل الطائفة المتعارضة يمكن تقديمه على شقيقه وعمّه، كما يمكن العكس.

فأجاب: بأنّ نفس هذا البيان يأتي في الشقيق الآخر، فإِعماله في أحدهما ترجيح بلا مرجّح، وفيهما معاً غير ممكن.

هذا، وقد ورد في كتاب السيد الهاشمي ـ حفظ الله ـ عن اُستاذنا الشهيد إبطال أصل هذا الوجه، بأنّ كلّ فرد من الطائفة المتعارضة له معارضان: أحدهما من نفس طائفتها، والآخر من الطائفة الثانية. وإطلاق دليل الحجّيّة لا يمكن أن يشمل الكلّ، وشموله لبعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح في عرض واحد، فتطبيق مشكلة الترجيح بلا مرجّح أوّلا على الطائفة المتعارضة ثمّ القول بأنّ الفرد المتعارض من الطائفة الثانية قد تخلّص من التعارض

618

وبكلمة اُخرى نقول(1) بالنظر إلى تبعيّة الدلالة الالتزامية للمطابقية: إنّ اقتضاء الحجّيّة للدلالة الالتزامية لخبر وجوب الجمعة مثلا لو كان مانعاً عن فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر، لزم كون عدم فعليّة الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر موقوفاً على اقتضاء الحجّيّة للدلالة الالتزامية لخبر وجوب الجمعة، واقتضاء الحجّيّة لها موقوف على فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الجمعة؛ إذ لو لم تكن الدلالة المطابقية حجّة لم يكن بالإمكان حجّيّة الدلالة الالتزامية؛ لما عرفت من التبعيّة. وهذا معناه أنّ عدم فعليّة الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الظهر موقوف بالواسطة على فعلية الحجّيّة للدلالة المطابقية لخبر وجوب الجمعة، ونفس البيان يأتي في الطرف الآخر. وهذا معناه مانعيّة كلّ من الفعليتين لحجّيّة الدلالة المطابقية عن الاُخرى. وهذا يستبطن الدور المحال. إذن فلا يمكن مانعية كلّ من اقتضائي الحجّيّة للدلالتين الالتزاميتين عن حجّيّة الدلالة المطابقية في الخبر الآخر، ومانعية أحد الاقتضائين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح. إذن فشيء من الاقتضائين لا يصلح للمانعية. وهذا معناه حجّيّة الدلالتين المطابقيتين بلا أيّ مزاحم.

فتحصل من كلّ ذلك أنّنا لو لاحظنا دليلا لفظياً للحجّيّة، وغضضنا النظر عن تحكيم الارتكازات العقلائية ـ كما هو موضوع بحث الأصحاب ـ فما اختاروه من أنّ الأصل هو التساقط غير صحيح، بل الأصل في هذا القسم وهو ما لو كان التعارض فيه عرضياً وكنا نحتمل الترجيح في كلّ واحد منهما هو حجّيّة الدلالة المطابقية لكلا الخبرين، وعدم حجّيّة


بسقوط معارضه في نفسه ممّا لا وجه له.

ومن هنا انتقل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب هذا الكتاب من هذا الوجه إلى وجه آخر، وهو: أنّ العلم الإجمالي بسقوط إحدى الدلالتين من مجموع الدلالات الأربع منحلّ بالعلم الإجمالي بكذب إحدى الدلالتين الالتزاميتين الترخيصيتين المولّد للعلم التفصيلي بسقوطهما؛ لأنّ حجّيّة إحدى الالتزاميتين بعينها ساقطة بمنجّزيّة العلم الإجمالي، وحجّيّة إحداهما لا بعينه لا أثر له؛ إذ لا يثبت بها إلاّ نفي أحد الوجوبين لا بعينه، وهو ثابت وجداناً بحسب الفرض للعلم بعدم ثبوت وجوبين، ولولاه لما كان تعارض بين الدليلين.

أقول: إنّ هذا الوجه إنّما يتمّ لو قلنا بعلّيّة العلم الإجمالي بوجوب الموافقة القطعية، وإلاّ فسقوط حجّيّة كلّ واحدة من الالتزاميتين بعينها إنّما يكون بلحاظ التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما، لا بعلم تفصيلي بعدم حجّيّتهما في ذاتهما، وإذا كان كذلك فإعمال أثر التعارض أوّلا في الالتزاميتين بإسقاطهما، ثمّ القول بأنّ المطابقيتين قد تخلّصتا من المعارضة لا مبرّر له.

(1) جُعل هذا في نقل السيّد الهاشمي (حفظه الله) محاولة مستقلّة، وأبطلت بمنع الطولية في الحجّيّة بين الدلالتين المطابقية والالتزامية.

619

الدلالة الالتزامية لهما، إلاّ إذا كان الخبران ترخيصيّين، وكان عندنا علم إجمالي بالإلزام، فيسقطان، كما يسقط الاستصحاب في مستصحبي الطهارة عند العلم الإجمالي بالنجاسة.

نعم، لو خرجنا عن موضوع هذا البحث، وحكّمنا الارتكازات العقلائية ـ كما هو الصحيح ـ اتّجه هنا التساقط؛ لان التفكيك بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الحجّيّة في الأمارات ليس مقبولا عرفاً وإن كان مقبولا عرفاً في الاُصول. إذن فهذا التفكيك يكون على خلاف الارتكاز العقلائي.

القسم الثاني: أن يكون التعارض ذاتياً على أساس التناقض من قبيل: (يجب) و(لا يجب) وعندئذ لا يمكن الجمع بينهما في الحجّيّة؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يعذّر، ولا يمكن الترجيح؛ لإنّه ترجيح بلا مرجّح. وأمّا التخيير فيمكن تصويره بإحدى صور:

1 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم حجّيّة الآخر.

2 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم صدق الآخر.

3 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر.

4 ـ حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط الالتزام به.

5 ـ حجّيّة الفرد المردّد.

6 ـ حجّيّة عنوان أحدهما أي الجامع بينهما.

7 ـ حجّيّة غير ما علم إجمالاً بكذبه.

والصحيح بطلان كلّ الصور فيتّجه التساقط.

والوجه في: البطلان أنّه يشترط في التخيير المعقول أربعة شروط، وكلّ صورة من هذه الصور فاقدة لأحد الشروط أو أكثر، وبتوضيح ذلك يتّضح ـ أيضاً ـ بطلان ما يمكن أن يفترض للتخيير من صور اُخرى. وبيان الحال مايلي:

إنّ غرض الاُصولي من التخيير هو رفع التعارض بين إطلاقي دليل الحجّيّة للخبرين المتعارضين بتقييد حجّيّة كلّ منهما بحالة دون الحالة الاُخرى مثلا، وتصوير تقييد الحجّيّة بنحو يعالج التعارض إنّما يتمّ لو اجتمعت شروط أربعة:

1 ـ أن لا تكون الحجّيّتان المشروطتان باقيتين على التعارض كالحجّيّتين المطلقتين، وإلاّ فإنّنا لم نصنع شيئاً.

2 ـ أن لا يكون الشرط في الحجّيّتين بنحو يوجب الاستحالة.

3 ـ أن لا تكون الحجّيّة المشروطة في أحد الطرفين منافية للحجّيّة المطلقة في الطرف

620

الآخر، وإلاّ وقع التعارض بين دلالة دليل الحجّيّة عليها وإطلاق دليل الحجّيّة في الطرف الاخر المقتضي للحجّيّة المطلقة له.

4 ـ أن تكون الحجّيّة المفروض إثباتها حصّة من حصص الحجّيّة التي يدلّ عليها دليل الحجّيّة العامّ، قيّد إطلاقه وبقيت تلك الحصّة من باب أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، ولا تكون حجّيّة مباينة للحجّيّة المستفادة من الدليل العامّ.

وكلّ واحدة من الصور الست التي عدد ناها تفقد ـ على الأقلّ ـ شرطاً واحداً من هذه الشروط، فإنّك ترى: أنّ الصورة الاُولى وهي حجّيّة كلّ منهما بشرط عدم حجّيّة الآخر فاقدة للشرط الثاني، فان معنى ذلك مانعيّة الحجّيّة الفعلية في كلّ واحد من الطرفين عن الحجّيّة الفعلية في الطرف الآخر، والتمانع من الطرفين يستبطن الدور المحال. نعم، هي واجدة للشرط الأوّل؛ إذ لا تعارض بين الحجّيّتين المشروطتين؛ لأنّ كلاًّ منهما مشروطة بعدم الحجّيّة الفعلية للآخر، ففعليّة الحجّيّة في أحد الطرفين ترفع موضوع الحجّيّة في الطرف الآخر، فلا معنى لوقوع التنافي بين حجّيّتين مشروطتين من هذا القبيل، كما هي واجدة للشرط الثالث، فلا منافاة بين حجّيّة مشروطة بعدم الحجّيّة الاُخرى في أحد الجانبين وحجّيّة مطلقة في الجانب الآخر، فإنّ الحجّيّة المطلقة في الجانب الآخر ترفع موضوع الحجّيّة في الجانب الأوّل، ولا منافاة بين صدق القضية الشرطية وعدم صدق شرطها، وكما هي واجدة للشرط الرابع؛ فإنّ الحجّيّة المشروطة بعدم حجّيّة اُخرى حصّة من الحجّيّة المطلقة التي دلّ عليها الدليل العامّ بإطلاقه، فبالإمكان تقييده وإخراج ما عدا تلك الحصّة عنه.

