330

ومن هذا القبيل ما روي عن الباقر(عليه السلام) من أنّه قال: «قال جدّي رسول الله(صلى الله عليه وآله): أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بيّنها الله ـ عزّ وجلّ ـ في الكتاب، وبينّتهما لكم في سنّتي وسيرتي، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي، فمن تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروءته وعرضه...»(1)، وقد ساق في هذا الحديث الشبهات والبدع مساقاً واحداً، فهل يكون الشكّ في حرمة شرب التتن شبهة بهذا المعنى وممّا يساق مساق البدع؟!

وتؤيّد هذا المطلب الرواية الاُخرى الواردة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر، إنّ المتّقين الذين يتّقون الله من الشيء الذي لا يُتّقى منه خوفاً من الدخول في الشبهة»(2)، فالمراد بالشبهة في هذا الحديث ليس هو مشكوك الحرمة، فإنّ ارتكاب مشكوك الحرمة ليس محذوراً احتماليّاً، وخصوصاً أنّه عبّر بالدخول في الشبهة لا بارتكاب المشتبه، فمعنى الحديث هو أنّ كثيراً من العناوين التي تعرض بحسب الخارج وتوجد عناصر الوضوح في رشدها وعدم بطلانها بالمقدار المجوّز شرعاً للاعتماد عليها، بحيث لا مجال لوجوب الاتّقاء فيها، مع ذلك يتّقون منها باحتمال أنّ واقعه باطل وظاهره مزيّف، حيث إنّ الشبهة أوّل ما تظهر تخفى كما ذكر في لسان العرب في حديث عن حذيفة اليماني أنّه يقول في الفتنة: (تشبّه مقبلة وتبيّن مدبرة)(3).

إذن فمدّعي الاطمئنان على أساس هذه القرائن بأنّ الشبهة ذات مصطلح بهذا



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 47، ص 124.

(2) جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 37، ص 333 نقلاً عن الكافي، وأمالي الطوسيّ.

(3) لسان العرب، مادّة شبه، المجلّد الثاني بحسب الطبعة المقسّمة إلى ثلاثة مجلّدات، ص 266.

331

المعنى في الروايات ليس مجازفاً، وعليه فمن المحتمل قويّاً أن يكون المراد بالشبهة في هذا الحديث هو هذا المعنى، أي: أنّه إذا رأيت شيئاً عليه بظاهره دلائل الرشد وتحتمل كونه مغرياً وملبَّساً فتوقّف عنده، ومعنى وجوب الوقوف عنده هو عدم الاعتماد على هذه الدلائل؛ لأنّها ليست حجّة، ولا تنكره أيضاً من أوّل الأمر؛ إذ لعلّه واقع صحيح، فأنت لا تحجم عنه بأن تقول: هذا باطل جزماً، ولا تعتمد على الشبهة بأن تعتمد على جهة مشابهتها، بل قف عند الشبهة، فإنّ الوقوف والتريّث هنا أولى من اقتحام الهلكة، وهذا مطلب مسلّم صحيح على القاعدة، غير مربوط بما نحن فيه.

الوجه الثالث: أنّه لو سلّمنا أنّ الشبهة في الرواية تكون بمعنى الشكّ المشتمل على احتمال الحلّ واحتمال الحرمة، قلنا: تارةً نفترض أنّ الموازنة المعقودة بين المطلبين في الحديث تكون بلحاظ الاحتمال، واُخرى نفترض أنّها معقودة بلحاظ آثار المحتملين، من قبيل ما لو احتمل المريض كون التفّاح مضرّاً له فقال: (ترك التفّاح خير لي من الابتلاء بالمرض)، فهذه موازنة بلحاظ آثار ذات المحتملين بما هما؛ إذ تترتّب على عدم مضرّيّة التفّاح خسارته لفاكهة غير مضرّة إذا تركه، وعلى مضرّيّته ابتلاؤه بشدّة المرض أو دوامه إذا أكله، فيرى أنّ الأوّل أهون له من الثاني، وفي هذا الحديث قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، والأثر في جانب المفضول هنا مترتّب على ذات المحتمل حتماً، فإنّ الوقوف عند الشبهة حزازته هي الحرمان عن شيء قد لا يكون هناك موجب للحرمان عنه. وأمّا الأثر في جانب الآخر وهو الهلكة فإن فرض أثراً للاحتمال باعتبار منجّزيّة الاحتمال وجعل وجوب الاحتياط تمّ مدّعى الأخباريّ، لكنّه لا أقلّ من احتمال أن تكون الموازنة بلحاظ ذوات المحتملين فيجب أن يفرض أنّ ذات المحتمل فيه هلكة، من قبيل أنّ ذات أكل التفّاح على تقدير مضرّيّته فيه

332

هلكة، وعلى هذا الاحتمال يجب أن يحمل الحديث أيضاً على ما حملناه عليه سابقاً، من أنّ هذه الشبهة تكون من قبيل الدعاوى الباطلة المهلكة بنفسها، من باب أنّ الدخول في مطلب من هذا القبيل ـ ولو فرض معذوراً من أوّل الأمر فلا يهلك من ناحية منجّزيّة الاحتمال ـ يؤدّي بالتدريج إلى الانحراف والضلال، والبعد عن طريق الهدى، والمعاندة مع الحقّ، والتعصّب للباطل مع حصول العلم بكونه باطلاً.

هذه نكات ثلاث تكفي واحدة منها لرفع اليد عن دلالة هذه الرواية. إلاّ أنّ الاُصوليّين كأنّهم أخذوا كلّ هذه الجهات مفروغاً عنها، وفهموا من الرواية ما يناسب اُنسهم الذهنيّ بالمصطلحات الاُصوليّة، فلم يعترضوا عليها بمثل هذه الاعتراضات، بل اعترضوا عليها باعتراض آخر.

وحاصل ما أفادوه هو أنّ ظاهر هذه الرواية هو فرض الهلكة في المرتبة السابقة على الأمر بالوقوف عند الشبهة، ولذا علّلت الأمر بالوقوف بأنّ المورد من مظانّ الهلكة، وعليه فيستحيل أن يكون الأمر بالوقوف أمراً مولويّاً منجّزاً للواقع، فإنّ الأمر المولويّ المنجّز للواقع يترتّب عليه الهلكة، لا أنّه يعلّل بالهلكة ويترتّب على ثبوتها في المرتبة السابقة، إذن فيختصّ الأمر بالوقوف بموارد تنجّز الواقع في المرتبة السابقة عليه وبقطع النظر عنه، فلا يشمل الشبهات البدويّة بعد الفحص؛ لأنّه بقطع النظر عن هذا الأمر تكون تلك الشبهات مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

واعترض على هذا الإشكال بأنّ هذا الحديث يدلّ بالمطابقة على ثبوت الهلكة في موارد الشبهة الشاملة بالإطلاق للشبهات البدويّة، كما لو قيل: (لا تأكل الرمّان لأنّه مضرّ)، فإنّه بإطلاقه يدلّ على شمول النهي لجميع أفراد الرمّان، وأنّ علّة النهي ـ وهي الإضرار ـ ثابتة في جميع الأفراد، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فهذا

333

الحديث بإطلاقه يدلّ على أنّ النهي الإرشاديّ شامل لجميع أفراد الشبهة، وأنّ علّته وهي ثبوت الهلكة في المرتبة السابقة ثابتة في تمام الأفراد، وحيث إنّ الهلكة لا تكون في الشبهة البدويّة إلاّ بجعل وجوب الاحتياط، إذن نستكشف من ذلك بالالتزام جعل وجوب الاحتياط شرعاً في المرتبة السابقة، وذلك من باب الكشف الإنّيّ ودلالة المعلول على علّته.

