7

الفصل الأوّل. الأوامر

مادّة الأمر

ويقع الكلام فيها في جهات:

* معنى مادّة الأمر.

* اعتبار العلوّ أو هو مع الاستعلاء أو الجامع بينهما في مادّة الأمر.

* دلالة الأمر على الوجوب وملاكها.

* تحقيق معنى الطلب.

9

معنى مادّة الأمر

الجهة الاُولى: في معنى الأمر.

فقد ذُكر الطلب معنىً للأمر، وهو صحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وذكرت له أيضاً معان اُخرى في مقابل الطلب كالشيء، والفعل، والفعل العجيب، والحادثة، والغرض، وغير ذلك.

ومن المعلوم: أنّ جملة من هذه المعاني من قبيل الغرض ليست من معاني الأمر وإن كانت من مصاديق معناه، فالغرض مثلاً في مثل قولنا: «جئتك لأمر كذا» استفيد من اللام لا من كلمة الأمر، وعدّه من معاني الأمر يكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، ومن هنا وقعت محاولتان مترتّبتان: إحداهما محاولة إرجاع معاني الأمر غير الطلب إلى معنىً واحد، والاُخرى محاولة إرجاع الطلب وغيره إلى معنىً واحد.

أمّا المحاولة الاُولى: فقد يقال: إنّ ذلك المعنى الواحد هو الشيء، والباقي مصاديق له، فالفعل شيء، والحادثة شيء وهكذا؛ ولذا ذكر صاحب الكفاية: أنّ الأمر له معنيان: الطلب والشيء(1).

ولاحظ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) وكذا المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) أنّ مفهوم الشيء بعرضه



(1) الكفاية، ج 1، ص 90، طبعة المشكينيّ.

10

العريض لا يناسب أن يكون مدلولاً لكلمة الأمر، فقد ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1): أنّ الشيء يطلق على الجوامد، فيقال مثلاً: «زيد شيء من الأشياء» بينما لا يطلق الأمر عليها، فلا يقال: «زيد أمر من الاُمور» ومن هنا ذكر: أنّه لا يبعد أن يكون هذا الجامع أضيق من دائرة الشيء، وهو الواقعة أو الحادثة، وأحياناً يذكر: أنّه الواقعة المهمّة والحادثة المهمّة. ونظير ذلك ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، فرأى «أنّ ما يناسب أن يكون معنىً للأمر هو الفعل لا الشيء بعرضه العريض»(2)، والفعل مع الواقعة أو الحادثة متقاربا المفهوم.

والصحيح: أنّ مدلول كلمة الأمر ـ بحسب المستفاد من موارد الاستعمال في غير الطلب ـ وإن كان لا يساوق مفهوم الشيء بعرضه العريض، لكنّه ليس أيضاً مضيّقاً بقدر ضيق مفهوم الواقعة والحادثة المهمّة أو الفعل، بل أمرٌ بين الأمرين، فإنّه من الواضح صحّة استعمال الأمر في موارد لا أهمّيّة فيها، ولا حدوث ووقوع، ولا فعل، فيقال: «كلام فلان أمر غير مهمّ»، ولا يُرى في هذا تناقض، ويقال: «اجتماع المتناقضين أمر محال» أو «شريك الباري أمر محال»، أو «عدم مجيء زيد أمر عجيب» مع أنّ هذه الاُمور اثنان منها مستحيل، والآخر أمر عدميّ، وليست من الوقائع والحوادث أو الأفعال، بل نحن نرى ـ بحسب الحقيقة ـ أنّ كلمة الأمر تستعمل في الجوامد أيضاً حينما تكون من قبيل أسماء الأجناس، فيقال مثلاً: «النار أمر ضروريّ في الشتاء». نعم، العَلَم بالذات أو بالعرض (أي: ما كان عَلَماً بالإشارة) لا يقال عنه: إنّه أمر، فمفهوم الأمر مساوق لمفهوم الشيء مع شيء



(1) أجود التقريرات، ج 1، ص 86 بحسب الطبعة المشتملة على حاشية السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) نهاية الدراية، ج 1، ص 146 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

11

من الخصوصيّة، بمعنى: أنّه مطعّم بجانب وصفيّ، وحيث إنّ الأعلام منسلخة عن الجانب الوصفي بالمرّة، ومتمحّضة في الجانب الذاتيّ والعلميّة؛ ولهذا تكون اسميّتها بهذا الاعتبار أقوى من غيرها لا يطلق عليها الأمر، بينما يطلق عليها الشيء، وأمّا أسماء الأجناس فهي مطعّمة بجانب وصفيّ، فالخشب مثلاً ذات ثبتت له الخشبيّة.

هذا تمام الكلام في المحاولة الاُولى.

وأمّا المحاولة الثانية: فتوحيد المعنى لكلمة الأمر يتصوّر على ثلاثة أنحاء، فنتكلّم عن كلّ واحد منها تفصيلاً، ثُمّ نتكلّم عن الكلّ إجمالاً:

النحو الأوّل: أن يقال بإرجاع غير الطلب إلى الطلب، وهذا ما استقربه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، فبعد أن ذكر: أنّ غير الطلب عبارة عن الفعل، قال(1): يمكن القول بأنّ استعماله في الفعل يرجع إلى الاستعمال في الطلب بنحو من العناية؛ لأنّ الفعل في معرض أن يتعلّق به الطلب، فكما يعبّر عن الفعل بمطلب ولو لم يتعلّق به الطلب، فيقال عن فعل من الأفعال: إنّه مطلب مهمّ مثلاً، والنكتة في هذا الاستعمال هي شأنيّة تعلّق الطلب به، كذلك يصحّ أن تستعمل كلمة الأمر فيه، ففي قولنا مثلاً: «الصلاة أمر عظيم» أو «شرب الخمر أمر ذميم» استعمل الأمر في الطلب، إلّا أنّه استعمل فيه لقابليّة الفعل للطلب.

ويرد عليه ما عرفت: من أنّ كلمة الأمر قد تستعمل فيما لا يكون فعلاً حتّى يكون من شأنه تعلّق الطلب به، كقولنا: «شريك الباري أمر مستحيل» أو «اجتماع النقيضين أمر مستحيل».