والصورة الثانية، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط كذب الآخر فاقدة للشرط الثاني، فإنّ حجّيّة من هذا القبيل غير معقولة للغويّتها، لأنّ كذب الآخر يساوق صدق الأولّ لفرض التناقض بينهما، فلو ثبت بدليل من الخارج صدق الأوّل كفانا ذلك الدليل، وإلاّ لم يصلنا موضوع حجّيّته، فلم تصل الحجّيّة، فلا أثر لها.

والصورة الثالثة، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط عدم الالتزام بالآخر فاقد للشرط الثالث، فإنّ حجّيّة أحدهما بشرط عدم الالتزام بالآخر تنافي حجّيّة الآخر مطلقاً، أي: سواء التزم به أو لا، كما هي فاقدة للشرط الأوّل لو اُريد بالالتزام الموافقة الالتزامية؛ إذ بالامكان أن يترك الالتزام بكلّ واحد منهما، فيصبح كلاهما حجّة، فترجع المنافاة بين الحجيتين.

والصورة الرابعة، وهي حجّيّة كلّ واحد منهما بشرط الالتزام به: إن اُريد بالالتزام فيها

621

الالتزام العملي، أي: أن يكون عمله بنحو ينسجم مع أحد الخبرين، فهي فاقدة للشرط الثاني؛ إذ حجّيّة شيء بشرط العمل به غير معقولة للّغوية، فإنّ الحجّيّة تكون للعمل، فإذا صارت بشرط العمل لم يبق لها أثر، وفاقدة للشرط الأوّل؛ إذ بالامكان أن يعمل عملا ينسجم مع كلا الخبرين، فإذا دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على عدم الوجوب، كان بإمكانه أن يفعل، والفعل ينسجم مع الوجوب ومع عدم الوجوب، فتجتمع الحجّيّتان، وترجع المنافاة بينهما. وإن اُريد بالالتزام فيها الموافقة الالتزامية فالإشكال الأوّل يرتفع، وقد يتصوّر أنّ الإشكال الثاني ـ أيضاً ـ يرتفع بدعوى عدم معقولية الالتزام بكليهما.

وعلى أيّ حال، فنحن نقول: سواء اُريد بالالتزام الموافقة الالتزامية أو الموافقة العملية لا أقلّ من عدم توفّر الشرط الثالث، فإنّ حجّيّة أحدهما بشرط الالتزام به تنافي حجّيّة الآخر مطلقاً، أي: سواء التزم بالأوّل أو لا، فبهذا البرهان نبطل تصوير التخيير بهذا النحو، لا بما ذكره السيّد الاُستاذ من استبعاد كون أمر الحجّيّة بيد الشخص، بحيث لو لم يلتزم لم يكن حجّة عليه، فإنّ التخيير بهذا النحو باطل بالبرهان القاطع كما عرفت، لا بمجرّد استبعاد من هذا القبيل.

والصورة الخامسة، وهي حجّيّة الفرد المردّد، والسادسة، وهي حجّيّة أحدهما الجامع بينهما، والسابعة، وهي حجّيّة غير ما علم كذبه إجمالا يرد عليها إشكال مشترك، وهو: أنّ النتيجة المقصودة من هذه الحجّيّة هل هي إيصال مفاد أحد الدليلين بعينه وإثبات الضيق، أو التوسعة للمكلّف، أو هي إيصال أحدهما إجمالا من دون تعيين أحد المفادين؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فهو غير معقول؛ إذ نسبة هذه الحجّيّة في مرحلة الايصال إلى كلّ من المفادين على حدّ سواء. وإن كان المقصود هو الثاني فوصول أحدهما إجمالا ثابت بالعلم الوجداني، فإنّ المكلّف يعلم إجمالا بالوجوب أو عدمه؛ لأنّهما نقيضان لا يرتفعان، والوصول الوجداني لمّا يتردّد بين الوجوب وعدمه لا ينجّز، ولا يعذّر، فكيف بالوصول التعبدي؟

وليس مقصودي أنّ إطلاق دليل الحجّيّة لا يشمل هذه الحجّيّة لأنّها لغو لا فائدة فيها، حتّى يقال: إنّ إشكال اللغوية إنّما يرد لو صدّر المولى تشريعاً خاصّاً أو بياناً خاصّاً لهذه الحجّيّة لا بالإطلاق، وإنّما المقصود أنّ هذه الحجّيّة لا تفيد الفقيه أيّ فائدة، وليست هي التي يُتكلّم عنها في مقام إثبات الحجّيّة التخييرية، وهدف البحث أن يُرى هل يستفاد من دليل الحجّيّة العامّ حجّيّة لأحد الخبرين أو كليهما في الجملة بحيث تؤثّر أثراً عملياً للفقيه، أو لا.

622

ويرد على كلّ واحدة من هذه الصور إشكال يخصّها.

فالصورة الخامسة، وهي حجّيّة الفرد المردّد تقرّب بأحد تقريبين:

الأوّل: تقريب إثباتي، بأن يقال: إنّ دليل الحجّيّة يكون تحت مفاده ثلاثة أفراد: حجّيّة هذا بعينه، وحجّيّة ذاك بعينه، وحجّيّة الفرد المردّد، فإذا سقطت الاُوليان بالتعارض بقيت الحجّيّة الثالثة، ولا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل الحجّيّة بلحاظ الحجّيّة الثالثة.

الثاني: تقريب ثبوتي، بأن يقال: إنّ ملاك الحجّيّة موجود في كلّ منهما، وإنّما لم تثبت الحجّيّة لهما لمانع، والمانع هو العلم الاجمالي، وهو إنّما يمنع عن حجّيّتهما معاً، ولذا لو دلّ دليل على حجّيّة أحدهما لم يمنع عنه العلم الاجمالي، فإذا منع المانع عن حجّيّتهما معاً فلا مانع من حجّيّة الفرد المردّد، فيكون حجّة؛ لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود.

ويرد على كلا التقريبين إشكال مشترك، وهو عدم معقوليّة الفرد المردّد، وإنّ التردّد يساوق الكلّيّة، ولا يجامع الجزئية والتشخّص على ما حقّق في محلّه، فيستحيل حجّيّة الفرد المردّد ثبوتاً، ولا يشملها دليل الحجّيّة إثباتاً، فالشرط الثاني والرابع من الشرائط الأربعة منتفيان.

ويرد على التقريب الأوّل: أنّنا لو سلّمنا معقوليّة الفرد المردّد فلسفياً، فلا نسلّم عرفاً كون حجّيّة الفرد المردّد داخلاً في اطلاق دليل الحجّيّة في مقابل حجّيّة هذا وحجّيّة ذاك، فالشرط الرابع منتف.

وعلى التقريب الثاني: أن وجود المقتضي وهو ملاك الحجّيّة أوّل الكلام، فإنّنا إنّما نستكشف وجوده بالدليل الاثباتي، ومع فرض سقوطه لا كاشف لنا عن وجود المقتضي والملاك ثبوتاً، إلاّ إذا بنينا على بعض مبان باطلة تأتي الإشارة إليه، من قبيل حجّيّة الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية، فدليل الحجّيّة وإن سقطت دلالته على الحجّيّة عن كونه حجّة، لكنّ دلالته على وجود ملاك الحجّيّة باقية على الحجّيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك.

والخلاصة: أنّ الشرط الرابع مفقود.

والصورة السادسة، وهي حجّيّة أحدهما الجامع بينهما تقرّب بأحد تقريبين:

الأوّل: أن الجامع بين الخبرين خبر، فإذا سقط إطلاق دليل الحجّيّة لهذا الخبر بالتعارض مع إطلاقه لذاك الخبر فليبقَ إطلاقه للجامع ويرد عليه: أنّ الجامع بين خبرين لا يخبرنا عن شيء أبداً مضافاً الى أنّ دليل حجّيّة الخبر إنّما انصبّ على كلّيّ الخبر بما هو حاك عن أفرده الخارجية، والجامع بين خبرين ليس أحد الأفراد الخارجية، فالشرط الرابع مفقود.

