277

إجزاء الأمر الاضطراريّ

المقام الأوّل: في إجزاء الأمر الاضطراريّ عن الواقع وعدمه.

ولنذكر أوّلاً المحتملات الثبوتيّة بشأن الواجب الاضطراريّ من حيث دوره في تحصيل الغرض والنتائج المترتّبة على تلك المحتملات، ثُمّ نتكلّم فيما هو المستظهر من دليل الأمر الاضطراريّ، فنقول:

المحتملات الثبوتيّة

إنّ المحتملات في الواجب الاضطراريّ أربعة:

1 ـ كونه وافياً بتمام غرض الواقع.

2 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، بحيث يكون الباقي أقلّ من مرتبة الإلزام.

3 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ولكن لا يمكن تحصيله بعد ذلك، من قبيل عطشان طلب الماء البارد، فسقي ماءً حارّاً رفع أصل العطش، فبعد ذلك لا يمكنه التلذّذ بالماء البارد.

4 ـ كونه وافياً ببعض الغرض، ويكون الباقي بمرتبة الإلزام، ويمكن تحصيله.

هذه فروض أربعة، نتكلّم بالنسبة لها في آثار أربعة قد يختلف فيها بعضهاعن بعض:

الأوّل: في الإجزاء عن الواقع وعدمه.

ومن الواضح: أنّ الأوّل يجزي؛ لدخوله تحت الكبرى الاُولى، وهي الوفاء بالغرض، وكذلك الثاني؛ لأنّه وإن بقي شيء من الغرض لكنّه ليس بمرتبة الإلزام بحسب الفرض، وكذلك الثالث؛ لأنّ الباقي وإن كان بمرتبة الإلزام لكنّه لا يمكن

278

استيفاؤه على أيّ حال، أمّا الرابع فلا يجزي؛ لأنّه لم يفِ بتمام الغرض، والباقي ملزم قابل للتدارك بالإعادة بحسب الفرض.

الثاني: في جواز البدار وضعاً وعدمه، بمعنى إجزائه حتّى في صورة البدار وعدمه.

وطبعاً هذا الكلام يقع في الأقسام الثلاثة الاُولى بعد الفراغ عن أنّ الرابع لا يجزي أصلا.

والتحقيق: أنّ النتيجة لا تختلف باختلاف الأقسام الثلاثة الاُولى، فنقول فيها جميعاً: إنّ الوفاء بالغرض بأحد الأنحاء الثلاثة إن كان مشروطاً بعدم البدار، لم يجز البدار، وإلّا جاز البدار.

الثالث: في جواز البدار تكليفاً وعدمه.

ولا ينبغي الإشكال في جوازه في الأوّل والثاني؛ فإنّه إن فرض وفاء العمل بالغرض حتّى مع البدار، فلا وجه لعدم جوازه، وإن فرض عدم وفائه بالغرض مع البدار، فغاية ما يفترض لغويّة العمل لا حرمته، كما لا ينبغي الإشكال في جوازه بمقتضى القاعدة في الرابع أيضاً؛ إذ لا يلزم منه فوات شيء من الغرض، فإنّه حتّى لو كان العمل وافياً في أوّل الوقت ببعض الغرض أمكن تدارك الباقي بعد ذلك إن ارتفع العذر. وأمّا في القسم الثالث، فالجواز التكليفيّ مع الجواز الوضعيّ متعاكسان، فقد قلنا في الجواز الوضعيّ بأنّ العمل لو كان وافياً بالمقدار الذي يفي به من الغرض حتّى مع البدار، جاز البدار، وإلّا فلا، وهنا ينعكس الأمر، فإن كان العمل لا يفي بشيء في أوّل الوقت على تقدير عدم استمرار العذر، جاز له البدار؛ إذ مع ارتفاع العذر يمكنه التدارك، وإن كان العمل يفي بشيء من الغرض المفروض معه عدم إمكان تدارك الباقي، فلا

279

يجوز البدار مع احتمال ارتفاع العذر؛ لأنّه يسدّ باب تدارك الباقي اللازم التحصيل.

وقد يقال: ليس الجوازان متعاكسين، بل متى ما لم يجز البدار تكليفاً لم يكن هناك جواز وضعيّ؛ لأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

أقول: إن فرض: أنّ عدم إمكان تدارك الباقي في القسم الثالث كان على أساس التضادّ بين الملاك الأصغر والملاك الأكبر، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، وإنّما يكون عدم جواز البدار على أساس إرشاد العقل إلى عدم البدار حفاظاً على المصلحة الأوفى، لا أنّ هناك نهياً مولويّاً عن ذلك. وإن فرض: أنّ عدم إمكان التدارك كان على أساس مانعيّة الملاك الأصغر عن الملاك الأكبر، فإن بنينا على إنكار المبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، فأيضاً لا مجال لهذا الإشكال، وإن سلّمناها لكن بنينا على أنّ المبغوضيّة الغيريّة لا تبطل، فأيضاً لا مجال للإشكال.

نعم، لو كان عدم إمكان التدارك على أساس المانعيّة، وقلنا بالمبغوضيّة والمحبوبيّة المقدّميّة، وقلنا بمبطليّة المبغوضيّة الغيريّة، فهناك مجال للاستشكال في صحّة البدار بما عرفت من دعوى أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وقد يجاب على هذا الإشكال بأحد جوابين:

الجواب الأوّل: أنّ المبغوضيّة الغيريّة إن كانت موجبة للبطلان في سائر الموارد، ففي خصوص هذا المقام لا يمكن أن تكون موجبة للبطلان؛ وذلك لأنّ المبغوضيّة في المقام إنّما هي في طول صحّة العمل، حيث إنّه لو صحّ أوجب خسارة قسم مهمّ من الغرض لا يمكن تداركه، فلو نفت صحّةَ العمل لزم أن تنفي نفسها، ويكون وجودها مستلزماً لعدمها، وهذا غير معقول، فلا يقاس المقام بمثل

280

مبغوضيّة الصلاة في الدار المغصوبة التي توجب بطلانها؛ فإنّها ليست في طول صحّة الصلاة، فإنّ الصلاة حتّى إذا كانت باطلة تكون مبغوضة في المكان المغصوب باعتبارها غصباً وتصرّفاً في مال الغير.

ويرد عليه: أنّ المبغوضيّة عارضة في ذهن المولى على العمل الصحيح؛ لكونه صحيحاً، حيث إنّه يوجب فوات قسم مهمّ من الغرض، وهي إلى الأبد مبغوضيّةٌ للعمل الصحيح، ولا يخرج معروض المبغوضيّة عن كونه هو الصحيح. نعم، هذه المبغوضيّة أوجبت أن لايقدر العبد الملتفت إليها على إيجاد مصداق المبغوض، وهو العمل الصحيح في الخارج؛ لاحتياجه إلى قصد القربة الذي لا يتمشّى مع الالتفات إلى المبغوضيّة، وهذا لا يعني: أنّ مبغوضيّة العمل الصحيح أوجبت عدم نفسها ونفت صحّة معروضها، وإنّما يعني: أنّها أوجبت عدم إمكان إيجاد مصداق ذلك المبغوض في الخارج، وهذا لا محذور فيه.