النحو الثاني: أن يقال بإرجاع الطلب إلى غير الطلب، وهو ما استقربه المحقّق



(1) المصدر السابق، ص 147.

12

النائينيّ (رحمه الله) على ما يظهر من عبارة تقريرات بحثه، فإنّه بعد أن ذكر: أنّ كلمة الأمر لها معنيان: الطلب والواقعة أو الحادثة قال: يمكن القول بأنّ الطلب ليس معنىً براسه في مقابل الواقعة، بل مصداق من مصاديق الواقعة، فمعنى الأمر إنّما هو الواقعة أو الحادثة(1).

وهذا الاحتمال ساقط أيضاً؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: أنّ الطلب لو كان يطلق عليه الأمر بلحاظه مصداقاً للواقعة، إذن لما كان فرق بين الطلب التشريعيّ من الغير والطلب التكوينيّ. وتوضيح ذلك: أنّ الطلب على قسمين: أحدهما الطلب التشريعيّ، وهو الطلب من الغير، كأن يطلب زيد أن نأتي له بالماء، والآخر الطلب التكوينيّ، كما في قولنا: «زيد يطلب العلم أو المال»، ومن الواضح: أنّ الأمر حينما يستعمل بمعنى الطلب يستعمل في الطلب التشريعيّ، فيقال: «زيد يأمر بإتيان الماء» دون التكوينيّ، فلا يقال: «زيد يأمر بالعلم أو المال»، ولو كان استعماله للطلب باعتباره مصداقاً للواقعة، لما كان في ذلك فرق بين الطلبين، فإنّ الطلب التكوينيّ أيضاً واقعة(2).

الثاني: أنّ الأمر بمعنى الطلب يتعدّى إلى متعلّق الطلب، أعني: المطلوب ولو بالباء، فيقال: «أمرٌ بالصلاة»، كما أنّ الطلب يتعدّى إلى متعلّقه، فيقال: «طلب الصلاة»، بينما الواقعة أو الحادثة لا تتعدّى إلى متعلّق الطلب، فلا يقال بدلاً عن



(1) بقيد أن تكون لها أهمّيّة. راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 86 بحسب الطبعة المشتملة على حاشية السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

(2) ومن الطريف أنّ المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) يميل إلى كون الأمر بمعنى الجامع بين الطلب التشريعيّ والطلب التكوينيّ. راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 145 ـ 147 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

13

«طلب الصلاة»: «واقعة الصلاة»، فهذا شاهد على أنّ الطلب إنّما سمّي أمراً بما هو طلب، فتعدّى الأمر إلى متعلّقه لا بما هو مصداق للواقعة، فلو كان الأمر بمعنى الواقعة، لكان معنى الأمر بالصلاة: الواقعة بالصلاة.

النحو الثالث: أن يقال: إنّ الأمر موضوع للجامع بين الطلب والواقعة.

وهذا يرد عليه ما ورد على سابقه مضافاً إلى عدم تعقّل هذا الجامع في مقابل الوجه الثاني، فإنّه لو اُريد به جامع أوسع انطباقاً من مجموع مفهومي الطلب والواقعة كمفهوم الشيء مثلاً، فمن الواضح: أنّ كلمة الأمر ليست أوسع انطباقاً من كلا الأمرين. ولو اُريد به جامع مساو لمجموعهما، فهذا عبارة اُخرى عن نفس الواقعة، فإنّها تصدق على نفسها وعلى الطلب، فرجع إلى الوجه الثاني.

هذا هو الحساب التفصيليّ للأنحاء الثلاثة.

وهناك حساب إجماليّ لمجموعها، وهو استبعاد كون لفظة «أمر» لها معنىً واحد بأيّ نحو من الأنحاء الثلاثة؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: اختلاف صيغة الجمع، حيث إنّ الأمر بمعنى الطلب يجمع على أوامر، وبمعنى الواقعة يجمع على اُمور، ويستبعد تعدّد الجمع بلحاظ اختلاف المصاديق، فإنّ هذا غير معهود في اللغة.

الثاني: أنّ الأمر بمعنى الطلب له اشتقاقات، كآمر، ومأمور، وغير ذلك، بينما الأمر بمعنى الواقعة جامد، فهذا أيضاً شاهد على تعدّد المعنى، وأنّ المعنى الملحوظ فيه النسبة يشتقّ منه، والمعنى المعرّى عنها جامد، وأمّا الفرق في الاشتقاق والجمود باختلاف المصاديق، فمستبعد؛ لعدم معهوديّته في اللغة.

14

اعتبار العلوّ أو هو مع الاستعلاء أو الجامع بينهما

في مادّة الأمر

الجهة الثانية: أنّ معنى مادّة الأمر هل يعتبر فيه العلوّ، أو مع الاستعلاء، أو الجامع بينهما، أو لا يعتبر شيء من ذلك؟

وهذا البحث تارةً يساق بلحاظ كون الأمر موضوعاً لحكم العقل بوجوب الطاعة، بأن يقال: إنّ موضوع حكم العقل بوجوب الطاعة هل هو الأمر مع العلوّ، أو الاستعلاء، أو لا؟ وهذا بحث عقليّ صرف لا بحث في المعنى اللغويّ. ومن الواضح: أنّه حينئذ لا معنىً للنزاع؛ إذ من المعلوم أنّ الموضوع لحكم العقل إنّما هو أمر المولى، والمولويّة هي العلوّ الحقيقيّ، فيكون أمره موضوعاً لوجوب الإطاعة ولو كان بلا استعلاء، وكان بلسان (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً)(1)، وإن لم يكن من المولى لم تجب الطاعة.

