505

 

الكلام في مقدّمات الحكمة

إنّ البحث في مقدّمات الحكمة يشبه البحث الإنّيّ لا اللمّيّ، بمعنى أنّنا لسنا بصدد إثبات الدلالة الإطلاقيّة ـ فإنّها ثابتة بالوجدان ـ بل بصدد بيان ما هي النكتة وما هو الملاك لما نراه بالوجدان من دلالة مثل قوله: (أكرم العالم) على الإطلاق، حتّى إذا استكشفنا النكتة أو الملاك في ذلك نفعنا هذا الاستكشاف في فهم دائرة الإطلاق سعةً وضيقاً وقد يختلف ذلك باختلاف الملاكات المفترضة.

ومجموع ما ذكروه من المقدّمات أربع: اُولاها ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ورابعتها ما اختصّ به إبداعاً واختياراً المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، والمتوسّطتان ما ذكرهما جميع المحقّقين المعروفين.

المقدّمة الاُولى: أن يكون التقييد ممكناً، وهذا هو الذي ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره).

والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) يؤمن بذلك في مرحلتين: في مرحلة الثبوت، وفي مرحلة الإثبات.

أمّا المرحلة الاُولى: فقد وقع الخلاف بلحاظها في أنّ استحالة التقييد في مرحلة الثبوت هل توجب استحالة الإطلاق كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)؛ لكون التقابل بينهما عنده تقابل العدم والملكة، أو توجب ضرورة الإطلاق كما ذهب إليه السيّد الاُستاذ دامت بركاته، أو لا توجب شيئاً منهما، بل توجب ضرورة الإطلاق الذاتيّ؛ لكون تقابله مع التقييد تقابل التناقض، أي: أنّ السعة الثابتة في الإطلاق الذاتيّ والمحفوظة في الإطلاق الحدّيّ أيضاً تكون متناقضة للتقييد فتتعيّن باستحالته.

506

وقد مضى بسط الكلام في ذلك في بحث التعبّديّ والتوصّليّ ومضى هناك ما ذكره المحقّق النائينيّ من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة مع ردّه، ولم يكن هذا هو مقصودنا في المقام.

وأمّا المرحلة الثانية: فهي المقصودة لنا هنا فنقول: لا إشكال ـ كما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ في أنّ من شرائط استفادة الإطلاق إثباتاً كون التقييد في عالم الإثبات ممكناً حتّى يقال: إنّه لو كان هناك قيدٌ لبيّنه فنستكشف من عدم بيانه انتفاء القيد، وأمّا لو فرض عدم إمكان التقييد في عالم الإثبات فمن الواضح أنّ عدم بيانه عندئذ لا يدلّ على عدم القيد؛ إذ المفروض استحالة بيانه، فكيف يقال: إنّه لو كان هناك قيد لبيّنه؟!

ويمثّل لذلك بقصد الامتثال وعدمه وبالعلم والجهل لكونهما من الانقسامات اللاحقة للخطاب، فلا يمكن تقييد الخطاب بها وإنّما يمكن تقييد الخطاب ببعض الأقسام فيما إذا كان الانقسام ثابتاً في المرتبة السابقة على الخطاب لا فيما إذا كان الانقسام إنّما يتحقّق بالنظر إلى الخطاب، كالعلم بالخطاب وعدمه وامتثال الخطاب وعدمه.

وتحقيق ذلك صحّةً وبطلاناً موكول إلى محلّه، وإنّما كان المقصود هنا بيان الكبرى، وهي: أنّه مع فرض عدم إمكان التقييد إثباتاً لا يتمّ الإطلاق في مقام الإثبات. نعم، الكشف عن الإطلاق الثبوتيّ فيما إذا كان التقييد غير ممكن حتّى في عالم الثبوت من نفس عدم إمكان التقييد مطلب آخر غير مربوط بما نحن فيه.

المقدّمة الثانية: أن يكون المولى في مقام البيان، والمشهور المرتكز في الأذهان في معنى هذه المقدمّة هو كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ.

ولكنّ المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) عدل عن هذا التفسير إلى التفسير بكونه في مقام

507

بيان تمام مراده قانوناً وحجّةً، أي: في مقام بيان أنّ الحجّة على ما ذكره هو تمام مراده الجدّيّ ليأخذ بها العبد مهما شكّ في قيد ولم تكن حجّة أقوى عليه، بتوهّم أنّه لو كان معنى هذه المقدّمة كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ حقيقة لزم عدم تماميّة الإطلاق وانتفاؤه رأساً بعد الظفر بتقييد واحد؛ لأنّه يستكشف بذلك أنّه لم يكن في مقام بيان تمام المراد فتنثلم بذلك هذه المقدّمة، وهذا بخلاف تفسير هذه المقدّمة بأنّ المولى كان في مقام بيان القاعدة والقانون، أي: أنّه ذكر الكلام الكذائيّ بلا قيد بداعي كونه حجّة للعبد عند الشكّ في القيد، وهذا ـ كما ترى ـ لا ينثلم بورود القيد.

وقد ذكر(رحمه الله) عين ما ذكره هنا تفسيراً لهذه المقدّمة في باب العمومات أيضاً، فقال: إنّ المولى يأتي بالعموم ليكون قاعدة وقانوناً للعبد يرجع إليها عند الشكّ في التخصيص.

أقول: إنّ كلاًّ ممّا اختاره من التفسير لهذه المقدّمة وما أورده على التفسير الأوّل غير صحيح.

أمّا ما ذكره من التفسير: فهذا إنّما يكون معقولاً في باب العموم لا في باب الإطلاق، توضيح ذلك: أنّه في باب العموم يكون الظهور الوضعيّ هو الحجّة، والظهور الوضعيّ لأداة العموم في العموم ثابت في الرتبة السابقة على بيان المولى، فقد يقال: إنّ المولى أتى بأداة العموم بداعي بيان الحجّة والقانون للعبد. وأمّا في باب الإطلاق فليس هناك ظهور وضعيّ حتّى يقال: إنّ المولى أتى به بداعي بيان الحجّة والقانون للعبد، وإنّما الحجّة للعبد هو نفس الظهور الإطلاقيّ الذي هو في طول كون المولى في مقام البيان، وليس هناك شيء في الرتبة السابقة حتّى يقال: إنّ المولى في مقام بيانه بداعي كونه حجّة وقانوناً للعبد عدا المراد الجدّيّ،

508

فالصحيح تفسير هذه المقدمّة بكون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ كما هو المشهور.

وأمّا ما أورده على التفسير المشهور ـ من لزوم انثلام هذه المقدّمة بمجرّد ورود قيد فلا يتمّ بعد ذلك الإطلاق رأساً ـ: فهو إنّما يتمّ لو قلنا بعدم انحلاليّة الظهورات، وليس الأمر كذلك فإنّ الصحيح انحلاليّتها، ولولا ذلك لم يكن العامّ المخصّص بالمنفصل أيضاً حجّة في الباقي.

