382



الثاني: أن يحتمل: أنّ الشوق إنّما هو إلى الجزاء مطلقاً، أي: حتّى مع عدم تحقّق الشرط، لا إلى الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، فليس الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرطاً للوجوب، كما ليس شرطاً للواجب، إلّا أنّ المولى إنّما استثنى فرض عدم الشرط شوقاً منه إلى عدم سعة دائرة مُلزميّة العبد، فمع هذا الاحتمال لا مانع من إجراء البراءة، وهذا أيضاً مبنيّ على ما بنينا عليه الوجه الأوّل.

الثالث: أن يحتمل: أنّ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرط الواجب، لا شرط الوجوب، وإنّما جعله المولى بحسب عالم الإثبات شرطاً للوجوب شوقاً منه إلى أن لا يكون العبد ملزَماً بإيجاد الشرط(1)، وهذا أيضاً مبنيّ على ما بنينا عليه الوجهين الأوّلين.

الرابع: أن يحتمل: أنّ الشوق إنّما هو إلى الجزاء مطلقاً، وليس الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرطاً للوجوب، ولا شرطاً للواجب، إلّا أنّ المولى إنّما استثنى بحسب عالم الإثبات فرض عدم الشرط؛ لأنّ المشتاق إليه في فرض عدم الشرط إنّما كان هو الوجود الاتّفاقيّ للجزاء، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.

الخامس: أن يحتمل: أنّ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرط الواجب، لا شرط الوجوب، وإنّما جعله المولى بحسب عالم الإثبات شرط الوجوب لأنّ الشرط كان هو الوجود الاتّفاقيّ، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.

السادس: أن يفرض: أنّ الشرط ـ حتّى بحسب عالم الملاك والشوق ـ شرط للوجوب، فالمولى يشتاق إلى الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، إلّا أنّه يحتمل أن لا يكون أحد فردي الجامع هو مطلق عدم الشرط، بل العدم الاتّفاقيّ، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.


(1) فإنّه لو جعله شرطاً للواجب وجب على العبد تحصيله.

383

هذا تمام تصوير المطلب بناءً على عدم تصوّر مرحلة ثالثة في مقام الثبوت.

وأمّا المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الجعل والاعتبار لو قلنا بوجود مرحلة من هذا القبيل، بدعوى: أنّه وإن لم يكن لها أثر؛ لأنّ تمام الأثر إنّما هو لعالم الملاك والإرادة مع تصدّي المولى لتحصيلهما وإبرازهما، إلّا أنّ هذه المرحلة تكون وفق الصياغات العقلائيّة للعلاقات بين الموالي والمكلّفين، فإذا افترضنا مثل هذه المرحلة كما هو كذلك عرفاً في القضايا المجعولة بنحو تقنين القوانين والقضايا الحقيقيّة، فهل القيد يكون قيداً لنفس الإلزام، أو للواجب؟



فلو افترضنا الجزم بعدم كلّ هذه الاحتمالات الستّة، فلا محيص عن عدم جريان البراءة، إلّا أنّه فرض لا واقع له.

وخلاصة الكلام في حلّ الإشكال في الشروط المقدورة بناءً على إنكار مرحلة الجعل هي: أنّ الإشكال ينحلّ بإحدى نكتتين:

1 ـ افتراض: أنّ رغبة المولى إلى عدم مُلزميّة العبد توجب سقوط الإلزام العقليّ حقيقةً.

وهذا عندنا صحيح، ونرى: أنّ هذا هو روح تفسير جواز الارتكاب في المكروهات، والترك في المستحبّات.

2 ـ افتراض: كون المشتاق إليه الفرد الاتّفاقيّ.

وهاتان النكتتان: تارةً نحلّ بإحداهما إشكال البراءة مباشرة، واُخرى نحلّ إشكال البراءة بسلخ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق عن كونه شرطاً للوجوب، وجعله شرطاً للواجب، أو إسقاطه عن الشرطيّة رأساً، فيأتي إشكال آخر وهو: أنّه إذن لماذا صار الوجوب بحسب عالم الإثبات ومقدار مطالبة المولى مشروطاً؟! ويكون دور هاتين النكتتين حلّ هذا الإشكال.

384

الصحيح هو الأوّل. والبرهان على ذلك يتمّ على أساس الالتفات إلى أمر، وهو: أنّ ما يكون قيداً في الواجب ولا يكون قيداً للوجوب لابدّ من كونه محرَّكاً نحوه بذاك الوجوب؛ لأنّ فرض كونه قيداً للواجب لا للوجوب هو فرض كون الوجوب فعليّاً قبل ذاك القيد، وفرض فعليّة الوجوب هو فرض فاعليّته، فهو يحرّك قبل تحقّق القيد نحو المقيّد، فبالتالي يحرّك نحو القيد لا محالة، حيث إنّ المقيّد لا يتحقّق إلّا بتحقّق القيد، وافتراض التحريك نحو المقيّد من دون كون ذلك تحريكاً نحو قيده أمر غير معقول؛ إذ المقيّد لا يتقوّم ولا يوجد خارجاً إلّا بقيده، فينبغي افتراض استحالة ذلك أصلا موضوعيّاً، والكلام على ضوئه في بيان الضابط في القيود التي يمكن سحبها من الوجوب إلى الواجب، والقيود التي لا يمكن فيها ذلك، فنقول بعد افتراض ذلك الأصل الموضوعيّ:

إنّ القيود ـ كما عرفنا في ما سبق ـ على قسمين:

الأوّل: ما يكون دخيلا في فعليّة اتّصاف الشيء بالمصلحة، كدخل برودة الهواء في اتّصاف إشعال النار بالمصلحة.

والثاني: ما يكون دخيلا في ترتّب المصلحة على الشيء خارجاً بعد فرض فعليّة الاتّصاف سابقاً، كدخل سدّ الأبواب والمنافذ في ترتّب الدفء على إشعال النار:

أمّا القسم الأوّل: فهي تارةً تكون اختياريّة، وأقصد بذلك ما يعقل الإلزام بها من قبل المولى، واُخرى تكون غير اختياريّة، وأقصد بذلك ما لا يعقل الإلزام بها من قبل المولى، سواء كان ذلك لأجل خروجه عن قدرة المكلّف، أو لأجل كون الدخيل خصوص الحصّة التي تتحقّق صدفةً واتّفاقاً:

أمّا ما يكون اختياريّاً، فلا يعقل سحب القيد فيه من الوجوب إلى الواجب؛ إذ بذلك يصبح الوجوب محرّكاً نحوه على ما أسّسناه من الأصل الموضوعيّ، بينما

385

لا مقتضي للتحريك نحوه؛ لأنّ هذا القيد ليس محصّلا للمصلحة الفعليّة، وموجباً لترتّبها خارجاً حتّى يحرَّك نحوه، وإنّما هو دخيل في اتّصاف الفعل بالمصلحة، وأيّ اهتمام للمولى باتّصاف الفعل بالمصلحة وعدمه؟!

