491

تأخَّر عن أشغاله وأعماله الحياتيَّة، ولكنَّه مجبور على ذلك؛ لتحصيل شفائه من وراء فحص الطبيب إيَّاه، ووصفه للعلاج. فهذا حاله حال العباد الذين يعبدون الله، ويرون أنفسهم مجبورين على ذلك تحصيلاً للثواب، وهرباً من العقاب، ولكنَّهم يسأمون ويملُّون من ساعات الصلاة؛ لأنَّهم يحسُّون بذهاب الوقت الذي كانوا بحاجة إليه لأُمورهم المعيشيّة والحياتيَّة، إلاّ أنَّهم يصبرون على ذلك؛ لأجل الوجوب. وثانيهما يصرف ساعات من وقته في لقاء الأحبَّة، ومجلس الأُنس، وسهرة الليل، وتبادل الأحاديث معهم من كلِّ جانب، ويحسُّ في ذلك بلذَّة قصوى على رغم علمه بأنّه يصرف وقته الذي كان بحاجة إليه للنوم والراحة، أو لطلب المعاش، أو ما إلى ذلك، ولا يحسُّ بملل أو سأم من صرفه لهذا الوقت. فهذا مثله مثل مَن يعبد الله حبَّاً له وشوقاً إليه، فهو يحسُّ بلذَّة المناجاة وحلاوة الخلوة مع الله مع فارق كبير بين الممثل والمثال؛ لأنَّ حبَّ الأوَّل لأصحابه حبٌّ دنيويٌّ ضعيف، وحبُّ الثاني لله حبٌّ حقيقي ناتج من جمال الله وعظمته. وشتَّان ما بين الثرى والثريَّا.

وقد ورد في مصباح الشريعة: «... ألا وإنَّك لو وجدت حلاوة عبادة الله، ورأيت بركاتها، واستضأت بنورها، لم تصبر عنها ساعةً واحدةً ولو قُطِّعت إرباً إرباً ...»(1).

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «إذا تخلَّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبِّ الله، وكان عند أهل الدنيا كأنَّه قد خُولِط، وانَّما خالط القوم حلاوة حبِّ الله، فلم يشتغلوا بغيره»(2).

وما أشبه هذا التعبير في هذا الحديث الذي تلوناه بالتعبير الوارد عن


(1) البحار 70 / 69.

(2) البحار 73 / 56.

492

أميرالمؤمنين(عليه السلام) في خطبة المتقين: «... لقد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم...»(1).

قال الشاعر:

أُحِبُّك حبَّين حبَّ الهوى
وحبَّاً لأنَّك أهل لذاكا
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذكرك عمَّن سواكا
وأمَّا الذي أنت أهلٌ له
فكشفك لي الحجب حتّى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا(۲)

وقال الشاعر:

كانت لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ
فاستجمعتْ مذ رأتك العينُ أهوائي
فصار يحسدني مَنْ كنت أحسده
فصرت مولى الورى مذ صرتَ مولائي
تركتُ للناسِ دنياهم ودينَهمُ
شغلاً بذكركَ يا ديني ودنيائي(3)
 

وعلى أيِّ حال، فهذا الحبُّ والالتذاذ لا يجتمعان مع الذنب. وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات كون الذنوب سبباً للانحرام من صلاة الليل، أو الانحرام من لذَّة المناجاة، وكيف لا وإنَّ الذنوب تخلق حجاباً بين العبد والربِّ، وتهدم الحبَّ والشوق، وتغطِّي القلبَ، وترين عليه. وقد ورد في دعاء أبي حمزة «...وأنَّك لا تحتجب عن خلقك إلاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...».

 

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «إنَّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل...»(4) وأيضاً عن الصادق(عليه السلام) بسند تام قال: «إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم


(1) نهج البلاغة: 411، رقم الخطبة: 193.

(2) المحجة 8 / 32. وقد مضت هذه الأبيات مع أدنى تغيير في حالات رابعة العدوية في مدخل البحث العملي.

(3) المحجة 8 / 33.

(4) الوسائل 8 / 160، الباب 40 من الصلوات المندوبة، الحديث 3.

493

صلاة الليل...»(1).

وأيضاً ورد في الحديث: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: إنِّي قد حرمت الصلاة بالليل، فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أنت رجل قد قيَّدتك ذنوبك»(2).

وأيضاً ورد عن موسى بن جعفر(عليهما السلام) في و صيته لهشام بن الحكم أنَّه قال: «...يا هشام، أوحى الله إلى داود قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدُّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، أُولئك قُطَّاع الطريق من عبادي، إنَّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة عبادتي ومناجاتي من قلوبهم...»(3).

وفي حديث آخر: «أوحى الله إلى داود(عليه السلام) أنَّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة أن أُخرج من قلبه حلاوة ذكري...»(4).

وقد جعل بعض الحبَّ مركزاً للفضائل، فبلحاظ ما بعده يثمر المقامات اللاحقة كالشوق والرضا، وبلحاظ ما قبله تنتهي إليه المقامات السابقة كالتوبة والصبر والزهد(5). وبكلمة أُخرى: إن المحبَّة آخر منازل العامة، وأوَّل منازل الخاصَّة(6).

وقد ظهر بكلِّ ما سردناه حتّى الآن أنَّ الإيمان الكامل هو: الإيمان البالغ درجة الحبِّ، كما ورد في الحديث الصحيح السند عن الصادق(عليه السلام): «... وهل الإيمان إلاّ الحبُّ والبغض، ثُمَّ تلا هذه الآية: ﴿... حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاِْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ


(1) المصدر السابق 15 / 302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 14.

(2) المصدر السابق 8 / 161، الباب 40 من الصلوات المندوبة، الحديث 5.

(3) البحار 1 / 154.

(4) المصدر السابق 2 / 32.

(5) المحجة 8 / 3.

(6) راجع منازل السائرين أوَّل باب من أبواب الأحوال.

494

إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾»(1).

وورد ـ أيضاً ـ في الحديث الصحيح السند عن الصادق(عليه السلام): « هل الدين إلاّ الحبُّ إنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ...﴾ »(2).

