7

 

 

 

 

كلمة المجمع

 

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

ضمن الأهداف الرساليّة المقدّسة التي يسعى إليها مجمع الفكر الإسلاميّ ولأجل إتحاف المكتبة الإسلاميّة بالمزيد من الفكر الإسلاميّ الأصيل قام هذا المجمع بنشر جملة من الكتب الإسلاميّة التي تحمل الهدف الرساليّ وتساهم في دفع عجلة الصحوة الإسلاميّة العالميّة إلى الأمام، كما قام هذا المجمع بالتحقيق والتتبّع والتأليف وغير ذلك في مجالات عديدة يجمعها الخطّ الرساليّ المذكور.

ويسرّ المجمع أن يقوم بنشر هذا الكتاب الذي يتناول بالبحث والتحقيق موضوعاً هامّاً يمسّ صميم الهدف الرساليّ المنشود، ألا وهو موضوع ولاية الأمر في عصر غيبة الإمام المنتظر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ حيث يرجع هذا الموضوع في بحثه إلى حاجة الأُمّة الإسلاميّة لمن يلي أمرها منذ بداية الغيبة الكبرى التي لم يعيّن فيها الإمامُ المنتظر ـ عجّل اللّه تعالى فرجه ـ نائباً خاصّاً من قبله ليلي أُمور المسلمين، وبطبيعة الحال أثارت هذه الحاجة تساؤلات عديدة حول كيفيّة تعيين وليّ الأمر، ومدى صلاحيّاته من الناحية الشرعيّة وغير ذلك.

وقد ازداد هذا الموضوع أهمّيّةً وخطورةً منذ انتصرت الثورة الإسلاميّة في إيران وبرز النظام الإسلاميّ على مستوى الحكم والإدارة بصورة رسميّة، وأصبح

8

العالم الإسلامي متطلّعاً بولع وتلهّف إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الفتيّة التي قامت في إيران، فاشتدّت الحاجة إلى البحث المذكور واُثيرت فيه تساؤلات أُخرى تتناسب مع حاجة المرحلة التي نعيشها اليوم من عصر الغيبة بعد قيام الجمهوريّة الإسلاميّة المباركة.

وكان ممّن قام بأعباء البحث حول هذا الموضوع مع ملاحظة ما تستدعيه حاجة المرحلة هو سماحة آية اللّه العظمى السيّد كاظم الحسيني الحائري (دام ظله)، حيث قدّم بحثاً فقهيّاً استدلاليّاً رائعاً يتناول أهمّ المشاكل والتساؤلات التي تثار في يومنا هذا حول ولاية الأمر في عصر غيبة الإمام المنتظر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ فكان الكتاب الذي بين يديك.

وبما أنّ الأبحاث التي تعرّض لها سماحة سيّدنا المؤلّف ـ دام ظلّه ـ تميّزت بالأُسلوب المدرسي المتداول في الأوساط العلميّة والتي يصعب استيعابها على غير الأخصّائيّين في هذا المجال رأينا من المناسب عرض مباحث الكتاب عرضاً ملخّصاً مجرّداً من التفاصيل، كي يسهل لغير ذوي الاختصاص الإلمام بمضمون الكتاب إلماماً يمهّد لهم طريق البحث ومواصلة الدراسة لمواضيع الكتاب.

وقد قام سماحة العلاّمة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد علي أكبر الحائري بعرض مباحث الكتاب بالصورة التي تحقّق الغاية المذكورة.

وقد ارتأت إدارة المجمع أن تقدّم هذا العرض بين يدي الكتاب تعميماً للفائدة وتسهيلا لمن يروم الاستفادة. واللّه من وراء القصد وهو وليّ التوفيق.

 

مجمع الفكر الإسلامي

عيد الغدير الأغر / 1413 هـ. ق

9

 

 

 

 

التعريف بهذا الكتاب

 

بسم الرحمن الرحيم

 

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الهداة الميامين.

لقد اشتمل هذا الكتاب على مقدّمة هامة تتلوها ست مسائل من أهمّ ما يدور حول موضوع الولاية في عصر الغيبة، وهي:

أولا: الفقيه رئيس الدولة الإسلاميّة في عصر الغيبة.

ثانياً: دور الانتخاب في الولاية.

ثالثاً: شورى القيادة.

رابعاً: المرجعيّة والولاية.

خامساً: نفوذ حكم الولي على سائر الفقهاء.

سادساً: حالة العلم بخطأ الولي.

وإليك توضيح مختصر عمّا جاء في تلك المقدّمة الهامّة أولا، ثم عمّا جاء في كل مسألة من هذه المسائل الست.

* * *

10

أمّا المقدّمة: فقد حاول فيها المؤلّف مدّ ظله ردّ الشبهات التي يمكن أن تثار حول أصل إقامة الحكم الإسلامي في عصر غيبة الإمام المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه وبقطع النظر عن تعيين من له الحكم، حيث إن هناك توهّماً يسود بعض الأوساط غير الواعية من المسلمين يدعو إلى ضرورة تأجيل إقامة الحكم الإسلامي إلى حين ظهور الإمام المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه وذلك إمّا بدعوى عدم إمكان الانتصار في عصر الغيبة، أو بدعوى ورود النهي عن الخروج لإقامة الحكم الإسلامي في هذا العصر، أو بدعوى عدم وجود دليل شرعيّ يبرّر لنا الجهاد وإراقة الدماء تحت راية غير الإمام المعصوم، أو بغير ذلك من دعاوى باطلة. وقد فات هؤلاء أنّ فكرة الحكومة الإسلاميّة من صميم هوّية الدين الإسلامي، وبدونها لا يمكن تطبيق مساحة واسعة جدّاً من أحكام الإسلام وأهدافه، وهذا قد يورث القطع بأنّ ضرورة العمل في سبيل إقامة الحكم الإسلامي لا تختصّ بزمان الظهور وذلك بعد العلم بأنّ دين الإسلام من أساسه ليس ديناً مختصّاً بزمان الظهور، وحتّى لو لم يحصل القطع بذلك يكفينا التمسّك ـ تعبّداً ـ بإطلاقات أدلّة أحكام الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ إطلاقات هذه الأدلّة ـ خصوصاً مع ضمّ قاعدة «عدم اختصاص الحكم بالمشافهين» أو قاعدة «الاشتراك في الحكم بيننا وبين من خوطب به» ـ تدلّ بوضوح على ضرورة إقامة الحكم الإسلامي في جميع العصور بما فيها عصر الغيبة.

