339

 

أخبار التثليث:

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي أخبار التثليث ـ: فالذي عثرنا عليه ثلاث روايات، أو أربع:

الرواية الاُولى: رواية الفقيه عن جميل بن صالح، عن أبي عبد الله(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):..... ـ وهو كلام طويل يقول في آخره ـ: «الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر بيّن لك (وفي نسخة اُخرى: تبيّن لك) غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله»(1). وسند الرواية غير تامّ، وعلى تقدير تماميّته لا تفيد المقصود، لعدم تماميّة الدلالة؛ وذلك لوجوه:

الأوّل: أنّ من المحتمل ـ إن لم يكن هو الظاهر ـ أن تكون الرواية في مقام بيان إمضاء العقل العمليّ في مستقلاّته، وبيان مبدأ حاكميّة الله في غير المستقلاّت العقليّة، فإنّ الأقسام المذكورة في الرواية ليست هي بيّن الحرمة وبيّن الحلّيّة والمشتبه، بل هي بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه، وعنوان الرشد والغيّ أنسب بباب الحسن والقبح والهداية والضلال منه بباب الحلّ والحرمة بوجودهما الواقعيّ، ولا أقلّ من احتمال ذلك بنحو كاف في إجمال الرواية، فلعلّ المقصود منها أنّه ما استقلّ عقلك برشده وحسنه، كالعدل والأمانة مثلاً فاتّبعه، وما استقلّ عقلك بغيّه وقبحه، كالظلم والخيانة مثلاً فاجتنبه، و ما اختلف فيه، أي: لم يكن من



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 23، ص 118، وللصدوق حديث مرسل عن أمير المؤمنين(عليه السلام)فيه: «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات»، وهو ح 22 من نفس الباب ونفس الصفحة، وح 61 من نفس الباب، ص 121. وراجع أيضاً ح 47 من نفس الباب، ص 124، فإنّه أيضاً من أخبار التثليث وقد مضى جزء منه.

340

مسلّمات العقل العمليّ ولم تدرك حسنه أو قبحه إدراكاً جزميّاً، فردّه إلى الله، بمعنى تحكيم الله فيه في قبال الاعتماد على الذوق والاستحسان والظنون والتخمينات.

الثاني: أنّنا لو سلّمنا أنّ المراد بالرشد والغيّ هو الرشد والغيّ الشرعيّان بمعنى الحكم الشرعيّ، لا بمعنى الحسن والقبح العقليّين، فأيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود؛ إذ من المحتمل كونها بصدد بيان حجّيّة الإجماع وعدم جواز التقليد في المسائل الخلافيّة. وتوضيح ذلك: أنّه في بادئ الأمر يُرى أنّ ما في الحديث من التقسيم إلى بيّن الرشد، وبيّن الغيّ، والمختلف فيه غلط؛ إذ لا تقابل بين المختلف فيه وبيّن الرشد والغيّ، فربّ شيء يكون مختلفاً فيه لكنّه بيّن لي رشده من قبيل إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، أو بيّن لي غيّه من قبيل خلافة الغاصبين، وبما أنّ التقسيم ظاهر في التقابل فلابدّ من إعمال إحدى مؤونتين لتصحيح هذا التقسيم:

الاُولى: حمل الاختلاف على الطريقيّة إلى الشكّ، فكنّى عن الأمر المشكوك بأمر اختلف فيه، من باب أنّ خلافيّة المسألة تصير غالباً منشأً للشكّ.

والثانية: حمل بيّن الرشد وبيّن الغيّ بقرينة جعلهما في مقابل الاختلاف على أمر متّفق على رشده وأمر متّفق على غيّه، فكنّى عن الاتّفاق بالوضوح باعتبار أنّ الاتّفاق يصير منشأً للوضوح، والاستدلال الأخباريّ إنّما يكون له مجال بناءً على الأوّل. وأمّا على الثاني فيصير معنى الحديث أنّه ما حصل الاتّفاق على رشده أو غيّه فاعمل فيه بالإجماع، وما كان مختلفاً فيه فلا تقلّد فيه أحد الطرفين، بل ردّه إلى الله، واستنبط حكمه من الكتاب والسنّة، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، ودوران الأمر بين المؤونتين، وعدم ثبوت ظهور في المعنى الأوّل كاف في سقوط الرواية عن درجة الاستدلال بها.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا تعيّن المؤونة الاُولى وحمل المختلف فيه على المشكوك،

341

قلنا: إنّه لم يعبّر في الحديث ببيّن الحلّ والحرمة ومشكوكهما، وإنّما عبّر ببيّن الرشد والغيّ ومشكوكهما، ومن المعلوم أنّ دليل البراءة حاكم على مثل هذا الكلام؛ إذ قيام الدليل الشرعيّ على البراءة في الشبهة البدويّة كاف في صدق الرشاد، فإنّ سلوك طريق رخّص فيه الشارع رشاد بلا إشكال وليس فيه ضلال، نعم لا يصير المورد بذلك بيّن الحلّ، وفرق بين بيّن الحلّ وبيّن الرشد.

الرواية الثانية: ما رواه نعمان بن بشير الذي هو أحد الصحابة المنحرفين عن الحقّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهذه الرواية مرويّة بصورتين، ولهذا قلنا منذ البدء: إنّ ما عثرنا عليه من الروايات ثلاث أو أربع.

الصورة الاُولى: أنّه قال هذا الصحابيّ: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه»(1).

الصورة الثانية: عن النعمان بن بشير، حيث صعد على المنبر في الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات»(2).

وعلى أيّة حال، فهذه الرواية عاميّة بحسب أصلها؛ لأنّ النعمان بن بشير هو من



(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 12 من صفات القاضي، ح 7، ص 190، مرسلة عوالي اللآلي عن النعمان بن بشير.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 40، ص 122، وجامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 43، ص 334 وفق الطبعة الحديثة.

342

رجالات أحاديث السنّة، وهذه الرواية عندنا منقولة إمّا مرسلة، كما في عوالي اللآلي، فإنّه يرسلها عنه، ولابدّ أن يكون قد أخذها من كتب العامّة، وإمّا بنحو منقطع(1)، فالأصل في هذه الرواية هو كتب العامّة، وقد وقع في هذه الرواية اختلاف عمّا هي عليه في كتب العامّة، فإنّي راجعت كتاب البخاريّ فرأيت هذه الرواية فيه بسند متّصل عن النعمان بن بشير هكذا: سمعته يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألا إنّ حمى الله ـ تعالى ـ محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة، فإذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب».

وكذلك ينقله البخاريّ أيضاً بسند آخر عنه، يقول: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما اُمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم (أو ما اشتبه عليه من الإثم) كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه».

نعم، في مسند أحمد بن حنبل وجدت الرواية بنحو التنكير: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، من ترك الشبهات فهو للحرام أترك، ومحارم الله حمى، فمن وقع حول الحمى كان قميناً أن يرتع فيه».