واُجيب على هذا الاعتراض بأنّ إيجاب الاحتياط بوجوده الواقعيّ ليس كافياً في ترتّب الهلكة عليه، وإنّما المصحّح للهلكة والعقاب هو وصول إيجاب الاحتياط إلى المكلّف واطّلاعه عليه. وأمّا إذا وجد وابتلى بنفس ما ابتلي به الحكم الواقعيّ من تعسّر الوصول فحاله حال نفس الحكم الواقعيّ في عدم التنجّز، وعليه فإمّا أن نفرض ـ بقطع النظر عن هذا الحديث ـ وصول إيجاب الاحتياط إلى المكلّف في المرتبة السابقة أو لا، فإن لم يصل إيجاب الاحتياط في المرتبة السابقة فنحن قاطعون بعدم علّة الهلاك، فكيف نستكشف ذلك بالدلالة الالتزاميّة؟ وإن وصل ذلك في المرتبة السابقة فهو المثبت لمدّعى الأخباريّ في المرتبة السابقة على هذا الحديث ولم يبق أثر لهذا الحديث.

واعترض على ذلك بأنّنا نستكشف بالدلالة المطابقيّة للأمر بالوقوف عند الشبهة ـ معلّلاً بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ـ فعليّة الهلكة في حقّ اُولئك الجماعة الذين خاطبهم الإمام(عليه السلام) بهذا الحديث، وبالدلالة الالتزاميّة نستكشف علّة هذه الهلكة، وهي وصول وجوب الاحتياط إليهم، فإذا ثبت وصول وجوب الاحتياط إليهم وجعله في حقّهم ثبت جعله في حقّنا أيضاً؛ لعدم احتمال الفرق بين بعض أفراد المكلّفين وبعض آخر في وجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة وعدمه.

وقد اُجيب على هذا الاعتراض أيضاً. وهنا نذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)فقد أفاد

334

في المقام(1): أنّ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ مقتضى إطلاقالحديث هو فعليّة الهلكة في تمام موارد الشبهة سواء وصل إلى المخاطب وجوب الاحتياط أو لا، وهذا مخصّص بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بخصوص فرض الوصول، والوصول ثابت في موارد العلم الإجماليّ والشبهة قبل الفحص جزماً. وأمّا في الشبهة البدويّة بعد الفحص فقد شككنا في الوصول، وهذا شكّ في مصداق المخصّص، فلا يمكن التمسّك فيه بالعامّ.

أقول: إنّ هذا الجواب إنّما يتمّ لو بنينا على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إطلاقاً كما هو مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله). وأمّا لو بنينا على ما هو الصحيح من التفصيل في ذلك فلا يتمّ هذا الكلام؛ لأنّ هذا المورد من موارد جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ التقريب المشكل عليه بهذا الإشكال إنّما يتمّ في نفسه بناءً على فرض القضيّة خارجيّة لوحظ فيها الأفراد المعيّنون المخاطبون في زمان الإمام(عليه السلام)، وبناءً على هذا الفرض لا يرد هذا الإشكال لجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في القضيّة الخارجيّة المخصّصة بمخصّص لبّيّ على تحقيق وتفصيل لا يسعنا ذكره هنا، وقد مضى في بحث العامّ والخاصّ.

وإذا بطل هذا الجواب وصلت النوبة إلى ما كان قبله من الإشكال من فرض القضيّة خارجيّة، والكشف عن وصول الاحتياط إلى المخاطبين من باب كشف المعلول عن علّته، وعندئذ نقول في مقام إبطال هذا الكلام: إنّ ظاهر القضيّة كونها



(1) لم أرَ أحداً ذكر هذا الكلام في فحصي الناقص، والمحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذكر في مقالاته ـ ج 2، الصفحة 65 ـ تقييد هذه الروايات بروايات البراءة، لا لزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

335

حقيقيّة وموضوعها طبيعيّ المكلّف، كما هو الحال في سائر الخطابات التي تصدر من الإمام(عليه السلام)، وكون القضيّة خارجيّة وخطاباً مخصوصاً بأشخاص معيّنين فيه مؤونة زائدة تحتاج إلى القرينة(1).

والتحقيق: أنّ ما أوردوه من الإشكال على الاستدلال بهذه الأحاديث للاحتياط، من أنّ الأمر بالوقوف عند الشبهة قد فرضت في المرتبة السابقة عليه الهلكة، فلابدّ من فرض منجّز في المرتبة السابقة، كما في موارد العلم الإجماليّ والشبهة قبل الفحص، غير صحيح لا مبنىً ولا بناءً:

أمّا أنّه غير صحيح مبنىً، فلأنّنا لا نقول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا الإشكال مبنيّ على هذه القاعدة، فلو قلنا بدلاً عنها بقاعدة منجّزيّة الاحتمال، فالرواية تكون في مقام تأكيد منجّزيّة الاحتمال، وهذا التأكيد ظاهر عرفاً في أنّه في مقام بيان عدم وجود حاكم على تلك المنجّزيّة، أي: عدم جعل أصل البراءة.

وأمّا أنّه غير صحيح بناءً، فلأنّنا لو سلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان كان بالإمكان ـ مع هذا ـ أن نستفيد من هذه الرواية وجوب الاحتياط؛ لأنّ مثل هذا الكلام ـ بقطع النظر عن الشبهة الفنّيّة، وسوف نحلّها إن شاء الله تعالى ـ بيان عرفيّ مألوف في مقام ذكر الحكم الإلزاميّ، أعني: بيان الحكم الإلزاميّ بلسان بيان ترتّب العقاب على الفعل أو الترك، ومثل هذا اللسان رائج في مقام بيان الأحكام



(1) وبالإمكان أن يقال: إن كان المقصود فرض القضيّة حقيقيّة وغير مخصوصة بأشخاص معيّنين وقد اُخذ في موضوعها قيد الوصول، ورد عليه إشكال لزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة. وإن كان المقصود فرضها خارجيّة، وكون الخطاب مخصوصاً باُناس أحرز المولى الوصول بالنسبة لهم، ورد عليه أنّ حمل الكلام على القضيّة الخارجيّة خلاف الظاهر.

336

الواقعيّة، فمن راجع كتاب ثواب الأعمال وكتاب عقاب الأعمال للصدوق(رحمه الله)رأى أنّه كثيراً مّا يبيّن الحكم الواقعيّ بالحرمة بلسان بيان ترتّب العقاب على الفعل، ولا يعتبر ذلك بياناً مستهجناً، وأيُّ فرق بين بيان الحرمة الواقعيّة للفعل بلسان أنّ هذا الفعل مورد للعقاب، وبيان الحرمة الظاهريّة لاقتحام الشبهة بلسان أنّ اقتحام الشبهة مورد للهلكة؟

نعم، تبقى هنا الشبهة الفنّيّة، وهي أنّ العقاب فرع وصول التكليف، فلو كان وصول التكليف بهذا البيان لزم الدور(1)، وهذه الشبهة كما تجري في باب إيصال الحكم الظاهريّ بوجوب الاحتياط بلسان ترتّب العقاب، كذلك تجري في موارد إيصال الحكم الواقعيّ بالحرمة أو الوجوب بلسان ترتّب العقاب.