623

الثاني: أن كلاّ من الخبرين يدلّ بالمطابقة على مفاده، وبالتضمّن على الجامع بين مفاده ومفاد أخيه؛ إذ الجامع موجود في ضمن الفرد، فإذا سقط عن الحجّيّة بمقدار دلالته على الخصوصيّة للتعارض، فلتبقَ دلالته التضمّنيّة حجّة.

وفيه: أنّ هذا مبنيّ على قبول التفرقة عرفاً في مفاد دليل الحجّيّة بالنسبة للدلالات التضمّنيّة التي تجزّى بالتحليل العقلي، من قبيل أن يخبرنا المخبر بوجود زيد في الغرفة، ونحن نعلم بعدمه، فنجعل الخبر حجّة في أصل وجود إنسان في الغرفة، وهذا باطل جزماً وليس حاله حال التفكيك بين الأفراد التي يشملها العامّ مثلا في الحجّيّة، فالشرط الرابع مفقود بمعنى أنّ حجّيّة هذه الدلالة التضمّنية وإن كانت داخلة في إطلاق دليل الحجّيّة إلاّ أنّها إنّما كانت داخلة فيه في ضمن حجّية الخبر لاثبات الخصوصيّة، ولم تكن حجّيّته لاثبات الخصوصيّة وحجّيّته لإثبات الجامع فردين داخلين في إطلاق دليل الحجّيّة، إذا سقط أحدهما بقي الآخر.

والصورة السابعة يكون الإشكال الوارد عليها على الإطلاق منحصراً في الإشكال المشترك الذي بيّنّاه، وهو أنّ إيصال مفاد كلا الخبرين غير معقول، وإيصال مفاد أحدهما ثابت بالوجدان، ولا تفيدنا فائدة جديدة؛ وذلك للعلم بصدق أحدهما؛ لأنّ المفروض أنّهما متناقضان، إلاّ أنّنا لو تنزّلنا عن هذا الإشكال بافتراض عدم العلم بصدق أحدهما جاء إشكال آخر في بعض الحالات، وهو أنّه مع عدم العلم بصدق أحدهما نحتمل كذبهما معاً، وعلى تقدير كذبهما معاً يكون المعلوم بالإجمال في بعض الأحيان غير متعيّن حتّى في الواقع، فغير المعلوم بالاجمال ـ ايضاً ـ لا تعيّن له، فتستحيل حجّيّته ثبوتاً، ولا تكون حجّيّته داخلة تحت إطلاق دليل الحجّيّة إثباتاً، فالشرط الأوّل والرابع من الشروط الأربعة منتفيان.

القسم الثالث: أن يكون التعارض ذاتياً على أساس التضادّ.

وأقصد بالتضاد أن يمكن او يحتمل ارتفاعهما، ولا يمكن أو لا يحتمل اجتماعهما، وذلك في مقابل التناقض بمعنى عدم إمكان أو احتمال اجتماعهما أو ارتفاعهما، ومثاله: أن يدلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الأباحة بالمعنى الاخص، وهنا يتجه التخيير بصورته الثانية، أعني حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر، فإنّه شامل للشروط الاربعة.

أمّا الشرط الأوّل وهو عدم التنافي بين الحجّيّتين المشروطتين، فتقريب ثبوته على مبنى المشهور من كون التعارض بين الحجّيّتين قوامه الوصول، هو أنّ هاتين الحجّيّتين لم تصلنا إلاّ

624

فعليّة إحداهما على سبيل الاجمال لعلمنا بكذب أحدهما الذي هو شرط في حجّيّة الاخر، ولا يمكن أن تصلنا كلتاهما؛ إذ لا يكون ذلك إلاّ بوصول موضوعهما، وموضوع حجّيّة كلّ منهما مركَّب من الشكّ في صدقه وكذبه مع كذب الآخر، فلو وصلنا كذبهما لا نتفى الجزء الأوّل من موضوع الحجّيّة فيهما، وهو الشكّ، كما أنّه لو علمنا بكذب أحدهما تفصيلا بقي الآخر حجّة بلا معارض، وسقط ما علم بكذبه تفصيلا لزوال الشكّ.

وأمّا الشرط الثاني، وهو معقولية الحجّيّة فلأنّ حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر معقولة ولا تستلزم دوراً، ولا لغوية؛ إذ فرض كذب الآخر لا يساوق فرض صدق الأول حتّى تلغو حجّيّته المقيّدة بهذا الفرض.

وإمّا الشرط الثالث وهو عدم التنافي بين الحجّيّة المشروطة في أحدهما والحجية المطلقة في الآخر، فتقريب تحقّقه على المشهور ـ أيضاً ـ هو: أنّ الحجّيّتين يستحيل وصولهما معاً؛ إذ الخبر المفروض حجّيّته مطلقاً إن علم بكذبه فحجّيّته غير واصلة، وإن لم يعلم بكذبه فحجّيّة الآخر غير واصلة لاشتراطها بكذب هذا، ولم يعلم كذبه.

وأمّا الشرط الرابع وهو كون الحجّيّة المفروض ثبوتها داخلة في إطلاق دليل الحجّيّة، فمن الواضح أنّ حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الاخر حصّة من الحجّيّة مشمولة لإطلاق دليل الحجّيّة.

وأمّا التخيير بصورته الاُولى ففيه ما عرفت من الدور.

وأمّا التخيير بصورته الثالثة ففيه ما عرفت أيضاً في القسم الثاني.

وأمّا التخيير بصورته الرابعة فلا أقلّ من فقدانه للشرط الثالث كما عرفت في القسم الثاني.

وأمّا التخيير بصورته الخامسة والسادسة فيرد عليه ما كان يرد عليه في القسم الثاني، عدا الاشكال المشترك بين الصور الثلاث الأخيرة.

وأمّا التخيير بصورته السابعة فإن فرض عدم تعيّن المعلوم بالإجمال كذبه ـ على تقدير كذبهما معاً في الواقع ـ كما لو كان علمنا بكذب أحدهما من باب حكم العقل بعدم اجتماع الضدين، ورد عليه ما مضى من أنّ غير المعلوم إجمالا كذبه ـ أيضاً ـ لا تعيّن له، فلا معنىً لحجّيّته، ويكون الشرط الثاني والرابع منتفياً كما مضى. وإن فرض تعيّنه كما لو علم أنّ الراوي لأحدهما شيعيّ والراوي للآخر سنّيّ، وعلمنا بكذب ما رواه السنّيّ، لكننا لم نعرف أنّ أيّهما كان رواية شيعيّاً والآخر سنّيّاً مثلا، فهنا بالإمكان أن يفترض جعل الحجّيّة لغير ما

625

رواه السنّي، إلاّ أنّ هذا بحسب الروح والنتيجة يرجع إلى التخيير بصورته الثانية، إذ يصبح كلّ من الخبرين حجّة بشرط أن لا يكون هو المعلوم إجمالا كذبه المساوق لكون الآخر كذباً، فكأنّما صار كلّ منهما حجّة لدى كذب الآخر.

ثمّ إنّ القسم الأوّل من التعارض، أعني التعارض العرضي من قبيل (صلِّ صلاة الظهر) و(صلِّ صلاة الجمعة) قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة فيه ـ إذا فرض النظر إلى دليل لفظي للحجيّة بغضّ النظر عن تحكيم الارتكازات فيه ـ هو حجّيّة كلتا الدلالتين المطابقيّتين. أما لو تنزّلنا عن ذلك، وفرضنا أنّ الجمع بينهما في الحجّيّة لا يمكن للغفلة مثلا عمّا مضى من أنّ الدلالتين الالتزاميّتين متعارضتان، وأنّه متى ما وقع التعارض بين طائفتين مع كون إحداهما مبتلاة بالتعارض الداخلي بقيت الاُخرى سليمة عن المعارض، أو حكّمنا ما مضى من ارتكاز عدم التفكيك بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الحجّيّة، فعندئذ هل تصل النوبة إلى التخيير أو إلى التساقط؟

التحقيق: أنّه إن فرض العلم الإجمالي بصدق أحدهما التحق بالقسم الثاني، وجرى فيه ما مضى في القسم الثاني حرفاً بحرف، ولا يعقل فيه التخيير بنفس النكات التي أوجبت عدم معقوليّة التخيير في القسم الثاني. وإن فرض عدم العلم الاجمالي بصدق أحدهما التحق بالقسم الثالث في معقولية التخيير بالصورة الثانية لنفس النكات الماضية في القسم الثالث.