أمَّا عن الآية التي فتحنا بها الحديث وهي قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فقد ورد في التفاسير عِدَّة تطبيقات لها(3)، وذلك من قبيل:

1 ـ تطبيقها على أميرالمؤمنين(عليه السلام) في فتح خيبر، أو في محاربته للناكثين والقاسطين والمارقين؛ ولهذا ورد في الحديث في قِصَّة فتح خيبر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعد هروب مَنْ هرب: «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، كرَّاراً غير فرَّار، لايرجع حتى يفتح الله على يده. فبات الناس يدوكون(4) بجملتهم أيُّهم يعطاها، فلمَّا أصبح الناس غدوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله)كلُّهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين عليّ بن أبي طالب ؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسِلوا إليه. فأُتي به، فبصق رسول الله(صلى الله عليه وآله)في عينيه، ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال عليٌّ: يا رسول الله أُقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا ؟ قال: انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثُمَّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير


(1) اُصول الكافي 2 / 125، والآية: 7 في السورة 49، الحجرات.

(2) البحار 69 / 237، والآية: 31 في السورة 3، آل عمران.

(3) راجع تفسير «نمونه» 4 / 417 ـ 418.

(4) أي: يخوضون ويموجون.

495

من أن يكون لك حمر النعم. (قال سلمة) فبرز مرحب وهو يقول:

قد علمت خيبر أنِّي مرحب
شاكي السلاح بطل مجرَّب

فبرز له عليٌّ(عليه السلام) وهو يقول:

أنا الذي سمّتني أُمّي حيدره
كليث غابات كريه المنظره

اُوفيهمُ بالصاع كيل السندره

فضرب مرحباً ففلق رأسه، فقتله وكان الفتح على يده»(1).

وما أحلى أبيات حسَّان بن ثابت:

وكان عليٌّ أرمد العين يبتغي
دواءً فلمَّا لم يحسّ مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة
فبورك مرقيَّاً وبورك راقيا
وقال: سأُعطي الراية اليوم صارماً
كميَّاً محبَّاً للرسول مواليا
يحبُّ إلهي والإله يحبُّه
به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البريَّة كلِّها
عليَّاً وسمَّـاه الوزير المؤاخيا(2)

2 ـ ورد أنَّه سُئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية، فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: هذا وذووه. ثُمَّ قال: لو كان الدِّين معلَّقاً بالثريَّا لتناوله رجال من أبناء فارس(3).

3 ـ وفي تفسير عليِّ بن إبراهيم: «نزلت في القائم وأصحابه»(4).

ثُمَّ إنَّ ما ذكرنا من الامتيازات للطاعة الناتجة من الحبِّ الحقيقي الصادق في مقابل الطاعة الناتجة من العلم قد قصدنا بذلك: المقابلة بين العلم بمعنى الإيمان الجافِّ غير السيَّال في العواطف والعروق، وبين الحبِّ الحقيقي الذي لا يمكن أن


(1) البحار 21 / 3 ـ 4.

(2) المصدر السابق 21 / 16.

(3) مجمع البيان: مج 2 / 3 / 358.

(4) في الجزء الأوّل في ذيل الآية.

496

ينفرد عن المعرفة بجمال الله وعظمته التي لا تكون إلاّ بعد العلم بالله. ولم نقصد المقابلة بين الحبِّ وحده والعلم وحده؛ فإنَّ أساس الحبِّ هو المعرفة الناتجة من العلم. ولايمكن أن يكون حبٌّ مورث للآثار الماضية بلا معرفة، فمتى ما أنتجت المعرفة الحبَّ الخالص الصادق، أصبحت عبادة المؤمن عبادة الأحرار، واقترنت بلذَّة لاتدانيها لذَّة، وعصمت صاحبها من أيِّ معصية أو ذنب.

وقد ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام) ما يلي: «نجوى(1) العارفين تدور على ثلاثة أُصول: الخوف، والرجاء، والحبُّ. فالخوف فرع العلم، والرجاء فرع اليقين، والحبُّ فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب، ودليل الرجاء الطلب، ودليل الحبِّ إيثار المحبوب على ما سواه. فإذا تحقّق العلم في الصدر خاف، وإذا صحَّ الخوف هرب، وإذا هرب نجا، وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل، وإذا تمكَّن من رؤية الفضل رجا، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب، وإذا وُفِّقَ للطلب وجد، وإذا تجلَّى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبَّة، وإذا هاج ريح المحبَّة استأنس ظلال المحبوب، وآثر المحبوب على ما سواه، وباشر أوامره، واجتنب نواهيه، واختارهما على كلِّ شيء غيرهما، وإذا استقام على بساط الأُنس بالمحبوب مع أداء أوامره واجتناب نواهيه، وصل إلى روح المناجاة والقرب. ومثال هذه الأُصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة، فمَنْ دخل الحرم أمِن من الخَلْق، ومَنْ دخل المسجد أمِنت جوارحه أن يستعملها في المعصية، ومَنْ دخل الكعبة أمِن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله.

فانظر(2) أيُّها المؤمن فإن كانت حالتك حالة ترضاها لحلول الموت، فاشكر


(1) يعني: المناجاة.

(2) من هنا قد يكون تكملة لكلام الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد يكون تفريعاً لمن جمع نصوص مصباح الشريعة.

497

الله على توفيقه وعصمته، وإن تكن الأُخرى فانتقل عنها بصحّة العزيمة، واندم على ما سلف من عمرك في الغفلة، واستعن بالله على تطهير الظاهر من الذنوب وتنظيف الباطن من العيوب، واقطع زيادة الغفلة عن نفسك، وأطف نار الشهوة من نفسك»(1).

واعلم أنَّ الحبَّ ذو طرفين، وليس ذا طرف واحد، فكما أنَّ العبد المؤمن يحبُّ الله عزَّوجلَّ كذلك الله ـ عزَّوجلَّ ـ يحبُّ عبده المؤمن.

وقد روى الكليني بسند قيل عنه: إنَّه تامٌّ(2) عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر(عليه السلام)قال: «لمَّا أُسري بالنبي(صلى الله عليه وآله) قال: يا ربِّ ما حال المؤمن عندك ؟ قال: يا محمَّد(صلى الله عليه وآله) مَنْ أهان لي وليَّاً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وما تردَّدت في شيء أنا فاعله كتردِّدي في وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، وإنّ من عبادي المؤمنين مَنْ لا يصلحه إلاّ الغنى، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الفقر، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبُّ إليَّ ممَّا افترضت عليه،


(1) البحار 70 / 22 ـ 23.

