444

 

ضابط الشكّ في التكليف والمكلّف به

وأمّا البحث الثاني: وهو بيان الضابط في الشبهات الموضوعيّة لموارد الشكّ في التكليف، وموارد الشكّ في المكلّف به. فقد ذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره) في رسالته في اللباس المشكوك كلاماً يكون مفاده بحسب الصياغة التي صاغها بها غامضاً، فنحن نصوغ جوهر كلامه في صياغة اُخرى توضيحاً لمقصوده(رحمه الله).

فجوهر ما أفاده في المقام هو: أنّ الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة هو أنّه إن كان الشكّ فيما يستتبع التكليف كان ذلك مجرىً للبراءة؛ إذ الشكّ في المستتبِع يوجب الشكّ في المستتبَع، فيتحقّق الشكّ في أصل التكليف، وإن لم يكن الشكّ فيما يستتبع التكليف بل كان تمام ما يستتبع التكليف معلوماً، كان ذلك مجرىً للاشتغال.

وتفصيل ذلك: أنّ التكليف له أطراف ثلاثة: أحدها المتعلّق كشرب الخمر في (لا تشرب الخمر)، والصلاة في (صلِّ)، وثانيها موضوع التكليف، ومرادنا من موضوع التكليف هنا هو متعلّق المتعلّق، أي: ذاك الشيء الخارجيّ الذي يكون المتعلّق مربوطاً به كالخمر في (لا تشرب الخمر)، والقبلة في (صلِّ إلى القبلة)، وثالثها القيود المأخوذة في نفس التكليف، وهي عبارة عن الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل ووجود المكلّف خارجاً، والشرائط الخاصّة كدخول الوقت مثلاً، وكالاستطاعة في الحجّ ونحو ذلك.

والشكّ تارةً يفرض وقوعه في أصل التكليف بقطع النظر عن الأطراف الثلاثة، وهذا خروج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الشبهة عندئذ لا يمكن أن تتصوّر بنحو الشبهة الموضوعيّة، واُخرى يفرض وقوعه في الأطراف، وعندئذ يعقل فرض الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة، وفي هذا الفرض نتكلّم في ضابط جريان البراءة والاشتغال، وهنا نبدأ من الطرف الثالث فنقول:

أمّا الطرف الثالث ـ وهو قيود التكليف وشرائطه العامّة أو الخاصّة ـ: فلا

445

إشكال في أنّه عند الشكّ فيه يرجع إلى البراءة؛ لأنّ الشكّ فيه يستوجب الشكّ فيأصل التكليف؛ إذ قيود التكليف تكون ممّا يستتبع التكليف، فالشكّ فيه داخل فيما مضى من الضابط.

وأمّا الطرف الثاني ـ وهو موضوع التكليف ـ: فتارةً يفرض الموضوع أمراً جزئيّاً فرغ عن وجوده كالقبلة في (الصلاة إلى القبلة)، واُخرى يفرض أمراً كلّيّاً:

فإن فرض الأوّل: فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ هو خلف فرض الفراغ عن وجوده.

وإن فرض الثاني: فتارةً يكون ذلك مأخوذاً بنحو صرف الوجود كما في (توضّأ بالماء)، واُخرى يكون مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كما في (أكرم العالم):

فإن كان مأخوذاً بنحو صرف الوجود: فتارةً يكون الشكّ في أصل وجود الموضوع ممّا يستتبع التكليف، والشكّ فيه شكّ في أصل التكليف، واُخرى يكون الشكّ في فرد آخر زائداً على الفرد المعلوم، كما لو وجد فرد من الماء وشكّ في فرديّة مائع آخر للماء، وعندئذ لا يكون الشكّ في التكليف؛ إذ التكليف مسلّم بوجود الفرد الأوّل، ولا يستوجب الفرد الثاني زيادةً في التكليف؛ إذ لا يجب الوضوء إلاّ بماء واحد بنحو صرف الوجود، وإنّما الشكّ في الفرد الثاني شكّ في توسعة دائرة الامتثال فتجري ـ لا محالة ـ أصالة الاشتغال دون البراءة.

وإن كان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود: فالشكّ في كلّ فرد يكون شكّاً في أصل التكليف؛ لأنّ الحكم ينحلّ إلى عدّة قضايا شرطيّة شرطها تحقّق الموضوع وجزاؤها الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة، فهناك أحكام عديدة كلّ واحد منها إنّما أصبح فعليّاً بتحقّق شرطه ـ أي: بوجود موضوعه ـ فكما أنّ فعليّته تتوقّف على وجود موضوعه، كذلك تنجّزه يتوقّف على العلم بوجود موضوعه، فإذا قال المولى مثلاً: (أكرم العالم) فشكّنا في عالميّة أيّ فرد من الأفراد شكّ في تحقّق تكليف مستقلّ

446

مرتبط بذاك الفرد، والمفروض أنّه ما لم يتحقّق ذاك الشرط لم يصبح التكليف فعليّاً، إذ فعليّته تتبع وجود الموضوع، فلا محالة يقع الشكّ في التكليف فتجري البراءة.

وأمّا الطرف الأوّل ـ وهو المتعلّق ـ: فتارةً يفرض لهذا المتعلّق متعلّق، أي: يفرض أنّ التكليف له موضوع كما في وجوب الوقوف بعرفة، أو حرمة الإفاضة عنها، واُخرى يفرض عدم الموضوع، وكون مصبّ الحكم هو ذات فعل الشخص من دون أن يتعلّق بشيء، كما في حرمة الغناء، وكما لو فرض وجوب ذات التكلّم من دون أن يتعلّق بشيء:

فإن فرض الثاني: فلا معنى للشكّ في المتعلّق؛ إذ هذا المتعلّق تارةً يفرض فعلاً اختياريّاً مباشريّاً للمكلّف، واُخرى يفرض مسبّباً توليديّاً له، فإن كان فعلاً اختياريّاً مباشريّاً له كما في وجوب التكلّم، فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ الشخص لا يشكّ في فعله حين صدوره منه، ولا يعقل أن يشكّ في أنّه في هذا الآن هل هو يتكلّم، أو لا؟ نعم، يعقل الشكّ فيه بعد مضيّ زمان الفعل الذي هو مجرىً لمثل قاعدة الفراغ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه، وإن كان مسبّباً توليديّاً كما في وجوب قتل الكافر مثلاً الذي يتولّد عن ضربه بالرصاص مثلاً، فالشكّ فيه لا يكون إلاّ من باب الشكّ في المحصّل وهو خارج عمّا نحن فيه، ومن الواضح جدّاً كونه مورداً للاشتغال دون البراءة.

