287

 

 

 

 

الفصل الخامس

الرياضة ومجاهدة النفس

 

قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(2).

لاشكَّ في أنّ النفس أمّارة بالسوء، وميّالة للكسل، والدِّعة، ومحبّة للتحرّر من قيود الدين ﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾(3) إذن لا يمكن حبسها على سبيل الخير والإصلاح إلاّ بترويضها ومجاهدتها.

وأيضاً من خواصّ النفس أنّها تخادع نفسها، وتغطّي الحقيقة، وتجعل الإنسان غافلاً عن معايبه، فلابدّ من رياضة النفس ومجاهدتها في كشف المعايب، كما لابدّ من الرياضة في رفعها وتصفية النفس منها.

وقد ذكر بعض(4) أنّ هناك طرقاً أربعة لكشف معايب النفس ينبغي سلوك


(1) السورة 79، النازعات، الآيتان: 40 ـ 41.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

(3) السورة 75، القيامة، الآية: 5.

(4) راجع المحجة 5/112 ـ 114 نقلاً عن كتاب الإحياء.

288

بعضها؛ لكشف تلك العيوب لغير من كملت بصيرته، فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا أراد بعبد خيراً بصّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخْفَ عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنّ أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يقف على عيوب نفسه فله أربع طرق:

الأوّل: أن يجلس بين يدي بصير بعيوب النفس، مطّلع على خفايا الآفات، فارغ عن تهذيب نفسه، فيحكّمه على نفسه، ويتّبع إشاراته في مجاهدته، ومَنْ وجد ذلك فقد وجد الطبيب، فليلازمه، فهو الذي يخلّصه من مرضه، وينجيه من الهلاك، إلاّ أنّ هذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.

والثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، فينصبه رقيباً على نفسه؛ ليراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبّهه عليه حيث قد تغفل النفس عن عيوب نفسه ولكن تلتفت إلى عيوب غيره، فإن كنتُ أغفل أنا عن عيوب نفسي كان بإمكاني أن أستعين في كشفها بغيري من صديق صدوق متديّن بصير، فهكذا كان يفعل الأكابر، وكان بعضهم يقول: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي، وكلّ مَنْ كان أوفر عقلاً، وأعلى منصباً كان أقلّ إعجاباً، وأعظم اتّهاماً لنفسه.

إلاّ أنّ هذا ـ أيضاً ـ قد قلّ وعزّ، فإنّ الصديق قد يكون حسوداً، أو صاحب غرض، أو يكون صديقاً حقّاً، ولكنّه يداهنك بإخفاء عيبكَ عليك(1)، وقلّ الصديق الذي يترك المداهنة فيخبر بالعيب.

وقد كانت شهوة ذوي الدين أنّ ينبَّهوا على عيوبهم بنصيحة غيرهم. وإذا بِنا


(1) وقد يكون حبّه لك مانعاً عن التفاته إلى عيبك كما قيل:

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة
ولكنّ عين السخط تبدي المساويا
289

يكون أبغض الخلق إلينا من ينصحنا، ويعرّفنا عيوبنا، ويكاد يكون هذا مفصحاً عن ضعف الإيمان.

والثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من لسان أعدائه، فإنّ عين السخط تبدي المساوي، ولعلّ انتفاع الإنسان بعدوّ مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه، ويمدحه، ويخفي عنه عيوبه، إلاّ أنّ الطبع مجبول على تكذيب العدوّ، وحمل ما يقوله على الحسد، ولكنّ البصير لا يخلو من الانتفاع بقول اعدائه، فإن مساويه لابدّ وأنّ تنتشر على ألسنتهم.

الرابع: أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً فيما بين الخلق يطالب نفسه بتركه، وما يراه محموداً يطالب نفسه به؛ لأنّ الإنسان يعمى عن رؤية عيوب نفسه، ولكنّه يرى عيوب غيره، إذن فبإمكانه أن يعرف أوّلاً عيوب الآخرين، ثُمّ يسري الأمر إلى نفسه عن طريق المقايسة، فيتفقّد نفسه، ويطهّرها من كلّ ما يذّمه من غيره، كما ويحاول ارتداء ما يراه محموداً من غيره، وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلُّهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدِّب. انتهى ملخصاً وبشيء من التصرف في الألفاظ.

وأمّا روايات مجاهدة النفس فنقتصر على ذكر بعضها، نرويها عن كتاب الوسائل(1):

1 ـ «إن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».

2 ـ عن الصادق(عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك، فإن لم تفعل لم يحملك غيرك».

3 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال لرجل: «إنّك قد جُعِلت طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء،


(1) الوسائل 15/161 ـ 162، الباب 1 من جهاد النفس، الأحاديث 1 و 2 و 3 و 4 و 6 و 8 .

290

وعرفت آية الصحّة، ودللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك».

4 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال لرجل: «اجعل قلبك قريناً برّاً وولداً واصلاً، واجعل علمك والداً تتّبعه، واجعل نفسك عدوّاً تجاهده، واجعل مالك عارية تردّها».