وأمّا التشكيك في هذه الإطلاقات بدعوى عدم إمكان انتصار المؤمنينـ أو احتمال عدم إمكان انتصارهم ـ بدون إشراف الإمام المعصوم فقد أجاب عنه المؤلّف بطريقين:

11

الأوّل: إلفات النظر إلى أنّ القوى والقدرات والطاقات الأوّليّة وزّعتعلى المجتمعات البشرية بصورة متساوية تقريباً من دون فرق بين المؤمنين والكافرين، وليس من سنّة اللّه تعالى على وجه الأرض اختصاص أسباب الانتصار بالمجتمعات الكافرة وكون الإيمان ملازماً للضعف والانكسار، ودعم ذلك ببعض الشواهد من القرآن الكريم.

والثاني: أنّنا لئن شككنا في الإطلاقات المذكورة بحسب موازين الظهور الأوّليّ للكلام فإنّ أجواء المدرسة الإسلامية تساعد على تكميل الظهور الإطلاقي لتلك الأدلّة، فإنّ المدرسة الإسلامية التي تشابك نظامها مع نظام الحكم والإدارة والسلطة حينما يأتي فيها الأمر ـ ضمن أجوائه هذه ـ بالجهاد والقتال وإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل، وغير ذلك يُفهم منه الإطلاق لكلّ زمان وفق الفرص المؤاتية ظاهراً حسب الفهم الاجتماعيّ السليم.

وأمّا الشبهة القائلة بأنّ نفس غيبة الإمام المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه أكبر شاهد على عدم إمكان انتصار الحق بإقامة الحكم الإسلامي في هذه المدّة الزمنية، إذ لو كانت إقامة الحكم الإسلامي ممكنةً وواجبة لكان أجدر الناس بها هو نفس الإمام المنتظر عجل اللّه فرجه، وإنّما لم يظهر وظلّ غائباً طول هذه المدّة لعدم إمكان الانتصار. فقد أجاب المؤلّف دام ظله عن ذلك بأنه ليست هناك قرينة أو شاهد على أنّ فلسفة الغيبة وعلّتها هي العجز المطلق للمؤمنين عن إيجاد الحكم الإسلامي في أ يّة بقعة من بقاع الأرض وفي أ يّة فترة زمنيّة قبل ظهوره (عليه السلام)، فإنّ ما أُشير إليه في الروايات بصدد تعليل غيبته (عليه السلام) من «مخافة القتل» أو «لكي لا تقع على عنقه بيعةٌ لطاغية» أو «لأجل امتحان الناس» أو «لأجل حكمة مجهولة»

12

لا ينافي إمكان انتصار المؤمنين في فترة زمنيّة وفي بعض بقاع الأرض قبل ظهوره (عليه السلام)، ويبقى هو مدّخراً لإقامة الحكم الإسلامي في جميع أرجاء العالممتى ما زالت هذه الأسباب وسنحت الفرصة لانتصار الحق على الباطل فيربوع الأرض.

وأمّا الروايات التي يدّعى دلالتها على اختصاص الجهاد بزمن حضور الإمام المعصوم (عليه السلام) فقد أجاب عنها ـ بالإضافة إلى أنّ أكثرها ضعيف سنداً ـ بأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الروايات هي لزوم كون الجهاد تحت راية إمام عادل يريد تطبيق الإسلام، وأمّا ضرورة كونه من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فلا شاهد عليها في هذه الروايات عدا ما قد يستفاد من توصيف الإمام بكلمة «المفترض طاعته» ـ كما في رواية واحدة فقط ـ وهذا أيضاً لا يكفي دليلا على ضرورة كون الجهاد تحت إشراف الإمام المعصوم بعد قيام الدليل على مبدأ ولاية الفقيه، وأنّ ما للإمام فهو للفقيه العادل أيضاً.

هذا بالإضافة إلى أنّ القيام ضدّ الحكومات الجائرة اليوم دفاع عن بيضة الإسلام وعن دار الإسلام، ولا شك في وجوب ذلك حتى في زمن الغيبة.

وأمّا روايات المنع عن الخروج قبل قيام القائم فقد قسّمها المؤلّف دام ظله إلى عدّة طوائف وناقشها جميعاً بمثل: ظهور بعضها في خروج الشخص داعياً لنفسه وفي مقابل الإمام المعصوم، وكون بعضها خطاباً إلى شخص أو أشخاص على نحو القضية الخارجيّة التي لا يستفاد منها التعميم، وظهور بعضها الآخر في الاختصاص بمن يخرج من أهل البيت (عليهم السلام)... إلى غير ذلك من المناقشات الدلالية والسنديّة.

13

مضافاً إلى أنّ أكثر هذه الروايات معارضة بروايات عديدة دلّت على مشروعيّة الخروج إجمالا قبل قيام القائم عجل اللّه فرجه وفيها ما هو تامّ سنداً.

هذا موجز ما ورد بالتفصيل في مقدّمة هذا الكتاب.

* * *

وأمّا المسألة الأُولى من المسائل الست المعروضة في هذا الكتاب فقد اشتملت على أصل البحث عن ولاية الفقيه على مستوى قيادة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة.

وبصدد إثبات الولاية للفقيه على المستوى المذكور خاض المؤلف دام ظلّه ثلاثة مناهج:

الأول: إثبات الولاية للفقيه على أساس مبدأ الأُمور الحسبيّة.

الثاني: إثبات الولاية له على أساس الأدلة اللفظيّة الدالّة على وجوب إقامة الحكم الإسلامي.

الثالث: إثبات الولاية على أساس النصوص الخاصّة الدالة على ولاية الفقيه في عصر الغيبة.

أمّا إثبات الولاية على الأساس الأوّل، فلابدّ فيه من توضيح مصطلح «الأُمور الحسبيّة» فإنّه مصطلح فقهيّ يقصد به الأُمور والمصالح العامة أو الخاصّة التي نعلم بصورة قطعيّة بأنّ اللّه تبارك وتعالى لا يرضى بفواتها واضمحلالها من ناحية، وأنّ حصولها وتحقّقها يتوقّف على وجود من يلي أمرها ويمارس الولاية والإشراف عليها من ناحية أُخرى، ولم يعيّن اللّه تبارك وتعالى لها وليّاً خاصّاً من ناحية ثالثة، ويمثّل لذلك عادة بالموقوفات العامّة الّتي هي بحاجة إلى من يتولّى أمرها

14

ولم يعيّن لها الواقف متولّياً خاصاً، كما يمثّل له أيضاً بالإشراف على أموال اليتامى والقصّر الذين ليس لهم أولياء، إلى غير ذلك من الأمثلة.