(2) في السند أبو سعيد القماط، ولعلَّه خالد بن سعيد الثقة، لا أخوه صالح بن سعيد. والقرينة على ذلك ما في الكافي 1 / 70 عن عِدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد، عن أبان بن تغلب... فعطف صالح بن سعيد على أبي سعيد القماط يشهد لكون أبي سعيد القماط منصرفاً ـ في الأقلِّ ـ في لسان إسماعيل بن مهران إلى خالد دون صالح. وروايتنا ـ أيضاً ـ قد رواها إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القماط، عن أبان بن تغلب، إلاّ أنَّ الأردبيلي في جامع الرواة استظهر كون (الواو) في نصِّ الكافي القائل: «أبي سعيد القماط وصالح بن سعيد» سهواً قلميَّاً، وأن يكون الصواب: «أبو سعيد القماط صالح بن سعيد».

وعلى أيِّ حال، فقد ذكر الشيخ البهائي(رحمه الله): أنَّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بين الخاصَّة والعامَّة، وقد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير. (راجع مرآة العقول: 10 / 384).

498

وإنَّه ليتقرَّب إليَّ بالنافلة حتّى أُحبَّه، فإذا أحببته كنت إذن سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»(1).

قوله: «ما تردَّدت في شيء أنا فاعله كتردِّدي في وفاة المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته».

إنَّ التردُّد بمعناه المألوف لدينا مستحيل على الله سبحانه، إلاّ أنَّ الشيخ البهائي(رحمه الله) ذكر في المقام عِدَّة توجيهات لهذه الجملة(2):

1 ـ إنَّ في الكلام إضماراً وتقديراً، أي: لو جاز عليَّ التردُّد ما تردَّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن.

2 ـ إنَّ هذا الكلام فيه استعارة تمثيليَّة، فهو يكنِّي عن توقير المؤمن واحترامه؛ باعتبار أنَّ الإنسان عادةً يتردَّد في عمل يوجب إساءة مَنْ يحترمه ويوقِّره كالصديق الوفيِّ والخلِّ الصفيِّ، بخلاف مَنْ لا يقدّره ولا يوقِّره كالعدو والحيَّة والعقرب.

3 ـ إنَّه ورد في الحديث من طرق الخاصَّة والعامَّة: أنَّ الله ـ سبحانه ـ يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللُطف والكرامة والبِشارة بالجنَّة ما يزيل عنه كراهة الموت، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار، فيقلُّ تأذِّيه به، ويصير راضياً بنزوله، راغباً في حصوله، فأشبهت هذه الحالة معاملة مَنْ يريد أن يؤلم حبيبه ألماً يتعقَّبه نفع عظيم، فهو يتردَّد في أنَّه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقلُّ تأذِّيه به، فلا يزال يظهر له ما يرغِّبه فيما يتعقَّبه من اللذَّة الجسميَّة والراحة العظيمة إلى أن يتلقَّاه بالقبول، ويعدُّه من الغنائم المؤدِّية إلى إدراك المأمول.


(1) اُصول الكافي: 2 / 352.

(2) أخذتها من مرآة العقول: 10 / 384 ـ 385، وكذلك المجلد التاسع: ص 297 ـ 298.

499

أقول: من جملة الروايات التي أشار إليها الشيخ البهائي(رحمه الله) ممَّا تدلُّ على أنَّ المؤمن لا يُكرَه على الموت، بل يُحبَّب إليه الموت إلى أن يرضى بذلك ما ورد عن أبي بصير قال:

«قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): جعلت فداك يستكره المؤمن على خروج نفسه ؟ قال: فقال: لا والله. قال: قلت: وكيف ذلك ؟ قال: إنَّ المؤمن إذا حضرته الوفاة حضر رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وجميع الأئمّة عليهم الصلاة والسلام، ولكن أكنُّوا عن اسم فاطمة(1)، ويحضره جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل(عليهم السلام)، قال: فيقول أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): يا رسول الله، إنَّه كان ممَّن يحبُّنا ويتولاَّنا فأحبَّه، قال: فيقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل، إنَّه ممَّن كان يحبُّ عليَّاً وذرّيته فأحبَّه، وقال جبرئيل لميكائيل وإسرافيل(عليهم السلام) مثل ذلك، ثُمَّ يقولون جميعاً لملك الموت: إنَّه ممَّن كان يحبُّ محمَّداً وآله، ويتولَّى عليَّاً وذرِّيته، فارفق به، قال: فيقول ملك الموت: والذي اختاركم وكرَّمكم، واصطفى محمَّداً(صلى الله عليه وآله) بالنبوَّة، وخصَّه بالرسالة، لأنا أرفق به من والد رفيق، وأشفق عليه من أخ شفيق، ثُمَّ قام إليه ملك الموت فيقول: يا عبدالله، أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت رهان أمانك ؟ فيقول: نعم، فيقول الملك: فبماذا ؟ فيقول: بحبِّي محمَّداً وآله، وبولايتي عليِّ بن أبي طالب وذرِّيته، فيقول: أمَّا ما كنت تحذر فقد آمنك الله منه، وأمَّا ما كنت ترجو فقد أتاك الله به، افتح عينيك فانظر إلى ما عندك، قال: فيفتح عينيه فينظر إليهم واحداً واحداً، ويفتح له باب إلى الجنّة، فينظر إليها فيقول له: هذا ما أعدَّ الله لك، وهؤلاء رفقاؤك أفتحبُّ


(1) قال المجلسي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذه الرواية في البحار: «ولكن أكنُّوا عن اسم فاطمة» أي: لا تصرِّحوا باسمها(عليها السلام)؛ لئـلاَّ يصير سبباً لإنكار الضعفاء من الناس.

500

اللحاق بهم أو الرجوع إلى الدنيا ؟ قال: فقال أبوعبدالله(عليه السلام): أما رأيت شخوصه(1)ورفع حاجبيه إلى فوق من قوله: لا حاجة لي إلى الدنيا، ولا الرجوع إليها ! ويناديه مناد من بطنان العرش يسمعه ويسمع من بحضرته: يا أيتها النفس المطمئنَّة إلى محمَّد ووصيّه والأئمَّة من بعده، ارجعي إلى ربِّك راضية بالولاية مرضيَّة بالثواب، فادخلي في عبادي مع محمَّد وأهل بيته، وادخلي جنَّتي غير مشوبة»(2).

