261

الفور والتراخي

الجهة الثامنة: في الفور والتراخي.

الواجب يمكن ثبوتاً أن يقيّد بالفور أو بالتراخي، أو يطلق. وما اُخذ فيه الفور يمكن أن يكون على نحو وحدة المطلوب، ويمكن أن يكون على نحو تعدّد المطلوب. والثاني تارةً يتصوّر بمعنى: وجوب العمل فوراً ففوراً، وهذا يكون تصويره بأن توجد عدّة وجوبات: وجوب تعلّق بالفرد الأوّل من العمل، ووجوب آخر تعلّق بالفرد الثاني مشروطاً بترك الفرد الأوّل، ووجوب ثالث تعلّق بالفرد الثالث مشروطاً بترك الفردين الأوّلين وهكذا، فالوجوب منحلّ إلى عدّة وجوبات بعدد الأفراد الطوليّة. واُخرى يتصوّر بمعنى: وجوب العمل فوراً مع سقوط الفور إذا تركه وبقاء وجوب أصل العمل، وهذا يكون تصويره بفرض انحلال الوجوب إلى وجوبين: وجوب لأصل العمل، ووجوب للإتيان به فوراً، فإن لم يمتثل الثاني بقي الأوّل على حاله.

كلّ هذا معقول ثبوتاً، وإنّما الكلام في ما يستفاد من الدليل إثباتاً. ويقع الكلام في ذلك في عدّة اُمور:

دلالة نفس الصيغة على الفور أو التراخي:

الأمر الأوّل: في استفادة الفور أو التراخي من نفس صيغة الأمر بغضّ النظر عن دليل خارجيّ، وعدمها، فنقول: لا ينبغي الإشكال في عدم استفادة التراخي من صيغة الأمر. وأمّا الفور فالصحيح أيضاً عدم استفادته منها؛ إذ مادّة الأمر لا تدلّ إلّا

262

على الطبيعة الجامعة بين الأفراد، والهيئة لا تدلّ إلّا على الوجوب بالمعنى الحرفيّ، ولذا نرى أنّ التصريح بعدم الفور لا يوجب الإحساس بعناية، بينما لو كان الفور مستفاداً وضعاً من المادّة أو الهيئة، لكان التصريح بعدمه موجباً للإحساس بعناية المجاز.

وأحسن ما يمكن أن يقال للدلالة على الفور: إنّ الهيئة موضوعة للدفع بنحو المعنى الحرفيّ، وهو مواز عرفاً وارتكازاً للدفع التكوينيّ بخواصّه، فتنعكس خواصّ الدفع التكوينيّ على المدلول التصوّريّ لصيغة «افعل»، ومن خواصّه الفوريّة؛ فإنّ من يدفع تكويناً نحو شيء إن اندفع إليه، فقد وقع عليه فوراً، فكذلك في الدفع التشريعيّ لابدّ للمندفع وهو المطيع أن يعمل فوراً.

وبكلمة اُخرى: إنّ الاندفاع الفوريّ يكون من لوازم التحريك التكوينيّ، وهو وإن لم يكن من لوازم التحريك التشريعيّ لكن العرف يراه ـ على أساس الموازنة بين التحريكين ـ كأنّه من لوازم التحريك التشريعيّ، فتنعقد دلالة التزاميّة عرفيّة للأمر على الفور.

والجواب: أنّ الفوريّة في الدفع التكوينيّ ليست من شؤون نفس الدفع ابتداءً، وإنّما هي من شؤون جزئيّة المدفوع إليه، حيث إنّ الدفع التكوينيّ يستحيل أن يكون دفعاً نحو الكلّيّ والجامع بين الأفراد الطوليّة، ولا يمكن أن يكون إلّا دفعاً لمدفوع جزئيّ نحو مدفوع إليه جزئيّ حاضر، فلا محالة ينتج الفور باعتبار أنّ المدفوع إليه هو الجزئيّ الحاضر. وأمّا الدفع التشريعيّ فيمكن تعلّقه بالكلّيّ الجامع بين الأفراد الطوليّة كما هو مقتضى إطلاق المادّة، وإذا تعلّق بذلك لم يبقَ مبرّر لاستفادة الفوريّة.

وبكلمة اُخرى: إنّ الدفع تكويناً أو تشريعاً نحو شيء يقتضي الاندفاع تكويناً أو تشريعاً نحو ذلك الشيء، فإذا كان ذلك الشيء جزئيّاً خارجيّاً

263

مقارناً زمناً لوقت الدفع، تحقّقت الفوريّة، وإذا كان كلّيّاً جامعاً بين الأفراد الطوليّة، لم تثبت الفوريّة، وحيث إنّ الدفع التكوينيّ دائماً من القسم الأوّل، فلهذا يكون دائماً موجباً للاندفاع الفوريّ، وحيث إنّ الدفع التشريعيّ قد يكون من القسم الثاني بمقتضى إطلاق المادّة، فحينما يكون كذلك لا يقتضي الفوريّة(1).

إمكان استفادة الفور من دلالة عامّة:

الأمر الثاني: في أنّه: هل توجد دلالة عامّة خارج حدود الخطاب بالأمر تقتضي الفور في الأوامر، إلّا ما خرج بالدليل، أو لا؟

قد يستدلّ بهذا الصدد على وجوب الفور بآية المسارعة إلى المغفرة(2) في سورة آل عمران، وآية الاستباق إلى الخيرات(3) في سورة البقرة، حيث إنّ العمل بأوامر المولى سبب للمغفرة، فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات، ولا شكّ



(1) وبكلمة ثالثة: لو قصد بالتقريب الماضي دلالة الأمر بالمطابقة على الفور، فصيغة الأمر لا تدلّ إلّا على الدفع والإرسال، وحاقّ الدفع والإرسال عار عن الفور. ولو قصد به دلالته بالالتزام، فالفور من لوازم الدفع التكوينيّ أو الدفع إلى الجزئيّ الخارجيّ المقارن زمناً لوقت الدفع، والدفع التشريعيّ إلى الجامع بين الأفراد الطوليّة ليس كذلك.