الجواب الثاني: أن يقال: إنّ هذا النهي الغيريّ لو اقتضى البطلان في غير المقام لايقتضي البطلان في المقام؛ إذ لو اقتضى البطلان في المقام، لزم تعلّقه بغير المقدور؛ لأنّه إنّما هو متعلّق بالعمل الصحيح؛ لأنّ غير الصحيح لا يوجب عدم إمكان تدارك الغرض، والعمل الصحيح أصبح غير مقدور بالنهي؛ لأنّ النهي أوجب بطلانه، بينما النهي كالأمر في أنّه يجب أن يتعلّق بالعمل المقدور.

وهذا البيان يمكن دفعه بأكثر من وجه واحد، فلئن سلّمنا أنّ النهي يجب تعلقه بالمقدور، قلنا: إنّ ذلك إنّما يكون في النهي لا في المبغوضيّة، وفيما نحن فيه نفترض المبغوضيّة، وهي يمكن أن تتعلّق حتّى بالعمل الذي يستحيل صدوره من المكلّف.

والصحيح في مقام الجواب عن الإشكال: منع الاُصول الموضوعيّة له؛ فإن مجموع اُصوله الموضوعيّة: من فرض المانعيّة، وتسليم المبغوضيّة والمحبوبيّة

281

الغيريّة، ومبطليّة المبغوضيّة الغيريّة غير مسلّم لدينا، ولا أقلّ من إنكار كون المبغوضيّة الغيريّة موجبة للبطلان.

الرابع: في جواز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً وعدمه.

فنقول: إنّه في القسم الثالث وهو ما لو كان العمل الصحيح الاضطراريّ موجباً للوفاء بمقدار من مصلحة العمل الاختياريّ، وفوات مقدار من الغرض مهمّ، وغير قابل للتدارك لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً، سواء فرض: أنّ وفاء العمل بمقدار من المصلحة وصحّته كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو فرض: أنّه لم يكن مشروطاً بذلك، فإنّه على الأوّل يُحرم نفسه من تحصيل غرض المولى وامتثال أمره نهائيّاً، وعلى الثاني يُحرم نفسه من القسم المتبقي من الغرض الذي فرض كونه بمقدار الإلزام، ولا يمكن تداركه.

وفي القسمين الأوّلين يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار اختياراً لو فرض: أنّ وفاء العمل بما يفي به من مصلحة ـ بحسب الفرض ـ ليس مشروطاً بأن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار، أمّا لو كان مشروطاً بذلك فلا يجوز؛ لأنّه يستوجب فوات كلّ الغرض؛ لعجزه عن العمل الاختياريّ وبطلان عمله الاضطراريّ باشتراط أن لا يكون الاضطرار بسوء الاختيار.

وفي القسم الرابع يأتي حكم القسم الثالث، فيقال: إنّه لا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار بسوء الاختيار سواء فرض: أنّ الجواز الوضعيّ للعمل كان مشروطاً بكون الاضطرار لا بسوء الاختيار، أو لم يفرض ذلك، فإنّه على الأوّل قد فوّت على نفسه تمام الملاك؛ لعجزه إلى آخر الوقت ـ بحسب المفروض ـ عن الإتيان بالعمل الاختياريّ وبطلان عمله غير الاختياريّ؛ لفقد شرطه، وعلى الثاني قد فوّت على المولى قسماً مهمّاً من الغرض؛ إذ مع بقاء العجز إلى آخر الوقت لا يمكنه تدارك ذلك بوجه من الوجوه.

282

هذا تمام الكلام في مرحلة الثبوت، وقد ظهر: أنّه بلحاظ مرحلة الثبوت يتعيّن الإجزاء في الصور الثلاث الاُولى من الصور الأربعة المحتملة ثبوتاً، وعدم الإجزاء في الصورة الرابعة.

البحث الإثباتيّ

بقي الكلام في مرحلة الإثبات بحسب ظاهر الدليل، فنقول:

إنّ الكلام في ذلك يقع في مسألتين:

الاُولى: ما إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت، فهل تجب الإعادة، أو لا؟

والثانية: ما إذا ارتفع العذر بعد الوقت فهل يجب القضاء، أو لا؟

ارتفاع العذر أثناء الوقت:

أمّا المسألة الاُولى: فتارةً نفترض: أنّه قد اُخذ في موضوع دليل الأمر الاضطراريّ استمرار العذر إلى آخر الوقت، وهذا ـ في الحقيقة ـ خارج عن موضوع الكلام؛ إذ بعد ارتفاع العذر ينكشف أنّه لم يكن هناك أمر اضطراريّ حتّى يجزي أو لا يجزي، غاية الأمر: أن يفترض أنّه كان قد ثبت له ظاهراً انطباق الأمر الاضطراريّ عليه(1)، فيدخل في إجزاء الأمر الظاهريّ وعدمه الذي سوف يثبت فيه عدم الإجزاء.

واُخرى نفترض: أنّ موضوع دليل الأمر الاضطراريّ كان هو العذر حين العمل من دون اشتراط الاستمرار إلى آخر الوقت، فهنا تأتي مسألة إجزاء الأمر الاضطراريّ



(1) بناءً على الاستصحاب الاستقباليّ، أو بفرض قيام بيّنة مثلا على أنّ الاضطرار سيستمرّ.

283

وعدمه، وحينئذ فإمّا أن يفرض: أنّ دليل الحكم الاختياريّ يشمل بإطلاقه من صدر منه الفعل الاضطراريّ ثُمّ زال عذره، أو يفرض: عدم الإطلاق فيه لذلك.

أمّا إذا فرض إطلاقه لذلك، فمن الواضح: أنّ مقتضى هذا الإطلاق عدم الإجزاء، إلّا أنّ الكلام يقع في أنّ دليل الأمر الاضطراريّ هل يكون مقيّداً لهذا الإطلاق، أو لا؟

وهناك اُسلوبان لإثبات التقييد:

الاُسلوب الأوّل: ما عن مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من دعوى الدلالة الالتزاميّة العقليّة لدليل الأمر الاضطراريّ، بتقريب: أنّه قد مضى: أنّ الصور الثبوتيّة لوفاء الأمر الاضطراريّ بالملاك أربعة، وأنّه في الصور الثلاث الاُولى يتمّ الإجزاء، وفي الصورة الرابعة لا يتمّ الإجزاء، إذن فلو أبطلنا الصورة الرابعة هنا ببرهان عقليّ، تعيّن الإجزاء، فنقول في مقام إبطالها: إنّ دليل الأمر الاضطراريّ ينسجم مع الصورة الاُولى والثانية من تلك الصور، بأن يكون الفعل الاضطراريّ وافياً بتمام الملاك، أو بمعظمه بحيث يكون الباقي غير ذات أهمّيّة، وغير واجب التدارك، فحينئذ يكون من المعقول الأمر الاضطراريّ بأن يكون هذا المكلّف ـ بحسب الحقيقة ـ مخيّراً بين الإتيان بالفعل الاضطراريّ حين العذر أو الفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، ولا ينسجم مع الصورة الرابعة من تلك الصور، أي: ما لو بقي مقدار مهمّ من الملاك قابل للتدارك؛ إذ على فرض الصورة الرابعة لا يمكن تعقّل الأمر الاضطراريّ بمجرّد العذر في وقت العمل؛ فإنّ الأمر الاضطراريّ لا يعقل إلّا بأحد أشكال ثلاثة كلّها غير صحيحة في المقام:

الأوّل: أن يجب على هذا الشخص معيّناً الفعل الاضطراريّ، وهذا واضح البطلان؛ إذ لا شكّ في أنّه يجوز له أن يصبر إلى أن يزول العذر في الوقت، ويأتي بالفرد الاختياريّ.