(1) كأنّه إشارة إلى سند المتن الثاني، وهو الحسن بن محمّد الطوسيّ، عن أبيه، قال: أخبرنا أبو الحسن (عليّ بن أحمد الحماميّ)، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زياد القطان، قال: حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن أبي كثير القاضي أبو يعقوب القسويّ، قال: أخبرنا عليّ بن إبراهيم، قال: أخبرنا السريّ بن عامر، قال: صعد النعمان بن بشير على المنبر بالكوفة فحمد الله وأثنى عليه....

343

هذا. والمستفاد من المتن الثاني الذي نقلناه عن البخاريّ وإن كان هو إرادة الشكّ من الشبهات، لكن هذا بلحاظ باقي نسخ الرواية غير معلوم، بل تعريف الحلال والحرام ـ أي: ذكرهما مع اللام ـ يشهد للخلاف، فإنّه إذا كان الحلال بيّناً والحرام بيّناً ـ كما هو مفروض الرواية، ولعلّه بلحاظ عصر التشريع الذي لا إشكال في أنّ هذا الوضوح كان ثابتاً فيه ـ فما معنى فرض شبهات بينهما لا يعلمها كثير من الناس على حدّ تعبير المتن الأوّل للحديث الذي نقلناه عن البخاريّ؟ فإنّ هذا خلف فرض وضوح كلّ من الحلال والحرام، وحلّ هذا التناقض يكون بإبداء احتمال أن يكون المراد بالشبهات المعنى الذي تقدّم في أخبار التوقّف، وهو الأمثال والأشباه، فكأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) يقسّم الحكم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: الحلال بمعنى الرخصة ولو فرضت مقرونة مع نهي تنزيهيّ.

والثاني: الحرام.

وهذان الأمران ـ أعني: الرخصة والنهي التحريميّ ـ بيّنان.

والثالث: ما يكون بحسب الثبوت مرتبة ثالثة متوسّطة، وهو النهي التنزيهيّ، وذلك لا يعلمه كثير من الناس؛ لعدم الاهتمام وتوفّر الدواعي بالنسبة له، كما في الرخصة والنهي التحريميّ، وارتكاب هذا القسم وإن كان بما هو هو ليس فيه محذور نفسيّ لأنّه ليس حراماً، لكن من ارتكبه أوشك أن يقع في الحرمات باعتبار أنّ ارتكاب المكروهات يوجب التجرّي على المحرّمات وقسوة القلب وعدم الخضوع للنواهي الشرعيّة، فيشبّه بالراعي حينما يرعى حول الحمى فيوشك أن يقع في الحمى، وبناءً على هذا التفسير تكون الرواية أجنبيّة عن محلّ الكلام.

هذا وإذا أخذنا الحديث بالنحو الموجود في مصادر أصحابنا، أي: أنّه فرضنا كلمة الحلال والحرام منكّرة وبدون اللام، ونزّلنا الحديث على التقسيم الثلاثيّ للوقايع إلى معلوم الحلّيّة، ومعلوم الحرمة، ومشكوكهما، كما أنّ المتن الثاني الذي نقلناه عن

344

البخاريّ يستفاد منه ذلك رغم اللام، قلنا: إنّه مع هذا لا يرتبط الحديث بما نحن فيه.

وليس الوجه في كلامنا هذا ما قد يتراءى في بادئ النظر من أنّ صيغة الحديث تختلف أساساً عن الصورة المعطاة من قبل الأخباريّ للمطلب؛ إذ بناءً على قول الأخباريّ يكون حمى الله مركّباً من قسمين: معلوم الحرمة، ومشكوكها؛ لأنّ مشكوكها أيضاً يصبح حراماً بناءً على القول بوجوب الاحتياط، فالشبهات بما هي شبهات تكون داخلة في حمى الله، كشرب الخمر مثلاً، غاية الأمر أنّ مثل شرب الخمر حرام بالحرمة الواقعيّة، واقتحام الشبهة حرام بالحرمة الظاهريّة، والصورة المعطاة من قبل الحديث تناقض ذلك، فإنّ الحمى لم يفرض فيه مشتملاً على الشبهات بما هي شبهات، وإلاّ لم يكن معنىً لفرض أنّ من ارتكب الشبهات قد يقع في الحمى والمعصية وقد لا يقع، وإيجاب الاحتياط حول الحمى خلف؛ إذ بمجرّد إيجابه يدخل في نفس الحمى، ويخرج عن كونه حول الحمى.

أقول: ليس الوجه في منع دلالة الحديث على المقصود هو هذا البيان، فإنّ هذا يرد عليه: إنّ القول بوجوب الاحتياط وتحريم الاقتحام في الشبهة لا يحتّم اعتبار الشبهات داخلة في دائرة الحمى، بحيث يكون الحمى مركّباً من قسمين: من المحرّمات المعلومة، ومن المشتبهات بما هي مشتبهات؛ وذلك لما حقّقنا في محلّه من أنّ إيجاب الاحتياط ليس في الحقيقة إلاّ عبارة عن إبراز المولى بصورة عرفيّة لشدّة اهتمامه بمحرّماته الواقعيّة بحيث لا يرضى باقتحامها ولو في حال الشكّ، فإذا فرض أنّ المولى جعل لنفسه حمىً وهو المحرّمات الواقعيّة، وأبرز شدّة اهتمامه بهذا الحمى بحيث لا يرضى باقتحامه حتّى في حال الشكّ، فحكم العقل بالاحتياط في المورد الذي يشكّ في كونه داخلاً في الحمى، فهذا ليس معناه توسعة دائرة الحمى حتّى يقال: إنّ هذا خلف مفروض الرواية؛ إذ المفروض فيها الحمى هو خصوص المحرّمات الواقعيّة لا المشتبهات.

345

وإنّما الوجه فيما ذكرناه هو أنّ الصورة المعطاة من قبل الحديث للمطلب تختلف أساساً عن الصورة المعطاة من قبل الأخباريّ له، وذلك بتقريب آخر، وهو أنّ الذي يلزم على قول الأخباريّ هو أنّ حمى الله عبارة عن محارمه الواقعيّة سواء كانت معلومة أو مشكوكة، وخارج الحمى عبارة عن الحلال الواقعيّ، والمشتبه مردّد أمرهُ بين كونه من الحمى أو من خارج الحمى، فلابدّ من الاجتناب عنه خوفاً من الوقوع في الحمى باعتبار كونه في الواقع داخلاً في الحمى.