5 ـ عن الصادق(عليه السلام): «مَنْ لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوّه من عنقه».

6 ـ عن الصادق(عليه السلام): «مَنْ ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي، حرّم الله جسده على النار».

 

291

 

 

 

 

الفصل السادس

ا لســــما ع

 

ذكر بعض أهل العرفان الكاذب المنحرف عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام) أنّ من بدايات السلوك إلى الله الالتزام الهادف بالسَماع؛ لأنّ السَماع ـ وهو الغناء ـ يحدو كلّ أحد إلى مقصده، فيؤثّر في نفس السالك إلى الله ـ أيضاً ـ في حدوه إلى مقصده الخاص به(1).

ومن المضحك استشهاده(2) لذلك بقوله تعالى: ﴿لَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَسْمَعَهُمْ ...﴾(3).

في حين أنّه لا علاقة للسماع بمعنى الغناء بسماع الخير والهداية، إلاّ توهّمه الذي ذكرناه آنفاً، وحتّى لو غضضنا النظر عمّا هو ثابت في فقه أهل البيت(عليهم السلام) من حرمة الغناء نقول:

إنّ السَماع يحرّك في النفس الهواجس الكامنة تحريكاً لهويّاً، وليس السالك إلى الله مفنياً ومُنهيا لتلك الهواجس، وغاية ما يفترض بشأنه سيطرته عليها


(1) راجع منازل السائرين باب السَماع، وهو الباب العاشر من البدايات، وشرحه لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 44.

(2) راجع منازل السائرين باب السَماع، وهو الباب العاشر من البدايات، وشرحه لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 44.

(3) السورة 8، الأنفال، الآية: 23.

292

لمحاولة خنقها كالنار تحت الرماد، والسماع يُذكيها مرّة أُخرى، ويسلك بصاحبه إلى الشيطان لا إلى الله.

إلاّ أنّ الذي ينحرف عن خط أهل البيت(عليهم السلام) لا نتوقّع منه أكثر من هذا الفهم ﴿... وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور﴾(1).

ويقول السيّد الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) نقلاً عن اُستاذ له: إنّ أكثر ما يسبّب فقد الإنسان العزم والإرادة هو استماع الغناء(2).

 


(1) السورة 24، النور، الآية: 40.

(2) كتاب (الأربعون حديثاً) في ذيل الحديث الأوّل: 25.

293

 

 

 

 

الفصل السابع

ا لحـــــز ن

 

ومن هنا إلى تسعة فصول أي: إلى الفصل الخامس عشر سُمّيت بقسم الأبواب، في مقابل ما مضى المسمّى بقسم البدايات بدعوى أنّ البدايات كانت لعامّة الناس، وهم أهل الظاهر الذين لم يتجاوزوا إلى الباطن، واشتغلوا برفع الموانع وقطع العلائق وعندئذ انفتحت عليهم أبواب الباطن، فدخلوها، وهي انفعالات وآثار من أنوار القلوب(1).

قال الله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾(2).

قيل بشأن نزول هذه الآية المباركة: إنّ سبعة من فقراء الأنصار جاؤوا إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) وطلبوا منه تمكينهم ممّا يمكّنهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعدم وجدانه لذلك، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنزلت هذه الآية بشأنهم، وعُرِفوا بعد ذلك باسم البكّائين(3).

الحزن قد يكون بمعنى التوجّع على ما فات ممّا يقبل التدارك بمثل القضاء أو


(1) راجع شرح منازل السائرين لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 46.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 92.

(3) راجع تفسير «نمونه» 8 / 80 .

294

التوبة أو نحو ذلك، وأُخرى يكون بمعنى التأسّف على الممتنع كما في مورد الآية المباركة.

وعلى أيّ حال، فهو آية الإيمان، وعلامة الشوق إلى الخير وإلى الله سبحانه وتعالى، ويسبّب دفع الإنسان ـ دائماً ـ إلى جهة الكمال. ومن فوائده في موارد إمكان التدارك البعث إلى التدارك، ومن فوائده ـ أيضاً ـ دفع السرور الزائد الذي يميت القلب، ويبعث إلى التميّع وعدم المبالاة في أقلّ تقدير، ويسبّب الأشر والبطر، وذلك من المهلكات.

وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): في الخطبة المعروفة بخطبة همام أو خطبة المتّقين التي أوردها سلام الله عليه في ذكر أوصاف المتّقين: «... قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم...»(1).

ولا يخفى أنّ الحزن بالمعنى الذي يشلّ الإنسان عن العمل الاجتماعي، وعن الانشراح مع إخوانه المؤمنين، ويوجب انقباضه عن الناس، وانقباض الناس عنه، إنّما يناسب أهل العرفان الكاذب. أمّا العارف الصحيح فحزنه يكون كامناً في قلبه، يمنعه عن الأشر والبطر والبطالة، ولكنّ بشره في وجهه، محبّب إلى الناس، وجلاّب لعواطف القلوب، ومهتمّ بقضاء حوائج المؤمنين الخاصّة،

وبهموم المسلمين والإسلام العامّة.