والمعروف بين الفقهاء ـ سواء من يؤمن منهم بولاية الفقيه بالمعنى الخاص ومن لا يؤمن منهم بها ـ أنّ الأُمور الحسبيّة يتولاّها الفقيه العادل الجامع للشرائط، وقد حاول المؤلّف أن يستفيد من هذه الفكرة لإثبات الولاية للفقيه على مستوى الإدارة والحكم في عصر الغيبة، وذكر أنّ ذلك يتوقف على مقدّمتين:

الأُولى: أنّ الأحكام الشرعيّة والمصالح العامة التي لا تقوم إلاّ في ظلّ حكومة إسلامية عادلة داخلة تحت عنوان «الأُمور الحسبيّة» إذ لا شكّ أنّ اللّه تبارك وتعالى لا يرضى بفواتها واضمحلالها مع إمكان تحقيقها بإقامة حكومة إسلاميّة عادلة، بل قد يدّعى دخول إقامة الحكم الإسلامي تحت عنوان «الأُمور الحسبية» بصورة مباشرة.

الثانية: أنّ المتصدّي لهذه المهمّة لابدّ وأن يكون فقيهاً عادلا جامعاً للشرائط.

أمّا المقدّمة الأُولى فهي ضرورية واضحة لا ينبغي التشكيك فيها.

وأمّا المقدّمة الثانية فلابدّ من التمسك فيها بأحد أمرين:

الأوّل: ما يتمسّك به عادةً بشأن جميع الأُمور الحسبية من أنّ الشخص الوحيد الذي نقطع بأنّ الشارع تبارك وتعالى يرضى بتوليته وتصدّيه لهذه المهمّة هو الفقيه العادل الجامع للشرائط، أما غيره فمهما كان صالحاً في نظرنا لأداء هذه المهمة نبقى نحتمل عدم رضا الشارع بتصدّيه لها، لاحتمال اشتراط ذلك في نظر الشارع تبارك وتعالى بالفقاهة والعدالة وغيرهما من شرائط الفتوى، ولمّا كانت الولاية لغير اللّه تبارك وتعالى على خلاف الأصل لزم الاقتصار فيها على القدر المتيقّن

15

وهو ما نقطع برضا الشارع له، وهو عبارة عن ولاية من يتوفّر فيه الشرط المحتمل المذكور أعني الفقيه العادل الجامع للشرائط.

الثاني: ما يُدّعى دلالته على اشتراط الفقاهة في قائد الأُمّة الإسلامية ـ من القرآن والسنّة والعقل ـ غير النصوص الخاصة الدالة مباشرةً على ولاية الفقيه.

إلاّ أنّ المؤلّف لم يتم عنده شيء من الأدلة المطروحة في هذا الأمر الثاني، واعتبر الأمر الأول ـ أعني التمسك بفكرة الاقتصار على القدر المتيقن ـ كافياً في الحالات الاعتيادية لتتميم الأساس الأوّل لإثبات ولاية الفقيه وهو أساس «الأُمور الحسبيّة».

وقد أعرب مدّ ظله عن أن الدليل المذكور المبتني على أساس «الأُمور الحسبيّة» وإن كان كافياً لإثبات ولاية الفقيه على مستوى الإدارة والحكم على الإجمال إلاّ أنّه لا يكفي لإثبات الولاية له فيما يراه من الكماليات والمصالح الثانوية غير الضرورية، لعدم دخولها تحت عنوان الأُمور الحسبيّة.

وأمّا إثبات الولاية للفقيه على الأساس الثاني، أعني أساس الأدلّة اللفظية الدالّة على وجوب إقامة الحكم الإسلامي فقد نبّه فيه المؤلّف إلى أنّ غاية ما تدل عليه هذه الأدلّة اللفظية هو أصل وجوب إقامة الحكم الإسلامي على الإجمال، وأمّا ضرورة كون المتصدّي لهذه المهمة هو الفقيه العادل فلابدّ من استفادتها بضمّ أحد الأمرين الماضيين في الأساس الأول، أعني إمّا التمسك بفكرة الاقتصار على القدر المتيقن أو التمسك بما يدّعى دلالته على اشتراط الفقاهة في قائدالأُمّة الإسلاميّة.

والأدلة اللفظيّة التي عرضها في هذا الأساس هي:

16

أوّلا: آيات الخلافة الواردة في القرآن الكريم:

مثل قوله تعالى: ﴿ وإذ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَة إِنّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿ هُوَ الّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿ وَأَنفقُوا مِمّا جَعَلَكُم مُسْتَخلَفينَ فيه ﴾(3).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في خلافة الإنسان على وجه الأرض، حيث استظهر ـ ضمن بحث طويل ـ أنّ المراد بالخلافة في هذه الآيات هو خلافة اللّه تبارك وتعالى، ثمّ ذكر أنّ خلافة الإنسان للّه تبارك وتعالى على وجه الأرض تقتضي بطبعها تصدّي الإنسان للحكم والإدارة على طبق ما يريده اللّه تبارك وتعالى، وذلك:

إمّا ببيان أنّ الحاكم في كلّ مكان لو قال: جعلت فلاناً خليفةً لي في هذا المكان، دلّ ذلك عرفاً على كونه خليفةً له في الإدارة والحكم وفقاً لتعاليمه وتوجيهاته.

أو ببيان أنّ معنى خلافة الإنسان عن اللّه تبارك وتعالى في الأرض إيكال جميع الأُمور التابعة له إلى الإنسان، وهي عبارة عن مثل عمران البلاد وإشاعة العدل ونشر الأحكام، إلى غير ذلك، ومن جملتها إقامة الحكم الإسلاميّ في العباد.

أو ببيان أنّ أقل ما تقتضيه خلافة الإنسان للّه تعالى على الأرض هي ضرورة تطبيق الأحكام الإلهيّة عليها، ومن الواضح أنّ تطبيق الأحكام الإلهيّة بصورة كاملة يتوقّف على إقامة الحكم وممارسة الإدارة في البلاد.


(1) سورة البقرة: الآية 30.