نعم، لا تتعقّل باقي صور التخيير إلاّ الصورة السابعة عند ثبوت التعيّن للمعلوم بالإجمال كذبه واقعاً حتّى على فرض كذبهما معاً، وقد عرفت أنّها بحسب الروح والنتيجة ترجع الى الصورة الثانية.

وعلى أيّ حال فنتيجة التخيير بمعنى حجّيّة كلّ منهما على تقدير كذب الآخر في القسم الثالث وفي القسم الأوّل عند التحاقه بالقسم الثالث، والتنزّل عن الجمع بينهما في الحجّية هي نفي الثالث للعلم بحصول شرط الحجيّة في أحدهما إجمالا للعلم بكذب أحدهما إجمالا، فنعلم بحجيّة أحدهما إجمالا، فبذلك يُنفى الثالث.

وكان في الفقه اتّجاه وميل عند الفقهاء إلى نفي الثالث، ولكن عجزوا في الاُصول عن تصوير وجه فنّي معقول لذلك، فقد يُتشبّث بمثل نفي الثالث بالدلالة الالتزامية وبقائها على الحجّيّة بعد سقوط المطابقية، والتخريج الفنّي للمطلب إنّما هو ما ذكرناه.

هذا كله لو تكلّمنا بالنظر إلى دليل لفظي للحجّيّة بغض النظر عن تحكيم الارتكازات العقلائية.

626

وأمّا بالنظر إلى تحكيم الارتكازات العقلائية فهذا التخيير ونفي الاحتمال الثالث وإن لم يكن على طبقه ارتكاز عقلائي، ولكن ليس الارتكاز العقلائي على خلافه أيضاً، بل العقلاء حياديّون تجاه هذه المسألة، ولا مانع لديهم من التخيير ونفي الثالث. إذن فنبقى نتمسّك بإطلاق الدليل المقتضي للتخيير بالنحو الذي وضّحناه.

هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى، أعني تعيين الأصل الأوّلي عند التعارض بلحاظ دليل الحجّيّة العامّ.

 

مقتضى الأصل الثانوي في الخبرين المتعارضين:

الجهة الثانية: في ما هو مقتضى الأصل الثانوي في الخبرين المتعارضين بلحاظ دليل الحجّية العامّ بعد فرض ضمّ دليل كالاجماع على عدم التساقط.

فقد ذكروا ـ بعد أن اختاروا أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو التساقط ـ: أنّه لو ضمّ إلى دليل الحجّيّة العام دليل كالإجماع على عدم التساقط، وصلت النوبة إلى أصل ثانوي، وعندئذ فلو فرضنا القطع بأنّ ملاك الحجّيّة على تقدير وجوده يكون في أحدهما المعيّن أقوى فقد ثبت الترجيح؛ إذ بدليل عدم التساقط اكتشفنا وجود الملاك، وقد علمنا أنّه على تقدير وجوده فهو أقوى في أحدهما المعيّن، إذن فهو المتعيّن للحجّيّة، ولو فرضنا القطع بالتساوي على تقدير وجود الملاك فقد ثبت التخيير. ولو فرضنا احتمال الترجيح في أحدهما المعيّن دون الآخر دار الأمر بين الترجيح من طرف واحد والتخيير، فنحتاج إلى استيناف بحث عن أنّه لدى دوران الأمر في الحجّيّة بين التعيين والتخيير هل الأصل هو التعيين، أو التخيير؟ ولو فرضنا احتمال الترجيح في كل واحد من الطرفين فالأمر دائر بين التخيير والترجيح من كلا الطرفين، فأيضاً نحتاج إلى البحث عن أنّه عند دوران الأمر في الحجّية بين التعيين والتخيير فهل الأصل هو التعيين أو التخيير؟

أقول: قد عرفت ممّا مضى منّا أنّه في الأقسام الثلاثة الاُولى، أعني فرض العلم بالترجيح ـ على تقدير وجود الملاك ـ وفرض العلم بالتساوي ـ على تقديره ـ، وفرض احتمال الترجيح من طرف واحد ـ على تقديره ـ لا نحتاج إلى البحث عن افتراض قيام دليل خاصّ على عدم التساقط، بل نصل بنفس الاصل الأوّل إلى ما وصلوا اليه بعد ضمّ دليل خاص على عدم التساقط وضمّ هذا الدليل لا يصنع شيئاً، وذلك لما مضى من أنّه:

في القسم الأوّل نقطع بعدم حجّيّة ما ليس الملاك فيه أقوى: إمّا لعدم الملاك فيهما راساً، أو

627

لأقوائيّته في الآخر، فإطلاق دليل الحجّيّة للآخر لا معارض له، فثبت الترجيح بلا حاجة إلى أصل ثانوي وضمّ دليل على عدم التساقط وليس هناك ارتكاز عقلائي يمنع عن الترجيح.

وفي القسم الثاني يكون إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ منهما عند الالتزام بالآخر ساقطاً جزماً: إمّا لعدم الملاك، أو لعدم أقوائيّته فيه للقطع بالتساوي، فيكون إطلاق دليل الحجّيّة لكلّ منهما عند الالتزام به ثابتاً بلا معارض، والالتزام بكليهما ليس عقلائياً، ولو ثبتت حجّيّة كلّ واحد منهما عند الالتزام به ثبت وجوب الالتزام بأحدهما تخييراً؛ لعدم احتمال اختصاص الحكم بمن اشتهى الالتزام دون من لم يشتهه. وبهذا ثبت التخيير بلا حاجة إلى أصل ثانوي.

وفي القسم الثالث يكون إطلاق دليل الحجّيّة لمحتمل الترجيح على تقدير الالتزام به بلا معارض، وبذلك نقطع بثبوت الملاك في الجملة، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير.

نعم، في القسم الرابع يكون الأصل الأوّلي هو التساقط ولو ـ على الأقل ـ في خصوص ما إذا كان التعارض بنحو التناقض(1)، فتصل النوبة إلى البحث عن الأصل الثانوي بعد فرض ضمّ دليل ناف للتساقط.

وعلى أيّ حال ففي القسم الثالث والرابع نحتاج إلى تنقيح ما هو مقتضى الأصل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّيّة.

ودوران الأمر بين التعيين والتخيير يكون في ثلاثة أبواب:

الأوّل: دوران الأمر بينهما في جعل التكاليف، كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر أو التخيير بينه وبين الجمعة. والحق فيه هو أصالة التخيير، لا التعيين؛ لأنّ الوجوب التعييني للظهر وإن كان مبايناً لوجوب الجامع بينهما، لكن أصالة البراءة عن وجوب الظهر لا تعارضها أصالة البراءة عن وجوب الجامع؛ إذ البراءة عن وجوب الجامع لا تجري؛ لأنّها لا ترفع كلفةً؛ لأنّ كلفة وجوب الجامع مقطوع بها؛ إذ هي مشتركة بين وجوب الجامع ووجوب الظهر، ولكنّ وجوب الظهر فيه كلفة زائدة وهي التقيّد بخصوص الظهر. وتفصيل الكلام موكول الى بحث الأقلّ والأكثر.


(1) وتفصيل الأمر ما مضى من أنّه في فرض التناقض يكون مقتضى الأصل التساقط المطلق، وفي فرض التضادّ يكون مقتضى الأصل ثبوت الحجّيّة بمقدار نفي الثالث، وفي أكثر من ذلك يكون مقتضى الأصل هو التساقط.

628

الثاني: دوران الأمر بينهما في عالم الامتثال، كما لو عجزنا عن الجمع بين واجبين: أحدهما محتمل الأهمّيّة دون الآخر. وهنا قالوا: إنّ الأصل هو التعيين؛ لكون الشكّ في مرحلة الامتثال. وتفصيل الكلام موكول إلى بحث التزاحم.

الثالث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّيّة، كما إذا كان لدينا خبران: أحدهما نحتمل فيه ثبوت الحجّيّة تعييناً كما نحتمل تساويهما في الملاك، فيدور الأمر بين أن يكون كلّ منهما حجّة تخييراً او يكون محتمل الأهمية هو الحجّة وحده تعييناً. وهذا هو الأمر المبحوث عنه في المقام.

وقد اختار المشهور القول بالأخذ بجانب التعيين سواء في الفرضية الثالثة أو الرابعة التي يدور الأمر فيها بين التعيينين والتخيير، وتكون الوظيفة في الفرضية الرابعة الاحتياط بالجمع بين التعيينين إن أمكن.

ولكن لا بدّ لنا من أجل التعرّف على حقيقة الأمر من النظر بدقّة إلى هذا الدوران، ولذا فسوف نتكلّم على فرضيّتين:

الاُولى: فرضيّة عدم انحلال العلم الاجمالي الكبير بوجود تكاليف ثابتة في أصل الشريعة الذي يقتضي التنجيز بالنسبة إلى جميع الشبهات الإلزاميّة.

