616

4 ـ الحسنة تُذهب السيِّئة:

قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾(1).

5 ـ العفو لدى مشيئة الله:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... ﴾(2).

وقال عزّ من قائل: ﴿... إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء...﴾(3).

6 ـ الشفاعة:

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(4).

وأمَّا مَن يسيء الاستفادة من هذه العناوين، وينهمك في المعاصي بحجَّة سعة رحمة الله، ووجود عناوين من هذا القبيل للمغفرة، فهذا حاله حال مَن يستعمل وصفة الطبيب في غير محلّها، فيتحوَّل ما اشتملت عليه الوصفة عن كونه دواءً ناجعاً إلى كونه سُمّاً قاتلاً. فقد أشرنا إلى أنَّ وسائل المغفرة هذه جعلت لفتح باب الأمل في وجه العاصي؛ كي لا يبتلى باليأس ولا يتورَّط في قعر الدركات، وقد صمِّمت جميعاً بشكل لا يوجب لو استعمت بالشكل الصحيح التجرُّؤَ على المعصية، ولكن يستعملها الخاطئ في غير محلِّها، ويأخذ منها أثراً غير مطلوب، وهو التجرُّؤ على المعصية.


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.

(2) السورة 4، النساء، الآية: 48.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 284.

(4) السورة 20، طه، الآية: 109.

617

وتوضيح ذلك باختصار: أنَّ أوَّل هذه العناوين هو التوبة، وهي وحدها التي حتَّم الله ـ تعالى ـ على نفسه قبولها، وتوبته عزَّ وجلَّ على العاصي بقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ ...﴾ أمَّا الاعتماد عليها للانهماك في المعاصي فهو منهج مغلوط لاستعمال الوصفة؛ وذلك لوجهين:

الأوَّل: أنَّ العاصي لا يعلم هل سوف يمهله الموت للتوبة أو لا، فكيف يصحُّ التورُّط في المعصية بالاعتماد على التوبة؟!

والثاني: أنَّه ما يدريه أنَّ ما يصدر عنه من الذنب لن يجرَّه مستقبلاً ـ لما يؤثِّر في النفس تأثيراً غير مرضيّ: من إفسادها، وتنزيلها إلى المراتب السافلة، وتقوية جوانب الشرِّ فيها، وتضعيف دوافع الخير فيها ـ إلى معصية أُخرى، وهكذا إلى أن يصل في الشقاء إلى مرتبة لن يُوفَّق للتوبة. وفي الحديث عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: « ما من عبد إلاَّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطِّي البياض، فإذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزَّوجلَّ: ﴿... بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ »(1).

وقد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنَّه قال: «ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة ...»(2) وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ القلب قبل الخطيئة نيِّر وضَّاء، فيسهل معه ترك الذنب، وبعد الوقوع في الخطيئة يبتلي بالسواد والظلمة.

وعن طلحة بن زيد، عن الصادق(عليه السلام) قال: «كان أبي(عليه السلام) يقول: ما من شيء أفسد


(1) مضت الرواية في بحث التوبة، وهي واردة في وسائل الشيعة 15 / 303، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 16، والآية: 14 في السورة 83، المطففين.

(2) مضى في بحث التوبة، وهو وارد في اُصول الكافي 2 / 451.

618

للقلب من خطيئة إنَّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله »(1).

وعن ابن فضَّال، عن الصادق(عليه السلام) قال: « إنَّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإنَّ العمل السيّء، أسرع في صاحبه من السكّين في اللحم »(2).

وهناك عنوان آخر في القرآن للمغفرة، وهو عنوان الاستغفار. وقد يفترض أنَّه لا يلازم التوبة.

قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3).

وقال عزَّ من قائل: ﴿... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(4).

وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(5).

فقد يُتوهَّم أنَّ المقصود بالاستغفار مجرَّد طلب المغفرة من دون ندم وتوبة. وما أسهل طلب المغفرة، فالإنسان يتعمَّد الذنب ثُمَّ يطلب المغفرة من الله؛ كي لا يعذّبه. وهذا هو عين التغرير بالذنب، وفتح الباب للانهماك في المعاصي.

ولكن الواقع: أنَّ المقصود بالاستغفار هو: طلب المغفرة مع الندم، وذلك يرجع


(1) وسائل الشيعة 15 / 301، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 8 .

(2) المصدر السابق: ص 302، الحديث 14.

(3) السورة 4، النساء، الآية: 110.

(4) السورة 4، النساء، الآية: 64.

(5) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

619

إلى التوبة التي عرفت فيها الجواب عن الشبهة، وأنَّها إذا لوحظت بشكلها الصحيح لا تؤدِّي إلى الجرأة، بل تؤدِّي إلى التطهير، وانفتاح باب الرجوع إلى الله تعالى، وتزكية النفس.

أمّا الشاهد على كون المقصود بالاستغفار هو طلب المغفرة مع الندم، فعدَّة أُمور:

الأوَّل: أنَّ هذا هو المعنى العرفي لطلب المغفرة، فلو أنَّ ابناً أساء إلى أبيه، ثُمّ جاء إلى أبيه يعتذر منه، ويقبِّل يده ويطلب منه العفو والإغماض عنه، كان المعنى العرفي لذلك الندم.

والثاني: التقييد الوارد في الآية الثالثة للاستغفار بقوله: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

والثالث: الروايات الدالَّة على أنَّ المقصود بالاستغفار هو: الاستغفار المقترن بالندم والتوبة، وذلك من قبيل:

1 ـ ما ورد عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سمعته يقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ »(1)، فلو كان طلب المغفرة وحده كافياً لمحو الذنب، لما كان المستغفر المقيم على الذنب كالمستهزئ.

2 ـ ما رواه الحسن بن محمَّد الديلمي في الإرشاد قال: « كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)يستغفر الله في كلِّ يوم سبعين مرَّة يقول: أستغفر الله ربِّي وأَتوب إليه، وكذلك أهل بيته(عليهم السلام) وصالح أصحابه، يقول الله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ...﴾(2)قال: وقال رجل: يا رسول الله: إنِّي اُذنب فما أقول إذا تبت؟


(1) وسائل الشيعة 16 / 74، الباب 86 من جهاد النفس، الحديث 8 .

(2) السورة 11، هود، الآية: 90.

620

قال: استغفر الله.

فقال: إنِّي أتوب ثُمَّ أعود.

فقال: كُلَّما أذنبت استغفر الله.

فقال: إذن تكثر ذنوبي.

فقال: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»(1).