(2) سورة الأنعام: الآية 165.

(3) سورة الحديد: الآية 7.

17

وهذه البيانات الثلاثة وإن كانت تختلف في بعض النتائج الفرعيّة ـ التي أشار إليها المؤلّف في هذا الكتاب ـ لكنّها تشترك جميعاً في إثبات أنّ الإنسان موظّف شرعاً بإقامة الحكم الإسلاميّ على وجه الأرض، وبضمّ هذه النتيجة إلى أحد الأمرين السابقين نستنتج أنّ قيادة الحكم الإسلاميّ إنّما هي للفقيه العادل الجامع للشرائط.

وثانياً: قوله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا ﴾ بناءً على أنّ المقصود بالأمانة في هذه الآية هي خلافة اللّه تبارك وتعالى، حيث إنّ هذه الآية ـ بناءً على هذا التفسير ـ يصبح شأنها شأن آيات الخلافة الماضية، فيمكن الاستدلال بها على المطلوب على حدّ الاستدلال بتلك الآيات.

وثالثاً: الأوامر التي يتوقّف امتثالها غالباً على وجود الحكومة والاستعانةبها، مثل الأمر بإجراء الحدود، والأمر بتوحيد الكلمة، والاعتصام بحبل اللّه تعالى، وعدم التفرق، إلى غير ذلك، فإنّها تدلّ بالالتزام على وجوب إقامةالحكم الإسلاميّ الذي يمكن من خلاله امتثال هذه الأُمور، ولأجل تعيين رئيس هذا الحكم نحتاج أيضاً إلى ضمّ أحد الأمرين السابقين، أعني: التمسك بفكرة الاقتصار على القدر المتيقّن أو التمسك بما يدّعى دلالته على اشتراط الفقاهةفي قائد الأُمّة الإسلاميّة.

وأمّا إثبات الولاية للفقيه على الأساس الثالث، أعني: أساس النصوص الخاصّة الدالّة على ولاية الفقيه في عصر الغيبة، فقد اكتفى فيه المؤلّف ـ دام ظلّه ـ بذكر نصّ واحد من تلك النصوص، وهو ما ورد عن الإمام الحجّة ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ في التوقيع المعروف:

18

«... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه».

وقد بحث المسألة من خلال هذا الحديث من زاوية السند ومن زاوية الدلالة:

أمّا من زاوية السند فقد ذكر أنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) روى هذا الحديث عن جماعة فيهم الشيخ المفيد (رحمه الله) عن جماعة فيهم جعفر بن محمد بن قولويه وأبو غالب الزراري، عن الشيخ الكليني (رحمه الله) عن إسحاق بن يعقوب. وهذا السند إلى الشيخ الكليني سند أعلائي يشبه أن يكون قطعياً. وأمّا الراوي المباشر الذي يروي هذاالتوقيع عن الإمام صاحب الزمان عجل اللّه تعالى فرجه فهو إسحاق بن يعقوب الذي لم يترجم له في كتب الرجال لكنّه لا يضرّ بصحة السند؛ لأنّ الشيخ الكليني (رحمه الله) حدّث بورود توقيع إليه من الإمام عجل اللّه تعالى فرجه وهذا يكفي للكشف عن وثاقته وجلالة قدره أو للكشف عن عدم كذبه في هذا التوقيع على أقل تقدير، وذلك ببيانات مفصّلة وردت في الكتاب.

وأمّا من زاوية الدلالة فقد اكتفى المؤلّف بذكر اعتراضين رئيسيين على دلالة هذه الرواية وتصدّى للإجابة عنهما:

الاعتراض الأوّل: أنّنا لا نعرف المراد بالحوادث الواقعة في قوله (عليه السلام):«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» فلعلّ اللام لام عهدتشير إلى مجموعة حوادث ذكرها إسحاق بن يعقوب في رسالته إلى الإمامالحجة عجل اللّه تعالى فرجه ولم يصلنا ذلك، فكيف نعرف وجوب الرجوعإليهم في مطلق الحوادث التي تقع في زمان الغيبة؟ وبالتالي لا تثبت الولاية المطلقة للفقيه.

19

وأجاب عن ذلك: بأنّ افتراض كون اللام للعهد لا يمنع عن التمسّك بإطلاق قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه» فإنّ مقتضى إطلاق ذلك هو الوكالة المطلقة للرواة ( الفقهاء ) في كلّ ما هو للإمام المعصوم ولو بقرينة ظرف صدور هذا الحديث، وهو ظرف غيبة الموكّل التي يتوقع فيها صدور الوكالة المطلقة.

والاعتراض الثاني: أنّ كلمة «رواة حديثنا» وإن كانت تنطبق على الفقهاء ولكنّها تصرف ظهور الكلام إلى أنّ المقصود بالرجوع إليهم هو الرجوع إليهم بصفة كونهم رواة، وهذا لا يعني الرجوع إليهم في كل شيء حتى تثبت لهم الولاية المطلقة.

وهذا الاعتراض تارة يراد به حصر الرجوع إليهم بأخذ الروايات عنهم فحسب أو أخذ الروايات والفتاوى معاً دون الأحكام الولائيّة، فليس للفقيه صلاحية الولاية أصلا بل إنما له صلاحية الرواية والإفتاء فحسب. وأُخرى يراد به تقليص صلاحيّته للولاية مع الاعتراف بدلالة الحديث على أصل صلاحيته للولاية بالإضافة إلى صلاحيته للرواية والإفتاء.

فإن كان المقصود هو الأوّل كان الجواب: أنّ صلاحية الرواية والإفتاء لا تكفي لصدق قوله (عليه السلام): «فإنّهم حجّتي عليكم» لأنّ الرواية والإفتاء لا يتجاوزان حدّ إبلاغ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، وكلمة «حجّتي» تدلّ بظاهرها على أنّ الإمام (عليه السلام) أوكل إليهم ممارسة الأوامر والنواهي والأحكام التي هي من صلاحيّته هو من حيث الأساس لا مجرّد إبلاغ الأحكام الإلهية، إذ أنّ مجرّد إبلاغ الأحكام الإلهيّة لا يستدعي التوكيل من قبل الإمام (عليه السلام)، فقوله (عليه السلام): «فإنّهم حجتي» شاهد على أنّه قد وكّلهم من قبله لممارسة صلاحياته هو في التشريعات غير الإلهيّة وهي الأحكام الولائيّة.