وأمّا ما لا يكون اختياريّاً، فأيضاً لا يعقل سحب التقييد به من الوجوب إلى الواجب؛ إذ بذلك يصبح الوجوب محرّكاً نحوه بحسب ما مضى، بينما لا يصحّ هنا التحريك نحوه لعدم المقتضي بنفس البيان الذي عرفت في الاختياريّ، ولوجود المانع، وهو لزوم التحريك نحو غير الاختياريّ.

فتحصّل: أنّ قيود الاتّصاف مطلقاً يجب أن تؤخذ قيوداً في الوجوب.

نعم، بعد فرض أخذها قيوداً في الوجوب لا مانع من أخذها قيداً في الواجب أيضاً لو كانت دخيلة في ترتّب المصلحة أيضاً، فمثلا قد يفرض: أنّ الاستطاعة التي هي قيد الوجوب يكون لاقتران الحجّ بها دخل في ترتّب المصلحة، بحيث لو استطاع وترك الحجّ إلى أن فاتت الاستطاعة، فحجّ متسكّعاً، لم يقبل حجّه، فيوجب المولى على المستطيع الحجّ المقترن بالاستطاعة، ولا بأس بجعل ذلك قيداً في الواجب؛ لوجود المقتضي لذلك وعدم المانع، أمّا المقتضي، فلما فرضنا من عدم ترتّب المصلحة، إلّا على الحصّة المقرونة، وأمّا عدم المانع، فلأنّه حتّى فيما إذا كان القيد أمراً غير اختياريّ لا يلزم من أخذه في الواجب بعد أن كان المفروض أخذه في الوجوب التحريك نحو غير المقدور؛ لأنّ فرض فعليّة الوجوب فرض فعليّة القيد خارجاً وإن كان غير مقدور، ومعه لا تحريك نحوه، فإنّ التحريك نحو المقيّد الذي وجد قيده خارجاً إنّما هو تحريك نحو ذات المقيّد والتقيّد، لا القيد، وذات المقيّد والتقيّد كلاهما اختياريّ في المقام.

وأمّا القسم الثاني: وهي قيود ترتّب المصلحة، فهي أيضاً: إمّا اختياريّة، أو غير اختياريّة.

386

أمّا الاختياريّ منها فيؤخذ قيداً في الواجب، ويطلق الوجوب من ناحيته؛ لأنّ المقتضي موجود، وهو الدخل في وجود المصلحة بعد فرض فعليّتها، والمانع مفقود، وهو لزوم التحريك نحو أمر غير اختياريّ، لأنّنا فرضنا: أنّه اختياريّ.

وأمّا غير الاختياريّ منها، كما لو كان طلوع الفجر قيداً في ترتّب المصلحة على الصوم، لا في اتّصاف الصوم بالمصلحة، فلا يعقل سحبه من دائرة الوجوب، وأخذه محضاً في دائرة الواجب، بل لابدّ مضافاً إلى أخذه في دائرة الواجب من أخذه في دائرة الوجوب، ولا يعقل إطلاق الوجوب، لا لعدم المقتضي، فلو أمكن للمولى جعل الوجوب المطلق لجعله؛ لكون القيد دخيلا في ترتّب المصلحة الفعليّة،بل لوجود المانع، وهو أنّ الوجوب لو كان مطلقاً، كان محرّكاً بالفعل نحو المقيّد حتّى في حالات عدم وجود القيد، وهذا تحريك نحو أمر غير اختياريّ.

فتحصّل: أنّ قيد الاتّصاف مطلقاً، وقيد الترتّب إذا كان غير اختياريّ لابدّ من أخذه قيداً في الوجوب.

نعم، نستثني من ذلك من قيود الاتّصاف حالة واحدة، وهي ما لو أحرز المولى بنفسه تحقّق القيد بنحو القضيّة الخارجيّة في حقّ كلّ المكلّفين بهذا التكليف، فعلم مثلا أنّ الفلك يتحرّك، وأنّ الفجر سوف يطلع قبل أن تقوم القيامة، فحينئذ لا بأس بعدم تقييد الوجوب بهذا القيد، فإنّه مع ضمان وجود القيد يكون المقيّد به اختياريّاً حتّى لو كان القيد غير اختياريّ، فلا يلزم التحريك نحو غير المقدور.

بقيت الإشارة إلى شيء، وهي: أنّ ما تعقّلناه في المرحلة الثالثة من الوجوب المشروط لا يعني المقايسة التامّة لباب الأحكام بباب القضايا الحقيقيّة التكوينيّة، من قبيل (النار محرقة) كما يفهم من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه بعد أن تعقّل الواجب المشروط ذكر: أنّ الحكم في الواجب المشروط قضيّة شرطيّة حالها حال القضايا الحقيقيّة التكوينيّة، من قبيل (النار محرقة) التي مرجعها إلى قضيّة

387

شرطيّة، وهي (إن وجدت النار، فهي تحرق)، وكما أنّ تلك القضايا الحقيقيّة لها مرحلتان: مرحلة القضايا الشرطيّة، ومرحلة فعليّة الجزاء عند فعليّة الشرط، كذلك الحكم الشرعيّ له مرحلتان: مرحلة الجعل التي ترجع إلى قضيّة شرطيّة، ومرحلة المجعول، وهي مرحلة فعليّة الجزاء عند فعليّة الشرط(1).

وهذه المقايسة بين القضيّة الحكميّة والقضيّة الحقيقيّة التكوينيّة بلحاظ المرحلة الاُولى صحيحة، لكن بلحاظ المرحلة الثانية غير صحيحة، فإنّ قضيّة (النار محرقة) لها مرحلة فعليّة، وهي مرحلة فعليّة الجزاء بفعليّة الشرط، لكن القضيّة الحكميّة ليست كذلك، على ما تقدّمت الإشارة إليه.

وحاصل الكلام في ذلك: أنّ الحاكم بالحكم التشريعيّ وإن كان يقدّر الشرط، ويحكم على تقديره، كما هو الحال أيضاً في الحكم بقضيّة شرطيّة تكوينيّة، لكن مع ذلك حينما يتحقّق الشرط لا تتحقّق للجزاء فعليّة ـ بالدقّة ـ وإن كانت تتحقّق الفعليّة في القضايا الشرطيّة التكوينيّة.

والبرهان على ذلك: أنّ ما يفرض تحققّه عند تحقّق الشرط في الحكم الفعليّ هل نسبته إلى الجعل في القضيّة الشرطيّة نسبة المجعول إلى الجعل، بمعنى: أنّ الجعل جعلٌ له، أو نسبة المسبّب إلى السبب؟

فإن فرض: أنّ نسبته إليه نسبة المجعول إلى الجعل، فهذا غير معقول؛ لأنّ المجعول مع الجعل كالوجود مع الإيجاد، والوجود عين الإيجاد، بينما في المقام الجعل والاعتبار إنّما هو جعل واعتبار للقضيّة الشرطيّة، لا للجزاء الذي فرض القائل بوجود مرحلتين للحكم: أنّ وجوده الفعليّ بعد الجعل، وعند تحقّق الشرط.