ثمّ إنّ لاقتناص الإطلاق من هذه المقدّمة مسلكين:

المسلك الأوّل: ما نسمّيه بالمسلك البرهانيّ، وهو: أنّه بعد أن فرض أنّ غرض المولى هو بيان تمام المراد الجدّيّ فلا محالة يثبت عدم دخل قيد لم يذكره المولى، وذلك ببرهان قبح نقض الغرض أو استحالته، والتحقيق هو استحالته.

وهذا المسلك إنّما يتمّ على مبنيين:

الأوّل: المبنى المختار، وهو: أنّه يكفي في توسعة دائرة الحكم ـ بحسب الأفراد ـ الإطلاق الذاتيّ بمعنى السعة الناشئة من نفس الحدود الذاتيّة، ولا نحتاج إلى إثبات الإطلاق الحدّيّ الذي هو في مقابل التقييد.

وبكلمة اُخرى: يكفي في توسعة الحكم كون تمام الموضوع الطبيعة المهملة بحدّها الذاتيّ، فالذي نحتاج إلى إثباته في هذا المقام إنّما هو عدم القيد، ويكفي في إثباته ما هو المفروض من كون المولى في مقام البيان الثابت بالأصل العقلائيّ؛ لما عرفت من استحالة نقض الغرض؛ فإنّه لو كان تمام الموضوع هو الطبيعة المهملة فقد بيّنه في كلامه؛ إذ اللفظ موضوع للطبيعة المهملة فلم يتحقّق نقض للغرض، ولو كان هناك جزء أو قيد للموضوع لم يبيّنه فقد حصل نقض الغرض.

والثاني: مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو: أنّ الإطلاق الذي في مقابل التقييد

509

ليس عبارة عن التقيّد بعدم القيد بل عبارة عن فقدان القيد، فالمطلق هو واقع فاقد القيد لا المقيّد بفقدان القيد، فإنّ النسبة على هذا المبنى بين المطلق والمقيّد هو النسبة بين الأقلّ والأكثر، وقد بيّن الأقلّ ولم يبيّن الأكثر، فإن كان تمام مراده هو الأقلّ لم يحصل نقض الغرض، وإن كان هو الأكثر فقد حصل نقض الغرض.

المسلك الثاني: ما نسمّيه بالمسلك العرفيّ، وهذا هو المسلك الذي يجب سلوكه على مبنى المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ ومن حذا حذوهما: من أنّ الذي نحتاج إلى إثباته بمقدّمات الحكمة هو الإطلاق الحدّيّ المعبّر عنه في كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بالإطلاق اللحاظيّ، وأنّ الإطلاق اللحاظيّ بنفسه قيد وليس عبارة عن فقدان القيد كما ذكره المحقّق العراقيّ، فعلى هذا المبنى لا يصحّ سلوك المسلك الأوّل من الاقتصار على نفس كون المولى في مقام البيان، وذلك للقطع بأنّ المولى قد أهمل ذكر قيد وهو إمّا الإطلاق الحدّيّ أو قيد آخر؛ لأنّ اللفظ موضوع للجامع بين المطلق والمقيّد، وتعيين أحد القيدين في قبال الآخر بصرف كون المولى في مقام البيان غير ممكن.

فلابدّ من ضمّ جزء آخر إلى هذه المقدّمة، وهو دعوى ظهور عدم القيد إمّا وضعاً أو سياقاً في الإطلاق الحدّيّ.

وقد يمكن تعليل دعوى ظهور عدم القيد في الإطلاق الحدّيّ سياقاً بدعوى أنّ قيد الإطلاق في نظر العرف أخفّ مؤونة من التقييد، فالإطلاق في نظر العرف في قبال التقييد كلا قيد، فتغلب إرادة الإطلاق عند عدم ذكر القيد.

وبعد هذا يصحّ التمسّك بتلك المقدّمة بأن يقال: لو كان مراده هو المطلق الحدّيّ فقد بيّنه ولم يلزم نقض الغرض؛ لأنّ نفس عدم القيد دالّ على الإطلاق الحدّيّ إمّا بظهور سياقيّ لأجل الغلبة أو بالوضع، ولا بدع في ذلك، فإنّه كما يوضع اللفظ

510

لشيء كذلك يمكن وضع عدم ذكر الأمر الكذائيّ لشيء.

ولكن إذا صار القرار على ضمّ هذا الجزء الآخر إلى هذه المقدّمة فكما يمكن دعوى الاحتياج إلى هذه المقدّمة كذلك يمكن دعوى الاستغناء عنها والاكتفاء بهذا الجزء الأخير؛ وذلك لما عرفت من أنّ هذا البحث يشبه البحث الإنّيّ لا اللمّيّ، فنحن نستكشف ـ ممّا نراه وجداناً من تماميّة الإطلاق ما لم ينصب المولى قرينة على القيد أو الإهمال ـ أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون عدم ذكر القيد في فرض كون المولى في مقام البيان ظاهراً في الإطلاق الحدّيّ، وعلى هذا فتلك المقدّمة ليست مستغنى عنها بل يجب أن يقال: إنّه بما أنّ المولى في مقام البيان وقد بيّن الإطلاق بعدم القيد فالإطلاق هو المتعيّن، ونستطيع أن نقول: لو كان المراد هو المقيّد لزم نقض الغرض؛ لعدم بيانه مع أنّه في مقام البيان، وعلى هذا الوجه فنحن نحتاج في موارد الشكّ في كونه في مقام البيان إلى أصالة كونه في مقام البيان كما هو الحال على المسلك الأوّل.

إلّا أنّنا على هذا لا نحتاج إلى قاعدة نقض الغرض وإن كانت صادقة فيما نحن فيه كما ذكرنا، ويكفينا أصل هذه المقدّمة وهو فرض أنّ المولى في مقام البيان زائداً أنّ السكوت في فرض كونه في مقام البيان ظاهر في إرادة الإطلاق الحدّيّ.

الثاني: أن يكون نفس عدم ذكر القيد عند عدم نصب قرينة على الإهمال ظاهراً في الإطلاق الحدّيّ. وعلى هذا فلا نحتاج إلى إحراز كون المولى في مقام البيان بأصل عقلائيّ أو غيره أصلاً، بل نفس عدم ذكر القيد عند عدم نصب قرينة على الإهمال يثبت المطلوب وهو الإطلاق.

وعلى أيّ حال فضمّ هذا الجزء الأخير غير وارد في كلماتهم، والاكتفاء بمجرّد أنّ المولى في مقام البيان لا يتمّ إلّا على مبنانا ومبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره).