وإن فرض الأوّل: فعندئذ يعقل ثبوت الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى موضوعه(1)، وذلك كما إذا شكّ في الوقوف بعرفات من ناحية الشكّ في دخول



(1) قد يقال: إنّ هذه الصياغة من التقسيم ليست الصياغة المثلى، فإنّ الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى الموضوع مع قسم مضى وهو الشكّ في الموضوع بمعنىمتعلّق

المتعلّق دائماً متلازمان ومتصادقان على مورد واحد، فالأولى في مقام البيان هو صياغة التقسيم بالشكل الوارد في اللباس المشكوك للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) وهي ما يلي: أنّ متعلّق التكليف إمّا أن يكون فعلاً اختياريّاً غير متعلّق بموضوع خارج الاختيار، أو يكون متعلّقاً به، فالأوّل لا يتصوّر الشكّ فيه من غير مثل جهة النسيان بعد الفراغ إلاّ في المسبّب التوليديّ الذي هو مورد للاشتغال، والثاني إمّا أن يفترض فيه أنّ متعلّق المتعلّق جزئيّ خارجيّ كالقبلة وعرفة والمشعر، أو يفترض كلّيّاً، فإن فرض جزئيّاً فهذا القسم يزداد على القسم الأوّل في أنّه يتصوّر الشكّ فيه من ناحية نسبة الفعل إلى متعلّق المتعلّق، فقد يدور الأمر بين متباينين كما في الصلاة إلى جهتين لدى شكّنا في جهة القبلة، وهنا يجري الاشتغال، وقد يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر، ومثاله ما إذا تردّد الموقف في المشعر أو عرفات بين الأقلّ والأكثر من جهة الشبهة الخارجيّة، وهنا فصّل(رحمه الله) بين الشبهة الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف، والتحريميّة كما في حرمة الإفاضة. وإن فرض كلّيّاً فهنا فصّل(رحمه الله)بين صرف الوجود ومطلق الوجود، فقال في صرف الوجود بأنّ الشكّ في الفرد الزائد لا يؤدّي إلى الشكّ في التكليف، بل يكون من الشكّ في الامتثال. وأمّا الشكّ في أصل وجود صرف الوجود فيعود إلى الشكّ في القدرة، يلحقه حكم تلك المسألة، وقال في مطلق الوجود بالانحلال وجريان البراءة لدى الشكّ. راجع رسالة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك، ص 252 ـ 258.

وأمّا كون الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع التكليف وعدمه، فلم أره في الرسالة.

447

هذه النقطة من الأرض في عرفات بنحو الشبهة الموضوعيّة، كأن يكون منشأ الشكّ هو ظلمة الهواء مثلاً، ولا يكون الشكّ من باب الشكّ في سعة دائرة عرفات وضيقها أساساً بنحو الشبهة الحكميّة كي يكون خروجاً عمّا نحن فيه، وعندئذ

448

يكون الصحيح في جريان البراءة وعدمه التفصيل بين الشبهات الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف بعرفات، والشبهات التحريميّة كما في حرمة الإفاضة من عرفات، ففي الاُولى تجري أصالة الاشتغال، وفي الثانية تجري أصالة البراءة.

والسرّ في ذلك أنّ في باب الأوامر تكون مطابقة الفعل لذلك العنوان الذي تعلّق به الأمر داخلة تحت دائرة الطلب، فيطلب المولى كون الوقوف وقوفاً بعرفات، فالشكّ في تحقّق المطابقة شكّ في تحقّق الامتثال، وهذا بخلاف باب النواهي، فإنّ مطابقة الفعل للعنوان المنهيّ عنه ليست داخلة تحت دائرة الطلب، فإنّ المولى لا يطلب منّا المطابقة للعنوان المنهي عنه، وإنّما المولى ينهى عن الفعل بشرط مطابقته لذلك العنوان، فينهى عن الشرب مثلاً على تقدير كونه شرباً للخمر، فالمطابقة في باب النواهي تكون قيداً للتكليف وشرطاً له، فالشكّ فيها شكّ في قيود التكليف الذي مضى أنّه مجرىً للبراءة. هذا كلّه بيان لمقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المقام.

أقول: أمّا ما ذكره من عنوان الضابط في المقام من أنّ الشكّ إن كان فيما يستتبع التكليف كان مجرىً للبراءة، وإلاّ كان مجرىً للاشتغال، فهو من دون تأويل غير صحيح، والصحيح هو ضابط آخر يقتنص ممّا سنذكره ـ إن شاء الله ـ في التفصيلات.

وأمّا ما ذكره من التفصيلات فتحقيق الكلام فيها أن يقال:

إنّ ما ذكره في المتعلّق في فرض عدم وجود موضوع للحكم من أنّه لا يتصوّر الشكّ فيه، يرد عليه: أنّه من الممكن أن يفرض هذا المتعلّق محدّداً بحدود دقيقة بحيث يحصل الشكّ من نفس الفاعل في حال الفعل في ذلك، كما لو حرم على المكلّف ترسيم دائرتين متساويتين، فشكّ المكلّف في حين عمله في أنّه هل هذا ترسيم لدائرتين متساويتين، أو تختلف إحداهما عن الاُخرى ولو بقليل؟ فهذا

449

شكّ يتصوّر في المقام يجب التكلّم في أنّه هل هو مجرىً للبراءة، أو لا؟ ويظهر الحال فيه من حيث جريان البراءة وعدمه من بحثنا في جريان البراءة وعدمه في متعلّق الحكم الذي له موضوع والذي اعترف المحقّق النائينيّ فيه بتصوير الشكّ.

وأمّا ما ذكره في المتعلّق في فرض وجود موضوع للحكم من أنّه إذا كانت الشبهة وجوبيّة لم تجرِ البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان المأمور به داخل تحت دائرة الطلب، وإذا كانت تحريميّة جرت البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان الحرام لم تجعل تحت دائرة الطلب، بل جعلت قيداً للحكم، فيرد عليه: أنّ مطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم التي هي مفاد (كان) الناقصة تارةً تلحظ بلحاظ ما بعد الوجود، واُخرى تلاحظ بلحاظ ما قبل الوجود. فإن لوحظت بلحاظ ما بعد الوجود فهي كما تكون أمراً داخلاً تحت الطلب في باب الأوامر ـ بمعنى أنّ الطلب يجرّ العبد نحو الامتثال وإيجاد الفعل بنحو مفاد (كان) التامّة، ويساوق ذلك مفاد (كان) الناقصة، فإنّ كون الفعل صلاةً مثلاً بنحو (كان) الناقصة حصيلة لوجود الصلاة بنحو مفاد (كان) التامّة، فكان تحصيل هذا الذي هو مفاد (كان) الناقصة مطلوباً بمطلوبيّة تحصيل مفاد (كان) التامّة ـ كذلك تكون أمراً داخلاً تحت النهي في باب النواهي، حيث إنّ النهي عن الغناء مثلاً بمفاد (كان) التامّة نهي عن إيجاد الغناء، ويكون وجوده مساوقاً لكون الفعل غناءً، أي: أنّ مفاد (كان) الناقصة هنا أيضاً حصيلة مفاد (كان) التامّة المنهيّ عنه.

وإن لوحظت بلحاظ ما قبل الوجود، أو قل: لوحظ مفاد (كان) الناقصة باعتبار ماهيّة الفعل بقطع النظر عن وجودها، فكما أنّه في باب النواهي يكون النهي متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، كذلك في باب الأوامر يكون الأمر متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان، وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، فمطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم تكون باعتبار داخلة

450

تحت الحكم في كلّ من بابي الأوامر والنواهي، وباعتبار آخر قيداً للحكم في كلا البابين، فلا وجه للتفصيل بينهما من هذه الناحية.