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 127 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 175 ـ 177 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

388

وبتعبير أدقّ نقول: إنّ الاعتبار النفسانيّ صفة من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة، كالحبّ والبغض والعلم، والإضافة في هذه الصفات داخلة في حاقّ ذاتها، وليست عارضة عليها من قبيل عروض البياض على الجسم، ولذا ترى أنّ الجسم يمكن تصوّره في مرتبة ذاته بغضّ النظر عن أيّ لون من الألوان، بينما هذه الصفات لا يمكن تصوّرها في أيّ مرتبة من المراتب بغضّ النظر عن إضافتها، والإضافة متقوّمة بالمضاف إليه، إذن فالاعتبار والجعل في اُفقه متقوّم بالمضاف إليه، فالمجعول الحقيقيّ موجود بنفس وجود الجعل في اُفق نفس الجاعل، والمعتبر الحقيقيّ موجود بنفس وجود الاعتبار في اُفق نفس المعتبر، كما أنّ المعلوم الحقيقيّ، أو المحبوب، أو المبغوض الحقيقيّ موجود بنفس وجود العلم، أو الحبّ، أو البغض في نفس صاحبه، وهذا هو المسمّى بالمعلوم بالذات، والمحبوب بالذات، والمبغوض بالذات وهكذا، فإن فرض: أنّ المجعول الذي يوجد ويصبح فعليّاً عند تحقّق الشرط هو مجعول بالذات للجعل قد انفصل عنه، فهذا غير معقول، وإن فرض: أنّه المجعول بالعرض، إذن فلو كان أمراً حقيقيّاً فلابدّ من افتراض سببيّة للجعل بالنسبة إليه، وهذا معناه الانتقال إلى الفرض الثاني.

وإن فرض: أنّ نسبته إليه نسبة المسبّب إلى السبب، لكن الجعل ليس سبباً كافياً له، بل هو مع حدوث الشرط خارجاً سبب كاف لتحقّق المجعول وفعليّته، فهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنّ هذا المسبّب: إمّا أن يدّعى كونه موجوداً خارجيّاً، أو يدّعى كونه موجوداً نفسيّاً في نفس المولى، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل، فلوضوح: أنّ الأحكام الشرعيّة ليست من الموجودات الخارجيّة، وأمّا الثاني، فلأنّه لا يعقل وجود شيء في نفس الجاعل تبعاً لوجود الشرط خارجاً وهو الاستطاعة مثلا، بحيث سواء علم المولى بتحقّق هذا الشرط أو لا سيكون نفس تحقّقه خارجاً موجباً لوجود الجزاء في نفسه بالفعل.

389

فتحصّل: أنّ الشقوق كلّها باطلة، إذن فالحكم المجعول والمعتبر ليس له وجود إلّا نفس وجوده في اُفق النفس والاعتبار عند الجعل على نحو القضيّة الشرطيّة.

نعم، فاعليّة هذا الحكم ومحرّكيّته لا تكون إلّا عند فعليّة الشرط وانطباقه على شخص معيّن، فوجوب الحجّ على المستطيع يستحيل أن يحرّك الفقراء مثلا ماداموا فقراء.

نعم، لا بأس بأن يقال بوجود مجعول عند تحقّق الشرط مسامحة؛ حيث إنّ المولى كأنّه يتصوّر عند الجعل مجعولا خارجيّاً في زمان تحقّق الشرط، ويجعله على تقدير تحقّق الشرط، وهذه وإن كانت نظرة غير واقعيّة لكنها تصوير عرفيّ يجري عليه العقلاء، ويتطابق عليه الفهم العرفيّ؛ حيث إنّ المجعول والمعتبر حينما يرى بالنظرة الفنائيّة كأنّه يرى خارجيّاً، ومع هذه النظرة انساق المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فادّعى وجود مرحلتين: مرحلة الجعل، ومرحلة فعليّة المجعول، فنحن لا ننكر تعدّد الجعل والمجعول بالنظرة العرفيّة، وإنّما ننكر ذلك بالنظرة الدقّيّة، ويترتّب على إنكاره بالنظرة الدقّيّة حلّ إشكال الشرط المتأخّر(1) بلحاظ المجعول كما مضى، ويترتّب على قبوله بالنظرة العرفيّة صحّة استصحاب بقاء المجعول في موارد الشكّ في بقاء الحكم كما يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

الإشكال بلحاظ عالم الإثبات:

المقام الثاني: في إشكال رجوع القيد إلى الوجوب بلحاظ عالم الإثبات.

وهذا الإشكال إنّما يكون فيما إذا اُفيد الوجوب بمثل صيغة الأمر، لا بمفهوم اسميّ، كما لو قال: «وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة»، فإنّ الإشكال يكون من ناحية أنّ الوجوب مفاد الهيئة التي يعتبر معناها من المعاني الحرفيّة والنسب، وليست المعاني الحرفيّة والنسب قابلة للتقييد، فلابدّ من إرجاع القيد إلى شيء



(1) يقصد(قدس سره) بذلك: حلّ إشكال الشرط المتأخّر للوجوب.

390

آخر غير الهيئة، ومن هنا تأتي فكرة إرجاع القيد إلى الواجب.

والاستشكال في قابليّة المعنى الحرفيّ للتقييد له تقريبان نذكرهما في المقام منبّهين قبل ذلك إلى أنّ كلامنا هنا إنّما هو في تقييد النسبة التامّة(1)، وأمّا النسبة الناقصة فقد عرفت فيما مضى أنّها نسبة تحليليّة، فلا وجود حقيقيّ لها في الذهن حتّى تقبل التقييد، وإنّما الموجود في الذهن هو المفهوم الاسميّ.

التقريب الأوّل: أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ، ويكون الحرف موضوعاً للنسب الجزئيّة على حدّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، والجزئيّ الحقيقيّ لا يقبل التقييد، وإنّما قبول التقييد شأن المفاهيم الكلّيّة.

وتحقيق حال هذا التقريب مرتبط ـ في الحقيقة ـ بمعرفة ما يُتبنّى من الجزئيّة للمعنى الحرفيّ، ويختلف اُسلوب البحث فيه باختلاف المعاني المختلفة لجزئيّة المعنى الحرفيّ، ونحن هنا نتكلّم على المبنى الذي اخترناه في بحث المعاني الحرفيّة في جزئيّة المعنى الحرفيّ، فقد اخترنا هناك جزئيّة المعنى الحرفيّ بمعنى جزئيّة ما وضع له الحرف من النسبة في مقابل طرفيها، لا الجزئيّة على الإطلاق وفي مقابل كلّ شيء، حيث قلنا: إنّ النسب تختلف وتتباين باختلاف الطرفين في كلّ نسبة؛ لتقوّم كلّ نسبة بطرفيها، فلا يعقل انتزاع جامع بينها يكون هو المعنى



(1) يقصد (رحمه الله) بالنسبة التامّة والناقصة في المقام: النسبة التي لا توحّد الطرفين المستقلّين، كما في النسبة الظرفيّة بين زيد والمسجد في قولنا: «زيد في المسجد»، والنسبة التي توحّدهما وتخلق منهما حصّة واحدة لمعنىً استقلاليّ واحد كما في نسبة الإضافة في قولنا: «غلام زيد»، فلا يعترض بأنّ نسبة الظرفيّة في المثال الآتي في المتن، وهو (زيد في المسجد) ليست تامّة، لأنّ صحّة السكوت لم تنشأ منها، بل نشأت من النسبة الخبريّة بين (زيد) و(في المسجد).