وأمّا الصورة الموجودة في الرواية فهي: أنّ هناك حمىً، وهناك أشياءً خارجة عن الحمى، وهي على قسمين بعضها بعيد عن الحمى وهو الحلال البيّن، وبعضها قريب من الحمى وهو المشتبهات، ولذا سمّيت في الروايات المشتبهات بما حول الحمى، وفرض في مسند أحمد بن حنبل الشبهات غير الحرام فقال: «من ترك الشبهات فهو للحرام أترك»، وأين هذا من الصورة التي تناسب القول بوجوب الاحتياط؟ وإنّما تناسب هذه الصورة فرض اختصاص الحمى بخصوص المحرّمات المعلومة، وأنّ الشبهات قريبة من الحمى باعتبار قرب الشكّ من العلم، والنهي عن ارتكاب المشكوك لئلاّ يتجرّأ الإنسان على المعلوم، وبما أنّ ظاهر هذا النهي هو كونه بعنوان التحفّظ من قِبل نفس العبد، فهو يختصّ بخصوص ما لو احتمل العبد منشئيّة اقتحام الشبهات لاقتحام المحرّمات، وفي مثل هذا الفرض لا بأس بالقول بوجوب الاجتناب بحكم العقل عن المشتبه، سواء استظهرنا وجوب ذلك من الرواية أو لا(1).

 


(1) نقل عن الإمام الخمينيّ(رحمه الله) في تهذيب الاُصول ـ ج 2، ص 260 ـ حمل مثل هذا الحديث على الاستحباب؛ للعلم بعدم حرمة رعي الغنم حول الحمى، وإنّما الحرام رعيه داخل الحمى، بل جعله قرينة على حمل باقي روايات الاحتياط ـ لو تمّت في نفسها ـ

346

الرواية الثالثة: ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة(1) التي فرض فيها روايتين متعارضتين، فبيّن الإمام(عليه السلام)المرجّحات لإحداهما على الاُخرى حتّى انتهى إلى الترجيح بالشهرة، وقد بيّنّا في بحث حجّيّة الشهرة أنّ المراد بالشهرة في هذه الرواية هي الشهرة الروائيّة، ثمّ عللّ ذلك بقوله: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بمعنى أنّ الرواية المجمع على روايتها لا ريب فيها، ولم يصرّح بحال الرواية الاُخرى الشاذّة، إلاّ أنّنا ذكرنا أيضاً في بحث الشهرة: أنّ الرواية الاُخرى تكون ممّا فيها الريب، لا أنّها ممّا لا ريب في بطلانها، ثمّ قال(عليه السلام): «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فمتّبع، وأمر بيّن غيّه فمجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله»، فالرواية المشهورة ممّا لا ريب فيها، والرواية الاُخرى من الأمر المشكل لا ممّا لا ريب في غيّها وبطلانها؛ لأنّ غاية ما تستدعيه شهرة رواية مّا هو القطع بصدروها من الإمام، لا قطعيّة تمام جهاتها دلالة وجهة وسنداً، فيبقى احتمال صحّة الرواية الاُخرى ثابتاً، وتكون الرواية مشكلة لا معلومة البطلان، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُخرى لو كانت معلومة البطلان، والرواية الاُولى المشهورة معلومة الرشد


على الاستحباب. أقول: غاية ما يمكن أن يقال في المقام: إنّ هذه الرواية لم تدلّ على الوجوب؛ لأنّها نظرت إلى الشبهات بلحاظ كونها حمىً للمحرّمات، وهذا لحاظ لا يوجب الوجوب مثلاً. أمّا فرض الوجوب في قسم من الشبهات وهي الحكميّة التحريميّة من زاوية احتمال الحرمة فيها، فهو غير منفيّ بها كي تصبح قرينة على حمل غيرها على الاستحباب.

(1) التهذيب، ج 6، ح 845، ص 301 ـ 303، والفقيه، ج 3، ح 18، ص 6، واُصول الكافي، ج 1، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح 10، ص 67 ـ 68.

347

والصحّة لم يحتج الإمام(عليه السلام) إلى الاستشهاد بالنبويّ؛ لأنّ ما هو معلوم البطلان وما هو معلوم الصحّة لا يحتاج في مقام بيان ما يؤخذ منهما إلى الاستشهاد بالحديث؛ إذ ذلك من القضايا التي قياساتها معها، في حين أنّ الإمام(عليه السلام)استشهد في المقام بالنبويّ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم».

والتثليث في هذه الرواية مذكور مرّتين: مرّة في كلام الإمام(عليه السلام)، ومرّة في الكلام الذي نقله عن النبيّ(صلى الله عليه وآله).

أمّا التثليث المذكور في كلام الإمام(عليه السلام) وهو قوله: «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فمتّبع، وأمر بيّن غيّه فمجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله»، فهنا قد فرض موضوعات ثلاثة، وجعل لها أحكاماً ثلاثة، وظاهر التقابل هو أنّ هذه الموضوعات متقابلة بحسب أحكامها، فكلّ واحد منها يختصّ بحكم غير حكم الآخر، ولو فسّرنا الردّ إلى الله تعالى ـ الذي هو حكم القسم الثالث، وهو الأمر المشكل ـ بمعنى الترك والاجتناب ـ وهوالمطابق لقول الأخباريّ ـ لكان ذلك عين حكم القسم الثاني، فنعرف أنّ المراد من ذلك ليس هو الاجتناب، بل التوقّف باعتبار أنّ الأمر المشكل له وجهان، فلا يؤخذ بأيّ واحد منهما؛ لأنّ الأخذ بأيّ واحد منهما أخذ بغير حجّة، وهو غير جائز، وهذا السياق كلّه ليس وارداً في معلوم الحلّيّة ومعلوم الحرمة ومشكوكهما، بل وارد في الدلالات والروايات، كما يناسب التطبيق على الروايتين المتعارضتين، فالمقصود: أنّ الدلالة على ثلاثة أقسام: دليل بيّن الصحّة فيتّبع، والتعبير بالاتّباع لا يناسب الحكم، فإنّه لا معنى لاتّباع معلوم الحلّيّة، بل يناسب باب الدلالة والأماريّة، ودليل بيّن البطلان فيجتنب، ودليل ملتبس فيردّ إلى الله ـ أي: لا يؤخذ باحتمال صحّته ولا باحتمال

348

عدم صحّته ـ وهذا مطلب صحيح لا نزاع فيه، ولا علاقة للحديث بما نحن فيه، فإنّه إنّما هو بصدد بيان أنّ الأمر المشكل ذا الوجهين لا يجوز الاعتماد على أحد وجهيه، ونحن أيضاً نقول بهذا المطلب، ونحن حينما نحكم في الشبهات البدويّة بالحلّ لا نحكم به اعتماداً على احتمال الحلّ في قبال احتمال الحرمة، بل نحكم به استناداً إلى (رفع ما لا يعلمون) ونحوه من الأدلّة.