الثانية: فرضيّة انحلال العلم الإجمالى الكبير بتكاليف معلومة تفصيلا بقدر التكاليف المعلومة إجمالا، وإجراء أصالة البراءة في الشبهات الاُخرى غير المعلومة، كما هو المعروف من أنّ المعلوم من التكاليف تفصيلا بما في الكتب الأربعة مثلا أو غيرها من الأمارات يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي الكبير:

أمّا على الفرضية الأولى، فإذا كان عندنا دليلان: أحدهما دلّ على الوجوب والآخر دلّ على عدم الوجوب(1) فهنا صور ثلاث:

فإمّا أن يكون الدليل الدالّ على الوجوب هو الدليل المتحمل الأقوائية، أو بالعكس، أو يكون كلّ منهما محتمل الأقوائية.

أمّا الصورة الاُولى، فالحكم فيها هو الإتيان بالفعل المحتمل الوجوب ولو احتياطاً؛ إذ حتّى لو التزم بخبر الإباحة لا بخبر الوجوب يبقى الوجوب منجّزاً عليه بالعلم الإجمالي. نعم،


(1) أمّا لو فرض أنّ الدليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة، فالعلم الاجمالي الكبير هنا ساقط عن التأثير؛ لأنه ليس بأكثر تأثيراً من فرض علم صغير بالإلزام المردّد بين وجوب شيّ وحرمته، فيلحق هذا بفرض انحلال العلم الاجمالي الكبير.

629

لا يصحّ منه الافتاء بالوجوب إلاّ بعد أخذه بخبر الوجوب؛ إذ مع الأخذ به يكون هو الحجّة قطعاً، سواء كانت الحجّيّة تعيينيّة أو تخييريّة. أمّا مع عدم الأخذ به فيقع الشكّ في حجّيّته، ومع الشكّ لا يصحّ الإفتاء بمضمونه.

وأمّا الصورة الثانية، فيصحّ فيها الإفتاء بمضمون دليل عدم الوجوب والعمل به إذا أخذ به؛ إذ مع الأخذ به يكون حجّة قطعاً، فيصحّ رفع اليد عندئذ عن تنجيز العلم الاجمالي بعد وصول الحجّة على الترخيص، ولا يصحّ الإفتاء بمضمون دليل الوجوب حتّى مع الأخذ به؛ للشك في حجّيّته. نعم، لو لم يأخذ بدليل نفي الوجوب لا بدّ له من الاحتياط في العمل؛ لأنه يشكّ عندئذ في حجّيّة دليل عدم الوجوب، ومع الشكّ لا يجوز رفع اليد عن العلم الإجمالي وتنجيزه.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي ما لو كان كلّ منهما محتمل الأقوائيّة، فمن ناحية العمل لا بدّ له فيها من الاحتياط بسبب العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه حتّى لو أخذ بدليل عدم الوجوب يبقى هذا الدليل غير ثابت الحجّيّة، فعليه أن يعمل بفرض الوجوب، ولكن ليس له الإفتاء بمضمون دليل الوجوب حتّى لو أخذ به؛ لإنّه حتّى مع الأخذ به يبقى غير ثابت الحجّيّة.

وأمّا على الفرضية الثانية، وهي فرضيّة انحلال العلم الإجمالى وجريان البراءة في الشبهات مطلقاً فتارةً نتكلّم في دليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب، واخرى نتكلّم في دليلين دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة:

أما الفرض الأوّل، وهو ما لو كان أحدهما دالّا على الوجوب والآخر دالّا على عدم الوجوب، فتارةً يكون احتمال التعيين في طرف الوجوب، واُخرى في طرف الإباحة، وثالثة في كلا الطرفين.

فإن كان احتمال التعيين في طرف الوجوب فقد يقال انسياقاً مع المشهور الذين قالوا بالتعيين لدى دوران أمر الحجّيّة بين التعيين والتخيير: إنّ الأمر يدور بين حجّيّة تعيينيّة لدليل الوجوب وحجّيّة تخييرية، والحجّيّة التخييريّة تعني أحكاماً ثلاثة، وهي: حجّيّة دليل الوجوب بشرط الأخذ به، وحجّيّة دليل الإباحة بشرط الأخذ به، ووجوب الأخذ بأحدهما.

ومعنى وجوب الأخذ بأحدهما أنّه لو لم يلتزم بأحدهما فالواقع منجّز عليه، وليس معناه الوجوب النفسي الواقعي.

وهذا الحكم الثالث، أعني وجوب الالتزام بأحدهما إنّما احتجنا إليه لفرض انحلال العلم

630

الإجمالي الكبير، وإلاّ كان ذلك كافياً في تنجّز الواقع.

وعلى أيّ حال فقد يقال: إنّ العلم الإجمالي دائر بين المتباينين؛ لأنّ الحجّيّة المطلقة لخبر الوجوب مباينة للأحكام الثلاثة، فلا بدّ من الاحتياط.

والصحيح ـ كما قلناه في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في جعل التكاليف ـ هو: أنّنا ننفي بالبراءة الحكم الأكثر مؤونة، وهو الحجّيّة المطلقة لخبر الوجوب، فإنّ الحجّيّة التخييرية مؤونتها مشتركة بينها وبين الحجّيّة المطلقة لدليل الوجوب، وتختصّ الحجّيّة المطلقة لدليل الوجوب بمؤونة زائدة.

وتفصيل ذلك: أنّ المكلف لو التزم بخبر الوجوب فمؤونة الحجّيّة التعيينيّة والتخييريّة على حدّ سواء؛ إذ بالالتزام به تعيّن كونه هو الحجّة حتّى على التخيير، لتحقّق شرط الحجّيّة المشروطة، وهو الالتزام به، ولو لم يلتزم بشيء كانتا ـ أيضاً ـ متساويتين في المؤونة؛ إذ لو كان خبر الوجوب هو الحجّة تنجّز عليه الوجوب، ولو كان مخيّراً فعليه أن يلتزم بأحدهما، فحيث لم يلتزم بأحدهما فالواقع منجّز عليه، ولو التزم بخبر الإباحة فالحجّيّة التعيينيّة لخبر الوجوب تكلّفه العمل به، والحجّيّة التخييرية لا مؤونة فيه، فثبت أنّ الحجّيّة التعيينية أكثر مؤونة، فتجري عنها البراءة عند الالتزام بخبر الإباحة.

وببيان أعمق نقول: إنّ الوجوب مشكوك فيه، والعلم الإجمالي الكبير قد انحلّ، فإن التزمنا بخبر نفي الوجوب لم تصلنا الحجّة على الوجوب، فتجري البراءة عن الوجوب، فثبتت بذلك نتيجة التخيير.

وإن كان احتمال التعيين في طرف الإباحة ثبتت نتيجة التعيين، إذ الحجّيّة التعيينيّة هنا أقلّ مؤونة من الحجّيّة التخييرية، فإنّ الحجّيّة التخييرية تكلّفه العمل بخبر الوجوب عند الالتزام به، أو عدم الالتزام بشيء، بخلاف الحجّيّة التعيينيّة، فتجري البراءة عن الحجّيّة التخييريّة.

وبتعبير أعمق: لو التزم بخبر الإباحة قطع بحجّيّته، وإلاّ كفانا أنّ الوجوب مشكوك ولم تصلنا حجّة على الوجوب، فتجري البراءة عنه.

وإن كان احتمال التعيين في كلا الطرفين، فسواء التزم بهذا أو بذاك، أو لم يلتزم بشيء، يحتمل تعيّن خبر الاباحة،: أي: لم تصله حجّة على الوجوب، فتجري البراءة عن الوجوب مطلقاً.

وأمّا الفرض الثاني، وهو ما لو كان أحدهما دالّا على الوجوب والآخر دالّا على الحرمة،

631

فلو احتملنا التعيين في أحدهما دون الاخر، والتزم به، كان هو الحجّة، وكان معذّراً عن الواقع لو كان الواقع في الطرف الآخر.