وعن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في


(1) نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

295

قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد»(1).

قوله(عليه السلام): «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه» إنّ هاتين الصفتين تكاسر إحداهما الأُخرى، وترفع الآثار السيّئة عنها، فإنّ الحزن وحده يؤدّي إلى الانكماش عن المجتمع وعن الأعمال الاجتماعيّة، كما أنّ البِشر لو كان وحده يؤدّي إلى البطالة والبطر، ولكن متى ما اجتمع الحزن الإلهي في القلب مع البِشر المأمور به المؤمن أمام الناس، يتم الإعتدال، وتكون كلّ من الصفتين كمالاً محضاً، ونافعاً له ولمجتمعه ولدينه ودنياه وآخرته.

قوله(عليه السلام): «أوسع شيء صدراً وأذلّ شيء نفساً» حينما يصبح الإنسان واسع الصدر ـ وسعة الصدر آلة الرئاسة ـ قد يأخذه الغرور بسبب نجاحه في الاُمور وقدرته على حلّ المشاكل بسعة الصدر، ولكن يعالج ذلك وصفُهُ الآخر، وهو: أنّه «أذل شيء نفساً» فهو دائماً يلحظ نقائص نفسه، ويُذلّ نفسَه أمام قلبه، ويؤنّبها على أخطائها، وهذا يمنع عن بروز تلك الحال، ويؤدّي إلى الاعتدال المطلوب.

قوله(عليه السلام): «ضنين بخلّته» يُحتمَل في كلمة (الخلّة) فتح الخاء وضمها(2) فعلى الفتح تكون بمعنى الفقر والحاجة، ويكون المعنى: أنّ المؤمن يبخل بعرض حاجته على الناس، فلا يمدّ يد الحاجة إليهم. وعلى الضمّ يكون معناها: من الإخلاص والصداقة.وعلى هذا المعنى فسّره ابن أبي الحديد بمعنى كونه قليل المخالطة والتوفّر على العُزلة.

أقول: إنّ هذا شأن العرفان الكاذب، بل الأولى أن يكون المقصود على هذا


(1) نهج البلاغة: 724، رقم الحكمة: 333.

(2) راجع مجمع البحرين 5/365.

296

المعنى هو: الاحتفاظ بالخُلّة، أي: الصداقة أو الاصدقاء، بمعنى أنّه يكون وفيّاً للذين اتّخذهم أخلاّء في الله حافظاً لهم للغيب بما حفظ الله باذلاً لهم النصح والمعونة.

قوله(عليه السلام): «نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد» وهاتان الصفتان أيضاً تصلح إحداهما الأُخرى، فإنّ الصلادة والصلابة وإن كان يقصد بها الشجاعة في ذات الله والمقاومة للحقّ وضدّ الباطل، ولكن قد توجب هذه الحالة ـ والتي هي نوع اعتماد على النفس ـ الغرور والتكبّر، ولكنّه حينما كان ـ أيضاً ـ متّصفاً بأنّ نفسه أذلّ عنده من العبد تكون الصفتان نافعتين وكمالاً عظيماً للنفس. هكذا كان الأئمّة(عليهم السلام) يربّون العارفين بالله الحقيقيين، ويدرّبونهم على أن يكونوا رُهباناً بالليل أُسداً بالنهار.

والحزن الشديد يكون من مَظاهره البكاء، وكذلك الخوف الذي سنبحثه في المستقبل إن شاء الله.

والروايات المادحة للبكاء من خشية الله أو من الحزن كثيرة أُسجل لك هنا بعضها من كتاب الوسائل:

1 ـ عن الصادق(عليه السلام) عن آبائه، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في حديث المناهي: قال: «ومَنْ ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصرٌ في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

وقد تستغرب من ثواب عظيم كهذا ممّا يوصف بأنّه لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كيف رُتِّب على مجرّد قطرة من الدمع؟! ولكن يزول هذا الاستغراب إذا التفتنا إلى أمرين:


(1) الوسائل 15 / 223، الباب 15 من جهاد النفس، الحديث 1.

297

الأوّل: ما يكشف عنه البكاء، إنّ البكاء يكشف عن التحوّل العظيم في نفس الباكي، والتفاعل الكامل مع الله سبحانه وتعالى ومع أوامره ونواهيه، وتجلّي عظمته تعالى في قلبه وخشوعه له، ومن هنا يكون البكاء ـ أيضاً ـ كاشفاً عن مستوىً عال من الندم على المعاصي، وموجباً لغفران الذنوب كما ورد في الحديث التالي:

2 ـ عن الحسن العسكري(عليه السلام) عن آبائه(عليهم السلام)، عن الصادق(عليه السلام): «إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى إلى العرش؛ لكثرة ذنوبه، فما هو إلاّ أن يبكي من خشية الله ـ عزّ وجلّ ـ ندماً عليها حتّى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته»(1).