والجواب عن هذه الشبهة هو: أنّه تارةً نحمل هذا الحديث على أنّه قضيّة خارجيّة، واُخرى نحمله على أنّه قضيّة حقيقيّة كما هو الظاهر، وعلى كلا التقديرين تكون الشبهة محلولة.

أمّا بناءً على فرضه قضيّة خارجيّة يكون المنظور فيها الأشخاص الحاضرون في ذلك الزمان، فلأنّ وجوب الاحتياط واقعاً يستلزم كون الكثرة الكاثرة من المعاصرين للإمام(عليه السلام) إذا تركوا الاحتياط واقعين في الهلكة والعقاب؛ إذ هم بين من وصله وجوب الاحتياط وبين من لم يصله ذلك من باب الشبهة قبل الفحص، والشبهة قبل الفحص منجّزة. أمّا من لم يصله ذلك حتّى بعد الفحص، فهو في ذاك العصر نادر، وهلاك هذه الكثرة الكاثرة في ترك الاحتياط نتيحة لوجوب الاحتياط واقعاً؛ إذ لو لم يكن واجباً واقعاً لم يكن هلاك وعقاب على التارك منهم



(1) بعد فرض حمل الكلام على معناه الحقيقيّ، لا على معنىً مجازيّ، وهو التحريم دون الإخبار الحقيقيّ عن العقاب.

337

بعد الفحص والظفر بالبراءة وعدم الاحتياط، فوجوب الاحتياط واقعاً يستلزم هلاك الكثرة الكاثرة في ترك الاحتياط، فالإمام(عليه السلام) أراد أن يبيّن وجوب الاحتياط لغير هذه الكثرة الكاثرة بلسان بيان لازمه من ترتّب العقاب؛ لأنّ هذا أبلغ في مقام بيان الزجر والتخويف، وبيان للتكليف متضمّن ـ في نفس الوقت ـ للوعظ. وعين هذا الجواب يأتي في باب بيان الحكم الواقعيّ، حيث الكثرة الكاثرة في ذاك الوقت أمّا أنّهم مطّلعون على ذلك الحكم، أو أنّ شبهتهم تكون من باب الشبهة قبل الفحص، فذلك الحكم يستلزم عقابهم على فرض الترك، ولولا ذلك الحكم لما ترتّب العقاب عليهم في الترك؛ إذ الفاحص يظفر بعدم الحكم، فيبيّن الإمام(عليه السلام) الحكم لغير الكثرة الكاثرة بلسان بيان لازمه من العقاب.

وأمّا بناءً على فرضه قضيّة حقيقيّة فأيضاً لا تأتي هذه الشبهة، ولا يفرّق أيضاً في ذلك بين بيان الحكم الظاهريّ كما هو الحال فيما نحن فيه وبيان الحكم الواقعيّ، وتوضيح ذلك:

إنّ القضيّة الحقيقيّة المبيّنة بلسان ترتّب العقاب حينما تستعمل يكون فيها قيد مستتر ـ بمناسبات الحكم والموضوع في الارتكاز العرفيّ ـ لو أردنا أن نبرزه لكان هكذا: من شرب الخمر مثلاً ـ بعد أن وصله واقع حكم الخمر ـ دخل النار، أو من اقتحم الشبهة ـ بعد أن وصله حكم الشبهة ـ عوقب، فنستكشف من هذه القضيّة الشرطيّة أنّ واقع حكم الخمر، أو حكم الشبهة هو الاجتناب، وإلاّ لكذبت هذه القضيّة الشرطيّة.

ومقصودنا ممّا شرحناه ليست هي البرهنة على أنّ بيان الحكم بلسان بيان العقاب بيان عرفيّ وصحيح، بل هذا ثابت بالفهم العرفيّ لنا، ولا نشكّ فيه، وبعد أن ثبتت عرفيّة البيان أردنا رفع الشبهة بالتقريب الفنّيّ، وذلك يكون بما عرفته من أحد التقريبين، وعرفيّة بيان الحكم بلسان بيان ترتّب العقاب كاشفة عن صحّة أحد هذين التقريبين.

338

هذا. ولا بأس بأن نتكلّم حول هذه الشبهة في ثلاثة فروض وإن لم نكن بحاجة إلى ذلك فيما نحن فيه:

الفرض الأوّل: أن تكون القضيّة خارجيّة، ويكون الأفراد غير واصل إليهم الحكم ولا مقصّرين من ناحية الفحص، وذلك كما لو فرض أنّ تلك القضيّة صادرة من رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأوّل مرّة، وفي هذا الفرض نلتزم بما مضى من الشرط المستتر، وترجع القضيّة من ناحية الشرط إلى القضيّة الحقيقيّة.

الفرض الثاني: أن يوجّه المولى الحكم لأوّل مرّة بنحو القضيّة الخارجيّة إلى شخص معيّن بلسان: إن فعلت كذا لعاقبتك، فإنّ هذا بيان عرفيّ صحيح مع أنّه لا يقدّر عرفاً هنا شرط الوصول، وحلّ المطلب أنّ تحقّق الشرط وهو الوصول محرز هنا بنفس هذا الكلام، ولهذا استغني عنه.

الفرض الثالث: أن يوجّه الكلام بنحو القضيّة الخارجيّة مع وجود الشكّ قبل الفحص المفروض تنجّزه إلى خصوص غير الفاحصين، وعندئذ إن فرض ذلك الكلام مبيّناً للحكم الواقعيّ بلسان ترتّب العقاب فلا إشكال فيه؛ لأنّ وجود الحكم واقعاً مستلزم لثبوت العقاب على هؤلاء، ولولا وجوده واقعاً لم يكن عقاب عليه على هؤلاء، وإن كان عقاب التجرّي ثابتاً فله أن يبيّن الحكم بلسان بيان لازمه. وأمّا إن فرض ذلك الكلام مبيّناً للحكم الظاهريّ بلسان ترتّب العقاب فهنايتركّز الإشكال، ولا يصحّ عنه الجواب؛ إذ إنّ بيان العقاب هنا لا يدلّ على وجوب الاحتياط؛ إذ العقاب على الواقع ـ على تقدير ثبوت الواقع ـ ثابت سواء وجب الاحتياط أو لا؛ لأنّ التارك للفحص عن وجوب الاحتياط يكون الواقع منجّزاً عليه حتّى مع عدم وجوب الاحتياط واقعاً، فقوله: (أيّها التاركون للاحتياط قبل الفحص عن وجوب الاحتياط وعدمه، أنتم تقعون في عقاب الواقع) لا يدلّ على وجوب الاحتياط.