511

المقدّمة الثالثة: عدم التقييد، واشتراطه واضح لا غبار عليه.

إلّا أنّه يقع الكلام في أنّ ما هو المشترط في ظهور الكلام في الإطلاق هل هو عدم التقييد المتّصل أو عدم التقييد ولو منفصلاً؟

وفائدة القول بالأوّل: جواز العمل بالإطلاق بمجرّد ورود الكلام بلا قيد وإن احتمل أنّه سوف يرد القيد بعد ذلك، بخلاف ما لو قلنا بالثاني.

وفائدة القول الثاني: أنّه لو ورد مقيّد منفصلاً كان رافعاً لموضوع الإطلاق ولم تقع معارضة بينهما، بخلاف القول الأوّل.

وحاول السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ الجمع بين الفائدتين فقال: إنّ ما هو المشترط في الإطلاق هو عدم التقييد ماداميّاً، بمعنى أنّه في أيّ وقت اُريد التمسّك بالإطلاق فشرطه عدم ورود القيد إلى ذاك الوقت، فما لم يرد القيد يجوز التمسّك بالإطلاق، ومهما ورد القيد كان رافعاً لموضوع الإطلاق(1).

ويرد عليه: أنّه إن كان مراده اشتراط عدم ورود القيد ماداميّاً في حجّيّة الإطلاق لا في نفس الظهور الإطلاقيّ فهذا معناه كون المقيّد المنفصل معارضاً للإطلاق لا رافعاً لموضوعه.

وإن كان مراده اشتراط ذلك في نفس الظهور الإطلاقيّ ورد عليه: أنّ الظهور الإطلاقيّ ليس أمراً جزافيّاً بل له ملاك وضابط من كون المولى في مقام



(1) لم أجد شيئاً من هذا القبيل فيما هو المطبوع من كلمات السيّد الخوئيّ(رحمه الله) عدا ما هو محتمل من عبارة الفيّاض في المحاضرات، ج 5، ص 369 ـ 370 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم، أمّا الدراسات فصريحة في نفي حجّيّة المطلق لدى المقيّد المنفصل لا نفي الإطلاق. راجع ج 2 من الدراسات، ص 339 بحسب الطبعة التي نشرها مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة.

512

البيان وغير ذلك، وعلى هذا نسأل أنّه قبل ورود القيد المفروض عنده تماميّةالإطلاق هل كان هناك لما ثبت من الإطلاق في ذلك الزمان شرط متأخّر ـ وهو عبارة عن عدم ورود القيد بعد هذا ـ أو لم يكن هناك شرط متأخّر؟ ولا يتصوّر شقّ ثالث؛ لأنّ الأمر دائر بين النفي والإثبات، فإن قلنا بالأوّل لزم عدم جواز التمسّك بالإطلاق عند احتمال ورود قيد بعد ذلك؛ لعدم العلم بثبوت الشرط المتأخّر في ظرفه، وإن قلنا بالثاني فقد تمّ ـ لا محالة ـ ظهور الكلام في الإطلاق تكويناً ولا يعقل إرتفاعه بعد ذلك بورود قيد، فإنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه.

فظهر: أنّه لا يمكن التحفّظ على كلتا الفائدتين بل لابدّ إمّا من الالتزام بالقول الأوّل وتترتّب عليه الفائدة الاُولى، أو الالتزام بالقول الثاني وتترتّب عليه الفائدة الثانية، فيقع الكلام فيما هو الحقّ منهما.

وتحقيق الكلام في ذلك يختلف باختلاف المسلكين في المقدّمة الثانية:

أمّا بناءً على المسلك البرهانيّ: فكون الشرط عدم التقييد المتّصل أو مطلقاً متفرّع على كون الأصل العقلائيّ في المقدّمة الثانية هل هو أصالة كون المولى في مقام البيان بنفس هذا الخطاب، أو أصالة كونه في مقام البيان مطلقاً ولو بخطاب آخر؟ فعلى الأوّل يكفي في ثبوت الإطلاق عدم التقييد المتّصل، وعلى الثاني لا يثبت الإطلاق إلّا مع عدم التقييد مطلقاً.

ونحن نقول: إنّ لدينا أمرين وجدانيّين:

أحدهما: أنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان تكون بلحاظ هذا الخطاب لا مطلق الخطاب، فلو بيّن أحد قيداً لموضوع كلامه بعد سنة مثلاً واعتذر عمّا قد

513

يكون بدا من مخالفته لأصالة كونه في مقام البيان: بأ نّي وإن كنت في مقام البيانلكن البيان أعمّ من المتّصل والمنفصل، لعُدّ ذلك من المضحكات عقلائيّاً.

والثاني: تماميّة الإطلاق منذ البدء رغم احتمال ورود القيد بعد ذلك.

وهذان أمران متلازمان يمكن جعل الأوّل دليلاً لمّيّاً على الثاني، كما يمكن جعل الثاني دليلاً إنّيّاً على الأوّل.

وهذا نظير أنّ أصل بحث الإطلاق يمكن جعله لمّيّاً بأن يستدلّ عليه بما هو وجدانيّ من أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، ويمكن جعله إنّيّاً بأن يقال: إنّ وجدانيّة تماميّة الإطلاق دليل على ثبوت أصل عقلائيّ وهو أصالة كون المولى في مقام البيان.

وأمّا بناءً على المسلك العرفيّ: فإن قلنا بعدم الاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان فلا يمكن إثبات كفاية عدم القيد المتّصل من باب اللمّ، فإنّ كفاية ذلك وعدمها متفرّعة على أنّ ما ادّعيت دلالته وضعاً أو سياقاً على الإطلاق الحدّيّ هل هو عدم القيد المتّصل، أو عدم القيد مطلقاً؟ فعلى الأوّل يتّجه الأوّل، وعلى الثاني يتّجه الثاني، ولا معيِّنَ لأحدهما في قبال الآخر لِمّاً. نعم، المتعيّن إنّاً هو الأوّل؛ لما نراه وجداناً من صحّة التمسّك بالإطلاق قبل ورود القيد بلا حاجة إلى أن يصبر حتّى يفهم أنّه هل يرد بعد هذا قيد أو لا.

وإن قلنا بالاحتياج إلى أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، فإن فسّرنا هذا الأصل بأصالة كونه في مقام البيان بنفس هذا الخطاب ـ كما عرفت أنّه المتعيّن لِمّاً ـ تعيّن كون الدالّ على الإطلاق الحدّيّ هو عدم القيد المتّصل، وإن فسّرناه بأصالة كونه في مقام البيان بمطلق الخطاب ولو منفصلاً جاء ما مضى من الاحتمالين وكان الأوّل متعيّناً إنّاً.

