220

 

 

 

التفصيل بين الحكم الشرعي الثابت بحكم العقل والثابت

بدليل شرعي:

 

وأمّا التفصيل الثاني ـ وهو التفصيل بين حكم الشرع المستفاد عن طريق حكم العقل وحكم الشرع المستفاد بدليل لفظي ونحوه، وهو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، ووافقه السيّد الاُستاذ في الجملة(2)، وخالفه أكثر المحقّقين المتأخّرين، فمجموع ما يستفاد من الكلمات في تقريب ذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ حكم الشرع هنا تابع لحكم العقل، ويكون بملاك حكم العقل، وملازماً له، وحيث إنّ حكم العقل لا يقع فيه الشكّ؛ إذ الحاكم لا يشكّ في حكمه، فلا يقع ـ أيضاً ـ شكّ في حكم الشرع الذي يكون بملاكه.

وهذا الوجه ينبغي أن يكون مختصّاً بالحكم الشرعي المستفاد من باب تبعيّة الحكم الشرعي لأحكام العقل العملي، ولا يجري في الحكم الشرعي المستفاد عن طريق العقل النظري المدرك لمصلحة أو مفسدة لزوميّة؛ لوضوح أنّ بالإمكان أن يدرك العقل النظري وجود مصلحة او مفسدة في شيء ويشكّ في حدود وجود تلك المصلحة أو المفسدة، وحيث إنّ الحكم الشرعي إنّما هو تابع لتلك المصلحة أو المفسدة، فلا محالة يقع الشكّ فيه، وإنّما هناك مجال للتوهم بلحاظ أحكام العقل العملي، بأن يقال مثلاً: إنّها مجعولة للعقلاء، والعقلاء لا يشكّون في جعلهم، أو إنها أحكام ذاتيّة للعقل موجودة في اُفق العقل فقط، كما ذهب إليه المحقق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل(3)، فلا يتصوّر الشكّ فيها.

وتحقيق الكلام في المقام بلحاظ أحكام العقل العملي هو: أنّه يوجد في تحقيق حقيقة أحكام العقل العملي مباني أربعة، ونحن نذكرها هنا من دون الكلام في تحقيق ما هو الصحيح


(1) راجع الرسائل: ص 325 ـ 326 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله، وكذلك راجع ص 378 ـ 379 من نفس الطبعة.

(2) يستفاد من المصباح عدم ارتضاء السيّد الخوئي لهذا التفصيل إطلاقاً، راجع المصباح ج 3، ص 35 ـ 36.

(3) راجع فوائد الشيخ الخراساني ص 330 بحسب ما أُلحق في الطبع بتعليقه على الرسائل.

221

منها، فإنّ هذا ليس محلّه هنا، وإنّما نتكلّم هنا بالمقدار المرتبط بالمقام، وهو وقوع الشكّ في الحكم الشرعي ليكون مجال للاستصحاب وعدمه بالنسبة لكلّ واحد من هذه المباني الأربعة:

المبنى الأوّل: ما اختاره المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) من أنّ تلك الأحكام هي في الحقيقة أحكام جعليّة، جعلتها العقلاء حفظاً للنظام والمصالح الاجتماعيّة، فما رأوا فيه مصلحة اجتماعيّة حسّنوه ومدحوا فاعله، وما رأوا فيه مفسدة اجتماعيّة قبّحوه وذمّوا فاعله، والشارع الذي هو رئيس العقلاء جرى طبعاً طبق منهجهم، فصنع ما صنعوه، وجعل ما جعلوه، ومدح من مدحوه، وذمّ من ذمّوه، ومدحه ثوابه، وذمّه عقابه. وذكر المحقّق الإصفهاني مبنيّاً على ذلك: أنّه لا يتصوّر أنْ يشكّ شخص في حسن شيء أو قبحه، فإنّ ذلك من صنع العقلاء، وهو منهم، وبالتالي لا يشكّ في الحكم الشرعي المستكشف من ذلك(1)؛ لكونه بملاكه وتابعاً له، بل ذهب(قدس سره) إلى انه لا يتصوّر الشكّ حتّى بنحو الشبهة الموضوعيّة، بأن يقال مثلاً: إنّ الكذب المضرّ قبيح، ثمّ يشكّ في مضرّيّة كذب مّا، فيشكّ في قبحه وبالتالي في حكمه الشرعي؛ وذلك لأنّ الحسن والقبح إنّما هما من صفات الأفعال الاختيارية، واختيارية الشيء فرع الوصول والعلم به، فمع الشكّ وعدم الوصول ليس اختيارياً حتّى يحسن أو يقبح، إذن فعند الشكّ يقطع بارتفاع الحسن أو القبح، ولا يشكّ فيه(2).

أقول: يرد على ذلك:

أوّلاً: أنّ عقلائية الحسن والقبح وكون ذلك بجعلهم لا يمنع من أن يشكّ شخص فيه، فإنّه قد تفرض تمامية الجعل من قبل العقلاء السابقين، ثمّ يأتي شخص ويشكّ في تحقّق هذا الجعل وعدمه من قبل العقلاء، فإنّ هذا الجعل التابع للمصالح والمفاسد العامّة ليس شيئاً لا يمكن بقاؤه مجهولاً؛ إذ ليس كل مصلحة أو مفسدة عامة أو بديهية يعرفها عموم الناس؛ لأنّ للمصالح والمفاسد مراتب، وقد يقع الشكّ لبعض في بعضها، وهذه الجعول العقلائية حالها


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهاني لا يؤمن باستكشاف الحكم الشرعي الجعلي المولوي في موارد الحسن والقبح العقليين، وإنّما يؤمن بأنّ ما لدى العقلاء من الحسن والقبح والمدح والذم والثواب والعقاب هو الموجود ـ أيضاً ـ لدى المولى.

(2) لعلّ مجموع ما نسبه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إلى الشيخ الإصفهاني في المقام منتزع من مجموع ما ورد في الجزء الثالث من نهاية الدراية ص 31 ـ 38، و ص 333 ـ 348، بحسب طبعة آل البيت.

222

حال جعول العقلاء للّغة التي كثيراً مّا ترى وقوع الشكّ فيها، فيشكّ شخص في حدود المعنى اللغوي الذي جعلته العقلاء للفظ الفلاني، فلا يدري أنّ كلمة(الماء) مثلاً تشمل الماء المخلوط بالتراب بالنسبة الكذائية أو لا؟ بالرغم من أنّه أيضاً عاقل، وليس العقلاء يشترطون في جعلهم لحسن شيء أو قبحه اتّفاق كلّ من يأتي إلى يوم القيامة على كونه ذا مصلحة أو ذا مفسدة.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ العقلاء لا يشكّون في الحسن والقبح الذي يجعلونه تبعاً لما يدركونه من المصالح والمفاسد، ولكن لماذا لا يشكّون في الحكم الشرعي المستكشف بهذا الطريق؟! ومجرّد فرض أنّ الشارع هو رئيس العقلاء فلا يخالفهم في تحسين ذي المصلحة وتقبيح ذي المفسدة لا يستلزم عدم فرض أو سعية جعل الشارع من جعل العقلاء، فهو باعتباره أعقل وأكمل منهم قد يدرك مدىً أبعد للمصلحة أو المفسدة التي أدركوها ولم يستطيعوا أن يدركوها بتلك الحدود الواسعة.

وثالثاً: أنّ فرض عدم تصوير الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة بالبيان الماضي غير صحيح.

فأوّلاً: قد مضى في بحث التجرّي منع كون الاختيار تابعاً للعلم والوصول.

وثانياً: لو فرض الاختيار تابعاً للعلم والوصول قلنا: لم يثبت أنّ الحسن والقبح بعد فرضهما أمرين جعليين يتبعان الاختيار، ولماذا لا يكونان كسائر الجعول المتعلّقة بأشياء بعناوينها الواقعيّة؟!

المبنى الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل من أنّ الحسن والقبح العقليين عبارة عن انبساط وانقباض يحصلان في القوّة العاقلة حينما تدرك الأفعال الحسنة والأفعال القبيحة، فكما أنّ القوى المودعة في الحواسّ الخمس تنبسط وتلتذّ حينما تحسّ بما يلائمها، وتنقبض وتتاثّر حينما تحسّ بما ينافرها، فالقوّة الذائقة مثلاً تلتذ بالحلاء وتنفعل وتنقبض بالمرارة، فيقال: إنّ هذا الطعم لذيذ، وهذا الطعم غير لذيذ، كذلك القوّة العاقلة الدرّاكة حينما تدرك ما يلائمها من الوفاء والمواساة وكتمان السرّ ونحو ذلك تنبسط وتلتذّ، ويقال عن تلك الأشياء: إنّها من المحسّنات العقليّة، وحينما تدرك ما ينافرها من الظلم والخيانة ونحو ذلك تشمئزّ وتتأثّر، ويقال عن تلك الأشياء: إنّها من القبائح

223

العقلية(1).

ونقول بناءً على هذا المبنى: إنّنا لو اقتصرنا على مجرّد أنّ القوّة المدركة المخلوقة فينا تنبسط بإدراك بعض الأشياء وتشمئزّ وتتأثّر بإدراك بعض الأشياء الاُخرى، فهذا بمجرّده لا معنى لأن يستكشف به الحكم الشرعي؛ إذ لا وجه لدعوى الملازمة بين الحكم الشرعي وانبساط هذه القوّة أو انقباضها، كما لا ملازمة بين الحكم الشرعي وانبساط القوّة الذائقة مثلاً وانقباضها، ولو قلنا مثلاً: إنّ وضع الله تعالى في الإنسان هذه القوّة المدركة الواجدة لهذه الخاصيّة يكون لأجل حفظ المصالح الاجتماعيّة، فقد وضع الله فينا قوّة مدركة تنبسط للأشياء التي فيها مصالح اجتماعيّة، وتنقبض عن الأشياء التي فيها مفاسد اجتماعيّة، وبذلك جُبلنا على حفظ المصالح الاجتماعيّة والتجنّب عن المفاسد الاجتماعيّة، فيستكشف الحكم الشرعي بملازمته لانبساط القوّة المدركة وانقباضه من باب كونه كاشفاً عن المصالح والمفاسد، فالحكم الشرعي في الحقيقة يتبع تلك المصالح والمفاسد، فعندئذ من الواضح تعقّل الشكّ في دائرة المصالح والمفاسد، وبالتالي الشكّ في دائرة الحكم الشرعي.