339

 

أخبار التثليث:

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي أخبار التثليث ـ: فالذي عثرنا عليه ثلاث روايات، أو أربع:

الرواية الاُولى: رواية الفقيه عن جميل بن صالح، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):..... ـ وهو كلام طويل يقول في آخره ـ: «الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك (وفي نسخة اُخرى: تبيّن لك) غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله»(1). وسند الرواية غير تامّ، وعلى تقدير تماميّته لا تفيد المقصود، لعدم تماميّة الدلالة؛ وذلك لوجوه:

الأوّل: أنّ من المحتمل ـ إن لم يكن هو الظاهر ـ أن تكون الرواية في مقام بيان إمضاء العقل العمليّ في مستقلاّته، وبيان مبدأ حاكميّة الله في غير المستقلاّت العقليّة، فإنّ الأقسام المذكورة في الرواية ليست هي بيّن الحرمة وبيّن الحلّيّة والمشتبه، بل هي بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه، وعنوان الرشد والغيّ أنسب بباب الحسن والقبح والهداية والضلال منه بباب الحلّ والحرمة بوجودهما الواقعيّ، ولا أقلّ من احتمال ذلك بنحو كاف في إجمال الرواية، فلعلّ المقصود منها أنّه ما استقلّ عقلك برشده وحسنه، كالعدل والأمانة مثلاً فاتّبعه، وما استقلّ عقلك بغيّه وقبحه، كالظلم والخيانة مثلاً فاجتنبه، و ما اختلف فيه، أي: لم يكن من



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 23، ص 118، وللصدوق حديث مرسل عن أمير المؤمنين(عليه السلام)فيه: «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات»، وهو ح 22 من نفس الباب ونفس الصفحة، وح 61 من نفس الباب، ص 121. وراجع أيضاً ح 47 من نفس الباب، ص 124، فإنّه أيضاً من أخبار التثليث وقد مضى جزء منه.

340

مسلّمات العقل العمليّ ولم تدرك حسنه أو قبحه إدراكاً جزميّاً، فردّه إلى الله، بمعنى تحكيم الله فيه في قبال الاعتماد على الذوق والاستحسان والظنون والتخمينات.

الثاني: أنّنا لو سلّمنا أنّ المراد بالرشد والغيّ هو الرشد والغيّ الشرعيّان بمعنى الحكم الشرعيّ، لا بمعنى الحسن والقبح العقليّين، فأيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود؛ إذ من المحتمل كونها بصدد بيان حجّيّة الإجماع وعدم جواز التقليد في المسائل الخلافيّة. وتوضيح ذلك: أنّه في بادئ الأمر يُرى أنّ ما في الحديث من التقسيم إلى بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه غلط؛ إذ لا تقابل بين المختلف فيه وبيّن الرشد والغيّ، فربّ شيء يكون مختلفاً فيه لكنّه بيّن لي رشده من قبيل إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو بيّن لي غيّه من قبيل خلافة الغاصبين، وبما أنّ التقسيم ظاهر في التقابل فلابدّ من إعمال إحدى مؤونتين لتصحيح هذا التقسيم:

الاُولى: حمل الاختلاف على الطريقيّة إلى الشكّ، فكنّى عن الأمر المشكوك بأمر اختلف فيه، من باب أنّ خلافيّة المسألة تصير غالباً منشأً للشكّ.

والثانية: حمل بيّن الرشد وبيّن الغيّ بقرينة جعلهما في مقابل الاختلاف على أمر متّفق على رشده وأمر متّفق على غيّه، فكنّى عن الاتّفاق بالوضوح باعتبار أنّ الاتّفاق يصير منشأً للوضوح، والاستدلال الأخباريّ إنّما يكون له مجال بناءً على الأوّل. وأمّا على الثاني فيصير معنى الحديث أنّه ما حصل الاتّفاق على رشده أو غيّه فاعمل فيه بالإجماع، وما كان مختلفاً فيه فلا تقلّد فيه أحد الطرفين، بل ردّه إلى الله، واستنبط حكمه من الكتاب والسنّة، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، ودوران الأمر بين المؤونتين، وعدم ثبوت ظهور في المعنى الأوّل كاف في سقوط الرواية عن درجة الاستدلال بها.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا تعيّن المؤونة الاُولى وحمل المختلف فيه على المشكوك،

341

قلنا: إنّه لم يعبّر في الحديث ببيّن الحلّ والحرمة ومشكوكهما، وإنّما عبّر ببيّن الرشد والغيّ ومشكوكهما، ومن المعلوم أنّ دليل البراءة حاكم على مثل هذا الكلام؛ إذ قيام الدليل الشرعيّ على البراءة في الشبهة البدويّة كاف في صدق الرشاد، فإنّ سلوك طريق رخّص فيه الشارع رشاد بلا إشكال وليس فيه ضلال، نعم لا يصير المورد بذلك بيّن الحلّ، وفرق بين بيّن الحلّ وبيّن الرشد.

الرواية الثانية: ما رواه نعمان بن بشير الذي هو أحد الصحابة المنحرفين عن الحقّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهذه الرواية مرويّة بصورتين، ولهذا قلنا منذ البدء: إنّ ما عثرنا عليه من الروايات ثلاث أو أربع.

الصورة الاُولى: أنّه قال هذا الصحابيّ: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه»(1).

الصورة الثانية: عن النعمان بن بشير، حيث صعد على المنبر في الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات»(2).

وعلى أيّة حال، فهذه الرواية عاميّة بحسب أصلها؛ لأنّ النعمان بن بشير هو من



(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 12 من صفات القاضي، ح 7، ص 190، مرسلة عوالي اللآلي عن النعمان بن بشير.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 40، ص 122، وجامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 43، ص 334 وفق الطبعة الحديثة.

342

رجالات أحاديث السنّة، وهذه الرواية عندنا منقولة إمّا مرسلة، كما في عوالي اللآلي، فإنّه يرسلها عنه، ولابدّ أن يكون قد أخذها من كتب العامّة، وإمّا بنحو منقطع(1)، فالأصل في هذه الرواية هو كتب العامّة، وقد وقع في هذه الرواية اختلاف عمّا هي عليه في كتب العامّة، فإنّي راجعت كتاب البخاريّ فرأيت هذه الرواية فيه بسند متّصل عن النعمان بن بشير هكذا: سمعته يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا إنّ حمى الله ـ تعالى ـ محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، فإذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب».

وكذلك ينقله البخاريّ أيضاً بسند آخر عنه، يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما اُمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم (أو ما اشتبه عليه من الإثم) كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه».

نعم، في مسند أحمد بن حنبل وجدت الرواية بنحو التنكير: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، من ترك الشبهات فهو للحرام أترك، ومحارم الله حمى، فمن وقع حول الحمى كان قميناً أن يرتع فيه».



(1) كأنّه إشارة إلى سند المتن الثاني، وهو الحسن بن محمّد الطوسيّ، عن أبيه، قال: أخبرنا أبو الحسن (عليّ بن أحمد الحماميّ)، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زياد القطان، قال: حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن أبي كثير القاضي أبو يعقوب القسويّ، قال: أخبرنا عليّ بن إبراهيم، قال: أخبرنا السريّ بن عامر، قال: صعد النعمان بن بشير على المنبر بالكوفة فحمد الله وأثنى عليه....