284

الثاني: أن يكون مخيّراً بين الفعل الاضطراريّ حين العذر والفعل الاختياريّ بعد زوال العذر على حدّ التخيير بين المتباينين كما افترضنا ذلك على الصورة الاُولى والثانية، وهذا غير معقول؛ إذ معنى ذلك: أنّه إذا أتى بالفعل الاضطراريّ حين العذر ثُمّ ارتفع العذر، لم يجب عليه الإتيان بالفعل الاختياريّ، بينما هذا غير معقول؛ إذ المفروض بقاء مقدار مهمّ من الملاك بدرجة الإلزام، فلماذا لا يجب تداركه؟!

الثالث: أن يكون مخيّراً بين الأقلّ والأكثر، أي: بين الإتيان بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر فقط، أو الإتيان بالفعل الاضطراريّ عند العذر وبالفعل الاختياريّ بعد زواله، وهذا أيضاً غير معقول؛ لعدم معقوليّة التخيير بين الأقلّ والأكثر، فمرجع ذلك إلى وجوب الفعل الاختياريّ، فقط، فلم يثبت عندنا أمر اضطراريّ نتكلّم عن إجزائه وعدمه، وهو خلف.

فإذن الأمر الاضطراريّ بنحو الصورة الرابعة في محلّ الفرض غير معقول، وبنفي الصورة الرابعة يثبت الإجزاء لا محالة.

وعلى أساس هذا البيان بنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1)



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 231 ـ 234 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

وأمّا كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) فليست واضحة في البيان الفنّيّ الذي أفاده هنا اُستاذنا للبرهنة على الإجزاء وإن كان ينبغي توجيه روح المطلب بهذا البيان. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 245 ـ 246 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

ثُمّ إنّ هذه الصياغة المذكورة في المتن مصاغة بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الاُولى

285

وغيرهما على الإجزاء.

ولنا حول هذا البرهان عدّة كلمات:

الكلام الأوّل: أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ذكر في بحث المطلق والمقيّد: أنّه إذا ورد مثلا «اعتق رقبة» وورد «اعتق رقبة مؤمنة» فالجمع بينهما يمكن ثبوتاً بنحوين:

أحدهما: حمل المطلق على المقيّد بأن يفرض: أنّ المراد بقوله: «اعتق رقبة» هو عتق الرقبة المؤمنة.

والثاني: الحمل على التخيير بأن يكون الشخص مخيّراً بين أن يعتق رقبة



من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: أنّ حصول الغرض يستوجب الإجزاء، ويمكن صياغتها بالنحو المناسب لتطبيق الكبرى الثانية، وهي كبرى: أنّ الإتيان بمتعلّق الأمر يستلزم الإجزاء، وذلك بأن يقال: إنّ الأمر المتوجّه إلى هذا الشخص لا يخلو من أن يكون أمراً بالفرد الاضطراريّ معيّناً، أو يكون أمراً تخييريّاً بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره على شكل التخيير بين المتباينين، أو يكون تخييراً بين الأقلّ والأكثر، أي: الفرد الاضطراريّ وحده والفرد الاضطراريّ مع الفرد الاختياريّ، أو يكون أمراً بالفرد الاختياريّ معيّناً.

والرابع خلف فرض عدم اشتراط استمرار العذر. والأوّل باطل يقيناً؛ إذ لا شكّ في جواز تأخير العمل في داخل الوقت إلى زمان ارتفاع العذر. والثالث باطل؛ لبطلان التخيير بين الأقلّ والأكثر، فيتعيّن الثاني، وهو التخيير بين الفرد الاضطراريّ في أوّل الوقت والفرد الاختياريّ في آخره، فإذا أتى بالفرد الأوّل فقد أتى بمتعلّق الأمر الواقعيّ، وذلك يستلزم الإجزاء.

وتبقى على ذلك الملاحظات الثلاث التي أفادها اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

286

مؤمنة، أو يعتق رقبة كافرة ثُمّ رقبةً مؤمنة، إلّا أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل.

هذا ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في بحث المطلق والمقيّد(1).

فنقول هنا: لئن كان من المعقول في باب المطلق والمقيّد التخيير بين عتق رقبة مؤمنة فقط وعتق رقبة مؤمنة قبلها عتق رقبة كافرة، فلماذا لا يعقل في المقام التخيير بين العمل الاختياريّ فقط وبين العمل الاختياريّ وقبله العمل الاضطراريّ الذي هو الشقّ الثالث من الشقوق التي فرض بطلانها جميعاً؟ وأيّ فرق بينهما؟

وقد ذكرت مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في بحث الواجب التخييري(2): أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر غير معقول، إلّا إذا اُرجع إلى التخيير بين المتباينين، بأن يخيّر بين ذات الأقلّ بشرط لا وذات الأقلّ بشرط شيء، فلئن كان هذا معقولا في موارد التخيير بين الأقلّ والأكثر، ومعقولا في المطلق والمقيّد، بأن يتخيّر مثلا بين عتق الرقبة المؤمنة بشرط لا عن عتق الكافرة، وبين عتق الرقبة المؤمنة بشرط أن يعتق قبل ذلك الكافرة، فلماذا لا يعقل فيما نحن فيه، بأن يتخيّر بين العمل الاختياريّ بشرط لا عن العمل الاضطراريّ، والعمل الاختياريّ بشرط سبق العمل الاضطراريّ؟!

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر غير معقول، لا في



(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 379 بحسب طبعة مطبعة مهر بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 186 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، راجع المتن والتعليق. وفوائد الاُصول، ج 1، ص 235 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أيضاً المحاضرات، ج 4، ص 44 ـ 47 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

287

المقام ولا في بحث المطلق والمقيّد؛ وذلك لأنّ التخيير بينهما بلا رجوع إلى التخيير بين المتباينين غير معقول، وبالرجوع إلى التخيير بين المتباينين بأن يخيّر بين الأقلّ بشرط لا والأقلّ بشرط شيء إنّما يعقل لو كان هناك شقّ ثالث على تقدير وجود ذات الأقلّ، أي: أمكن تحقّق ذات الأقلّ من دون تحقّق القيد العدميّ ولا القيد الوجوديّ، وذلك كما لو خيّر بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن أيّ تسبيحة اُخرى وبين ثلاث تسبيحات، فإنّه يمكن انتفاؤهما معاً مع وجود ذات الأقلّ، وذلك بأن يأتي بتسبيحتين، أمّا لو لم يكن لهما ضدّ ثالث كما لو خيّر بين التسبيحة الواحدة بشرط لا عن الثالثة وبين التسبيحة بشرط الثلاث، فهذا التخيير غير معقول؛ لأنّ الجامع بين القيدين مع تحقّق ذات الأقلّ أمر لابدّ منه تكويناً، فما معنى تعلّق الأمر الضمنيّ بأحدهما على سبيل التخيير؟!