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 133، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 148، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وكذلك السورة 15، المائدة، الآية: 48.

وقد ورد في سورة 57، الحديد، الآية: 21: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاَْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).

264

في صدق عنوان الخيرات على العمل بأوامر المولى.

وقد يناقش في ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ هذه الآيات لابدّ من حملها على الإرشاد، من قبيل الأمر بإطاعة الله والرسول وإن كان مقتضى الطبع الأوّليّ لأمر المولى حمله على الأمر المولويّ الإلزاميّ؛ وذلك لاستقلال العقل بحسن المسارعة إلى المغفرة والخيرات كاستقلال العقل بوجوب الإطاعة.

ويرد عليه:

أوّلا: منع استقلال العقل بحسن المسارعة بعنوانها عند كون نسبة رغبة المولى إلى كلّ الأفراد الطوليّة على حدّ سواء.

نعم، قد ينطبق عليه عنوان ثانويّ حسن كالاحتياط والتحفّظ عن الفوت؛ حيث إنّ في التأخير آفات، فيحتمل الموت أو عروض أيّ مانع آخر. أمّا نفس عنوان المسارعة فلا يحكم العقل بحسنها، فلا بأس بالأمر بها مولويّاً.

وثانياً: أنّ هذا الحسن لو سلّم، لم يكن بمرتبة الوجوب، فلا بأس بالأمر المولويّ الإلزاميّ به، كما هو ظاهر الخطاب في نفسه بحسب الفرض.

وثالثاً: أنّه لو فرض كون حكم العقل وأمر الشرع متماثلين في الإلزام وعدمه، كما لو حملنا الأمر في المقام على الاستحباب، فأيضاً يقال: إنّ حكم العقل بحسن المسارعة لا يمنع عن أمر المولى بها؛ فإنّ ما يوجب تخيّل مانعيّته عنه هو: أنّ الخطاب المولويّ ـ مع إدراك العقل ـ يصبح لغواً وتحصيلا للحاصل، بينما ليس كذلك، فإنّ الخطاب بالمسارعة يؤكّد الداعي إلى المسارعة؛ إذ يتبيّن به أنّ المولى يحبّ المسارعة إلى الخيرات، فتكون المسارعة أمراً حسناً من ناحيتين: من ناحية كونها مسارعة في محبوب المولى وطاعته التي فرض

265

حكم العقل بحسنها، ومن ناحية كون المسارعة بذاتها محبوباً آخر للمولى ومستحبّاً، فلا محالة يتأكّد بذلك حسنها، ولا تلزم اللغويّة(1).

الوجه الثاني: أنّه لابدّ من حمل الأمر على الاستحباب حتّى لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً؛ لخروج أكثر الواجبات وتمام المستحبّات.

وقد بنى على هذا الوجه السيّد الاُستاذ دامت بركاته(2)، بينما هذا الوجه وإن كان يتمّ على مبنانا من كون دلالة الأمر على الوجوب لفظيّة، حيث إنّه لو كان الأمر حينئذ مستعملا في معناه وهو الوجوب، لزم إخراج أكثر الواجبات وكلّ المستحبات من المدلول اللفظيّ للأمر، لكنّه لا يتمّ على مبناه ومبنى المحقّق



(1) لا يخفى: أنّ هذه الاعتراضات من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) مبنيّة على جعل الدليل على الإرشاديّة ضرورة كونها إرشاداً عقلا، كما يقال في «أطيعوا الله»، فهذه الاعتراضات كلّها تبيّن عدم ضرورة كونها إرشاداً، بل حتّى في مثل «أطيعوا الله» أيضاً لا ضرورة في كونه إرشاداً.

ولكن يمكن إقامة البيان على مطلب آخر غير حكم العقل والضرورة، وذلك بأن يقال: إنّ الشريعة حينما تأمر بشيء في مورد حكم العقل الواقع في سلسلة معلولات حكم الشرع تنصرف عرفاً إلى الإرشاد إلى حكم العقل، باعتبار مناسبة ذلك جدّاً، وترقّبه في سلسلة معلولات حكم الشرع، فوجوب الإطاعة حكم للعقل معلول لأوامر الشرع، والأمر بالإطاعة إن هو إلّا إرشاداً إلى ما هو معلول تلك الأوامر من وجوب الإطاعة عقلا، وكذلك المسارعة إلى المغفرة وإن لم تكن بعنوانها مورد حكم العقل بالحسن، لكنّها مصداق واقعيّ للاحتياط المحكوم بحسنه من قبل العقل في سلسلة معلولات أوامر الشارع، فينصرف الأمر بها عرفاً إلى الإرشاد إلى ذلك.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 216 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

266

النائينيّ (رحمه الله) من كون دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل، بمعنى: أنّ الأمر يدلّ على الطلب، فإذا لم يرد الترخيص حكم العقل بوجوب امتثاله، وإذا ورد الترخيص لم يحكم العقل بوجوب امتثاله، فإنّه على هذا المبنى لا يلزم تخصيص الأكثر؛ إذ اللفظ بذاته لم يدلّ على أزيد من طلب المسارعة، غاية ما هناك: أنّ هذا الطلب في أغلب الموارد اقترن بالترخيص في الخلاف، فلم ينعقد للعقل حكم بوجوب امتثاله، وأحياناً لم يقترن بذلك، فينعقد للعقل حكم بوجوب امتثاله.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1): من أنّ ظاهر الأمر بالمسارعة كون المادّة التي تتعلّق بها المسارعة قابلة للإسراع فيها والتراخي والتأجيل، فيأمر المولى بالمسارعة، بينما لو وجبت المسارعة في الخير، سقط الخير عن الخيريّة على تقدير التأجيل، فلم تكن المادّة قابلة للإسراع تارةً وللتأجيل اُخرى.