المبنى الثالث: أنّ الحسن والقبح العقليّين أمران موضوعيّان ثابتان في لوح الواقع يدركهما العقل تماماً كالاُمور التي يدركها العقل النظري، وليسا جعليّين كما في المبنى الأوّل، ولا موجودين في اُفق الإدراك وذاتيّين للإدراك كما في المبنى الثاني، وعلى هذا المبنى من الواضح تعقّل الشكّ فيهما، وبالتالي الشكّ في الحكم الشرعي.

المبنى الرابع: أن نفكّك بين الحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذم ومنشئهما، أي: وقوع الشيء موقعه ووقوعه في غير موقعه فالثاني وهو منشأ استحقاق المدح والذم أمر واقعي موضوعي يدركه العقل، والأوّل وهو استحقاق المدح والذم ـ أيضاً ـ أمر واقعي موضوعي، لكن اُخذ في موضوعه العلم بالمنشأ، أي: كون الشيء واقعاً في موقعه أو غير واقع في موقعه. وهذا ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ(2).

وعلى هذا يجب أن نرى أنّ المدّعى هل هو الملازمة بين الحكم الشرعي ومنشأ الاستحقاق أو هو الملازمة بين الحكم الشرعي وهذا الاستحقاق الذي اُخذ في موضوعه


(1) راجع الفائدة 13 من فوائد الشيخ الخراساني(رحمه الله) المطبوعة بطبعة مكتبة بصيرتي الملحقة بتعليقته على الرسائل ص 330 ـ 331.

(2) لم أجده في فحصي الناقص في مصباح الاُصول للسيّد سرور تقريراً لبحث السيّد الخوئي(رحمه الله)ولا في الدراسات للسيّد علي الشاهرودي.

224

العلم بالمنشأ، فإن قلنا بالأوّل كان حال هذا المبنى هو حال المبنى الثالث، فمن المعقول الشكّ في ذلك المنشأ كتعقّل شكّ العقل النظري في الاُمور الموضوعيّة، فإنّ ذلك المنشأ أمر واقعي موضوعي ثابت خارج نطاق العقل والإدراك، وإذا شكّ فيه فقد شكّ في الحكم الشرعي. وإن قلنا بالثاني لم يتصوّر الشكّ في غير حالة الوسوسة وما يلحق بها(1)، فإنّه: إمّا أن يعلم بكون الشيء واقعاً في موقعه أو في غير موقعه، أو لا يعلم به، وهذا العلم أمر وجداني يراجع فيه وجدانه، فإن كان موجوداً فقد ثبت الحسن والقبح حتماً، وإلاّ لم يكن هناك حسن وقبح حتماً.

الوجه الثاني: أنّه لا يتصوّر في أحكام العقل العملي وبالتالي في الأحكام الشرعيّة التابعة لها شكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة إلاّ مع فرض الجهل بحدود الموضوع، ومعه لا يحرز بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب، فإنّه لو علم الموضوع بحدوده وقيوده كأن علم مثلاً أنّ القبيح من الكذب هو الكذب المضرّ لا أعمّ ولا أخصّ من ذلك، فمن الواضح أنّه لا يعقل الشكّ في بقاء قبح كذب بنحو الشبهة الحكميّة، وإنّما يقع الشكّ في ذلك بنحو الشبهة الحكميّة من باب انتفاء قيد نحتمل دخله في الموضوع، فكيف نُجري الاستصحاب مع عدم إحراز وحدة الموضوع؟!

وهذا الإشكال قد يورد على الاستصحاب في مطلق الشبهات الحكميّة أعمّ من أن يكون دليل الحكم فيها حكم العقل العملي أو الدليل اللفظي؛ إذ لا يتصوّر الشكّ في أيّ حكم بنحو الشبهة الحكمية إلاّ مع عدم معرفة حدود موضوعه.

والذي يجاب به عادة عن هذا الاشكال الذي يورد على مطلق الشبهات الحكميّة أمران،فيجب أن يُلحظ المختار من الجوابين هناك ليُرى أنّه هل يجري في المقام أو لا؟ فإن جرى في المقام لم يتمّ هذا الوجه، وإلاّ تمّ هذا الوجه.

والتحقيق: أنّه إن اقتصر في باب مطلق الشبهات الحكميّة على الجواب الأوّل عن هذا الإشكال فبالإمكان أن يقال بعدم جريانه في المقام، فيتسجّل الإشكال هنا. وأمّا إن قلنا بصحّة الجواب الثاني كما هو المختار، فلا يبقى وجه للتفكيك بين الشبهات الحكميّة في الأحكام الثابتة بالدليل اللفظى وبينها في الأحكام الثابتة بواسطة العقل العملي. والوجهان مايلى:


(1) المقصود بذلك فرض دوران الأمر بين ثبوت منشأ الحسن في نطاق الإدراك بمقدار ضئيل جداً وعدمه بحيث يكون الفارق بين طرفي الدوران ضئيلاً إلى حدّ يقع الشكّ والتردّد فيه.

225

الأوّل: ان يُلتزم بأنّ القيد كما يمكن أن يرجع إلى المادة ويكون حيثيّة تقييديّة لمتعلّق الحكم ومعروضه كذلك يمكن أن يرجع إلى أصل الحكم، خلافاً لما في تقرير بحث الشيخ الأعظم(قدس سره)، فيكون عندئذ حيثيّةً تعليليّة لعروض الحكم على المادّة، فبناءً على هذا المبنى يقال: إنّ ما احتمل دخله إن كان يحتمل دخله في المادّة وفي معروض الحكم، تمّ فيه هذا الإشكال بغضّ النظر عن الجواب الثاني؛ إذ ما علم بوجوبه أو بحرمته مثلاً غير ما شكّ في وجوبه أو حرمته. وأمّا إن كان يحتمل دخله في الحكم ولا يحتمل دخله في معروض الحكم، فهنا يجري الاستصحاب عند فقد ذاك الشيء بلا إشكال؛ لأنّ ما شكّ في وجوبه أو حرمته هو نفس ما كان يعلم بوجوبه أو بحرمته.

وهذا الوجه جريانه في المقام وعدمه موقوف على أن نرى أنّه بناءً على تصوير رجوع القيد إلى الحكم ومفاد الهيئة في الأحكام الشرعية المستفاد بدليل لفظي هل يتصوّر ـ أيضاً ـ رجوعه إلى الحكم في أحكام العقل العملي أو لا؟ فإن تصوّرنا ذلك جرى هذا الجواب في المقام، وإن قلنا: إنّ القيد في أحكام العقل العملي دائماً يرجع إلى المادّة كما هو مختارنا في بحث الواجب المطلق والمشروط، والمفروض أنّ الحكم الشرعي يكون بملاك حكم العقل العملي، فدائماً يكون المشكوك غير المعلوم، ولا يجري الاستصحاب في المقام بغضّ النظر عن الوجه الثاني.

والثاني: أن يقال: إنّ نفس القيد الراجع إلى المادّة والذي يكون حيثيّة تقييديّة يكون في نظر العرف على قسمين: فتارة يراه العرف حيثيّة تقييديّة، فلا يجري الاستصحاب، واُخرى يراه حيثيّة تعليليّة فيجري الاستصحاب. وهذا الوجه صحيح بناءً على ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث إشتراط بقاء الموضوع ووحدته من أنّ العبرة في ذلك بالنظر العرفي، ويجري هذا الوجه في المقام.

فإن قلت: إنّ العبرة إنّما تكون بنظر العرف في فهم الدليل اللفظي، فإذا كان الحكم الشرعي ثابتاً بدليل لفظي كان العرف محكّماً في فهم موضوعه. وأمّا إذا كان ثابتاً بدليل العقل فلا معنىً لتحكيم العرف في فهم موضوعه.

قلت: لم يكن المقصود الرجوع إلى نظر العرف في فهم مفاد الدليل حتّى يتمّ هذا التفصيل، وإنّما كان المقصود الرجوع إلى نظرهم الذاتي بغضّ النظر عن تفسيرهم لظاهر دليل الحكم؛ وذلك لما سوف نحقّقه ـ إن شاء الله ـ في بحث اشتراط بقاء الموضوع ووحدته من أنّ العبرة في الاستصحاب بهذا النظر العرفي في تشخيص بقاء الموضوع، وهذا غير تحكيم نظر العرف

226

في تعيين موضوع دليل الحكم على ضوء ما يفهمه من ظاهر الدليل؛ ولذا قد يكون الدليل ظاهراً في التقييديّة لكن العرف يحكم بحسب نظره الذاتي لا بحسب استظهاره من الدليل بكون القيد حيثيّة تعليليّة؛ ولذا قرأنا في الكفاية أنّ العبرة في بقاء الموضوع ووحدته هل هي بالنظر العقلي أو بدليل الحكم أو بالنظر العرفي(1)؟ فجُعِل النظر العرفي في مقابل ظاهر دليل الحكم، والمدّعى هو أنّ العبرة بالنظر العرفي، وسوف يأتي إثبات ذلك في محله ـ إن شاء الله ـ.