وللمجلسي(رحمه الله) توجيه رابع لتردُّد الله في موت عبده المؤمن، وهو: توجيهه بمسألة البداء بالمعنى المعقول عندنا، فيكون التردُّد إشارةً إلى المحو والإثبات في لوحهما؛ فإنَّه يكتب أجله في زمان وآن فيدعو المؤمن لتأخيره، أو يتصدَّق فيمحو الله ذلك، ويؤخِّره إلى وقت آخر، فهو يشبه فعل المتردِّد أُطلِق عليه التردُّد على وجه الاستعارة(3).

وللسيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله) توجيه خامس لذلك، وهو: حمله على نسبة تردُّد المؤمن إلى الله على حدِّ ﴿... مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمَى ...﴾(4) أي: أنَّ هذا من باب انتساب أفعال العبيد إلى الله على أساس الأمر بين الأمرين(5) ثُمَّ ذكر (رحمه الله)تكملةً للمطلب ببيان تفسير جديد للتردُّد بالنسبة للمؤمن، وهو: أنَّ العباد إمَّا أن يكونوا عرفاء وأولياء لله، وينخرطوا لدى سيرهم إلى الله في مسلك أصحاب القلوب، فيكونون مجذوبين للحقِّ، وتوَّاقين لجماله الذي لا مثيل له، ومستقبلين


(1) شخص الميت بصره وببصره: رفعه.

(2) البحار 6 / 162 ـ 163. وفسَّر المجلسي(رحمه الله) «غير مشوبة» بمعنى: كون الجنّة غير مشوبة بالمحن والآلام.

(3) مرآة العقول 10 / 385.

(4) السورة 8، الأنفال، الآية: 17.

(5) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغرويّ: 521.

501

ذاته المقدَّس في كلِّ تطلُّعاتهم وآمالهم، ولا يلتفتون إلى غيره سبحانه من العوالم، بل لا يفكِّرون في أنفسهم وكمالاتهم.

وإمَّا أن ينغمروا في زخارف الدنيا، ويخوضوا في ظلمات حبِّ الجاه والمال، وتكون قلوبهم متجهةً نحو الأنانيّة والإنِّية من دون أن يعبأوا بالعالم الأقدس، ويأبهوا بالملكوت الأعلى، وهم الملحدون في أسماء الله.

والطائفة الثالثة هم الذين ينتبهون إلى العالم الأرفع نتيجة نور إيمانهم، ويكرهون الموت لالتفاتهم إلى هذا العالم، فعُبِّر عن هذا التجاذب بين المُلك والملكوت، والغيب والمادَّة، والآخرة والدنيا بالتردُّد، ونُسِبَ هذا التردُّد إلى الله بالبيان الماضي(1).

قوله: «وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلاّ الغنى...» هذا المقطع ورد في نقل آخر بشكل أكثر شرحاً، فقال: «... وإنَّ من عبادي المؤمن لمن يريد الباب من العبادة فأكفُّه عنه؛ لئلاَّ يدخله عُجب ويفسده، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك. إنِّي أُدبِّر عبادي بعلمي بقلوبهم، فإنِّي عليم خبير»(2).

وحقَّاً أنَّ هذا المقطع يبرِّد قلب المؤمن على أ يَّة حال يكون ما دام يعلم يقيناً أنَّ الله ـ تعالى ـ لا يريد إلاّ الخير بعباده، فلو سُقِم أو أُفقر فلعلَّ الصحّة أو الغنى كان يوجب له البطر، ولو أُغني أو عوفي فلعلَّ الفقر أو السقم كان يوجب له الجزع


(1) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغروي ّ: 524.

(2) البحار 70 / 16 ـ 17.

502

وترك الصبر، وهكذا سائر الأُمور. فالمؤمن يعلم أنَّه على أ يَّة حال قد روعيت مصلحته، ولوحظت الخيرات والبركات له.

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الفضيل بن يسار، عن الصادق(عليه السلام):

«... يا فضيل بن يسار، إنَّ المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيراً له، ولو أصبح مُقطَّعاً أعضاؤه كان ذلك خيراً له. يا فضيل بن يسار، إنَّ الله لا يفعل بالمؤمن إلاّ ما هو خير له. يا فضيل بن يسار، لو عدلت الدنيا عند الله ـ عزَّوجلَّ ـ جناح بعوضة ما سقى عدوَّه منها شربة ماء. يا فضيل بن يسار، إنَّه مَنْ كان همُّه همَّاً واحداً كفاه الله همَّه، ومَنْ كان همُّه في كلِّ واد لم يبالِ الله بأيِّ واد هلك»(1).

نعم، إنَّ الله ـ تعالى ـ أقرب إلى عبده من حبل الوريد، ويعلم سرائره، وهو الذي خلقه وخلق كلَّ ما حوله من العالَم الذي جعله ضِمنه، فمن الطبيعي أن يكون أعرف بما يصلحه وما يفسده من نفس العبد.

وعلى أيِّ حال، فلا يخفى أنَّ هذا المقطع وكذلك المقطع الذي قبله راجعان إلى المؤمن الاعتيادي لا إلى الكمّل من عباده؛ وذلك ـ كما أفاده السيّد الإمام الخمينيّ (رحمه الله)(2) ـ لأنَّ مَنْ يكره الموت، أو يعبث الغنى والفقر بقلبه إنَّما هو المؤمن العام دون الخواصِّ.

قوله: «وما يتقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبُّ إليَّ ممَّا افترضت عليه، وإنَّه يتقرَّب إليَّ بالنافلة حتّى أُحبُّه، فإذا أحببته كنت إذن سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».


(1) أُصول الكافي 2 / 246.

(2) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغرويّ: 519.