وأمّا التثليث المذكور في كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي استشهد الإمام(عليه السلام)به، فظاهره أنّ نظره في الاستشهاد يكون بلحاظ الأمر البيّن المشكل؛ إذ الأمر الرشد أو الغيّ لا حاجة في معرفة حكمه إلى الاستشهاد بحديث النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وبهذا يتّضح أنّ هذا التثليث أيضاً لا يفيدنا؛ لأنّ المقصود بترك الشبهات في قوله: «مَن ترك الشبهات نجى من المحرّمات» ليس هو الترك عملاً كما يريده الأخباريّ، وإلاّ لم يطابق حكم القسم الثالث في كلام الإمام الذي هو التوقّف، فلا يناسب الاستشهاد به، بل المراد بترك الشبهة هو ترك الأخذ بالدلالة المشتبهة، فيرجع إلى نفس ما قلناه في تفسير كلام الإمام(عليه السلام)، ويؤيّد ذلك قوله: «ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات» حيث عبّر بالأخذ بالشبهة وهو غير ارتكاب الشبهة، فإنّ التعبير بالأخذ يناسب باب الاستدلال والاعتماد.

ثمّ إنّه من العجيب ما يدّعى في الكتب الاُصوليّة من أنّ أخبار التثليث لا تحتاج إلى مراجعة أسنادها؛ لأنّها بالغة حدّ التواتر أو ما يشبه التواتر، مع أنّه لا يوجد لدينا خبر يدلّ على التثليث إلاّ عن ثلاثة فقط: أحدهم نعمان بن بشير المقطوع فساده، والآخر عمر بن حنظلة الذي هو محلّ الكلام والبحث في وثاقته وعدم وثاقته، والخبر الآخر ضعيف سنداً، وكأنّ هذا التوهّم نشأ ـ بعد فرض عدم مراجعة مصادر الرواية ـ من كثرة ذكر حديث التثليث في كتب الاُصول، وكثيراً مّا ينشأ مثل هذه الدعاوى من عدم مراجعة مصادر الرواية، فينبغي مراجعتها حتّى لا يقع الإنسان في مثل هذا الاشتباه.

349

 

الأمر بالاحتياط في وقائع معيّنة:

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الآمرة بالاحتياط في وقائع معيّنة ـ: فيمكن إدراج روايتين تحت هذا العنوان:

الرواية الاُولى: رواية عبد الله بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح: (يتوارى عنّا القرص، ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً، ويستر عنّا الشمس، ويرتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذّن عندنا المؤذّن، فاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً، أو انتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟) فكتب: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك»(1).

وظاهرالسؤال في هذه الرواية أنّ إشكال السائل في دخول وقت الصلاة والإفطار كان من ناحية هذه الحمرة المرتفعة فوق الجبل، وهذه الحمرة التي صارت منشأً للسؤال فيها احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة التي يبتدئ بها الشفق المقارنة لآخر وجود قرص الشمس، فإنّ قرص الشمس بعد أن يفقد صولته يحاط بلون من النور الباهت، وهذا اللون من النور يسمّى بالحمرة، فهذا السائل رأى حمرة مرتفعة فوق الجبل بعد أن فقد قرص الشمس، فاحتمل أن تكون هذه الحمرة حمرة موجودة بتبع وجود قرص الشمس خلف الجبل، وأنّه إنّما لا يرى قرص الشمس باعتبار مانعيّة الجبل عن رؤيته، وهذا الاحتمال منطبق على عبارة السؤال في الرواية انطباقاً تامّاً، حيث إنّه فرض في السؤال وجود الجبل، ولا ترى



(1) الوسائل، ج 3، ب 16 من المواقيت، ح 14، ص 129، وجاء مختصر منه فيج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 37، ص 122.

350

لفرض وجود الجبل نكتة أحسن من احتمال وجود الشمس خلفه، ولو فرض أنّ المراد بالحمرة هي الحمرة المشرقيّة مثلاً، فهذا لا يفرّق فيه بين الأرض المسطّحة والأرض التي فيها جبل، وكيفيّة التعبير عن غيبوبة القرص أيضاً تناسب هذا الاحتمال، حيث فرض أنّه يتوارى عنّا القرص ويستر عنّا الشمس، ولم يفرض تواري القرص في نفسه واستتاره، وهذا التعبير يناسب الشكّ في أنّ الاستتار هل هو لحائل، أو أنّه استتار في نفسه. وليس مقصودي أنّ هذا التناسب أوجد ظهوراً للكلام في كون المقصود الشكّ في حقيقة الاستتار دون فرض العلم بكونه استتاراً في نفسه، وإنّما المقصود مجرّد أنّ هذا التعبير يلائم هذا الاحتمال تمام الملائمة.

إلاّ أنّ العبارة التي قد يقال: إنّها لا تنسجم مع هذا الاحتمال هي قوله: (ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعاً)؛ إذ مع إقبال الليل وزيادته ارتفاعاً كيف يفرض الشكّ في غروب القرص؟

إلاّ أنّ عدم انسجامها مبنيّ على أن يراد بالليل في المقام الزمان. أمّا لو فرض أنّه كنّى عن الظلمة بالليل خصوصاً باعتبار احتمال كون هذه الظلمة ظلمة ليليّة، فهذا التعبير تعبير عرفيّ في المقام، ومنسجم مع ما ذكرناه من الاحتمال.

وبناءً على هذا الاحتمال يكون المورد مورد أصالة الاشتغال واستصحاب عدم دخول الوقت، ويكون الاحتياط على القاعدة، والشبهة تكون موضوعيّة.

الاحتمال الثاني: أن تكون هذه الحمرة عبارة عن الحمرة المغربيّة، فكأنّ السائل يحتمل أنّ صلاة المغرب لابدّ في دخول وقتها من زوال الحمرة المغربيّة، كما يقول بذلك الخطّابيّون. وعلى هذا الاحتمال لابدّ من ردّ الرواية إلى أهلها؛ لأنّها تكون إمضاءً بوجه من الوجوه ـ إمّا بلحاظ الحكم الواقعيّ، أو بلحاظ الحكم الظاهريّ ـ لعمل الخطّابيّين من الانتظار إلى ذهاب الحمرة المغربيّة، وبطلان هذا المطلب من ضروريّات الفقه، وقد جاء في الروايات العديدة والصحيحة سنداً التبرّي واللعن بالنسبة لهم على مثل هذه البدع.

351

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه الحمرة هي الحمرة المشرقيّة، ويفرض الجبل في جهة المشرق، والسائل احتمل أنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، كما احتمل أنّ الوقت يدخل بمجرّد غروب الشمس.

وعلى هذا قد يقال: إنّ هذا الجواب لابدّ من الالتزام بحمله على غير محمل الجدّ؛ إذ لو كانت غيبوبة القرص كافية في المقام فلماذا يأمر الإمام(عليه السلام) بالانتظار؟ ولو لم تكن كافية بل لابدّ من ذهاب الحمرة المشرقيّة ـ كما عليه مشهور الإماميّة ـ فلماذا يأمر(عليه السلام)بالاحتياط وهو العالم بتمام الأحكام وقد استفتي في الشبهة الحكميّة؟

ومن هنا يتعيّن حمله على أنّه يريد بيان وجوب الانتظار، وأنّ الوقت لا يدخل إلاّ بذهاب الحمرة المشرقيّة، لكن حيث إنّ هذا المطلب خلاف رأي علماء السنّة بيّنه في صيغة الاحتياط لتخفّ فيه التبعة، ويتخلّص بذلك من محذور المخالفة. فأصل الفتوى بلزوم الانتظار جدّيّ، لكن بيانه بلسان الاحتياط غير جدّيّ، وعليه فيسقط الاستدلال بالرواية.