الوجه الثالث: ما يختصّ ـ أيضاً ـ بالعقل العملي، وهو مبنيّ على مبنىً مشهور من أنّ الحسن بالذات والقبيح بالذات منحصر في العدل والظلم، وسائر الأشياء إنّما تتّصف بالحسن والقبح باعتبار انطباق عنوان العدل والظلم عليها، وعليه نقول: إنّه لا تتصوّر الشبهة الحكميّة في باب الحسن والقبح؛ إذ كلّ فعل من الأفعال لو عرفنا أنّه عدل أو ظلم لم نشكّ في كونه حسناً أو قبيحاً، وبالتالي لم نشكّ في حكمه الشرعي. نعم، يمكن تصوير الشبهة الموضوعيّة بأن يشكّ في عنوان العدل والظلم، وعندئذ لا يجري استصحاب الحكم:

أوّلاً: لحكومة الاستصحاب الموضوعي عليه؛ إذ يستصحب بقاء الفعل على صفة العدل أو الظلم، فيجري عليه الحكم، إلاّ أنْ يفرض أنّ موضوع الحكم وما يكون حسناً أو قبيحاً إنّما هو ما علم بكونه عدلاً أو ظلماً؛ إذن فلا أثر للاستصحاب الموضوعي، ولكن عندئذ لا معنىً ـ أيضاً ـ للاستصحاب الحكمي للقطع بارتفاع الحكم.

وثانياً: للشكّ في بقاء الموضوع ويشترط في الاستصحاب القطع ببقائه، وعنوان العدل والظلم يكون ـ حتّى في نظر العرف ـ حيثيّة تقييديّة لا تعليليّة، فكتمان السرّ أو إفشاؤه إنّما يكون حسناً أو قبيحاً لا بما هو هو، بل بما هو عدل أو ظلم.

والجواب: ما نقّحناه في مبحث القطع من أنّ حسن العدل وقبح الظلم ليس هو الحكم المباشر للعقل العملي، وإنّما هو إشارة إلى أحكام العقل العملي الثابتة قبل هاتين القضيّتين، فإنّه لا معنىً لموضوع هاتين القضيّتين من العدل أو الظلم إلاّ إعطاء ذي الحقّ حقّه أو سلب الحقّ عمّن يستحقّه، فقد فرض مسبقاً في موضوع هاتين القضيّتين الحقوق التي هي أحكام للعقل العملي، إذن فحسن كتمان السرّ ونحوه، وقبح إفشائه ونحوه يكون ثابتاً لهذه العناوين التفصيليّة ابتداءً بحكم العقل العملي، لا بواسطة انطباق عنوان العدل والظلم عليها، وإنّما هما عنوانان منتزعان عنها في طول أحكام العقل العملي، وفي تلك الأحكام تتصوّر الشبهة الحكميّة.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 346 ـ 347 بحسب الطبعة التي تشتمل في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

227

 

 

 

التفصيل بين الشكّ في المقتضي والرافع:

 

وأمّا التفصيل الثالث، وهو التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع فقد ذهب إليه الشيخ الأعظم(قدس سره) ومن تبعه، وذكر الشيخ الأعظم(رحمه الله): أنّ أوّل من تنبّه إلى ذلك المحقّق الخونساري(رحمه الله)(1)، ولعلّ مقصوده(قدس سره) هو أنّ أوّل من طبّق ذلك(2) على ما يستفاد من أخبار الاستصحاب هو المحقّق الخونساري، وإلاّ فأصل فكرة التفصيل موجودة قبله بقرون، وأذكر ـ إن لم تخنّي الذاكرة ـ أنّ المحقّق في المعارج ذكر في مقام الاستدلال على الاستصحاب ـ وهذا من طرائف ما قيل في الاستصحاب ـ: أنّ فرض عدم بقاء المستصحب: إمّا يكون من باب احتمال عدم المقتضي، وإمّا يكون من باب احتمال وجود المانع. أمّا الأوّل فالمفروض خلافه، وهو وجود المقتضي، فإنّنا نتكلّم في هذا الفرض. وأمّا احتمال وجود المانع فهو معارَض باحتمال عدمه. وهذا كما ترى مشتمل على أصل فكرة التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ولو بهذه الصياغة.

ثمّ إنّهم ذكروا تمهيداً مفصّلاً في المقام بصدد بيان معاني المقتضي والرافع، وتعيين ما هو المقصود هنا(3)، لكنّني لا أرى مزيد فائدة في بسط الكلام في ذلك بعد ما سوف يتبيّن لك ـ إن شاء الله ـ من أنّه لا أساس لهذا التفصيل، ويكفي لاتّخاذ فكرة إجماليّة عن هذا التفصيل تمهيداً للدخول في البحث عنه أن نقتصر على ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) في مقام بيان ضابط التفصيل، وهو أنّ الشيء إذا كان بحيث لو بقي هو وعمود الزمان لم ينتفِ، وإنّما ينتفي لحادث يحدث فيؤثر في انتفائه كان الشكّ في ذلك شكّاً في الرافع، ومثاله بقاء الشابّ إلى عدّة سنوات، فإنّه إنّما ينتفي لحادث خارجي من انهدام جدار عليه أو اصطدام بسيارة ونحو ذلك،


(1) راجع الرسائل: ص 336 ولكن الموجود في الرسائل في مكان آخر هو استظهار هذا القول من المحقّق في المعارج، راجع الرسائل: ص 328، وص 360 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) عبارة الرسائل صريحة في أنّ المحقّق الخونساري فتح باب النقاش في إطلاق دلالة الروايات.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 324 ـ 331 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وأجود التقريرات: ج 2، ص 353 ـ 357، ومصباح الاُصول: ج 3، ص 20 ـ 26.

228

ومثاله في الشرعيّات الطهارة والنجاسة التي لا ترتفع إلاّ بسبب خارجي، وإذا كان بحيث ينتفي بنفس حركة عمود الزمان كان الشكّ فيه شكاً في المقتضي، ومثاله بقاء الإنسان في أواخر عمره الطبيعي إلى عدّة سنوات فإنّه يكفي لفنائه نفس مرور الزمان عليه، ومثاله في الشرعيّات الخيار الذي يفوت بالتأخير بناءً على فوريّته.

هذا. ولعلّه يمكن تلخيص أهمّ الأدلّة على التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع في ثلاثة أدلّة رئيسة:

 

الدليل الأوّل:

أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب هو وحدة المتيّقن والمشكوك، والوحدة بالدقّة غير موجودة؛ لأنّ المتيقّن هو الحصّة الحدوثيّة والمشكوك هو الحصّة البقائيّة، إذن فلا بدّ من فرض عناية، وذلك: إمّا بأن يفرض بالعناية تيقّن المشكوك باعتبار اليقين ببقاء المقتضي، أي: بأن يعتبر اليقين بالمتقضي بالمسامحة يقيناً بالمقتضى، وإمّا بأن يفرض بالعناية نفس اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء باعتباره يقيناً بشيء فيه اقتضاء البقاء. وكلتا العنايتين ـ كما ترى ـ تستوجبان تخصيص الحكم بفرض إحراز المقتضي والشكّ في الرافع.

وأجاب عن ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ الظاهر عرفاً هو إعمال العناية بشكل آخر، وهو التجريد عن خصوصيّة الزمان، فيرى المشكوك عين المتيقّن(1).

ويحتمل في عبارته(قدس سره) ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بذلك هو ملاحظة الجامع بين الحصّة الحدوثيّة والحصّة البقائيّة، وهذا وإن كان من البعيد كونه مقصوداً له(قدس سره) إلاّ أنّه ينطبق على عبارته.

وهذا يرد عليه: أنّ الجامع بين الحدوث والبقاء الذي فرض تعلّق اليقين به لم يتعلّق الشكّ به أصلاً، بل هو مقطوع به حتّى عند الشكّ في البقاء، فلا معنىً للاستصحاب.

الاحتمال الثاني: وهو المظنون كونه مراده(قدس سره) هو أن يكون المقصود إلغاء خصوصيّة الزمان ولحاظ ذات الشيء، فكأنّ حدوثه عين بقائه، وكأنّ ذات الشيء كان متيّقناً ثمّ شكّ فيه. وهذا المعنى هو الذي تناسبه عبارة تلميذه المحقّق العراقي(رحمه الله) حيث عبّر في مقام بيان كلام


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 286 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

229

اُستاذه بالتغافل عن الزمان(1).

ويرد عليه: أنّ هذا معناه إرجاع مفاد الحديث إلى قاعدة اليقين لا إلى الاستصحاب؛ فإنّه إذا فرض أنّ الحديث لا يلتفت إلى خصوصيّة الزمان وكون اليقين بالحصّة الحدوثيّة والشكّ في الحصّة البقائيّة، وإنّما يفرض شيئاً واحداً حصل العلم به ثمّ حصل الشكّ فيه من دون تعدّد بين المتيقّن والمشكوك حتّى بلحاظ الزمان، إذن فهذا مصداقه الذي يكون مصداقاً له حقيقة وعرفاً هو مورد قاعدة اليقين، غاية الأمر أن يفرض الاستصحاب ـ أيضاً ـ فرداً مسامحيّاً عرفيّاً لتلك القاعدة باعتبار المسامحة بلحاظ الزمان، وفرض المشكوك عين المتيقن حتّى من هذه الناحية.

وأمّا الاحتمال الثالث فلا نذكره الآن، ولا ينطبق على عبارته(قدس سره)، وهو في الحقيقة نفس مختارنا في مقام إبطال هذا الدليل الأوّل على عدم حجيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي، فنؤجّله إلى ذكر المختار.

والتحقيق في المقام: أنّ هذا الدليل الأوّل يرجع بروحه إلى إرجاع مفاد حديث الاستصحاب ـ أيضاً ـ إلى قاعدة اليقين؛ لأنّه قد فرض أنّ الحديث يفترض وحدة المتيقّن والمشكوك، إلاّ أنّه فرض وجود المقتضي وحدة عنائيّة، إذن فالحديث يدلّ على قاعدة اليقين، وجعل قاعدة المقتضي والمانع، فرداً عنائياً لها، وبكلمة اُخرى: إنّنا لو قلنا بأنّ وحدة المتيقّن والمشكوك تكون بلحاظ اليقين بالمقتضي الذي هو بالمسامحة يقين بالمقتضى، إذن فهذه العناية بعينها موجودة في موارد العلم بالمقتضي والشكّ في المقتضى ابتداءً وبغض النظر عن العلم بالحدوث، وفي الحقيقة قد أصبح رُكنا الاستصحاب عبارة عن الشكّ في الشيء واليقين بمقتضيه، وهذه هي قاعدة المقتضي والمانع.