والتحقيق في المقام: أنّ العبرة في جريان البراءة وعدمه سواء كان الشكّ من ناحية المتعلّق ـ كما هو المفروض فعلاً ـ أو من ناحية الموضوع، أو من ناحية القيود إنّما هي بكون الحكم بنحو البدليّة أو الشموليّة، فإن كان بنحو الشموليّة وحصل الشكّ كان المرجع البراءة، وإن كان بنحو البدليّة وحصل الشك، كان المرجع الاشتغال بلا فرق في ذلك بين باب الأوامر وباب النواهي، وبلا فرق بين فرض ذلك الحكم الشموليّ انحلاليّاً أو حكماً واحداً.

والسرّ في ذلك أنّ الحكم إذا كان بنحو البدليّة فالشكّ ليس في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها حتّى تجري البراءة ويكون المرجع هو الاشتغال. وأمّا إذا كان شموليّاً فالشكّ يقع في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة الشرعيّة، وكذا العقليّة بناءً على الإيمان بها بلا فرق بين فرض الحكم انحلاليّاً فيكون الشكّ في تكليف آخر غير التكليف المعلوم، وفرضه غير انحلاليّ، فإنّه عندئذ وإن لم يكن الشكّ شكّاً في التكليف إلاّ أنّه شكٌّ في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة.

ومن هنا ظهر ما في الضابط الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام من أنّه إذا كان الحكم واحداً كان المرجع الاشتغال، وإن كان متعدّداً كان المرجع البراءة، فإنّه إن قصد بالوحدة والتعدّد ما ذكرناه من البدليّة والشموليّة ورد عليه: أنّ الشموليّة لا تستلزم التعدّد؛ إذ قد يكون الحكم بنحو المجموعيّة لا الانحلال فلا يكون الحكم متعدّداً. وإن قصد بالتعدّد ما يضادّ المجموعيّة(1) ورد عليه ما عرفت



(1) كلامه(رحمه الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة صريح في هذا المعنى، راجع الكفاية، ج 2، ص 200 بحسب طبعة المشكينيّ.

451

من جريان البراءة في فرض الشموليّة وإن كان على نحو المجموعيّة؛ إذ الشكّ شكّ في سعة دائرة التحريك المولويّ والتحميل على العبد وعدمها.

وممّا ذكرناه ظهر النظر أيضاً فيما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)في فرض الشكّ من ناحية الموضوع من أنّه إن كان الموضوع مأخوذاً بنحو صرف الوجود كان المرجع الاشتغال، وإن كان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كان المرجع البراءة؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة المحكوم فيها على موضوع بنحو مطلق الوجود تنحلّ إلى أحكام عديدة مشروطة تكون فعليّة كلّ واحد من تلك الأحكام تابعة لوجود موضوعه في الخارج، فالشكّ في موضوعه شكّ في ذلك الحكم.

فإنّه يرد على ذلك: أنّه إذا فرض الحكم شموليّاً كفى ذلك في جريان البراءة وإن لم يفرض بنحو الانحلال؛ لأنّ الشكّ يقع في سعة دائرة المحرّك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة عن غير المقدار المتيقّن.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض جريان البراءة ثمرة لتبعيّة فعليّة الحكم لوجود الموضوع خارجاً غير صحيح، فإنّه إذا شكّ في خمريّة شيء مع العلم بحرمة شرب الخمر جرت البراءة، سواء فرض أنّ حرمة شرب الخمر جعلت على تقدير وجود الخمر خارجاً فليست الحرمة فعليّة قبل وجوده في الخارج، أو فرض أنّ حرمة الخمر جعلت غير مشروطة بوجوده بالفعل خارجاً فتكون الحرمة ثابتة قبل وجوده، وثمرة ذلك هي الانزجار مولويّاً من إيجاد الخمر إذا علم أنّه إن أوجده اضطرّ إلى شربه.

هذا والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الضابط في جريان البراءة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة هو الشموليّة والبدليّة.

وأمّا الضابط الذي ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من كون الشكّ شكّاً فيما يستتبع التكليف وعدمه فلا يصحّ إلاّ بإرجاعه إلى ما اخترناه، وذلك بإدخال تأويلين فيه:

452

الأوّل: أن يفترض أنّ المراد بما يستتبع التكليف ما يعمّ استتباعه لسعة دائرة التكليف، لا خصوص مايستتبع التكليف المستقلّ حتّى يشمل ذلك موارد كون التكليف شموليّاً غير انحلاليّ(1).

الثاني: أن يقال: إنّ المراد بما يستتبع التكليف ليس هو استتباعه بوجوده الخارجيّ للتكليف حتّى يخرج بذلك المتعلّق؛ لأنّه بوجوده الخارجيّ لا يستتبع التكليف، بل التكليف يستتبع وجود المتعلّق خارجاً، أو يخرج بذلك أيضاً الموضوع الذي لا تكون فعليّة الحكم متوقّفة على وجوده، كما في مثال حرمة شرب الخمر إذا فرضت الحرمة فعليّة قبل وجود الخمر كي تصبح زاجرة عن إيجاده، بل المراد بذلك أنّ انطباق العنوان الكذائيّ على الشيء المفروض يستتبع التكليف ولو فرض ذلك بقطع النظر عن الوجود الخارجيّ، وهذا ثابت في المتعلّق؛ إذ انطباق عنوان الإكرام مثلاً على العمل الفلانيّ عند وجوب كلّ إكرام يستتبع التكليف به وثابت في الموضوع أيضاً. وإن فرضت فعليّة الحكم قبل وجوده فإنّه لولا انطباق عنوان الخمر على ما سوف يصنعه لم يكن حراماً حتّى ينزجر من صنعه وإيجاده.



(1) ويشهد لكون مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك ذلك ولو ارتكازاً ما صرّح به في أجود التقريرات ـ ج 2، ص 200 ـ 201 ـ من أنّه إذا كان الحكم التحريميّ بمعنى مطلوبيّة مجموع التروك بنحو العامّ المجموعيّ جرت البراءة أيضاً في مورد الشكّ على ما هو المختار من جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، واستغرب من المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) حيث قال في المقام بالاشتغال مع ذهابه إلى البراءة في مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

453

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) أورد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ فرض كون البراءة في الشكّ في فرد من أفراد الموضوع إذا كان الموضوع مأخوذاً بنحو مطلق الوجود تابعة لكون القضيّة حقيقيّة في غير محلّه، بل تجري البراءة حتّى مع فرض القضيّة خارجيّة، فلو وجب إكرام كلّ من في العسكر مثلا بنحو القضيّة الخارجيّة، وشكّ في وجود زيد في العسكر وعدمه فهذا حكم انحلاليّ، وتجري البراءة من الحكم بوجوب إكرام زيد.

أقول: إن فرض أنّ المقصود بكون القضيّة خارجيّة كون عنوان (مَن في العسكر) مثلاً مجرّد عنوان مشير، وأنّ الواجب في الحقيقة إكرام اُولئك الأشخاص المعيّنين حتّى لو فرض عدم وجودهم في العسكر، إلاّ أنّهم صدفة اجتمعوا هناك، فالشكّ في وجوب إكرام زيد وعدمه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، وهي خارجة عمّا نحن فيه.