وهذه الرواية واضحة في استعمال كلمتي: ( الاستغفار والتوبة ) ككلمتين مترادفتين، فيقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «كلَّما أذنبت استغفر الله » ويرتِّب عليه بعد ذلك قوله: « فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور ».

3 ـ ما عن فضل بن عثمان المرادي قال: « سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أربع من كنَّ فيه لم يهلك على الله بعدهنَّ إلاَّ هالك: يهمُّ العبد بالحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيَّته، وإن هو عملها كتب الله له عشراً. ويهمُّ بالسيِّئة أن يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن عملها أُجِّل سبع ساعات. وقال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها؛ فإنَّ الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ...﴾(2) أو الاستغفار؛ فإن هو قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاَّ هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذا الجلال والإكرام، وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار، قال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات: اكتب على الشقيِّ المحروم »(3).


(1) وسائل الشيعة 16 / 81، الباب 89 من جهاد النفس، الحديث 5.

(2) السورة 11، هود، الآية: 114.

(3) أُصول الكافي 2 / 429 ـ 430.

621

فترى الرواية عبَّرت أوَّلاً بالاستغفار، ثُمَّ ترجمت ذلك بقوله: أستغفر الله... وأتوب إليه.

4 ـ نرى أنَّ مضموناً واحداً يُجعل في حديث دائراً نفياً وإثباتاً مدار الاستغفار وعدمه، وفي حديث آخر دائراً نفياً وإثباتاً مدار التوبة، وعدمها، ممَّا يوحي إلى استعمال الكلمتين بمعنى واحد:

ففي حديث عبدالصمد بن بشير، عن أبي عبدالله(عليه السلام):«العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجَّله الله سبع ساعات، فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتب عليه سيِّئة»(1).

وفي حديث حفص، عن أبي عبدالله (عليه السلام): «ما مؤمن يذنب ذنباً إلاّ أجَّله الله سبع ساعات من النهار، فإن هو تاب لم يكتب عليه شيء، وإن هو لم يفعل كتب عليه سيِّئة...»(2).

بل وقد يقصد بالدعاء والاستغاثة بطلب النجاة من تبعات الذنب الدنيوية ـ أيضاً ـ ما يلازم التوبة، وأظنُّه المقصود بالحديث الوارد بشأن قارون وأصحابه: «وعزَّتي وجلالي لو إيَّاي دعوني مرَّة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً...».

وبما أنَّ هذا الحديث طريف ويبعث بالرجاء والأمل يناسب أن أذكره هنا وهو كالتالي:

لمَّا اتَّهم قارونُ موسى(عليه السلام): بالفحشاء، وكذَّبته الامرأة التي كانت قد اتَّفقت مسبقاً مع قارون في قذفه بالزنا بها لقاء مال من قارون، خرَّ موسى ساجداً يبكي ويقول: «... يا ربِّ إنَّ عدوَّك قد آذاني، وأراد فضيحتي وشيني، اللَّهمَّ فإن كنت رسولك فاغضب لي وسلِّطني عليه، فأوحى الله ـ سبحانه ـ أن ارفع رأسك، ومرِ


(1) وسائل الشيعة 16 / 66، الباب 85 من جهاد النفس، الحديث 5.

(2) المصدر السابق: الحديث 6.

622

الأرض بما شئت تطعك، فقال موسى: يا بني إسرائيل، إنَّ الله ـ تعالى ـ قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل. فاعتزلوا قارون ولم يبقَ معه إلاّ رجلان، ثُمَّ قال موسى(عليه السلام): يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى كعابهم، ثُمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثُمَّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى حقوهم، ثُمَّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم، وقارون وصاحباه في كلِّ ذلك يتضرَّعون إلى موسى(عليه السلام)، ويناشده قارون بالله والرحم حتّى روي في بعض الأخبار أنَّه ناشده سبعين مرَّة، وموسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدَّة غضبه. ثُمّ قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض. فأوحى الله سبحانه إلى موسى: يا موسى، ما أفظَّك! استغاثوا بك سبعين مرَّة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزَّتي وجلالي لو إيَّاي دعوني مرَّة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً »(1).

وأمَّا العفو عن الصغائر فقد دلَّت عليه الآية المباركة كما مضى مقيَّدة باجتناب الكبائر، ولا أحد ممَّن يرتكب صغيرة يستطيع أن يضمن أنّه لن تصدر عنه كبيرة إلى آخر العمر، ومن ثَمَّ لا يضمن العفو عن تلك الصغيرة، كما لا يستطيع أن يضمن عدم جرِّ تلك الصغيرة إيَّاه إلى الإصرار أو إلى الكبائر.

وعليه فالعفو عن الصغيرة ليس قطعيَّاً؛ لعدم قطعيَّة المعلَّق عليه، ومن ثمَّ ليس المفروض به أن يوجب الجرأة على المعصية إلاَّ بسوء الاستفادة من قبل نفس العاصي.

وأمَّا العفو عن اللمَم فقد دلَّت عليه الآية المباركة الماضية.

وعمدة المحتملات في اللمَم المستفادة من كتاب لسان العرب ثلاثة:

1 ـ أن يكون معنى اللمَم: مقاربة المعصية من غير مواقعة.


(1) بحار الأنوار 13 / 257.

623

2 ـ أن يكون بمعنى: صغار الذنوب.

3 ـ أن يكون معنى الإلمام: أنّك تأتي بشيء في وقت ولا تقيم عليه ولا تصرُّ، وكأنَّ المقصود: أنَّك تبتلى صدفة بمعصية ثُمَّ تتركها وتتوب عنها، وقد تبتلى بها صدفة مرَّة أُخرى من دون أن تصرَّ عليها.

والذي دلَّت عليه الروايات هو المعنى الثالث، وذلك من قبيل ما عن محمَّد بن مسلم، عن الصادق(عليه السلام) قلت له: «أرأيت قول الله عزَّوجلَّ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللمَمَ ...﴾ قال: هو الذنب يلمُّ به الرجل فيمكث ما شاء الله، ثُمَّ يلمُّ به بعد »(1).

وما عن إسحاق بن عمَّار في حديث، عن الصادق(عليه السلام) «... سألته عن قول الله عزَّوجلَّ ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللمَمَ ...﴾ قال: الفواحش: الزنا والسرقة، واللمَم الرجل يلمُّ بالذنب فيستغفر الله منه»(2) ونحوهما غيرهما(3).

وعلى أيِّ حال، فالإشكال الماضي هنا ـ أيضاً ـ غير مسجَّل. أمَّا على التفسير الأوّل فواضح. وأمَّا على التفسير الثاني فلرجوعه إلى العفو عن الصغائر، فالجواب نفس الجواب الذي ذكرناه عن الإشكال في العفو عنها.