وقد ظهر: أنّ مقتضى هذا الدليل ليس هو حجّيّة الاستصحاب ولو من باب فرضه فرداً عنائياً ومسامحياً لقاعدة اليقين مثلاً، وإنّما مقتضاه حجّيّة قاعدة اليقين، وجعل قاعدة المقتضي والمانع فرداً عنائياً لها مع بيان: أنّ قاعدة المقتضي تنطبق على بعض موارد الاستصحاب.

وحلّ المطلب هو أنّ هذا الدليل الأوّل موقوف على تسليم أصل ظهور دليل


(1) قد ورد في نهاية الأفكار، القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 84 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، التعبير بالتغافل عن التقطيع الزمني.

230

الاستصحاب في الوحدة المطلقة بين المتيقن والمشكوك، فيتصدّى صاحب هذا الدليل لإثبات الوحدة المطلقة مسامحة بعناية لحاظ العلم بمقتضي الشيء علماً بالشيء، ويتصدّى المحقّق الخراساني(رحمه الله) لإثبات الوحدة المطلقة مسامحة بالتغافل عن الزمان، بينما نحن لا نسلّم أصل ظهور دليل الاستصحاب في الوحدة المطلقة بين المتيقّن والمشكوك؛ لأنّ منشأ هذا الظهور: إمّا هو حذف المتعلّق، ويرد عليه: أنّه إن سلّمت دلالة حذف المتعلّق على الوحدة المطلقة فإنّما هي فيما لم يرد في الكلام القرينة على خلافها، وقد ورد في الكلام القرينة على ذلك، وهو تطبيقه(عليه السلام) على اليقين بحدوث الطهارة والشكّ في بقائها. وإمّا هو كلمة(النقض) من باب أنّ الشكّ في الشيء لا معنى لأن يقال: إنّه نقض أو ليس نقضاً لليقين بشيء آخر. ويرد عليه: أنّ ما تقتضيه كلمة(النقض) إنّما هي عدّ الشكّ ارتفاعاً لليقين، وما يقابله من العلم بقاءً لليقين، وهذا ثابت عند الوحدة من كلّ الجهات سوى الزمان؛ وذلك لما عرفت سابقاً في التنبيه الثاني من تنبيهات التفصيل الأوّل من أنّ العرض يكسب في نظر العرف حدوثاً وبقاءً من حدوث معروضه وبقائه، فإن لم يسلّم بهذا بطل استصحاب الحكم في كثير من فروض الشكّ في الحكم، وهي الفروض التي يكون فيها الحكم بجميع أجزائه ثابتاً من أوّل الأمر، فقد مضى أنّ وجوب الجلوس في ساعتين مثلاً إذا كانت الساعتان تحديداً لمقدار الجلوس لا ظرفاً للوجوب، وكان وجوب تمام أجزاء الجلوس ثابتاً من أوّل الأمر فإنّما يمكن استصحاب بقاء وجوب الجلوس باعتبار أنّ الوجوب يكسب حدوثاً وبقاءً من معروضه، وهو الجلوس، فلو اُنكر هذا لزم إنكار الاستصحاب في مثل هذه الموارد، وهذا ما لا يلتزم به القائل بعدم حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي. ولو سلّم بما قلناه جرى مثل هذا في المقام، فنقول: إنّ اليقين يكتسب حدوثاً وبقاءً من متعلّقه وهو المتيقن.

 

الدليل الثاني:

وهو دعوى أنّ الارتكاز العقلائي في باب الاستصحاب يختصّ بموارد إحراز المقتضي، وذلك يوجب بأحد تقريبين تخصيص الحجّيّة الشرعية بموارد إحراز المقتضي.

التقريب الأوّل: دعوى أنّ دليل الاستصحاب وهو قوله: «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» لولا الارتكاز لما كان له إطلاق لغير مورده؛ لاحتمال كون اللام للعهد، وكونه إشارة إلى اليقين بالوضوء، فنحن إنّما نتعدّى من مورده إلى سائر الموارد بارتكاز عدم الفرق، وهذا التعدّي مختصّ بالموارد المشابهة لمورد الحديث، وهي موارد إحراز المقتضي، فإنّ مورد

231

الحديث هو مورد قد أُحرز المقتضي فيه، واحتمال الفرق بين موارد إحراز المقتضي وغيرها وارد، والارتكاز العقلائي الموجب للتعدّي عن المورد كان مخصوصاً بالأوّل.

والجواب بعد فرض تسليم عدم تماميّة الإطلاق اللفظي في الحديث في نفسه لاحتمال العهد في اللام: أنّ التعدّي إلى غير المورد لم يكن بملاك مجرّد القطع بعدم الفرق من قبيل القياس المقطوع العلّة، بل كان بملاك أنّ الارتكاز العرفي أسقط قيد المورد وهو الوضوء، فكأنّه غير مذكور، فتكوّن الإطلاق اللفظي من قبيل ما لو حكم الشارع بانفعال الماء القليل الموضوع أمام باب المسجد الفلاني، فالعرف هنا يُلغي قيد وضعه على باب المسجد، ويحمله على المثالية في حين أنّه لا يُلغي قيد القلّةِ مثلاً، فيتم الإطلاق اللفظي في الكلام من ناحية القيد الملغى. نعم، بعد أن اُلغي في ما نحن فيه قيد الوضوء يبقى احتمال دخل جزء تحليلي من ذلك القيد وهو إحراز المقتضي، لكن ذاك القيد بعد إلغائه بحسب الارتكاز ليس جزؤه التحليلي صالحاً للبيانية والتقييد، وإذا انعقد الإطلاق اللفظي فقد ثبتت حجّيّة الاستصحاب حتّى في موارد الشكّ في المقتضي.

التقريب الثاني: دعوى أنّه حتّى لو سلّمنا الإطلاق اللفظي بفرض اللام للجنس مثلاً يكون الارتكاز صارفاً للكلام إلى خصوص موارد إحراز المقتضي؛ وذلك لأنّه إذا كان في مورد الكلام الصادر عن الشارع ارتكاز عقلائي كان ذلك سبباً في انصراف ذاك الكلام إلى حدود ذلك الارتكاز. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ الاستصحاب ارتكازيّ، والارتكاز مختصّ بفرض إحراز المقتضي.

والجواب: منع الصغرى، بمعنى: أنّ ارتكازيّة الاستصحاب وان صحّت ببعض المعاني لكنّها ليست ارتكازاً مركّزاً وواضحاً بحيث يصبح كالعهد، ويجلب النظر، ويصرف الكلام إليه، ولا هو محدّد بشكل واضح، وإنّما هو ارتكاز ذو مراتب باختلاف الموارد من ناحية الشكّ في المقتضي أو إحرازه أو غير ذلك، وليس هنا تفاوت كبير دفعي بين بعض مراتبه دون بعض، فبما أنّ هذا الارتكاز ضعيف وتحديده ـ أيضاً ـ ضعيف فهو غير قادر على صرف الكلام إلى مقدار مرتكز محدّد.

 

الدليل الثالث:

وهو عمدة الأدلّة تاريخياً، فإنّه الذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) ناسباً له إلى المحقّق

232

آقا حسين الخوانساري(رحمه الله)(1)، ويمكن تحليله الى مقدمتين:

المقدمة الاُولى: أنّ النقض وإن أضيف في الحديث إلى اليقين لكنّه بحسب الواقع مضاف الى المتيقّن.

المقدمة الثانية: أنّه لا يصحّ إسناد النقض إلى المتيقّن إلاّ مع فرض إحراز المقتضي.

ونحن نؤجّل الاستدلال على المقدّمة الاُولى مع مناقشتها ونبدأ ببسط الكلام في المقدمة الثانية، فنقول: إنّ الذي اعتمد عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) في إثبات المقدّمة الثانية هو أنّ النقض يكون في مقابل الإبرام، ولا يصدق بحسب ما له من المعنى الحقيقي إلاّ إذا فرض وجود هيئة اتّصالية تقطع، فيقال مثلاً:(نقضت الحبل) أي: قطّعته، وبما أنّه ليس المفروض في المقام هيئة اتّصالية بين المتيقّن والمشكوك فلا يصدق النقض حقيقة، وإنّما يجب أن يكون استعماله مجازاً، والاستعمال المجازي يحتاج إلى علاقة، وعلاقته في المقام هي وجود المقتضي واستمراره الذي يعدّ بالمسامحة وجوداً للمقتضى او استمراراً له، فيصحّ إسناد النقض بمناسبة هذا الاستمرار، إذن فلا تثبت حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي.

ويرد عليه: أنّ النقض ـ كما ذكر ـ يكون في مقابل الإبرام، والإبرام مصدر ثان للبرم بمعنى الفتل، والإبرام هو إجادة البرم وإحكامه، والنقض يعني حلّ البرم، فقد يسند إلى الهيئة البرميّة فيقال مثلاً: نقضتُ البرم الموجود في الحبل، وقد يسند إلى ما يدلّ على ذات الشيء بما هو متّصف بالهيئة البرميّة ككلمة(الحبل) فإنّها تدلّ على الخيوط المفتولة بما هي مفتولة، فيقال: نقضت الحبل، وعلى كلّ حال فالمصحّح لإسناد النقض هو الهيئة البرميّة لا الهيئة الاتّصالية، وغاية ما نصنعه عند فرض استمرار المقتضي استمراراً بالمسامحة للمقتضى هي تصحيح الهيئة الاتّصالية بالمسامحة، وليس المصحّح لاستعمال كلمة(النقض) الهيئة الاتّصالية.