واُخرى يساق بلحاظ المعنى اللغويّ للأمر، وفائدته فقهيّة فقط لا اُصوليّة، فقد يقال مثلاً: لو ورد «يجب إطاعة أمر الوالدين»، فهنا تظهر الثمرة؛ إذ يترتّب على هذا البحث تشخيص موضوع وجوب الطاعة للوالدين، وأنّه هل يشترط فيه الاستعلاء مثلاً، أو لا على إشكال في هذه الثمرة؛ إذ من الواضح عرفاً ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ: أنّه يفهم من دليل وجوب إطاعة الوالدين أنّ نكتة المطلب ليس هو تجبّر الوالدين واستعلاؤهما، بل علوّهما الحقيقيّ وحقّهما، فلا ثمرة فقهيّة أيضاً لهذا البحث.

وعلى أيّ حال، فهذا بحث في نفسه، وهو: أنّه هل يعتبر العلوّ فقط، أو مع



(1) سورة البقرة، الآية: 245، وسورة الحديد، الآية: 11.

15

الاستعلاء، أو الجامع بينهما، أو لا يعتبر شيء من ذلك؟ والظاهر: أنّ العلوّ شرط، فمع التساوي أو الدنوّ لا يسمّى أمراً ولو كان مستعلياً. نعم لو كان مستعلياً، أي: مدّعياً للعلوّ فكأنّه يكون مدّعياً للأمر، لا أنّه يكون أمراً حقيقة.

والخلاصة: أنّ اعتبار العلوّ ممّا لا ينبغي الإشكال فيه بحسب موارد الاستعمالات العرفيّة. وأمّا الاستعلاء فالظاهر عدم دخله عرفاً على ما يبدو من موارد استعماله. نعم، المستعلي يدّعي الآمريّة كما قلنا.

ومنه يظهر: أنّ دعوى الجامع أيضاً باطلة، ولكنّه ـ على أيّ حال ـ قد عرفت أنّه لا ثمرة لهذا البحث: لا اُصوليّاً كما هو واضح، ولا فقهيّاً كما بيّنا.

16

دلالة الأمر على الوجوب وملاكها

الجهة الثالثة: أنّ كلمة الأمر بعد أن ثبت أنّها بمعنى الطلب يقع الكلام في أنّها هل تدلّ على جامع الطلب، أو خصوص الطلب الوجوبيّ.

والكلام هنا يقع في مقامين:

الأوّل: في أصل دلالة كلمة الأمر على الوجوب.

والثاني: بعد الفراغ عن أصل دلالته في أنّه ما هو ملاك هذه الدلالة ونكتتها؟

أصل دلالة الأمر على الوجوب

أمّا المقام الأوّل: فقد حاول بعض الاُصوليّين أن يستدلّ على ذلك بجملة من الآيات والروايات من قبيل قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(1)، وما كان من قبيله من الروايات بتقريب: أنّ عنوان الأمر اُخذ موضوعاً للتحذّر، ومن الواضح: أنّ ما هو موضوع التحذّر إنّما هو الأمر الوجوبيّ دون الاستحبابيّ، فلو كان الأمر معناه مطلق الطلب ولو كان استحبابيّاً، لما كان يقع بإطلاقه موضوعاً للتحذّر.

ويرد عليه: أنّ الأمر ـ في الحقيقة ـ دائر بين التخصيص والتخصّص، وإنّما يتمّ الاستدلال بهذه الآية وما كان من قبيلها من الروايات بناءً على تعيّن التخصّص، بأن يقال: لابدّ من افتراض كون خروج الأمر الاستحبابيّ منها تخصّصاً لا تخصيصاً، بينما لا سبيل إلى إثبات ذلك. أمّا بناءً على مبنى عدم جريان أصالة عدم التخصيص عند الدوران بين التخصيص والتخصّص كما هو مبنى صاحب



(1) سورة النور، الآية: 63.

17

الكفاية والمشهور بين المحقّقين، فواضح. وأمّا بناءً على القول بجريان أصالة عدمالتخصيص وتعيّن التخصّص عند الدوران بينهما، فلأنّ هذا إنّما يكون لو لم تكن هناك ـ على تقدير التخصيص ـ قرينة متّصلة تدلّ عليه، وإلّا لما كان التخصيص حينئذ خلاف الأصل، وكان التخصيص والتخصّص عندئذ سواء، ولا يقتضي الأصل عدم أحدهما وتعيين الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه على تقدير كون الطلب الاستحبابيّ أمراً تكون نفس كلمة الحذر مع بداهة عدم التحذّر في الاستحباب قرينة متّصلة على التخصيص.

وعلى أيّ حال، فنحن في غنىً عن مثل هذا الاستدلال على دلالة الأمر على الوجوب؛ إذ لم يتحصّل إشكال معقول على دلالته على الوجوب، ولم يستشكل فقيه في لفظ أمر ورد من الشارع في فهم الوجوب منه عند عدم القرينة على الاستحباب، ويكفينا التبادر، ولا إشكال عند العقلاء والموالي العقلائيّة أنّهم يرتّبون آثار الوجوب عند صدور مادّة الأمر ممّن يفرغ عن مولويّته، وليس ذلك إلّا لدلالة العرف والوجدان على ذلك. نعم، ما يتعقّل البحث فيه هو نكتة هذه الدلالة، وهو البحث في المقام الثاني.

ملاك دلالة الأمر على الوجوب

وأمّا المقام الثاني: وهو البحث في نكتة دلالة الأمر على الوجوب، فهنا ينفتح باب ثلاثة احتمالات:

1 ـ أن تكون بالوضع.

2 ـ أن تكون بالعقل.

3 ـ أن تكون بمقدّمات الحكمة.

18

والاحتمال الأوّل للمشهور، والثاني للمحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1)، وتبعه السيّد الاُستاذ دامت بركاته(2)، والثالث ما اختاره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(3).

وباختلاف هذه الاحتمالات الثلاثة تنشأ ثمرات في مقام الجمع بين الأدلّة المتعارضة، وهذه المسالك الثلاثة بنفسها تجري في الصيغة أيضاً. والبحث الذي نبحثه هنا قابل للانطباق على الصيغة. وعلى أيّ حال، فأصل دلالة مادّة الأمر على الوجوب مفروغ عنه، ويكفي في إثباته التبادر والوجدان، وإنّما الكلام في أنّ ملاكه هل هو الوضع، أو العقل، أو مقدّمات الحكمة؟

أمّا الاحتمال الأوّل: فتعيّنه موقوف على إبطال الاحتمالين الآخرين؛ إذ الدليل على الوضع إنّما هو الفهم العرفيّ والعقلائيّ للوجوب من الأمر، وهذا إنّما يدلّ على الوضع لو لم يكن منشأ آخر لهذا الفهم من إطلاق أو عقل، فلنتكلّم في هذين الاحتمالين.