وما نحن فيه، وكذلك باب المطلق والمقيّد من هذا القبيل؛ فإنّ العمل الاختياريّ بشرط لا عن العمل الاضطراريّ مع العمل الاختياريّ المنضمّ إلى العمل الاضطراريّ لا ثالث لهما بعد فرض إيجاد العمل الاختياريّ، وكذلك عتق الرقبة المؤمنة بشرط لا عن عتق الكافرة، وعتقها مع عتق الكافرة لا ثالث لهما بعد فرض أصل عتق المؤمنة.

الكلام الثاني: أنّ هذا البرهان مشتمل على فرض شقوق ثلاثة للأمر الاضطراريّ على تقدير الصورة الرابعة المنتجة لعدم الإجزاء مع إبطال كلّ واحد منها، بينما هناك شقّ رابع لا دليل على بطلانه، وهو افتراض أمرين: أحدهما تعلّق بالجامع بين الفعل الاختياريّ والاضطراريّ، وهو الذي نسمّيه بالأمر الاضطراريّ، والآخر تعلّق بخصوص العمل الاختياريّ، فإن لم يعمل إلى أن ارتفع العذر في الوقت، ثمّ أتى بالعمل الاختياريّ، كان هذا امتثالا لكلا الأمرين، وإن أتى بالفعل الاضطراريّ ثُمّ ارتفع العذر في أثناء الوقت، فقد امتثل الأمر

288

بالجامع بعمله الاضطراريّ، ولكن هذا المقدار لا يجزي عنه؛ لوجود أمر آخر عليه بالعمل الاختياريّ لم يمتثله.

فإن قلت: إنّ الأمر بالجامع لغو صرف؛ إذ يكفي عنه الأمر بالعمل الاختياريّ؛ حيث إنّه بامتثاله يحصل الجامع أيضاً دون العكس.

قلت: أوّلا: لابدّ ـ على أيّ حال ـ من وجود أمرين؛ فإنّ المكلّفين على ثلاثة أصناف: فمنهم من هو صحيح قادر على العمل الاختياريّ في تمام الوقت، ومنهم من يحصل له العذر ثُمّ يرتفع عنه العذر في أثناء الوقت، ومنهم من يستمرّ به العذر إلى آخر الوقت.

فبالنسبة إلى الأوّلين لابدّ من أمر بالعمل الاختياريّ الذي هو الواجد لتمام الملاك، وهذا الأمر لا يفيد بالنسبة إلى الثالث لعدم قدرته على العمل الاختياريّ طيلة الوقت، فلابدّ من أمر آخر، وهذا الأمر الآخر كما يمكن تصويره بأن يكون أمراً بالفعل الاضطراريّ مخصوصاً بالمضطرّ الذي استمرّ اضطراره إلى آخر الوقت، كذلك يمكن تصويره بأن يكون أمراً بالجامع بين الفعل الاضطراريّ في حال الاضطرار والفعل الاختياريّ شاملا لكلّ أقسام المكلفين، فمن يستطيع الإتيان بالفعل الاختياريّ يمكنه امتثال الجامع في ضمن هذا الفرد، ومن يبقى عذره إلى آخر الوقت يمتثل الجامع في ضمن الفرد الاضطراريّ.

وثانياً: أنّه من الجائز أن يكون للمولى غرضان: أحدهما في الجامع، والآخر في خصوص العمل الاختياريّ، فلا لغويّة في افتراض أمرين: أحدهما بالجامع والآخر بالحصّة، بحيث لو أتى بالجامع وترك الحصّة كان عذابه أخفّ ممّا لو ترك العمل رأساً.

الكلام الثالث: أنّ برهان مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لو تمّ، فإنّما تكون نتيجته ثبوت الحكم الاضطراريّ فيمن اضطرّ أوّل الوقت، والإجزاء بالإتيان بذلك عند

289

الاضطرار وإن زال عنه العذر في آخر الوقت إذا فرض أنّ الأمر الاضطراريّ كان ثابتاً في حقّ من لم يستوعب اضطراره طول الوقت بالتصريح، وأمّا إذا كان بالإطلاق ومن باب عدم التقييد بمن استوعب اضطراره تمام الوقت، فنتيجة هذا البرهان ليست هي ثبوت الحكم الاضطراريّ مع الإجزاء، بل النتيجة هي وقوع التعارض بين إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ وإطلاق دليل الحكم الاختياريّ؛ حيث إنّ شمول إطلاق دليل الحكم الاختياريّ لمن أتى بالفعل الاضطراريّ في أوّل الوقت ثُمّ ارتفع عذره في الأثناء يوجب عدم إجزاء العمل الاضطراريّ، بينما إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ يوجب بلحاظ برهان مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله)النافي للصورة الرابعة الإجزاء، فكلّ منهما يدفع الآخر، فإن لم يكن مرجّح لأحد المتعارضين على الآخر من قبيل أن يكون أحدهما بالعموم والآخر بالإطلاق مثلا، تساقطا، ورجعنا إلى الأصل، وهو يقتضي عدم وجوب الإعادة على ما سوف يأتي إن شاء الله، فبالأخرة وصلنا إلى نتيجة الإجزاء المطلوب في المقام، وإن كان أحدهما أرجح، قدّم(1).

الاُسلوب الثاني: دعوى: أنّه وإن لم تكن ملازمة عقليّة بين الأمر الاضطراريّ والإجزاء، ولكن المستظهر بحسب ظاهر الأدلّة هو الإجزاء.

وهذا له عدّة تقريبات:



(1) ولو كان الترجيح مع دليل العمل الاختياريّ، وقدّم على دليل العمل الاضطراريّ، كان معنى ذلك بعد فرض البناء على أصل برهان مدرسة المحقّق النائينيّ: عدم شمول الأمر الاضطراريّ لصورة ارتفاع العذر في أثناء الوقت، لا شموله لها مع عدم الإجزاء.

هذا. وعمدة التعاليق الثلاثة هو التعليق الثاني الذي يردّ البرهان بإبطال نكتته حلاّ.

290

التقريب الأوّل: أنّه إذا عرفنا أنّ المولى كان بصدد بيان كلّ وظيفة فعليّة للمكلّف، قلنا: إنّه لو لم يكن مجزياً لكان يبيّن: أنّ الوظيفة الفعليّة بعد زوال العذر هي الإعادة، فنعرف بالإطلاق المقاميّ الإجزاء.