343

هذا. والمستفاد من المتن الثاني الذي نقلناه عن البخاريّ وإن كان هو إرادة الشكّ من الشبهات، لكن هذا بلحاظ باقي نسخ الرواية غير معلوم، بل تعريف الحلال والحرام ـ أي: ذكرهما مع اللام ـ يشهد للخلاف، فإنّه إذا كان الحلال بيّناً والحرام بيّناً ـ كما هو مفروض الرواية، ولعلّه بلحاظ عصر التشريع الذي لا إشكال في أنّ هذا الوضوح كان ثابتاً فيه ـ فما معنى فرض شبهات بينهما لا يعلمها كثير من الناس على حدّ تعبير المتن الأوّل للحديث الذي نقلناه عن البخاريّ؟ فإنّ هذا خلف فرض وضوح كلّ من الحلال والحرام، وحلّ هذا التناقض يكون بإبداء احتمال أن يكون المراد بالشبهات المعنى الذي تقدّم في أخبار التوقّف، وهو الأمثال والأشباه، فكأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يقسّم الحكم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: الحلال بمعنى الرخصة ولو فرضت مقرونة مع نهي تنزيهيّ.

والثاني: الحرام.

وهذان الأمران ـ أعني: الرخصة والنهي التحريميّ ـ بيّنان.

والثالث: ما يكون بحسب الثبوت مرتبة ثالثة متوسّطة، وهو النهي التنزيهيّ، وذلك لا يعلمه كثير من الناس؛ لعدم الاهتمام وتوفّر الدواعي بالنسبة له، كما في الرخصة والنهي التحريميّ، وارتكاب هذا القسم وإن كان بما هو هو ليس فيه محذور نفسيّ لأنّه ليس حراماً، لكن من ارتكبه أوشك أن يقع في الحرمات باعتبار أنّ ارتكاب المكروهات يوجب التجرّي على المحرّمات وقسوة القلب وعدم الخضوع للنواهي الشرعيّة، فيشبّه بالراعي حينما يرعى حول الحمى فيوشك أن يقع في الحمى، وبناءً على هذا التفسير تكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام.

هذا وإذا أخذنا الحديث بالنحو الموجود في مصادر أصحابنا، أي: أنّه فرضنا كلمة الحلال والحرام منكّرة وبدون اللام، ونزّلنا الحديث على التقسيم الثلاثيّ للوقايع إلى معلوم الحلّيّة، ومعلوم الحرمة، ومشكوكهما، كما أنّ المتن الثاني الذي نقلناه عن

344

البخاريّ يستفاد منه ذلك رغم اللام، قلنا: إنّه مع هذا لا يرتبط الحديث بما نحن فيه.

وليس الوجه في كلامنا هذا ما قد يتراءى في بادئ النظر من أنّ صيغة الحديث تختلف أساساً عن الصورة المعطاة من قبل الأخباريّ للمطلب؛ إذ بناءً على قول الأخباريّ يكون حمى الله مركّباً من قسمين: معلوم الحرمة، ومشكوكها؛ لأنّ مشكوكها أيضاً يصبح حراماً بناءً على القول بوجوب الاحتياط، فالشبهات بما هي شبهات تكون داخلة في حمى الله، كشرب الخمر مثلاً، غاية الأمر أنّ مثل شرب الخمر حرام بالحرمة الواقعيّة، واقتحام الشبهة حرام بالحرمة الظاهريّة، والصورة المعطاة من قبل الحديث تناقض ذلك، فإنّ الحمى لم يفرض فيه مشتملاً على الشبهات بما هي شبهات، وإلاّ لم يكن معنىً لفرض أنّ من ارتكب الشبهات قد يقع في الحمى والمعصية وقد لا يقع، وإيجاب الاحتياط حول الحمى خلف؛ إذ بمجرّد إيجابه يدخل في نفس الحمى، ويخرج عن كونه حول الحمى.

أقول: ليس الوجه في منع دلالة الحديث على المقصود هو هذا البيان، فإنّ هذا يرد عليه: إنّ القول بوجوب الاحتياط وتحريم الاقتحام في الشبهة لا يحتّم اعتبار الشبهات داخلة في دائرة الحمى، بحيث يكون الحمى مركّباً من قسمين: من المحرّمات المعلومة، ومن المشتبهات بما هي مشتبهات؛ وذلك لما حقّقنا في محلّه من أنّ إيجاب الاحتياط ليس في الحقيقة إلاّ عبارة عن إبراز المولى بصورة عرفيّة لشدّة اهتمامه بمحرّماته الواقعيّة بحيث لا يرضى باقتحامها ولو في حال الشكّ، فإذا فرض أنّ المولى جعل لنفسه حمىً وهو المحرّمات الواقعيّة، وأبرز شدّة اهتمامه بهذا الحمى بحيث لا يرضى باقتحامه حتّى في حال الشكّ، فحكم العقل بالاحتياط في المورد الذي يشكّ في كونه داخلاً في الحمى، فهذا ليس معناه توسعة دائرة الحمى حتّى يقال: إنّ هذا خلف مفروض الرواية؛ إذ المفروض فيها الحمى هو خصوص المحرّمات الواقعيّة لا المشتبهات.

345

وإنّما الوجه فيما ذكرناه هو أنّ الصورة المعطاة من قبل الحديث للمطلب تختلف أساساً عن الصورة المعطاة من قبل الأخباريّ له، وذلك بتقريب آخر، وهو أنّ الذي يلزم على قول الأخباريّ هو أنّ حمى الله عبارة عن محارمه الواقعيّة سواء كانت معلومة أو مشكوكة، وخارج الحمى عبارة عن الحلال الواقعيّ، والمشتبه مردّد أمرهُ بين كونه من الحمى أو من خارج الحمى، فلابدّ من الاجتناب عنه خوفاً من الوقوع في الحمى باعتبار كونه في الواقع داخلاً في الحمى.

وأمّا الصورة الموجودة في الرواية فهي: أنّ هناك حمىً، وهناك أشياءً خارجة عن الحمى، وهي على قسمين بعضها بعيد عن الحمى وهو الحلال البيّن، وبعضها قريب من الحمى وهو المشتبهات، ولذا سمّيت في الروايات المشتبهات بما حول الحمى، وفرض في مسند أحمد بن حنبل الشبهات غير الحرام فقال: «من ترك الشبهات فهو للحرام أترك»، وأين هذا من الصورة التي تناسب القول بوجوب الاحتياط؟ وإنّما تناسب هذه الصورة فرض اختصاص الحمى بخصوص المحرّمات المعلومة، وأنّ الشبهات قريبة من الحمى باعتبار قرب الشكّ من العلم، والنهي عن ارتكاب المشكوك لئلاّ يتجرّأ الإنسان على المعلوم، وبما أنّ ظاهر هذا النهي هو كونه بعنوان التحفّظ من قِبل نفس العبد، فهو يختصّ بخصوص ما لو احتمل العبد منشئيّة اقتحام الشبهات لاقتحام المحرّمات، وفي مثل هذا الفرض لا بأس بالقول بوجوب الاجتناب بحكم العقل عن المشتبه، سواء استظهرنا وجوب ذلك من الرواية أو لا(1).