وأمّا الاحتمال الثاني: فخلاصة كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) فيه: أنّ المولى حينما يتصدّى للطلب بمادّة الأمر أو صيغته أو غير ذلك: فتارةً يقترن هذا بصدور بيان على الترخيص في الخلاف متّصل أو منفصل، واُخرى لا، ففي الأوّل لا يكون مثل هذا التصدّي للطلب المقرون بالترخيص في الخلاف موضوعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال؛ إذ للعبد أن يأخذ بالرخصة. وفي الثاني يكون نفس التصدّي



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 87 و95 ـ 96 بحسب الطبعة المشتملة على حاشية السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 129 و135 ـ 137 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 14 و131 ـ 132.

(3) راجع المقالات، ج 1، ص 208 و222 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

19

للطلب بلا إصدار ترخيص موضوعاً لحكم العقل بلزوم التحرّك من باب قانون العبوديّة والمولويّة، فيعنون هذا الأمر بعنوان الوجوب، فاللفظ لا يدلّ على الوجوب، وإنّما الوجوب شأن من شؤون حكم العقل المترتّب على طلب المولى(1).

إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح، ومزيد التعمّق يعطي أنّ المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ومن تبعه لو أرادوا المشي على هذا الوجه، فلابدّ لهم من منهج آخر في الفقه. وتوضيح الكلام في هذا المقام هو: أنّه يرد عليه:

أوّلاً: الحلّ؛ لوضوح: أنّه لو صدر من المولى طلب ولم يصدر منه ترخيص في المخالفة، ولكن علمنا واقعاً بعلم غير مستند إلى بيان المولى بأنّه تطيب نفسه بالترك ويرضى به؛ لأنّ ملاك الطلب غير شديد في نفس المولى مثلاً، فالعقل لا يحكم بلزوم الامتثال، إذن فما هو موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال هو صدور طلب من المولى وأن لا يرضى واقعاً وفي نفسه بالترك؛ لشدّة الملاك وقوّة الإرادة في نفسه، وهذا مطلب يحتاج إلى كاشف لا محالة، ومجرّد صدور الطلب من دون أن نعرف شدّة ملاكه وعدم رضاه بالترك لا يكفي لإثبات الوجوب، إذن فلابدّ من افتراض دلالة لفظيّة للأمر على أنّ الطلب يكون على أساس ملاك شديد وعدم طيب نفس الآمر بالترك، وليس كما يقوله المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من كفاية عدم صدور الترخيص؛ لكون موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال هو الطلب مع عدم صدور الترخيص في الخلاف حتّى لا نحتاج إلى دلالة لفظيّة.

وثانياً: النقض بأنّ هذا المسلك له لوازم في الفقه لا يلتزم بها أصحاب هذا المسلك:



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 95 ـ 56 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 135 ـ 137.

20

فمنها: رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب إذا دلّ عموم عامّ على الترخيص، كما لو ورد «لا بأس بترك إكرام العالم» وورد «أكرم الفقيه»، فهم يقولون عادةً بالتخصيص؛ لتعارض الخاصّ مع العامّ، وتقدّمه عليه في مقام حلّ المعارضة، بينما على هذا المسلك لا تعارض بينهما أصلاً؛ لأنّ الخاصّ إنّما دلّ على الطلب، والعامّ دلّ على الترخيص في الترك، ولا منافاة بينهما، وبما أنّ الطلب المقترن بالترخيص في الترك ليس موضوعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال فلايجب الامتثال في المقام، وهذا ممّا لا يلتزم به فقيه عادةً. نعم، لو قيل: إنّ موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال هو الطلب مع عدم صدور ترخيص لو كان الأمر دالّاً لفظاً على الوجوب، لما قدّم عليه، لم يرد هذا النقض، لكن هذا الكلام ـ كما ترى ـ تحكّم واضح.

ومنها: أنّه لو صدر طلب ولم يقترن بترخيص متّصل، ولكن احتملنا ورود ترخيص منفصل، فمن الواضح: أنّ الفقهاء عادةً يفتون بالوجوب. وهذا تفسيره على مسلكنا واضح؛ إذ الأمر دالّ على الوجوب، والظهور حجّة، فيؤخذ به ما لم يصل المعارض. وأمّا على هذا المسلك، فلا يثبت الوجوب؛ لأنّ الوجوب حكم عقليّ موضوعه هو أن يصدر الطلب ولا يصدر الترخيص، وهذا غير معلوم، بل يمكن الرجوع إلى الاُصول المؤمّنة كحديث الرفع حيث شككنا في تحقّق ما هو موضوع لوجوب الطاعة، وهو الطلب مع عدم الترخيص(1).



(1) أمّا إجراء استصحاب عدم صدور الترخيص، فلا يحلّ المشكل؛ وذلك لوضوح بناء الفقهاء بما فيهم المحقّق النائينيّ (رحمه الله) لدى صدور الأمر وعدم وصول الترخيص على الوجوب برغم احتمال صدور ترخيص لم يصل حتّى لو لم نكن نؤمن بحجّيّة

21



الاستصحاب، أو لم يكن يجري الاستصحاب لتوارد الحالتين مثلاً، أو كنّا نؤمن بجريان استصحاب الترخيص الثابت في أوّل الشريعة في كلّ شيء مثلاً.

على أنّه لو كان هناك لازم لمنشأ حكم العقل بالوجوب يجعل ذلك في باب ورود الأمر من لوازم الأمارة، في حين أنّه بناءً على الحاجة لدى احتمال الترخيص إلى استصحاب عدم الترخيص يصبح من لوازم الأصل؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.