إلّا أنّ هذا التقريب يتوقّف على وجود قرينة خاصّة على كون المولى في مقام بيان كلّ وظيفة فعليّة للمكلّف بهذا الصدد، وإلّا فمقتضى الطبع الأوّليّ للكلام: أنّه في مقام بيان الوظيفة الاضطراريّة دون أن يستظهر من ذلك كونه في مقام بيان كلّ الوظائف الفعليّة. على أنّه حينما يتمّ إطلاق من هذا القبيل يكون معارضاً لإطلاق دليل الحكم الاختياريّ الشامل لمن أتى بالعمل الاضطراريّ في أوّل الوقت ثُمّ ارتفع عذره المقتضي لعدم الإجزاء، فإمّا يتساقطان، ونرجع إلى الأصل المقتضي لعدم الإعادة، أو يتقدّم أحدهما حينما يكون أقوى بحيث يصلح قرينة على الآخر، دون العكس، ولا يبعد أن يكون الغالب في الإطلاق المقاميّ أنّه الأقوى ولو لضيق دائرته وسعة دائرة الإطلاق المتعارف، لكنّ هذا إنّما يفيد إذا كان الإطلاق المقاميّ في طول التصريح في دليل الأمر الاضطراريّ بشموله لمن عمل عملا اضطراريّاً ثُمّ ارتفع عذره، ولا يفيد إذا كان الإطلاق المقاميّ في طول إطلاق دليل العمل الاضطراريّ لمن عمل ثُمّ ارتفع عذره في الأثناء، فإنّ هذا الإطلاق ليس مقاميّاً.

التقريب الثاني: يتوقّف على أن يستفاد من لسان دليل الحكم الاضطراريّ البدليّة والتنزيل منزلة الوظيفة الاختياريّة، فمتى ما استفيد ذلك: إمّا من اللسان اللفظيّ للدليل كما في مثل «التراب أحد الطهورين»(1)، أو من باب اقتناص هذا



(1) ورد في صحيحة محمّد بن مسلم: «قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أجنب، فتيمّم بالصعيد وصلّى، ثُمّ وجد الماء. قال: لا يعيد، إنّ ربّ الماء ربّ الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين». وسائل الشيعة، ج 3، باب 14 من التيمّم، ح 15، ص 370 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

291

العنوان من مجموع القرائن المقاميّة واللفظيّة ونحو ذلك، كان مقتضى إطلاق البدليّة هو البدليّة على الإطلاق، أي: البدليّة في كلّ الجهات والمراتب، وإذا كان كذلك أوجب الإجزاء لا محالة.

وهذا تقريب تامّ في كلّ مورد انتزع من دليل الحكم الاضطراريّ لفظاً أو مقاماً البدليّة والتنزيل منزلة العمل الاختياريّ، وإشكال التعارض مع إطلاق دليل الحكم الاختياريّ لا يأتي هنا؛ لأنّه إذا فرض: أنّ لسان دليل الحكم الاضطراريّ كان هو لسان البدليّة والتنزيل منزلة العمل المحكوم بالحكم الاختياريّ، كان ناظراً ـ لا محالة ـ إلى الوظيفة الواقعيّة الاختياريّة، فيكون حاكماً على دليل الحكم الواقعيّ الاختياريّ بملاك النظر(1). هذا.



(1) لا يخفى: أنّ هذا المطلب تارةً يصاغ بصياغة مناسبة للكبرى الاُولى من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: أنّ حصول الغرض يستلزم الإجزاء، بأن يقال: إنّ ظاهر دليل الوظيفة الاضطراريّة البدليّة عن الوظيفة الاختياريّة في تمام المراتب والملاكات، وهذا هو الذي يكون بحاجة إلى نكتة خاصّة في اللفظ كما في مثل: «التراب أحد الطهورين»، أو إلى اقتناص هذا العنوان من مجموع القرائن المقاميّة واللفظيّة، ونحو ذلك.

واُخرى يصاغ بصياغة تناسب الكبرى الثانية من كبريي الإجزاء، وهي كبرى: استلزام الإتيان بالمتعلّق للإجزاء، وذلك بأن تترك مسألة البدليّة في الأثار والملاكات، بل يقال فقط: إنّ دليل العمل الاضطراريّ يكون عادةً ناظراً إلى الحكم الاختياريّ، وعلاج مشكلة الاضطرار التي منعت المكلّف في حينه عن العمل الاختياريّ، وهذا النظر يعطيه ظهوراً في البدليّة، ولا أقصد البدليّة في الآثار والملاكات أو المراتب، وإنّما أقصد البدليّة في التكليف، فلو كان هذا الدليل له إطلاق لمن اضطرّ في أوّل الوقت وبُرئ في آخره، لكان ـ لا محالة ـ ظاهراً في أنّ حكمه الاختياريّ تحوّل إلى الحكم التخييريّ بين العمل

292

وقد ذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله) تقريباً(1) لدلالة إطلاق دليل الحكم الاضطراريّ على الإجزاء لا يبعد رجوعه إلى هذا التقريب، ولكن أعقبه بإشكالين:

الإشكال الأوّل: أنّ إطلاق البدليّة لتمام المراتب في دليل الحكم الاضطراريّ الحاكم بالصلاة الجلوسيّة مثلا يعارض ظهور دليل الحكم الاختياريّ في دخل القيام في المصلحة ولو ببعض مراتبها(2).

والجواب على ذلك ما عرفته من حكومة دليل الحكم الاضطراريّ بملاك النظر.

الإشكال الثاني: تصعيد للإشكال الأوّل، بتقريب: أنّه إذا وقع التعارض بين إطلاق دليل البدليّة ودليل الحكم الاختياريّ، قدّم دليل الحكم الاختياريّ.

وذكر في مقام تقريب ذلك نكتتين(3):

الاُولى: أنّ ظهور دليل البدليّة في البدليّة في جميع المراتب يكون بالإطلاق،



الاضطراريّ في أوّل الوقت والاختياريّ في آخره، أو أنّ الحكم من أوّل الأمر كان تخييريّاً بين العمل الاختياريّ في حال الاختيار والاضطراريّ في حال الاضطرار، وإذا كان الأمر كذلك، فقد حصل الإجزاء ـ لا محالة ـ بإتيان متعلّق الأمر.

ولا يشذّ عن هذا الذي ذكرناه إلّا فرض نادر، وهو فرض ما إذا لم يكن دليل الاضطرار ناظراً إلى الحكم الاختياريّ: إمّا بأن يكون دليلا لبّيّاً لا نظر له، أو بأن يكون دليلا لفظيّاً أوجب شيئاً في حال الاضطرار، لا كعلاج لمشكلة الاضطرار حتّى يكون ناظراً إلى الحكم الاختياريّ.

(1) راجع المقالات، ج 1، ص 274 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) نفس المصدر، ص 275.

(3) نفس المصدر.

293

بينما ظهور دليل الحكم الاختياريّ في دخل القيام في المصلحة ظهور وضعيّ للهيئة التركيبيّة لقوله: «صلِّ قائماً»، فيقدّم على الظهور الإطلاقيّ.