وأمَّا على التفسير الثالث وهو الصحيح فلأنَّه من الواضح أنَّ من يريد أن يواقع الخطيئة لايثق بأنَّها سوف تكون من اللمَم، ولا بأنَّه حينما يموت لن يكون عليه شيء غير اللمَم من الكبائر والفواحش حتّى يكون اللمَم مغفوراً له.

وأمَّا أنَّ الحسنة تذهب السيَّئة كما قال الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً


(1) أُصول الكافي 2 / 441، كتاب الإيمان والكفر، باب اللمَم، الحديث 1، والآية: 32 في السورة 53، النجم.

(2) المصدر السابق: ص 442، الحديث 3.

(3) المصدر السابق: ص 441 ـ 442.

624

مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾(1) فالذي يبدو لي من هذه الآية المباركة ـ والله أعلم بمقصوده ـ أنَّه ليس المقصود كون الحسنة موجبة للعفو عن السيِّئة من دون تبدل الحال كي يثمر ذلك الجرأة وعدم المبالاة بالذنب؛ فإنَّ الآية فرضت الحسنة مُذهِبة لنفس السيِّئة لا موجبة للعفو عن العقاب فحسب.

والمقصود بإذهابها للسيِّئة ـ والله العالم ـ هو: محو أثر السيِّئة على النفس، فكما أنَّ السيِّئة تحدث السواد على القلب أو تؤثِّر في القلب أسرع من تأثير السكّين في اللحم كما مضى، كذلك الحسنة تُصقل القلب وتبدِّل الحال، وبقدر تبدّل الحال يرتفع العقاب، فهذه درجة من التوبة والرجوع إلى الله تعالى.

فإذا فسِّرت قاعدة: أنَّ الحسنات يذهبن السيِّئات بهذا التفسير، فأثرها كأثر قبول التوبة: إنَّما هو إعطاء الأمل للمؤمن المذنب لا الجرأة. أمَّا الذي يستغلّها في سبيل الجرأة على المعاصي، فهذا يعني سوء الاستفادة من وصفة الطبيب، كمن يسيء الاستفادة من فكرة التوبة. وليس هذا عيباً في وسائل المغفرة.

وأمَّا العفو المعلَّق على مشيئة الله في الآيتين الماضيتين، فمن الواضح أنَّه نتيجة تعليقه على مشيئة الله وعدم تنجيزه لاتثمر الجرأة، إلاّ لمن يريد أن يسيء الاستفادة من هذه الوصفات.

وأمَّا الشفاعة فلا إشكال في أنَّ الاعتقاد بها من أعظم المحفِّزات نحو الخير وكسب السعادة والكمال؛ لما قلنا من: أنَّ المنهمك في المعاصي وبالذات في الكبائر لو أصابه اليأس انسدَّ عليه باب النجاة، ولكن الاعتقاد بالشفاعة يدفع عنه اليأس، ويفتح له باب الأمل الذي لولاه لما تحرَّك نحو الخير.

وأمَّا كون الاعتقاد بالشفاعة موجباً للهلاك؛ لأنَّه يجرِّئ العبد على المعصية، فليس إلاّ كتأثير الاعتقاد بالتوبة في بعض النفوس في إيجاد الجرأة له على


(1) السورة 11، هود، الآية: 114.

625

الذنوب، بأمل أنَّه سوف يتوب عنها فتضمحلُّ. وهذا في الحقيقة ـ كما قلنا ـ ليس مشكلة التوبة أو الشفاعة، بل هي مشكلة كيفيَّة استعمال هذه الفكرة في غير محلِّها، فكما نقول في التوبة بأنَّ الاعتماد عليها في ارتكاب الذنوب من أعظم الأخطاء؛ لأنَّه:

أوّلاً: إنَّ التوبة أصعب من ترك الذنب؛ لأنَّ القلب إذا قسى بالذنب كان رجوعه إلى الهُدى أصعب من استمراره على الهدى قبل القسوة.

وثانياً: إنَّ إمهال الموت للوصول إلى التوبة غير مضمون.

وثالثاً: إنَّ الذنب قد يجرُّ الإنسان إلى ذنب آخر، ثُمَّ ينجرُّ إلى ذنب ثالث، وهكذا إلى أن يغطِّي السواد قلبه، وعندئذ لا يرجع إلى الخير أبداً، كذلك نقول في الشفاعة:

أوَّلاً: إنَّ الشفاعة لم تكن مضمونة لأحد؛ لأنَّها مقيَّدة ـ كما سوف يأتي إن شاء الله ـ في الآيات بإذن الله سبحانه وتعالى.

وثانياً: إنَّ الذنب بأمل الشفاعة قد يجرُّ الإنسان نحو ذنب آخر، وهكذا إلى أن يخرج صاحبَه من قابلية نيل الشفاعة.

وثالثاً: إنَّ الشفاعة قد تقع بعد دخول النار أو قبله، وبعد تحمُّل شدائد القيامة التي تذهل لها كلُّ مرضعة عمَّا أرضعت، وتضع كلُّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، فحتّى لو فُرِضت قطعيَّة الشفاعة لأحد فالمفروض به أن تحجزه شدائد عرصات يوم القيامة ومسألة البرزخ عن المعاصي، ولو لم يكن إلاّ الموت لكفى، فكيف وما بعد الموت أمرُّ وأدهى.

أمَّا الدليل على الشفاعة فهو:

أوّلاً: التصريح بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى:

1 ـ ﴿... مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ...﴾(1).


(1) السورة 10، يونس، الآية: 3.

626

2 ـ ﴿... وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ...﴾(1).

3 ـ ﴿لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾(2).

4 ـ ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾(3).

5 ـ ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ...﴾(4).

6 ـ ﴿وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾(5).

7 ـ ﴿... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ ...﴾(6).

وثانياً: الروايات التي هي فوق التواتر، نشير إلى نزر يسير منها:

1 ـ ما رواه السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيره(7) عن أمالي الصدوق (قدس سره)، عن الحسين بن خالد، عن الرضا(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مَن لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي. ومَن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. ثُمَّ قال(صلى الله عليه وآله): إنَّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُ مَّتي. فأمَّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا(عليه السلام): يابن رسول الله، فما معنى قول الله عزَّوجلَّ: ﴿... وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ...﴾ (8)؟ قال(عليه السلام): لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله دينه ».


(1) السورة 21، الأنبياء، الآية: 28.

(2) السورة 19، مريم، الآية: 87 .

(3) السورة 20، طه، الآية: 109.

(4) السورة 34، سبأ، الآية: 23.