وإن فرض أنّ المقصود بذلك أنّه وإن كان لعنوان (مَن في العسكر) دخل في الحكم لكنّ الحكم لا يشمل الأفراد المقدّرة الوجود كمايشمل الأفراد المحقّقة الوجود؛ لأنّ عنوان (مَن في العسكر) ليس هو تمام الدخيل في الحكم، بل هنا جهة اُخرى أيضاً دخيلة في الحكم موجودة في خصوص الأفراد الذين هم بالفعل في العسكر لا في كلّ من قدّر وجوده في العسكر، فعندئذ لمّا كان عنوان (مَن في العسكر) دخيلاً في الحكم فلا محالة تكون القضيّة في قوّة القضيّة الشرطيّة، شرطها عنوان (مَن في العسكر) بالنسبة لأشخاص معيّنين، وجزاؤها الحكم، إلاّ أنّ الشرط مفروض التحقّق، والقضيّة الشرطيّة لا تخرج عن كونها قضيّة شرطيّة بتحقّق شرطها.

وبمراجعة عبارة المحقّق النائينيّ(قدس سره) في المقام يظهر أنّ الذي يستفاد من كلامه



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 231.

454

ليس هو كون العبرة في جريان البراءة بعنوان كون القضيّة حقيقيّة، وإنّما العبرة في جريانها بكون القضيّة شرطيّة فعليّتها تتبع فعليّة شرطها على نهج الحال في القضايا الحقيقيّة، ولا يخفى الفرق الموجود بين الأمرين. نعم، هو(قدس سره)يرى أنّ الأحكام الكلّيّة الشرعيّة كلّها تكون من باب القضايا الحقيقيّة.

وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ الضابط في جريان البراءة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة هو كون الحكم بدليّاً أو شموليّاً.

وعندئذ نشرع في تطبيق هذا الضابط على موارد الحكم الوجوبيّ والحكم التحريميّ، فنقول: إنّ كلاًّ من الفعل والترك يصلح لأن يقع متعلّقاً للحكم الوجوبيّ تارةً وللحكم التحريميّ اُخرى، فيقع الكلام في مقامين:

 

حالة تعلّق الحكم بالفعل:

المقام الأوّل: في فرض أخذ الفعل متعلّقاً للحكم وجوباً أو تحريماً، وهذا يتصوّر على أقسام باعتبار أنّ الفعل يمكن لحاظه بأنحاء عديدة:

القسم الأوّل: أن يجعل الفعل متعلّقاً للحكم بنحو صرف الوجود، ومرادنا من صرف الوجود هو كون المتعلّق ذات الطبيعة بلا أيّ مؤونة زائدة. وفي هذا القسم أفادوا أنّ الأمر يقتضي الإتيان بفرد واحد والنهي يقتضي ترك جميع الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد.

واستنتج المحقّق العراقيّ(قدس سره) من ذلك:(1) أنّ الأمر يسقط بالامتثال بإتيان فرد



(1) إلاّ أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) سمّى ما سمّـاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا بصرف الوجود بالطبيعة المبهمة، حيث حمل مصطلح صرف الوجود على ما يساوق أوّل الوجود. راجع المقالات، ج 1، ص 82 ـ 83، وص 121 ـ 122، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 403 ـ 406.

455

واحد والنهي لا يسقط بالعصيان بإتيان فرد واحد، بل يبقى النهي بلحاظ باقي الأفراد.

أقول: إنّ هذا خلط بين فرقين ثابتين في باب الأمر والنهي:

الفرق الأوّل: ما يكون مرتبطاً بعالم اقتضاء الأمر والنهي، وهو: أنّ الأمر والنهي لو فرض كلّ واحد منهما حكماً واحداً فالأمر بدليّ ـ أي: أنّه يقتضي إتيان فرد واحد ـ والنهي شموليّ ـ أي: أنّه يقتضي ترك تمام الأفراد ـ وما ذكر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام تمام الأفراد نكتة لهذا الفرق.

الفرق الثاني: ما يكون مرتبطاً بعالم الجعل، وهو أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة فليس هناك إلاّ حكم واحد، والنهي إذا تعلّق بالطبيعة استفيد من ذلك جعل أحكام عديدة، وسقوط الأمر بإتيان فرد واحد وعدم سقوط النهي بذلك مرتبط بهذا الفرق دون الفرق الأوّل. وعلى أيّة حال ـ أي: سواء فرض النهي شموليّاً بالمعنى الأوّل أو انحلاليّاً ـ فمهما حصل الشكّ في جانب النهي في فرد جرت البراءة؛ لأنّه شكّ في سعة دائرة التكليف، وهذا بخلاف جانب الأمر، فتجري فيه عند الشكّ في فرد قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الحكم بدليّ، فالشكّ إنّما يكون في عالم الامتثال.

هذا، ونحن نتكلّم هنا تارةً في الفرق الأوّل، واُخرى في الفرق الثاني، فنقول:

أمّا الفرق الأوّل: فقد ذكروا أنّ طبيعة الأمر تقتضي الإتيان بفرد واحد، وطبيعة النهي تقتضي ترك تمام الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد. وقد ناقش في ذلك السيّد الاُستاذ والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره):

أمّا السيّد الاُستاذ فقد ذكر في المقام(1): أنّ مردّ الفرق في الحقيقة ليس إلى



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 328 ـ 329 فهو يقارب ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن اُستاذه، ولكن لم يذكر فيه التعبير بالفناء في فرد واحد وفي تمام الأفراد.

456

طبيعة الأمر والنهي، بل إلى كيفيّة لحاظ الطبيعة، فإنّ الطبيعة تارةً تلحظ فانية في تمام الأفراد، واُخرى تلحظ فانية في فرد واحد، فإن لوحظت فانية في تمام الأفراد كان الحكم المتعلّق به شموليّاً، سواء فرض أمراً أو نهياً. وإن لوحظت فانية في فرد واحد كان الحكم المتعلّق به بدليّاً سواء فرض أمراً أو نهياً.

ويرد على هذا: ما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد من أنّ معنى الفناء هو لحاظ العنوان بما هو خارجيّ لا بما هو هو، وأنّ أيّ عنوان من العناوين لا يفنى بهذا المعنى من الفناء إلاّ في معنونه، فعنوان الطبيعة لا يفنى إلاّ في واقع الطبيعة التي هي الجهة المشتركة بين الأفراد. وأمّا الذي يفنى في واقع أحد الأفراد أو تمام الأفراد، فإنّما هو عنوان أحد الأفراد أو تمام الأفراد.

وأمّا المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) فقد ذكر في المقام(1) أنّه يستحيل أن يفرض شيء


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 228، و ج 1، ص 260 ـ 261. وحاصل كلامه في المجلّد الأوّل في أوائل بحث النواهي هو: أنّه لا يوجد وجود للطبيعة يكون بوجود واحد، في حين أن يكون بديله عدم الطبيعة بكلّ الأعدام، فإنّ الوجود إن اُضيف إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر فيها مقصوراً على ذاتها وذاتيّاتها، فمقابله العدم المضاف إلى الطبيعة المهملة أيضاً، ونتيجة المهملة جزئيّة سواء في جانب الإيجاب أو جانب السلب. وإن اُضيف إلى الفرد فلكلّ وجود من وجودات الفرد عدم هو بديله، وإن لوحظ الوجود بنحو السعة حتّى لا يشذّ عنه وجود فيلحظ العدم أيضاً كذلك، فلا يشذّ عنه عدم ولا يعقل لحاظ وجود للطبيعة يكفيه وجود واحد مع كون بديله كلّ الأعدام. أمّا ما يتوهّم من أنّنا لو لاحظنا الوجود بمعنىً ناقض للعدم الكلّيّ، وطارد للعدم الأزليّ فهو ينطبق على أوّل الوجودات، ولكنّ نقيضه لا يكون إلاّ بتمام الأعدام؛ إذ لو وجد أيّ فرد لانتقض العدم الكلّيّ وانطرد العدم الأزليّ، فجوابه: أنّ طارد العدم الكلّيّ لا مطابق له في الخارج؛ لأنّكلّ

457

يكون وجوده بوجود فرد واحد وعدمه بعدم تمام الأفراد، فإنّ بديل كلّ وجود هو عدمه المطرود به، لا عدم شيء آخر، ووجود فرد لا يطرد إلاّ عدم نفسه لا عدم فرد آخر.