وطبعاً هذا لا ينفي سائر شرائط التوبة، بل كأنّه ينظر إلى أنّ البكاء لو كان بكاءً مرتبطاً بالندم ارتباطاً حقيقيّاً فهو يلازم تحقيق باقي شرائط التوبة.

والثاني: ما يترتّب على البكاء من الاقتراب العاطفي الكبير من الله جلّت عظمته، وخَرق حُجُب النفس ممّا يؤدّي إلى تركّز التفاعل مع الله في النفس أكثر من ذي قبل؛ ولذا ينبغي للباكي أن يغتنم فرصة تلك الحالة الذهبيّة التي حصلت له في تهذيب نفسه وتزكيتها؛ فإنّ هذه الفرصة لا تحصل في أيّ وقت شاء الشخص.

وجميع الروايات الواردة في مدح البكاء من خشية الله أو الشعور بعظمته والاندهاش أمامه تُحمل على هذين التفسيرين اللَذيْن عرفتهما وذلك من قبيل:

3 ـ ما ورد عن الصادق(عليه السلام): قال: «ما من شيء إلاّ وله كيل ووزن، إلاّ الدموع؛ فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أُمّة لرحموا»(2).


(1) المصدر السابق: ص 226 ـ 227، الحديث 10.

(2) المصدر السابق: ص227، الحديث 11.

298

4 ـ عن الرضا(عليه السلام) في حديث صحيح السند قال: «كان فيما ناجى الله به موسى(عليه السلام)أنّه ما تقرّب إليّ المتقربون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهمّ الغنى عنه. فقال موسى: يا أكرم الأكرمين: فما أثبتَهم على ذلك؟ فقال: يا موسى أمّا المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد، وأمّا المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فإنّي أُفتّش الناس عن أعمالهم، ولا أُفتّشهم حياءً منهم، وأمّا المتزيّنون لي بالزهد في الدنيا فإنّي أبيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤون منها حيث يشاؤون»(1).

هذا، والبكاء ليس نتيجة الحزن أو الخوف فحسب، بل يكون نتيجة لبعض الصفات والحالات الأُخرى ـ أيضاً ـ التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله، ومنها الخشوع كما جاءت الإشارة إلى ذلك في ثنايا كلامنا، قال الله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾(2).

وقال الله سبحانه أيضاً: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾(3).

وقد ظهرت من ثنايا بحثنا فائدتان تربويّتان هامّتان تترتّبان على البكاء من خشية الله، أو من الحزن على ما فات، أو نحو ذلك ممّا يدعو إلى البكاء في الله


(1) المصدر السابق: ص226، الحديث 9.

(2) السورة 17، الإسراء، الآيات: 107 ـ 109.

(3) السورة 19، مريم، الآية: 58.

299

سبحانه وتعالى، وهما في غاية الأهميّة القصوى:

الاُولى: أنّ حالة البكاء هي من أقرب الحالات إلى الله سبحانه وتعالى، وأشدّها تفاعلاً مع الله عزّ وجلّ، وانشداداً عاطفياً إليه عزّ اسمه.

والثانية: أنّ هذه الحالة يمكن استثمارها في سبيل تربية النفس وتزكيتها وتنميتها، وذلك عن طريق أن يفرض الشخص على نفسه في تلك الحالة ما يشاء من ترك المذموم من الخصال أو الأفعال، أو الالتزام بالممدوح من الخصال أو الأفعال، فإنّ النفس تقبل منه هذا التحميل في تلك الساعة التي هي ساعة الصفاء وساعة الانفتاح على العالَم العلوي، في حين أنّه لو أراد الإنسان أن يأخذ على نفسه التزاماً من هذا القبيل في ساعة أُخرى ربّما لا تُعطيه نفسه ذلك ولا تطاوعه، وهي أطوع لك في إعطاء التزام كهذا في ساعة البكاء.

ولكننا يجب أن ننبّه أخيراً إلى بعض الآفات التي قد تترتّب على البكاء؛ كي يلتفت إليها سالك الطريق ويحترز منها، وطبعاً إنّ هذه الآفات لو ترتّبت على البكاء فهي نتيجة ضعف نفس الباكي، وإلاّ فليس من المفروض أن يترتّب على البكاء من خشية الله أو من عظمته أو ما إلى ذلك غير الخير والسعادة. وتلك الآفات ما يلي:

1 ـ هناك آفة لا تختصّ بالبكاء، بل كثيراً ما تعرض على باقي العبادات والطاعات أيضاً، وهي: آفة العُجب وحالة الزهو والكبرياء والتبختر وما إلى ذلك، وذلك من أعظم الذنوب. والنفس نتيجة ضعفها قد تبتلي بهذه الحالة عقيب طاعاتها وعباداتها، فلابدّ من الالتفات إلى هذه الآفة والتجنّب عنها، وذلك بالتفات النفس ضمن ماهي عليه من كمال نتيجة طاعتها إلى ما لها من نقائص لا تنتهي مهما بلغت من مرقاة الكمال، وأنّ ما حصلت عليه من كمال إنّما حصلت عليه بفضل الله ورحمته وبحوله وقوّته، وليس قد بلغت ما بلغت من تلقاء نفسها. قال الله تعالى:

300

﴿... وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً ...﴾(1).