514

المقدّمة الرابعة: ما اختصّ به المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وهو عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، وأمّا وجود القدر المتيقّن من الخارج فلا يضرّ، مثلاً لو قال المولى: (أكرم العالم) وكان مورد كلامه العالم العادل لم يصحّ التمسّك بالإطلاق لإثبات وجوب إكرام غير العادل، وأمّا لو لم يكن مورد كلامه ذلك لكنّا لا نحتمل أن يكون العالم الفاسق واجب الإكرام دون العالم العادل فهذا غير مضرّ بالإطلاق. هذا هو مدّعى المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)(1).

ويمكن أن يدّعي أحد مضرّيّة مطلق وجود القدر المتيقّن بالإطلاق ولو خارجيّاً.

وتنقيح الكلام في ذلك أيضاً مترتّب على الكلام في المقدّمة الثانية:

فإن سلكنا في تلك المقدّمة المسلك البرهانيّ ـ كما سلكه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)وإن لم يكن من حقّه ذلك ـ: فعندئذ ينبغي أن يتكلّم في معنى أصالة كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد:

فتارة: تفسّر بأنّ الأصل كونه في مقام بيان ما هو موضوع حكمه في عالم الثبوت، وعلى هذا لا إشكال في عدم اشتراط المقدّمة الرابعة، فإنّه لو قال: (أكرم العالم) ولم يكن موضوع حكمه العالم بل العالم العادل كان ذلك خلاف هذا الأصل؛ لأنّه لم يبيّن موضوع حكمه بل جزء موضوعه ولو فرض كون المتيقّن في مقام التخاطب هو العالم العادل.

واُخرى: تفسّر بأنّ الأصل كونه في مقام هداية المكلّف إلى كلّ فرد يريد ترتّب



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 384 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

515

الحكم بالنسبة إليه ولو بنحو لا يفهم ما هو موضوع حكمه ثبوتاً، بأن يأتي في مقام الإثبات بما يهدي المكلّف إلى الأفراد المقصود إكرامهم.

والظاهر: أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) فهم من أصالة كونه في مقام البيان المعنى الثاني، وعليه فيمكن توجيه مدّعاه من اشتراط المقدّمة الرابعة بما ذكره في الكفاية من أنّ الأصل إنّما هو كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا كونه في هذا المقام وفي مقام بيان أنّه التمام، وعلى هذا فلو قال: (أكرم العالم) وكان مقصوده ثبوتاً خصوص العالم العادل وكان هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب لم يلزم نقض الغرض؛ لأنّه قد هدى المكلّف إلى تمام الأفراد المقصود إكرامهم وهم العلماء العدول. نعم، لم يفهم المكلّف أنّ هذا تمام المراد ويحتمل أن يكون غير العدول أيضاً مراداً، لكنّا فرضنا أنّه لم يثبت كون المولى في مقام بيان أنّه تمام المراد. نعم، لو ثبت كون المولى في مقام بيان تمام مراده وأنّه التمام ثبت الإطلاق ولو فرض وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب. هذا ما يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره).

ونقول ـ بناءً على تماميّته ـ: إنّ كون المضرّ بالإطلاق هل هو وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب أو وجوده مطلقاً متفرّع على أنّه هل الأصل كون المولى في مقام بيان تمام المراد بنفس ذلك الخطاب، أو كونه في مقام البيان مطلقاً ولو منفصلاً، فعلى الأوّل يثبت الأوّل، وعلى الثاني يثبت الثاني.

وعلى أيّ حال فيرد على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): أنّه لو فسّرنا ذاك الأصل العقلائيّ بأصالة كونه في مقام تفهيم العبد كلّ فرد أراد تطبيق الحكم عليه دون أصالة كونه في مقام بيان تمام موضوع حكمه لزم عدم تماميّة الإطلاق حتّى مع فرض عدم وجود قدر متيقّن، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم العالم) ولم يكن

516

العدول قدراً متيقّناً فكيف نفهم أنّ الفسّاق أيضاً داخلون في المراد مادام لم يكن بصدد بيان أنّ العالم هو تمام موضوع الحكم؟ وكيف نهتدي إلى أنّ الحكم سرى إلى جميع أفراد العالم عن غير طريق أنّ العالم اُخذ موضوعاً فانياً في أفراده؟!

ومن هنا انقدح إشكال آخر على المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ ما افترضه من تماميّة الإطلاق مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لو كان في مقام بيان أنّه التمام ـ إذ لولا الإطلاق لأخلّ بهذا الغرض ـ غير صحيح، بل لا يتمّ الإطلاق حتّى لو كان بصدد بيان أنّه التمام، فإنّه لو قال مثلاً: (أكرم العالم) وكان في مقام تفهيم كلّ فرد أراد سريان الحكم إليه وفي مقام بيان أنّه التمام ولم يكن في مقام بيان تمام الموضوع لم يمكن لنا تشخيص كون العالم الفاسق أيضاً مقصوداً إكرامه، فإنّنا لا نعرف ذلك إلّا بأن نعرف أنّ العالم تمام الموضوع، ولا نعرف ذلك؛ لعدم كونه في مقام بيان تمام الموضوع، وإذا ضممنا ذلك إلى العلم بأنّ المولى في مقام بيان تمام الأفراد المراد إكرامهم حصل العلم بأنّ العالم الفاسق غير مراد؛ لأنّه لم يبيّنه، فحصل العلم بأنّ تمام المراد هو أفراد العالم العادل، أي: ثبت التقييد لا الإطلاق(1).

 


(1) والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بعد أن ذكر في الكفاية أنّه لو كان بصدد بيان أنّه التمام تمّ الإطلاق أمر بالفهم، ثمّ فسّر هو في تعليقه على الكفاية أمره بالفهم بأنّه إشارة إلى أنّه لو كان بصدد بيان أنّه التمام ما أخلّ بذلك، فإنّه بعدم نصب قرينة على إرادة تمام أفراد العالم يفهم أنّ المتيقّن تمام مراده؛ إذ لولاه لكان عليه نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد وإلّا فقد أخلّ بغرضه، إذن فالمفهوم هو التقييد لا الإطلاق.

517

وإن سلكنا في تلك المقدّمة المسلك العرفيّ ـ وهذا هو الذي كان ينبغي للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أن يسلكه ـ: فيجب أن نرى ما الذي ندّعي كونه دالّاً وضعاً أو سياقاً على الإطلاق، هل هو عدم التقييد عند عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيثبت ما قاله الآخوند، أو هو عدم التقييد عند عدم وجود القدر المتيقّن مطلقاً، فيثبت اشتراط عدم القدر المتيقّن مطلقاً أو مطلق عدم التقييد فينتفي هذا الشرط؟

ولو آمنّا في المسلك العرفيّ بالحاجة إلى أصالة كون المولى في مقام البيان بنفس ذلك الخطاب، فقلنا: إنّ عدم التقييد إنّما يدلّ وضعاً أو سياقاً على إرادة الإطلاق لو كان المتكلّم في مقام البيان بنفس ذلك الخطاب لا منفصلاً تعيّن كون اشتراط عدم القدر المتيقّن ـ لو قلنا به ـ مختصّاً بمقام التخاطب(1).