ويرد عليه: أنّ فرض كون دلالة قوله: «صلِّ قائماً» على دخل القيام في المصلحة بالظهور الوضعيّ للهيئة التركيبيّة لا يؤثّر في مقام تقديم دليل الحكم الاختياريّ على دليل البدليّة؛ وذلك لأنّ المعارض لإطلاق البدليّة ليس هو أصل دخل القيام في المصلحة، وإنّما هو إطلاق دخله فيها لصورة ما إذا ارتفع العذر في الأثناء، ولا إشكال في أنّ هذا بالإطلاق لا بالوضع.

الثانية: أنّ دليل الحكم الاختياريّ حاكم على دليل الحكم الاضطراريّ؛ وذلك لأنّ دليل الحكم الاختياريّ ظاهر في دخل القيام في المصلحة المطلوبة، وهذا يقتضي وجوب حفظ القدرة على القيام، وذلك يقتضي المنع من تفويت القدرة، أي: المنع من إيقاع نفسه في الاضطرار، والاضطرار هو موضوع دليل الحكم الاضطراريّ، إذن فدليل الحكم الاختياريّ رافع لموضوع دليل الحكم الاضطراريّ، فيكون حاكماً عليه، فيقدّم عليه بالحكومة.

وهذا الكلام منه(قدس سره) غريب جدّاً، ولو كنّا قد رأيناه في كلام شخص آخر ينسبه إليه، لكنّا نطمئنّ بخطأ النسبة، لكنّه قد جرى هذا الكلام على قلمه الشريف في مقالاته.

ومن الواضح: أنّ الحكومة بملاك رفع الموضوع إنّما تكون في نفي الموضوع شرعاً بلحاظ عالم الجعل والاعتبار، كما لو نفى الربا بين الوالد وولده، فيحكم على دليل حرمة الربا؛ وذلك باعتبار أنّ هذا الدليل دلّ على انتفاء موضوع الحكم الآخر، وإذا انتفى الموضوع انتفى المحمول الذي هو الحكم، ولا يكون في النهي عن إيجاد الموضوع خارجاً، كما لو نهى عن الربا بين الوالد وولده، فهذا النهي لا يكون حاكماً على دليل حكم من أحكام الربا؛ إذ لو عصى النهي وأوجد الربا

294

بين الوالد وولده فهذا الدليل لا يدلّ على انتفاء الربا ـ وهو الموضوع ـ حتّى ينتفي الحكم والمحمول، وفي ما نحن فيه لو سلّمت كلّ هذه الدلالات، فغايته النهي عن إيقاع النفس في الاضطرار، أمّا لو أوقع نفسه في الاضطرار، أو وقع قهراً في الاضطرار، فدليل الحكم الواقعيّ الاختياريّ لم ينفِ تحقّق هذا الاضطرار حتّى يكون حاكماً على دليل الحكم الاضطراريّ ومقدّماً عليه.

التقريب الثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ دليل الأمر الاضطراريّ حينما يطلق يدلّ بإطلاقه على الوجوب التعيينيّ للصلاة الجلوسيّة مثلا، كما هو الحال في كلّ أمر؛ فإنّه ظاهر بإطلاقه في التعيينيّة، وتعيينيّة هذا الأمر ملازمة للإجزاء؛ وذلك لأنّ المحتملات الثبوتيّة في العمل الاضطراريّ الذي اُمر به من حيث الوفاء بالغرض ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن يكون وافياً بتمام الغرض، فيوجب الإجزاء بملاك استيفاء الغرض، ولكن هذا الاحتمال منفيّ بظهور الأمر في التعيين؛ إذ لو كان العمل الاضطراريّ وافياً بتمام الملاك، إذن لكان الملاك في الجامع بين أن يأتي بالفعل الاختياريّ بعد زوال عذره، وأن يأتي بالفعل الاضطراريّ حين العذر، فلابدّ من الأمر بالجامع بينهما، ولا مبرّر للأمر التعيينيّ بخصوص الفعل الاضطراريّ.

الاحتمال الثاني: أن يكون وافياً ببعض الغرض لا بتمام الغرض، وأن يمكن استيفاء باقي الغرض بالإتيان بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وهذا معناه: أنّ الغرض كأنّما ينقسم إلى ملاكين: أحدهما موجود في الجامع بين الفعلين، والآخر موجود في خصوص الحصّة الاختياريّة، وهذا يوجب عدم الإجزاء، لكن ظهور الأمر الاضطراريّ في التعيينيّة أيضاً ينفي هذا الاحتمال؛ فإنّ الأمر بالحصّة الاضطراريّة إنّما هو لأجل الملاك المشترك بين الحصّتين، بينما هذا يوجب الأمر التخييريّ بالجامع، لا الأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة، ولا مبرّر للأمر التعيينيّ بالفعل الاضطراريّ.

295

الاحتمال الثالث: أن يكون وافياً ببعض الغرض لا بتمامه، وأن لا يمكن استيفاء باقي الغرض، وهذا يوجب الإجزاء بملاك العجز عن باقي الغرض، وهنا أيضاً الملاك المقتضي للأمر الاضطراريّ متعلّق بالجامع، إلّا أنّ هناك مبرّراً لتعلّق الأمر التعيينيّ بالفعل الاضطراريّ، وهو أنّه لولا الأمر التعيينيّ كما لو كان الأمر متعلّقاً بالجامع، لم يسمح العقل باختيار هذا الفرد من الجامع، أعني: الفعل الاضطراريّ؛ لأنّه مفوّت لباقي الغرض، ومعجّز عن تحصيله، إلّا أنّ حكم العقل بعدم جواز ذلك معلّق طبعاً على عدم مجيء ما يخالفه من الشارع في ذلك، والأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة يخالف ذلك، فيفرض: أنّ المولى أمر تعييناً بهذه الحصّة دفعاً لحكم العقل بعدم جواز اختيار هذه الحصّة.

فتحصّل: أنّ ظهور الأمر الاضطراريّ في التعيينيّة لا ينسجم إلّا مع هذا الاحتمال الثالث المستلزم للإجزاء، إذن فالأمر الاضطراريّ يدلّ على الإجزاء(1).

هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام توضيح مرام المحقّق العراقيّ (رحمه الله).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّه لا معنى للأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة على الاحتمال الثالث أيضاً؛ وذلك لأنّ الأمر بالفعل الاختياريّ في حقّ هذا الشخص: إمّا يفرض كونه أمراً بخصوص الحصّة الاختياريّة التي لم يسبقها الفعل الاضطراريّ، أو يفرض كونه أمراً بإيقاع الفعل الاختياريّ بين الحدّين كالزوال والغروب، من دون تقييد ذلك بتلك الحصّة الاختياريّة التي لم يسبقها الفعل الاضطراريّ.

فإن فرض الأوّل، فالإلزام بالمقيّد إلزام بالقيد لا محالة، فهذا إلزام له بعدم



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 268 ـ 269، و ص 277 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

296

الإتيان بالحصّة الاضطراريّة، فكيف يجتمع ذلك مع الإلزام التعيينيّ بالإتيان بالحصّة الاضطراريّة؟!