391

الحرفيّ؛ لأنّه إن انتزعنا الجامع بين النسب بتجريدها عن طرفيها، كان معنى ذلك انتزاع الجامع بينها بتجريدها عن حقيقتها وماهيّتها؛ لأنّ قوام ماهيّتها وذاتها إنّما هو بطرفيها، وهذا غير معقول، وإن انتزعنا الجامع بينها من دون تجريدها عن طرفيها، فهذا أيضاً غير معقول؛ إذ هي بمالها من أطراف متباينة فيما بينها، ولا معنى لانتزاع الجامع، فإذن يستحيل انتزاع جامع بين النسب تكون نسبة كلّيّة يوضع لها الحرف.

وهذا كلّه لا يقتضي جزئيّة المعنى الحرفيّ بلحاظ سائر الجهات والقيود بحيث لا ينطبق على مصاديق كثيرة خارجاً.

وكلّ هذا شرحه وبيانه موكول إلى بحث المعنى الحرفيّ، ونأخذه هنا كأصل موضوعيّ، ومبنيّاً عليه لا يبقي مجال للإشكال في إمكانيّة التقييد في المقام كما هو واضح، فإنّ المعنى الحرفيّ لم يصبح جزئيّاً بمعنى عدم انطباقه على حصص عديدة، وعدم قابليّته للصدق على كثيرين حتّى لا يعقل تقييده بشرط من الشروط، وإنّما كان جزئيّاً في مقابل طرفيه فقط.

التقريب الثاني: أنّ الإطلاق والتقييد حكم من قبل المتكلّم، يحتاج إلى التوجّه إلى موضوعه، وهو ما ينصبّ عليه الإطلاق أو التقييد، بينما المعنى الحرفيّ آليّ لا استقلاليّ، فلا يمكن التوجّه إليه والالتفات نحوه تفصيلا.

والجواب: أنّه إن اُريد بالآليّة المرآتيّة، أي: أنّه يُرى به غيره، من قبيل المرآة التي ينظر الرائي فيها إلى وجهه وهو غافل عن نفس الزجاجة وإن أمكنه الالتفات إلى نفس الزجاجة مستقلاًّ، وعندئذ تخرج نظرته عن كونها مرآتيّة، وكذلك في المقام يكون المفروض أن ينظر المتكلّم إلى المعنى الحرفيّ نظرة مرآتيّة، أي: يكون نظره الحقيقيّ إلى غيره، وإنّما ينظر إليه كمرآة إلى غيره لا أكثر، فهو غافل عن المعنى الحرفيّ بما هو معنىً حرفيّ، فهذا باطل؛ إذ لا برهان على لزوم كون

392

النظر إلى المعنى الحرفيّ نظرة مرآتيّة واستطراقاً إلى النظر إلى شيء آخر، بل قد يكون الهدف متعلّقاً بالنظر إلى نفس المعنى الحرفيّ، كما لو سُئل: «أين زيد؟» فقيل: «زيد في المسجد»، فهنا من الواضح: أنّ النسبة الظرفيّة بذاتها يقصد النظر إليها، لا للاستطراق إلى النظر إلى زيد والمسجد، أو إلى كون زيد والمسجد بناءً على تقدير فعل من أفعال العموم.

وإن اُريد بالآليّة: أنّ المعنى الحرفيّ بطبيعته مندكّ في غيره؛ لأنّه ليس إلّا عبارة عن النسبة المتقوّمة بطرفيها، فالنظر إليه ـ لا محالة ـ نظر اندكاكيّ وتبعيّ، لا نظر استقلاليّ.

فحينئذ نقول: لئن سلّمنا أنّ الإطلاق والتقييد لشيء يحتاج إلى توجّه استقلاليّ للنفس نحو ذلك الشيء، وسلّمنا أنّ التوجّه الاستقلاليّ للنفس نحو المعنى الحرفيّ الذي لا يوجد في الذهن إلّا بوجود اندكاكيّ لا يمكن تعقّله بافتراض: أنّ هذا التوجّه غير ذاك الوجود، وأنّه يمكن تعلّقه به مستقلاًّ وإن كان وجوده اندكاكيّاً، لئن سلّمنا كلّ هذا فبالإمكان أن يجاب عن الإشكال بأنّه يكفي في إمكانيّة الحكم عليه بالإطلاق أو التقييد الالتفات الاستقلاليّ إليه بتوسّط معنىً اسميّ مشير إليه، كما يصنعه الواضع في وضعه للحروف، فإنّ الوضع أيضاً كالإطلاق والتقييد حكم من الأحكام يحتاج إلى تصوّر الموضوع له، فيتصوّره بتصوّر معنىً اسميّ مشير إليه، ويضع اللفظ لواقع النسبة المشار إليها بهذا المفهوم الاسميّ(1) الذي تصوّره، فليكن التقييد أيضاً من هذا القبيل.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّه لا إشكال في تقييد الوجوب، لا في مرحلة الثبوت، ولا في مرحلة الإثبات.



(1) هذا الكلام ناظر إلى مقالة المشهور في الوضع التي ترى أنّ الوضع نوع جعل واعتبار وحكم، لا إلى مقالة اُستاذنا (رحمه الله) التي ترى أنّ الوضع هو القرن الأكيد.

393

وهنا كلام مذكور في الكفاية(1): تارةً يقرّب بلحاظ مقام الثبوت، فيقال: إنّ الوجوب المشروط يلزمه التفكيك بين الاعتبار والمعتبر، واُخرى بلحاظ مقام الإثبات بناءً على ما هو المشهور: من أنّ الإنشاء إيجاد للمعنى، فيقال: إنّ الوجوب المشروط يلزمه التفكيك بين الإنشاء والمنشأ.

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح ممّا مضى: أنّه لا يرجع إلى محصّل؛ لما ظهر من عدم لزوم التفكيك بين الاعتبار والمعتبر بالذات، أو بين الإنشاء والمنشأ بالذات. وأمّا التفكيك بين الاعتبار والمعتبر بالعرض أو الإنشاء والمنشأ بالعرض؛ فلا بأس؛ لأنّه ليس المُنشأ والمعتبر حقيقةً.



(1) وهو قوله: «فإن قلت: على ذلك ينشأ تفكيك الإنشاء من المنشأ...». راجع الكفاية، ج 1، ص 154 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

395

الواجب المعلّق والمنجّز

ومنها: تقسيمه إلى معلّق ومنجّز.