وهذا الكلام بهذا المقدار لا يتمّ؛ إذ إنّما يأتي هذا الكلام لو فرض مفاد الأمر بالمسارعة عبارة عن الوجوب الشرطيّ، وعليه يكون الواجب مضيّقاً، ولا تصدق فيه المسارعة، وإنّما المدّعى هو الوجوب النفسيّ، ومعه لا يسقط الخير عن الخيريّة بالتأخير، غاية الأمر فوات خير آخر مستقلّ، وهو المسارعة، اللّهمّ إلّا إذا تكلّفنا بالقول بأنّ ظاهر جملة «استبقوا الخيرات» النظر إلى مجموع الخيرات، فيستفاد منه إمكانيّة التأجيل في مجموع الخيرات، بينما لو كانت المسارعة واجبة، فهي خير لا يمكن التأجيل فيه، إلّا أنّ هذا تكلّف غير صحيح؛ إذ لابدّ من صرف



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 258 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

267

الآية عن نفس المسارعة المستفادة منها، فإنّها ناظرة إلى غيرها، وإلّا لوقع المحذور حتّى لو كان الأمر استحبابيّاً؛ فإنّ المسارعة ـ على أيّ حال ـ تصبح خيراً لا يمكن تأجيله.

الوجه الرابع: أنّ هاتين الآيتين أجنبيّتان عمّا نحن فيه: أمّا آية الاستباق، فلأنّ الاستباق ليس معناه الفور والمسارعة حتّى تدلّ على وجوب الفور، وإنّما معناه: التسابق بين الأفراد من قبيل: (فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(1)، فيأمر بالمسابقة بين الأفراد في الخير والصلاح كمّاً وكيفاً وحجماً، ومن جميع الجهات، ومن الواضح: أنّ الأمر بهذه المسابقة العامّة ليس إلّا مجرّد تشويق وترغيب للمؤمنين إلى تكثير الخيرات وتقليل الآثام، وليس إلزاماً شرعيّاً، وإلّا لما أمكن امتثاله لكلّ الأفراد، فمثلا ماذا نصنع لو صلّوا جميعاً في أوّل الوقت؟!

وأمّا آية المسارعة، فإن لم نستفد منها نفس ما استفدناه من الآية الاُولى من التشويق والترغيب، قلنا: إنّ غاية ما تدلّ عليه الآية هي وجوب المسارعة إلى حطّ الذنوب ومحوها، ولا بأس بالالتزام بوجوب ذلك بأن يقال: المذنب تجب عليه التوبة فوراً مع الإمكان؛ حيث إنّ التوبة هي السبب المضمون الوصول إلى العفو بخلاف سائر الأسباب، فإن لم يمكنه التوبة وجعل النفس تتّصف بالندامة، وكان هناك شيء آخر ثبت بدليل أنّه يوجب المغفرة، وجب الإسراع إليه بدلا عن التوبة.

والخلاصة: أنّ غاية ما يستفاد من الآية الوجوب الفوريّ لتدارك الذنب السابق بالتوبة أو بدلها، ولا بأس بذلك، ولا يرتبط بما نحن فيه.



(1) السورة 83، المطفّفين، الآية: 26.

268

هل يسقط الواجب بترك الفور؟

الأمر الثالث: في أنّه بناءً على الفور هل يسقط الواجب رأساً بترك الفور، أو أنّه بعد ترك الفور يبقى عليه أصل الواجب ويصبح موسّعاً، أو أنّه يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً؟

كلّ هذه الاحتمالات معقولة ثبوتاً، فمن الممكن أن يكون الواجب الحصّة الاُولى، فبتركها يسقط الواجب لا محالة، ومن الممكن أن يكون هناك واجبان: أحدهما الطبيعة المطلقة، والثاني الحصّة الاُولى، فبترك الثاني لا يسقط الأوّل، ويبقى عليه الواجب موسّعاً، ومن الممكن أن تكون هناك وجوبات متعدّدة بعدد الحصص، وتكون كلّ حصّة متأخّرة واجبةً على تقدير عدم الإتيان بالحصص السابقة، فينتج ذلك وجوب العمل فوراً ففوراً.

وأمّا بحسب الإثبات، فلابدّ من ملاحظة الوجه الذي يقال على أساسه بالفور، ليرى أنّ ذلك الوجه هل يقتضي أحد هذه الفروض بعينه حتّى يلتزم به، أو أنّه مجمل من هذه الناحية حتّى يرجع إلى الاُصول العمليّة، فنقول:

تارةً يبنى على الفور بدعوى دلالة الأمر على أخذه في متعلّقه بوجه من الوجوه، وعليه لا ينبغي الإشكال في سقوط الطلب بترك الفور؛ فإنّ الصيغة لا تدلّ إلّا على طلب واحد، وهذا الطلب الواحد قد تعلّق بالفعل مع الفور، فنسبته إلى الفعل مع الفور نسبة الوجوب إلى أجزاء الواجب الواحد، لا إلى أفراد الواحد.

وبكلمة اُخرى: إنّ المتعلّق للطلب هو العمل المقيّد بالفور، والمقيّد ينتفي بانتفاء قيده.

واُخرى يبنى على الفور بدعوى: أنّ العرف يفهم بالموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ الفور؛ حيث إنّه يعطي بفهمه العرفيّ خواصّ التحريك التكوينيّ

269

للتحريك التشريعيّ، ومن خواصّ التحريك التكوينيّ هو التحرّك فوراً، فتنعقد للأمر دلالة التزاميّة عرفيّة على الفور، وبناءً على هذا يتعيّن القول بوجوب العمل فوراً ففوراً؛ فإنّ هذا هو مقتضى الموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ وإعطائه خصائص الدفع التكوينيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الدفع التكوينيّ باليد ونحوه لو فرض فيه: أنّ الشخص لم يندفع به، ومع ذلك بقي الدفع باليد مثلا مستمرّاً، فلا إشكال في أنّ ذلك يقتضي الاندفاع في الزمان الثاني فوراً، فإن لم يندفع أيضاً وبقي الدفع مستمرّاً، اقتضى الاندفاع في الزمان الثالث فوراً، وهكذا.