وإن فرض الثاني(1)، فلا قبح في تفويت باقي غرض المولى بالإتيان بالحصّة الاضطراريّة حتّى يكون هذا مبرّراً للأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة بداعي دفع هذا القبح؛ وذلك لأنّ الإتيان بالحصّة الاضطراريّة لا يكون مفوّتاً للعمل بالأمر، وإنّما هو مفوّت لغرض لم يتصدَّ المولى لتحصيله بالأمر، والغرض الذي لم يتصدّ المولى لتحصيله، ولم يأمر به لا يدخل تحت عهدة المكلّف كما هو مسلّم عند المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وهو أساس للقول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، إذن فينبغي أن يكون الأمر الاضطراريّ متعلّقاً بالجامع لنشوئه من ملاك موجود في الجامع، ولا مبرّر لتعلّقه بخصوص الحصّة الاضطراريّة.

وثانياً(2): أنّنا لو غضضنا النظر عن الإشكال الأوّل، فأيضاً نقول: لا مبرّر للأمر



(1) فكان عدم الإتيان بالحصّة الاضطراريّة قيداً لوجوب خصوص الحصّة الاختياريّة، لا قيداً للواجب.

(2) الأولى أن يقرّب الإشكال بهذا البيان: وهو أنّ الأمر التعيينيّ بالعمل الاضطراريّ: إن فرض أمراً بداعي البعث والتحريك الحقيقيّ، فهذا لا يعقل نشوؤه إلّا من ملاك في الحصّة المعيّنة دون الملاك في الجامع، كما ينبّه إلى ذلك أنّه يترتّب على هذا الأمر التعيينيّ محذوران، وهنا يذكر المحذوران الموجودان في متن كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله). وإن فرض أمراً صوريّاً بداعي المنع عن حكم العقل بلزوم ترك الحصّة الاضطراريّة حفظاً للقدرة، فالأمر الصوريّ لا معنى له، ولا أثر له، إلّا إذا رجع في حقيقته إلى الترخيص في الحصّة الاضطراريّة الذي هو ترخيص في تفويت الملاك، وحمل الأمر على التخيير ليس بأكثر مخالفة للظاهر من حمله على الأمر الصوريّ أو الترخيص، فلا يبقى مبرّر للأصل الموضوعيّ الذي فرض لهذا الدليل، وهو دلالة الأمر بإطلاقه على التعيينيّة.

297

التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة، فإنّ هذا الأمر قد نشأ من ملاك في الجامع بحسب الفرض، فيجب أن يكون متعلّقاً بالجامع، ولا يجوز تعلّقه بالحصّة الاضطراريّة. وأمّا تبرير ذلك بكون الأمر التعيينيّ بالحصّة الاضطراريّة استطراقاً إلى رفع حكم العقل بقبح الإتيان بالحصّة الاضطراريّة مع فرض زوال العذر في الأثناء؛ لكونه مفوّتاً لقسم من الغرض، فممنوع؛ وذلك لأنّه يكفي في رفع حكم العقل بقبح ذلك مجرّد الترخيص من قبل الشارع في الحصّة الاضطراريّة بلا حاجة إلى الأمر التعيينيّ بها، والترخيص في ذلك يتحقّق: إمّا بدعوى: أنّ نفس الأمر التخييريّ بالجامع يستبطن الترخيص في التطبيق على هذه الحصّة، أو بأن ينشئ المولى ترخيصاً خاصّاً في ذلك، إذن فلو أمر تعييناً بالحصّة الاضطراريّة، لم يكن أمره كذلك لمجرّد الاستطراق إلى رفع حكم العقل بقبح الإتيان بتلك الحصّة حتّى يفرض مثلا: أنّه لا يترتّب على هذا الأمر محذور؛ لعدم وجوب طاعته؛ لعدم كونه أمراً حقيقيّاً بذاك المعنى، بل هو استطراق إلى رفع ذلك القبح، بل يكون أمراً تعيينيّاً حقيقيّاً بداعي البعث الحقيقيّ إلى الحصّة الاضطراريّة، بينما هو ناشئ من الملاك الثابت في الجامع، لا في خصوص تلك الحصّة، ويترتّب على هذا الأمر التعيينيّ محذوران:

1 ـ إنّه لو خالفه المكلّف، ولم يأتِ بالفعل الاضطراريّ إلى أن زال الاضطرار، فاُمر بالفعل الاختياريّ، وخالفه أيضاً إلى أن انقضى الوقت، عوقب بعقابين، وكان أسوأ حالا ممّن لم يبتلِ بالاضطرار في شيء من الوقت، وترك الواجب في تمام الوقت، مع أنّ تفويت الملاك وغرض المولى في كلا الفرضين يكون بمقدار واحد؛ فإنّه لم يفوّت في المقام ملاكاً في خصوص الحصّة الاضطراريّة؛ إذ ليس هناك ملاك في خصوصها بحسب الفرض.

2 ـ إنّه لو خالف المكلّف الأمر الاضطراريّ، ولم يأتِ بالفعل الاضطراريّ إلى

298

أن زال الاضطرار، فأتى بالفعل الاختياريّ في داخل الوقت، كان معاقباً مع أنّه لم يخلّ بشيء من غرض المولى، فهذا تسجيل جزاف للعقاب عليه، اللّهمّ إلّا أن يفرض المحقّق العراقيّ (رحمه الله): أنّ الأمر الاضطراريّ كان مقيّداً بما إذا لم يأتِ بالفعل الاختياريّ بعد زوال العذر، وهذا عود إلى ما فرّ منه؛ فإنّه افترض الأمر الاضطراريّ تعيينيّاً عملا بإطلاق الأمر، وفراراً من تقييده بلا موجب، بينما هذا تقييد له ولو عن طريق آخر، وليس هذا التقييد بأولى من ذاك التقييد(1).

التقريب الرابع: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، حيث ذكر: أنّه إمّا أن يفرض: أنّ الملاك بتمام مراتبه موجود في الجامع بين الحصّة الاختياريّة حين الاختيار والحصّة الاضطراريّة حين الاضطرار، أو يفرض: أنّ أصل الملاك موجود في الجامع، ومرتبته العالية في خصوصيّة الحصّة الاختياريّة، وهي القيام مثلا في الصلاة، والفرض الأوّل ملازم للإجزاء، والفرض الثاني يستبطن عدم الإجزاء، إلّا أنّه يستلزم توجّه أمر إلى العبد بعد زوال عذره لا بالصلاة القياميّة مثلا، بل بالقيام في الصلاة، وبتعبير آخر: يستلزم توجّه أمر إليه بالخصوصيّة لا بذي الخصوصيّة؛ لأنّ المرتبة الشديدة من الملاك المستوجبة لأمر آخر إنّما هي في الخصوصيّة، بينما دليل عدم الإجزاء وهو إطلاق دليل الأمر بالصلاة الاختياريّة إنّما يدلّ بظاهره على الأمر بذي الخصوصيّة، وهي الصلاة القياميّة مثلا، لا بالخصوصيّة وهي القيام في الصلاة، وهذا غير محتمل سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدم الإجزاء؛ إذ على الإجزاء يكون الملاك بنفسه وبمرتبته في الجامع، فلا مبرّر للأمر بصلاة



(1) على أنّ فرض الأمر الاضطراريّ مقيّداً بما إذا لم يأتِ بالفعل الاختياريّ هدمٌ لأصل هذا الدليل؛ إذ الأمر الاضطراريّ المقيّد بذلك ليس بأحسن حالا من الأمر بالجامع في المنع عن حكم العقل بترك الحصّة الاضطراريّة وعدمه.