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الحذّاء، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): قال الله عزّ وجلّ: لا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملون بها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم(2) في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا فإن رحمتي عند ذلك تدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني وألبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت»(3).

وورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن(عليه السلام)قال: «قال: أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين ولا تخرجني من التقصير. قلت: أمّا المعارون فقد عرفت أنّ الرجل يعار الدين ثُمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ فقال: كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ»(4).

وقد رُوِي أنّ زنديقاً وصدّيقاً يدخلان مسجداً، فيخرج الصدّيق زنديقاً؛ لما يُبتلى به من عُجب وغرور، ويخرج الزنديق صدّيقاً؛ لما يحظى به من توبة ومن


(1) السورة 24، النور، الآية: 21.

(2) هكذا ورد في البحار الطبعة الجـديدة، وكأنّ فيه سقطاً، ولعلّ الصحيح: «وأفنوا أعمارهم». كما ورد كذلك في أحد النقلين في أُصول الكافي 2 / 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء، الحديث 4، وإن كان ورد في النقل الآخر مثل ما في البحار هنا، راجع المصدر نفسه 71، باب حسن الظنّ بالله الحديث 1.

(3) البحار 71/228.

(4) المصدر السابق: ص233.

301

استهانته بنفسه بالقياس إلى الصدّيق(1).

ورُوي ـ أيضاً ـ: أنّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ وصل في سيره في الصحراء إلى صومعة أحد الرهبان، وانشغل بالحديث معه، وإذا بشاب معروف بالفسق والفجور ومشهور بالمعاصي مرّ في ذاك الطريق، فوقع نظره على عيسى(عليه السلام) مع ذاك العابد، ففترت رجله عن المشي، ووقف مكانه وقال: يا إلهي لو رآني عيسى على ما أنا عليه من الوضع المخجل ماذا أفعل؟! ولو عاتبني على ما صدر عنّي كيف أُعالج الوضع؟! ولمّا وقع نظر العابد على الفاسق رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ لا تحشرني في يوم القيامة مع هذا الفاسق الفاجر، فأوحى الله إلى عيسى(عليه السلام): قل لهذا العابد: إنّنا استجبنا دعاءك، ولا نحشرك معه؛ فإنّه أصبح من أهل الجنّة بتوبته، وأصبحت من أهل النار بغرورك ونخوتك وعجبك(2).

2 ـ والآفة الثانية التي قد تترتّب على البكاء هي: أنّ من تفاعل مع ربّه إلى حدّ البكاء قد يتخيّل أنّه إذن أدّى الوظيفة، فينسى أو يتناسى وظائفه التي تكلّفه بذل المال أو الراحة أو النفس أو ما إلى ذلك في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام والمسلمين، أو يغفل عن الوظائف الاجتماعيّة التي يجب أن يقوم بها، ويتقوقع على نفسه وهو مسرور بأنّه قد أدّى ما عليه مادام قد تفاعل مع الله تفاعلاً معنويّاً وصل إلى مستوى البكاء، ويكون ذلك خير وسيلة له للتقاعس عن التضحيات اللازمة من دون الإحساس بوخز الضمير. وهذه الآفة ـ أيضاً ـ قد تترتّب على العبادات الأُخرى ولو بمستوى أقلّ ممّا تترتّب على البكاء.

وهذه ـ أيضاً ـ من نتائج ضعف النفس، وإلاّ فليس المفروض بالبكاء أو بأيّ عبادة أُخرى أن يترتّب عليه ذلك.


(1) خزينة الجواهر: 647.

(2) خزينة الجواهر: 647.

302

وليس علاجها بترك البكاء أو ترك الطاعة أو العبادة، فإنّ ذلك إعانة للشيطان على هدفه، بل علاجها يكون بمزيد من الالتفات والتيقّظ، وبمعرفة حرمة ما تصنعه ـ عادة ـ الصوفية من التقوقع على الذات والتقاعس عن خدمة الإسلام والمسلمين بحجّة العبادة أو تربية النفس، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، وكذلك يكون العلاج بتعويد النفس على خلاف هذه الآفة.

3 ـ والآفة الثالثة هي التي قد تختص بالبكاء، ولا تترتّب على سائر العبادات والطاعات، وهي: أنّ البكاء من طبيعته أنّه يبرّد القلب، وينفّس عن الإنسان، ولهذا قد يُؤمَر المصاب بفقد عزيز من أعزائه مثلاً بالبكاء على فقيده؛ وذلك لكي ينفّس عن نفسه ويخفِّف ألم المصيبة، فقد يتّفق أنّ الإنسان المؤمن حينما برّد قلبه بالبكاء ونفّس عن لوعته الإيمانية بذلك يَبرُد عمّا عليه من أداء الوظائف الاجتماعيّة أيضاً، ويترك ما عليه من التضحيات أو الاهتمامات التي تحتاج إلى بذل المال تارةً، أو بذل النفس أُخرى، أو بذل الراحة ثالثةً وما إلى ذلك، فيبتعد بذلك عن الله تعالى بدلاً عن الاقتراب إليه سبحانه.