نعم، لو لم يبقَ الدفع مستمرّاً، بل انقطع بعد الزمان الأوّل، فطبعاً لا دفع في الزمان الثاني حتّى يقتضي الاندفاع فوراً، فالدفع التشريعيّ أيضاً ينبغي أن يكون من هذا القبيل، فلو بقي الدفع التشريعيّ مستمرّاً، اقتضى الاندفاع فوراً ففوراً، ومقتضى إطلاق المادّة هو بقاء الدفع التشريعيّ، فإنّه إنّما أمر بذات الطبيعة غير المقيّدة بالزمان الأوّل، وإنّما فرض الدلالة على الفور لا من باب تقيّد المتعلّق بالفور، بل من باب أنّ العرف فهم بالملازمة العرفيّة لزوم الفور، ولا مبرّر لجعل ذلك قيداً للمتعلّق بعد أن كان المتعلّق بذاته مطلقاً، إذن فالطلب يبقى مستمرّاً لا محالة، وإذا بقي مستمرّاً، اقتضى الاندفاع نحو العمل فوراً ففوراً قياساً له على الدفع التكوينيّ.

وثالثة يبنى على الفور بدعوى دلالة آيتي المسارعة والانسباق عليه، وحينئذ لا إشكال في أنّ الأمر لا يسقط بترك الفور؛ إذ لا وجه لجعل الفور قيداً لمتعلّق الأمر حتّى يسقط بتركه، وإنّما فهم وجوب الفور بأمر آخر مستقلّ، فبتركه لا يسقط الأمر الأوّل بلا إشكال، وإنّما الكلام في أنّه هل يبقى العمل واجباً فوراً ففوراً، أو يصبح العمل واجباً موسّعاً؟

ذهب المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إلى أنّ الفور يسقط نهائيّاً، ويصبح العمل واجباً

270

موسّعاً، أي: لا يجب فيه الفور، وذلك بتقريب: أنّ عنوان المسارعة: تارةً يفرض: أنّه لا يصدق إلّا على الإتيان بالفرد الأوّل من الأفراد الطوليّة، واُخرى يفرض: أنّ له مصاديق طوليّة عديدة حيث يصدق على ما قبل الفرد الأخير، فالمسارعة صادقة في كلّ مورد أتى المكلف بعمل كان بإمكانه تأخيره إلى وقت متأخّر عن ذلك الوقت. فإن فرضنا الشقّ الثاني، كانت النتيجة عدم وجوب الفور من أوّل الأمر؛ إذ المسارعة مصداقها ليس منحصراً في الفور، وهذا طبعاً خلف المفروض؛ لأنّنا نتكلّم بناءً على فرض الفوريّة، فينحصر الأمر في الشقّ الأوّل، ونتيجته: أنّ الأمر بالمسارعة يسقط بمجرّد ترك الفرد الأوّل؛ لأنّ مصداق المسارعة منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل وقد فاته، فلا يبقى إلّا الأمر بأصل الواجب، فيكون واجباً موسّعاً لا فور فيه(1).

ولنا حول هذا الكلام ثلاث تعليقات:

التعليقة الاُولى: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الثاني، وهو أنّ المسارعة لها أفراد عديدة بعدد ما قبل الفرد الأخير، ومع ذلك نقول: إنّ هذا لا ينتج الخلف، بل ينتج وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّنا إذا فرضنا مثلا: أنّ للواجب عشرة أفراد طوليّة، فالأمر بطبيعة العمل قد جَعَلَ الجامعَ بين الأفراد العشرة خيراً، والأمر بالمسارعة في الخيرات يوجب لزوم الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة السابقة على الفرد الأخير، فيصبح الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة خيراً، فيكون هذا فرداً جديداً لموضوع الأمر بالمسارعة في الخيرات، والمسارعة فيه عبارة عن الإتيان بالجامع بين الثمانية السابقة على التاسع، فيكون ذلك خيراً جديداً يجب المسارعة فيه بالإتيان بالجامع بين السبعة السابقة على الثامن، وهكذا، فالأمر



(1) بدائع الأفكار، ج 1، ص 253 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

271

بالمسارعة ينحلّ بتعدّد أفراد موضوعه المتولّدة من نفس الأمر؛ لأنّه أمر بنحو القضيّة الحقيقيّة، فكلّما تولّد خير أمكن المسارعة فيه يصبح مشمولا للأمر بالمسارعة ولو كان متولّداً من نفس الأمر بالمسارعة، وهذا سنخ ما يقال في (صدّق العادل) بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة، وبهذا يثبت وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثانية: أنّنا أيضاً نفرض اختيار الشقّ الثاني، ونفترض تنزّلا عن الجواب الأوّل: أنّ الأمر بالمسارعة ليس أمراً بنحو القضيّة الحقيقيّة يشمل حتّى الفرد المتولّد من نفسه، بل أمر بنحو القضيّة الخارجيّة يشير إلى الخيرات الثابتة بغضّ النظر عن هذا الأمر بالمسارعة، ويأمر بالمسارعة فيها، ولكن مع ذلك نقول: إنّنا نستنتج وجوب العمل فوراً ففوراً، وذلك بناءً على أنّ أفراد المسارعة ليست أفراداً عرضيّة ثابتة في عرض واحد، من قبيل أفراد البياض والسواد ونحو ذلك من الطبائع، وإنّما هي أفراد طوليّة للمسارعة، أي: أنّ العرف إنّما ينتزع عنوان المسارعة من الفرد الثاني بعد فرض فوات الأوّل، وهكذا إلى ما قبل الفرد الأخير، وكلّما كان أفراد طبيعة مأمور بها أفراداً طوليّة وهي في المقام أفراد المسارعة، فهم العرف من الأمر بها أنّ هذا الأمر يكون بلحاظ هذه الأفراد على وزان طبع نفس الأفراد، فكما أنّ نفس الأفراد يوجد بينها طوليّة كذلك الأمر بكلّ فرد إنّما يكون بعد فوات العمل بالأمر بالفرد السابق، ويكون أمراً اضطراريّاً بالنسبة إلى الأمر بالفرد السابق، ولذا ترى أنّه لو قال: «تطهّر قبل الفجر من الجنابة»، لم يجز للعبد تأخير الغسل إلى أن يضيق الوقت عنه، وينتقل إلى التيمّم وإن صحّ التيمّم لو صنع ذلك، والسرّ في ذلك ما قلناه: من أنّ الفردين الطوليّين لطبيعة يفهم العرف من الأمر بها كونه أمراً اختياريّاً بلحاظ الفرد الأوّل، واضطراريّاً في طول فوات الفرد الأوّل بلحاظ الفرد الثاني، فحيث إنّ الطهارة لها فردان: الفرد الأوّل هو الطهارة