(5) السورة 53، النجم، الآية: 26.

(6) السورة 2، البقرة، الآية: 255.

(7) تفسير الميزان 1 / 174 ـ 175.

(8) السورة 21، الانبياء، الآية: 28.

627

قال السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذا الحديث: قوله: «... إنَّما شفاعتي ...» هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعدِّدة عنه(صلى الله عليه وآله).

2 ـ ما رواه ـ أيضاً ـ السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيره (1) عن تفسير العيَّاشي، عن سماعة بن مهران، عن أبي إبراهيم(عليه السلام) في قول الله: ﴿... عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(2) قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاماً، ويؤمر الشمس فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً، فيأتون آدم، فيستشفعون منه، فيدلُّهم على نوح، ويدلُّهم نوح على إبراهيم، ويدلُّهم إبراهيم على موسى، ويدلُّهم موسى على عيسى، ويدلُّهم عيسى فيقول: عليكم بمحمَّد خاتم الرسل، فيقول محمَّد(صلى الله عليه وآله): أنا لها، فينطلق حتّى يأتي باب الجنَّة، فيدقُّ فيقال له: من هذا؟ والله أعلم، فيقول: محمَّد، فيقال: افتحوا له، فإذا فتح الباب استقبل ربَّه فخرَّ ساجداً، فلا رفع رأسه حتّى يقال له: تكلَّم وسل تعط، واشفع تشفَّع، فيرفع رأسه، ويستقبل ربَّه فيخرُّ ساجداً، فيقال له مثلها، فيرفع رأسه حتّى أنَّه ليشفع من قد أُحرق بالنار. فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأُمم أوجه من محمَّد(صلى الله عليه وآله)، وهو قول الله تعالى: ﴿... عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾.

قال السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في ذيل نقله لهذا الحديث: «أقول: وهذا المعنى مستفيض مرويٌّ بالاختصار والتفصيل بطرق متعدِّدة من العامَّة والخاصَّة، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، ولا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله) من الأنبياء وغيرهم جائز الشفاعة؛ لإمكان كون شفاعتهم فرعاً لشفاعته فافتتاحها بيده(صلى الله عليه وآله) ».


(1) تفسير الميزان 1 / 175.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 79.

628

3 ـ ما رواه ـ أيضاً ـ السيّد الطباطبائي(رحمه الله) في تفسيره(1) عن تفسير الفرات، عن محمَّد بن القاسم بن عُبيد معنعناً، عن بشر بن شريح البصري، قال: «قلت لمحمَّد بن عليٍّ(عليه السلام): أيّة آية في كتاب الله أرجى؟

قال: فما يقول فيها قومك؟

قلت: يقولون: ﴿ ... يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ...﴾(2).

قال: لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك.

قال: قلت: فأيُّ شيء تقولون فيها؟

قال: نقول: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾(3): الشفاعة والله، الشفاعة والله، الشفاعة ».

4 ـ ما عن تفسير الإمام العسكري(عليه السلام)، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: أما إنَّ من شيعة عليٍّ(عليه السلام)لمن يأتي يوم القيامة وقد وضع له في كفَّة سيِّئاته من الآثام، ما هو أعظم


(1) تفسير الميزان 1 / 176.

(2) السورة 39، الزمر، الآية: 53. وكأنّ من اعتقد كون هذه الآية أرجى آية انطلق من نقطة وعد هذه الآية بمغفرة الذنوب جميعاً؛ إذ قالت ﴿ ... إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾في حين أنَّ ذيل الآية واضح في كون هذه الآيات راجعة إلى التوبة، فقد جاء عقيب هذه الآية مباشرة قوله تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولسبب كون هذه الآية من آيات التوبة لا المغفرة المطلقة، لم يستثن منها الشرك كما استثني في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... ﴾السورة 4، النساء، الآية: 48.

(3) السورة 93 الضحى، الآية: 5. وقد مضت في النقطة الثالثة من الحلقة الثانية رواية اُخرى في تعيين أرجى آية، بآية ﴿إنَّ الحَسناتِ يُذهِبنَ السَّيـّئات﴾.

629

من الجبال الرواسي والبحار السيَّارة، تقول الخلائق: هلك هذا العبد، فلا يشكُّون أنَّه من الهالكين، وفي عذاب الله من الخالدين، فيأتيه النداء من قبل الله تعالى: يا أيُّها العبد الجاني هذه الذنوب الموبقات فهل بإزائها حسنة تكافئها وتدخل الجنَّة برحمة الله، أو تزيد عليها فتدخلها بوعد الله؟

يقول العبد: لا أدري، فيقول منادي ربِّنا عزَّ وجلَّ: إنَّ ربِّي يقول: نادِ في عرصات يوم القيامة: ألا إنَّ فلان بن فلان من بلد كذا وكذا وقرية كذا وكذا، قد رُهِنَ بسيِّئاته كأمثال الجبال والبحار ولا حسنة بإزائها، فأيُّ أهل هذا المحشر كانت لي عنده يد أو عارفة فليغثني بمجازاتي عنها، فهذا أوان شدَّة حاجتي إليها، فينادي الرجل بذلك، فأوَّلُ من يجيبه عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): لبَّيك لبِّيك لبَّيك أيُّها الممتحن في محبَّتي، المظلوم بعداوتي، ثُمَّ يأتي هو ومن معه عدد كثير وجمّ غفير وإن كانوا أقلَّ عدداً من خصمائه الذين لهم قبله الظلامات، فيقول ذلك العدد: يا أمير المؤمنين، نحن إخوانه المؤمنون، كان بنا بارَّاً، ولنا مكرماً، وفي معاشرته إيَّانا مع كثرة إحسانه إلينا متواضعاً، وقد نزلنا له عن جميع طاعاتنا، وبذلناها له، فيقول عليٌّ (عليه السلام): فبماذا تدخلون جنَّة ربِّكم؟ فيقولون برحمة الله الواسعة التي لا يعدمها من والاك ووالى آلك يا أخا رسول الله. فيأتي النداء من قبل الله تعالى: يا أخا رسول الله، هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له؟ فإنِّي أنا الحكم ما بيني وبينه من الذنوب قد غفرتها له بموالاته إيَّاك، وما بينه وبين عبادي من الظلامات فلا بدَّ من فصلي بينه وبينهم، فيقول عليٌّ(عليه السلام): يا ربِّ أفعل ما تأمرني، فيقول الله: يا عليُّ، اضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قِبله، فيضمن لهم عليٌّ(عليه السلام) ذلك، ويقول لهم: اقترحوا عليَّ ما شئتم أُعطكم عوضاً من ظلاماتكم قِبله، فيقولون: يا أخا رسول الله، تجعل لنا بإزاء ظلاماتنا قِبله ثواب نفس من أنفاسك ليلة بيتوتتك على فراش محمَّد (صلى الله عليه وآله)، فيقول عليٌّ(عليه السلام): قد وهبت ذلك لكم. فيقول الله