299

قياميّة بعد زوال العذر لاستيفاء تمام الملاك، وعلى عدم الإجزاء تكون المرتبة الشديدة للملاك قائمة بالخصوصيّة، وذلك يقتضي الأمر بالخصوصيّة، لا بذي الخصوصيّة، فما هو ظاهر الدليل غير محتمل، وما هو محتمل في صالح عدم الإجزاء، وهو فرض الأمر بالخصوصيّة غير ظاهر من الدليل(1).

وهذا الدليل في الحقيقة إن تمّ، يبرهن على عدم دلالة دليل الأمر الاختياريّ على عدم الإجزاء، ولا يبرهن على الإجزاء، فإذا تمّ هذا الدليل، وجب الرجوع في مقام إثبات الإجزاء إلى إطلاق أو أصل ونحو ذلك.

والتحقيق: أنّ هذا الدليل غير تامّ؛ لعدّة وجوه:

الأوّل: ما تفطّن إليه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2) نفسه، وهو: أنّه ليس الأمر دائراً بين أن يكون للواجب ملاك واحد كلّه في الجامع، أو ذاته في الجامع ومرتبته في الخصوصيّة، بل من المحتمل أن يكون في الواجب ملاكان مستقلاّن يمكن فرض أحدهما في الجامع، والآخر في ذي الخصوصيّة بما هو ذو الخصوصيّة، أعني: الصلاة القياميّة، لا في الخصوصيّة وهي القيام في الصلاة مثلا، وحينئذ لا يتمّ الإجزاء، وفي نفس الوقت يكون هذا الفرض منسجماً مع ظاهر دليل الأمر الاختياريّ الذي يدلّ على الأمر بذي الخصوصيّة، لا الخصوصيّة.

الثاني: أنّنا حتّى لو فرضنا ملاكاً واحداً في المقام، بالإمكان أن يفترض: أنّ الجامع دخيل في أصل الملاك، وفي مرتبته، غاية الأمر: أنّ دخله في أصل الملاك يكون بنحو العلّيّة التامّة، ولكن دخله في مرتبته يكون بنحو الاقتضاء، ويحتاج في تأثيره إلى شرط، وهو اقتران الجامع بالخصوصيّة كالقيام، وما أكثر المقتضيات



(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 383 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نفس المصدر، ص 282 ـ 283.

300

التي تحتاج في مقام التأثير إلى شروط، فهذا الفرض ينسجم مع عدم الإجزاء، وفي نفس الوقت ينسجم مع فرض توجّه الأمر إلى ذي الخصوصيّة، وهي الصلاة القياميّة، لا إلى الخصوصيّة.

الثالث: أنّنا حتّى لو فرضنا: أنّ مرتبة الملاك تكون في الخصوصيّة، لا في ذي الخصوصيّة، فاقتضى ذلك بالدقّة العقليّة تعلّق الإرادة المولويّة بالخصوصيّة، لا بذي الخصوصيّة، قلنا: إنّ صياغة الأمر بالخطاب بالخصوصيّة بأن يقول المولى له مثلا بعد زوال العذر: «أوجد القيام في الصلاة» ليست صياغة عرفيّة، بينما صياغته بلسان الأمر بذي الخصوصيّة بأن يقول: «صلِّ قائماً» صياغة عرفيّة مقبولة يرتكبها العرف، وإن فرض كون الإرادة والحبّ بالدقّة منصبّاً على الخصوصيّة، فلا بأس بالتمسّك بإطلاق دليل الأمر بالصلاة قائماً مثلا لفرض ثبوت العذر في أوّل الوقت، وزواله بعد الإتيان بالعمل الاضطراريّ.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان لدليل الأمر الاختياريّ إطلاق يقتضي عدم الإجزاء، وقد عرفت وجوهاً خمسة للإجزاء: أحدها الملازمة الثبوتيّة، والباقي تقريبات إثباتيّة، وإنّ شيئاً منها غير قابل للقبول عدا الوجه الثالث، وهو التقريب الثاني من التقريبات الإثباتيّة.

وأمّا إذا فرض عدم إطلاق له من هذا القبيل، فقد يفرض: أنّ له إطلاقاً يقتضي الإجزاء، بأن كان منحلاًّ إلى دليل دلّ على أصل الفعل الاختياريّ بالإطلاق، ودليل آخر منفصل يقيّد ذلك الإطلاق بقيد كالقيام مثلا، لكن هذا الدليل لم يكن له إطلاق لما إذا أتى بالفعل في حال الاضطرار، كما هو الحال في أدلّة الأجزاء والشرائط للصلاة التي لم تثبت إلّا بالأدلّة اللبّيّة، كما في اشتراط الطمأنينة مثلا، إذن فإطلاق الحكم الواقعيّ الأوّليّ يبقى على حاله في حقّ العاجز من هذا القيد، فيقتضي الإجزاء لا محالة، ففي هذا الفرض لا كلام في الإجزاء.

301

وقد يفرض: أنّ دليل الفعل الاختياريّ لا يقتضي إطلاقه الإجزاء ولا عدم الإجزاء، كما لو كان دليلا مجملا أو لبّيّاً لا إطلاق له، وحينئذ فإن قلنا بتماميّة أحد الوجوه الخمسة الماضية في القسم السابق، ثبت الإجزاء بالدليل الاجتهاديّ، وإلّا وصلت النوبة إلى الأصل العمليّ.

وذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ مقتضى الأصل العمليّ هو البراءة عن وجوب الإعادة(1).

وقد يعترض على ذلك باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2) إيراداً على صاحب الكفاية: من أنّ احتمال الإجزاء: إمّا ينشأ من احتمال وفاء العمل الاضطراريّ بكلّ الملاك أو بجلّه، بحيث يكون ما عداه أقلّ من الملاك الإلزاميّ، أو ينشأ من احتمال كون الباقي غير قابل للتدارك بعد العلم ببقاء مقدار من الملاك بدرجة الإلزام.

وله (رحمه الله) في كلّ من الفرضين كلام:

أمّا الفرض الأوّل: وهو ما لو نشأ احتمال الإجزاء من احتمال وفاء العمل الاضطراريّ بكلّ الملاك أو جلّه، بأن يكون الملاك في الجامع بين الفعل الاختياريّ والاضطراريّ، فيقول (رحمه الله) فيه: إنّه يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في التعيين والتخيير؛ إذ لو كان العمل الاضطراريّ وافياً بالملاك، كنّا مخيّرين بينه وبين العمل الاختياريّ، وإلّا تعيّن علينا العمل الاختياريّ، ومختاره (رحمه الله) ومختار صاحب الكفاية في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة الاشتغال، لا البراءة.



(1) الكفاية، ج 1، ص 130 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 271 ـ 272 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 230 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.