503

لايخفى أنَّ كون الفرائض أحبُّ إلى الله من النوافل، لا ينافي كون بعض المستحبات أثوب عند الله من الواجب، كما يقال في السَّلام وردِّ السَّلام؛ فإنَّ وجه أحبِّية الواجب اشتماله على المصلحة الملزمة؛ ولهذا يكون تركه مبغوضاً لله عزَّوجلَّ، في حين أنَّ المستحب ليست مصلحته إلزاميَّة؛ ولهذا يرخِّص الشارع في الترك. وهذا لاينافي أثوبيّة المستحب؛ فإنَّ الثواب لا يدور مدار المصلحة، بل يدور مدار مقدار التضحية والإخلاص، ولا شكَّ أنَّ التضحية الموجودة في الابتداء بالسلام أكثر من التضحية الموجودة في جواب السلام، بل على العموم إنَّ الالتزام بالمستحبات على رغم الإحساس بعدم الوجوب، يكون أثقل على النفس من الالتزام بالواجبات؛ لأنَّ الإحساس بوجوبها يكفي في انبعاث الداعي في نفس المؤمن الابتدائي إلى العمل، في حين أنَّ الالتزام بأمر غير واجب يكشف عن إخلاص أكثر وهمَّة أقوى.

وقد ذكر علماؤنا (رضوان الله عليهم) تفاسير عديدة للتعبير بـ «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به...»:

منها: ما قاله الشيخ البهائي(رحمه الله): من أنَّ المراد ـ والله العالم ـ أنِّي إذا أحببت عبدي جذبته إلى محلِّ الأُنس، وصرفته إلى عالم القدس، وصيَّرت فكره مستغرقاً في أسرار الملكوت، وحواسَّه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت، فيثبت ـ حينئذ ـ في مقام القرب قدمه، ويمتزج بالمحبَّة لحمه ودمه إلى أن يغيب عن نفسه، ويذهل عن حسِّه، فيتلاشى الأغيار في نظره حتّى أكون له بمنزلة سمعه وبصره كما قال مَنْ قال:

جنوني فيك لا يخفى
وناري منك لا تخبو
فأنت السمعُ والأبصارُ
والأركانُ والقلبُ(۱)
 


(1) راجع مرآة العقول 10 / 391.

504

أقول: وكما يُفهَم من هذا التفسير: إنَّ هذا المقام لا يحصل إلاّ بجذب الله تعالى لعبده إيَّاه بعد أن يحبَّ عبده، وإلاَّ فالعبد قاصر عن الوصول إلى هذا المقام. ولنعم ما تمثَّل به السيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله) هنا من البيت الفارسي، وهو:

تا كه از جانب معشوق نباشد كششى
كوشش عاشق بى چاره بجائى نرسد(1)

أمَّا عن أقسام المحبَّة فأدنى أقسام المحبَّة هو:

القسم الأوّل: للحبِّ وهو: الحبّ الحيوانيّ البحت، وهو: أنَّ الإنسان كالحيوان يحبُّ ما يوجب التذاذ قوَّة من قواه، كقوَّة الباصرة في المبصرات المحسَّنة، أو الذائقة في المذوقات الشهيَّة، أو الشامَّة في الروائح الطيِّبة، أو ما إلى ذلك ممَّا يعود في واقعه إلى حبِّه للذائذ نفسه، لا إلى حبِّه بالمعنى الحقيقي للكلمة لذاك المحبوب. وهذا الحبُّ مشترك بين الإنسان والحيوان بفرق: أنَّ الإنسان أدقُّ من الحيوان في التفنُّن في هذه الالتذاذات، وأوسع التذاذاً من الحيوان، فالإنسان يدرك من روائع الصور ما لا يدركه الحيوان، وكذلك من روائع المطعومات وما إلى ذلك، إلاّ أنَّ هذا الفرق ليس فارقاً جوهريَّاً، وهذا الحبُّ لا قيمة أخلاقيَّة أو عرفانيَّة له على الإطلاق؛ لأنَّه في الحقيقة لم يتجاوز حبَّ الذات، وكلُّ ما في الأمر إنَّما هو حبُّ التلذُّذ وبغض الألم.

والقسم الثاني: للحبِّ هو: أنَّ الإنسان عادةً يحبُّ وجود نفسه وحياته، وذلك أمر فطريٌّ وجبلِّيٌّ للبشر، فإن أدَّى هذا الحبُّ إلى حبِّ واهب الوجود بنفس منطق حبِّ الالتذاذ بالوجود، رَجَعَ إلى القسم الأوَّل وإن أدَّى إلى حبِّ واهب الوجود بمنطق أنَّ المحسن إلينا يستحقُّ الحبَّ، رَجَعَ إلى ما سوف يأتي إن شاء الله من القسم الثالث وإن أدَّى إلى حبِّ واهب الوجود باعتبار أنَّ وجودنا إن هو إلاَّ


(1) چهل حديث للسيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله): 591.

505

وجوداً تعلقيَّاً بحتاً، وأنَّ الوجود الاستقلالي ليس إلاّ لله تعالى، فهو المستحقُّ للحبِّ. فهذه درجة عالية من الحبِّ العرفاني الذي لا يناله إلاَّ مَنْ له حظٌّ عظيم، ولا يدركه إلاّ صاحب القلب المُرهَف، و﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم﴾ ولا يكفي في ذلك مجرّد الإحساس العقلي والعلمي والبرهاني بانحصار الوجود الاستقلالي بالله تعالى، بل يحتاج إلى الإحساس بذلك بالضمير والوجدان وعين البصيرة. رزقنا الله ـ تعالى ـ ذلك بحقِّ محمِّد وآله.

ولعلَّ هذا أحد معاني «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه...»(1) أي: أنَّ الإنسان لا يعرف الوجود المستقل إلاّ إذا عرف وجوده التعلقي، وأنَّه ليس إلاّ تعلُّقاً بحتاً.

وبمناسبة حديث «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه» أستذوق أن أنقل هنا كلمة لطيفة منسوبة إلى بعض العلماء، وكأنَّه قصد بها تفسير هذا الحديث قال:

«الروح لطيفة لاهوتيَّة، في صفة ناسوتيَّة، دالَّة من عشرة أوجه على وحدانيَّة ربَّانيَّة:

1 ـ لمَّا حرَّكت الهيكل ودبَّرته علمنا أنَّه لابدَّ للعالم من مُحرِّك ومُدبِّر.

2 ـ دلَّت وحدتها على وحدته.

3 ـ دلَّ تحريكها للجسد على قدرته.

4 ـ دلَّ اطلاعها على ما في الجسد على علمه.