 


(1) نقل عن الإمام الخمينيّ(رحمه الله) في تهذيب الاُصول ـ ج 2، ص 260 ـ حمل مثل هذا الحديث على الاستحباب؛ للعلم بعدم حرمة رعي الغنم حول الحمى، وإنّما الحرام رعيه داخل الحمى، بل جعله قرينة على حمل باقي روايات الاحتياط ـ لو تمّت في نفسها ـ

346

الرواية الثالثة: ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة(1) التي فرض فيها روايتين متعارضتين، فبيّن الإمام(عليه السلام)المرجّحات لإحداهما على الاُخرى حتّى انتهى إلى الترجيح بالشهرة، وقد بيّنّا في بحث حجّيّة الشهرة أنّ المراد بالشهرة في هذه الرواية هي الشهرة الروائيّة، ثمّ عللّ ذلك بقوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بمعنى أنّ الرواية المجمع على روايتها لا ريب فيها، ولم يصرّح بحال الرواية الاُخرى الشاذّة، إلاّ أنّنا ذكرنا أيضاً في بحث الشهرة: أنّ الرواية الاُخرى تكون ممّا فيها الريب، لا أنّها ممّا لا ريب في بطلانها، ثمّ قال(عليه السلام): «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فمتّبع، وأمر بيّن غيّه فمجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله»، فالرواية المشهورة ممّا لا ريب فيها، والرواية الاُخرى من الأمر المشكل لا ممّا لا ريب في غيّها وبطلانها؛ لأنّ غاية ما تستدعيه شهرة رواية مّا هو القطع بصدروها من الإمام، لا قطعيّة تمام جهاتها دلالة وجهة وسنداً، فيبقى احتمال صحّة الرواية الاُخرى ثابتاً، وتكون الرواية مشكلة لا معلومة البطلان، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُخرى لو كانت معلومة البطلان، والرواية الاُولى المشهورة معلومة الرشد


على الاستحباب. أقول: غاية ما يمكن أن يقال في المقام: إنّ هذه الرواية لم تدلّ على الوجوب؛ لأنّها نظرت إلى الشبهات بلحاظ كونها حمىً للمحرّمات، وهذا لحاظ لا يوجب الوجوب مثلاً. أمّا فرض الوجوب في قسم من الشبهات وهي الحكميّة التحريميّة من زاوية احتمال الحرمة فيها، فهو غير منفيّ بها كي تصبح قرينة على حمل غيرها على الاستحباب.

(1) التهذيب، ج 6، ح 845، ص 301 ـ 303، والفقيه، ج 3، ح 18، ص 6، واُصول الكافي، ج 1، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح 10، ص 67 ـ 68.

347

والصحّة لم يحتج الإمام(عليه السلام) إلى الاستشهاد بالنبويّ؛ لأنّ ما هو معلوم البطلان وما هو معلوم الصحّة لا يحتاج في مقام بيان ما يؤخذ منهما إلى الاستشهاد بالحديث؛ إذ ذلك من القضايا التي قياساتها معها، في حين أنّ الإمام(عليه السلام)استشهد في المقام بالنبويّ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم».

والتثليث في هذه الرواية مذكور مرّتين: مرّة في كلام الإمام(عليه السلام)، ومرّة في الكلام الذي نقله عن النبيّ(صلى الله عليه وآله).

أمّا التثليث المذكور في كلام الإمام(عليه السلام) وهو قوله: «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فمتّبع، وأمر بيّن غيّه فمجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله»، فهنا قد فرض موضوعات ثلاثة، وجعل لها أحكاماً ثلاثة، وظاهر التقابل هو أنّ هذه الموضوعات متقابلة بحسب أحكامها، فكلّ واحد منها يختصّ بحكم غير حكم الآخر، ولو فسّرنا الردّ إلى الله تعالى ـ الذي هو حكم القسم الثالث، وهو الأمر المشكل ـ بمعنى الترك والاجتناب ـ وهوالمطابق لقول الأخباريّ ـ لكان ذلك عين حكم القسم الثاني، فنعرف أنّ المراد من ذلك ليس هو الاجتناب، بل التوقّف باعتبار أنّ الأمر المشكل له وجهان، فلا يؤخذ بأيّ واحد منهما؛ لأنّ الأخذ بأيّ واحد منهما أخذ بغير حجّة، وهو غير جائز، وهذا السياق كلّه ليس وارداً في معلوم الحلّيّة ومعلوم الحرمة ومشكوكهما، بل وارد في الدلالات والروايات، كما يناسب التطبيق على الروايتين المتعارضتين، فالمقصود: أنّ الدلالة على ثلاثة أقسام: دليل بيّن الصحّة فيتّبع، والتعبير بالاتّباع لا يناسب الحكم، فإنّه لا معنى لاتّباع معلوم الحلّيّة، بل يناسب باب الدلالة والأماريّة، ودليل بيّن البطلان فيجتنب، ودليل ملتبس فيردّ إلى الله ـ أي: لا يؤخذ باحتمال صحّته ولا باحتمال

348

عدم صحّته ـ وهذا مطلب صحيح لا نزاع فيه، ولا علاقة للحديث بما نحن فيه، فإنّه إنّما هو بصدد بيان أنّ الأمر المشكل ذا الوجهين لا يجوز الاعتماد على أحد وجهيه، ونحن أيضاً نقول بهذا المطلب، ونحن حينما نحكم في الشبهات البدويّة بالحلّ لا نحكم به اعتماداً على احتمال الحلّ في قبال احتمال الحرمة، بل نحكم به استناداً إلى (رفع ما لا يعلمون) ونحوه من الأدلّة.

وأمّا التثليث المذكور في كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي استشهد الإمام(عليه السلام)به، فظاهره أنّ نظره في الاستشهاد يكون بلحاظ الأمر البيّن المشكل؛ إذ الأمر الرشد أو الغيّ لا حاجة في معرفة حكمه إلى الاستشهاد بحديث النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وبهذا يتّضح أنّ هذا التثليث أيضاً لا يفيدنا؛ لأنّ المقصود بترك الشبهات في قوله: «مَن ترك الشبهات نجى من المحرّمات» ليس هو الترك عملاً كما يريده الأخباريّ، وإلاّ لم يطابق حكم القسم الثالث في كلام الإمام الذي هو التوقّف، فلا يناسب الاستشهاد به، بل المراد بترك الشبهة هو ترك الأخذ بالدلالة المشتبهة، فيرجع إلى نفس ما قلناه في تفسير كلام الإمام(عليه السلام)، ويؤيّد ذلك قوله: «ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» حيث عبّر بالأخذ بالشبهة وهو غير ارتكاب الشبهة، فإنّ التعبير بالأخذ يناسب باب الاستدلال والاعتماد.

ثمّ إنّه من العجيب ما يدّعى في الكتب الاُصوليّة من أنّ أخبار التثليث لا تحتاج إلى مراجعة أسنادها؛ لأنّها بالغة حدّ التواتر أو ما يشبه التواتر، مع أنّه لا يوجد لدينا خبر يدلّ على التثليث إلاّ عن ثلاثة فقط: أحدهم نعمان بن بشير المقطوع فساده، والآخر عمر بن حنظلة الذي هو محلّ الكلام والبحث في وثاقته وعدم وثاقته، والخبر الآخر ضعيف سنداً، وكأنّ هذا التوهّم نشأ ـ بعد فرض عدم مراجعة مصادر الرواية ـ من كثرة ذكر حديث التثليث في كتب الاُصول، وكثيراً مّا ينشأ مثل هذه الدعاوى من عدم مراجعة مصادر الرواية، فينبغي مراجعتها حتّى لا يقع الإنسان في مثل هذا الاشتباه.