والأصل في هذا التقسيم هو صاحب الفصول (رحمه الله)(1)، حيث يرى: أنّ القيد قد يكون راجعاً إلى الوجوب، فيكون الواجب واجباً مشروطاً، وقد يكون راجعاً إلى الواجب بحيث يترّشح التحريك نحوه، فيكون الواجب واجباً مطلقاً منجّزاً، وقد يكون راجعاً إلى الواجب بحيث لا يترشّح التحريك نحوه: إمّا لكونه غير مقدور، أو لكون الدخيل هو وجوده الاتّفاقيّ والصدفتيّ، فيكون الواجب واجباً معلّقاً، فبرغم أنّه يثبت الوجوب قبل تحقّق الشرط؛ لأنّ الشرط لم يكن شرطاً للوجوب لا يحرّك نحو الشرط، ففي الحقيقة الواجب المعلّق عند صاحب الفصول هو واجب مشروط عند الشيخ الأعظم (رحمه الله)، إلّا أنّ الشيخ الأعظم افترض قيد اتّصاف الفعل بالملاك قيداً للواجب على ما نسب إليه، لذا يرد عليه: أنّ ذلك يستلزم ترشّح الشوق إلى هذا القيد، مع أنّ قيد الاتّصاف يستحيل ترشح الشوق إليه، بل قد يكون مبغوضاً، ولكن صاحب الفصول يعترف بأنّ قيود الاتّصاف كلّها ترجع إلى الوجوب، وإنّما يقصد: أنّ قيود ترتّب الملاك على الفعل هي التي تؤخذ في



(1) كلامه منقول في الكفاية، ج 1، ص 160 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

396

الواجب: تارةً بنحو يترشّح إليه التحريك، واُخرى بنحو لا يترشّح إليه التحريك؛ لعدم اختياريّته: إمّا بمعنى خروجه عن القدرة، أو بمعنى أخذ وجوده الاتّفاقيّ.

وهذا التقسيم الثلاثيّ لا إشكال في تعقّله في مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة والشوق، فالقيد قد يكون قيداً لاتّصاف الفعل بالملاك، أو الإرادة والشوق على تفسير لتقيّد الإرادة به الذي عرفت رجوعه ـ في الحقيقة ـ إلى إرادتين: مطلقة ومشروطة، وهذا يصبح قيداً في الواجب المشروط، وقد يكون قيداً لترتّب الملاك، فيكون قيداً لذي الملاك، أو المراد والمشتاق إليه، ويكون اختياريّاً تارةً، وغير اختياريّ بأحد المعنيين تارةً اُخرى، فالأوّل في الواجب المنجّز، والثاني في الواجب المعلّق، ولا يرد عليه إشكال لزوم ترشّح الشوق إليه إذا كان قيداً للمراد والمشتاق إليه، وكان أمراً غير اختياريّ؛ إذ لا بأس بالاشتياق إلى أمر غير اختياريّ، وإنّما الكلام يقع في معقوليّة الواجب المعلّق وعدمها فيما بعد مراحل الملاك والإرادة من مراحل الحكم، حيث قد يقال بعدم معقوليّة الواجب المعلّق لأحد إشكالين:

الإشكال الأوّل: وهو المهمّ: أنّ القيد غير الاختياريّ الذي فرض قيداً للواجب: إن فرض قيداً للوجوب أيضاً ولو بنحو الشرط المتأخّر، ولذا كان الوجوب فعليّاً وإن كان الواجب استقباليّاً، فإنّ هذا نتيجة أخذه شرطاً متأخّراً للوجوب، لا شرطاً مقارناً له، فقد رجع إلى الواجب المشروط، ولم يصبح قسماً آخر في مقابل الواجب المشروط، غاية الأمر: أنّ الواجب المشروط قد يكون مشروطاً بشرط مقارن، وقد يكون مشروطاً بشرط متأخّر، وإن لم يفرض قيداً للوجوب، ولذا كان الوجوب فعليّاً وإن كان الواجب استقباليّاً، لزم ترشّح التحريك نحوه، بينما هو أمر غير اختياريّ، فمثلا لو وجب عليه من أوّل الغروب الصوم المقيّد بطلوع الفجر من دون أن يكون طلوع الفجر شرطاً متأخّراً للوجوب، فهذا

397

معناه التحريك من أوّل الغروب نحو الصوم المقيّد بقيد خارج عن الاختيار، وهذا غير معقول.

والجواب: أنّه يوجد عندنا هنا ـ في الحقيقة ـ قيدان: قيد طلوع الفجر، وقيد الحياة والقدرة على الصوم على تقدير الطلوع، فالقيد الثاني الذي مرجعه إلى قضيّة شرطيّة لابدّ من أخذه قيداً في الوجوب ولو بنحو الشرط المتأخّر؛ لأنّ المولى لا يمكنه أن يضمن للمكلّفين ثبوت هذا القيد خارجاً. وأمّا القيد الأوّل، فحيث إنّ بإمكان المولى أن يضمن للمكلّفين ثبوته خارجاً ما لم تقم القيامة، فمن الجائز أن يوجب المقيّد من دون أن يأخذ القيد قيداً للوجوب، ولا يلزم من ذلك التحريك نحو غير المقدور، فإنّ الأمر بالمقيّد لو كان ـ في الحقيقة ـ أمراً بذات المقيّد وبالتقيّد وبالقيد، لزم الأمر بغير المقدور؛ لأنّ القيد غير مقدور، ومجرّد ضمان تحقّقه لا يجعله مقدوراً، ولا يصحّح الأمر به، لكن الأمر بالمقيّد ـ في الحقيقة ـ أمر بذات المقيّد وبالتقيّد، وذات المقيّد مقدور بلا إشكال، والتقيّد يكون مقدوراً في إحدى حالتين: الاُولى: أن يكون القيد مقدوراً، والثانية: أن يكون القيد مضمون التحقّق خارجاً، وقد فرضنا الثانية في المقام، فالواجب بلحاظ قيد القدرة على تقدير طلوع الفجر يرجع إلى الواجب المشروط، وأمّا بلحاظ قيد طلوع الفجر ليس من اللازم رجوعه إلى الواجب المشروط؛ لأنّ هذا قيد ليس في معرض أن يتحقّق وأن لا يتحقّق كقيد القدرة على تقدير الطلوع، وإنّما هو قيد يمكن ضمان تحقّقه، ومع ضمان تحقّقه لا يلزم التحريك نحو غير المقدور، فإنّه مع ضمان تحقّقه يكون المقيّد مقدوراً، فلا تحريك نحوه، وإنّما التحريك نحو المقيّد المقدور المنحلّ إلى ذات المقيّد وإلى التقيّد، وكلاهما مقدوران.

نعم، لو كان الأمر بالصوم عند الفجر من أوّل الغروب دالّاً على الفوريّة، صحّ أن يقال: إنّ الصوم عند الفجر غير مقدور الآن، فلا يعقل الأمر به، لكن الأمر إنّما يدلّ

398

على مطلوبيّة متعلّقه في عمود الزمان، لا بنحو الفور، والصوم عند الطلوع في عمود الزمان مقدور مادام الطلوع شيئاً مضمون التحقّق.

نعم، القدرة التي هي غير مضمونة التحقّق لابدّ من تقييد الوجوب بها؛ إذ لولاه لكان الوجوب شاملا بإطلاقه صورة عدم القدرة، أو الحياة، وهذا تكليف بغير المقدور.