20

وإن كان المقصود هو الثاني أعني تقليص صلاحيّة الفقيه للولاية ففيه بحث طويل ناقش فيه المؤلّف ما قد يظهر من بعض عبارات أُستاذه الشهيد الصدر (رحمه الله)، نكتفي منه بالإشارة إلى ما قد يقال من أنّ الأمر بالرجوع إلى «رواة أحاديثنا» لا يشمل مجال تعيين الموضوعات الخارجية للأحكام من قبل الفقيه، إذ لا دخل في هذا المجال لاتصاف الفقيه بكونه راوياً، وإنّما يشمل مجال تشريع الحكم من قبل الفقيه في إطار منطقة الفراغ التي تركت في الشريعة الإسلاميّة لوليّ الأمر كي يملأها في كل زمان ومكان بحسب مقتضيات ذلك الزمان أو المكان، فإنّ هذا هو المجال الذي يستفيد فيه الفقيه من تخصّصه الروائي، وذلك لأنّ تشريع الحكم من قبل الفقيه في إطار منطقة الفراغ إنّما هو بوضع عناصر متحركة في إطار العناصر الثابتة والمؤشرات العامة التي تستنبط من الكتاب والسنّة، فلأجل ممارسة الولاية في هذا المجال يستفيد الفقيه من تخصّصه الروائي.

وقد لاحظ المؤلّف ـ حفظه اللّه ـ على هذا البيان بأنّ الفقيه يستفيد من تخصّصه الروائي حتّى في المجال الأول، أعني مجال تشخيص الموضوعات الخارجية للأحكام؛ وذلك لأنّ الولاية في مجال الموضوعات تقتضي تطبيق الأحكام الشرعية المترتبة على تلك الموضوعات وتنفيذها على المجتمع، ففي أمرالجهاد أو الدفاع مثلا لا يكتفي الولي بتشخيص موضوع هذا الأمر والإعلانعنه فحسب، بل يتصدّى لتنفيذ هذا الحكم الإلهي بما فيه من مسائل شرعيّة مستنبطة من الكتاب والسنة فيكون لتخصّصه الروائي بالغ الأثر في هذاالمجال أيضاً.

* * *

21

وأمّا المسألة الثانية المطروحة في هذا الكتاب فهي من أهمّ المسائل الراجعة إلى قيادة الأُمّة في عصر الإمام المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه، وهي أنّه هليمكن تعيين صاحب منصب الولاية في هذا العصر بالانتخاب؟ وإذا أمكنذلك فما مدى دخل الانتخاب وتأثيره في الولاية؟ وهل يمكن انتخاب غير الفقيه ولياً متصدياً لقيادة الأُمّة أو لا يمكن؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الراجعةإلى الانتخاب.

ففي أصل مشروعيّة الانتخاب لتعيين الوليّ قسّم الأدلّة التي قد يتمسّك بها في هذا المجال إلى قسمين:

القسم الأوّل: ما يُدّعى دلالته على أنّ كلّ من وقع عليه اختيار الأُمة بالانتخاب كان له الولاية شرعاً دون قيد أو شرط في الإنسان المنتخب، فلو دلّ دليل على اشتراط الفقاهة في الولي كان ذلك مقيّداً لإطلاق هذه الأدلة على فرض تماميّة دلالتها.

والقسم الثاني: ما يدّعى دلالته إجمالا على أنّ الولي يتم تعيينه بالانتخاب ولو ضمن دائرة خاصة ممن تتوفر فيهم شرائط معينة، فلا إطلاق له من الأساس من ناحية شرائط الإنسان المنتخب.

أما القسم الأوّل فأهمّ الأدلّة المطروحة فيه هو التمسك بمجموع آيتين قرآنيتين وهما:

أولا: قوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾(1).


(1) سورة الشورى: الآية 38.

22

وثانياً: قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ ﴾(1).

وذلك بدعوى أنّ الآية الأُولى تعطي للأُمّة صلاحيّة ممارسة أُمورها عن طريق الشورى ما لم يرد نصّ خاص على خلاف ذلك، والآية الثانية تتحدّث عن الولاية وأنّ كل مؤمن وليّ الآخرين، ويريد بالولاية تولّي أُموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، وهذا النص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية، وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثريّة عند الاختلاف.

وقد أورد المؤلف دام ظلّه على هذا الاستدلال بأنّ الآية الأُولى غير واضحة الدلالة على ولاية الشورى بالمعنى المتضمّن للحجّيّة ووجوب الطاعة، إذ لعلّها تقصد مجرّد الاستضاءة بالأفكار والاستنارة بها من دون افتراض الحجيّة، وممّا قد يشهد على ذلك أنّ الشورى إذا كانت بمعنى الحجيّة ونفوذ نتائج الانتخاب لما أمكن فعليّة ذلك في زمان صدور النص، إذ لا معنى للانتخاب وتحكيم رأي الأكثريّة مع وجود الولي المنصوب من قبل اللّه تبارك وتعالى وهو عبارة عن شخص النبي (صلى الله عليه وآله) في حين أن الآية الكريمة ظاهرة في توصيف المؤمنين بصفات قابلة للفعلية وقتئذ ومن ضمنها أنّ ﴿ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾.

وأما الآية الثانية فهي غير واضحة الدلالة على المطلوب أيضاً، إذ لعلّها تقصد بولاية المؤمنين بعضهم على بعض معنى المناصرة والمؤازرة، وتفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذلك يناسب هذا المعنى أيضاً؛ لأنّهما نوع تناصر وتآزر.


(1) سورة التوبة: الآية 71.

23

وأمّا القسم الثاني فقد تطرق فيه إلى مجموعة من الأدلة يدّعى دلالتها على نفوذ الانتخاب إجمالا مع قطع النظر عن شرائط المنتخب، وردّها جميعاً ببيان الإشكالات ونقاط الضعف الموجودة فيها وإن كان أكثرها واهية من أساسها، وإليك نماذج من أهمّها:

أولا: التمسك بالخطابات الموجّهة إلى الأُمة بصورة عامة في الأحكام التي يكون تنفيذها على يد الدولة عادةً مثل الجهاد وإجراء الحدود وغيرها، فإنّها دالّة على أنّ الدولة هي دولة المجتمع وبرضا المجتمع وانتخابه، وبما أنّ رضا كلّ المجتمع غير ممكن فالمقصود إحراز رضا الأكثرية، وهذا معنى الانتخاب.