لكنّ الصحيح أنّ هذه الرواية بناءً على أن يكون النظر فيها إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة لا ينحصر توجيهها بهذا المطلب، بل يمكن أيضاً توجيهها بحيث تكون جدّيّة بتمام المعنى. وتوضيح ذلك: أنّ في باب دخول الوقت احتمالات:

1 ـ أن يكون مناط دخول الوقت هو غياب القرص، كما صرّح بذلك في بعض الروايات الصحيحة.

2 ـ أن يكون مناطه غياب الحمرة المشرقيّة.

3 ـ أن يكون المناط الواقعيّ غياب القرص، ولكن ذهاب الحمرة المشرقيّة معرّف لغياب القرص وكاشف عنه، والكاشفيّة هنا تتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون الكاشف مساوياً للمنكشف وملازماً له، بأن نفرض أنّ المناط هو غياب القرص عن بلدتي وعن تمام البلاد، أو قطعات الأرض الواقعة بعدها في حركة غروب الشمس إلى قطعة أرضيّة يكون غروب الشمس فيها مساوياً زماناً

352

لذهاب الحمرة عن بلدي، وحيث إنّ تلك القطعة الأرضيّة غير متعيّنة جعل الشارع معرّفاً مساوياً لغروب الشمس عنها، وهو ذهاب الحمرة عن بلدي، وهذه المعرّفيّة واقعيّة ولا تستبطن أيّ حكم ظاهريّ واحتياط.

الثاني: أن يكون الكاشف أخصّ من المنكشف، وذلك بأن يكون المناط غياب القرص عن منطقة محدودة في علم الله ـ تعالى ـ مهما ذهبت الحمرة في بلدنا فقد غاب القرص عن تلك المنطقة حتماً، ولكن قد يغيب عن تلك المنطقة قبل حصول هذا الكاشف، فيكون ذلك معرّفاً ظاهريّاً واحتياطيّاً، فالشارع أوجب الاحتياط بالعمل بهذا المعرّف، ورفض أيّ معرّف آخر ما لم يوجب القطع، وهذا الاحتمال عليه عدّة شواهد من الروايات، ولعلّه يصير وجه التقاء ما بين القولين، ووجه جمع ما بين الطائفتين. فبناءً على هذا الاحتمال نفهم معنى الاحتياط في الحديث بنحو لا يحمل على التقيّة، وتفصيل المطلب من الناحية الفقهيّة موكول إلى الفقه.

ومقصودنا هنا أنّه بناءً على هذا أيضاً لا تدلّ الرواية على المقصود، والشبهة في مورد الرواية موضوعيّة، ولم يقل أحد في الشبهة الموضوعيّة بالاحتياط، والاحتياط في الحديث يكون على القاعدة؛ لأصالة الاشتغال واستصحاب عدم الوقت، ولا يتعدّى من مورد الحديث إلى الشبهة البدويّة في التكليف، ولا يقال: إنّ الخصوصيّة الموجودة في المقام وهي ثبوت الاستصحاب وأصالة الاشتغال إنّما هي خصوصيّة فنّيّة، وأمّا العرف ـ بما هو عرف ـ فحينما يسمع هذا الكلام يلغي خصوصيّة المورد ويتعدّى إلى تمام موارد الشبهة، فإنّ لحاظ العرف لخصوصيّة قاعدة الاشتغال عند العلم به والشكّ في الفراغ واضح، فهو في مورد البراءة العقليّة، أعني: أوامر الموالي العرفيّة يحكم لدى الشكّ في الفراغ لا في التكليف بالاحتياط لا البراءة.

الرواية الثانية: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج حيث سئل الإمام(عليه السلام) أنّ شخصين محرمين اصطادا، فهل كفّارة الصيد عليهما بالاشتراك، أو أنّ كلاًّ منهما

353

عليه كفّارة مستقلّة، فأجاب(عليه السلام): (أنّ على كلّ منهما كفّارة مستقلّة)، ثمّ يقول له السائل: إنّي سئلت عن هذا ولم أدرِ ما اُجيب، فقال الإمام(عليه السلام): «إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا أو تعلموا»(1).

والفقرة التي هي محلّ الاستدلال هي الجملة الأخيرة، بناءً على أن يكون المشار إليه في قوله: «إذا أصبتم بمثل هذا» واقعة الصيد التي كانت شبهة من الشبهات بتقريب أنّه(عليه السلام)حكم بوجوب الاحتياط على عنوان «مثل هذا»، فجعل الضابط كون الأمر مثل هذه الواقعة، و عندئذ فلابدّ من فرض قدر مشترك بين واقعة الصيد والوقائع الاُخرى التي يجب فيها الاحتياط بحكم هذا الحديث، وهذا القدر المشترك لابدّ أن يتوفّر فيه أمران:

الأوّل: أن يكون هذا القدر المشترك عرفيّاً وواقعاً تحت اللحاظ العرفيّ؛ لأنّ الإمام(عليه السلام)في مقام بيان الضابط لوجوب الاحتياط، ولا محالة يكون في مقام بيان ذلك على وجه عرفيّ كما هو الحال في كلّ بياناته(عليه السلام)، وكون هذا البيان عرفيّاً فرع أن يكون ذلك القدر المشترك المنظور له(عليه السلام)واقعاً تحت اللحاظ العرفيّ، أي: لا يكون قدراً مشتركاً لا يلتفت إليه إلاّ بالعناية والتأمّل، وإلاّ لم يكن بياناً عرفيّاً، وظاهر الكلام أنّه في مقام البيان العرفيّ، فمثلاً إبداء احتمال أن يكون المقصود من مثل هذه الشبهة: الشبهة التي يدور الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر ـ كما هو الحال في هذا المورد؛ لدوران الأمر بين وجوب كفّارة تامّة على كلّ واحد منهما أو نصف كفّارة ـ ينفى بما ذكرناه؛ لأنّه ليس جامعاً يلتفت إليه العرف بلا عناية، فلا يحتمل كونه المقصود من كلمة «مثل هذا» في المقام.

الثاني: أن يكون هذا الضابط والقدر المشترك ممّا يناسب ـ بلحاظ مناسبات



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 1، ص 111 ـ 112، و ج 9، ب 18 من كفّارة الصيد، ح 6، ص 210.