272

المائيّة، والفرد الثاني هو الطهارة الترابيّة، وهذا الفرد الثاني إنّما يكون فرداً للطهارة عند تعذّر الأوّل، فهم العرف من الأمر بالطهارة الأمر الاختياريّ بالغسل، والأمر الاضطراريّ بالتيمّم بعد العجز عن الغسل لضيق الوقت مثلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فحيث إنّ أفراد المسارعة أفراد طوليّة، فلا محالة يفهم من الأمر بالمسارعة الأمر بالفرد الأوّل، وفي طول تركه وفواته الأمر بالفرد الثاني اضطراراً، وهكذا، وهذا معناه وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثالثة: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الأوّل، وهو أنّ المسارعة في الخير معناها منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل من الخير، ومع ذلك نقول: إنّه يستفاد من دليل الأمر بالمسارعة في الخيرات وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّ الخير عبارة عن الفعل الذي يكون أفضل من الناحية الشرعيّة للمكلف من تركه، فإذا كان للواجب عشرة أفراد طوليّة مثلا، فقبل أن يفوته الفرد الأوّل يكون الخير بالنسبة إليه عبارة عن الجامع بين العشرة؛ لأنّ فعله أفضل من تركه، وأمّا الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل فليس خيراً، إذ بالإمكان تحقّق تركه في ضمن الإتيان بالفرد الأوّل، فلا يكون فعل الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل أفضل من تركه، وبما أنّ المسارعة في الخيرات واجب، ومعنى المسارعة هو اختيار الفرد الأوّل، إذن يجب عليه الفور باختيار الفرد الأوّل، ولكن حينما يترك الفرد الأوّل ويفوته يصبح الجامع بين الأفراد التسعة الباقية خيراً؛ لأنّ فعله ـ بعد فرض فوت الفرد الأوّل ـ خير له من تركه، فتجب عليه المسارعة في هذا الخير، وذلك باختيار الفرد الأوّل منه الذي هو فرد ثان من الطبيعة، فإذا عصى وفاته الفرد الأوّل، أصبح الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية خيراً؛ لأنّه بعد فوات ما سبق يكون فعل الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية أفضل من تركه، فتجب المسارعة فيه باختيار فرده الأوّل الذي هو ثالث أفراد الطبيعة وهكذا، فالنتيجة هي وجوب العمل فوراً ففوراً.

273

الفصل الثالث. الأوامر

إجزاء الأمر الاضطراريّ والظاهريّ

* إجزاء الأمر الاضطراريّ.

* إجزاء الأمر الظاهريّ.

275

يقع الكلام في إجزاء الأمر الاضطراريّ والظاهريّ عن الواقع وعدمه.

وهناك صيغتان كبرويّتان للإجزاء لا إشكال فيهما:

إحداهما: أنّ الإتيان بغرض المولى كاف في خروج العبد عن العهدة؛ وذلك لأنّ العقل الذي هو الحاكم المطلق في باب المولويّة والعبوديّة الحقيقيّة لا يحكم على العبد بحقّ للمولى أزيد من تحصيل الغرض، فإن حصّل العبد غرض المولى، لم يبقَ في عهدته شيء.

والثانية: أنّ الإتيان بمتعلّق أمر كاف في الخروج عن عهدة شخص ذلك الأمر؛ لما مضى: من أنّ التحريك بعد العمل نحو الجامع القابل للانطباق على ما أتى به تحصيل للحاصل، وغير معقول، والتحريك إلى الطبيعة المقيّدة بأن لا تكون في ضمن ذلك الفرد المأتي به يكون أمراً جديداً.

فالكلام عن أنّ الأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل يجزيان عن الواقع أو لا؟ يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى الكلام عن أنّ العمل بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ هل تنطبق عليه إحدى الكبريين، بأن يكون ذلك محصّلا لغرض المولى الواقعيّ أو مصداقاً لمتعلّق الأمر الواقعيّ، أو لا؟

وطبعاً ليس المقصود: التكلّم عن قرائن خاصّة قد تحصل للفقيه على كون الأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ بنحو يدخل تحت إحدى الكبيريين ويوجب الإجزاء؛ فإنّ هذا شأن الفقيه، ويرجع إلى علم الفقه باعتباره واقعاً في طريق

276

استنباط حكم جزئيّ، ولا يعطي قاعدة عامّة تفيد في شتّى الأحكام، وإنّما المقصود: التكلّم عمّا إذا وجدت قرائن عامّة مضبوطة لاستظهار ذلك من دليل الأمر.

والكلام يقع في مقامين:

277

إجزاء الأمر الاضطراريّ

المقام الأوّل: في إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الواقع وعدمه.

ولنذكر أوّلاً المحتملات الثبوتيّة بشأن الواجب الاضطراريّ من حيث دوره في تحصيل الغرض والنتائج المترتّبة على تلك المحتملات، ثُمّ نتكلّم فيما هو المستظهر من دليل الأمر الاضطراريّ، فنقول:

المحتملات الثبوتيّة

إنّ المحتملات في الواجب الاضطراريّ أربعة:

1 ـ كونه وافياً بتمام غرض الواقع.