فتحصّل: أنّ فرض الواجب في مقابل مثل قيد الزمان واجباً معلّقاً لا يرد عليه هذا الإشكال الأوّل.

الإشكال الثاني: صيغته الإجماليّة لزوم الانفكاك بين الإرادة التشريعيّة والمراد.

ويمكن توضيح ذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: ما أشار إليه صاحب الكفاية ناسباً له إلى بعض معاصريه(1)، وأوضحه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2)، وحاصله عبارة عن مجموع مقدّمتين:

1 ـ إنّ المراد بالإرادة التكوينيّة لا يتخلّف عن الإرادة التكوينيّة، وليس هذا بمعنى: أنّ الإنسان فعّال لما يريد، وليس يعجز عن شيء، بل بمعنى: أنّه حيث يعجز عن شيء ولا يقدر عليه لا يريده، والإرادة لا تأتي إلّا عند تماميّة تمام ما هو دخيل في تحريك عضلاته.

2 ـ إنّ الإرادة التشريعيّة على وزان الإرادة التكوينيّة، فكما يستحيل انفكاك



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 161 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 73 ـ 76 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ففيها توضيح المقدّمة الاُولى.

399

الإرادة التكوينيّة عن المراد كذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعيّة عن المراد، فإذن لا يمكن أن تكون الإرادة التشريعيّة مطلقة وثابتة من حين الغروب، ويكون المراد مقيّداً بطلوع الفجر، فتكون الإرادة فعليّة دون المراد.

ولنرجع إلى كلّ واحدة من المقدّمتين لنرى البيان التفصيليّ لها، فنقول:

المقدّمة الاُولى: أنّ الإرادة التكوينيّة لا يمكن أن تنفكّ عن المراد. وتوضيح ذلك: أنّ جسم الإنسان تارة يتحرّك كتحرّك الحجر والماء حركة ناشئة من أسباب خارجيّة بلا ربط للنفس الإنسانيّة المدبّرة لذلك، وهذه هي الحركة غير الاختياريّة، وهي خارجة عن محلّ الكلام، فإنّنا نتكلّم في الحركات الاختياريّة، واُخرى يتحرّك بالتحريك الذي يتميّز به الإنسان عن الجمادات، وهو التحريك الناشئ ممّا أودعه الله سبحانه في جسم الإنسان من قوّة عضليّة منبثّة في الجسم، تثير الجسم وتحرّكه، وهذا التحريك من شؤون النفس البشريّة في مرتبة القوى العضليّة المنبثّة في الجسم، فإنّ للنفس البشريّة مراتب، منها هذه المرتبة. وهذا التحريك لا يكفي في حصوله مطلق الشوق؛ إذ نرى وجداناً أنّه قد يحصل الشوق بمرتبة ضعيفة مبتلاة بمانع، فلا يؤثّر، كما أنّه لا يمكن أن ينشأ هذا التحريك من الأسباب الخارجيّة، وإلّا لكان خلف نفسانيّته، وإنّما ينشأ من أسباب نفسيّة، وبهذا اختلف عن تحرّك الجماد، فالمؤثّر والفاعل في ذلك لابدّ أن يكون نفسانيّاً، وليس هو مطلق الشوق كما بيّنّا، فلابدّ أن نلتزم أنّ المقتضي لهذا التحريك الذي هو من شؤون مرتبة القوى العضليّة هو الشوق بدرجة خاصّة يمكننا أن نصطلح عليها لتسهيل العبارة بالشوق الكامل.

والشوق أيضاً يكون من الاُمور النفسانيّة، وهو في مرتبة القوى النفسانيّة التي تكون أعلى من مرتبة القوى العضليّة والجسميّة، فيكون تحريك العضلات بملاك تأثير أمر نفسانيّ في أمر نفسانيّ.

400

والمدّعى: أنّه حينما لا يوجد تحرّك العضلات لم يوجد الشوق الكامل؛ لأنّه إذا وجد الشوق الكامل ولم يوجد متعلّقه، فهذا لا يخلو من أحد احتمالات كلّها غير معقولة:

1 ـ كون ذلك من باب انفكاك المعلول عن العلّة، وهو مستحيل.

2 ـ كونه من باب عدم تحقّق المقتضي، بأن نفرض المقتضي أمراً خارجيّاً كنزول المطر أو هبوب الرياح مثلا، لا الشوق النفسانيّ.

وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ العضلات لا تأتمر لغير النفس، ولا تتأثّر بغير مؤثّر نفسانيّ، ونزول المطر مثلا أو هبوب الرياح إن حرّك الجسم الإنسانيّ، كان ذلك من قبيل تحريك الحجر، وقد قلنا: إنّ هذا خارج عن محلّ الكلام.

3 ـ أن يقال بأنّ المقتضي للتحريك العضليّ موجود، وهو الشوق الكامل، ولكن الشرط غير موجود؛ لأنّ الشرط هو طلوع الفجر مثلا، وهو غير موجود.

وهذا أيضاً ساقط؛ لأنّ الشرط: إمّا متمّم لفاعليّة الفاعل، أو لقابليّة القابل، وكلاهما غير صحيح: أمّا الأوّل، فلأنّ متمّم فاعليّة الفاعل هو الذي يحصّصه، من قبيل أن يقال: إنّ الملاقاة متمّمة لفاعليّة النار؛ لأنّها من عوارض النار وشؤونها، وتحصّص النار إلى نار ملاقية ونار غير ملاقية، فالنار الملاقية هي التي تحرق، وأمّا في المقام فطلوع الفجر ليس من عوارض الفاعل، وهو الشوق الكامل وشؤونه، وأمّا الثاني، فلأنّ القابل هو القوى العضليّة، وهي بالفعل قابلة لأن تتحرّك، إذن فيستحيل أن لا تتحرّك.

والمقدّمة الثانية: أنّ الإرادة التشريعيّة كالإرادة التكوينيّة، فهي أيضاً لا تنفكّ عن المراد، وليس المقصود بذلك: أنّ كلّ إرادة تشريعيّة لابدّ أن يوجد مرادها، وإلّا لما وجد عاص في العالم، وما أكثر العصاة، وإنّما المقصود: أنّ الإرادة التشريعيّة نقطة الضعف فيها عن الإرادة التكوينيّة إنّما هي: أنّ الإرادة التكوينيّة

401

محرّكة رأساً لنفس المريد نحو المراد بلا واسطة، بينما الإرادة التشريعيّة تتوجّه إلى تحريك غير المريد نحو المراد، فهذا الواسطة قد يتخلّف في المقام؛ لعدم كونه منقاداً، وهذا الضعف ينجبر بفرض الكلام في العبد المنقاد تمام الانقياد، ففي هذا الفرض تصبح الإرادة التشريعيّة كالإرادة التكوينيّة لا يعقل انفكاكها عن المراد، وفي الواجب المعلّق تكون الإرادة فعليّة عند الغروب مثلا، والمراد لا يكون فعليّاً إلّا عند طلوع الفجر في مثال وجوب صوم النهار من أوّل الليل.