630

عزَّوجلَّ: فانظروا يا عبادي الآن إلى ما نلتموه من عليٍّ فداءً لصاحبه من ظلاماتكم، ويظهر لهم ثواب نفس واحد في الجنان من عجائب قصورها وخيراتها، فيكون ذلك ما يرضي الله به خصماء أُولئك المؤمنين، ثُمَّ يريهم بعد ذلك من الدرجات والمنازل ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على بال بشر، يقولون: ربَّنا، هل بقي من جنانك شيء؟ إذا كان هذا كلُّه لنا فأين تحلُّ سائر عبادك المؤمنين والأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين؟ ويخيَّل إليهم عند ذلك أنَّ الجنَّة بأسرها قد جعلت لهم، فيأتي النداء من قبل الله تعالى: يا عبادي، هذا ثواب نفس واحد من أنفاس عليِّ بن أبي طالب الذي اقترحتموه عليه، قد جعله لكم فخذوه وانظروا، فيصيرون هم وهذا المؤمن الذي عوَّضه عليٌّ(عليه السلام) في تلك الجنان ثُمَّ يرون ما يضيفه الله عزَّ وجلَّ إلى ممالك عليٍّ في الجنان ما هو أضعاف ما بذله عن وليِّه الموالي له ممَّا شاء من الأضعاف التي لا يعرفها غيره. ثُمَّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقُّوم المعدَّة لمخالفي أخي ووصيِّي عليِّ بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

وقد يشتدُّ الإشكال على مثل الرواية الأخيرة ممَّا يفتح باب الشفاعة على مصراعيه مع وضوح كونها قبل دخول النار: بأنَّها توجب الجرأة على المعاصي، ولكنَّ الجواب ما مضى: من أنَّ هذه الشفاعة قد تكون في نهايات يوم القيامة، وشدائد القيامة لا تطاق، والنجاة عنها يكون بالعمل، إلى سائر الأجوبة التي مضى ذكرها.

5 ـ ما عن أبي بصير قال: « سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: إنَّ قوماً يُحرقون بالنار حتّى إذا صاروا حمماً أدركتهم الشفاعة، قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من رشح أهل الجنّة فيغتسلون فيه، فتنبت لحومهم ودماؤهم، وتذهب عنهم قشف النار،


(1) بحار الأنوار 8 / 59 ـ 61، و 68 / 107 ـ 109.

631

ويدخلون الجنَّة، فيسمَّون: الجهنَّميِّين، فينادون بأجمعهم: اللَّهمَّ أذهب عنَّا هذا الاسم، قال: فيذهب عنهم، ثُمَّ قال: يا أبا بصير، إنَّ أعداء عليٍّ هم الخالدون، لا تدركهم الشفاعة»(1).

6 ـ ما عن إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، قال: قال الرضا(عليه السلام): «مَنْ زارني على بُعد داري ومزاري أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتّى أُخلِّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان»(2).

ثُمّ إنَّ الشفاعة تقسَّم من قبل بعض إلى قسمين:

الأوَّل: ما قد يُسمَّى بشفاعة القيادة، أو شفاعة العمل.

وليس هذا في الحقيقة عفواً إضافيَّاً على ما يقتضيه نفس عمل الإنسان من العفو، وأملاً جديداً للعبد العاصي زائداً على أعماله وتوبته وحسناته، وإنَّما يُسمَّى القرآن مثلاً أو المعصوم(عليه السلام) شفيعاً باعتبار أنَّ العمل بالقرآن أو بإرشادات المعصوم هو الذي شفع للإنسان، وأعان الإنسان على عفو الله تعالى عن سيّئاته، أو على رفع درجاته فكان القرآن أو المعصوم هو الخيط بينه وبين الله . والظاهر أنَّ هذه الشفاعة هي المقصودة بما ورد عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله) من قوله: « لا شفيع أنجح من التوبة...» (3) كما فسَّر بعض بهذا التفسير(4) الشفاعة الواردة بشأن القرآن، وذلك من قبيل: ما عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله): « إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافع مشفَّع، وماحل مصدَّق. ومن جعله أمامه قاده إلى الجنَّة، ومن جعله


(1) بحار الأنوار 8 / 361.

(2) وسائل الشيعة: 14 / 551، الباب 82 من المزار، الحديث 2.

(3) بحار الأنوار 8 / 58.

(4) راجع منشور جاويد للشيخ جعفر السبحاني 8 / 65، وعدل الهى للشيخ المطهري: ص 244.

632

خلفه ساقه إلى النار...»(1) بل وفُسِّر أيضاً بذلك(2) قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ﴾(3).

وعلى أيِّ حال، فهذه الشفاعة ليست هي المقصودة بأكثر أدلَّة الشفاعة، ولا هي الظاهرة منها؛ فإنَّ الشفاعة أصلها من الشفع في مقابل الوتر، وبمعنى الانضمام إلى الشخص لمعونته. فهي تنصرف عن حيطة آثار عمله إلاّ بمقدار خلق أصل الأرضيَّة للشفاعة؛ إذ ليس كلُّ إنسان فيه أرضيَّة قبول الشفاعة، وهذه الأرضيَّة رهينة لعمل الإنسان. وهذه الشفاعة ليست مورداً لشيء من الإشكالات التي أَوردها منكرو الشفاعة، وليست مقصودة لهم .

الثاني: ما قد يُسمَّى بشفاعة المغفرة، أو شفاعة رفع الدرجات.

والمقصود بها: المعونة التي تأتي للإنسان من قبل أهل الشفاعة للعفو أو لزيادة الدرجات، زائداً على ما كانت تقتضيه أعمال الإنسان لولا الشفاعة. وهذا هو الذي يبعث بأمل جديد في نفوس العاصين والمذنبين، وكذلك في نفوس المؤمنين ولو بلحاظ رفع الدرجات. وقوله(صلى الله عليه وآله): « إنَّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل»(4) ناظر إلى شفاعة المغفرة دون شفاعة رفع الدرجات(5).


(1) أُصول الكافي 2 / 599 كتاب فضل القرآن.

(2) راجع عدل الهى: 240.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 71.

(4) بحار الأنوار 8 / 34.