2 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، بحيث يكون الباقي أقلّ من مرتبة الإلزام.

3 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ولكن لا يمكن تحصيله بعد ذلك، من قبيل عطشان طلب الماء البارد، فسقي ماءً حارّاً رفع أصل العطش، فبعد ذلك لا يمكنه التلذّذ بالماء البارد.

4 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ويمكن تحصيله.

هذه فروض أربعة، نتكلّم بالنسبة لها في آثار أربعة قد يختلف فيها بعضهاعن بعض:

الأوّل: في الإجزاء عن الواقع وعدمه.

ومن الواضح: أنّ الأوّل يجزي؛ لدخوله تحت الكبرى الاُولى، وهي الوفاء بالغرض، وكذلك الثاني؛ لأنّه وإن بقي شيء من الغرض لكنّه ليس بمرتبة الإلزام بحسب الفرض، وكذلك الثالث؛ لأنّ الباقي وإن كان بمرتبة الإلزام لكنّه لا يمكن

278

استيفاؤه على أيّ حال، أمّا الرابع فلا يجزي؛ لأنّه لم يفِ بتمام الغرض، والباقي ملزم قابل للتدارك بالإعادة بحسب الفرض.

الثاني: في جواز البدار وضعاً وعدمه، بمعنى إجزائه حتّى في صورة البدار وعدمه.

وطبعاً هذا الكلام يقع في الأقسام الثلاثة الاُولى بعد الفراغ عن أنّ الرابع لا يجزي أصلا.

والتحقيق: أنّ النتيجة لا تختلف باختلاف الأقسام الثلاثة الاُولى، فنقول فيها جميعاً: إنّ الوفاء بالغرض بأحد الأنحاء الثلاثة إن كان مشروطاً بعدم البدار، لم يجز البدار، وإلّا جاز البدار.

الثالث: في جواز البدار تكليفاً وعدمه.

ولا ينبغي الإشكال في جوازه في الأوّل والثاني؛ فإنّه إن فرض وفاء العمل بالغرض حتّى مع البدار، فلا وجه لعدم جوازه، وإن فرض عدم وفائه بالغرض مع البدار، فغاية ما يفترض لغويّة العمل لا حرمته، كما لا ينبغي الإشكال في جوازه بمقتضى القاعدة في الرابع أيضاً؛ إذ لا يلزم منه فوات شيء من الغرض، فإنّه حتّى لو كان العمل وافياً في أوّل الوقت ببعض الغرض أمكن تدارك الباقي بعد ذلك إن ارتفع العذر. وأمّا في القسم الثالث، فالجواز التكليفيّ مع الجواز الوضعيّ متعاكسان، فقد قلنا في الجواز الوضعيّ بأنّ العمل لو كان وافياً بالمقدار الذي يفي به من الغرض حتّى مع البدار، جاز البدار، وإلّا فلا، وهنا ينعكس الأمر، فإن كان العمل لا يفي بشيء في أوّل الوقت على تقدير عدم استمرار العذر، جاز له البدار؛ إذ مع ارتفاع العذر يمكنه التدارك، وإن كان العمل يفي بشيء من الغرض المفروض معه عدم إمكان تدارك الباقي، فلا

279

يجوز البدار مع احتمال ارتفاع العذر؛ لأنّه يسدّ باب تدارك الباقي اللازم التحصيل.

وقد يقال: ليس الجوازان متعاكسين، بل متى ما لم يجز البدار تكليفاً لم يكن هناك جواز وضعيّ؛ لأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

أقول: إن فرض: أنّ عدم إمكان تدارك الباقي في القسم الثالث كان على أساس التضادّ بين الملاك الأصغر والملاك الأكبر، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، وإنّما يكون عدم جواز البدار على أساس إرشاد العقل إلى عدم البدار حفاظاً على المصلحة الأوفى، لا أنّ هناك نهياً مولويّاً عن ذلك. وإن فرض: أنّ عدم إمكان التدارك كان على أساس مانعيّة الملاك الأصغر عن الملاك الأكبر، فإن بنينا على إنكار المبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، فأيضاً لا مجال لهذا الإشكال، وإن سلّمناها لكن بنينا على أنّ المبغوضيّة الغيريّة لا تبطل، فأيضاً لا مجال للإشكال.

نعم، لو كان عدم إمكان التدارك على أساس المانعيّة، وقلنا بالمبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، وقلنا بمبطليّة المبغوضيّة الغيريّة، فهناك مجال للاستشكال في صحّة البدار بما عرفت من دعوى أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وقد يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين:

الجواب الأوّل: أنّ المبغوضيّة الغيريّة إن كانت موجبة للبطلان في سائر الموارد، ففي خصوص هذا المقام لا يمكن أن تكون موجبة للبطلان؛ وذلك لأنّ المبغوضيّة في المقام إنّما هي في طول صحّة العمل، حيث إنّه لو صحّ أوجب خسارة قسم مهمّ من الغرض لا يمكن تداركه، فلو نفت صحّةَ العمل لزم أن تنفي نفسها، ويكون وجودها مستلزماً لعدمها، وهذا غير معقول، فلا يقاس المقام بمثل

280

مبغوضيّة الصلاة في الدار المغصوبة التي توجب بطلانها؛ فإنّها ليست في طول صحّة الصلاة، فإنّ الصلاة حتّى إذا كانت باطلة تكون مبغوضة في المكان المغصوب باعتبارها غصباً وتصرّفاً في مال الغير.