ثمّ أورد(قدس سره) على نفسه بأنّ هناك شيئاً يكون وجوده بوجود فرد واحد، وعدمه بعدم تمام الأفراد، وذلك هو الوجود الأوّل، فإنّ وجوده يكون بوجود واحد، وهو أوّل الوجودات، ولكنّ انعدامه إنّما يكون بانعدام تمام الأفراد؛ لأنّه بمجرّد أن يوجد فرد يتحقّق الوجود الأوّل فصار عدم تمام الأفراد بديلاً عن وجود فرد واحد.

وأجاب على ذلك بأنّ بديل الوجود الأوّل أيضاً ليس إلاّ عدمه المطرود به، ولا يطرد وجوده إلاّ عدم نفسه، غاية الأمر أنّ هناك ملازمة بين عدم الفرد وعدم سائر الأفراد؛ إذ لا يعقل ثان مثلاً بلا أوّل.

أقول: إنّ التقابل بين الوجود والعدم يكون في عوالم ثلاثة:

الأوّل: هو التقابل بلحاظ العالم الخارجيّ، و هنا يتمّ ما أفاده(قدس سره)فإنّهما بلحاظ العالم الخارجيّ متقابلان بملاك الطارديّة والمطروديّة، فالوجود بلحاظ العالم الخارجيّ يطرد العدم، وكلّ وجود طارد بالذات لعدم نفسه دون شيء آخر وإن كان قد يطرد شيئاً آخر بالعرض كطارديّة الشيء لضدّه.

 


وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم، ونقيضه عدم هذا الأوّل. نعم، لازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها، فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثاني والثالث...، لا أنّه عينها، فما اشتهر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، وتنعدم بانعدام تمام الأفراد ممّا لا أساس له.

458

الثاني: هو التقابل بلحاظ المفاهيم الأفراديّة في الذهن، كمفهوم الإنسان ومفهوم اللا إنسان، فهما متقابلان لكن لا توجد طارديّة ومطروديّة في المقام، فإنّ نسبتهما إلى عالم الذهن على حدّ سواء، ولا يطرد أحدهما الآخر، و إنّما تقابلهما يكون على حدّ تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، كتقابل مفهوم الإنسان مع مفهوم الحجر مثلاً.

الثالث: التقابل بلحاظ عالم القضايا والأحكام، فمثلاً ما مضى من مفهوم الإنسان واللا إنسان تارةً نتصوّرهما بما هما مفهومان ذهنيّان، فهما يتقابلان تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، وهذا ما مضى في لحاظ العالم الثاني، واُخرى نتصوّرهما بما هما مرآتان للخارج بعنوان حكايتهما عن الخارج، فيكونان حصيلتي قضيّتين وهما: الإنسان موجود، والإنسان ليس بموجود، والتقابل بين هذين الأمرين وهاتين القضيّتين أيضاً ليس بملاك الطارديّة والمطروديّة، فإنّ نسبتهما إلى الذهن وكذلك إلى الخارج على حدّ سواء، لكنّه يقع التقابل بينهما في الصدق أو في الصدق والكذب على اختلاف الموارد، فإنّه يختلف مثلاً تقابل الموجبة الكلّيّة مع السالبة الجزئيّة عن تقابلها مع السالبة الكلّيّة، فالأوّل بلحاظ الصدق والكذب، والثاني بلحاظ الصدق فقط.

وحينما يقول المولى: (صلِّ)، أو يقول: (لاتصلِّ) فكأنّه يقول: اجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، أو يقول: اجعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة، فتحقيق الحال هنا يرجع إلى أن نرى أنّ قضيّة (الصلاة موجودة) هل تصدق بوجود فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بوجود تمام الأفراد؟، وقضيّة (الصلاة ليست موجودة) هل تصدق بعدم فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بعدم تمام الأفراد؟ وكلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) كما ترى غير مربوط بذلك، وإنّما هو مربوط بالتقابل في العالم الأوّل.

459

وبكلمة اُخرى: إنّ التقابل المؤثّر في المقام ليس بمعنى الطارديّة والمطروديّة حتّى يقال: إنّ كلّ وجود لا يطرد إلاّ عدم نفسه، فوجود الفرد الواحد للطبيعة لا يقابله كلّ الأعدام، وإنّما هو التقابل في الصدق والكذب، حيث إنّ الأمر بالصلاة في قوّة الأمر بجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، والنهي عنها في قوّة طلب جعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة لا في قوّة أن يحفظ عدم واحد عن شمول الطرد إيّاه.

ولا يصدق عدم وجود الصلاة بمجرّد إبقاء بعض الأعدام وعدم طرده، وإنّما يصدق بانتفاء تمام الأفراد، في حين أنّه يكفي في صدق وجود الصلاة وجود فرد واحد، أي: أنّ ما أفاده المشهور من أنّ الطبيعة توجد بوجود واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها صحيح.

وتوضيح ذلك: أنّ الوجود والعدم لا يعرضان على أفراد الطبيعة؛ إذ لا أفراد للطبيعة إلاّ بلحاظ الوجود، وإنّما يعرضان ابتداءً على أصل الطبيعة، ففي المرتبة السابقة على الوجود والعدم لا يكون هناك أفراد، وإنّما تكون هناك الطبيعة وتكون أيضاً حصص الطبيعة، والوجود والعدم يعرضان على طبيعة الصلاة مثلاً، وعلى حصّة من حصصها كالصلاة في المسجد أو الصلاة في البيت ونحوهما، ونسبة الحصّة إلى أصل الطبيعة هي نسبة الكلّ إلى الجزء، فإنّ مفهوم الحصّة مركّب من مفهوم الصلاة ومفهوم تقيّدها بقيد، فمفهوم الصلاة في المسجد مثلاً التي هي حصّة من طبيعة الصلاة مركّب من أصل مفهوم الصلاة ومن مفهوم كون الصلاة في المسجد، والجزء الثاني أخصّ من الجزء الأوّل.