(5) تفسَّر شفاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لسائر الأنبياء المعصومين المستفادة من إطلاق بعض الروايات ـ كما في تفسير القمّي في تفسير قوله تعالى في السورة 34، سبأ، الآية: 23 ﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... ﴾: ما أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ وهو محتاج إلى شفاعة محمَّد(صلى الله عليه وآله) يوم القيامة ـ بمعنى شفاعة رفع الدرجات.

633

وقد فسِّرت هذه الشفاعة بعدّة تفاسير:

التفسير الأوَّل: افتراض هذه الشفاعة أمراً شكليَّاً بحتاً، فإنَّ هناك من سَلَب التأثير عن الشفاعة على الإطلاق، وجعله مجرّد عمل شكلي وإكرام من الله للشفيع في الوساطة الشكليَّة فقال: إنَّ الشفاعة إنَّما هي بالشكل فقط، وليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء؛ حيث يلجؤون إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودَّة، أو مصلحة معيَّنة، أو موقع معيَّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم وقضاء حوائجهم عنده. إنَّ الشفاعة هي: كرامة من الله لبعض عباده فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة، فيشفِّعهم فيمن يريد المغفرة له ورفع درجته عنده؛ لتكون المسألة في الشكل وساطة في النتائج التي يتمثَّل فيها العفو الإلهي الربَّاني تماماً كما لو كان النبيُّ السبب، أو الوليُّ هو الواسطة(1).


(1) من وحي القرآن 25 / 66 ـ 69.

ونصّ عبارته ما يلي:

أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الروايات المتعدّدة عن السنّة والشيعة فإنّها ليست حالة وساطة بالمعنى الذي يفهمه الناس في علاقاتهم بالعظماء لديهم الذين قد لا يستطيع الناس مخاطبتهم بشكل مباشر للحواجز المادّيّة الفاصلة بينهم وبين الناس ولذلك يلجأ الناس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّة أو مصلحة أو موقع معيّن ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم وقضاء حوائجهم عنده.

إنّ الشفاعة هي كرامة من اللّه لبعض عباده فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة فيشفعهم فيمن يريد المغفرة له ورفع درجته عنده لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطة في النتائج التي يتمثّل فيها العفو الإلهي والنعيم الربّاني تماماً كما لو كان النبي هو السبب أو كان الوليّ هو الواسطة ولكنها ـ في العمق ـ إرادة اللّه لذلك ممّا لا يمكن لنبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو وليّ امتحن اللّه قلبه للإيمان أمر تغييرها في الاتجاه الذي تتحرك فيه، وبذلك فهم يدرسون مواقع رضا اللّه في عباده ليقوموا بالشفاعة أو ليأذن اللّه لهم بالشفاعة. وفي ضوء ذلك لا معنى للتقرب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم؛ لأنّهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقلّ، بل اللّه هو المالك لذلك كلّه على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها. الأمر الذي يفرض التقرب إلى اللّه في أن يجعلنا ممّن يأذن لهم بالشفاعة له. وهذا هو الذي نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن التي تؤكّد على أنّها قضية تتصل باللّه فليس لأحد أن يمارسها إلاّ بإذنه فيمن ارتضاهم اللّه لينالوا عفوه. قال اللّه تعالى: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾(19 / 87)، ﴿يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ﴾(20 / 109)، ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾(34 / 23)، ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾، وليس معنى إذن اللّه للشفعاء أنّه أعطاهم الحرّيّة في ذلك أو أنّه يتقبّل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم ليتقرب الناس منهم بالوسائل الخاصّة التي تثير مشاعرهم وتؤكّد علاقاتهم بهم بشكل شخصي، كما هي الأشياء الشخصيّة، بل إنّ معنى ذلك أنّ اللّه جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها فيما يوافق رضاه؛ لأنّ المفروض أنّ رضاهم لا ينفصل عن خطّ رضاه، كما أنّ رضاه يتحرّك في آفاق حكمته لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة. وفي ضوء ذلك فإنّ الاستشفاع بالأنبياء والأولياء لا يمثّل خروجاً عن توحيد الاستعانة باللّه؛ لأنّه يرجع في الحقيقة إلى طلب المغفرة من اللّه والنجاة من النار من خلال ما اقتضته إرادة اللّه وحكمته في ارتباط عفوه بشفاعة هذا النبيّ أو الوليّ على أساس ما أراده اللّه من حكمته في ذلك.

انتهى نصّ عبارته.

634

أقول: إنّ الشفاعة الشكليَّة ينبغي أن يُطيَّب بها خاطر الأطفال ويُكرَموا بها، لا خاطر الأنبياء والأوصياء والأولياء، وافتراضها مقاماً محموداً، وكيف يمكن أن تكون الشفاعة التي خُصَّت بأهل الكبائر «... فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل...» أمراً شكليَّاً، وأيُّ مشكلة في شمول الشفاعة الشكليَّة لأهل الصغائر ؟؟! ولعلَّ الذي دعا هذا الشخص إلى افتراض شكليَّة الشفاعة عجزه عن حلِّ ما سوف تأتي الإشارة إليه من إشكالات الشفاعة.

إلاَّ أنَّه عندئذ يكون إنكار الشفاعة ـ لا سمح الله ـ أكثر منطقيَّة من افتراض شكليَّتها.

635

التفسير الثاني: أنَّ الشفاعة وإن كانت مؤثِّرة تأثيراً حقيقيَّاً، وليست أمراً صوريَّاً كما فُرِض في التفسير الأوَّل إلاَّ أنَّ هذه الشفاعة طريق تكوينيٌّ لنزول الرحمة والمغفرة والتطهير من قبل الله تعالى إلى العبيد، فهي أمر يبدأ من الله وينتهي إلى العاصي عن طريق الأنبياء والأوصياء والأولياء والمؤمنين، بخلاف ما هو المتعارف في الدنيا من الشفاعة بين الناس ممَّا يبدأ بالعاصي بطلبه الشفاعة من الوسيط وينتهي بمن كان له العقاب، والوسيط يؤثِّر فيمن له العقاب في عفوه عن الذنب ورفع العقاب عنه.

وبهذا البيان يدفع صاحبه الإشكالات الثبوتيَّة على الشفاعة بحجَّة أنَّ الشفاعة التي توجب خلاف العدل، أو التبعيض بين المذنبين من دون فارق أو نقض القانون، أو تأ ثُّر المشفوع إليه بالشفيع، أو أن يقال: إنَّ هذا ينافي التوحيد، أو يستلزم كون الشفيع أرحم من الله، أو ما إلى ذلك، إنَّما هي الشفاعة التي تبدأ من العاصي وتنتهي بالمشفوع إليه، وليست الشفاعة التي تبدأ من الله تعالى وتنتهي إلى العصاة.