ويرد عليه: أنّ المبغوضيّة عارضة في ذهن المولى على العمل الصحيح؛ لكونه صحيحاً، حيث إنّه يوجب فوات قسم مهمّ من الغرض، وهي إلى الأبد مبغوضيّةٌ للعمل الصحيح، ولا يخرج معروض المبغوضيّة عن كونه هو الصحيح. نعم، هذه المبغوضيّة أوجبت أن لايقدر العبد الملتفت إليها على إيجاد مصداق المبغوض، وهو العمل الصحيح في الخارج؛ لاحتياجه إلى قصد القربة الذي لا يتمشّى مع الالتفات إلى المبغوضيّة، وهذا لا يعني: أنّ مبغوضيّة العمل الصحيح أوجبت عدم نفسها ونفت صحّة معروضها، وإنّما يعني: أنّها أوجبت عدم إمكان إيجاد مصداق ذلك المبغوض في الخارج، وهذا لا محذور فيه.

الجواب الثاني: أن يقال: إنّ هذا النهي الغيريّ لو اقتضى البطلان في غير المقام لايقتضي البطلان في المقام؛ إذ لو اقتضى البطلان في المقام، لزم تعلّقه بغير المقدور؛ لأنّه إنّما هو متعلّق بالعمل الصحيح؛ لأنّ غير الصحيح لا يوجب عدم إمكان تدارك الغرض، والعمل الصحيح أصبح غير مقدور بالنهي؛ لأنّ النهي أوجب بطلانه، بينما النهي كالأمر في أنّه يجب أن يتعلّق بالعمل المقدور.

وهذا البيان يمكن دفعه بأكثر من وجه واحد، فلئن سلّمنا أنّ النهي يجب تعلقه بالمقدور، قلنا: إنّ ذلك إنّما يكون في النهي لا في المبغوضيّة، وفيما نحن فيه نفترض المبغوضيّة، وهي يمكن أن تتعلّق حتّى بالعمل الذي يستحيل صدوره من المكلّف.

والصحيح في مقام الجواب عن الإشكال: منع الاُصول الموضوعيّة له؛ فإن مجموع اُصوله الموضوعيّة: من فرض المانعيّة، وتسليم المبغوضيّة والمحبوبيّة

281

الغيريّة، ومبطليّة المبغوضيّة الغيريّة غير مسلّم لدينا، ولا أقلّ من إنكار كون المبغوضيّة الغيريّة موجبة للبطلان.

الرابع: في جواز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً وعدمه.

فنقول: إنّه في القسم الثالث وهو ما لو كان العمل الصحيح الاضطراريّ موجباً للوفاء بمقدار من مصلحة العمل الاختياريّ، وفوات مقدار من الغرض مهمّ، وغير قابل للتدارك لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً، سواء فرض: أنّ وفاء العمل بمقدار من المصلحة وصحّته كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو فرض: أنّه لم يكن مشروطاً بذلك، فإنّه على الأوّل يُحرم نفسه من تحصيل غرض المولى وامتثال أمره نهائيّاً، وعلى الثاني يُحرم نفسه من القسم المتبقي من الغرض الذي فرض كونه بمقدار الإلزام، ولا يمكن تداركه.

وفي القسمين الأوّلين يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً لو فرض: أنّ وفاء العمل بما يفي به من مصلحة ـ بحسب الفرض ـ ليس مشروطاً بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار، أمّا لو كان مشروطاً بذلك فلا يجوز؛ لأنّه يستوجب فوات كلّ الغرض؛ لعجزه عن العمل الاختياريّ وبطلان عمله الاضطراريّ باشتراط أن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

وفي القسم الرابع يأتي حكم القسم الثالث، فيقال: إنّه لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار بسوء الاختيار سواء فرض: أنّ الجواز الوضعيّ للعمل كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو لم يفرض ذلك، فإنّه على الأوّل قد فوّت على نفسه تمام الملاك؛ لعجزه إلى آخر الوقت ـ بحسب المفروض ـ عن الإتيان بالعمل الاختياريّ وبطلان عمله غير الاختياريّ؛ لفقد شرطه، وعلى الثاني قد فوّت على المولى قسماً مهمّاً من الغرض؛ إذ مع بقاء العجز إلى آخر الوقت لا يمكنه تدارك ذلك بوجه من الوجوه.

282

هذا تمام الكلام في مرحلة الثبوت، وقد ظهر: أنّه بلحاظ مرحلة الثبوت يتعيّن الإجزاء في الصور الثلاث الاُولى من الصور الأربعة المحتملة ثبوتاً، وعدم الإجزاء في الصورة الرابعة.

البحث الإثباتيّ

بقي الكلام في مرحلة الإثبات بحسب ظاهر الدليل، فنقول:

إنّ الكلام في ذلك يقع في مسألتين:

الاُولى: ما إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت، فهل تجب الإعادة، أو لا؟

والثانية: ما إذا ارتفع العذر بعد الوقت فهل يجب القضاء، أو لا؟

ارتفاع العذر أثناء الوقت:

أمّا المسألة الاُولى: فتارةً نفترض: أنّه قد اُخذ في موضوع دليل الأمر الاضطراريّ استمرار العذر إلى آخر الوقت، وهذا ـ في الحقيقة ـ خارج عن موضوع الكلام؛ إذ بعد ارتفاع العذر ينكشف أنّه لم يكن هناك أمر اضطراريّ حتّى يجزي أو لا يجزي، غاية الأمر: أن يفترض أنّه كان قد ثبت له ظاهراً انطباق الأمر الاضطراريّ عليه(1)، فيدخل في إجزاء الأمر الظاهريّ وعدمه الذي سوف يثبت فيه عدم الإجزاء.

واُخرى نفترض: أنّ موضوع دليل الأمر الاضطراريّ كان هو العذر حين العمل من دون اشتراط الاستمرار إلى آخر الوقت، فهنا تأتي مسألة إجزاء الأمر الاضطراريّ



(1) بناءً على الاستصحاب الاستقباليّ، أو بفرض قيام بيّنة مثلا على أنّ الاضطرار سيستمرّ.

283

وعدمه، وحينئذ فإمّا أن يفرض: أنّ دليل الحكم الاختياريّ يشمل بإطلاقه من صدر منه الفعل الاضطراريّ ثُمّ زال عذره، أو يفرض: عدم الإطلاق فيه لذلك.