وهذا التقريب برغم إصرار المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(1) عليه لا يرجع إلى محصّل؛ فإنّه يرد عليه: أنّنا نفترض تأخّر المراد عن الإرادة وتخلّفه عنها؛ لفقدان الشرط الذي هو متمّم لقابليّة القابل، فطلوع الفجر شرط متمّم لقابليّة العضلات للتحريك. وقولك: إنّ قابليّة العضلات للتحرّك تامّة إنّما يكون صحيحاً بلحاظ مطلق التحرّك، ولكنّنا نفترض: أنّ الشوق قد تعلّق بحصّة خاصّة من التحرّك، وهو التحرّك عند الفجر، وقابليّة العضلات لهذه الحصّة من التحرّك غير تامّة عند الغروب.

نعم، لو فرض تعلّق الشوق بالتحرّك العضليّ على الإطلاق، صحّ ما مضى من أنّ قابليّة العضلات للتحرّك تامّة من حين الغروب، فهذا البرهان مجاله هو في طول كون الشوق متعلّقاً بالتحرّك العضليّ على الإطلاق، لا بتحرّك مقيّد بقيد غير مقدور وغير حاصل الآن، فيستحيل أن يكون برهاناً على عدم هذا التقيّد.

وبكلمة أدقّ نقول: إنّ المستحيل ـ كما يعترف به المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) نفسه وسائر الفلاسفة ـ إنّما هو تخلّف الشوق الكامل النفسانيّ عن متعلّق له يكون أيضاً



(1) لعلّ هذا التقريب يمكن استنباطه من بحوث في الاُصول للشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله)، ص 59 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وتفصيل المقدّمة الاُولى والإصرار عليها موجود في نهاية الدراية، ج 2، ص 73 ـ 76 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

402

فعلا نفسانيّاً محضاً، دون ما لو لم يكن كذلك، فهذا لا يكون برهاناً على استحالة انفكاك الإرادة التشريعيّة عن المراد، فإنّه إذا كان متعلّق الشوق أمراً طبيعيّاً خارجيّاً، إلّا أنّه مسبّب توليديّ لحركة العضلات، أو كان مزيجاً من فعل نفسانيّ وغيره، بأن قيّد تحريك العضلات بقيد خارجيّ كطلوع الفجر، فلا استحالة في تخلّف الشوق الكامل عن متعلّقه؛ لأنّ متعلّقه الخارجيّ أو قيد متعلّقه الخارجيّ يخضع لقوانين طبيعيّة خارجة عن اختيار النفس، فلو تعلّقت الإرادة التشريعيّة بالاحتراق الذي يتأخّر مثلا ـ بحسب العوامل الطبيعيّة ـ عن إلقاء الورقة في النار الذي هو فعل النفس، أو تعلّقت بالصوم المقيّد بطلوع الفجر، وقيده الذي هو طلوع الفجر يخضع لعوامل خارجيّة، وليس تحت اختيار النفس، فأيّ استحالة في تخلّف الشوق عن المشتاق إليه؟!

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في تعليقته على الكفاية(1)، من أنّ مطلق الشوق ليس هو الإرادة، وإنّما الشوق يكون إرادة إذا وصل إلى درجة تحرّك العضلات، فالإرادة التكوينيّة عبارة عن الشوق الواصل إلى درجة تحرّك عضلات الفاعل نحو الفعل، والإرادة التشريعيّة عبارة عن الشوق الواصل إلى درجة تحرّك عضلات المولى نحو بعث العبد إلى الفعل، وعليه فإيجاد الباعث من قبل المولى شرط أساس للإرادة التشريعيّة، ومادام لم يصل شوقه إلى درجة أن يحرّكه نحو إيجاد الباعث، لم تتمّ الإرادة التشريعيّة، وبما أنّ الباعثيّة مع الانبعاث متضايفان، فالإرادة المولويّة التي لا تنفكّ عن إيجاد الباعث لا تنفكّ أيضاً عن انبعاث العبد، إلّا أنّ المقصود من إيجاد الباعث ليس هو إيجاد الباعث الفعليّ، وإلّا



(1) ج 2، ص 76 ـ 79 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، وراجع (بحوث في الاُصول) للشيخ الإصفهانيّ، ص 59 ـ 60 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

403

لما انفكّ عن الانبعاث الفعليّ؛ لكونهما متضايفين، في حين أنّه يحصل الانفكاك عن الانبعاث الفعليّ في العاصي دائماً، وإنّما المقصود إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً، وإمكان الباعثيّة لا ينفكّ ـ بحكم التضايف ـ عن إمكان الانبعاث، إذن فالإرادة المولويّة لا يمكن أن تنفكّ عن إمكان الانبعاث، وفي الواجب المعلّق يكون الانبعاث نحوه قبل تحقّق شرط الواجب الذي هو طلوع الفجر مثلا في الصوم غير ممكن، ولا يمكن الانبعاث إلّا حين تحقّق الشرط، إذن لا يمكن البعث إلّا حين تحقّق الشرط، وبالتالي لا يمكن الإرادة المولويّة إلّا حين تحقّق الشرط.

وهذا البيان غير صحيح حلاًّ ونقضاً:

أمّا الحلّ: فيتّضح بشيء من التحليل والتعمّق فيما ذكره: من أنّ الشوق التشريعيّ لا يكون إرادة تشريعيّة، إلّا إذا وصل إلى حدّ يحرّك عضلات المولى نحو البعث، فإنّه لا ينبغي أن يكون المراد بذلك تفسير كلمة الإرادة بمعناها اللغويّ، أو العرفيّ، أو الفلسفيّ؛ إذ لا شغل لنا بذلك، وإنّما ينبغي أن يكون المراد تعيين ما هو موضوع حكم العقل لوجوب الامتثال، فيقال: إنّ موضوع حكم العقل لوجوب الامتثال ليس هو مطلق شوق المولى حتّى ما لم يصل إلى مرتبة تحريك عضلات المولى نحو ما بيده من مقدّمات المطلب، وهو الحكم والخطاب، فإنّ العقل غاية ما يوجب على العبد في مقام العبوديّة أن تكون عضلاته وقواه بمنزلة عضلات المولى وقواه، فالشوق الذي لا يحرّك عضلات المولى نحو إبرازه بداعي تحقيق الغرض لا يجب أن يحرّك العبد نحو تحقيق المطلوب، فالشوق الذي يجب على العبد أن يتحرّك وفقاً له إنّما هو الشوق الذي يحرّك عضلات المولى في مقام إبرازه وطلب مقصوده، فإذا عرفنا أنّ هذه هي نكتة اشتراط وصول الشوق إلى حدّ التحريك في الإرادة التشريعيّة، قلنا: إنّ هذه النكتة لا تقتضي اشتراط أن يصدر من المولى ما يمكن أن يكون باعثاً للعبد بالفعل، بل يكفي بلحاظها أن يصدر منه

404

إنشاء يكون في معرض الباعثيّة للعبد في عمود الزمان، فإنّ هذا المقدار كاف لحكم العقل على العبد بالانبعاث في وقت الواجب، سواء كان باعثاً بالإمكان فعلا، أو لا.