5 ـ دلَّ استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه.

6 ـ دلَّ تقدُّمها عليه وبقاؤها بعده على أزله و أبده.

7 ـ دلَّ عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.

8 ـ دلَّ عدم العلم بمحلِّها من الجسد على عدم أينيَّته.

9 ـ دلَّ عدم مسِّها على امتناع مسِّه.


(1) البحار 2 / 32.

506

10 ـ دلَّ عدم إبصارها على استحالة رؤيته»(1).

أقول: وقد دلَّت إحاطتها بمخلوقاتها الذهنية بالعلم الحضوري على إحاطة الله بكلِّ الموجودات بالعلم الحضوري.

وقد دلَّ ارتباط مخلوقاتها الذهنيَّة بإفاضته لها الوجود آناً فآناً (فلو قطعت النظر عنها لحظة واحدة لانعدمت) على ارتباط العالم أجمع بالله تعالى كذلك، فهو إنَّما يدوم بإفاضة الله ـ سبحانه وتعالى ـ الوجود إيَّاهُ لحظة فلحظة، ولو قطع الله الإفاضة عن العالم لانعدم العالم.

وقد دلّ تحريكها للجسد بمجرد الإرادة على أنَّه ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2).

والقسم الثالث: للحبِّ حبُّ من أحسن إلينا، وهذا الحبُّ أحد منشأيه: حبُّ الذات، ولكن ليس هو عين حبِّ الذات، كما كان كذلك في مثل حبِّ الصور الرائعة الحسيَّة، أو المطعومات الشهيَّة، أو الروائح العطرة، بل هنا قد تجاوز ـ حقّاً ـ الحبَّ إلى غير المحبِّ، وهو المحسن. ومنشأه الآخر إدراك الضمير لاستحقاق هذا المحسن الحبَّ حينما يكون إحسانه إلينا فعلاً حسناً في إدراك الضمير الُخلُقي. وهذا القسم من الحبِّ ينمو ويشتدَّ في العبد بالنسبة لله تعالى بقدر ازدياد اكتشاف العبد لنعم الله ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(3).


(1) البحار 61 / 99 ـ 100.

(2) السورة 36، يس، الآيتان: 82 ـ 83 .

(3) السورة 14، إبراهيم، الآيات: 32 ـ 34.

507

وأصل نعمة الوجود من الله، ونعم الآفاق والْأَنْفُسَ من الله، والنعم التي تصلنا من المخلوقين إن هي إلاّ بتوفيق الله وقدرته وإلهامه وتسهيله وتقديره، فالمنعم الحقيقي الكامل إن هو إلاّ الله، فهو المستحقُّ للحبِّ وللشكر والثناء. وهذا القسم من الحبِّ لله هو المناسب لمستوى عامَّة المؤمنين، وعلى هذا الأساس أُكِّد عليه في بعض الروايات، وذلك من قبيل: ما ورد عن جابر، عن الباقر(عليه السلام) قال: «أوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى(عليه السلام) أحببني وحبِّبني إلى خَلْقي، قال موسى: يا ربِّ، إنَّك لتعلم أنَّه ليس أحد أحبَّ إليَّ منك، فكيف لي بقلوب العباد ؟ ! فأوحى الله إليه فذكِّرهم نعمتي وآلائي، فإنَّهم لايذكرون منِّي إلاّ خيراً»(1).

وعن النبيِّ(صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله ـ عزَّوجلَّ ـ لداود(عليه السلام) أحببني وحبِّبني إلى خَلْقي، قال: يا ربِّ، نعم أنا أُحبُّك، فكيف أُحبِّبك إلى خَلْقك ؟ قال: اذكر أياديَّ عندهم، فإنَّك إذا ذكرت ذلك لهم أحبُّوني»(2).

القسم الرابع: حبُّ مَنْ هو مستحقّ للحبِّ سواءٌ أحسن إلينا أو لا، وهو مَنْ يستجمع صفات فاضلة، والجمال الباطني والمعنوي، ولا جامع لجميع الكمالات والجمالات والفضائل إلاّ الله تعالى، وجميع جمال المخلُوقين وكمالهم إن هو إلاّ ترشحاً من بحر جماله.

قال آية الله الشيخ المشكيني حفظه الله: إنَّ أحد الشعراء قال: (حسن يوسف در دو عالم كس نديد) ثُمَّ عجز عن تكميل البيت، فطلب ممَّن كان أشعر منه تكميل البيت فأجابه: (حسن آن دارد كه يوسف آفريد).

اللَّهمّ إنِّي أسألك من جمالك بأجمله، وكلُّ جمالك جميل، اللَّهمَّ إنِّي أسألك بجمالك كلِّه.


(1) البحار 70 / 22.

(2) المصدر السابق.

508

وهذا القسم من الحبِّ لله لا يوجد في مراتب عالية إلاّ لدى العرفاء الكمّل.

القسم الخامس: للحبِّ هو: الحبُّ الناشئ من القرب في سلسلة الوجود، كحبِّك لأولادك، أو لأبويك، أو لعشيرتك، ولا أقرب إليك في سلسلة الوجود من الله سبحانه وتعالى الذي هو الخالق، وهو الواهب للحياة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(1).

إلاّ أنَّ الإحساس بذلك ووجدانه ـ أيضاً ـ خاصٌّ بالعرفاء بالله.

القسم السادس: للحبِّ هو: الحبُّ الناشئ من الأُنس، فإذا أنست بجارك، أو بصاحب لك، أو بشريك لك في السفر، أو في التجارة، أو بصديق لك في مجلس، أو بزوجك في الحياة الزوجيَّة، أو ما إلى ذلك، أحببته.

والأُنس بالله هو الذي يقوِّي لذَّة مناجاته، وهو خاصٌّ ـ أيضاً ـ بأولياء الله وأصفيائه.

الأُنس بالله لا يحويه بطَّالُ
وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلُّهم نجبٌ
وكلُّهم صفوة لله عمَّال(2)

والآن أودُّ أن أتحدّث بحديث مختصر عن علائم حبِّ الله.

قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(3).


(1) السورة 23، المؤمنون، الآيات: 12 ـ 14.

(2) الإحياء للغزالي 4 / 314.

(3) السورة 62، الجمعة، الآيتان: 6 ـ 7.