نعم، يحتمل أن يكون مقصود الشيخ النائينيّ (رحمه الله): أنّ أمر المولى موضوع لحكم العقل بالوجوب لدى عدم وصول الترخيص من المولى، فمجرّد عدم وصول الترخيص كاف في ثبوت الوجوب، ولا يرد عليه هذا النقض، ولكن هذا يعني: أن يختلف الأمر الواحد في كونه وجوبيّاً أو استحبابيّاً بالنسبة لعبدين: أحدهما اطّلع على صدور الترخيص في الخلاف والآخر لم يطّلع عليه، بل بالنسبة لعبد واحد في زمانين لم يصله الترخيص في أحدهما ووصله في الآخر، ولا أعرف: هل يلتزم صاحب هذا المبنى بهذه النتيجة، أو لا؟

ثُمّ إنّ البحث إلى هنا كان ردّاً لمدرسة الشيخ النائينيّ (رحمه الله) التي أنكرت وجود وجوب أو استحباب في الشريعة، وجعلتهما أمرين عقليّين، في حين أنّ المشهور يعتقدون: أنّ ذينك الأمرين العقليّين بابهما باب التنجيز، ويوجد من ورائهما حكم الشرع الوجوبيّ أو الاستحبابيّ.

ولكن الحديث لاينتهي إلى هذا الحدّ؛ وذلك لأنّ هناك سؤالاً يواجهه المشهور ولا يواجهه الشيخ النائينيّ (رحمه الله)، ولابدّ من الجواب على هذا السؤال.

والسؤال الذي يواجهه المشهور هو: أنّهم مطالبون ببيان الفرق الثبوتيّ بين الوجوب والاستحباب المولويّين، أو الشرعيّين ما داموا آمنوا ـ وعلى خلاف مسلك الشيخ النائينيّ (رحمه الله) ـ بوجود وجوب واستحباب مولويّين. ولا يكفي مجرّد الفرق الإثباتيّ بينهما

22



بدعوى: أنّ الأمر يدلّ على الوجوب وضعاً، أو إطلاقاً، وأنّ الترخيص يكون بالقرينة، فإنّنا يجب أن نعرف ما وراء هذا الإثبات من وجوب واستحباب والفرق بينهما؛ حتّى نبني في مرحلة الإثبات تارةً على الوجوب، واُخرى على الاستحباب.

وقد يفرّق بينهما بناءً على الإيمان في باب الأحكام بمرحلة بين مرحلة البيان والإثبات ومرحلة المبادئ من الحبّ والبغض، اسمها مرحلة الجعل والاعتبار، بأنّ المجعول والمعتبر في فرض الوجوب يختلف عنه في فرض الاستحباب بدخول عنصر الإلزام في الأوّل دون الثاني.

إلّا أنّ هذا المقدار من الفرق لا يُروي الغليل؛ فإنّ روح الحكم عبارة عمّا وراء هذا الجعل والاعتبار، أو المجعول والمعتبر، فينتقل السؤال إلى أنّه: ما هو الفرق الكامن من وراء الجعل والاعتبار بين الوجوب والاستحباب والذي لولاه لما كان الفرق في صيغة المجعول أو المعتبر ذا جدوىً، وأيّ قيمة للاعتبار لو لم يكشف عن حقيقة مّا؟!

قد يقال: إنّ الفارق الحقيقيّ في روح الحكم الذي يجعله تارةً وجوبيّاً، واُخرى استحبابيّاً، هو ما مضى عن اُستاذنا (رحمه الله): من أنّ المولى يطيب نفساً بالترك أو لا. فإن كان يطيب نفساً بالترك، كان الأمر استحبابيّاً، وإلّا كان وجوبيّاً.

ولكن السؤال هنا يصعد درجة، فيكون السؤال عن أنّه: كيف يعقل أن يكون شيء مّا مطلوباً للمولى، ومع هذا يطيب نفساً بتركه؟! أفليس طيب النفس الكامل بالترك لا يكون إلّا لدى انتفاء الرغبة إلى الفعل تماماً؟!

وإذا قيل: إنّ طيب النفس بالترك أو اشمئزازها عن الترك أمر ذو درجات، فكلّما اشتدّت رغبة المولى في الفعل اشتدّ اشمئزازه من الترك، وكلّما خفّت الرغبة ضعف الاشمئزاز، وهذا ما قد نسمّيه بطيب النفس بالترك.

23



قلنا:

أوّلاً: هل يجوّز العقل إثارة اشمئزاز المولى لمجرّد ضآلة الاشمئزاز؟!

وثانياً: لابدّ من تعيين تلك الدرجة التي هي مرتبة الوجوب، والدرجة التي هي مرتبة الاستحباب، فيا ترى هل درجة السبعين مثلاً للاشمئزاز، أو عدم طيب النفس بالترك هي درجة الوجوب، ودرجة التسعة والستّين هي درجة الاستحباب، أم ماذا؟ أو تقولون: إنّ المقياس هو صدور الترخيص من الشارع في الترك؟ وهذا رجوع إلى مسلك الشيخ النائينيّ (رحمه الله).

وقد يقال: إنّ الفارق الحقيقيّ في روح الحكم بين الوجوب والاستحباب هو ما مضى أيضاً عن اُستاذنا (رحمه الله)من شدّة الملاك وضعفه، سواءٌ قصد بالملاك الحبّ والبغض، أو المصلحة والمفسدة.

إلّا أنّ هذا المقدار من البيان أيضاً لو لم يرجع إلى ما سيأتي إن شاء الله، وكان المقصود بشدّة الملاك وضعفه شدّته أو ضعفه ذاتاً، فهو غير كاف؛ وذلك لأنّنا نقول:

أوّلاً: هل يجوّز العقل مخالفة طلب المولى لمجرّد ضعف الملاك؟

وثانياً: لابدّ من تعيين درجة الشدّة والضعف، فهل درجة السبعين من شدّة الملاك هي درجة الوجوب مثلاً، ودرجة التسعة والستّين درجة الاستحباب، أم ماذا؟ أو تقولون: إنّ المقياس هو وصول ضعف الملاك إلى مستوىً يطيب المولى نفساً بالترك، فهذا هو مورد الاستحباب، ولو اشتدّ الملاك إلى مستوى عدم طيب النفس بالترك، فهذا هو مورد الوجوب؟ فهذا رجوع إلى مقياسيّة التعبير السابق الذي بحثناه، أو تقولون: إنّ المقياس هو صدور الترخيص من المولى وعدمه؟ فهذا رجوع إلى كلام الشيخ النائينيّ (رحمه الله).