وأورد على ذلك أنّه يكفي لصحّة توجيه هذه الخطابات إلى المجتمع أنّالدولة لا تستطيع تحقيق هذه الأُمور بوحدها، أو أنّ وليّ الأمر غير قادرعلى تحقيقها بوحده، فلابدّ من تعاون المجتمع معها أو معه في الأُمور، أمّاكيف يتعيّن هذا الولي أو تلك الدولة، هل بالانتخاب أو بطريق آخر؟ فلا دلالة فيها على ذلك.

وثانياً: التمسّك بمجموعة من النصوص التي يدّعى دلالتها على موافقة المعصومين (عليهم السلام) على انتخاب الأُمة، مثل ما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام): «... وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم». وما ورد عنه (عليه السلام) من قوله: «إنّ هذا أمرُكم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمّرتم». وما ورد من أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) اشترط على معاوية ضمن كتاب الصلح الذي جرى بينهما أنّه «ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين» إلى غير ذلك.

24

إلاّ أنّ هذه النصوص على كثرتها ليس فيها ما يسلم عن النقاش سنداً ودلالةً، والكثرة العدديّة إن كانت تشفع لضعف السند فلا تشفع لضعف الدلالة، بالإضافة إلى أنّ شفاعتها لضعف السند أيضاً غير خال من التأمل في مسألة من هذا القبيل، كما تجد توضيح ذلك مشروحاً في الكتاب.

وثالثاً: التمسّك بآيات البيعة وأخبارها، وذلك بأحد بيانات أربعة:

1 ـ أنّ نفس البيعة التي وقعت للمعصومين (عليهم السلام) ـ مثل بيعة الشجرة وبيعة النساء الواردتين في القرآن الكريم ومثل بيعة الناس لعلي (عليه السلام)بعد مقتل عثمان ـ المفهوم منها عرفاً وارتكازاً أنّ البيعة كانت التزاماً بالطاعة وأنّهم كانوا يرون هذا الالتزام ملزماً لهم.

وأجاب عن هذا البيان ـ بعد تسليم دلالة ذلك على نفوذ البيعة شرعاً حتىمع غير المعصومين (عليهم السلام) ـ بأنّ غاية ما يدلّ عليه أنّ البيعة حالها حال باقيالعقود التي لا تنفذ إلاّ على طرفي العقد، وعليه فلا تنفذ البيعة إلاّ على الذين شاركوا فيها بالفعل، ولا يعرف في التاريخ أنّ بيعة المعصومين (عليهم السلام) كانتبهدف تحقيق الولاية حتى على غير المشاركين فيها وإن كانت ولايتهم ثابتةًعلى الجميع بالنصّ.

2 ـ أنّ سيرة المسلمين كانت على البيعة حتى للخلفاء الذين لم يعتقد أحد من المسلمين بولايتهم بالنصّ، ولا شكّ أنّ هذه البيعة كانت بعقليّة إيجاد الولاية وإضفاء الشرعيّة على خلافة هؤلاء، وهذه السيرة كانت بمرأىً ومسمع من المعصومين (عليهم السلام)، ولم يردنا ردعٌ من قبلهم عن كبرى فكرة تحقق الولاية بالبيعة بل إنّما وردتنا أدلّة تردع عن الصغريات المتمثّلة في البيعة لغير المعصوم في زمن

25

وجود المعصوم المنصوص عليه بالولاية، وعليه فأصل كبرى البيعة التي كانت مركوزة في أذهان المسلمين ـ بقطع النظر عن وجود المعصوم ـ غير مردوع عنها، وعدم الردع دليل الإمضاء.

وأجاب عن ذلك بأنّه لم يثبت لنا أنّ بيعة المسلمين للخلفاء كانت بروح إيجاد الولاية حتى على غير المشاركين في البيعة بل لعلّ إمرتهم على الأقلّية غير المشاركة في البيعة كانت بروح الاعتقاد بضرورة ذلك من باب الحسبة أو بروح القهر والغلبة، ولم يكن يتم لهم ذلك إلاّ مع وجود أنصار وأعوان، فكانت البيعة لأجل تحصيل التعهّد من المبايعين على النصرة والعون.

3 ـ أنّ الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد احتجّ على إمامته ـ فيما وردنا من أخبار ـ ببيعة الناس له بعد مقتل عثمان، وهذا الاحتجاج وإن كان جدليّاً بلحاظ أنّ ولايته (عليه السلام) كانت ثابتة بالنصّ وبلا حاجة إلى البيعة لكنّه يدلّ على أيّ حال على أنّ البيعة تكفي لحصول الولاية بصورة عامّة حتى مع غضّ النظر عن النصّ.

لكن هذا البيان لو تمّ فهو يتوقف على صحّة أسانيد الأخبار الدالة على احتجاجه (عليه السلام) ببيعة الناس، أو حصول القطع بصدور بعضها على أقلّ تقدير، وأ نّى لنا بذلك؟!.

4 ـ أنّ بعض الروايات دلت على حرمة نكث الصفقة وفراق الجماعة، ولئن كان «نكث الصفقة» مختصّاً بمن شارك في البيعة فالعنوان الثاني ( فراق الجماعة ) يشمل من شارك ومن لم يشارك في البيعة بعد وقوعها، فتثبت بذلك حرمة المخالفة لمن بايعته الأُمة حتى على من لم يشارك في البيعة.

إلاّ أنّ هذه الروايات أيضاً لو صحّت دلالتها فهي ضعيفة السند.

26

وهكذا يناقش السيد المؤلف حفظه اللّه جميع الأدلة المعروضة لمشروعية الانتخاب في مجال تعيين وليّ الأمر في عصر الغيبة، سواء ما كان منها مطلقاً من ناحية شرائط المنتخب أو ما كان منها مجملا من هذه الناحية.