509

وقال عزَّوجلَّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

وقد مضى عن الصادق(عليه السلام) قوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه
هذا محالٌ في الفعالِ بديعُ
لوكان حبُّك صادقاً لأطعته
إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ(2)

قيل:

لاتخدعنَّ فللمحبِّ دلائلٌ
ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعّمه بمرِّ بلائه
وسروره في كلِّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطيَّةٌ معروفةٌ
والفقرُ إكرامٌ وبِرٌّ عاجل
ومن الدلائل أن ترى من عزمه
طوعَ الحبيبِ وإن الحَّ العاذل
ومن الدلائل أن يُرى متبسّماً
والقلبُ فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يُرى متفهِّماً
لكلام من يحظى لديه السائل(3)

ووجدت في مكان آخر هذا البيت:

ومن الدلائل أن يُرى من شوقه
مثلَ السقيم وفي الفؤادِ علائل(4)

وقيل أيضاً:

ومن الدلائل حزنُه ونحيبهُ
جوفَ الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً
نحو الجهاد وكلِّ فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى
من دار ذلٍّ والنعيم الزائل


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(2) البحار 70 / 15.

(3) رواها الغزالي عن أبي تراب النخشبي في الإحياء: 4 / 313.

(4) خزينة الجواهر: 133.

510

ومن الدلائل أن تراه باكياً
أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلّما
كلَّ الأُمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضياً
بمليكه في كلِّ حكم نازل
ومن الدلائل ضحكهُ بين الورى
والقلبُ محزونٌ كقلب الثاكل(1)

وقد ورد في الحديث: «أوحى الله إلى بعض الصدِّيقين: أنَّ لي عباداً من عبيدي يحبُّوني وأُحبُّهم، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإن أخذتَ طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتُّك، قال: يا ربِّ، وما علامتهم ؟ قال: يراعون الظلال بالنهار(2) كما يراعي الشفيق غنمه، ويحنُّون إلى غروب الشمس كما تحنُّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنَّهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرَّة، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، نصبوا إليَّ أقدامهم،وافترشوا إليَّ وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملَّقوني بأنعامي ما بين صارخ وباك، وبين متأوِّه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحمَّلون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبِّي. أوَّل ما أعطيهم ثلاثاً: الأوَّل أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عنِّي كما أُخبر عنهم. والثاني لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما من مواريثهم لاستقللتها لهم. والثالث أُقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أُريد أن أُعطيه ؟ !»(3).

والآية التي بدأنا بها الحديث وهي قوله تعالى.: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ


(1) الإحياء 4 / 313، رواها الغزالي عن يحيى بن معاذ، وقد حذفتُ منه بيتاً رأيته غير موافق لمذهب الحقِّ. وفي خزينة الجواهر نسب بعض أبيات هذين المقطعين إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام). راجع خزينة الجواهر: 131 ـ 138.

(2) لعلَّ المقصود: مراعاة الظلِّ وانتظار وصوله إلى النهاية، فهو عبارة أُخرى عن قوله: ويحنُّون إلى غروب الشمس، ولعلَّ المقصود: مراعاة أوقات الصلوات بمراقبة الظلال.

(3) البحار 70 / 26.

511

زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ...﴾ يحتمل فيه احتمالان:

أحدهما ـ أن يكون المقصود: زعمهم أنَّهم يحبُّون الله فإن كانوا صادقين في زعمهم فعليهم أن يتمنُّوا لقاء حبيبهم بالموت.

والثاني ـ أن يكون المقصود: زعمهم أنَّ الله يحبُّهم فإن كانوا صادقين في زعمهم فعليهم أن يتمنُّوا الموت؛ كي يصلوا إلى ثواب مَنْ يحبُّهم.

والاحتمال الثاني هو الأقوى؛ لما ورد في مورد آخر من القرآن خطاباً لليهود قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾(1).

ويؤيِّد ذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ...﴾(2).

وعلى أيَّة حال، فمن علامات حبِّ الله تعالى ما يلي:

الاُولى: تمنِّي الموت، إمَّا لأنَّه بالموت يحصل لقاء الله تعالى، وإمَّا لأنّه بالموت يصل إلى ما أعدَّ الله له من الثواب الجزيل. ومن المحتمل أن يكون ممَّا يشير إلى هذه العلامة ما ورد في نهج البلاغة عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام): «... والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُ مِّه ...»(3).

وورد ـ أيضاً ـ في الحديث: «لمَّا اشتدَّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب نظر إليه مَنْ كان معه، فإذا هو بخلافهم؛ لأنَّهم كُلَّما اشتدَّ الأمر تغيَّرت ألوانهم،


(1) السورة 2، البقرة، الآيتان: 94 ـ 95.

(2) السورة 5، المائدة، الآية: 18.

(3) نهج البلاغة: 34، رقم الخطبة: 5.

512

وارتعدت فرائصهم، ووجلت قلوبهم، وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، فقال لهم الحسين(عليه السلام): صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة(1) فأ يّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ ! وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنَّ أبي حدّثني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. ما كَذبت ولا كُذبت»(2).

وقد ورد في الصحيفة السجاديَّة عن إمامنا زين العابدين: « ... واجعل لنا من صالح الأعمال عملاً نستبطئ معه المصير إليك، ونحرص له على وشك اللحاق بك، حتّى يكون الموت مأنسنا الذي نأنس به، ومألفنا الذي نشتاق إليهِ، وحامَّتنا التي نحبُّ الدنو منها...»(3).

ولا ينافي تمنِّي الموت وحبّه بهذا المعنى ما ورد في بعض الروايات من النهي عن تمنِّي سرعة حلول الموت، وذلك من قبيل المرسلة الواردة في دعوات الراوندي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لاتتمنُّوا الموت؛ فإنَّ هول المطَّلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود»(4) فإنَّ أصل حبِّ الموت يجتمع مع عدم تمنِّي اقترابه حينما يكون الأوَّل بروح لقاء الله، أو لقاء ثوابه. والثاني بروح الإكثار من ثواب الله، أو من مرضاته. وقد ورد في الأدعية


(1) الظاهر أنّ الصحيح: (النعيم الدائم) أو (النعم الدائمة).

(2) البحار 6 / 154 و 44 / 297.