 


أقول: هذا الكلام توجيهه هو ما نقلناه في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

ثمّ قال صاحب الكفاية(رحمه الله) في تعليقته على كفايته: نعم، لا نفهم التقييد ولا الإطلاق فيما لو فرضنا أنّ المولى لم يكن إلّا بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ولم يكن بصدد بيان أنّ غيره مراد أو ليس بمراد، ثمّ قال: فافهم، فإنّه لا يخلو من دقّة.

أقول: وحينما أخبرتُ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بأنّ إشكالكم هذا قد بيّنه الآخوند على نفسه في تعليقه على الكفاية قال(رحمه الله): الحمد لله على الوفاق.

(1) وطبعاً المختار ـ بناءً على فرض ضرورة إثبات الإطلاق الحدّيّ ـ هو: أنّ الإطلاق الحدّيّ بما أنّه في مقابل التقييد يكون أخفّ قيداً، فكأنّه لا يعتبر قيداً أصبح عدم التقييد ـ بعد أصالة كون المتكلّم في مقام البيان بنفس هذا الخطاب ـ دالّاً سياقيّاً على الإطلاق بلا أثر لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب أو غير مقام التخاطب وعدمه.

518

 

الانصراف المانع عن الإطلاق

لا إشكال في أنّ الانصراف المستقرّ يمنع عن الإطلاق، فهل هذا يعني انهدام إحدى ما مضى من مقدّمات الحكمة، أو أنّ عدم الانصراف بنفسه مقدّمة مستقلّة من مقدّمات الحكمة؟

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ الانصراف المانع عن الإطلاق يتصوّر على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون الانصراف ثابتاً في دائرة المدلول التصديقيّ والمراد الجدّيّ، وذلك كانصراف ما لا يؤكل لحمه في قوله: (تحرم الصلاة فيما لا يؤكل لحمه) عن شعر الإنسان، فإنّ الظاهر أنّه ليس ذلك بمعنى استعمال الكلمة الموضوعة للجامع في خصوص بعض الأفراد مجازاً، بل بمعنى كون مراده الجدّيّ غير شامل لشعر الإنسان.

القسم الثاني: أن يكون الانصراف ثابتاً في دائرة المراد الاستعماليّ، بأن ينصرف اللفظ في مفاده الاستعماليّ إلى قسم خاصّ من المدلول اللغويّ الأصليّ كما لو صار منقولاً من معناه الأصليّ، كما قد يكون كذلك في كلمة (الدابّة) المنصرفة في بعض الأوساط إلى الحمار بعد أن كانت موضوعة لمطلق ما يدبّ على الأرض مثلاً.

وهذان القسمان من الانصراف لا إشكال في مانعيّتهما عن انعقاد الإطلاق؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة هي عدم القرينة ونفس هذا الانصراف قرينة، فانعدمت بذلك المقدّمة الثالثة.

ولا فرق في ذلك بين ما مضى من المسلك البرهانيّ والمسلك العرفيّ.

519

القسم الثالث: أن يكون الانصراف بنحو يعدّ اللفظ مشتركاً لفظيّاً بين المعنى الأوّل والثاني أو يكون مجازاً مشهوراً ـ بناءً على أنّ المجاز المشهور يعارض الحقيقة ويجعل اللفظ مجملاً ـ فليست المسألة مسألة دلالة الانصراف على التقييد حتّى يقال بوضوح ـ كما مضى في القسمين الأوّلين ـ: إنّه انثلمت بذلك مقدّمة عدم القرينة.

ولعلّ من هذا القسم كلمة (العالم) في بعض الأوساط بأن يدّعى أنّه في خصوص الفقيه مجاز مشهور أو حقيقة بنحو الاشتراك اللفظيّ بينه وبين مطلق العالم، فهل هذا القسم من الانصراف يمنع عن الإطلاق أو لا؟

طرز البيان في ذلك يختلف باختلاف ما مضى من المسلكين في المقدّمة الثانية:

أمّا على المسلك البرهانيّ: فالكلام هنا يتفرّع على أنّه هل الأصل العقلائيّ يقتضي كون المتكلّم في مقام البيان بنحو يفهم المخاطب تمام المراد، وعليه فما لم يفهمه من القيد ـ ولو لأجل الإجمال ـ يكون بمقتضى الأصل خارجاً عن مراده، أو أنّه يقتضي كون المتكلّم في مقام البيان بأن يأتي بما يدلّ على مراده ولو بأحد معنييه بحيث يحصل في الكلام إجمال لوجود معنى آخر؟

فعلى الأوّل: لا يضرّ هذا القسم من الانصراف بالإطلاق؛ إذ المخاطب لا يفهم من الكلام القيد، فيلزم من وجوده في الواقع نقض الغرض فيكون منفيّاً.

وعلى الثاني: لا يتمّ الإطلاق؛ لأنّ المفروض أنّه لو كان القيد داخلاً في مراده كان هذا النحو من البيان له كافياً في عدم مخالفة ذلك الأصل العقلائيّ فلا يتأتّى قانون نقض الغرض.

وبما أنّ الحقّ هو الثاني فالتحقيق مضرّيّة هذا القسم من الانصراف بالإطلاق.

520

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ اكتناف الكلام بما يصلح للقرينيّة يكون كاكتنافه بالقرينة الفعليّة في عدم انعقاد الإطلاق معه.

وأمّا على المسلك العرفيّ: فالكلام هنا يتفرّع على أنّ الدالّ على الإطلاق هل هو عدم ما يكون قرينة بالفعل، أو عدم ما يصلح للقرينيّة بلا فرق بين ما يكون قرينة بالفعل وما لا يكون كذلك؟ فعلى الأوّل يتمّ الإطلاق بخلافه على الثاني.

ويتعيّن الأوّل لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بنحو يفهم المخاطب تمام المراد ولا يكون الكلام مجملاً في إفادته لتمام المراد(1).

 

تنبيهان

وفي نهاية بحث مقدّمات الحكمة نذكر تنبيهين:

 

الكلام في استفادة بدليّة الإطلاق واستغراقيّـته من مقدّمات الحكمة:

التنبيه الأوّل: يستفاد من كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تثبت ذات الإطلاق، وأمّا بدليّته واستغراقيّته فلابدّ من أن تستفاد بدالّ آخر(2)،



(1) ويتعيّن الثاني لو قلنا في المسلك العرفيّ بالاحتياج إلى أصالة كون المولى في مقام البيان، وفسّرناها بأنّ الأصل كونه في مقام البيان بأن يأتي بما يدلّ على مراده ولو بأحد معنييه، أي: بما يصلح للقرينيّة، وهذا هو الحقّ بعد فرض الإيمان بالمسلك العرفيّ.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 395 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

521

وتبعه على ذلك السيّد الاُستاذ(1) دامت بركاته، وكأنّ متابعته له ناشئة من خلطهبين البدليّة والاستغراقيّة في باب العموم والبدليّة والاستغراقيّة في باب الإطلاق.