فهذه الآفة ـ أيضاً ـ بحاجة إلى مزيد من اليقظة ومراقبة النفس ومحاسبتها؛ كي لا يتورّط الإنسان المؤمن في هذه المصيدة الشيطانية.

والواقع: أنّ الشيطان يدخل مع كلّ إنسان المدخلَ المناسب له في إغوائه، فليس يقدر مع كلّ احد على إغرائه بالخمور أو الفساد الجنسي أو ما إلى ذلك، لأنّ الشخص ربّما لا تكون هوايته إلاّ في العبادة والطاعة، فيدخل معه نفس المدخل، ويفسد عبادته بالعجب أو الرياء، أو يجعلها سبباً لانكماشه عن أداء الوظائف الاجتماعيّة، وابتعاده عن خدمة الاهداف الإسلاميّة أو ما إلى ذلك. فهلمّ إلى التيقّظ الكامل، ومراقبة النفس الدقيقة، ومحاسبتها قبل أن تُحاسَب يوم القيامة من لدن الناقد البصير.

303

 

 

 

 

الفصل الثامن

ا لخـــــو ف

 

قال الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(1).

وأيضاً قال عزّ من قائل: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾(2).

وقال عزّ اسمه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(3).

قيل: إنّ الفرق بين الخوف والحزن بعد اشتراكهما في تأ لّم الباطن أنّ الحزن على ما فات، والخوف ممّا هو آت(4).


(1) السورة 32، السجدة، الآيتان: 16 ـ 17.

(2) السورة 76، الإنسان، الآيات: 7 ـ 11.

(3) السورة 79، النازعات، الآية: 40 ـ 41.

(4) شرح منازل السائرين لكمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: 48 ـ 49.

304

وقيل(1): إنّ خوف العامّة يكون عن العقاب، وهو الخوف الذي يصحّ به الإيمان، وهو يتولّد من تصديق الوعيد، وذكر الجناية، ومراقبة العاقبة. وخوف الخاصّة يكون عن الاحتجاب. وأمّا أهل الخصوص أو خاصّة الخاصّة فلا خوف لهم بمعنى الكلمة، إلاّ هيبة الإجلال. وقد قال بعضهم:

أشتاقُهُ فإذا بدا
أطرقتُ من إجلالِهِ
لا خيفةً بل هيبةً
وصيانةً لجمالِهِ

أقول: نحن لاننكر هذه المراتب الثلاث من الخوف، وأنّ الثالث هو أمر فوق الخوف، ويشير إلى الأوّل مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَ يَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾(2). ويشير إلى الثاني مثل قوله(عليه السلام): «... فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك...»(3)، وأقصد بخوف الاحتجاب: الاحتجاب المعنويّ المعقول لا الاحتجاب عن الرؤية المادّيّة الذي لا ينفكّ حتّى عن المعصومين(عليهم السلام)، قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(4).

وقال الله تعالى: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾(5).


(1) هذا المقطع أخذناه من مجموع ما في شرح منازل السائرين لعبدالرزاق الكاشاني: 48، وشرح منازل السائرين لسليمان التلماسي: 124 ـ 125.

(2) السورة 11، هود، الآية: 103.

(3) دعاء كميل.

(4) السورة 7، الأعراف، الآية: 143.

(5) السورة 6، الأنعام، الآية: 103.

305

ويشير إلى الثالث قوله(عليه السلام): «... وأجر اللَّهمّ لهيبتك من آماقي(1) زفرات الدموع...»(2).

ولكنّنا ننكر ما فُرِضَ من أنّ الخاصّة ليس لديهم الخوف بالمعنى الأوّل، أو أنّ خاصّة الخاصّة ليس لديهم الخوف الثاني أيضاً، ألا ترى أنّ الآية الشريفة الواردة في سورة الإنسان نسبت الخوف إلى أهل بيت العصمة حيث قالت عنهم: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾؟!

نعم، هذا الخوف منهم لا يعني ما يكون من غيرهم من الخوف نتيجة معصية صدرت عنهم، فإنّهم لم تصدر عنهم المعصية بالمعنى المألوف، بل الخوف بالنسبة لهم يمكن أن يكون خوفاً من الوقوع في المعصية من دون أن ينافي ذلك العصمة؛ لأنّ العصمة قد تكون في طول الخوف الشديد الذي هو فوق ما يتصوّر من الإنسان الاعتيادي. ويمكن أن يكون خوفاً ممّا قد يصدر عنهم من ترك الأولى كلٌّ بالقياس إلى ما وصل إليه من مقام الكمال والعرفان. وترك الأولى بهذا المعنى يسبّب في أولياء الله المخلصين نوعاً من تأديب دنيويّ كما اتّفق لذي النون ـ على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام ـ بصريح القرآن حتّى قال عنه سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(3). ويمكن أن يكون خوفاً من الحجاب عن الله سبحانه وتعالى كما ورد في دعاء كميل: «... صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك...».