354

الحكم والموضوع المركوزة في ذهن أهل العرف ـ كونه بما هو موضوعاً لوجوبالاحتياط، ويكون منسجماً مع المناسبات الارتكازيّة، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تحكم على الظهورات اللفظيّة، فتقيّد وتوسّع وتعيّن، فمثلاً ينتفي بهذا احتمال أن يكون الضابط والقدر المشترك هو أحكام الصيد أو أحكام الكفّارة.

وبعد الالتفات إلى هذين الأمرين يقال: إنّ الضابط الواجد لكلا الأمرين هو عنوان (الشبهة الحكميّة). فبهذا التقريب يصبح الحديث دالّاً على المدّعى.

ولكنّ الصحيح: عدم تماميّة الاستدلال بالرواية في المقام؛ لأنّ المشار إليه بقوله: «بمثل هذا» إمّا واقعة الصيد، وإمّا واقعة الحكم المسؤول عنه، فإن فرض الثاني ـ وليس احتماله أبعد من الأوّل إن لم يكن أقرب باعتبار تأخّر هذه الواقعة ذكراً عن الواقعة الاُولى ـ فمن الواضح كون الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّها عندئذ تكون آمرة بالاحتياط لمن سئل عن حكم ولم يعلم به. ومعنى أمره بالاحتياط هو أمره بما هو مسؤول عنه بالاحتياط ـ أي: نهيه عن القول بغير علم ـ ولا إشكال في حرمة القول بغير علم واشتراط جواز الإفتاء بالعلم.

وإن فرض الأوّل، فالرواية وإن دلّت على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة بالتقريب الذي بيّنّاه لكنّها بقرينة قوله: «حتّى تسألوا وتعلموا» تكون ناظرة إلى موارد الشكّ قبل الفحص مع التمكّن من العلم، حيث إنّ ظاهر جعل السؤال والعلم غاية للاحتياط، هو كون المورد مورداً يترقّب فيه حصول العلم، ويكون مورداً قبل السؤال، ولا إشكال في وجوب الاحتياط في الشبهة قبل الفحص.

هذا تمام كلامنا في دلالة روايات الاحتياط. وأكثر ما استدلّ بها على الاحتياط ممّا وقفنا عليه ضعيفة سنداً، وكلّها غير تامّة دلالة، ولعلّ بعض الروايات التي ذكرت في المقام من المضحك الاستدلال بها.

355

 

 

 

 

 

 

 

علاج التعارض بين أدلّة البراءة والاحتياط

ثمّ لو تنزّلنا وفرضنا تماميّة أخبار الاحتياط يقع الكلام عندئذ في جهات أربع:

1 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط وأخبار البراءة.

2 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل البراءة من القرآن الكريم.

3 ـ في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب، حيث ذكرنا أنّه يجري استصحاب عدم التكليف.

4 ـ في أنّه لو تعارض الدليلان وتساقطا فماذا يصنع؟

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى أخبار البراءة:

أمّا الجهة الاُولى: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط وأخبار البراءة، فقد تصدّى جملة من المحقّقين الاُصوليّين لدعوى أنّ أخبار البراءة أخصّ من أخبار الاحتياط، فتقدّم عليها، وذكر السيّد الاُستاذ وجوهاً ثلاثة للأخصّيّة:

1 ـ إنّ أخبار البراءة لا تشمل موارد العلم الإجماليّ بخلاف أخبار الاحتياط.

2 ـ إنّ أخبار البراءة لا تشمل ما قبل الفحص بخلاف أخبار الاحتياط.

3 ـ إنّ بعض أخبار البراءة وارد في خصوص الشبهة الحكميّة التحريميّة من

356

قبيل رواية: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فيكون أخصّ من أخبار الاحتياط الواردة في مطلق الشبهات.

أقول: أمّا الوجه الثالث للأخصّيّة فيبتني على تماميّة دلالة قوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» على البراءة، وقد مضى عدم دلالته عليها، ولو فرضنا تماميّة دلالته فمع ذلك لا ينفع في المقام شيئاً؛ إذ كما يكون هذا نصّاً في الشبهة التحريميّة كذلك يوجد في أخبار الاحتياط ما يكون نصّاً في الشبهة التحريميّة لو تمّت دلالته على وجوب الاحتياط من قبيل أخبار التثليث، فإنّ قول: «حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك» لا يمكن حمله على خصوص الشبهات الوجوبيّة مثلاً، بل لابدّ من حمله على الشبهة التحريميّة إمّا بالخصوص، أو هي مع غيرها. وعلى أيّ حال يكون نصّاً في الشبهة التحريميّة ولا يمكن إخراج الشبهة التحريميّة منه بقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1).

وأمّا الوجهان الأوّلان وهما اختصاص البراءة بغير موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص بخلاف موارد الاحتياط، فإن ادّعينا أنّ دليل البراءة بمدلوله اللفظيّ لا يشمل موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، أو بقرينة لبّيّة عقليّة أو ارتكازيّة كالمتّصل، كانت أخبار البراءة أخصّ من هذه الناحية. وأمّا إن قلنا: إنّ موارد العلم



(1) كما أنّه لا يمكن تخصيص حديث التثليث بقوله: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» بدعوى أنّ حديث التثليث يشمل الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، وهذا الحديث خاصّ بالحكميّة، فإنّ هذا التخصيص يعني اختصاص وجوب الاحتياط بالشبهة الموضوعيّة، والمفروض أنّ الشبهة الموضوعيّة خرجت أيضاً بمخصّص آخر يكون القدر المتيقّن منه الشبهة الموضوعيّة، كحديث «كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» فيلزم التعارض والتباين بين العامّ والمخصّصين.

357

الإجماليّ وما قبل الفحص إنّما هي خارجة بمخصّص منفصل، فلا تكون أخبار البراءة أخصّ إلاّ بناءً على انقلاب النسبة الذي لا نقول به. على أنّه لو قلنا به لم يكن دليل البراءة أخصّ مطلقاً، بل بينهما عموم من وجه، لأخصّيّة أخبار الاحتياط أيضاً من ناحية اُخرى؛ لأنّ دليل الاحتياط لا يشمل موارد الشبهة الموضوعيّة، وذلك إمّا للتخصيص من الخارج أيضاً بناءً على انقلاب النسبة، حيث إنّ هناك نصوصاً صريحة واضحة على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة، ولم يدّعِ أحد من علماء الإسلام قاطبة وجوب الاحتياط فيها، فيكون المخصّص هنا قطعيّاً، أو بدعوى أنّ بعض أدلّة وجوب الاحتياط في نفسها صريحة في خصوص الشبهة الحكميّة من قبيل مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في تعارض النصّين وهو شبهة حكميّة، وعليه فلا تتمّ دعوى أخصّيّة دليل البراءة من دليل الاحتياط حتّى في نفسه بدعوى عدم شمول دليل البراءة بمدلوله اللفظيّ لمورد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، أو بواسطة مخصّص لبّيّ كالمتّصل، فإنّ بعض أدلّة الاحتياط أيضاً فرض أخصّ من جانب آخر وهو عدم شموله للشبهة الموضوعيّة، والنسبة بينهما عموم من وجه.