وحاصل الفكرة: أنَّ المغفرة من الله تعالى والرحمة منه مباشرة، إلاَّ أنَّ النعم المعنويَّة أمثال المغفرة والرحمة والتطهير عن الذنوب ورفع الدرجات، حالها حال النعم الماديَّة كالرزق والشفاء وما إلى ذلك، فكما أنّ النعم الماديّة إنَّما تنزل على الإنسان بأسباب ووسائط كالشمس والمطر والهواء والتراب والماء والدواء وما إلى ذلك .

ابر و باد و مه و خورشيد و فلك در كارند
تا تو نانى بكف آرىّ و بغفلت نخورى

كذلك النعم المعنويَّة لا تصل إلى الإنسان إلاَّ عن طريق وسائط: وهم الأنبياء والأوصياء والأولياء والكمَّلون والمؤمنون(1).


(1) راجع عدل الهى للشيخ المطهري: 258 ـ 259.

636

بل به يدفع ـ أيضاً ـ الإشكال الإثباتي على الشفاعة بلحاظ آيات نفي الشفاعة ببيان: أنَّ آيات نفي الشفاعة تقصد نفي الشفاعة المألوفة في الدنيا، والتي تبدأ بالعاصي وتنتهي بالمشفوع إليه، وآيات الشفاعة تقصد الشفاعة الصحيحة التي تبدأ بالله وتنتهي بالعصاة(1).

إلاَّ أنَّ هذه الشفاعة ليس فيها أمل جديد للعاصي غير نفس أمل سعة رحمة الله عزَّ وجلَّ.

وعلى أيِّ حال، فهذه الشفاعة خلاف ظاهر أكثر أدلَّة الشفاعة؛ فإنَّها تنصرف ـ بقطع النظر عن الإشكالات ـ إلى الشفاعة المألوفة في هذه الدنيا، وهي: العفو عن المذنب لأجل الشفيع، لا العفو الذي كان المفروض أن ينزل على المذنب ولكنَّه لم يرَ طريقاً للنزول إلاَّ بتوسُّط الشفيع، وذلك من قبيل توسط الشمس والتراب في وصول الأرزاق إلينا.

وهنا أيضاً لا أرى مبرِّراً لمصير من صار إلى تفسير الشفاعة بذلك عدا عجزه عن حلِّ الإشكالات التي توجَّه إلى الشفاعة بالمعنى المألوف.

التفسير الثالث: ما أشرنا إليه آنفاً من الشفاعة المألوفة في الدنيا التي هي لأجل الشفيع، أي: إنَّ الله ـ تعالى ـ إنَّما يعفو عن المذنب لا لأنَّه أراد العفو والرحمة في ذاتها، ولم يكن طريق لنزول العفو أو الرحمة إلاَّ الشفعاء، فالشفعاء كانوا وسطاء في خطِّ النزول، بل كان العفو والرحمة لأجل طلب الشفيع ذلك من الله، فالشفيع وسيط في خطِّ الصعود بين العبد والله سبحانه وتعالى. وهذا هو ظاهر أدلة الشفاعة التي تحمل ـ لولا محذور ـ على نفس ما هو المفهوم والمألوف في هذه الدنيا: من أنَّ كرامة الشفيع لدى المشفوع إليه أوجبت قبول طلبه وشمول رحمة المشفوع إليه للمشفوع له. وهذا المعنى هو في غاية الظهور من مثل قوله تعالى: ﴿... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ


(1) المصدر السابق: 259.

637

ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾(1)؛ فإنَّ سياق الآية كما ترى جعل البدء بالعاصي، فهو الذي يجيء إلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ويطلب منه طلب المغفرة، ثُمَّ يدعو له الرسول، ثُمَّ يجد الله توَّاباً رحيماً. وليس العكس كما يقوله صاحب التفسير الثاني.

ومثل هذه الآية في السياق ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): « إذا قمتُ المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من أُمَّتي، فيشفِّعني الله فيهم. والله لا تشفَّعت فيمن آذى ذرِّيتي »(2).

وعنه(صلى الله عليه وآله): « إنَّ الله أعطاني مسألة، فأخَّرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أُمَّتي يوم القيامة، ففعل ذلك »(3).

وعن الباقر(عليه السلام): «يا جابر، لا تستعن بعدوِّنا في حاجة، ولا تستعطه، ولا تسأله شربة ماء؛ إنّه ليمرُّ به المؤمن في النار فيقول: يا مؤمن، ألست فعلت بك كذا وكذا، فيستحيي منه فيستنقذه من النار...»(4).

وعن الصادق(عليه السلام): « إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفَّع فيهم حتّى يبقى خادمه، فيقول: فيرفع سبّابتيه: يا ربِّ، خويدمي كان يقيني الحرَّ والبرد، فيشفَّع فيه »(5).

وهذا المعنى من الشفاعة هو مورد الإشكالات الثبوتيَّة والإثباتيَّة التي تورد في المقام. ومَنْ عدل عن هذا المعنى للشفاعة إلى المعنى السابق، وحمل مثل هذه الآية على خلاف سياقها، إنَّما فعل ذلك لعجزه عن حلِّ تلك الإشكالات.


(1) السورة 4، النساء، الآية: 64.

(2) بحار الأنوار 8 / 37.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق: ص 42.

(5) المصدر السابق: ص 61.

638

ونحن نقتصر هنا على ذكر أهمِّ الإشكالات التي أُوردت أو يمكن أن تورد على الشفاعة، وهي ما يلي:

الأوَّل: ما هو مسلك الوهَّابيين: من أنَّ الإيمان بالشفاعة نوع شرك بالله تعالى.

ولعلَّ هذا أتعس وجوه الإشكال في المقام؛ وذلك لأنَّ شائبة الشرك إنَّما هي فيما لو فرض أنَّ الشفاعة تكون بمعنى أنّ الشفيع هو الذي يغفر ذنب العبد في مقابل إرادة الله تعالى، في حين أنَّ المدَّعى هو: أنَّ الشفاعة تكون أساساً بإذن الله، ثُمَّ يكون الغفران من الله كاستجابة لدعاء الشفيع. وهذا أبعد ما يكون من الشرك، ومنسجم تماماً مع فكرة التوحيد. وليس انسجام الشفاعة مع فكرة التوحيد متوقِّفاً على تفسيرها بكون الله ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي أراد العفو، فأمر وليَّه الشفيع بشفاعة المشفوع له، بل يكفي في ذلك افتراض كون الشفيع داعياً لله بإذنه في طلب العفو للمذنب، واستجابة الله ـ تعالى ـ لدعوة وليِّه سنخ استجابته لكلِّ دعاء آخر، ولو كان الإيمان بهذا شركاً لكان الإيمان بالدعاء ـ أيضاً ـ شركاً، في حين أنَّ القرآن يقول: ﴿... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...﴾(1).