هذا، وهناك قضيّتان ضروريّتان متّفق عليهما بيننا وبين المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره): إحداهما: أنّ الوجود العارض على المجموع المركّب ينسحب على تمام أجزاء ذاك المركّب. والاُخرى: أنّ العدم العارض على المركّب لا ينسحب على تمام أجزاء المركّب، بل يكفي في عدم المجموع عدم جزء من أجزائه. وبهذا البيان

460

يتّضح أنّه يكفي في وجود طبيعة الصلاة وجود حصّة من حصصها؛ لأنّ طبيعة الصلاة جزء من تلك الحصّة، والوجود العارض على المركّب ينسحب على تمام الأجزاء التي منها طبيعة الصلاة، ولا يكفي في عدم طبيعة الصلاة عدم حصّة منها؛ لأنّ الصلاة هي الجزء الأعمّ من تلك الحصّة، وقد قلنا: إنّ عدم المجموع لا ينسحب على تمام أجزاء المجموع، فعدم الحصّة ليس مساوقاً لعدم الصلاة، وإنّما هو مساوق لعدم الجزء الآخر لأنّه أخصّ، فينتفي على كلّ حال.

فتحصّل: أنّ ما أنكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من كون الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد يكون في الحقيقة راجعاً إلى ما يوافقنا عليه، ويكون من الضروريّات من أنّ وجود المركّب لا يكون إلاّ بوجود تمام أجزائه، وأنّه يكفي في انتفاء المركّب انتفاء جزء منه.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أيضاً: أنّ ما يقال في علم المنطق من أنّ الموجبة المهملة مع السالبة المهملة ليس بينهما تناف وتناقض إنّما يتمّ في المحمولات التي هي بعد الوجود، فإذا كان شخص قائماً وشخص آخر غير قائم صحّ قولنا بنحوالإهمال: الإنسان قائم والإنسان غير قائم(1)؛ لأنّ هذا الفرد هو وجود لطبيعة الإنسان وهو قائم، فتكون طبيعة الإنسان قائمة، وذاك الفرد وجود آخر لطبيعة الإنسان وهو ليس قائماً، فطبيعة الإنسان ليست قائمة.

وأمّا إذا كان المحمول هو أصل الوجود والعدم، فلا يصّح هذا الكلام، ويقع التقابل بين قولنا: (الإنسان موجود) وقولنا: (الإنسان ليس موجوداً)، فإنّه و إن فرض أنّ الإنسان في قولنا: (الإنسان ليس موجوداً) غير مسوّر بسور يجعله كلّيّاً؛



(1) الفرق بين المحمولات التي هي بعد الوجود ونفس الوجود إنّما يظهر في المقام في الموجبة المحصّلة ومعدولة المحمول لا في الموجبة والسالبة.

461

لأنّ المفروض أنّ القضيّة مهملة لكنّ نفس السلب يولّد الكلّيّة، لما عرفت من أنّ الطبيعة لا تنتفي إلاّ بانتفاء تمام الأفراد.

وأمّا الفرق الثاني: فعدم انحلاليّة الأمر بلحاظ متعلّقه يكون على القاعدة، لما برهنّا عليه في باب المطلق والمقيّد من أنّ مقتضى القاعدة في المتعلّقات كون الإطلاق غير انحلاليّ، وفي الموضوعات كونه انحلاليّاً، فالذي يحتاج إلى نكتة زائدة هو الانحلاليّة في النهي بلحاظ متعلّقه، فنقول في بيان ذلك: إنّ وحدة النهي تكون بوحدة الملاك، ووحدة الملاك هنا تستلزم أن لا يكون متعلّق النهي هو الطبيعة على إطلاقها، بل يكون هناك قيد دخيل في متعلّق النهي؛ وذلك لأنّه إن فرضت هناك مفسدة واحدة، فهي إمّا أن يفرض كونها في أحد الأفراد على سبيل البدل، أو كونها في مجموع الأفراد، فإن فرض الأوّل، فالمفسدة إنّما تتحقّق ـ لا محالة ـفي الخارج بالفرد الأوّل؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق علله(1)، فمتعلّق المبغوضيّة



(1) صحيح أنّ المعلول يستند إلى أسبق علله، ولكن بما أنّ الفرد الأوّل لم يكن مؤثّراً إلاّ بمحض اشتماله على الطبيعة من دون دخل لباقي خصوصيّاته في التأثير، وإنّما اختصّ هو بالتأثير دون باقي الأفراد لمحض أنّه سبقها وملأ الفراغ، فلم يبق مجال لتأثير باقي الأفراد، كان جعل ذات الطبيعة متعلّقاً للنهي أمراً عرفيّاً لا يحسّ فيه بمؤونة، فلو كان الطعام الفلانيّ يورث العمى وكانت الأكلة الثانية لا تورث العمى لا من باب قصور فيها عن التأثير، بل من باب أنّ العمى قد حصل بالعلّة الاُولى، فلم يبق مجال لتأثير الأكلة الثانية، فجعل النهي متعلّقاً بطبيعيّ أكل ذاك الطعام لا بخصوص الأكلة الاُولى لا يحسّ فيه بأيّ مؤونة عرفيّة تنفى بالإطلاق، فالأولى في تعليل الانحلال في باب النواهي ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الدورة المتأخّرة فيما كتبناه عنه في بحث النواهي من أنّ غلبة انحلاليّة المفسدة فيما فيه المفسدة أدّت إلى ظهور النهي في الانحلال.

462

والانزجار النفسيّ للمولى إنّما هو الفرد الأوّل. فالنهي يتعلّق به لا بالطبيعة. وإن فرض الثاني فالمفسدة إنّما تحصل في الخارج بتحقّق الفرد الأخير؛ لأنّه الجزء الأخير من العلّة، فمتعلّق المبغوضيّة والانزجار إنّما هو الفرد الأخير، فالنهي يتعلّق به لا بالطبيعة، فإذا تعلّق النهي بالطبيعة عرفنا أنّ المفسدة ثابتة في جميع الأفراد بنحو التعدّد لا بنحو المجموعيّة أو البدليّة، وإذا تعدّدت المفسدة تعدّدت الحرمة لا محالة.

هذا، وما ذكرناه من النكتة للانحلال لا توجد فيما لو فرض أنّ متعلّق النهي كانت له أفراد عرضيّة فقط دون أفراد طوليّة، فإن كانت كذلك وكان المتعلّق ممّا يعقل تعدّده بدون تعدّد الموضوع، أو لم يكن الموضوع ملحوظاً للشارع فلم يحصل الانحلال من ناحية الموضوع، ولم تكن هناك نكتة خاصّة للانحال لا يكون اللفظ ظاهراً في الانحلال(1)، فمثلاً لو قال المولى: (لا تضرب هذا الحجر في هذا الآن) ولم نستفد من ذلك بمناسبات المقام مثلاً أنّ هذا النهي ناشئ من كون هذا الحجر عزيزاً على المولى فيتحفّظ من ورود نقص أو تلف عليه حتّى يكون ذلك قرينة على أنّ تعدّد الضرب يوجب تعدّد المبغوض بالنسبة إليه، فضرب العبد الحجر في ذلك الآن بكلتا يديه، ولم تكن اليد ملحوظة للمولى من باب كونها موضوعاً لمتعلّق الحكم، فهنا لا يكون الكلام ظاهراً في الانحلال، ولا يثبت في المقام تعدّد العصيان(2).



(1) النكتة الاُخرى للانحلال التي أشرنا إليها في التعليق السابق والتي نقلناها عن الدورة المتأخّرة لبحث اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ إن تمّت ـ تأتي في هذا الفرض أيضاً.

(2) طبعاً هذا بعد فرض تعدّد الضرب في هذا المثال عرفاً بأن لا يحسب الضرب باليدين كالضرب بالإصبعين من يد واحدة ضرباً واحداً ذا جزءين عرفاً، بل يحسب كالضرب بعصاءين، أو يبدل مثال الضرب باليد بالضرب بالعصا، حيث لا إشكال في تعدّد الضرب عرفاً في ذلك.