ولو لم يلتزم بشيء منهما فالأمر دائر بين الحجّيّة المطلقة لأحدهما المعيّن والحجّيّتين المشروطتين(1)، ولا مجال للبراءة لا لدوران الامر بين الوجوب والحرمة بناءً على ما يقال من عدم جريان البراءة عند دوران الأمر بينهما، فإنّه هنا ليس الأمر دائراً بينهما؛ لاحتمال الإباحة مثلا، بل لأنّه يعلم إجمالا بأنّه: إمّا تنجّز عليه مفاد الخبر المحتمل التعيين، أو يجب عليه الالتزام بأحدهما، أي: إنّه على تقدير عدم الالتزام يكون الواقع منجّزاً عليه وما يقال في باب دوران الأمر بين المحذورين من أنّ التنجيز لغو صِرف لأنّه: إمّا فاعل، أو تارك، لا يأتي هنا، فإنّ أثر التنجيز هنا هو دفعه إلى الالتزام بالخبر المتحمل التعيين، لأنّه لو التزم به قطع بالخروج عن العهدة، ولو لم يلتزم به، فإمّا أن لا يلتزم بشيء منهما، أو يلتزم بالخبر الآخر. فإن لم يلتزم بشيء منهما لم يستطع موافقة العلم الإجمالي موافقة قطعية؛ لأنّ ما يعلم إجمالا بتنجّزه مردّد بين الوجوب والحرمة. وإن التزم بالخبر الآخر، أي: بما لا يحتمل حجّيّته تعييناً، فقد علم إجمالا: إمّا بحجّيّة ما لم يلتزم به بناءً على كونه الحجّة معيّناً، أو بحجّيّة ما التزم به بناءً على الحجّيّة التخييرية الراجعة إلى حجّيّة ما يلتزم به. ولا يمكنه الامتثال اليقيني لهذا العلم الإجمالي، فيجب عليه تخلّصاً من ورطة التكليف المعلوم العدول إلى الالتزام بالخبر المحتمل التعيّن في الحجّيّة حتّى يصبح حجّة له قطعاً، ويعمل به، ويكون معذّراً عن الواقع لو كان الواقع في الطرف الآخر.

إذن فاتّضح أنّ أثر التنجيز هنا هو دفعه إلى الالتزام بالخبر المحتمل التعيين، فما نحن فيه حاله حال دوران الأمر بين المحذورين قبل الفحص، حيث لا مانع هنا من تنجيز العلم الإجمالي؛ لأنّ لذلك أثراً وهو دفعه نحو الفحص.

فتحصّل: أنّ النتيجة هي نتيجة التعيين؛ إذ لا بدّ له ـ على أيّ حال ـ من العمل بما احتمل تعيينه في الحجّيّة.

وأمّا لو احتملنا التعيين في كلّ واحد منهما، فهنا لا يمكن الامتثال اليقيني للتكليف المعلوم بأيّ صورة من الصور، ويصبح حال ذلك حال دوران الأمر بين المحذورين بعد


(1) قلت له(رحمه الله): ما فائدة جعل الحجّيّة التخييرية بين خبري الوجوب والحرمة؟

فأجاب (رحمه الله) بأنّه يظهر الأثر في مثل الإفتاء وثبوت اللوازم.

632

الفحص، إلاّ أنّه ليس الأمر هنا دائراً بين الوجوب والحرمة؛ لاحتمال الاباحة مثلا، فهو لم يعلم بإلزام واقعي، لكنّه علم بتنجّز شيء عليه، ولا يدري ما هو، ولا يمكنه أن يفعل شيئاً أزيد من العمل بأحدهما، فالنتيجة هنا نتيجة التخيير(1).

ثمّ إنّ ما ذكرناه يثمر ـ أيضاً ـ في باب التقليد إذا تعارض فتوى الأعلم وغير الأعلم وبنينا على وجود دليل على عدم التساقط المطلق، فالمشهور قالوا بأصالة تعيين الأعلم؛ لأنّ قوله حجّة يقيناً، وقول غير الأعلم لم نعلم حجّيّته، فمقتضى الأصل عدم الحجّية.

ونحن نقول قد يكون مقتضى القاعدة التخيير، كما لو أفتى الأعلم بوجوب شيء وغير الأعلم بالاباحة، فمؤونة الحجّيّة التعيينيّة أزيد من مؤونة الحجّيّة التخييرية، فترفع بالبراءة على ما عرفت توضيحه في الخبرين.

نعم، يبطل التخيير في ثلاثة فروض:

1 ـ لو قام الدليل الاجتهادي على تعيين الأعلم.

2 ـ لو لم ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في حقّ العامي، فلو كان يعلم بمأة تكليف إلزامي مثلا، وكان الأعلم وغيره متّفقين على مائة فتوىً إلزامية، فقد انحلّ العلم الإجمالي بذلك؛ لحجّيّة فتواهما لدى عدم التعارض، وفي غير هذه الصورة لا ينحلّ العلم الإجمالي، فيضطرّ العامي إلى الاحتياط، إلاّ إذا كان الأعلم هو الذي يفتي بالإباحة.

3 ـ لو لم يكن غير الأعلم يفتي بالاباحة، والأعلم بالإلزام، بل كان كلاهما يفتيان بإلزامين متخالفين، أي: إنّ أحدهما يفتي بالوجوب والآخر بالحرمة، فعندئذ يضطرّ إلى الأخذ بقول الأعلم.

وأما لو أفتى الأعلم بالاباحة وغيره بالإلزام، وكان قد انحلّ العلم الإجمالي الكبير، فالإلزام غير منجّز عليه، كما مضى شرحه في الخبرين المتعارضين.

 

إمكان نفي حكم ثالث مناف لمفاد الخبرين المتعارضين وعدمه:

بقي الكلام في أنّه لو ذهبنا إلى ما ذهب إليه المشهور من التساقط، فهل يمكن نفي الثالث بهما أو لا؟


(1) نعم، لو فرض أنّ الخبرين المتعارضين لم يكونا من سنخ ما يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة، بل كانا من سنخ ما يدلّ أحدهما على وجوب الظهر مثلا والآخر على وجوب الجمعة مع العلم بكذب أحدهما، وكان من الممكن العمل بهما معاً، فاحتمال التعيين في كلّ واحد منهما يوجب الاحتياط بالعمل بهما معاً.

633

فنحن قد اثبتنا نفي الثالث في ما سبق على أساس إثبات حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر، ونحن نعلم إجمالا بتحقّق الشرط في أحدهما، فنعلم إجمالا بحجّيّة أحدهما، فننفي به الثالث، ولكن لو بنينا على بطلان التخيير بوجوهه السبعة وقلنا بالتساقط كما قال به المشهور، فعندئذ هل يمكن نفي الثالث أولا؟

قد يقال: نعم، بالإمكان أن ننفي الثالث؛ وذلك لأنّ كلاًّ من خبر الوجوب وخبر الاباحة مثلا يدلّ بالدلالة الالتزامية على نفي الحرمة، وهذه الدلالة الالتزامية لا معارض لها، فلا وجه لسقوطها، فننفي بهما الحرمة.

والدلالة الالتزامية وإن كانت في طول الدلالة المطابقية لكنّ هذه الطولية عبارة عن الطولية في الوجود، أي: لولا الدلالة المطابقية لما وجدت الدلالة الالتزامية، والدلالة المطابقية موجودة في المقام وإن سقطت عن الحجية، فالدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ موجودة، إذن فالمقتضي للحجّية موجود، والمانع مفقود.

أمّا وجود المقتضي فلأنّ الدلالة الالتزامية موجودة بوجود الدلالة المطابقية، فيشملها إطلاق دليل الحجّيّة. وأما عدم المانع، فلأنّ هذه الدلالة الالتزامية لا معارض لها.

والتحقيق: أنّ هذه المسألة قد تطرح بعدّة أنحاء:

الطرح الأوّل: أنّ الدلالة الالتزامية لا إشكال في تبعيّتها للدلالة المطابقية في الوجود، وهل هي تابعة لها في الحجّيّة أيضاً، أو لا؟ هذا يرجع إلى الاستظهار العرفي من دليل الحجّيّة، فلو استظهرنا من دليل الحجّيّة سواء فرضناها سيرة أو دليلا لفظياً أنّ حجّيّة الدلالة المطابقية مع حجّيّة الدلالة الالتزامية حجّيتان عرضيّتان، وفردان يشملهما إطلاق دليل الحجّية في عرض واحد، فسقوط الاُولى لا يستوجب سقوط الثانية، ولو استظهرنا أنّهما فردان طوليان فبسقوط الاُولى تسقط الثانية، فمن يقول بحجّيّة الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية يستظهر العرضية، ومن يقول بعدم الحجّيّة يستظهر الطولية.

الطرح الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) وهو لو تمّ يحكم على الطرح الأوّل، وهو أنّ الدلالة الالتزامية ساقطة عن الحجّيّة لا لتبعيّتها في الحجّيّة للدلالة المطابقية حتّى يقال: إنّهما حجّيتان عرضيّتان، بل لأنّها ـ أيضاً ـ مبتلاة بالمعارض، فتسقط كما سقطت الدلالة المطابقية؛ وذلك لأنّ المدلول الالتزامي للوجوب ليس هو مطلق عدم


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 370.