ومن هنا ينقدح إمكان تقريب النسبة بين الأخبار بما يكون في صالح الأخباريّ، وذلك بأن يقال: إنّه قد وجدت في أخبار الاحتياط طائفتان: الطائفة الاُولى: ما يدلّ على الاحتياط في مطلق الشبهة، كقوله: «أخوك دينك، فاحتط لدينك»، والطائفة الثانية: ما يدلّ على الاحتياط في خصوص الشبهة الحكميّة، وهي مقبولة عمر بن حنظلة. والطائفة الاُولى عامّة، والطائفة الثانية خاصّة. وأمّا أخبار البراءة فقد عرفت فيما سبق عدم تماميّة شيء منها عدا حديث الرفع، وعندئذ نقول: إنّنا إمّا أن نفترض أنّ حديث الرفع بمدلوله اللفظيّ أو بمخصّص كالمتّصل يكون خاصّاً ـ أي: أنّه غير شامل لموارد العلم الإجماليّ وما قبل

358

الفحص ـ أو نفترض أنّه يكون عامّاً ـ أي: أنّه شامل لتلك الموارد ـ وإنّما خرجت تلك الموارد بمخصّص منفصل. فإن فرضنا حديث الرفع خاصّاً أصبح معارضاً لحديث الاحتياط الخاصّ بالعموم من وجه، ويتساقطان ويكون المرجع العموم الفوقانيّ، وهو الطائفة الاُولى من أخبار الاحتياط، ولا يصلح حديث الرفع لتقييدها؛ لابتلائه بالمعارض. وإن فرضناه عامّاً أصبح معارضاً لحديث الاحتياط العامّ بالتباين، ونرجع إلى الطائفة الثانية من أخبار الاحتياط، فإنّها حجّة من دون ابتلاء بالمعارض؛ إذ لايعارضها شيء من العامّين؛ لأنّها موافقة لأحدهما ومخصّصة للآخر.

ولا يفترق الحال فيما ذكرنا بين ما لو قلنا بانقلاب النسبة أو لا، فحتّى مع القول بانقلاب النسبة تكون النتيجة نفس النتيجة، سواءً فرضنا حديث الرفع خاصّاً معارضاً للطائفة الثانية، أو عامّاً معارضاً للطائفة الاُولى.

أمّا على الأوّل: فوجه توهّم انقلاب النسبة في المقام هو أنّ حديث الاحتياط العامّ قد خرجت منه بالتخصيص الشبهة الموضوعيّة، فيصبح أيضاً معارضاً بالعموم من وجه لحديث الرفع.

والجواب: أنّ القائلين بانقلاب النسبة لا يقولون به في فرض المعارضة بنحو العموم المطلق إذا وجد مخصّص آخر للعامّ؛ لأنّ نسبة العامّ إلى المخصّصين على حدّ سواء ـ بحسب ما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى ـ وإنّما يقولون به في فرض التعارض بالتباين إذا وجد مخصّص لأحدهما فصار أخصّ من الآخر، أو بالعموم من وجه إذا وجد مخصّص لأحدهما أخرج منه مادّة الافتراق فصار أخصّ من الآخر.

وأمّا على الثاني: فعندنا نسبتان: نسبة حديث الرفع، أي: قوله: «أخوك دينك، فاحتط لدينك» وهي التباين فيتساقطان، ونسبة حديث الرفع إلى مقبولة عمر بن

359

حنظلة وهي العموم والخصوص المطلق، وبناءً على انقلاب النسبة لا يترتّب أيّ فرق عمليّ بلحاظ شيء من النسبتين.

أمّا بلحاظ النسبة الاُولى، فلأنّه إن لم نقل بانقلاب النسبة فقد تساقط حديث الرفع وحديث الاحتياط بالتباين. وإن قلنا به فهما يتساقطان بالمعارضة بالعموم من وجه؛ لأنّ حديث الرفع وجد له مخصّص أخرجَ منه موارد العلم الإجماليّ والشكّ قبل الفحص، وحديث الاحتياط أيضاً وجد له مخصّص أخرج منه موارد الشبهة الموضوعيّة(1).

وأمّا بلحاظ النسبة الثانية، فقد يتخيّل أنّه بناءً على انقلاب النسبة لا يكون حديث الرفع أعمّ مطلقاً من المقبولة؛ لأنّه خرجت منه بالتخصيص موارد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

وجوابه: ما مضى من أنّ القائلين بانقلاب النسبة لا يقولون به في فرض التعارض بالعموم المطلق إذا وجد مخصّص آخر للعامّ، بل يلحظون المخصّصين في عرض واحد، ويخصّصون العامّ بهما.

ثمّ إنّه لو فرض أنّ أخبار البراءة وأخبار الاحتياط تعارضتا بنحو التباين وصلت النوبة إلى المرجّحات. والمرجّح عندنا أمران: موافقة الكتاب ومخالفة



(1) ولو غضضنا النظر عن خروج الشبهة الموضوعيّة من حديث الاحتياط كانت النتيجة أيضاً الاحتياط في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ حديث الرفع كما خرج منه مورد العلم الإجماليّ وما قبل الفحص، كذلك خرجت منه ـ بحكم المقبولة ـ الشبهة الحكميّة، فاختصّ بالموضوعيّة، فخصّص حديث الاحتياط بالحكميّة، إلاّ إذا ضممنا إلى دعوى انقلاب النسبة الاُولى دعوى انقلاب النسبة الثانية أيضاً، ولكن عندئذ ستكون النتيجة أيضاً الاحتياط؛ لأنّ المرجع على هذا الفرض هو حديث الاحتياط العامّ.

360

العامّة. والأخباريّون يرون أنّ أخبار الاحتياط تقدّم على أخبار البراءة بمخالفتها للعامّة، حيث يقولون: إنّ العامّة مطبقون على جريان البراءة في الشبهات الحكميّة، وما سنح لي أن أتتبّع صحّة هذه النسبة. وعلى أيّ حال نقول: إنّ هنا مرجّحاً أسبق رتبة من هذا المرجّح وهو موافقة الكتاب، وهي ترجّح أخبار البراءة؛ لما عرفت فيما مضى من أنّ الكتاب يدلّ على البراءة لا الاحتياط. هذا بقطع النظر عمّا سنذكره في الجهة الثانية ـ إن شاء الله تعالى ـ من أنّ المعارضة للكتاب ـ ولو بالعموم من وجه ـ تسقط الخبر عن الحجّيّة في نفسه.