والثاني: أنَّ الشفاعة تستلزم كون الشفيع أكثر رحمة من الله تعالى؛ لأنَّه لولا شفاعته لما غفر الله لهذا العاصي، ولكنّ شفاعة الشفيع اقتضت شمول العفو والمغفرة له.

والجواب: أنَّ صفة الرحمة والشفقة بمعناهما العاطفي الراجع إلى نوع من التأثُّر الإنساني، موجودةٌ في الشافعين بما فيهم الأنبياء والصدِّيقون وجميع المعصومين(عليهم السلام)، ولكنَّ الله تعالى منزَّه عن ذلك، وإنَّما الرحمة الثابتة للربِّ تكون بمعنى مجرَّد عن شوائب التأثُّر والانكسار العاطفي، فإذا كان العاصي واصلاً في مستوى عصيانه إلى حدّ لا يستحقُّ رحمة الربِّ تعالى، ولكنَّه لم يكن واصلاً إلى


(1) السورة 40، غافر، الآية: 60.

639

مرتبة لا تشمله العطوفة التأثُّريَّة الإنسانيّة النزيهة الموجودة في الصلحاء، أو كان واصلاً إلى تلك المرتبة ولكنّه لاقى من العذاب ما هيّأه لشمول العطوفة الإنسانيّة له، ولم يكن بعدُ مشمولاً للرحمة الإلهيَّة المجرّدة عن شوائب التأثّر، اتَّجهت إليه رحمة الشفيع الإنسانيّة التي تكون ساحة الربِّ منزَّهة عنها، ولم تتَّجه إليه الرحمة الإلهيّة التجريديَّة. أ مَّا لو كان العاصي غير واصل إلى مستوى حرمانه من تلك الرحمة التجريديَّة، فهو مشمول لرحمة الربِّ، وقد تشمله شفاعة الشفيع أيضاً. فهذا الاعتراض قد ينتج من الخلط بين رحمة الربِّ المجرَّدة عن شوائب التأثُّرات العاطفيَّة، ورحمة الشفيع الناتجة من صفة الرقّة المخصوصة بالإنسان ومنهم الشفعاء، والمنزَّهة عنه ساحة الربِّ.

وأيضاً قد يكون للعاصي حقٌّ أخلاقيٌّ على الشفيع، وهذا الحقُّ اقتضى مكافأته من قبل الشفيع بطلب العفو من الله تعالى، فأصبح العفو عنه متوقِّفاً على الشفاعة.

الثالث: أنَّ الشفاعة نوع استثناء وتبعيض بين المذنبين، وهو خلاف العدل أو الحكمة.

والجواب:

أوَّلاً: يمكن افتراض عدم التبعيض، وذلك بشمول شفاعة الشافعين لكلِّ مذنب بقيت له أرضيَّة الشفاعة، إمَّا ابتداءً أو بعد فترة من العذاب، ولا يحرم منها إلاَّ الذي أفنت ذنوبُه أيَّ أرضيَّة وقابليَّة له للشفاعة.

وثانياً: لو فُرِض التبعيض كما لو لم تشمل شفاعة الشافعين بعض من كان بالإمكان شمولها له، لم يكن هذا خلاف العدل أو الحكمة؛ لأنَّ قبول الشفاعة من قبل الله تعالى إنَّما هو مكافأة للشفيع على أعماله الصالحة، وليس مكافأة للمشفوع له كي يرجع ذلك إلى التبعيض بين المذنبين، كما أنَّ فرض تبعيض الشفيع للمذنبين المؤهَّلين لقبول الشفاعة ـ أيضاً ـ ليس قبيحاً أو خلاف الحكمة؛ فإنَّ الشفاعة

640

كانت فضلاً من الشفيع لا حقَّاً واجباً عليه، وقد يختصُّ ملاك الفضل ـ كحقِّ المشفوع له الأخلاقي على الشفيع ـ ببعض دون بعض.

الرابع: أنَّ القول بالشفاعة يستلزم الاعتقاد بأنَّ الله يقع تحت تأثير الشفيع، ويتبدّل غضبه بالرحمة، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

والجواب: أنَّ الغضب والرضا بمعناهما العاطفيين البشريين الراجعين إلى نوع من التأثُّر، غير موجودين في الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّه منزَّه عن الحالات الإنسانيّة الراجعة إلى التبدُّلات في الحالات النفسيَّة سواءٌ الرفيعة أو الدنيئة. وأمَّا بالمعنى الممكن في الله سبحانه وتعالى فهو الذي قد يُعبَّر عنه بعلمه تعالى باستحقاق العبد للرضوان أو للعذاب، أو يُعبَّر عنه بالرضا وعدم الرضا المجرَّدين من شوائب التأثُّر، فلو كان العبد العاصي غير مستحقٍّ لرحمة الربِّ التجريديَّة، ولكنَّه استحقَّ عطوفة الشفيع التأثُّريَّة، لحقّ له على الشفيع أو غير ذلك، فدعا الشفيع عند الله له بالمغفرة، وشملته مغفرة الربِّ نتيجة لهذه الشفاعة ولم تكن شاملة له لولا الشفاعة، فهذه المغفرة في الحقيقة استجابة للشفيع، ومكافأة له على أعماله الصالحة، وليس تبدُّلاً للغضب بالرضا بشأن هذا المذنب، فقد أصبح المذنب في حدود ما شملته شفاعة الشفيع فحسب دون الرحمة التجريديَّة الإلهيَّة منعَّماً بجنَّة عرضها السماوات والأرض، لا برضوان من الله الذي هو أكبر.

والخامس: أنَّ العفو عن هذا المذنب إن كان عدلاً فلماذا يفترض عدمه لولا شفاعة الشفيع؟! وإن كان ظلماً فطلب الشفيع إيَّاه طلبٌ للظلم، ولا معنى لاستجابة الله سبحانه وتعالى لطلب الظلم؟!

والجواب: أنَّ هذا غفلة عن شيء ثالث غير العدل والظلم، ألا وهو الفضل، فعفوه سبحانه وتعالى عن هذا المذنب فضل، وليس ظلماً ولا عدلاً «اللَّهمَّ عاملنا بفضلك، ولا تعاملنا بعدلك » والعبد قد توجد فيه أرضيَّة المعاملة بالفضل لولا