أمّا إذا فرض إطلاقه لذلك، فمن الواضح: أنّ مقتضى هذا الإطلاق عدم الإجزاء، إلّا أنّ الكلام يقع في أنّ دليل الأمر الاضطراريّ هل يكون مقيّداً لهذا الإطلاق، أو لا؟

وهناك اُسلوبان لإثبات التقييد:

الاُسلوب الأوّل: ما عن مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من دعوى الدلالة الالتزاميّة العقليّة لدليل الأمر الاضطراريّ، بتقريب: أنّه قد مضى: أنّ الصور الثبوتيّة لوفاء الأمر الاضطراريّ بالملاك أربعة، وأنّه في الصور الثلاث الاُولى يتمّ الإجزاء، وفي الصورة الرابعة لا يتمّ الإجزاء، إذن فلو أبطلنا الصورة الرابعة هنا ببرهان عقليّ، تعيّن الإجزاء، فنقول في مقام إبطالها: إنّ دليل الأمر الاضطراريّ ينسجم مع الصورة الاُولى والثانية من تلك الصور، بأن يكون الفعل الاضطراريّ وافياً بتمام الملاك، أو بمعظمه بحيث يكون الباقي غير ذات أهمّيّة، وغير واجب التدارك، فحينئذ يكون من المعقول الأمر الاضطراريّ بأن يكون هذا المكلّف ـ بحسب الحقيقة ـ مخيّراً بين الإتيان بالفعل الاضطراريّ حين العذر أو الفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، ولا ينسجم مع الصورة الرابعة من تلك الصور، أي: ما لو بقي مقدار مهمّ من الملاك قابل للتدارك؛ إذ على فرض الصورة الرابعة لا يمكن تعقّل الأمر الاضطراريّ بمجرّد العذر في وقت العمل؛ فإنّ الأمر الاضطراريّ لا يعقل إلّا بأحد أشكال ثلاثة كلّها غير صحيحة في المقام:

الأوّل: أن يجب على هذا الشخص معيّناً الفعل الاضطراريّ، وهذا واضح البطلان؛ إذ لا شكّ في أنّه يجوز له أن يصبر إلى أن يزول العذر في الوقت، ويأتي بالفرد الاختياريّ.

284

الثاني: أن يكون مخيّراً بين الفعل الاضطراريّ حين العذر والفعل الاختياريّ بعد زوال العذر على حدّ التخيير بين المتباينين كما افترضنا ذلك على الصورة الاُولى والثانية، وهذا غير معقول؛ إذ معنى ذلك: أنّه إذا أتى بالفعل الاضطراريّ حين العذر ثُمّ ارتفع العذر، لم يجب عليه الإتيان بالفعل الاختياريّ، بينما هذا غير معقول؛ إذ المفروض بقاء مقدار مهمّ من الملاك بدرجة الإلزام، فلماذا لا يجب تداركه؟!

الثالث: أن يكون مخيّراً بين الأقلّ والأكثر، أي: بين الإتيان بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر فقط، أو الإتيان بالفعل الاضطراريّ عند العذر وبالفعل الاختياريّ بعد زواله، وهذا أيضاً غير معقول؛ لعدم معقوليّة التخيير بين الأقلّ والأكثر، فمرجع ذلك إلى وجوب الفعل الاختياريّ، فقط، فلم يثبت عندنا أمر اضطراريّ نتكلّم عن إجزائه وعدمه، وهو خلف.

فإذن الأمر الاضطراريّ بنحو الصورة الرابعة في محلّ الفرض غير معقول، وبنفي الصورة الرابعة يثبت الإجزاء لا محالة.

وعلى أساس هذا البيان بنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1)



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 231 ـ 234 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

وأمّا كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) فليست واضحة في البيان الفنّيّ الذي أفاده هنا اُستاذنا للبرهنة على الإجزاء وإن كان ينبغي توجيه روح المطلب بهذا البيان. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 245 ـ 246 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

ثُمّ إنّ هذه الصياغة المذكورة في المتن مصاغة بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الاُولى

285

وغيرهما على الإجزاء.

ولنا حول هذا البرهان عدّة كلمات:

الكلام الأوّل: أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ذكر في بحث المطلق والمقيّد: أنّه إذا ورد مثلا «اعتق رقبة» وورد «اعتق رقبة مؤمنة» فالجمع بينهما يمكن ثبوتاً بنحوين:

أحدهما: حمل المطلق على المقيّد بأن يفرض: أنّ المراد بقوله: «اعتق رقبة» هو عتق الرقبة المؤمنة.

والثاني: الحمل على التخيير بأن يكون الشخص مخيّراً بين أن يعتق رقبة



من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: أنّ حصول الغرض يستوجب الإجزاء، ويمكن صياغتها بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الثانية، وهي كبرى: أنّ الإتيان بمتعلّق الأمر يستلزم الإجزاء، وذلك بأن يقال: إنّ الأمر المتوجّه إلى هذا الشخص لا يخلو من أن يكون أمراً بالفرد الاضطراريّ معيّناً، أو يكون أمراً تخييريّاً بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره على شكل التخيير بين المتباينين، أو يكون تخييراً بين الأقلّ والأكثر، أي: الفرد الاضطراريّ وحده والفرد الاضطراريّ مع الفرد الاختياريّ، أو يكون أمراً بالفرد الاختياريّ معيّناً.

والرابع خلف فرض عدم اشتراط استمرار العذر. والأوّل باطل يقيناً؛ إذ لا شكّ في جواز تأخير العمل في داخل الوقت إلى زمان ارتفاع العذر. والثالث باطل؛ لبطلان التخيير بين الأقلّ والأكثر، فيتعيّن الثاني، وهو التخيير بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره، فإذا أتى بالفرد الأوّل فقد أتى بمتعلّق الأمر الواقعيّ، وذلك يستلزم الإجزاء.

وتبقى على ذلك الملاحظات الثلاث التي أفادها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).