والظاهر: أنّ النقض ليس مطلق حلّ الفتل، وإنّما معناه: حلّه بشدّة، فنقض الحبل يعطي بحسب معناه الحقيقي الحلّ الشديد للحبل، ويستعمل مجازاً في مطلق الرفع، أي: سواء كان رفعاً للهيئة البرميّة او الاتّصالية أو أيّ شيء آخر إذا اُريد تطعيم الرفع بالشدّة والقوّة، ويكون فرض الشدّة هو العلاقة بين المعنى الحقيقي للنقض والمعنى المجازي له، ويكون تطعيم


(1) لم أرَ في الرسائل نسبة هذا الدليل إلى المحقّق الخوانساري، راجع الرسائل: ص 336، 360 ـ 361 و363 ـ 366 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

233

الرفع بالشدّة والقوة حتّى يعبّر عنه بالنقض بمناسبات شتّى من قبيل قوّة المرفوع، فيقال مثلاً:(نقضت الحبل من مكانه) إذا كان ملصقاً بالمكان، ولا يقال:(نقضت الحجر من مكانه) إذا كان موضوعاً في مكان فيرفع، أو إرادة تفهيم أنّ الرفع كان رفعاً كاملاً للشيء وإلى أقصى حدّ مثلاً كما يقال: نقضت الشبهة، فإنّ الشبهة وهي المرفوع ليس فيها قوّة واستحكام، بل فيها مفهوم الضعف، ولكن مع ذلك يقال نقضت الشبهة لقصد تفهيم دحضها ورفعها تماماً.

ولعل مناسبة التطعيم بالقوّة والشدّة في المقام والتعبير بالنقض والنكتة البلاغية في ذلك هى: أنّه اُريد إبراز فظاعة رفع اليد عن اليقين بالشكّ أو المتيقّن بالمشكوك، فعبّر بالنقض الذي يفيد معنى الشدّة في الرفع؛ لكونه أبلغ في إبراز فظاعة هذا الرفع.

هذا. ويمكن في المقام أن يوجّه كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) بإدخال تأويل فيه، وذلك بأن يقال: إنّه(رحمه الله) لم يفرض النقض رفعاً للهيئة الاتّصالية، بل يسلّم أنّه رفع للهيئة البرميّة لا الاتّصالية، لكنّه يقول: إنّ الهيئة البرمية يمكن فرضها بالمسامحة بين المتيقّن والمشكوك إذا فرضت الملازمة بينهما، فهذه الملازمة بينهما كأنّها فتل لأحدهما بالآخر، والملازمة الحقيقية غير موجودة، ولكن إذا كان المتيقّن فيه اقتضاء البقاء فكأنّ الملازمة موجودة، ويكتفى بالملازمة الاقتضائية. وأمّا مع الشكّ في المقتضي فالملازمة الاقتضائية ـ أيضاً ـ غير محرزة، فلا توجد هيئة برميّة ولو بالمسامحة، وبهذا يصبح الدليل مختصّاً بصورة الشكّ في الرافع.

والجواب: أنّ هذا إنّما يتمّ لو اُضيف النقض في العبارة إلى تلك الملازمة أو إلى ما يدلّ على ذات المتلازمين بما هما متلازمان، فإنّ النقض بمعنى حلّ الفتل يضاف إلى ما اُخذ فيه معنى البرم والملازمة، كما في(نقضتُ البرهان) حيث اُخذ في مفهوم كلمة(البرهان) الملازمة بين المقدمات والنتيجة. وأمّا إذا اضيف النقض إلى ما ليس فيه معنى الملازمة أو الفتل كما اُضيف إلى المتيقن في المقام حسب الفرض، فهنا لا معنىً لأن نأوّل الكلام بالحمل على نقض البرم باعتبار فرض الملازمة التي لم يشر إليها في الكلام أصلاً، وإنّما يفرض افتراضاً وجود تصوّرها في ذهن المتكلم.

والخلاصة: أنّ إسناد النقض إلى شيء لا يكفي فيه مجرّد تصوير هيئة برميّة بالمسامحة، بل لا بدّ من كون معنى البرميّة ماخوذاً في مصبّ النقض بحسب عالم اللفظ والاستعمال، نظير أنّ نسبة الجريان مثلاً إلى الميزاب بفرض ميزابيّة الميزاب منزّلةً منزلة الماء بعلاقة الظرف والمظروف إنّما تصحّ إذا اُخذت الميزابيّة في الكلام، وقيل:(جرى الميزاب)، ولا يصح أن يقال:(جرى الحديد) لمجرد الاطّلاع على أنّ ذلك الحديد ميزابٌ.

234

والمتحصّل من كلّ ما مضى: أنّ نظر الشيخ الأعظم(قدس سره) إن كان إلى فرض الهيئة الاتّصالية فتلك الهيئة وإن كان يمكن دعوى أخذها في اللفظ، بدعوى: أنّ اليقين بمعنى المتيقّن استعمل في الفرد الطويل الأمد، فيتضمّن الاتّصال، لكن الهيئة الاتّصالية لا تفيد في المقام؛ لأنّ النقض يكون في مقابل الإبرام، ويحتاج إلى الهيئة الفتليّة التي هي عبارة عن التفاف شيء بشيء لا عن الاتّصال بمعنى الامتداد. وإذا كان نظره إلى الهيئة البرميّة المفروضة مسامحة بمناسبة التلازم الاقتضائي فتلك الهيئة غير ماخوذة في الكلام.

والصحيح: ما أشرنا إليه من أنّ النقض قد اُخذ في مفهومه أمران:

أحدهما: الحلّ، فهو ليس قطعاً للاتّصال والامتداد، وإنّما هو حلّ للفتل.

وثانيهما: الشدّة والقوّة، وبهذا يفترق عن كلمة(الحلّ). وأظنّ أنّه لأجل ذلك ذكروا في اللغة: أنّ النقض خلاف الإبرام، ولم يذكروا: أنّه خلاف البرم؛ وذلك لأنّ الإبرام عبارة عن جودة البرم وإحكامه، وعندئذ يمكن استعمال كلمة(النقض) مجازاً بأحد وجهين:

الأوّل: أن يسلخ عنه العنصر الأوّل من مفهومه رأساً، ويستعمل بلحاظ العنصر الثاني فقط، واعتبارِ الشدّة والقوّة بنكتة من النكات.

والثاني: أن يلحظ كلا عنصريه، ويتحفّظ على كليهما باعتبار من الاعتبارات.

وفي تطبيق ذلك على المقام نقول: إمّا أن نبني على ما بنى عليه الشيخ الأعظم(قدس سره) من أنّ المقصود من اليقين هو المتيقّن، وإمّا أن لا نبني عليه، بل نقول: إنّ المقصود به هو اليقين وهو الحق على ما سوف ياتي إن شاء الله.

فان بنينا على الأوّل، أي: أنّ المقصود باليقين هو المتيقن قلنا: إنّ كلمة(النقض) قد سلخت في المقام عن مفهوم الحلّ رأساً، واُريد بها مطلق الرفع، وإنّما استعملت كلمة(النقض) بمناسبة العنصر الثاني وهي الشدّة والقوّة. والنكتة البلاغية في تطعيم الرفع هنا بالشدّة والقوّة واضحة، وهي: أنّ المتكلم حينما يردع عن شيء مّا يناسب أن يُبرِز المردوع عنه بأفظع صورة ممكنة، فقد عبّر عن رفع اليد عن اليقين بالنقض إبرازاً لفظاعة رفع اليد عن اليقين.

وإن بنينا على الثاني ـ أي: إنّ المقصود باليقين هو اليقين لا المتيقّن ـ فالعنصر الأوّل من مفهوم النقض ـ أيضاً ـ محفوظ في المقام؛ وذلك باعتبار ما يُرى في مفهوم اليقين من التفاف حول المتيقّن، وانفتال معه، كما هو الحال في سائر الصفات الحقيقية ذات الإضافة، وبهذه المناسبة ينسب النقض إلى العهد وإلى البيعة، فكأنّه يقول: لا تنقض اليقين ولا تفصله عن المتيقّن.

235

على أنّه لو لم نقبل ثبوت الإبرام في مفهوم اليقين كفانا ـ أيضاً ـ لحاظ العنصر الثاني من عنصري مفهوم النقض في تصحيح استعمال النقض، وقلنا أيضاً: إنّ النكتة البلاغية في استعمال كلمة(النقض) بدلاً عن(الرفع) هي إبراز فظاعة رفع اليد عن علمه، كما أنه بهذه النكتة ـ أيضاً ـ عبّر باليقين لا بالعلم مثلاً حيث إنّ لفظ اليقين أعمق وأبلغ في إعطاء الاستحكام، فالتعبير به يؤثّر في إبراز فظاعة النقض.

هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية، وهي: أنّه لا يصحّ إسناد النقض الى المتيقّن إلاّ مع فرض إحراز المقتضي، وقد عرفت عدم تماميتها.

والآن نشرع في الكلام عن المقدمة الاُولى، وهي: أنّ النقض ـ بحسب الواقع ـ مسند إلى المتيقّن لا إلى اليقين وإن كان في ظاهر العبارة مسنداً إلى اليقين.

وهذه الدعوى يمكن صوغها بعدة صياغات:

الصياغة الاُولى: أن يقال: إنّ كلمة(اليقين) استعملت مجازاً في المتيقّن.

ولا يخفى: أنّ هذه الدعوى في نفسها في غاية الوهن؛ إذ مضافاً إلى أنّ استعمال اليقين في المتيقن مجازاً ليس استعمالاً مقبولاً عرفاً لا يناسب ذلك خصوص عبارة الحديث في المقام؛ إذ قد اُضيف فيها اليقين إلى المتيقّن، فقيل: إنّك كنت على يقين من وضوئك، فكيف يصحّ أن نحمله على إرادة المتيقّن مجازاً؟! ولو فرض أنّ المقصود باليقين في قوله:«كنت على يقين من ضوئك» هو اليقين لا المتيقّن، ولكن المقصود بقوله عقيب ذلك:«ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» هو المتيقّن، كان هذا أيضاً ـ كما ترى ـ تفكيكاً ركيكاً وخلاف الظاهر جدّاً.