ولكنه يشير بالأخير إلى ضرورة الالتجاء إلى الانتخاب في خصوص فرض وقوع التشاح والتزاحم في إعمال الولاية والتصدّي لها بين بعض الفقهاء العدول الذين ثبت لهم حق الولاية بأدلّة ولاية الفقيه الماضية، وذلك ببيان مفصّل حاصله: أنّ الدليل اللفظي لولاية الفقيه وإن كان مقتضى إطلاقه الشمولي ثبوت حق الولاية لجميع الفقهاء العدول الجامعين للشرائط إلاّ أنه في فرض وقوع التشاح فيما بينهم يتحوّل الإطلاق الشمولي للدليل إلى الإطلاق البدلي بمعنى وجوب طاعة واحد منهم على وجه البدل، وذلك بقرينة عقلائية ارتكازية وهي عدم إمكان الالتزام بالتساقط في فرض وقوع التعارض بين الفقهاء في إعمال الولاية والتصدي لها؛ لأنّه يؤدّي إلى بقاء المجتمع بلا وليّ، والإطلاق البدلي بالمعنى المذكور يؤدّي إلى تخيير الأُمّة في انتخاب الولي، وبما أن التخيير الفردي غير ممكن في باب الولاية العامة ـ وإلاّ لانتخب كل فرد أو كل مجموعة ولياً خاصاً لهم الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى والإخلال بالنظام ـ فسيتحوّل ظهور الدليل إلى التخيير الجماعي الحاصل بالانتخاب العام وترجيح رأي الأكثرية.

ويستنتج أخيراً أنّه لا دليل على نفوذ انتخاب الأُمّة لغير الفقيه العادل الجامع للشرائط، وأمّا انتخابها لفقيه عادل جامع للشرائط فإنّما ينفذ في فرض وقوع التشاح بين الفقهاء، وأما في غير هذا الفرض فأيّ واحد من الفقهاء الجامعين للشرائط بادر باستلام زمام الحكم وإعمال الولاية كان على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا من دون حاجة إلى الانتخاب أصلا.

27

وأمّا الفقيه غير المنتخب فمقتضى إطلاق الدليل اللفظي على ولاية الفقيه أنّ له حقّ الولاية أيضاً شريطة أن لا يتدخّل في دائرة أوامر الولي المنتخب، بمعنى أنّ ولاية الأمر العامّة تختصّ بالفقيه المنتخب، ولكنّه لا ينافي تدخل فقيه آخر في دائرة جزئيّة لم يتصدّ لها الوليّ العام.

* * *

وأمّا المسألة الثالثة التي عني بها المؤلّف في هذا الكتاب فهي راجعة إلى شورى القيادة، فهل يجب أن تكون القيادة دائماً فرديّة بحيث يكون القرار النهائي ـ بعد الاستشارة فيما يتطلّب الاستشارة من ذوي الخبرات ـ بيد فقيه واحد؟ أو بالإمكان تشكيل شورى مؤتلفة من عدد من الفقهاء تكون القيادة لها بما هي شورى، بحيث يكون القرار النهائي النافذ شرعاً للأكثرية من أعضاء هذه الشورى؟

وقد أعرب المؤلف دام ظلّه عن عدم إمكان إبطال فكرة شورى القيادة بالأدلة التي تنفي إمكان تعدّد الإمام الناطق في زمان واحد، فإنّ هذه الأدلّة لو استفدنا منها نفي التعدّد حتى بالمعنى المطلوب في شورى القيادة فهي واردة في الإمام المعصوم الذي لا يحتاج بذاته إلى مشورة ولا يمكن التعدّي منه إلى الإمام غير المعصوم، لكنّه دام ظلّه أكّد بعد ذلك على أنّ أدلّة ولاية الفقيه قاصرة عن إثبات حق الولاية شرعاً لعنوان الشورى بالمعنى الذي ذكرناه، نعم قد يتواطأ جملة من الفقهاء فيما بينهم على أنّ من يصدر الحكم منهم في كل مسألة من المسائل يكون هو واحداً ممّن يطابق رأيه الأكثرية في تلك المسألة، بحيث يرجع الأمر في واقعه إلى ولاية الشخص لا إلى ولاية الشورى بعنوان كونها شورى وإن كان المظهر

28

الاجتماعي له يشبه قيادة الشورى، كما قد يقع انتخاب الأُمّة ـ في فرض التشاح الذي يُلجأ فيه إلى الانتخاب ـ على رأي الأكثرية من بين هؤلاء المتشاحّين فيكون حقّ الولاية في كلّ مسألة لمن يطابق رأيه الأكثرية في تلك المسألة، وتكون ولاية الآخرين ساقطة بدليل الانتخاب.

* * *

وأما ما تطرّق إليه المؤلّف في المسألة الرابعة فهو أيضاً من أهمّ القضايا المطروحة في الساحة حول ولاية الفقيه، وهو أنّ ولي الأمر الذي يمارس قيادة الأُمّة في عصر الغيبة هل يجب أن يكون هو مرجع التقليد، أو يمكن أن تكون المرجعيّة لفقيه والولاية العامّة لفقيه آخر؟

فما يبدو للباحث ـ بالنظر إلى شرائط المرجعيّة وشرائط الولاية ومقاييس الترجيح في كل منهما ـ هو جواز الفصل بين المرجعية والقيادة، وذلك لأنّ المرجعيّة في التقليد مشروطة بالأعلمية في حين أنّ الولاية العامّة مشروطة بالكفاءة السياسية والاجتماعية، كما أن مقياس الترجيح في باب التقليد هو واقع الأعلمية في حين أنّ مقياس الترجيح في باب الولاية العامة والقيادة لا يمكن أن يكون هو واقع الأكفئيّة، إذ لو اختلف الناس في تشخيص الأكفأ لزم تعدّد القيادة وهذا يؤدّي إلى تمزّق الساحة والاختلال في النظم، بخلاف تعدّد المرجعية في باب التقليد؛ لأنّ التقليد أمر فردي يمكن تعدّد المرجعية فيه من دون أيّ تمزّق في الساحة، ولهذا التجأنا إلى الانتخاب في باب القيادة عند فرض التشاح ـ ببيان مضت الإشارة إليه ـ فيكون مقياس الترجيح في باب الولاية عند بلوغ مستوى القيادة العامّة هو انتخاب الأكثريّة.

29

وعليه فلو اختلفت الأعلميّة عن الكفاءة فكانت الأُولى في شخص والثانية في شخص آخر، أو اختلفت الأعلميّة عن انتخاب الأكثريّة في فرض التشاح فكانت الأعلمية في شخص وكان الانتخاب لشخص آخر فمن الطبيعي حينئذ الفصل بين المرجعية والقيادة.