634

الحرمة المنسجم مع الإباحة، وإنّما مدلوله عدم الحرمة الملائم والمقارن مع الوجوب، أي: إن مدلوله الالتزامي حصّة خاصّة من عدم الحرمة، وهذا العدم لا يجتمع مع الإباحة، فالدلالة الالتزامية لخبر الوجوب تعارضها الدلالة المطابقية لخبر الإباحة، وكذا العكس، فالدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ تسقط عن الحجّية.

نعم، لو كنّا نقول بالتفكيك بين الأجزاء التحليلية لدلالة واحدة، أمكن أن يقال: إنّ الدلالة الالتزامية كما دلّت على حصّة خاصّة من عدم الحرمة كذلك دلّت ضمناًعلى جامع عدم الحرمة؛ لوجود الجامع في ضمن الحصّة، وقد سقطت دلالتها على الحصّة بالتعارض، وبقيت دلالتها على جامع العدم حجّة، لكنّ هذا طبعاً غير صحيح.

أقول: إنّ هذا الطرح للبحث غير صحيح؛ وذلك لأنّ عدم الحرمة المستفاد من دليل الوجوب وإن كان على تقدير ثبوت الوجوب كما هو مفاد دليل الوجوب مقارناً مع الوجوب، لكنّ دليل شيء يلازم شيئاً آخر إنّما يدلّ على ذات المقارن، لا على المقارن بقيد التقارن. نعم ينتزع من ثبوت كلّ من المفاد المطابقي والمفاد الالتزامي تقارنهما، فأصل دليل الوجوب يدلّ على عدم الحرمة بقانون استحالة اجتماع الضدين، وثبوت الوجوب مع ثبوت عدم الحرمة، يدلّ على عنوان التقارن بقانون تحقّق العنوان الانتزاعي عند ثبوت منشأ الانتزاع، فالمقام ليس من قبيل دلالة دليل الأمر بشيء على الوجوب الغيري لمقدّمته، حيث إنّ وجوب شيء له حصّتان: إحداهما وجوب غيري، والاُخرى وجوب نفسي، والأمر بشيء إنما يدلّ على ثبوت الحصّة الاُولى من الوجوب لمقدّمته، لا جامع الوجوب.

الطرح الثالث: ما لو تمّ لحكم على الطرح الأوّل أيضاً، ويمكن عدّه تعميقاً للطرح الثاني، فلعلّ بيان السيد الاُستاذ كان تعبيراً عرفياً عن هذا الطرح، وهو أن يقال في كلّ دلالة التزامية ـ باستثناء ماهو لازم بيّن بالمعنى الاخص ـ: إنّه ليس عندنا دالّ واحد ومدلولان، فإنّ الدلالة الالتزامية في غير اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ دلالة عقليّة وليست لفظية حتّى يقال: عندنا دالّ واحد وهو اللفظ، ومدلولان وهما: المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي، بل عندنا دالّان ومدلولان، فالدالّ الأوّل هو اللفظ، والمدلول الأوّل هو المعنى المطابقي، والدال الثاني هو نفس المدلول الأوّل وهو المعنى المطابقي، والمدول الثاني هو المعنى الالتزامي، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجّيّة فالمدلول الالتزامي بماذا يثبت؟ هل يثبت باللفظ، أو بالمعنى المطابقي؟!

أمّا ثبوته باللفظ فغير صحيح؛ فإنّه ليس مدلولا للفظ. وإنّما هو مدلول للمعنى المطابقي،

635

حيث إنّ المعنى يدلّ عليه دلالة عقلية للعلم بالملازمة بينهما. وأمّا ثبوته بالمعنى المطابقي فأيضاً غير صحيح؛ لإن المعنى المطابقي غير ثابت لا وجداناً ولا تعبّداً: أمّا وجداناً فواضح، فإنّه ليس لنا علم وجداني بمطابقة المدلول المطابقي للواقع. وأمّا تعبّداً فلأنّ المفروض سقوط الدلالة المطابقية عن الحجّيّة، فلم يثبت المعنى المطابقي تعبّداً. إذن فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجّيّة من باب سقوط الدالّ راساً فنحن في الطرحين السابقين كنّا نفترض ثبوت الدالّ ونتكلم في حجّية الدلالة وعدمها، وفي هذا الطرح اتّضح عدم ثبوت الدالّ على المدلول الالتزامي لا وجداناً ولا تعبداً(1).

هذا كلّه في غير اللاّزم البيّن بالمعنى الأخصّ. وأمّا فيه فلا يأتي هذا الطرح؛ لإنّ الدلالة الالتزامية فيها لفظية، فنرجع إلى الطرح الأوّل. والحقّ في الطرح الأوّل عندنا هو دعوى الطولية، إلاّ أنّه ليس لذلك بيان فنّي فتختلف الآرآء فيه حسب اختلاف الأذواق(2).

 


(1) قد أورد على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب ما ورد في تقرير السيّد الهاشمي (حفظه الله) الجزء السابع: ص 263 ـ 264 بما حاصله بعد إخراجه من التشويش الموجود في الكتاب: أنّ المعنى المطابقي بوجوده الواقعي مستلزم عقلا للمدلول الالتزامي، فالدّال على الأوّل دالّ على الثاني لا محالة، أي: إنّ الكاشف عن الأوّل كاشف عن الثاني ـ لا محالة ـ بنفس الدرجة من الكشف التصديقي، وهذا الدالّ موجود حسب الفرض، غاية ما هناك أنّ دلالته على الأوّل ساقطة عن الحجّيّة. أما سقوط دلالته على الثاني عن الحجّية فهو أوّل الكلام.

ومن هنا انتقل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في هذا الكتاب إلى وجه آخر لسقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية عند سقوط المطابقية، وهو أنّ ملاك الحجّية في الدلالتين واحد، فلا تبقى نكتة لحجّية الالتزامية بعد سقوط المطابقية، فإنّ نكتة الحجّية وملاكها عبارة عن أصالة عدم الكذب بالمعنى الشامل للاشتباه، أو أصالة إرادة المعنى الظاهر، وإذا سقطت المطابقية بظهور كذبها أو عدم إرادة ظاهرها مثلا، فافتراض عدم ثبوت المدلول الالتزامي لا يستدعي افتراض كذب زائد، أو مخالفة زائدة للظهور.

قال (رحمه الله): وعلى هذا الأساس صحّ التفصيل في التبعيّة بين الدلالة الالتزاميّة البيّنة عرفاً، أي: الثابتة على مستوى الدلالة التصوّرية وغيرها التي لا تثبت إلاّ على مستوى الدلالة التصديقية العقلية، فلا تبعيّة في الالتزامية البيّنة؛ لأنّ مخالفتها تشكّل مخالفة جديدة للظهور اللفظي.

وقال (رحمه الله): وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ صحّ التفصيل بين الدلالة التضمّنية التحليلية والدلالة التضمنية غير التحليلية ولو كانت ارتباطية ـ كما في دلالة العامّ المجموعي ـ، فإنّ الاُولى لا تبقى على الحجّية لعدم لزوم خطأ آخر، أو مخالفة زائدة من سقوطها، بينما الثانية تبقى على الحجّية ولو سقط المدلول المطابقي، فلو علم من الخارج عدم ارادة العموم من العامّ المجموعي للعلم بخروج فرد معيّن منه، صحّ التمسّك به لإثبات الحكم في الباقي، ولا تخريج فنّي لذلك إلاّ ما أشرنا إليه من أنّ الدلالة التضمّنية في العامّ المجموعي وإن كانت ارتباطية، ولكنّ مخالفة العامّ المجموعي بعدم إرادة أفراد اُخرى أيضاً منه زائداً على ذاك الفرد المقطوع بخروجه تعتبر أشد عناية، وأكثر مخالفة.

(2) يبدو ممّا نقلناه في التعليق السابق عن كتاب السيّد الهاشمي (حفظه الله) عدول اُستاذنا (رضوان الله

636

هذا، واذا كان التعارض بين السندين بأن لم يكونا قطعيين، فهناك مطلب آخر، وهو أنّه بعد سقوط السند وعدم ثبوت أصل صدور الكلام لا يبقى مجال لحجّية الدلالة الالتزامية، فإنّ الكلام كلام واحد، له صدور واحد، أمّا يثبت أولا يثبت، ولا يتعدّد بكونه ذا مدلولين: المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي(1).

هذا تمام الكلام في تعارض السندين وتعارض الظهورين.