463

بقي هنا شيء لا بأس بإلفات النظر إليه، وهو: أنّه إذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعة فنكتة الفرق الأوّل لا تظهر ثمرتها في المقام؛ إذ نكتة الفرق الثاني كما تقتضي الفرق الثاني وهو الانحلال تقتضي ـ لا محالة ـ الفرق الأوّل وهو اقتضاء النهي لترك تمام الأفراد، فلا تظهر هنا فعاليّة نكتة الفرق الأوّل(1)، ولكن يظهر تأثيرها


(1) لا يخفى أنّ نكتة الانحلال في باب النواهي لو كانت عبارة عمّا أفاده(رحمه الله) في المقام من أنّ المفسدة لو كانت في أحد الأفراد على سبيل البدل لكان المترقّب تعلّق النهي بالفرد الأوّل؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق العلل، ولو كانت في مجموعها لكان المترقّب تعلّق النهي بالفرد الأخير لأمكن ذكر هذه النكتة في باب الأوامر أيضاً بأن يقال: لو كانت المصلحة في أحد الأفراد على سبيل البدل لكان المترقّب أن يتعلّق الأمر بالفرد الأوّل؛ لأنّه هو العلّة لتلك المصلحة؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق علله، ولو كانت في مجموع الأفراد لكان المترقّب تعلّق الأمر بالمجموع، إلاّ أن يجاب على ذلك بأنّ نكتة الفرق الأوّل وهي أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، هي التي تصحّح الفرق الثاني؛ وذلك لأنّ الطبيعة لمّا كانت توجد بوجود الفرد الأوّل كان الأمر بها في قوّة الأمر بالفرد الأوّل، فأصبح الأمر بالطبيعة مع الأمر بالفرد الأوّل سيّان عرفاً، فكون المصلحة في أحد الأفراد على سبيل البدل لا يعيّن تعلّق الأمر بالفرد الأوّل، بل يناسب أيضاً تعلّقه بالطبيعة، وهذا بخلاف باب النهي، حيث إنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، وإن كان انعدام الفرد الأوّل ملازماً لذلك. فإن صحّ هذا الكلام قلنا: إذن أصبحت تماميّة الفرق الثاني متوقّفة على نكتة الفرق الأوّل، فليس من الصحيح القول بأنّ نكتة الفرق الثاني أغنتنا هنا عن نكتة الفرق الأوّل. هذا كلّه إذا جعلنا نكتة الانحلال في باب النواهي ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام.

أمّا إذا جعلنا نكتة الانحلال في باب النواهي ما أفاده(رحمه الله) في بحث النواهي فيالدورة المتأخّرة من غلبة انحلاليّة المفسدة، فإن اقتصرنا في ذلك على دعوى أنّ المفسدةحينما

464

في بعض الأقسام الآتية(1).

القسم الثاني: أن يجعل متعلّق الحكم أوّل الوجود، وهنا لا يوجد الفرق الثاني بين الأمر والنهي؛ لعدم تأتّي النكتة التي ذكرناها من أنّه لو كان الملاك واحداً لكان النهي إمّا مختصّاً بالوجود الأوّل، أو بالوجود الأخير، فإنّ المفروض أنّه مختصّ بالوجود الأوّل، وعندئذ يظهر هنا أثر الفرق الأوّل من البدليّة في الأمر والشموليّة في النهي، لا بمعنى تعدّد الحكم، بل بمعنى مجرّد الشموليّة المنسجمة حتّى مع وحدة الحكم، وفي الفرد المشكوك تجري البراءة في جانب النهي؛ لأنّ الشكّ في سعة دائرة اقتضاء التكليف المولويّ وضيقها، ولا تجري في جانب الأمر؛ لأنّ التكليف بحدوده معلوم ـ أي: أنّه لا شكّ في سعة دائرة التكليف وضيقه ـ ويتمحّض الشكّ في الامتثال، فيطبّق على ذلك ما مضى من ضابط موارد البراءة والاشتغال في الشبهات الموضوعيّة من أنّه إذا كان الحكم بدليّاً جرت أصالة


لا تكون مجموعيّة ـ أي: ليست في مجموع أفراد متعلّق النهي ـ فالغالب كونها ثابتة في الجميع بنحو الانحلال لا في أحد الأفراد على سبيل البدل، فهذا لا يغني عن النكتة الاُولى، فيجب أوّلاً إثبات شموليّة النهي بالنكتة الاُولى ثُمّ إثبات انحلاله بهذه النكتة. أمّا إذا قصد بذلك أنّ الغالب في المفسدة هو الانحلاليّة في مقابل المجموعيّة والبدليّة معاً، فهذا مغن عن النكتة الاُولى كما هو واضح.

(1) ويظهر أيضاً في المقام فيما مضى من مثال عرضيّة الأفراد إذا فرض أنّ نكتة الفرق الثاني لا تأتي فيه، أو في فرض أنّها تأتي بالصيغة التي ذكرها اُستاذنا في الدورة المتأخّرة في بحث النواهي، وفرض أنّها لا تغني عن نكتة الفرق الأوّل كما هو الحال على احتمال مضى بيانه في التعليق السابق.

465

الاشتغال، وإذا كان شموليّاً جرت أصالة البراءة(1).

القسم الثالث: أن يجعل متعلّق الحكم جميع الأفراد بنحو العامّ الاستغراقيّ، فينحلّ ـ لا محالة ـ كلّ من الأمر والنهي، وتجري البراءة في الفرد المشكوك في كلّ من جانبي الأمر والنهي.

القسم الرابع: أن يجعل متعلّق الحكم مجموع الأفراد بنحو العموم المجموعيّ، فلا ينحلّ الأمر ولا النهي، وإذا شكّ في فرد جرت البراءة بالنسبة إليه في جانب الأمر، وهذا شكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. والتحقيق فيه جريان البراءة، كما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله.

وأمّا في جانب النهي فيجوز ارتكاب الفرد المقطوع فضلاً عن الفرد المشكوك، فإنّ المحرّم إنّما هو إتيان مجموع الأفراد.

نعم، يقع الكلام في أنّه إذا حرم مثلاً عليه إكرام مجموع الفسّاق، ولنفترض أنّهم منحصرون في تسعة معلومي الفسق وعاشر مشكوك الفسق، فهل يجوز له إكرام التسعة مع ترك إكرام العاشر اعتماداً على أصالة البراءة؛ إذ لا يقطع بحرمة ذلك؛ لأنّه على تقدير كون العاشر فاسقاً يكون إكرام هؤلاء التسعة فقط جائزاً، أو لا؟ هذا أيضاً تحقيقه مرتبط بباب الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ الشكّ هنا أيضاً شكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ إكرام التسعة حرام إمّا بحدّه التسعيّ، أو في ضمن العشرة، كما أنّ في باب الوجوب يقال: إنّ الأجزاء التسعة واجبة إمّا بحدّها، أو في ضمن العشرة، غاية الأمر أنّ ما فيه المؤونة الزائدة في



(1) قد يقال: إنّ أصالة البراءة عن الفرد المشكوك تعارض أصالة البراءة عمّا يأتي به بعد هذا الفرد المشكوك من فرد مقطوع به؛ للعلم الإجماليّ بحرمة أحدهما؛ إذ لو لم يكن الفرد المشكوك فرداً حقيقيّاً فسيكون ما بعده هو الوجود الأوّل الحرام.