توضيح ذلك: أنّ البدليّة والاستغراقيّة في كلّ من بابي العموم والإطلاق يختلفان عنهما في الباب الآخر، فإنّه في باب العموم تلحظ أفراد الطبيعة وحصصها، فتارة يحكم على جميع تلك الأفراد بحكم وهو الاستغراقيّة، واُخرى يحكم على فرد واحد منها وهو البدليّة. وأمّا في باب الإطلاق فإنّما تلحظ ذات الطبيعة لا الأفراد والحصص ويحكم عليها بحكم، كما لو قال: (أكرم العالم)، فالموضوع في هذا المثال للحكم ـ الذي هو من الاُمور النفسانيّة ـ في عالم الجدّ هو مهيّة العالم، وهذه المهيّة تارة: يفرض لحاظها بما هي، لا بما هي منطبقة على ما في الخارج وفانية في واقعها، وعندئذ لا يمكن الحكم عليها بوجوب الإكرام، وأيّ حكم حكم به عليها لا يعقل سريانه إلى الأفراد لا حقيقة ولا مجازاً، واُخرى: يفرض لحاظها بما هي فانية في واقعها بالمعنى الصحيح من الفناء الذي سيظهر إن شاء الله، وعندئذ يسري الحكم إلى الأفراد لكن لا حقيقة؛ لما عرفت من أنّ الحكم من الاُمور النفسانيّة القائمة في عالم النفس، وما يكون كذلك يستحيل عروضه على ما في الخارج كما برهن عليه في محلّه، بل مجازاً بمعنى أنّ هذا الفناء يحكم عليه بحكم السراية ويجعل بمنزلتها، وحيث إنّ جميع أفراد العالم نسبتها إلى هذا الفناء على حدّ سواء فلا محالة يكون نسبتها إلى السراية على حدّ سواء.

ومن هنا يظهر: أنّ الاستغراقيّة في باب الموضوعات تستفاد من نفس الإطلاق



(1) راجع محاضرات الفيّاض، ج 5، ص 385 ـ 386 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

522

ومقدّمات الحكمة ولا نحتاج في إثباتها إلى دالٍّ آخر، وأمّا البدليّة فبما أنّها ـ على ما ظهر من هذا الكلام ـ تكون خلاف طبع الإطلاق في باب الموضوعات يستحيل استفادتها من نفس مقدّمات الحكمة بل تحتاج إلى دالّ آخر، وتنوين التنكير في لغة العرب وضعت لتقييد المهيّة بقيد الوحدة، بحيث يكون قوله: (أكرم عالماً) في قوّة قوله: (يجب إكرام عالم واحد فقط)، وهذا التقييد يصبح مانعاً عن سريان الحكم إلى الأفراد ويقف على الطبيعة، ويكون إكرام كلّ فرد مصداقاً للواجب لا واجباً كما في القسم الأوّل، ويكفي في امتثال هذا الحكم إكرام فرد واحد. هذا كلّه بالنسبة إلى موضوع الحكم.

وأمّا بالنسبة إلى متعلّق الحكم: فالاستغراقيّة تستحيل استفادتها من مقدّمات الحكمة بل لابدّ لها من دالّ آخر؛ وذلك لأنّ الاستغراقيّة ـ على ما عرفت ـ لها معنيان: استغراق عموميّ وهو كون الحكم ابتداءً على الحصص بنحو الشمول، واستغراق إطلاقيّ وهو سريان الحكم من الطبيعة إلى الأفراد.

أمّا الاستغراقيّة بالمعنى الأوّل: ففي باب المتعلّقات بمكان من الإمكان، لكن ليست وظيفة مقدّمات الحكمة إثبات الاستغراقيّة بذلك المعنى وإنّما هي تثبت الاستغراقيّة بالمعنى الآخر.

وأمّا الاستغراقيّة بالمعنى الثاني ـ أعني: السريان ـ: ففي باب المتعلّقات محال، فإنّه لو قال مثلاً: (صلّ) وفرضنا سراية الحكم من المتعلّق إلى الأفراد، فإن كان المراد من ذلك سريانه إلى الأفراد في الرتبة المتأخّرة عن وجودها لزم تحصيل الحاصل، وإن كان المراد من ذلك سريانه إلى الحصص الذهنيّة المقدّرة الوجود في الخارج فتلك الحصص ليست إلّا مفاهيم كأصل مفهوم المهيّة، ولا معنى لسراية الحكم من مفهوم إلى مفهوم، فإنّ السراية تكون بملاك الفناء، ولا معنى لفناء مفهوم

523

في مفهوم، وإنّما يفني المفهوم في مصداقه والعنوان في معنونه، وليس فرض فناء أصل مفهوم الطبيعة في مفهوم الحصص كفرض فناء مفهوم الصلاة في مفهوم الصوم.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ فرد المتعلّق لا يوجد في الخارج في ظرف فعليّة الحكم حتّى يسري الحكم إليه، وإنّما يكون ظرف وجوده هو ظرف سقوط الحكم بالامتثال، وهذا بخلاف الموضوع، فإنّ ظرف وجود الموضوع في الخارج هو ظرف فعليّة الحكم فيسري الحكم إليه.

فظهر: أنّ مقتضى طبع الإطلاق في باب المتعلّقات هو البدليّة وإنّما تستفاد الاستغراقيّة من دالّ آخر غير مقدّمات الحكمة، وفي باب الموضوعات بالعكس. هذا.

ولا يخفى أنّ مقصودنا بالاستغراقيّة انحلال الحكم بحسب الأفراد إلى أحكام عديدة وبالبدليّة عدم انحلاله إليها، لا ما اصطلح عليه الأصحاب، فإنّهم يطلقون الاستغراقيّة على كون الحكم بحيث يلزم في امتثاله تطبيق الامتثال على أفراد عديدة، والبدليّة على كون الحكم بحيث يكفي في امتثاله فرد واحد.