349

 

الأمر بالاحتياط في وقائع معيّنة:

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الآمرة بالاحتياط في وقائع معيّنة ـ: فيمكن إدراج روايتين تحت هذا العنوان:

الرواية الاُولى: رواية عبد الله بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح: (يتوارى عنّا القرص، ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً، ويستر عنّا الشمس، ويرتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذّن عندنا المؤذّن، فاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً، أو انتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟) فكتب: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك»(1).

وظاهرالسؤال في هذه الرواية أنّ إشكال السائل في دخول وقت الصلاة والإفطار كان من ناحية هذه الحمرة المرتفعة فوق الجبل، وهذه الحمرة التي صارت منشأً للسؤال فيها احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة التي يبتدئ بها الشفق المقارنة لآخر وجود قرص الشمس، فإنّ قرص الشمس بعد أن يفقد صولته يحاط بلون من النور الباهت، وهذا اللون من النور يسمّى بالحمرة، فهذا السائل رأى حمرة مرتفعة فوق الجبل بعد أن فقد قرص الشمس، فاحتمل أن تكون هذه الحمرة حمرة موجودة بتبع وجود قرص الشمس خلف الجبل، وأنّه إنّما لا يرى قرص الشمس باعتبار مانعيّة الجبل عن رؤيته، وهذا الاحتمال منطبق على عبارة السؤال في الرواية انطباقاً تامّاً، حيث إنّه فرض في السؤال وجود الجبل، ولا ترى



(1) الوسائل، ج 3، ب 16 من المواقيت، ح 14، ص 129، وجاء مختصر منه فيج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 37، ص 122.

350

لفرض وجود الجبل نكتة أحسن من احتمال وجود الشمس خلفه، ولو فرض أنّ المراد بالحمرة هي الحمرة المشرقيّة مثلاً، فهذا لا يفرّق فيه بين الأرض المسطّحة والأرض التي فيها جبل، وكيفيّة التعبير عن غيبوبة القرص أيضاً تناسب هذا الاحتمال، حيث فرض أنّه يتوارى عنّا القرص ويستر عنّا الشمس، ولم يفرض تواري القرص في نفسه واستتاره، وهذا التعبير يناسب الشكّ في أنّ الاستتار هل هو لحائل، أو أنّه استتار في نفسه. وليس مقصودي أنّ هذا التناسب أوجد ظهوراً للكلام في كون المقصود الشكّ في حقيقة الاستتار دون فرض العلم بكونه استتاراً في نفسه، وإنّما المقصود مجرّد أنّ هذا التعبير يلائم هذا الاحتمال تمام الملائمة.

إلاّ أنّ العبارة التي قد يقال: إنّها لا تنسجم مع هذا الاحتمال هي قوله: (ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً)؛ إذ مع إقبال الليل وزيادته ارتفاعاً كيف يفرض الشكّ في غروب القرص؟

إلاّ أنّ عدم انسجامها مبنيّ على أن يراد بالليل في المقام الزمان. أمّا لو فرض أنّه كنّى عن الظلمة بالليل خصوصاً باعتبار احتمال كون هذه الظلمة ظلمة ليليّة، فهذا التعبير تعبير عرفيّ في المقام، ومنسجم مع ما ذكرناه من الاحتمال.

وبناءً على هذا الاحتمال يكون المورد مورد أصالة الاشتغال واستصحاب عدم دخول الوقت، ويكون الاحتياط على القاعدة، والشبهة تكون موضوعيّة.

الاحتمال الثاني: أن تكون هذه الحمرة عبارة عن الحمرة المغربيّة، فكأنّ السائل يحتمل أنّ صلاة المغرب لابدّ في دخول وقتها من زوال الحمرة المغربيّة، كما يقول بذلك الخطّابيّون. وعلى هذا الاحتمال لابدّ من ردّ الرواية إلى أهلها؛ لأنّها تكون إمضاءً بوجه من الوجوه ـ إمّا بلحاظ الحكم الواقعيّ، أو بلحاظ الحكم الظاهريّ ـ لعمل الخطّابيّين من الانتظار إلى ذهاب الحمرة المغربيّة، وبطلان هذا المطلب من ضروريّات الفقه، وقد جاء في الروايات العديدة والصحيحة سنداً التبرّي واللعن بالنسبة لهم على مثل هذه البدع.

351

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة المشرقيّة، ويفرض الجبل في جهة المشرق، والسائل احتمل أنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، كما احتمل أنّ الوقت يدخل بمجرّد غروب الشمس.

وعلى هذا قد يقال: إنّ هذا الجواب لابدّ من الالتزام بحمله على غير محمل الجدّ؛ إذ لو كانت غيبوبة القرص كافية في المقام فلماذا يأمر الإمام(عليه السلام) بالانتظار؟ ولو لم تكن كافية بل لابدّ من ذهاب الحمرة المشرقيّة ـ كما عليه مشهور الإماميّة ـ فلماذا يأمر(عليه السلام)بالاحتياط وهو العالم بتمام الأحكام وقد استفتي في الشبهة الحكميّة؟

ومن هنا يتعيّن حمله على أنّه يريد بيان وجوب الانتظار، وأنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، لكن حيث إنّ هذا المطلب خلاف رأي علماء السنّة بيّنه في صيغة الاحتياط لتخفّ فيه التبعة، ويتخلّص بذلك من محذور المخالفة. فأصل الفتوى بلزوم الانتظار جدّيّ، لكن بيانه بلسان الاحتياط غير جدّيّ، وعليه فيسقط الاستدلال بالرواية.

لكنّ الصحيح أنّ هذه الرواية بناءً على أن يكون النظر فيها إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة لا ينحصر توجيهها بهذا المطلب، بل يمكن أيضاً توجيهها بحيث تكون جدّيّة بتمام المعنى. وتوضيح ذلك: أنّ في باب دخول الوقت احتمالات:

1 ـ أن يكون مناط دخول الوقت هو غياب القرص، كما صرّح بذلك في بعض الروايات الصحيحة.

2 ـ أن يكون مناطه غياب الحمرة المشرقيّة.

3 ـ أن يكون المناط الواقعيّ غياب القرص، ولكن ذهاب الحمرة المشرقيّة معرّف لغياب القرص وكاشف عنه، والكاشفيّة هنا تتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون الكاشف مساوياً للمنكشف وملازماً له، بأن نفرض أنّ المناط هو غياب القرص عن بلدتي وعن تمام البلاد، أو قطعات الأرض الواقعة بعدها في حركة غروب الشمس إلى قطعة أرضيّة يكون غروب الشمس فيها مساوياً زماناً

352

لذهاب الحمرة عن بلدي، وحيث إنّ تلك القطعة الأرضيّة غير متعيّنة جعل الشارع معرّفاً مساوياً لغروب الشمس عنها، وهو ذهاب الحمرة عن بلدي، وهذه المعرّفيّة واقعيّة ولا تستبطن أيّ حكم ظاهريّ واحتياط.