والحلّ: أن يقال: إنّ الحبّ والبغض في نفس المولى: تارةً يكون مصبّه ذات الفعل، واُخرى يكون مصبّه نفس كون المكلّف ملزماً ومقيّداً بالفعل أو الترك برسوم العبوديّة، أو

24



كونه حرّاً لا حرج عليه في الفعل أو الترك عقلاً، فمثال حبّ مجرّد الإلزام الأوامر الامتحانيّة التي لا ملاك في متعلّقها، وإنّما الملاك عبارة عن نفس الامتحان الذي يتحقّق بكونه مُلزَماً حتّى يعرف: هل يعمل وفق ما تقتضيه مراسم العبوديّة، أو لا؟ ومثال حبّ حرّيّة العبد هو المستحبّات والمكروهات، فالمستحبّ مثلاً إنّما صار مستحبّاً لأنّ هناك مصلحة في فعله بلا مزاحم في الفعل أو بمزاحم مغلوب، وقد أولدت المصلحة بالنسبة لذات الفعل الحبّ في نفس المولى، ولكن كان هذا الحبّ مزاحَماً بحبّ المولى لكون عبده حرّاً غير مُلزَم، وهذان الحبّان يكونان على مصبّين لا على مصبّ واحد، فأحدهما حبّ للفعل، والآخر حبّ لعدم كون العبد مقيّداً بلحاظ رسوم العبوديّة بالفعل ومضطرّاً إليه، ولأن يكون شاعراً بالحرّيّة مثلاً، وغير حاسّ بالضغط المولويّ على نفسه في هذا الفعل، ومهما يشتدّ حبّ المولى لحرّيّة عبده لا يوجب ذلك ضعفاً في حبّه للفعل، ولكنّه قد يزاحمه في عدم إيجاب المولى للفعل؛ لأنّ إيجابه له يُخسّر المولى حرّيّة عبده، ويمكن أن يُجعل هذا شعبة من شعب مصلحة التسهيل، أو معنىً من معانيها. ونتيجة هذا التزاحم هي: أنّ المولى يبرز حبّه للفعل بالأمر به، أو بأيّ شكل آخر، ويبرز إرادته لكون العبد مختاراً وغير حاسّ بالضغط المولويّ تجاه الفعل، فإن فعل العبد ذاك الفعل برغم حرّيّته وعدم الإحساس بالإلزام، فقد تحقّق للمولى كلا هدفيه، أو كلا محبوبيه: الفعل مع حرّيّة العبد، وإن ترك العبد ذلك الفعل عملاً بحرّيّته، فقد حصل للمولى أحد المحبوبين، وهو حرّيّة العبد، وخسر المحبوب الآخر وهو الفعل.

والحبّ والبغض إن كان مصبّهما الفعل، فهما يتكاسران لا محالة؛ لأنّهما ضدّان لا يجتمعان في مصبّ واحد، فلدى غلبة المصلحة يبقى الحبّ وحده، ولدى غلبة المفسدة يبقى البغض وحده، ولدى تساويهما لا يبقى حبّ ولا بغض، ولكن حبّ الفعل

25



وحبّ حرّيّة العبد لا يتكاسران في طرف الفعل؛ لأنّهما ليسا في مصبّ واحد، بل في مصبّين، فمهما اشتدّ حبّ المولى لحرّيّة العبد وعدم كونه ملزماً عقلاً بالفعل لا يوجب ذلك ضعف حبّ الفعل. نعم، حبّ الفعل بما أنّه ينتهي ـ لا محالة ـ إلى حبّ إلزام العبد بالفعل يقع التكاسر بينه وبين حبّ الحرّيّة، أو قل: بغض الإلزام في طرف كون العبد ملزماً عقلاً برسوم العبوديّة بالفعل، فقد يغلب حبُّ الفعل حبَّ المولى لحرّيّة عبده، ويكسره ويفنيه، وقد يكون ضعيفاً بالقياس إلى حبّه لحرّيّة عبده فلا يفنيه.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ ما يوجد ثبوتاً وراء جعل الإلزام واعتباره، أو وراء جعل الفعل على العهدة، أو ما شئت فعبّر عبارة عن حبّ المولى لكون العبد مقيّداً من ناحية رسوم العبوديّة بالفعل، سواء كان ذلك حبّاً لنفس التقيّد ابتداءً، أي: غير ناتج من حبّ المتعلّق وهو الفعل، وذلك كما في الأوامر الامتحانيّة، وكذلك في الأوامر التي كان الهدف منها مجرّد التعبّد، أو كان حبّاً ناتجاً من حبّ المتعلّق، وهو الفعل الذي طغى على حبّ الحرّيّة لو كان للمولى حبٌّ لحرّيّة عبده وعدم تقيّده.

ويحتمل أن يكون المقصود لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من شدّة الملاك وضعفه شدّته وضعفه النسبيّان، أي: بالقياس إلى مصلحة حرّيّة العبد، أو حبّ المولى لعدم تقيّد عبده، أو عدم إحساسه بضغط المسؤوليّة، وكذلك يحتمل أن يكون مقصوده (رحمه الله) بطيب نفس المولى بالترك غلبة حبّه لحرّيّة العبد على حبّ الفعل الذي كان يوجب الإلزام.

ويحتمل أيضاً أن تكون النكتة الواقعيّة التي كان يتلمّسها الشيخ النائينيّ (رحمه الله) بذكائه الوقّاد هي ما شرحناه، أي: كان يرى: أنّ أمر المولى يوجد في ذاته الإلزام، إلّا أن يكون المولى نفسه راغباً في ترخّص العبد، ووقع الاشتباه في فرض هذه الخصوصيّة إثباتيّة بصدور الترخيص في حين أنّها ثبوتيّة.