وعلى أيّ حال فلا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) ذهب ـ كما قلنا آنفاً ـ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى أنّ كلاًّ من البدليّة والاستغراقيّة يجب أن يستفاد بدالّ آخر غير مقدّمات الحكمة. وهذا الكلام تامّ على مبناه في تفسير استغراقيّة المطلق وبدليّته، فإنّه يقول: إنّ المهيّة تارة تلحظ فانية في جميع الأفراد، واُخرى تلحظ فانية في فرد واحد، ومعنى الاستغراق هو لحاظها فانية في الجميع ومعنى البدليّة لحاظها فانية في فرد واحد. ومن الواضح على هذا المبنى أنّ الاستغراقيّة والبدليّة قيد زائد

524

ـ وهو لحاظ الفناء في الكلّ أو في الواحد على سبيل البدل ـ يجب إثباته بدليل آخر غير دليل أصل الإطلاق.

لكن لا يخفى أنّ هذا التفسير للاستغراقيّة والبدليّة إنّما يتمّ في الاستغراقيّة والبدليّة العموميّة لا الإطلاقيّة، فإنّه في باب العموم تارة يلحظ المفهوم فانياً في تمام الأفراد، واُخرى يلحظ المفهوم فانياً في فرد واحد، لكن أحد المفهومين غير المفهوم الآخر، وذلك كمفهوم كلّ عالم في قولك: (أكرم كلّ عالم) الفاني في تمام الأفراد، ومفهوم أيّ عالم في قولك: (أكرم أيّ عالم شئت) الفاني في أحد الأفراد.

وأمّا في باب المطلق فالحكم ثابت على مفهوم الطبيعة، وهو لا يعقل فناؤه في تمام الأفراد ولا في أحد الأفراد، وإنّما يكون فانياً في نفس الحيثيّة المشتركة، بمعنى كونه مرآة لها لا لتمام الأفراد ولا لأحد الأفراد، فإنّ كلّ عنوان إنّما يفنى في معنونه، وعنوان (تمام الأفراد) إنّما هو نفس عنوان (كلّ أحد) وعنوان (أحدها) إنّما هو نفس عنوان (أحد الأفراد) وليست الطبيعة عنواناً لواحد منهما.

وتوضيح ما ذكرناه يحصل ببيان ما هو الصحيح من معنى الفناء وما هو الباطل من معناه الذي يوجب تخيّله تخيّل فناء الطبيعة تارة في تمام الأفراد واُخرى في أحد الأفراد، فنقول: إنّ المهيّة المتصوّرة في الذهن لها جهتان: جهة ما يحمل عليها بالحمل الأوّليّ وجهة ما يحمل عليها بالحمل الشائع، فمهيّة العالم مثلاً المتصوّرة في الذهن تارة: تلحظ بحملها الأوّليّ وبما هي عالم فتُرى أنّها العالم الخارجيّ ويحكم عليها بوجوب إكرامها، واُخرى: تلحظ بحملها الشائع، وليست بحملها الشائع إلّا صورة ذهنيّة دماغيّة من مخلوقات النفس ـ مادّيّة أو روحيّة ـ ولا يحكم عليها بوجوب الإكرام ولا يريد المولى إكرامها أصلاً، ومعنى فناء الطبيعة هو لحاظها خارجيّة وبالحمل الأوّليّ، وبهذا المعنى لا يفنى كلّ عنوان إلّا في

525

معنونه، فالطبيعة تفنى في حقيقتها ومفهوم كلّ أحد يفنى في كلّ واحد من الأفراد ومفهوم أحد الأفراد يفنى في واقع أحد الأفراد، ومعنى فنائه ما عرفت من لحاظه بحمله الأوّليّ، فلا يرد عليه ما سيأتي من إشكال الفرد المردّد على التفسير الآتي للفناء.

ويمكن أن يفسّر الفناء بمعنى آخر، وهو: أنّ المفهوم الذي يكون في عالم النفس ترى النفس به الأفراد الخارجيّة، وعندئذ يمكن أن يدّعى أنّه تارةً: ترى النفس به تمام الأفراد وهو عبارة عن الفناء في تمام الأفراد، واُخرى: ترى النفس به أحد الأفراد وهو عبارة عن الفناء في أحد الأفراد.

وبكلمة اُخرى: إنّ الطبيعة تارة: تلحظ بما هي بحيث لا يسري هذا اللحاظ إلى الأفراد فلا فناء، واُخرى: تلحظ بحيث يسري هذا اللحاظ من الطبيعة إلى تمام أفرادها أو أحد أفرادها.

ويرد عليه:

أوّلاً: ما برهن عليه في محلّه من أنّ النفس يستحيل أن ترى ما في وراء عالمها، كما أنّ دعوى سراية اللحاظ من الطبيعة إلى الأفراد أيضاً غير مسموعة، فإنّ اللحاظ المتعلّق بالطبيعة حاله حال سائر الصفات النفسانيّة المتعلّقة بها، ولا يعقل سريان شيء منها إلى الأفراد، فمثلاً لو تعلّق العلم بالطبيعة ـ كما لو علم إجمالاً بوجود طبيعة الإنسان في الدار ـ لم يسر هذا العلم من الطبيعة إلى الفرد، وكذا من أحبّ طبيعة العالم مثلاً لا يسري هذا الحكم إلى أفراد العالم، فربّما يبغض جميع أفراده الموجودة في الخارج لأغراض شخصيّة معهم مثلاً.

وثانياً: أنّ الفناء بأحد هذين المعنيين الأخيرين في أحد الأفراد على سبيل البدل ـ بعد فرض صحّة أصل هذا المعنى للفناء ـ غير صحيح؛ لأنّه إن اُريد بأحد

526

الأفراد مفهوم أحد الأفراد فهذا فناء مفهوم في مفهوم وهو غير معقول، وإن اُريد به واقع أحد الأفراد الموجود في الخارج قلنا: إن كان المراد من ذلك فرد معيّن خارجيّ كان هذا خلاف الفرض؛ إذ المفروض تصوير الإطلاق البدليّ بذلك، وهذا تقييد للطبيعة بتعيّنها في فرد واحد معيّن شخصاً، وإن كان المراد الفرد المردّد الخارجيّ فالفرد المردّد غير موجود في الخارج كما برهن عليه في محلّه.

 

الفرق بين إطلاق متعلّق الأمر وإطلاق متعلّق النهي:

التنبيه الثاني: ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) أنّ الإطلاق في متعلّق الأمر بدليّ وفي متعلّق النهي استغراقيّ ينحلّ إلى نواهي عديدة، ولذا يسقط الأمر بالامتثال بالوجود الأوّل ولا يسقط النهي بالعصيان بالوجود الأوّل. وهذا الذي ذكره مسلّم عند الأصحاب وعند الفهم العرفيّ العامّ، وقال(قدس سره) في وجه ذلك: إنّ نفس طبيعة البعث والزجر تقتضيان ذلك، فالبعث نحو الطبيعة يقتضي الانبعاث نحو فرد منها؛ إذ الطبيعة يكفي في وجودها وجود فرد منها، والزجر عنها يقتضي الانزجار عن تمام أفرادها؛ لما عرفت من أنّ الطبيعة توجد بفرد منها فلابدّ في انتفائها من انتفاء تمام أفرادها(1).