وأمّا النقض: فهو ما التفت إليه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) نفسُه في تعليقته على الكفاية(1)، من إمكان النقض بموارد الواجب المنجّز المقيّد بفعل زمانيّ لابدّ أن يقع قبله، كما لو أمر بالصلاة المقيّدة بوقوع الوضوء قبلها، فالواجب لم يقيّد بالزمان المتأخّر، فهو منجّز، والوجوب فعليّ في أوّل آنات الزمان، مع أنّ الوجوب لا يمكن أن يكون باعثاً فعلا على الصلاة؛ إذ الانبعاث فعلا نحو الصلاة المقيّدة بالوضوء غير معقول، وإنّما المعقول أن ينبعث أوّلا نحو الوضوء، ثُمّ ينبعث نحو الصلاة.

وأجاب (رحمه الله) عن هذا النقض بأنّ المقصود من إمكان الانبعاث الذي جعلناه شرطاً في تحقّق الإرادة المولويّة إنّما هو الإمكان الوقوعيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الإمكان عندهم له عدّة أقسام وإطلاقات، فيوجد الإمكان الذاتيّ في مقابل الامتناع الذاتيّ، ويوجد الإمكان الغيريّ، ويوجد الإمكان الوقوعيّ.

والفرق بين الإمكان الوقوعيّ والإمكان الغيريّ هو: أنّ الميزان في الإمكان بالغير والامتناع بالغير هو وجود علّة الشيء وعدمه، فثبوت ولد لزيد الذي لم يتزوّج إلى الآن ممتنع بالغير؛ لعدم وجود علّته، والميزان في الإمكان الوقوعيّ هو أن لا يلزم من وقوعه أمر محال، أي: أن تكون علّته ممكنة سواء وجدت أو لا، فثبوت ولد لزيد الذي لم يتزوّج ممكن بالإمكان الوقوعيّ؛ لأنّ علّته وهي الزواج



(1) ج 2، ص 77 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

405

مثلا ممكن وإن لم يقع، ولكن ثبوت الولد لله سبحانه ممتنع بالامتناع الوقوعيّ؛ لاستحالة علّته في حقّه تعالى، لاستحالة أن يتجسّم الباري بنحو من أنحاء التجسّم.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) ذكر: أنّ المراد من إمكان الباعثيّة والانبعاث في المقام هو الإمكان الوقوعيّ، وهو غير ثابت في مثال إيجاب صوم النهار من أوّل الليل؛ إذ يلزم من وقوع صوم النهار في أوّل الليل أمر مستحيل بالذات؛ إذ لو وقع الصوم بلا قيده، فليس هو المطلوب، ولو وقع مع قيده، لزم اجتماع الزمانين المتأخّر والمتقدّم دفعة واحدة، ولكن الصلاة في أوّل الوقت بالنسبة لهذا الشخص ليست مستحيلة بالاستحالة الوقوعيّة، وإنّما هي مستحيلة بالغير؛ لأنّ الوضوء ليس أمراً مستحيلا، إلّا أنّه بعدُ لم يقع.

ثُمّ التفت (رحمه الله) في حاشيته على الحاشية(1) إلى أنّ الوضوء وإن كان أمراً ممكناً في عمود الزمان، لكن لا يمكن وقوعه مع الصلاة دفعة واحدة؛ لكونهما تدريجيّين، فوقوعهما في آن واحد مستحيل استحالة وقوعيّة، ويوجب الخلف والتناقض، فبالتالي وجود الصلاة في آن الوضوء مستحيل استحالة وقوعيّة، فلا يمكن الانبعاث ولا البعث، ومن هنا بَدَّلَ الجواب بجعل الميزان هو الإمكان الوقوعيّ إلى الإتيان بمعنىً جديد للإمكان، وهو الإمكان الاستعداديّ، وفسّره بكون القوى العضليّة تامّة القابليّة للتحرّك نحو الشيء، وتامّة التهيّؤ والاستعداد في مقابل أن تكون قواه مشلولة مثلا، فذَكَر: أنّ الإنسان في أوّل الوقت يمكنه الصلاة المقيّدة بالوضوء بمعنى الإمكان الاستعداديّ، أي: أنّ قوى العضلات لا نقص فيها في مقام التحرّك نحو القيد وهو الوضوء، ولا نحو المقيّد وهو الصلاة، غاية ما



(1) راجع نفس المصدر تحت الخطّ، ص 77 ـ 78.

406

هناك: أنّ خروج ما بالإمكان وبالقوّة إلى الفعل يكون بالتدريج، فأوّلا يخرج الإمكان والقوّة إلى الفعل في الوضوء، ثُمّ في الصلاة، وأمّا في مثل صوم النهار، فالإمكان الاستعداديّ له في أوّل الليل غير موجود؛ لأنّ القوى العضليّة ناقصة، وعاجزة عن إيجاد القيد بأن تحرّك الفلك وتُخرِج الفجر، وبالتالي عاجزة عن إيجاد المقيّد بهذا القيد الخارج عن إمكانها واستعدادها.

أقول: إنّ هذا الكلام أيضاً لا يسمن ولا يغني من جوع؛ إذ لا دخل للإمكان الاستعداديّ في التكليف أصلا، وإلّا فماذا تقولون في إنسان مشلول لا يقدر على المشي، لكنّه يقدر على علاج نفسه؟ ألا يمكن للمولى أن يأمره بالمشي بأن يصبح علاج نفسه مقدّمة وجوديّه للواجب؟! وهل ترى: أنّ أمره بالمشي يجب أن يكون مشروطاً ببرئه وعلاج نفسه بأن يصبح العلاج مقدّمة وجوبيّة؟!

من الواضح وجداناً إمكانيّة إيجاب المشي عليه بحيث يصبح العلاج مقدّمة وجوديّة للواجب(1).

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: إمكان الواجب المعلّق في قيد يمكن للمولى ضمان حصوله، كقيد طلوع الفجر وأمثاله من حركات الزمان.



(1) يمكن للمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) أن يغيّر الجواب أيضاً، فيقول: لابدّ أن يكون الانبعاث نحو المتعلّق، أي: باتّجاهه ممكناً، والانبعاث نحو المقدّمة انبعاث نحو ذي المقدّمة، بمعنى الانبعاث باتّجاهه، فإذا توقّفت الصلاة على الوضوء مثلا صحّ الأمر بالصلاة؛ لأنّ الأمر بالصلاة بعثٌ نحو الصلاة بمعنى إيجاد ما يمكن أن يكون باعثاً باتّجاه الصلاة، والتحرّك نحو مقدّمة الصلاة تحصيلا لإمكانيّة الصلاة كي يصلّي بعد ذلك نوع اتّجاه نحو الصلاة، وهذا بخلاف الواجب المعلّق المقيّد بقيد استقباليّ خارج عن القدرة؛ فإنّ وجوبه قبل تحقّق قيده لا يمكن أن يحرّك العبد نحو الواجب وباتّجاهه حتّى بالتحرّك نحو القيد؛ لأنّه غير مقدور بحسب الفرض، فالمهمّ هو الجواب الحلّيّ.