26



الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة العقليّة:

بقي شيء في المقام خارج عن حريم البحث الاُصوليّ، وهو: أنّ الوجوب والاستحباب، وكذلك الحرمة والكراهة كما يوجدان في حقل الشريعة كذلك يوجدان في حقل العقل العمليّ، أو الفضائل والرذائل العقليّة، فربّ شيء يكون حسناً عقلاً ولكن لا يجب في منظار العقل فعله، كالعفو الذي هو حسن عقلاً ولكنّه ليس واجباً، وإلّا لما كان القصاص حقّاً. والتفسير الذي حقّقناه للفصل بين الوجوب والاستحباب في حقل الشريعة لا يأتي في حقل الفضائل والرذائل العقليّتين؛ إذ لا يوجد هنا ـ ما دمنا مقتصرين في حقل العقل ـ مولىً آمر وراء أنفسنا يطلب منّا شيئاً، ولكن قد يرغب في نفس الوقت في مرخوصيّتنا وحرّيّتنا، فلابدّ لنا من تفسير آخر للفرق بين الوجوب والاستحباب في حقل الأحكام العقليّة بعد فرض البناء على مبنى واقعيّة الحسن والقبح العقليّين.

فهل نعود إلى التفسير باختلاف الدرجة ونقول: إنّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب، والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسّطات، والوسط الحقيقيّ بينهما يكون مباحاً عقلاً، لايعدّ فضيلة ولا رذيلة، فكأنّ لدينا سُلّماً واحداً وقع في الدرج الأسفل النهائيّ منه أشدّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الأعلى النهائيّ منه أشدّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسّطات يخفّ قبحها أو حُسنها بمقدار بُعدها عن أحد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيّ في هذا السلّم هو رفّ المباحات؟!

إنّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ إنّنا لا نمتلك حدّاً مشخّصاً لفصل الواجبات عن المستحبّات. فيا تُرى هل يفترض

27



أنّ الحسن البالغ مرتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحبّ مثلاً، أم ماذا؟

2 ـ إنّ لازم ذلك أن يصحّ القول بأنّ كلّ ما هو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنّ الفعل ونقيضه ككفّتي الميزان، وبقدر ما يصعد أحدهما ينزل الآخر، فبقدر ما يقترب الحسن إلى ذروة السلّم يقترب نقيضه إلى أسفله، في حين أنّ هذا خلاف الوجدان، فإنّنا نرى بوجداننا أنّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكن القصاص ليس قبيحاً، وكيف يكون قبيحاً وهو حقّ؟! والحقّانيّة لا تجتمع مع القبح.

3 ـ إنّه لو وقع التزاحم بين قبيح في أقلّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم أن يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزّل عن قبحه ولو جزئيّاً بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزّل يخرج عن حريم الحرمة؛ لأنّنا كنّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة، مثال ذلك ما لو كان كشف سرّ مختصر عن أمر له ألف طرف يؤدّي إلى الإضرار بواحد منهم إضراراً خفيفاً، وفي نفس الوقت يؤدّي إلى نفع تسعماءة وتسعة وتسعين نسمة نفعاً كبيراً، فكانوا راضين بكشف السرّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجباً علينا، فيا تُرى هل يصبح كشف السرّ هذا جائزاً عقلاً، ولا نكون مُلزَمين أمام ذاك الواحد لأجل أنّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجباً؟ كلاّ، إنّ ضميرنا لا يدلّ على ذلك، ولو كان ضرب يتيم ضربةً مختصرة لا يبكي عليها إلّا دقائق موجباً لنفع آخرين نفعاً هائلاً في غير ما يكون واصلاً حدّ الوجوب كإنجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم بأقلّ ظلم في سبيل إدخال نفع هائل في جيب آخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم، لكان من أفضل الأعمال غير الواجبة؟ كلاّ.

وعليه فلننتقل إلى تفسير ثان للوجوب والاستحباب، أو للحرمة والكراهة في باب

28



الفضائل والرذائل العقليّتين، وهو: أن نفترض للفضائل والرذائل سلّمين متبائنين بدلاً عمّا مضى من افتراض سلّم واحد لها جميعاً، فهناك سلّم للفضائل وهي ما يكون فعلها حسناً، وسلّم آخر للرذائل وهي ما يكون فعلها قبيحاً، وهما سلّمان متوازيان لا يلتقيان ولا يستلزم حسن الشيء قبح نقيضه وبالعكس، ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.

وهذا التفسير أيضاً باطل؛ لأنّه لا يخلو عن بعض المفارقات من قبيل:

1 ـ لم يتّضح لنا ما هو الحدّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب والمفروض: أنّ الواجبات والمستحبّات في سلّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة، وكذلك لم يتّضح لنا ما هو الحدّ الدقيق بين الحرمة والكراهة والمفروض: أنّ المحرّمات والمكروهات في سلّم واحد والفرق بينهما فرق درجة، ولا أظنّ إمكان الوصول إلى حدّ مائز إلّا بالاعتباط.

2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الإلزام؛ لأنّ الإلزام مساوق للذمّ على الترك، والذمّ على الترك مساوق لقبح الترك وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض وبالعكس، ولا معنىً لفرض مساوقة شدّة الحسن لقبح النقيض؛ فإنّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديداً، لكان الحسن الخفيف أيضاً مساوقاً لقبح النقيض، ولكن بدرجة أخفّ، وهذا رجوع إلى التصوير الأوّل الذي كان السلّم فيه واحداً، أي: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك إلى نقيضه في درجة الرجحان.

وعليه فينحصر الأمر في التفسير الثالث، وهو أن يقال: إنّ للحسن والقبح سلّمين: سلّم للحسن وسلّم للقبح، ويكون سلّم الحسن هو سلّم المستحبّات والمكروهات، أي: أنّ كلّ حسن مستحبّ ونقيضه مكروه، وسلّم القبح هو سلّم الواجبات والمحرّمات، أي: أنّ كلّ قبيح حرام ونقيضه واجب.