 

التعارض بلحاظ فرد لدليل حجية السند مع فرد آخر لدليل

حجية الظهور:

المقام الثالث: في تعارض سند مع ظهور، وأعني بذلك أن يفترض أحد الدليلين قطعيّ الصدور حتّى لا يتعارضا سنداً، والدليل الآخر ظنّي الصدور، وما كان قطعيّ الصدور يفرض ظنّي الدلالة لا قطعيّها، وإلاّ لقطعنا بكذب الآخر.

ونتكلّم تحت هذا العنوان عن ثلاث صور، لكي نعرف ما هو مقتضى القاعدة فيها، ثمّ بعد ذلك نتكلّم بلحاظ ما ورد من طرح ما خالف الكتاب لنرى أنّه هل يقتضي ذلك شيئاً يخالف ما وصلنا إليه بلحاظ القواعد، أو لا، فنقول:

الصورة الاُولى: أن يفرض أنّ الدليل الظنّي السند ظهوره قرينة على التصرّف في ظهور الدليل القطعي السند، كأن يكون أخصّ منه.

وهذه الصورة قد مضى الكلام عنها في ما سبق، وحاصل الكلام فيها: أنّ سند المقطوع السند خارج طبعاً عن دائرة التعارض؛ لأنّه قطعيّ لا شكّ فيه، وظهور المظنون السند ـ أيضاً ـ خارج عن دائرة التعارض؛ لأنّه متلبّس بالقرينيّة بالنسبة لظهور الآخر. إذن فطرف المعارضة إنّما هو ظهور مقطوع السند وسند مظنون السند. ويمكن تقديم الثاني بأحد تقريبين:

1 ـ أن يقال: إنّ دليل حجّية الظهور ليس دليلا لفظيّاً، وإنّما هو دليل لبّي، وهو السيرة والارتكاز، والقدر المتيقّن منه غير هذ الظهور المبتلى بمعارض من هذا القبيل، وما ورد من


عليه) عن هذا الكلام، حيث اختار في فرض تماميّة الدلالة الالتزامية اللفظية بقاءها على الحجّية، وذلك ببيان فنّي.

(1) هذا في الحقيقة تطبيق لما مضى عن كتاب السيد الهاشمي على السند، دون الظهور.

637

روايات تحثّ على التمسّك بالكتاب وأهل بيت العصمة(عليهم السلام)إنّما مفادها أصل مرجعيّة الكتاب وأهل البيت، وحجّيتهما. وأمّا أنّه كيف يؤخذ منهما الأحكام ويستفاد منهما المراد، فهذا أمر عقلائي يستفاد بسيرة العقلاء، وليست هذه الروايات متعرّضة له وأمّا السند فالأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجّيّته لها إطلاق يشمل المقام.

2 ـ (وهو التقريب الأصحّ الأمتن) أن يقال: إنّ دليل حجّية كلّ من الظهور والسند لبّي، وهو السيرة والارتكاز، وإن وجد دليل لفظيّ فهو إرشاد وإمضاء لبناء العقلاء وارتكازهم. وعليه ففي ما نحن فيه نرجع رأساً إلى السيرة والارتكاز، ونرى أنّ السيرة والارتكاز هنا يحكمان بتقدّم الدليل الظنّي السند الذي جاء مدلوله بلسان القرينية على الدليل القطعي السند الظنّي الدلالة.

الصورة الثانية: أن يفرض أنّ الدليل الظنّي السند قطعي الدلالة، لكنّه ليس بنحو يعتبر قرينة للتصرّف في ظهور الدليل القطعي السند بالرغم من كون ظهوره ظنّياً، فإنّه ليس مجرّد كون أحد الظهورين ظنّياً والآخر قطعياً يوجب كون القطعي قرينة على التصرّف في الظنّي، فقد يكون الظني قويّاً إلى درجة لا يقبل عرفاً التأويل بواسطة ذاك القطعي، فيعدّان عرفاً متعارضين، وفي مثل هذا الفرض يمكن أن يقرّب القول بتقديم الدليل المظنون السند المقطوع الدلالة على الآخر، ويمكن أن يقرّب العكس.

أمّا تقريب تقديم مظنون السند فهو عين التقريب الأوّل لتقديم مظنون السند في الصورة الاُولى من أنّ دليل حجّية الظهور لبّي، والمتيقّن منه غير المورد، فنتمسّك بإطلاق دليل حجّيّة السند الشامل لسند هذا الدليل المظنون الصدور.

وأمّا تقريب تقديم مقطوع الصدور وهو الصحيح، فهو: أنّ دليل حجّيّة الظهور والسند هو السيرة والارتكاز، والدليل اللفظي إن كان فهو إرشاد وإمضاء، ولا سيرة وارتكاز على حجّيّة السند في المقام، ولكنّ السيرة على حجّيّة الظهور ثابتة:

أمّا عدم السيرة على حجّية السند فلما ذكرناه في محلّه من أنّ بناء العقلاء ليس على حجّيّة خبر الثقة عند وجود أمارة نوعيّة عقلائيّة على الخلاف، وهنا توجد أمارة نوعيّة على الخلاف، وهي ظهور الدليل المقطوع السند.

وأمّا ثبوت السيرة والارتكاز على حجّيّة الظهور في المقام، فلما ذكر ـ أيضاً ـ في محلّه من أنّ عمل العقلاء بالظهور ثابت مطلقاً حتّى مع الظنّ الشخصي أو النوعي بالخلاف.

الصورة الثالثة: أن يفرض أنّ الدليل المظنون الصدور يكون ظهوره ظنّياً أيضاً، وليس

638

لسانه لسان القرينة بالنسبة لظهور الآخر، بل هما ظهوران متساويان، وعندئذ فإن قلنا في الصورة الثانية بتقديم مقطوع السند؛ لأنّ ارتكاز حجّيّة الظهور شامل لظهوره، وارتكاز حجّية السند غير شامل لسند مظنون الصدور؛ لقيام أمارة نوعيّة على خلافه، فهنا ـ أيضاً ـ يأتي نفس الوجه، ونقدّم مقطوع الصدور، ولئن قدّمنا مقطوع الصدور مظنون الدلالة على مظنون الصدور مقطوع الدلالة، فكيف لا نقدمه على مظنون الصدور والدلالة معاً؟!

وأمّا إن قلنا في الصورة الثانية بتقديم مظنون الصدور، بتقريب: أنّ دليل حجّية السند لفظي وله إطلاق يشمل المقام، بخلاف دليل حجّية الظهور، فهذا البيان لا يأتي هنا؛ لأنّ الدليل المظنون الصدور هنا مظنون الدلالة أيضاً، فدليل حجّية الظهور في مقطوع الصدور معارض لمجموع دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند في مظنون الصدور، ودليل حجّيّة سنده وإن كان لفظياً لكنّ دليل حجّية ظهوره لبّي، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، أي: إنّه صار التعارض بين دليلين لبّيين، فيقال بالتساقط مثلا.

وقد تحصّل: أنّ الصحيح في هذه الصورة الثالثة تقديم مقطوع الصدور، وسقوط مظنون الصدور عن الحجّيّة؛ لقيام أمارة ظنّية نوعيّة على خلافه.

نعم، نستثني من ذلك صورة واحدة وهي ما إذا كان تعارض المظنون الصدور مع مقطوعه من قبيل العموم من وجه أو ما يشبهه.

وتوضيح ذلك: أنّه تارةً يفرض أنّ المعارض المقطوع الصدور هو أصل ظهور مظنون الصدور، واُخرى يفرض أنّ المعارض له شعبة من شعب ظهوره، بحيث لو اُسقطت تلك الشعبة لم يكن سقوطها مساوقاً لسقوط ذاك الحديث، أو تأويله تأويلا بعيداً.

فعلى الأوّل يكون الدليل المقطوع الصدور طرفاً للمعارضة مع سند المظنون الصدور، إذ لا معنى لسقوط ظهوره راساً، والتعبّد مع ذلك بسنده، ويشكّل الدليل القطعي الصدور أمارة عرفية نوعيّة على كذب الخبر المظنون الصدور؛ لاستبعاد كونه صادراً مع فرض إرادة معنىً غير عرفي منه.

وعلى الثاني يقع الدليل المقطوع الصدور طرفاً للمعارضة مع شعبة من ظهور المظنون الصدور، ولنفرضها عمومه أو إطلاقه، ولا يشكّل أمارة نوعيّة على عدم الصدور راساً؛ إذ ما أكثر صدور كلام عن الشارع لم يرد منه عمومه أو إطلاقه، حتّى قيل: ما من عامّ إلا وقد خصّ. إذن ففي هذا الفرض يكون مقتضى القاعدة هو التعارض بينهما بمثل العموم من وجه، والتساقط في مادّة الاجتماع.

هذا تمام الكلام في ما هو مقتضى القاعدة.