أمّا العرفان الذي كان بدءه من قبلِ أبناء العامّة لامن مدرسة أهل البيت، فقد تورّط في تخيّل أنّه لا يتعقّل الخوف بالمعنيين الأوّلين من خواصّ الخواصّ


(1) مجاري الدمع من العين.

(2) دعاء الصباح.

(3) السورة 37، الصّافات، الآيتان: 143 ـ 144.

306

بسبب عدم اعترافهم بعصمة الأئمّة(عليهم السلام) وكونهم من أخصّ الخواصّ، فحينما يُرى منهم الخوف بأحد المعنيين الأوّلين (زائداً على الخوف الثالث الذي هو في الحقيقة تهيّبٌ وليس خوفاً) لا يكون ذلك منافياً لديهم للمبدأ الذي قرّروه من فقدان الخوف بالمعنيين الأوّلين لدى خواصّ الخواصّ المقرّبين؛ إذ لا يهمّهم الوصول إلى نتيجة نفي كون أئمّتنا(عليهم السلام) من المقرّبين.

على أنّ الوصول لا ينافي خوف تجدّد الحجاب، والطهارة الكاملة لا تنافي خوف تجدّد التلوّث أو تجدّد استحقاق العقاب.

ولنذيّل الحديث عن الخوف بذكر بعض روايات الباب:

1 ـ عن حمزة بن حمران بسند تامّ قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: إنّ ممّا حُفِظَ من خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: أيّها الناس، إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه؟ وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؟ فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، وفي الشبيبة قبل الكِبَر، وفي الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمّد بيده ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلاّ الجنّة أو النار»(1).

2 ـ عن أبي عبيدة الحذّاء بسند تامّ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك؟ فلا يصبح إلاّ خائفاً، ولا يصلحه إلاّ الخوف»(2).

3 ـ عن داود الرقيّ بسند تامّ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلِمَنْ


(1) الوسائل 15/218 ـ 219، الباب 14 من جهاد النفس، الحديث 1.

(2) الوسائل 15/219، الباب 14 من جهاد النفس، الحديث 2.

307

خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾(1) قال: «من علم أنّ الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعمله من خير أو شرّ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(2).

4 ـ رواية أنس بن محمّد أبي مالك، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال في وصيته له: «يا عليّ ثلاث درجات، وثلاث كفّارات، وثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فأمّا الدرجات فإسباغ الوضوء في السَبَرات(3)، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلى الجماعات. وأمّا الكفّارات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجّد بالليل والناس نيام. وأمّا المهلكات فشحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأمّا المنجيات فخوف الله في السرّ والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة العدل في الرضا والسخط»(4).

5 ـ رواية إسحاق بن عمّار قال: قال أبو عبدالله(عليه السلام): «يا إسحاق خفِ الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، وإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثُمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك»(5).

ثُمّ إنّنا وإن كنّا سنبحث ـ إن شاء الله ـ الرجاء في فصل مستقلّ، لكنّنا يجب أن نشير هنا إلى: أنّ الخوف وحده إذا انفصل عن الرجاء كان بالنسبة لعامّة الناس مُفسداً، فصحيح أنّ الخوف يكون في حقيقته مصلحاً للقلب وللنفس وكذلك الرجاء ما لم ينقلب إلى الضدّ، كما ورد في الحديث عن ابن أبي نجران، عمّن ذكره،


(1) السورة 55، الرحمن، الآية: 46.

(2) الوسائل 15/219، الباب 14 من جهاد النفس، الحديث 3.

(3) جمع سبرة، فسّرت بالغداة الباردة، أو شدّة البرد.

(4) كتاب الخصال 1 / 84 ـ 85، باب الثلاثة، الحديث 12.

(5) الوسائل 15/220، الباب 14 من جهاد النفس، الحديث 6.

308

عن الصادق(عليه السلام) قال: «قلت له: قوم يعملون بالمعاصي، ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت؟ فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني، كذبوا ليسوا براجين من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه»(1). وعن الحسين بن أبي سارة قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(2).

ولكن مع ذلك لاشكّ أنّ الخوف وحده أو الرجاء وحده يؤثّر في نفوسنا أثراً عكسياً، لا نتيجة ذات الخوف أو الرجاء، بل نتيجة ضعف نفوسنا نحن الاعتياديين من الناس. ومن هنا ورد التأكيد في الكتاب والسنّة على الخوف والرجاء معاً. قال الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...﴾(3).

وقال مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) على ما ورد في خطبة همام في وصف المتّقين: « ... فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(4) ولو بقي الرجاء وحده في النفس انقلب إلى الأمانيّ الكاذبة كما مضى آنفاً في حديث ابن أبي نجران، ولو بقي الخوف وحده في النفس انقلب إلى اليأس كما هو الحال في قِصَّة حميد بن قحطبة المعروفة المرويّة عن عبيدالله البزّاز النيسابوري قال:

«كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيّام، فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت، وعليّ ثياب السفر لم أُغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلمّا دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه


(1) الوسائل 15/216، الباب 13 من جهاد النفس، الحديث 2.