إلاّ أنّه قد يستدلّ على هذه الدعوى ـ أي: دعوى كون اليقين مستعملاً مجازاً في المتيقّن ـ بوجهين ذكرهما في الكفاية وأبطلهما:

الوجه الأوّل: أنّ النهي عن النقض يستدعي القدرة عليه، ونقض اليقين ليس مقدوراً وإنّما المقدور هو نقض المتيقّن.

ويمكن أن يقول شخص: إنّنا وإن سلّمنا عدم القدرة على نقض اليقين، ولكنّنا نرجع النقض إلى المتيقّن بصياغة اُخرى غير استعمال اليقين في المتيقّن مجازاً، ولكن هذا باعتباره راجعاً إلى إحدى الصياغات الاُخرى نؤجّل الكلام عنه، ولا نذكره كإبداء مناقشة على الكلام هنا.

وعلى أيّ حال فقد أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية على هذا الوجه بأنّه: إن اُريد بالنقض النقض الحقيقي، فهو غير مقدور حتّى في المتيقّن، وإذا كان مقدوراً ـ كما لو علم

236

بطهارة الثوب وهو يقدر على تنجيسه ـ فمن الواضح أنّه ليس هو المنهيّ عنه في دليل الاستصحاب. وإن اُريد به النقض العملي، فهو مقدور حتّى في اليقين بأن لا يعمل على طبقه(1).

وهو(رحمه الله) يرى أنّ اليقين استعمل في معناه الحقيقي، ويقول: إنّ مصحّح استعمال النقض هو الاستحكام الذاتي لنفس اليقين، الثابت في فرض الشكّ في المقتضي وفي فرض الشكّ في الرافع(2). وعبارته هنا لا تخلو من غموض، فلا يُعلم أنّ مقصوده: أنّ اليقين بذاته شيء مستحكم، وهذا هو مصحّح إسناد النقض أو أنّ مقصوده ما اخترناه من التفاف اليقين بالمتيقّن واستحكامه به. وعلى أيّ حال فهو(رحمه الله) يبطل كلا وجهي الاستدلال على استعمال اليقين في المتيقّن، ويختار استعماله في معناه الحقيقي وعدم اختصاص الحديث بالشكّ في الرافع؛ لأنّ مصحّح إسناد النقض هو الاستحكام الموجود في نفس اليقين الذي يكون ثابتاً سواء اُحرز وجود المقتضي أم لا.

الوجه الثاني: أنّ النقض وإن كان بلحاظ الآثار وليس نقضاً حقيقياً، لكن لو فرض إسناده إلى اليقين لزم أن يكون المقصود من الحديث ترتيب آثار اليقين الذي يكون موضوعاً لأحكام اُخرى، كما لو وجب التصدّق عند اليقين بالطهارة دون آثار متعلّقه، مع أنّه لا إشكال في إرادة ترتيب آثار متعلّقة.

وأجاب المحقق الخراساني(رحمه الله) عن هذا الوجه ـ وهو يقبل بأصل الروح العامّة في هذا الوجه ـ: بأنّ اليقين إنّما لوحظ هنا مرآةً إلى المتيقّن، فكأنّه يُرى المتيقّن لا المرآة، فيرتّب آثار المتيقّن(3).

ويرد على هذا الكلام مضافاً إلى ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من عدم صحّة لحاظ المرآتية في المقام ما ذكره تلميذه المحقّق العراقي(رحمه الله) من أنّ هذا هدم لأصل مبناه؛ إذ لو كان اليقين لوحظ مرآةً فيُرى المتيقّن ويغفل عن المرآة، فكيف يكون المصحّح للنقض استحكام


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 287 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكيني، وخصوص عدم إرادة نقض المتيقّن في مورد القدرة على نقضه قد تكون مقصودة من عبارة الكفاية، ولكن عبارة تعليقته على الرسائل صريحة فيه، راجع التعليقة ص 189 بحسب طبعة بصيرتي.

(2) نفس المصدر: ص 285.

(3) نفس المصدر: ص 287 ـ 288.

237

اليقين(1)؟!

إلاّ أنّ المحقّق العراقي(رحمه الله) أجاب عن هذا الإشكال بما يرجع إلى الأدب أكثر منه إلى الاُصول، فذكر: أنّه حيث كان اليقين ماخوذاً مرآة اكتسب المتيقّن لون المرآة من الاستحكام، كما أنّ النور المنعكس من زجاجة ملونة يكتسب لون تلك الزجاجة(2). وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ضعف هذا الكلام.

والتحقيق في المقام: ما ذكره المحقّق العراقي(رحمه الله) من أنّه لا مانع من إرادة نقض آثار اليقين وانطباق ذلك في نفس الوقت على آثار المتيقّن؛ وذلك لأنّه لو اُريد بالآثار الأحكام الشرعية تأتّى ما مضى من أنّه إذا صرف النقض إلى آثار اليقين لم يثبت في باب الاستصحاب آثار المتيقّن، ولكن لو اُريد بها الأثر العملي الذي يتطلّبه اليقين فكلّ آثار المتيقّن هي آثار لليقين، فإنّ المتيقّن إنّما يحرّكنا نحو آثاره عملاً بواسطة اليقين المتعلّق به كما هو واضح(3).

الصياغة الثانية: ما قلنا: إنّه يستفاد من جواب المحقّق الخراساني(رحمه الله) على الوجه الثاني للصياغة الاُولى، وهو: أنّ اليقين وإن استعمل في معناه الحقيقي ولكن يكون النقض بلحاظ المتيقّن، وتقريبه ـ على ما هو الظاهر من عبارته(قدس سره) في الكفاية ـ هو ما مضت الإشارة إليه من أنّ اليقين لوحظ مرآةً للمتيقّن، ببيان: أنّ مصاديق اليقين هي مرآة إلى مصاديق المتيقّن، فتسري هذه المرآتية من المصاديق إلى المفاهيم باعتبارها عناوين للمصاديق، وتُرى بها المصاديق، فلوحظ مفهوم اليقين هنا مرآة لمفهوم المتيقّن من باب أنّ مصاديقه مرآة لمصاديقه.

وهذا البيان يفيد الشيخ الأعظم(قدس سره)، لأنّه بعد أن لم يكن اليقين ملحوظاً بذاته لا فائدة في ما فيه من الاستحكام أو الإبرام في تصحيح كلمة(النقض)، ونحتاج إلى فرض الاستحكام أو الإبرام في ما هو الملحوظ وهو المتيقّن.


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 767 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 82 ـ 83 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 367 ـ 368 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 83 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع المقالات: ج 2، ص 367 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 78 ـ 79، و81 ـ 82 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

238

والذي ذكره(قدس سره) في تعليقته على الرسائل غير هذا، فإمّا إنّ ظاهر عبارة الكفاية غير مقصود، وإنّما المقصود ما ذكره في تعليقته على الرسائل. وإمّا إنّ هنا تهافتاً بين المقصودين، وسوف نذكر ما ذكره في التعليقة في الصياغة الثالثة ـ إن شاء الله ـ.

وأورد المحقّق العراقي(رحمه الله) على ما يستفاد من الكفاية بما مضى من أنّ هذا هدم لمبناه من كون مصحّح استعمال النقض هو استحكام اليقين، فإنّ المفروض أنّ اليقين لوحظ فانياً في المتيقّن ومرآة له، إذن فلا بدّ من فرض استحكام في المتيقّن(1).

وأجاب على هذا الإيراد بما مضى عنه من أنّ المتيقّن اكتسب لون اليقين الفاني فيه، كما أنّ السراج يكتسب لون الزجاجة الملتفّة حوله(2).

أقول: إنّ قياسه(قدس سره) للمقام بمثال السراج في غير محلّه، فإنّ مثال السراج مرتبط بالتأثيرات التكوينية في عالم الحسّ الخارجي، فنور السراج يكتسب تكويناً ذبذبة معيّنة، فتؤثر صورة في شبكة العين تكويناً، ونسمّيها باللون الفلاني، وأين هذا من الفناء الذهني وكون المفنّي فيه يكتسب بحسب عالم الذهن لون الفاني أو لا؟! وكيف يمكن الاستشهاد على الاكتساب باكتساب تكويني يقع خارجاً في عالم الطبيعة غير مرتبط بباب الفناء الذهني؟! هذا حال الاستشهاد الذي ذكره.

وأمّا تحقيق الكلام في أصل ما أفاده(رحمه الله) فهو: أنّه ليس المفنيّ فيه في باب الفناء الذهني يكتسب لون الفاني، وإنّما الفاني يكتسب لون المفنيّ فيه، وتوضيحه يكون بتوضيح معنى الفناء المعقول، فنقول: إنّه لو صار البناء على التدقيق في العبارة التي تقال من أنّ العنوان الفلاني لوحظ فانياً في معنونه، فقد يبدو في النظر تهافت في هذا الكلام؛ إذ معنى قولنا:«لوحظ» أنّه وجد بالوجود اللحاظي، ومعنى قولنا:«فانياً» أنّه ليس له وجود في عالم اللحاظ والالتفات، وهذا تناقض وتهافت. والتحقيق: أنّ المعنى المعقول لهذا الكلام هو أنّ العنوان الموجود في الذهن كعنوان الإنسان مثلاً الموجود في الذهن تارة يلحظ واقعه وحقيقته بالحمل الشائع، فيُرى أنّه حالة ذهنية، وأنّه جزء من المتصورّ بهذا العنوان، واُخرى يلحظ عنوانه بالحمل الأوّلي لا واقعه وحقيقته، فيُرى أنّه إنسان خارجي تصدق عليه الحيوانية والناطقية، ومعنى الفناء هو أن نلحظ ما يمكن فيه هذا اللحاظان بالحمل الاوّلي،


(1) مضى مصدر الكلام آنفاً.

(2) مضى مصدر الكلام آنفاً.