الثاني: أن يكون الكاشف أخصّ من المنكشف، وذلك بأن يكون المناط غياب القرص عن منطقة محدودة في علم الله ـ تعالى ـ مهما ذهبت الحمرة في بلدنا فقد غاب القرص عن تلك المنطقة حتماً، ولكن قد يغيب عن تلك المنطقة قبل حصول هذا الكاشف، فيكون ذلك معرّفاً ظاهريّاً واحتياطيّاً، فالشارع أوجب الاحتياط بالعمل بهذا المعرّف، ورفض أيّ معرّف آخر ما لم يوجب القطع، وهذا الاحتمال عليه عدّة شواهد من الروايات، ولعلّه يصير وجه التقاء ما بين القولين، ووجه جمع ما بين الطائفتين. فبناءً على هذا الاحتمال نفهم معنى الاحتياط في الحديث بنحو لا يحمل على التقيّة، وتفصيل المطلب من الناحية الفقهيّة موكول إلى الفقه.

ومقصودنا هنا أنّه بناءً على هذا أيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود، والشبهة في مورد الرواية موضوعيّة، ولم يقل أحد في الشبهة الموضوعيّة بالاحتياط، والاحتياط في الحديث يكون على القاعدة؛ لأصالة الاشتغال واستصحاب عدم الوقت، ولا يتعدّى من مورد الحديث إلى الشبهة البدويّة في التكليف، ولا يقال: إنّ الخصوصيّة الموجودة في المقام وهي ثبوت الاستصحاب وأصالة الاشتغال إنّما هي خصوصيّة فنّيّة، وأمّا العرف ـ بما هو عرف ـ فحينما يسمع هذا الكلام يلغي خصوصيّة المورد ويتعدّى إلى تمام موارد الشبهة، فإنّ لحاظ العرف لخصوصيّة قاعدة الاشتغال عند العلم به والشكّ في الفراغ واضح، فهو في مورد البراءة العقليّة، أعني: أوامر الموالي العرفيّة يحكم لدى الشكّ في الفراغ لا في التكليف بالاحتياط لا البراءة.

الرواية الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج حيث سئل الإمام(عليه السلام) أنّ شخصين محرمين اصطادا، فهل كفّارة الصيد عليهما بالاشتراك، أو أنّ كلاًّ منهما

353

عليه كفّارة مستقلّة، فأجاب(عليه السلام): (أنّ على كلّ منهما كفّارة مستقلّة)، ثمّ يقول له السائل: إنّي سئلت عن هذا ولم أدرِ ما اُجيب، فقال الإمام(عليه السلام): «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا أو تعلموا»(1).

والفقرة التي هي محلّ الاستدلال هي الجملة الأخيرة، بناءً على أن يكون المشار إليه في قوله: «إذا أصبتم بمثل هذا» واقعة الصيد التي كانت شبهة من الشبهات بتقريب أنّه(عليه السلام)حكم بوجوب الاحتياط على عنوان «مثل هذا»، فجعل الضابط كون الأمر مثل هذه الواقعة، و عندئذ فلابدّ من فرض قدر مشترك بين واقعة الصيد والوقائع الاُخرى التي يجب فيها الاحتياط بحكم هذا الحديث، وهذا القدر المشترك لابدّ أن يتوفّر فيه أمران:

الأوّل: أن يكون هذا القدر المشترك عرفيّاً وواقعاً تحت اللحاظ العرفيّ؛ لأنّ الإمام(عليه السلام)في مقام بيان الضابط لوجوب الاحتياط، ولا محالة يكون في مقام بيان ذلك على وجه عرفيّ كما هو الحال في كلّ بياناته(عليه السلام)، وكون هذا البيان عرفيّاً فرع أن يكون ذلك القدر المشترك المنظور له(عليه السلام)واقعاً تحت اللحاظ العرفيّ، أي: لا يكون قدراً مشتركاً لا يلتفت إليه إلاّ بالعناية والتأمّل، وإلاّ لم يكن بياناً عرفيّاً، وظاهر الكلام أنّه في مقام البيان العرفيّ، فمثلاً إبداء احتمال أن يكون المقصود من مثل هذه الشبهة: الشبهة التي يدور الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر ـ كما هو الحال في هذا المورد؛ لدوران الأمر بين وجوب كفّارة تامّة على كلّ واحد منهما أو نصف كفّارة ـ ينفى بما ذكرناه؛ لأنّه ليس جامعاً يلتفت إليه العرف بلا عناية، فلا يحتمل كونه المقصود من كلمة «مثل هذا» في المقام.

الثاني: أن يكون هذا الضابط والقدر المشترك ممّا يناسب ـ بلحاظ مناسبات



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 1، ص 111 ـ 112، و ج 9، ب 18 من كفّارة الصيد، ح 6، ص 210.

354

الحكم والموضوع المركوزة في ذهن أهل العرف ـ كونه بما هو موضوعاً لوجوبالاحتياط، ويكون منسجماً مع المناسبات الارتكازيّة، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تحكم على الظهورات اللفظيّة، فتقيّد وتوسّع وتعيّن، فمثلاً ينتفي بهذا احتمال أن يكون الضابط والقدر المشترك هو أحكام الصيد أو أحكام الكفّارة.

وبعد الالتفات إلى هذين الأمرين يقال: إنّ الضابط الواجد لكلا الأمرين هو عنوان (الشبهة الحكميّة). فبهذا التقريب يصبح الحديث دالّاً على المدّعى.

ولكنّ الصحيح: عدم تماميّة الاستدلال بالرواية في المقام؛ لأنّ المشار إليه بقوله: «بمثل هذا» إمّا واقعة الصيد، وإمّا واقعة الحكم المسؤول عنه، فإن فرض الثاني ـ وليس احتماله أبعد من الأوّل إن لم يكن أقرب باعتبار تأخّر هذه الواقعة ذكراً عن الواقعة الاُولى ـ فمن الواضح كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّها عندئذ تكون آمرة بالاحتياط لمن سئل عن حكم ولم يعلم به. ومعنى أمره بالاحتياط هو أمره بما هو مسؤول عنه بالاحتياط ـ أي: نهيه عن القول بغير علم ـ ولا إشكال في حرمة القول بغير علم واشتراط جواز الإفتاء بالعلم.

وإن فرض الأوّل، فالرواية وإن دلّت على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة بالتقريب الذي بيّنّاه لكنّها بقرينة قوله: «حتّى تسألوا وتعلموا» تكون ناظرة إلى موارد الشكّ قبل الفحص مع التمكّن من العلم، حيث إنّ ظاهر جعل السؤال والعلم غاية للاحتياط، هو كون المورد مورداً يترقّب فيه حصول العلم، ويكون مورداً قبل السؤال، ولا إشكال في وجوب الاحتياط في الشبهة قبل الفحص.

هذا تمام كلامنا في دلالة روايات الاحتياط. وأكثر ما استدلّ بها على الاحتياط ممّا وقفنا عليه ضعيفة سنداً، وكلّها غير تامّة دلالة، ولعلّ بعض الروايات التي ذكرت في المقام من المضحك الاستدلال بها.