29



وبكلمة اُخرى: إنّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الإلزام، وإنّما الإلزام عنصر مستبطن في القبح، فإنّ الإلزام عبارة اُخرى عن استحقاق الذمّ على المخالفة، وهو عبارة اُخرى عن قبح المخالفة، إذن فالفرق بين الواجب والمستحبّ في منطق العقل العمليّ عبارة عن أنّ المستحبّ ما لا يحكم العقل العمليّ بقبح تركه وإن حكم بحسن فعله، وعنصر الحسن غير عنصر قبح الترك، ومهما صعد الحسن في سلّمه لايعني قبح الترك، فالمستحبّ ما يكون حسناً وليس تركه قبيحاً كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحاً سواء كان فعله حسناً بحسن آخر أو كان حسن فعله عبارة اُخرى عمّا فيه من الاحتراز عن القبيح، وأيضاً نقول: المكروه العقليّ ما يكون تركه حسناً من دون أن يكون فعله قبيحاً، وذلك من قبيل القصاص في مورد يحسن العفو، والحرام العقليّ ما يكون فعله قبيحاً سواء كان تركه حسناً بحسن آخر أو كان حسن تركه عبارة اُخرى عمّا فيه من الاحتراز عن القبيح، ومثال ذلك إيذاء شخص بلا سبب، فإنّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه إلّا بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى أنّ فاعل الإيذاء يستحقّ الذمّ والتقاصّ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الإيذاء لا يستحقّ شكراً من قبل الشخص الذي لم يؤذه.

والآن نعود مرّةً اُخرى إلى حديثنا عن الوجوب والاستحباب الشرعيّين؛ لنفتح قوساً آخر لكلام خارج عن حريم علم الاُصول:

ملاك الانبعاث عن التكليف في النظر العرفانيّ:

قد عرفنا ممّا سبق أنّ المقياس الثبوتيّ للوجوب الشرعيّ هو إرادة المولى سبحانه وتعالى أن نكون مقيّدين ومتعبّدين:

چرا پاى كوبم چرا دست يازم *** مرا خواجه بى دست وپا مى پسندد

30



لا حبّ الفعل ولا المصلحة الكامنة في الفعل. نعم، الحبّ والمصلحة في الفعل قد يتطلّبان من المولى أن يريدنا متقيّدين ومكبّلين ومتعبّدين خشية فوات المتعلّق؛ لأنّ انبعاث العباد من إرادته سبحانه للتقيّد وعدم الحرّيّة أكثر بكثير من انبعاثهم من مجرّد حبّه تعالى للمتعلّق؛ وذلك: إمّا بسبب قبح مخالفة الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العرفان للثاني أحياناً دون الأوّل، وإمّا بسبب أنّ الذي تكون في مخالفته العقاب هو الأوّل دون الثاني، وهذا هو توجيه مخالفة أهل العدالة للثاني أحياناً دون الأوّل.

والذي يناسب مقام أهل العرفان الحقيقيّ هو كفاية حبّه تعالى للمتعلّق للانبعاث إليه، وكذلك كفاية بغضه تعالى للمتعلّق للانزجار منه حتّى فيما إذا اقتضت الرغبة الملحّة للربّ تعالى حرّيّة العبد، وعدم تقيّده وإلزامه؛ والوجه في أنّ هذا هو المناسب لأهل العرفان أحد تعبيرين: إمّا لأنّ العارف بالله لايحبّ إلّا ما يحبّه الله، ولا يبغض إلّا ما يبغضه الله، فلا رغبة له أصلاً في ترك المستحبّ أو فعل المكروه. وإمّا (1) لأنّه لو أخذ بالرخصة وترك المستحبّ، أو فعل المكروه، فقد تحقّق أحد الأمرين المحبوبين لله، وهو حرّيّته، ولو عمل بالمستحبّ وترك المكروه فقد تحقّق كلا المحبوبين لله، وهما: حرّيّته وملاك المتعلّق؛ لأنّه إنّما أتى بالمحبوب بمحض حرّيّته، لا بكونه مقيّداً مكبوتاً.

وبكلمة اُخرى: إنّ حبّ المولى لرخصة العبد وحرّيّته له معنيان:

أحدهما: حبّه لكونه في سعة عمليّة من المتعلّق، أي: أن يصل إلى ما يشتهيه نفسيّاً من فعل أو ترك، وهذا خارج عن بحثنا، ومرتبط بالمباحات التي لم تكن فلسفة إباحتها مجرّد عدم وجود ملاك للإلزام، بل كانت هناك مصلحة في التسهيل العمليّ للمكلّف بأن يصل


(1) والتعبير الأوّل أولى عرفانيّاً من الثاني.

31



إلى ما يشتهيه، وليكن هذا معنىً آخر أو شعبة اُخرى لمصلحة التسهيل، وإلى هذا ينظر بعض الأدلّة الدالّة على ذمّ الالتزام بترك بعض المباحات كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ)(1)، وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة)(2)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(3)، والتعبير الوارد في بعض الروايات: «إنّ الله يغضب على من لا يقبل رخصه»(4)، وفي بعضها الآخر: «لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه»(5).

وثانيهما: حبّه لمجرّد أن لا يكون العبد مُلزماً، أو أن لا يكون شاعراً بالإلزام، ويا حبّذا أن يفعل الفعل المحبوب لله بمحض اختياره ومن دون إلزام، وهذا هو المعنى الذي كان مقصوداً في بحثنا، وهذا طبعاً يلازم تقيّد العارف بالله بفعل المستحبّات وترك المكروهات، إلّا بمقدار ما يقع فيما بينها من التزاحم بلحاظ ضيق في قدرة العبد.

وممّا يبعث بالاستغراب: أنّ النصّ الذي يكون صحيحاً سنداً من نصوص: «أن الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه» ظاهره الأوّليّ وروده في مورد المكروهات،


(1) سورة المائدة، الآية: 87.

(2) سورة الأعراف، الآية: 32.

(3) سورة التحريم، الآية: 1.

(4) البحار، ج 80، ص 335، آخر الحديث 6.

(5) البحار، ج 93، ص 5.