لكن هناك بعض الوجوه لدعوى ضرورة التوحيد بين المرجعية والقيادة تعرّض لها السيّد المؤلّف دام ظلّه مع ما له من ملاحظات علمية حولها، ولعلّ أهمّها ما يخطر ببال كثير من الناس من أنّه لو تعدّدت المرجعية والقيادة فحينئذ ماذا ستصنع الأُمّة عند اختلاف رأي المرجعيّة والقيادة، خصوصاً لو أخذنا بعين الاعتبار أنّ الأحكام الولائيّة التي يصدرها القائد بوصفه ولياً للأمر ليست دائماً منفصلةً تمام الانفصال عن المباني الفقهيّة التي تخضع لاختلاف نظر الفقهاء؟ فلأجل علاج هذه المشكلة لابدّ من الالتزام بالتوحيد بين المرجعيّة والقيادة.

وقد أعرب السيّد المؤلف بصدد الجواب عن هذه الشبهة عن أنّ الاختلاف في الرأي بين المرجعية والقيادة لا يؤدّي إلى ضرورة التوحيد بينهما؛ إذ أنّ لكل منهما مساحة خاصّة ولا يقع التصادم بينهما في شيء، وذلك لأنّ التصادم المتوقع بينهما ليس بين فتاوى المرجع وبين الجذور المبنائية والفتوائية لأحكام الولي ما لم يصدّر الولي أحكاماً ولائيةً بالفعل على خلاف فتوى المرجع، فإنّ الأُمّة لابدّ لها أن تبقى على تقليدها للمرجع مهما كان على خلاف الفتاوى الفقهيّة للقائد إلى حين صدور حكم ولائي من قبل القائد على خلاف فتوى المرجع، وحينئذ تارة تكون فتوى المرجع ترخيصيّةً وحكم القائد إلزامياً، وأُخرى يكون العكس، وثالثة يكون كلّ منهما إلزامياً لكنّ أحدهما إلزام بالفعل مثلا والآخر إلزام بالترك.

30

فإن كانت فتوى المرجع ترخيصيّةً وحكم القائد إلزاميّاً تعيّن الالتزام بحكم الولي، لأنّ فتوى المرجع حينئذ لا تمنع عن العمل بحكم الولي؛ لأنّها مجرّد ترخيص وليست إلزاماً على خلاف ما يلزم به حكم الحاكم، فلو التزم بحكم الولي لم يكن مخالفاً لرأي واحد منهما.

وإن كان على عكس ذلك، أي كانت فتوى المجتهد إلزاميةً وحكم الحاكم ترخيصياً، فإن كان كذلك حقاً ولم يكن في واقعه راجعاً إلى الفرض السابق ـ كما في الحالة التي جاء توضيحها في الكتاب ـ تعيّن أن يكون مقصود الولي بحكمه الترخيصي وجود المصلحة الإلزامية في الترخيص دون مجرّد الترخيص الساذج الذي لا ينافي الالتزام بفتوى من يفتي بالوجوب ولا الالتزام بفتوى من يفتي بالحرمة، فإنّه لو كان كذلك لما كان له داع في إصدار الحكم الولائي بالترخيص أصلا بل كان يدع الناس على حالهم فكلّ يلتزم بما يريد، إذاً فالترخيص في الفرض المذكور راجع بروحه إلى المنع عن الإلزام لوجود مصلحة إلزاميّة تدعو إلى الترخيص، فيكون حال هذا الفرض كحال الفرض الثالث وهو ما إذا كانت فتوى المرجع إلزاميّة وحكم القائد أيضاً إلزاميّاً وهما متنافيان، كما إذا أفتى الأول بالوجوب وحكم الثاني بالحرمة أو العكس.

وفي هذا الفرض الثالث ـ وكذلك الفرض المذكور الذي يرجع بروحه إلى الفرض الثالث ـ سيقع التنافي بين المصلحة الإلزاميّة التي تعبّر عنها فتوى المرجع والمصلحة الإلزاميّة التي يعبّر عنها حكم القائد، وحينئذ إن كان حكم القائد على طبق هذه المصلحة الإلزاميّة من باب اعتقاده بأنّها مصلحة ثانوية تتغلّب على المصالح الأوليّة حتى على فرض كون المصلحة الأوّلية على طبق ما أفتى به

31

المرجع ـ سواء كانت هذه المصلحة الثانويّة ناشئةً من ظروف اجتماعيّة معيّنة أو من ضرورة اتحاد الكلمة مثلا ـ لزم على الأُمّة رفع اليد عن فتوى المرجع في تلك المسألة والالتزام بحكم ولي الأمر. وأمّا إن كان الحكم الولائي الصادر من القائد من باب عدم اعتقاده بفتوى المرجع الذي يفتي بمصلحة إلزاميّة معاكسة، بحيث لو كان يعتقد بتلك الفتوى لما كان يصدر هذا الحكم الولائي ـ كما أنّه بعد صدور هذا الحكم الولائي أيضاً لا يرى مصلحة اتحاد الكلمة ضروريّة بدرجة تتغلّب على المصالح الأوّليّة حتى وإن كانت على طبق فتوى المرجع ـ فحينئذ سيبقى مقلّدو هذا المرجع على التزامهم بفتواه ولا ينفذ حكم القائد إلاّ في حقّ مقلّديه أو مقلّدي من لا يرى ـ بحسب فتواه ـ وجود مصلحة أوليّة إلزاميّة معاكسة لحكم القائد، وإن كان في هذا الفرض الأخير أيضاً قد يقال بنفوذ حكم القائد على الجميع بناءً على بعض أدلّة ولاية الفقيه كما جاء توضيحه في الكتاب.

وأخيراً لا يبقى اصطدام أصلا بين فتاوى مرجع التقليد والأحكام الولائيّة الصادرة من القائد بل يكون لكل منهما مساحة خاصّة به، فلا ضرورة إذاً للتوحيد بين المرجعيّة والقيادة من هذه الناحية، وإن كان التوحيد بينهما مهما أمكن أولى وأصلح كما هو واضح.

* * *

وأمّا المسألة الخامسة التي عرج إليها المؤلف ـ دام ظلّه ـ في الكتاب فلعلّها لا تقلّ أهميّةً من بعض المسائل السابقة، وهي عبارة عن نفوذ حكم الولي القائد على سائر الفقهاء، إذ قد يبدو للنظر أنّ دليل الولاية لمّا كانت نسبته إلى كلّ الفقهاء الأكفّاء الجامعين للشرائط على حدّ سواء فهو غير ناظر إلى نسبة الفقهاء بعضهم إلى