(2) المصدر السابق: ص217، الحديث 5.

(3) السورة 32، السجدة، الآية: 16.

(4) نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

309

الماء، فسلّمت عليه وجلست، فأُتي بطست وإبريق فغسل يديه، ثُمّ أمرني فغسلت يدي، وأُحضرت المائدة، وذهب عنّي أ نّي صائم، وأ نّي في شهر رمضان، ثُمّ ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولابيّ علّة توجب الإفطار، ولعلَّ الأمير له عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار، فقال: ما بيّ علّة توجب الإفطار، وإنّي لصحيح البدن، ثُمّ دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعدما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيّها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليالي: أن أجب، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادم واقف، فلمّا قمت بين يديه رفع رأسه إليّ، فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق، ثُمّ أذِن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتّى عاد الرسول إليّ وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنّا لله أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، وإنّه لما رآني استحيى منّي، فعدت إلى بين يديه، فرفع رأسه إليّ، فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسّم ضاحكاً، ثُمّ أذن لي في الانصراف، فلمّا دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليّ فقال: أجب أمير المؤمنين، فحضرت بين يديه وهو على حاله، فرفع رأسه إليّ، فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثُمّ قال لي: خذ هذا السيف، وامتثل ما يأمرك به هذا الخادم، قال: فتناول الخادم السيف، وناولنيه، وجاء بي إلى بيت بابه مغلق، ففتحه فإذا فيه بئر في وسطه، وثلاثة بيوت أبوابها مغلّقة، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبّان مقيدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلّهم علويين من ولد عليّ وفاطمة(عليهما السلام)، فجعل يُخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم، ثُمّ رمى بأجسادهم

310

ورؤوسهم في تلك البئر، ثُمّ فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويّة من ولد عليّ وفاطمة(عليهما السلام) مقيدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يُخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر حتّى أتيت على آخرهم، ثُمّ فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد عليّ وفاطمة مقيدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً، فجعل يُخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، فيرمي به في تلك البئر حتّى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي تبّاً لك يامشوم، أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد ولدهم عليّ وفاطمة(عليهما السلام)؟! فارتعشت يدي، وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً وزبرني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به في تلك البئر. فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فما ينفعني صومي وصلاتي؟! وأنا لا أشكّ أ نّي مخلد في النار»(1).

أقول: انظر إلى هذا الشقيِّ المحروم كيف أنّ الجزء الأخير لسبب هلاكه كان هو: يأسه، لاقتله لستين من ذرّية الرسول(صلى الله عليه وآله)؛ إذ لو لم يكن قد استولى عليه شقاؤه باليأس كان بإمكانه أن يستشفي بدار شفاء الإمام المعصوم في زمانه موسى بن جعفر(عليه السلام) أو الإمام الرضا(عليه السلام)، ويطلب منه العلاج، أفهل ترى أنّ الإمام(عليه السلام) كان يردّه عن بابه خائباً؟! كلاّ. ثُمّ كأنّه لم يكن قد قرأ القرآن، ولم يمرّ بهذه الآية المباركة: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات


(1) البحار 48/176 ـ 178.

311

وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(1) فتراه سبحانه وتعالى أوعد مَنْ أشرك بالله وقتل النفس التي حرّم الله وزنى بمضاعفة العذاب يوم القيامة والخلود فيه مهاناً، ثُمّ استثنى من ذلك مَنْ تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، ووعد الله مَن يدخل في هذا الاستثناء أن يبدّل سيّئاته حسنات، وقد يكون من جزء العمل الصالح الذي يجب على القاتل أن يعمله هو: تهيّؤه لتنفيذ حكم القصاص عليه، ولكنّه على أيّ حال ليس باب رحمة الربّ مغلقاً عليه، ولكنّ هذا الشقي المحروم غلق باب الرحمة على نفسه باليأس.

وقد ورد في الحديث عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال الصادق جعفر بن محمّد(عليه السلام): ارج الله رجاءً لا يجرئك على معصيته، وخفِ الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته»(2).

وخلاصة الكلام: أنّ الخوف والرجاء إذا اجتمعا متساويين دفع كلّ منهما الخطر الذي قد يتوجّه إلى النفوس الضعيفة من الآخر.

وقد ورد في حديث صحيح عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه (ونحن نعتقد بصحّة مراسيل ابن أبي عمير) عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلاّ وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا»(3).

وأيضاً ورد عن حماد بن عيسى، عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان فيما أوصى به لقمان لابنه أن قال: يا بنيّ خفِ الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك الله،


(1) السورة 25، الفرقان، الآيات: 68 ـ 70.

(2) الوسائل 15/217 ـ 218، الباب 13 من جهاد النفس، الحديث 7.

(3) المصدر السابق: ص217، الحديث 4.