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى آيات البراءة:

وأمّا الجهة الثانية: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط وآيات البراءة، فقد مضى أنّه تدلّ من الكتاب على البراءة آيتان:

إحداهما: قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون﴾. ومضى أنّها مختصّة بالشبهة الحكميّة بعد الفحص بلسان يأبى عن التخصيص بخصوص بعض الشبهات الحكميّة، فتقدّم على أخبار الاحتياط بالأخصّيّة.

والثانية: قوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ وقد مضى أنّ نسبتها إلى أخبار الاحتياط هي العموم من وجه، وقد بنينا في حجّيّة خبر الواحد على أنّ كلّ خبر معارض للقرآن بالعموم من وجه يكون ساقطاً عن الحجّيّة بنفسه، وعليه فالدليل القرآنيّ بكلا قسميه مقدّم على أخبار الاحتياط.

 

نسبة أخبار الاحتياط إلى دليل الاستصحاب:

وأمّا الجهة الثالثة: وهي في النسبة بين أخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب، فقد ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ دليل الاستصحاب يكون حاكماً على أخبار الاحتياط؛

361

لأنّ موضوعها الشكّ، والمجعول في دليل الاستصحاب هو الطريقيّة وإلغاء الشكّ،فلا يبقى موضوع لأخبار الاحتياط(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: الخلاف المبنائيّ فيما هو المجعول في دليل الاستصحاب، حيث إنّنا لا نقول بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب ولا في أدلّة الأمارة الطريقيّة على ما مرّت الإشارة إليه في بحث القطع، ويأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ فيما يخصّ الاستصحاب في مباحث الاستصحاب.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الطريقيّة والعلم، فهذا إنّما يصير حاكماً على دليل رتّب فيه الأثر إثباتاً أو نفياً على العلم لا على دليل رتّب فيه الأثر على الشكّ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب بنفسه قد اُخذ في موضوعه الشكّ، فالطريقيّة المجعولة فيه طريقيّة في طول الشكّ، وظاهر التعبّد بالطريقيّة في طول الشكّ هو أنّ هذا التعبّد ليس ناظراً إلى إلغاء الشكّ نفسه، بل مسوق لجهة اُخرى غير إلغاء الشكّ وهي صِرف إثبات عنوان اليقين، وهذه النكتة لا تأتي في أدلّة الأمارة لو فرض جعل الطريقيّة فيها؛ إذ لم يؤخذ في موضوعها الشكّ كي يكون ذلك قرينة على أنّ التعبّد بالطريقيّة ليس في مقام إلغاء الشكّ والتردّد ونحو ذلك من العناوين المقابلة للعلم.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا أنّ دليل الاستصحاب لسانه لسان دليل الأمارة ـ أي: أنّه لم يؤخذ في موضوعه الشكّ ـ قلنا: كما أنّ دليل الاستصحاب دليل على اعتبار العلم وجعل الطريقيّة وإلغاء الشكّ، كذلك دليل الاحتياط والوقوف عند الشبهة دليل على عدم جواز الاعتماد على أحد طرفي الشبهة والبناء عليه، لا التزاماً في مقام الحجّيّة ولا عملاً في مقام الجري الخارجيّ، وإرشاد إلى عدم الحجّيّة والطريقيّة وعدم إلغاء



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 32، والدراسات، ج 3، ص 175.

362

الشكّ فيتعارضان، وهذا نظير ما مضى من أنّه ذهبت مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)إلى حكومة دليل حجّيّة خبر الثقة على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ؛ لأنّ دليل حجّيّة خبر الثقة يخرجه عن كونه ظنّاً، فأجبنا في محلّه بأنّ عمومات النهي عن العمل بالظنّ بنفسها إرشاد إلى عدم حجّيّة الظنّ وعدم جعله علماً فيتعارضان.

 

تعيين المرجع في فرض التساقط:

وأمّا الجهة الرابعة: وهي أنّه لو تعارض الدليلان وتساقطا فماذا نصنع؟ فنقول: لو بنينا على البراءة العقليّة وقبح العقاب بلا بيان ـ كما ذكروه ـ رجعنا إليها. أمّا إذا لم نبنِ عليه ـ كما هو الحقّ ـ وقلنا بأصالة منجّزيّة الاحتمال فأيضاً هنا نكون في سعة من الاحتياط والاشتغال؛ لأنّنا وجدنا فيما مضى في الأدلّة اللفظيّة للبراءة الشرعيّة ما يكون مفاده في مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ أي: أنّ موضوعه عدم وصول إيجاب الاحتياط علميّاً ـ وعليه فيستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة مع دليل الاحتياط؛ إذ هو حاكم عليه، فالمعارضة إنّما تقع بين دليل الاحتياط ودليل البراءة التي هي في مرتبة الاحتياط والتي تنفي ذلك الاحتياط، فبعد التساقط يتنقّح موضوع هذا القسم من البراءة ويرجع إليها.

نعم، خصوص أخبار: «إنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» قلنا: إنّها إرشاد إلى تأكيد حكم العقل بمنجّزيّة الاحتمال، ويفهم من هذا الإرشاد عرفاً ـ لصدوره من الشارع ـ كونه في مقام بيان عدم حاكم على هذه المنجّزيّة، فهذه يمكن أن يدّعى أنّها تعارض أخبار البراءة المساوقة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلاّ أنّنا أيضاً نقول بعدم المعارضة من باب أنّ العرف يفهم من بيان الشارع لعدم الحاكم على هذه المنجّزيّة أنّه في مقام إيصال الاحتياط، ولا ينظر إلى فرض عدم وصول الاحتياط.

هذا تمام الكلام في أصل مبحث أنّ الأصل هل هو البراءة أو الاحتياط.

363

 

 

 

 

 

 

 

تنبيهات

 

تقدّم بعض الاُصول على البراءة

التنبيه الأوّل: ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره): أنّه يشترط في جريان البراءة عدم ثبوت أصل موضوعيّ في مورده، وإلاّ قدّم عليه بالحكومة، ومثّل لذلك باستصحاب عدم التذكية عند الشكّ في التذكية المقدّم على أصالة الحلّ، ثمّ دخل في البحث في نفس هذه الصغرى وهي استصحاب عدم التذكية.

وذُكِر في المقام ـ كما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومدرسته تعليقاً على هذا الكلام ـ: أنّه ينبغي أن يكون مراده بالأصل الموضوعيّ مطلق الأصل الحاكم سواء كان في رتبة الموضوع كما في هذا المثال، أو الحكم كما في تقدّم استصحاب عدم الحلّ على أصالة الحلّ فيما يكون مسبوقاً بالحرمة، لا خصوص الأصل الجاري في رتبة الموضوع؛ لأنّه لا خصوصيّة له في المقام، وإنّما العبرة في عدم جريان البراءة بوجود الاستصحاب في موردها، سواء كان في رتبة الموضوع أو الحكم، بنكتة أنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة وإلغاء الشكّ، فيلغى بذلك موضوع البراءة. هذه هي نكتة الحكومة في المقام في رأي مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)،