239

ونلحظ عنوانه لا واقعه فقد افنينا واقعه وأخذنا بعنوانه، ولاحظناه فقط، فكأنّنا تخيّلنا أنّ هذا العنوان هو واقعاً حيوان وناطق ويتمتّع بخصوصيات الإنسان الخارجي، فهذا هو المعنى المعقول لما يقال من أنّ عنوان الإنسان لوحظ فانياً في معنونه ومصداقه، وبهذا يظهر أنّ الفاني هو الذي يكتسب لون المفنيّ فيه لا العكس.

وبما ذكرنا من شرح نكتة الفناء ظهر ـ أيضاً ـ بطلان ما يظهر من عبارة الكفاية من أنّ مفهوم اليقين يلحظ في المقام فانياً في مفهوم المتيقّن من باب سريان الفناء من المصداق إلى المفهوم باعتباره عنواناً للمصداق، فإنّه وإن كان المفهوم عنواناً للمصداق ووجهاً له ولكنّه لا يسري الفناء إليه؛ لعدم تحقّق نكتة الفناء فيه، فإنّ مصداق اليقين فان في المتيقّن، بمعنى: أنّه حينما يلحظ ما في نفس صاحب اليقين من عدالة زيد مثلاً بالحمل الأوّلي يُرى أنّه حالة في زيد وكمال له، وإن كان حينما يلحظ بالحمل الشائع يُرى أنّه حالة نورانية لصاحب اليقين، وأمّا مفهوم اليقين الموجود في ذهن شخص فهو لا يُرى عين المتيقّن لا بالحمل الأوّلي ولا بالحمل الشائع، فإنّه بالحمل الأوّلي عبارة عن الانكشاف، وبالحمل الشائع عبارة عن حالة في نفس متصوِّره وجزء من ذهنه وأفكاره، فما يظهر من عبارة الكفاية من لحاظ مفهوم اليقين فانياً في مفهوم المتيقّن غير معقول.

إلاّ أنّ المظنون أنّ مراده(رحمه الله) ليس هو ما يظهر من عبارته، بل مراده ما ذكره في تعليقته على الرسائل.

الصياغة الثالثة: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل من أنّ اليقين اُريد به بحسب المدلول الاستعمالي معناه الحقيقي، لكنّه كنّى به عن مراد جدّي هو المتيقّن، من قبيل ما يقال من أنّ زيداً كثير الرماد، فتكون كلمة(كثير الرماد) مستعملة في معناها الحقيقي، لكنّ المقصود الجدّي هو الكرم وكثرة الضيف(1).

وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ تحقيق حال هذا الوجه، وأنّه هل يحمل الكلام في المقام على الكناية أو لا، إلاّ أنّنا نذكر هنا أنّ هذا الوجه لو تمّ لم يفد الشيخ الأعظم(قدس سره).

توضيحه: أنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله) كأنّه يرى كفاية ما في اليقين من الاستحكام ـ كما عبّر به في الكفاية ـ أو الالتفات حول المتيقّن ـ كمّا عبّرنا به ـ في صحة استعمال النقض إذا كان مسنداً إلى اليقين، فحاول بيان: أنّ النقض يرجع إلى المتيقّن حتّى يظهر الاحتياج إلى إبرام أو


(1) راجع حاشية كتاب فرائد الاُصول، ص 188 بحسب طبعة مكتبة بصيرتي.

240

استحكام في المتيقّن، وذلك لا يكون إلاّ عند إحراز المقتضي مثلاً، فيثبت اختصاص الاستصحاب بصورة إحراز المقتضي، وهذا المقصود للشيخ الأعظم(قدس سره) كما ترى تفيده الصياغة الاُولى، وهي: أنّ اليقين إنّما استعمل بمعنى المتيقّن، فإنّه لو كان مستعملاً في المتيقّن إذن فلا أثر للاستحكام، أو الإبرام الموجود في اليقين في تصحيح كلمة(النقض)، ولا بدّ من استحكام أو إبرام في المتيقّن مثلاً كما تفيده ـ أيضاً ـ الصياغة الثانية، فإنّه لو لوحظ اليقين فانياً في المتيقّن، أي: إنّ النظر كان إلى المتيقّن لا إلى اليقين، فمن الطبيعي أن لا يفيد ما في اليقين من الاستحكام أو الإبرام في تصحيح كلمة(النقض)؛ إذ ليس النظر والالتفات إلى اليقين، وإنّما الالتفات إلى المتيقّن، فلا بدّ من فرض إبرام أو استحكام في المتيقّن، ولكن لا تفيده الصياغة الثالثة؛ إذ لو سلّمنا استعمال اليقين في معناه الحقيقي وكونه ملحوظاً في المقام، فلا محالة يكفي ما فيه من إبرام أو استحكام، فإنّه وإن كان المقصود الجدّي هو المتيقّن لكنّنا في مقام تصحيح استعمال كلمة(النقض) لا نحتاج إلى أزيد من وجود نكتة صدق النقض في عالم المراد الاستعمالي. فهذا الوجه لو تمّ لم يفد في تحقيق هدف الشيخ الأعظم(قدس سره).

الصياغة الرابعة: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)، وعبارة كلا تقريري بحثه في غاية التشويش، ويكاد أن لا يتحصّل منها شيء عدا تكرار نفس المدّعى(1)، ويمكن أن يكون مقصوده(قدس سره) أحد أمرين، وكلاهما يرجع إلى بيان الاحتياج إلى إحراز المقتضي بلا حاجة إلى دعوى كون المقصود من اليقين هو المتيقّن، فهذا في الحقيقة ليس صياغة رابعة للمقدّمة الاُولى من المقدّمتين اللتين مضتا في مقام بيان دليل الشيخ الأعظم(قدس سره) على اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع، وإنّما هو استغناء عن المقدّمة الاُولى، فلا نقول: إنّ المقصود من اليقين هو المتيقّن في مرحلة الاستعمال كما هو الحال في الصياغة الاُولى، ولا في مرحلة اللحاظ والالتفات كما هو الحال في الصياغة الثانية، ولا في مرحلة المراد الجدّي كما هو الحال في الصياغة الثالثة، بل نقول: إنّ المقصود باليقين هو اليقين، ولكن مع هذا نحتاج إلى إحراز المقتضي في مقام صدق النقض؛ وذلك لأحد أمرين:

الأمر الأوّل: ما هو أبعد الاحتمالين في مراده(قدس سره) وإن كان هو في نفسه وجهاً في إثبات المدّعى، وهو: أنّ النقض يحتاج إلى فرض إحكام أو إبرام في متعلّقه، وهنا قد تعلّق النقض


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 135 ـ 137 بحسب الطبعة المنشورة من قبل مؤسّسة النصر ومكتبة الصدر وص 373 ـ 377 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 378 ـ 380.

241

باليقين، فلا بدّ من فرض ذلك فيه ولو مسامحة، وذلك إنّما يكون عند وجود المقتضي، من باب أنّ مقتضي المتيقّن مقتض لليقين، وبقاء مقتضي اليقين يعتبر بالمسامحة بقاءً لليقين.

ويرد عليه: أوّلاً: كفاية ما ذكرناه من إبرام اليقين والتفافه حول المتيقّن، فلا حاجة إلى فرض استحكام أو إبرام آخر.

وثانياً: أنّ أسباب اليقين ومقتضياته وشرائطه وموانعه ليست عبارة عن أسباب المتيقّن ومقتضياته وشرائطه وموانعه، وإنّما المقتضي لليقين هو العلم بمقتضي المتيقّن مع العلم بشرطه والعلم بعدم مانعه، فالعلم بعدم المانع والعلم بالمقتضي كلاهما في عرض واحد داخلان في مقتضي اليقين، لا أنّ أحدهما مقتض له والآخر مانع عنه، وقد يكون المقتضي للمتيقّن موجوداً ومحرزاً ولا يكون المقتضي لليقين موجوداً، وذلك كما لو لم نعلم بعدم المانع، فإنّ المقتضي لليقين في كلّ آن هو اليقين بوجود المقتضي والشرط وعدم المانع للمتيقّن في ذلك الآن، فليس اليقين ممّا لو خلّي وعمود الزمان يبقى، فبحسب ما يقال في ضابط المقتضي والمانع في المقام(من كون الشيء يبقى لو خلّي وعمود الزمان أو لا؟) لا يكون مقتضي اليقين موجوداً في حين ان مقتضي المتيقّن موجود.

الأمر الثاني: ما يظنّ كونه هو المراد للمحقّق النائيني(قدس سره) ويستشفّ من وراء تلك العبارات المشوّشة، وهو: أنّ المقصود ليس هو النقض الحقيقي لليقين، وإنّما المقصود هو النقض العملي له، أي: النقض بحسب الجري العملي، وهذا معناه نقض الجري العملي، إذن لا بدّ من فرض استحكام أو إبرام مسامحي في الجري العملي، وذلك يكون ببقاء مقتضي الجري العملي، ومقتضي الجري العملي عبارة عن مقتضي المتيقّن، فإنّ المتيقّن هو الذي يحرّك نحو العمل ولو بلحاظ انكشافه باليقين، إذن فلا بدّ من بقاء مقتضي المتيقّن وكون الشكّ في الرافع.

ويرد عليه: أنّ النقض هنا وإن كان نقضاً عملياً، لكن معنى ذلك هو كون الجري العملي مأخوذاً في نفس مفهوم النقض، فالنقض نقض عملي لليقين في مقابل كونه نقضاً حقيقياً له، لا أنّه نقض للجري العملي حتّى نحتاج إلى استحكام أو إبرام في الجري العملي، وصحيحٌ أنّ واقع المطلب هو إرادة نقض الجري العملي، ولكن بحسب عالم الاستعمال قد اُخذ الجري العملي في مفهوم النقض، واُسند النقض إلى اليقين، وفرض تقدير كلمة(العمل) مثلاً في المقام بأن يقال: إنّ الأصل هو(لا تنقض العمل باليقين) ليس عرفياً، إذن فنحن إنّما نحتاج إلى إبرام في اليقين، ويكفينا إبرام اليقين والتفافه حول المتيقّن.