(3) الصحيفة السجاديَّة، الدعاء الأربعون.

(4) البحار 6 / 138.

513

المرويَّة عنهم(عليهم السلام) الدعاء بطول العمر، وذلك من قبيل ما ورد في بعض أدعية ليالي شهر رمضان: وأن تجعل فيما تقضي وتقدّر أن تطيل عمري في خير وعافية(1).

وخير دعاء ندعو به لأنفسنا في هذا المضمار ما عن إمامنا سيّد الساجدين (عليه السلام): «...عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ، أو يستحكم غضبك عليّ...»(2).

وبهذه المناسبة أروي قِصَّة منقولة عن المرحوم آية الله الحاج آقا حسين القمِّي(رحمه الله)، فقد رُوي أنَّه حينما أحسَّ بقرب انتهاء مرجعيَّة الشيعة إليه طلب من عدد من علماء النجف الأشرف وأكابرهم أن يجتمعوا إليه في الحرم الشريف، فجمعهم في الإيوان تحت ميزاب الذهب، وقال لهم: إنِّي جمعتكم هنا لكي تؤمِّنوا على دعائي، فإنَّ المرجعيَّة كادت أن تنتهي إليَّ، ثُمَّ قال: اللَّهمَّ إن كان انتهاء المرجعيَّة إليَّ سيضرّ بديني، فاقبضني إليك. وطلب منهم أن يؤمِّنوا على هذا الدعاء، فلم يؤمِّنوا عليه، وانفضَّ المجلس، ثُمَّ التقى بهم بعد ذلك وقال لهم: ألستم تؤمنون بأ نّني فقيه ؟ فإنِّي أفرض عليكم بحكم ولاية الفقيه أن تستجيبوا لي فيما أردته منكم، فجمعهم مرَّة أُخرى في المكان الشريف، ودعا بنفس الدعاء، وأمَّنوا على دعائه. وانتهت زعامة الشيعة إليه، ولكنَّه لم يعش إلاّ فترة يسيرة، ثُمَّ تُوفِّي رضوان الله تعالى عليه.

وقيل: سُئل آية الله العظمى السيّد الخوئي(رحمه الله) ماذا رأيت من الحاج آقا حسين القمِّي حتّى أصبحت من مخلصيه ومتعلِّقيه ؟

فأجاب: أنَّ هذا الرجل قد صدَّق حقيقةً بيوم الحشر.

فقيل له: أفليس الآخرون مصدِّقين بيوم الحشر ؟ !


(1) مفاتيح الجنان المطبوعة بخط طاهر خويش نويس: 183.

(2) دعاء مكارم الأخلاق، وهو الدعاء العشرون من الصحيفة السجادية.

514

فقال: بلى، ولكن الأمر ذو درجات، وكأنَّ إيمان الحاج آقا حسين القمِّي بذلك إيمانٌ عن مشاهدة وحسّ.

الثانية: من علامات حبِّ الله أن ينغمر في طاعة الله، ويبتعد عن معصيته، كما مضى في البيتين المرويين عن الصادق(عليه السلام)، وكما مضى في الآية الشريفة: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ...﴾(1) فإنَّ مَنْ يطيع الله طمعاً في الثواب، أو خوفاً من العقاب، قد تغلب عليه المغريات، أو تضعف نفسه أمام الشهوات، فيغلبه الهوى، ويرجّح كفة اللذائذ العاجلة على النعيم الآجل، أو على الاحتراز من العذاب الآجل. أمَّا الذي ذاق طعم محبَّة الله فلا شيء أطعم عنده من تحصيل رضاه، حتّى ولو اجتمعت عليه المغريات جميعاً.وسلام الله على إمامنا الذي قال: «... والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ...»(2).

نعم، إنَّ مَنْ ذاق طعم محبَّة الله إلى حدّ العشق والهيام، أصبح معصوماً من الذنوب ما دام كذلك، ولذا ورد في دعاء كميل: «... واجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبِّك متيَّما...» (يعني: معبَّداً مذلَّلاً).

ولا يفوتني أن أُشير إلى أنَّ الإيمان بالجنَّة والنار لو وصل إلى مستوى « ... فهم والجنَّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(3) كان ـ أيضاً ـ موجباً للعصمة من الذنوب ما دام كذلك. وسلام الله على إمامنا الذي قال لأخيه: «... ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرُّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ! أتئنُّ من الأذى


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(2) نهج البلاغة: 473، رقم الخطبة: 224.

(3) خطبة المتقين في نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

515

ولا أئنُّ من لظىً ؟ !...»(1).

وقال سلام الله عليه: «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً وأُجرّ في الاغلال مصفّداً أحبّ إليَّ من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها ؟ !...»(2).

الثالثة: من علامات حبِّ الله الالتزام بقيام الليل وصلاة الليل؛ فإنَّ المحبَّ يحبُّ خلوة حبيبه. ونحن نعلم أنَّ ظلام الليل، وسكون الأجراس والأنفاس يساعدان على تجمُّع الحواسّ، والقدرة على الاختلاء بالله سبحانه.

وقد فُسِّرت الخلوة بمعنى: تفرُّد العبد في موضع يخلو فيه من جميع الشواغل ممّا سوى الله من المحسوسات الظاهرة والباطنة، ويصرف فيه همَّته ونيَّته إلى الإقبال على الله والتبتُّل إليه بالكلِّية، فيحصل له الأُنس به، والوحشة من غيره(3)وفُسِّرت ـ أيضاً ـ بمعنى: محادثة السِّر مع الحقِّ حيث لا أحد ولا ملك(4).

وقد ورد في الدعاء السابع والعشرين للصحيفة السجاديَّة: « ... وفرِّغهم عن محاربتهم(5) لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك؛ حتّى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفَّر لأحد منهم جبهةٌ دونك...».

وقيل لبعض العُبَّاد: «ما أصبرك على الوحدة فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس الله عزَّوجلَّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا شئت أن أُناجيه صلَّيت»(6).


(1) نهج البلاغة: 472 ـ 473، رقم الخطبة: 224.

(2) المصدر السابق: 471 ـ 472.

(3) رياض السالكين للسيِّد علي خان 4 / 211.

(4) المصدر السابق.

(5) أي: أغنِ المسلمين عن محاربة الأعداء.

(6) المصدر السابق: ص 212.