466

جانب الوجوب هو فرض كون الوجوب على الأكثر، وفي جانب الحرمة هو فرض كون الحرمة على الأقلّ، ففي الوجوب تجري البراءة في جانب الأكثر، وفي جانب الحرمة لعلّه تجري البراءة في جانب الأقلّ. وتحقيق جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في طرف الحرمة كما تجري في طرف الوجوب وعدمه، وثبوت الملازمة بينهما وعدمه موكول إلى بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

القسم الخامس: أن يجعل متعلّق الحكم شيء آخر يتحصّل من الطبيعة إمّا من مجموع أفرادها، أو من أحد أفرادها، وعندئذ إن فرض الأمر المتحصّل اعتباريّاً منطبقاً على نفس الأفراد رجع ذلك إلى حكم تعلّق الحكم بتلك الأفراد رأساً، على ما يأتي في باب الشكّ في المحصّل إن شاء الله، فرجع في النتيجة إلى الأقسام السابقة، وإلاّ فلا مجال للبراءة في المقام؛ لأنّ الشكّ شكّ في المحصّل مع معلوميّة أصل التكليف، وكما يصدق هذا الكلام في طرف الوجوب كذلك يصدق في طرف الحرمة، فلدى الشكّ في المحصّل في جانب الحرمة أيضاً لابدّ من الاحتياط. والسرّ في ذلك: أنّ الشكّ ليس في حرمة الموجود بهذا العمل حتّى تجري البراءة، بل الشكّ في وجود الحرام المعلوم بهذا العمل، وهذا عبارة اُخرى عن عدم الامتثال القطعيّ للحرمة المعلومة بحدودها، وهذا لا يكون مجرىً للبراءة ويكون ممّا يستقلّ العقل بقبحه والمنع عنه.

 

حالة تعلّق الحكم بالترك:

المقام الثاني: في فرض أخذ الترك متعلّقاً للحكم وجوباً أو تحريماً.

ولا يقال: إنّ الترك أمر عدميّ فلا يكون منشأً لأمر وجوديّ من مصلحة أو مفسدة حتّى يقع متعلّقاً للأمر أو النهي.

فإنّه يقال: إنّه قد يكون الفعل مانعاً عن حصول مصلحة، فلا محالة يكون الترك محبوباً؛ لكونه مقدّمة لحصول المصلحة على حدّ مقدّميّة عدم المانع للمعلول،

467

وليس الفعل عندئذ مبغوضاً إلاّ بنحو مبغوضيّة نقيض المطلوب، وقد يكون الفعل مانعاً عن حصول مفسدة، فيكون تركه مبغوضاً عند فرض وجود المقتضي، أو فرض احتياط المولى من جانب المقتضي ـ أي: العمل باحتمال وجوده احتياطاً ـ فيكون الترك مبغوضاً، لكونه موجباً للمفسدة على حدّ موجبيّة عدم المانع للمعلول، ولا يكون الفعل عندئذ محبوباً إلاّ بنحو محبوبيّة نقيض المبغوض.

هذا، وفي جانب الترك يأتي جميع ما ذكرناه من الأقسام، فقد يتعلّق الحكم بترك الطبيعة، واُخرى بترك الوجود الأوّل... وما إلى ذلك من الأقسام. والكلام فيها عين الكلام فيها في جانب الفعل، إلاّ في القسم الأوّل،فهنا نخصّ القسم الأوّل بالذكر فنقول:

إذا تعلّق الحكم بترك الطبيعة ثبت الفارق الأوّل بين الأمر والنهي، ولكنّه معاكس له في فرض تعلّق الحكم بالفعل، فالأمر هنا قائم مقام النهي هناك؛ لأنّه تعلّق بالترك، ولا تترك الطبيعة إلاّ بترك تمام أفرادها، والنهي هنا قائم مقام الأمر هناك؛ لأنّه تعلّق بالترك، وترك الترك مساوق للفعل وإيجاد الطبيعة، والطبيعة توجد بوجود فرد واحد منها.

وأمّا ما أبديناه من الفارق الثاني ـ وهو أنّ تعلّق النهي بالطبيعة يستلزم الانحلال بخلاف الأمر ـ فلا يجري هنا، فلا يقال: إنّ تعلّق الأمر بترك الطبيعة يستلزم الانحلال. والسرّ في ذلك: أنّ الأمر يكشف عن المصلحة، ومن المحتمل قيام المصلحة بمجموع التروك، وعندئذ ـ لا محالة ـ يطلب المولى مجموع التروك، وهذا بخلاف جانب المفسدة، فإنّها إذا تعلّقت بالمجموع لم يكن المبغوض للمولى إلاّ الفرد الأخير، وبكلمة اُخرى: إنّ وجود المصلحة يتوقّف على وجود جميع أجزاء علّته، فيتعلّق طلب المولى بجميع أجزاء علّته، وعدم المفسدة لا يتوقّف إلاّ على عدم الجزء الأخير من العلّة، فالجزء الأخير من العلّة هو الذي يتركّز فيه التحريك المولويّ نحو إعدامه ومبغوضيّة المولى إيّاه.

468

 

البراءة في المستحبّات

التنبيه الرابع: في البراءة في المستحبّات.

أمّا البراءة العقليّة: فلا معنى لجريانها فيها حتّى على القول بصحّتها في نفسها، فإنّها تنفي العقاب، ولا عقاب في المستحبّات.

وأمّا البراءة الشرعيّة: فذكر السيّد الاُستاذ(1) ناظراً في كلامه إلى حديث الرفع: أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في أصل الاستحباب الاستقلاليّ؛ إذ معنى جريان البراءة فيه هو نفي استحباب الاحتياط بالنسبة له، كما أنّ معنى جريان البراءة في الواجبات هو نفي وجوب الاحتياط بالنسبة لها، ومن المعلوم أنّه لا يمكن نفي استحباب الاحتياط بالبراءة، فإنّ جعل استحباب الاحتياط مقطوع به ومسلّم به عند الطائفتين، نعم، تجري البراءة عند الشكّ في الاستحباب الضمنيّ ـ أي: الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للمستحبّ ـ وذلك استطراقاً إلى جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بالعمل المطلق وعدم لزوم التشريع من ذلك، وبكلمة اُخرى: إنّ هذا الجزء وإن لم يكن متّصفاً بالوجوب النفسيّ لكنّه متّصف بالوجوب الشرطيّ، وهذا المقدار من الوجوب يصحّ رفعه ظاهراً.

أقول: يرد على الشقّ الأوّل من كلامه ـ وهو منع جريان البراءة عن الاستحباب الاستقلاليّ ـ: أنّه لا مانع من إجراء البراءة عنه ونفي استحباب الاحتياط، ولا نسلّم كون استحباب الاحتياط أمراً جزميّاً لا يمكن نفيه بذلك، فإنّ الوجه في جزميّة استحبابه إن كان هو أخبار الاحتياط فهي بقرائن في أنفسها لا تشمل المستحبّات، فمثلاً أخبار التثليث التي تقول: «حلال بيّن وحرام بيّن



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 270 ـ 271.