242

ولو فرض أنّ إبرام اليقين يجب أن يكون إبراماً بحسب الجري العملي حتّى يكفي في صدق النقض العملي، قلنا: إنّ التفاف اليقين حول المتيقّن كما يكون بلحاظ عالم الانكشاف كذلك يكون بلحاظ عالم الجري العملي.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ كلمة(النقض) لا توجب اختصاص مفاد الحديث بالشكّ في الرافع.

ثم لو سلّمنا كون كلمة(النقض) توجب اختصاص مفاد الحديث بالشكّ في الرافع قلنا: إنّ روايات الاستصحاب ليست كلّها مشتملة على كلمة(النقض)، فيجب أن نحسب حساب روايات اُخرى أيضاً، فنقول: إنّ الصحيحة الاُولى والثانية والثالثة، ورواية الخصال كلّها مشتملة على كلمة(النقض)، وبعض الروايات تشتمل على ما يشبه كلمة(النقض) من قبيل:(اليقين لا يدخله الشكّ)، فقد يمكن جعل كلمة(الدخول) ونحوه ببعض البيانات من قبيل كلمة(النقض)، ولكن توجد روايتان ليست فيهما كلمة(النقض) ولا ما يشبهها.

إحداهما: ما مضى من رواية إسحاق بن عمّار:«إذا شككت فابنِ على اليقين. قال: هذا أصل؟ قال: نعم». فهذه الرواية تدلّ على حجّيّة الاستصحاب مطلقاً، إلاّ أنّها ضعيفة سنداً(1). وأمّا من حيث الدلالة فقد مضى منّا تماميّة دلالتها على الاستصحاب، ولو تمّت دلالتها على الاستصحاب فهي تدلّ ـ لا محالة ـ بالإطلاق على الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي.

نعم، إن قلنا: إنّها تفيد قاعدة اليقين مثلاً لا الاستصحاب، فهي تخرج موضوعاً عن محلّ البحث، ولا تدلّ على تعميم الاستصحاب لموارد الشكّ في المقتضي.

وإن فرضناها مرددةً بين الاستصحاب وقاعدة اليقين أثّرت في إيجاب الاحتياط على من يرى كلمة(النقض) غير ملائمة للشكّ في المقتضي، فبهذا السبب يرفع اليد عن صحاح زرارة في الشكّ في المقتضي، فعليه أن يحتاط في موارد الاستصحاب في الشكّ في المقتضي فيما يثبت حكماً إلزامياً، وفي موارد قاعدة اليقين فيما تثبت حكماً إلزامياً للعلم الإجمالي بحجّيّة احدهما بمقتضى هذا الحديث.

وثانيتهما: ما مضى ـ أيضاً ـ من صحيحة عبدالله بن سنان في ثوب اُعير من الذمي وفيها:«فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى


(1) مضى نقاشنا في دعوى ضعف سند هذه الرواية.

243

تستيقن أنّه نجّسه». فهذا الحديث ـ أيضاً ـ غير مشتمل على كلمة(النقض) وشبهها، فيمكن الاستدلال به على حجّيّة الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي، إلاّ أنّه يمكن المناقشة في ذلك بأنّه(عليه السلام) عبّر بقوله:«ولم تستيقن أنّه نجّسه» وبقوله:«حتّى تستيقن أنّه نجّسه» فخصوصيّة كون الشكّ في الرافع موجودة في الكلام، وليست هذه الخصوصيّة من الخصوصيّات التي يلغيها العرف ويحملها على المثاليّة.

وعلى أيّة حال، ففيما عرفت من عدم صحّة أصل الاستشكال في الشكّ في المقتضي بواسطة كلمة(النقض) غنىً وكفاية.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الاستصحاب حجّة مطلقاً، من دون تفصيل بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، ومن دون تفصيل بين الحكم المستفاد عن طريق الدليل اللفظي والحكم المستفاد عن طريق الدليل العقلي، ومن دون تفصيل بين موارد الشكّ في الرافع وموارد الشكّ في المقتضي(1).

 


(1)

التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية:

وقع هناك حديث في التفصيل بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، بأن يقال: إنّ الاستصحاب في الأحكام التكليفية يجري، ولكنّه في الأحكام الوضعية أو بعضها لا يجري، وتعارف لدى الأصحاب أن بحثوا بهذه المناسبة أصل حقيقة الحكم الوضعي قبل أن يبحثوا: أنّ الاستصحاب يجري فيه أو لا يجري، فوقع هذا البحث في الرسائل والكفاية وبحث الشيخ النائيني، وكذلك في بحث السيّد الخوئي(رحمه الله) وإن كان السيّد الاُستاذ(رحمه الله) طوى هذا البحث في بحثه الخارج، وذكره مختصراً في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

حقيقة الحكم الوضعي:

الحكم التكليفي والحكم الوضعي كلاهما يشتركان في أنهما تشريع أو ما يشبه التشريع، وأقصد بما يشبه التشريع: الانتزاع من التشريع كما قد يقال بذلك في بعض الأحكام الوضعية، أو مجرّد الإرادة والكراهة المولوّيتين على ما يقول البعض في الأحكام التكليفية من أنّ روحها وحقيقتها إنّما هي الإرادة والحبّ، أو الكراهة والبغض، فبشكل عامّ ومع شيء من المسامحة ـ كي لا يشذّ عن حسابنا رأي يقول في الأحكام التكليفيّة: إنّها الإرادة والكراهة، ولا يشذّ عن حسابنا بعض الأحكام الوضعيّة الانتزاعيّة ـ نقول: الحكم تشريع، والتشريعات الإلهيّة هي الأحكام، والأحكام هي التشريعات، والتشريعات على قسمين: التشريعات التكليفية والتشريعات الوضعية.

244


وخير ما قيل بصدد الفرق بين التشريعات التكليفية والتشريعات الوضعية هو: أنّ التشريعات التكليفية هي التي توجّه سلوك المكلف مباشرة، والتشريعات الوضعية هي التشريعات التي لا توجّه سلوك المكلف مباشرة، بل إمّا شرّعت لتكون موضوعات لأحكام تكليفيّة أو تكون هي منتزعة من أحكام تكليفيّة، فهي تنظّم توجيهات ترد لسلوك المكلف أكثر من أن تكون موجّهة مباشرة لسلوك المكلف، في حين أنّ الأحكام التكليفيّة توجّه مباشرةً سلوك المكلف، فهي تقول: افعل، أو تقول: لا تفعل، أو تقول: يحسن أن تفعل، أو تقول: لا يحسن أن تفعل، أو تقول: أنت مخيّر مثلاً، وما إلى ذلك.

وقد اتّضح من ضمن هذا الكلام الذي ذكرناه أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين:

أحدهما: تشريعات تصبح موضوعات لأحكام تكليفية، من قبيل الزوجيّة مثلاً التي هي تشريع الهيّ من تشريعات الإسلام، وليست هي توجّه مباشرة سلوك المكلف، لكنّها تكون موضوعاً للأحكام التكليفيّة التي توجّه مباشرة سلوك المكلف من وجوب النفقة، أو وجوب الوطء أو جوازه، أو ما شابه ذلك من أحكام، وكذلك الملكيّة مثلاً التي هي تشريع الهيّ، وهي ـ أيضاً ـ موضوع للأحكام التكليفيّة التي هي الموجّهات المباشرة من قبيل جواز التصرّف من قبل المالك، أو حرمة التصرّف من قبل غير المالك، وما شابه ذلك.

والقسم الآخر: الأحكام الوضعيّة التي هي في طول الأحكام التكليفيّة بالانتزاع منها، وإن سمّيناها تشريعيّة فهي مشرّعة بالتّبع أو بالعرض والمجاز، وليست مشرّعة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما هو الحال في مثل شرطية الشي للمكلف به، أو جزئيّته أو مانعيّته.

هذان هما القسمان المألوف ذكرهما بالنسبة للأحكام الوضعيّة.

تقسيم الشيخ الخراساني للأحكام الوضعيّة:

إلاّ أنّ الشيخ الخراساني(رحمه الله) قسّم الأحكام الوضعيّة إلى ثلاثة أقسام بدلاً عن أن يقسّمها إلى قسمين، فقال: إنّ الأحكام الوضعية تنقسم إلى أقسام ثلاثة: أوّلها ما لا تناله يد التشريع أصلاً، لا بالاستقلال كما نقوله مثلاً في الملكيّة والزوجيّة، ولا بالتبع، أو قل: بالانتزاع من أحكام اُخرى كالشرطيّة للمكلف به، بل هي اُمور حقيقية وواقعية وتكوينية لا تجعل جعلاً تشريعياً ولو بالتبع وبالعرض والمجاز، أو بالانتزاع، وإن شئت أو أحببت أن تعبّر أنه تنالها يد الجعل قل: تنالها يد جعل التكوين، لا يد جعل التشريع، وذلك بتكوين موضوعها، وذلك من قبيل السببية والشرطية والمانعية بالنسبة لأصل التكليف، من قبيل أنّ زوال الشمس شرط، أو سبب لوجوب الصلاة، أو خلّو المرأة من الحيض شرط لوجوب الصلاة، او قل: الحيض مانع عن وجوب الصلاة، أو اليقظة شرط لوجوب الصلاة، أو الحضر شرط لوجوب التمام، أو الصوم او الصحّة شرط لوجوب الصوم، وما شابه ذلك. والقسم الثاني والثالث من هذه الأقسام الثلاثة الواردة في كلام المحقق الخراساني(رحمه الله)هما المعروفان، حيث إنّ القسم الثاني هو الذي تناله يد الجعل مباشرة بلا واسطة مستقلاً، كما أنّه يمكن ـ أيضاً ـ أن تناله يد الجعل انتزاعاً كالملكية مثلاً، حيث إنّ الملكية يمكن أن تنالها يد الجعل مباشرة بأن يشرّع المولى الملكية ويمكن ان يفترض أنّ