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 39، ص 502 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم. إلّا أنّ ظاهر نهاية الأفكار رجوعه عن هذا البيان إلى بيان الفرق بين مصلحة الأمر القائمة بالطبيعة ومفسدة النهي القائمة بالأفراد وانحلاليّتها عادة. راجع نهاية الأفكار،ج 1 ـ 2، ص 569 ـ 570 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

527

أقول: هذا الكلام منه(قدس سره) خلط بين مقامين، توضيح ذلك: أنّ بين الأمر والنهي فرقين:

الأوّل: الفرق بينهما في عالم الجعل، وهو: أنّ الأمر يستفاد منه حكم واحد والنهي تستفاد منه أحكام عديدة، كما هو واضح بحسب الذوق العرفيّ لا غبار عليه.

الثاني: الفرق بينهما في عالم الامتثال، وهو: أنّه لو جعل المولى النهي أيضاً بنحو وحدة الحكم كالأمر ـ كما لو كان مقصوده انزجار العبد من طبيعة شرب الخمر لكن لا بنحو تعدّد المطلوب بحيث لو أتى ببعض أفراد الشرب وترك بعضاً آخر كان مطيعاً وعاصياً، بل بنحو وحدة المطلوب بحيث لو أتى ببعض أفراده وترك بعضاً آخر كان عاصياً ـ فمع ذلك يوجد فرق بين الأمر والنهي، وهو: أنّ الأمر يمتثل بإتيان فرد واحد، والنهي لا يمتثل إلّا بترك الجميع كما هو ظاهر أيضاً في الفهم العامّ.

وأنت ترى أنّ ما ذكره(رحمه الله)من المدّعى هو الأوّل، وما جعله دليلاً عليه إنّما يدلّ على الثاني ـ كما هو واضح ـ ولا يكون دليلاً على الأوّل، فإنّ طبيعة البعث لا تقتضي أن يكون بعثاً واحداً ولا طبيعة الزجر تقتضي أن يكون زواجر عديدة، وإنّما وحدة البعث والزجر وتعدّدها تكون بيد المولى، فله أن يأمر بشيء بأوامر عديدة بعدد أفراد ذلك الشيء مثلاً في حدود القدرة، وله أن ينهى عن شيء بنهي واحد وبالعكس. فهذا خلط بين عالم الجعل والامتثال، فالذي ينبغي هو جعل الكلام في مقامين، وبما أنّ دليل المحقّق العراقيّ إنّما يفي بالمقام الثاني نحن نقدّمه في الذكر ونقول:

المقام الأوّل: في الفرق بين الأمر والنهي في عالم الامتثال، والأصحاب ـ قدّس

528

اللّه أسرارهم ـ لم يذكروا فيما نحن فيه فرقين بين الأمر والنهي وتشخيص أحدهما عن الآخر.

وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أنّ طبيعة الأمر والنهي تختلف؛ إذ الأمر طلب لإيجاد الطبيعة والنهي طلب لتركها، والطبيعة توجد بوجود واحد وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، فالأمر يقتضي إيجاد فرد واحد والنهي يقتضي ترك تمام الأفراد(1).

أقول: هذا الكلام هو ما مرّ آنفاً من المحقّق العراقيّ(قدس سره) مستدلاًّ به على الفرق بين الأمر والنهي بالانحلال وعدمه، وقلنا: إنّ جعله دليلاً على ذلك في غير محلّه. هذا.

وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) بأنّ ثبوت الفرق في نفس طبيعة الأمر والنهي ممنوع وإنّما الفرق يكون في المتعلّق؛ وذلك لأنّ المتعلّق تارة: يلحظ فانياً في تمام الأفراد، واُخرى: يلحظ فانياً في فرد واحد، فإن لوحظ فانياً في تمام الأفراد ففي الأمر يلزم إيجاد تمام الأفراد وفي النهي يلزم ترك تمام الأفراد، وإن لوحظ فانياً في فرد واحد ففي الأمر يلزم الإتيان بفرد واحد وفي النهي يلزم ترك فرد واحد. فظهر: أنّه لا فرق من حيث نفس طبيعة الأمر والنهي وإنّما الفرق بينهما في المتعلّق، حيث إنّ متعلّق الأمر اُخذ فانياً في فرد واحد ومتعلّق النهي اُخذ فانياً في تمام الأفراد(2). ثمّ أخذ ـ دامت بركاته ـ في



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 233 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق الشيخ المشكينيّ.

(2) راجع محاضرات الفيّاض، ج 4، ص 89 ـ 92.

529

بيان ما هو السرّ في كون المتعلّق في باب الأمر مأخوذاً فانياً في فرد واحد وفي باب النهي مأخوذاً فانياً في تمام الأفراد.

أقول: يرد عليه: ما مضى من عدم معقوليّة لحاظ الطبيعة فانية في تمام الأفراد ولا في أحد الأفراد، وإنّماتكون فانية في نفس الحيثيّة الجامعة بالمعنى الصحيح الذي مضى ذكره، ومن الواضح ـ كما مضى عن المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ أنّ وجود هذه الطبيعة يكون بفرد واحد وانتفاءها بانتفاء تمام الأفراد، فالبعث نحوها يقتضي إيجاد فرد واحد والزجر عنها يقتضي الانزجار عن تمام الأفراد، وهذا هو الفرق بينهما في عالم الامتثال.

ثمّ إنّ للمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هنا كلاماً يشبه كلام السيّد الاُستاذ نغمض العين عن ذكره هنا؛ لأنّ هذا المقدار من الكلام كاف هنا والتتمّة موكولة إلى محلّها من مبحث الأمر والنهي.

المقام الثاني: في الفرق بين الأمر والنهي في عالم الجعل، وهو انحلال النهي إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الطبيعة المتعلّق بها النهي بخلاف الأمر، فنقول: أمّا عدم انحلال الأمر إلى أوامر عديدة فقد عرفت أنّه على طبق القاعدة؛ إذ مقتضى طبع الإطلاق في المتعلّق هو البدليّة، فالكلام إنّما هو في سرّ وقوع الانحلال والاستغراقيّة في باب النهي، فنقول: قد عرفت أنّ الاستغراقيّة لها معنيان: أحدهما: سريان الحكم من الطبيعة إلى الأفراد. وقد عرفت أنّ هذا محال في باب المتعلّق. وثانيهما: كون الحكم في عالم الجعل متعلّقاً بالحصص وهذا هو الاستغراقيّة العموميّة. وهذا لا مانع منه في باب المتعلّقات لكن دلالة مقدّمات الحكمة عليه محال كما مضى، ولابدّ من الدلالة عليه بقرينة اُخرى وتلك القرينة في باب النهي هي الملاك.