133

فالاستصحاب وإن كان لا يجري إلاّ في الأحكام الشرعيّة أو موضوعاتها، لكن عدم الامتثال موضوع للحكم الشرعي ولو بقاءً، فلا بأس باستصحابه.

المسلك الثاني: أن يقال: إنّه لا حاجة إلى كون المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم شرعي، فحتّى بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الوجوب لا يسقط بالامتثال، وأنّ عدم الامتثال ليس مأخوذاً في موضوع الحكم بقاءً، وإنّما الذي يسقط بالامتثال هو فاعليّة الحكم لا فعليّته، نقول بجريان الاستصحاب في باب الامتثال رغم عدم كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي؛ وذلك باعتبار إمكان جعل الاُصول المؤمّنة والمنجّزة في مرحلة الامتثال، كما في قاعدة الفراغ، فإذا كان الأصل مؤمّناً كان حاكماً على قاعدة الاشتغال الجارية في مرحلة الامتثال، وإذا كان منجِّزاً كان مؤكِّداً لها، وقبول المرحلة للتنجيز والتعذير كاف في جريان الاستصحاب ولو لم يكن المستصحب حكماً أو موضوع حكم، فإنّ دليل الاستصحاب يدلّ على لزوم الحركة والمشي نحو ما لو كان اليقين ثابتاً كان يحرّك عقلاً إليه بما هو يقين طريقي. وفي ما نحن فيه لو كان اليقين بعدم الامتثال ثابتاً لكان يحرّك نحو الامتثال، فعند الشكّ ـ أيضاً ـ لا بدّ من الحركة نحو الامتثال. ويأتي توضيح ذلك في تنبيه من تنبيهات المسألة إن شاء الله.

والآن نتكلّم في موضوع بحثنا تارةً على المسلك الأوّل، واُخرى على المسلك الثاني:

أمّا لو بنينا على المسلك الأوّل، وهو: أنّ استصحاب عدم الامتثال يجري لكونه منقّحاً لموضوع الحكم بقاءً، فبالإمكان أن يقال: إنّ هذا وإن كان يصحّح استصحاب عدم الامتثال في التكاليف الاستقلالية، ولكن يمكن أن يورد عليه في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ الوجوب الضمني إنّما يسقط بسقوط ما هو في ضمنه من الوجوب الاستقلالي، وهو لا يسقط إلاّ بالانتهاء من العمل، بأن يأتي بالركعات الأربع مع التشهّد والتسليم، فهو الآن عالم بعدم سقوط الوجوب، فلا معنىً لاثبات الوجوب باستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة.

الإيراد الثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يمكنه أن يثبت وجوب الإتيان بالركعة الرابعة؛ لأنّ هذا الوجوب مشروط بالقدرة ككلّ وجوب، وإنّما يكون قادراً على الإتيان بالركعة الرابعة إن لم يكن قد أتى بها، أي: أنّه إنّما يكون قادراً على امتثال هذا الحكم الظاهري إن كان مطابقاً للواقع. وجعل حكم ظاهري مشروط بالمطابقة للواقع غير معقول؛ لأنّه غير قابل

134

للوصول حتّى يحرّك(1).

ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإيراد إنّما يرد إذا استظهرنا فقهياً وجوب الركعة الرابعة بما هي رابعة. وأمّا إذا استظهرنا وجوب ذات الركعات، أي: أنّه تجب ركعة وركعة وركعة وركعة، فهذا الاستصحاب إنّما يثبت وجوب إتيان ركعة. وهذا أمر بشيء مقدور حتماً.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا الإشكال يتسجّل حتّى بناءً على كون الواجب ركعة وركعة وركعة وركعة، بغضّ النظر عن عناوين الأعداد، وذلك بالالتفات إلى مسألة مانعيّة الزيادة، وأنّ عدم الزيادة ـ أيضاً ـ واجب ضمني كالركعة الرابعة، ولا بدّ من لحاظ مجموع الوجوبات الضمنيّة، فيظهر بذلك أنّ الذي يثبت بهذا الاستصحاب هو وجوب ركعة مع عدم الزيادة، أو قل: يثبت عليه وجوب الإتيان بركعة في صلاة لا يوجد فيها زيادة(2). وهذا الحكم يشكّ في القدرة على امتثاله، وإنّما يكون قادراً عليه إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، وإلاّ تحقّقت الزيادة بالركعة الجديدة. وعليه، فالإشكال ثابت على حاله.

نعم، إنّ هذا الإشكال مبنيّ على مبنىً مختار لنا من كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفياً، فيكون عند ئذ مشروطاً بالقدرة. وأمّا على سائر المباني في الاستصحاب فلا يرد هذا الإشكال(3).

 


(1) ولا يقال: إنّنا وإن شككنا في القدرة لكنّنا نتمسّك بأصالة الاشتغال، وذلك بدعوى: أنّ الشكّ في التكليف إن كان ناتجاً من الشكّ في القدرة كان مجرىً لقاعدة الاشتغال، فإنّه يقال: إنّ أصالة الاشتغال كانت ثابتة منذ البدء، فلا داعي إلى توسيط الاستصحاب.

(2) أو قل: إنّ الواجب عليه هو الإتيان بركعة غير زائدة، وهو غير قادر على ذلك على تقدير أنّه قد أتى بالركعة الرابعة.

(3) قد يقال: إنّه لا فرق في المقام بين افتراض كون مفاد الاستصحاب حكماً تكليفيّاً وعدمه، فإنّه حتّى بناءً على عدم كون مفاده حكماً تكليفيّاً لا إشكال في أنّ الاستصحاب أصل عمليّ يجب أن ينتهي إلى أثر عمليّ وإلى التحريك أو التعذير، ومع فرض عدم القدرة على التحرك لا معنى لإجرائه، وقد تقيّدت القدرة على التحرّك بمطابقته للواقع حسب الفرض، فأصبح جريان الاستصحاب مشروطاً ـ أيضاً ـ بمطابقته للواقع.

والجواب: أنّ الاستصحاب لو كان مفاده مجرّد تنجيز الواقع مثلاً، كفى في قابليّة الواقع للتنجيز احتمال القدرة، فإنّ معنى تنجيزه ـ عند ئذ ـ هو ضرورة محاولة المكلّف للوصول إليه ما لم يثبت لديه عجزه عن الوصول، (وطبعاً ليس المقصود بالتنجيز ذاك الحكم العقليّ الذي لا يقبل دخل الشرع فيه، وإنّما المقصود به إبراز اهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهو كاف لضرورة المحاولة من قبل المكلف رغم شكّه في القدرة؛ لأنّه يعلم أنّه على تقدير تحقّق القدرة فالمولى لا يرضى بفوات الواقع).

أمّا لو كان مفاد الاستصحاب جعل حكم تكليفي، فهو كأيّ حكم آخر مشروط بالقدرة، ومع الشكّ في

135

ثمّ إنّ حال هذين الإشكالين يختلف وروداً وعدماً باختلاف المباني في باب سقوط الوجوبات الضمنيّة، فلنذكر أوّلاً تلك المباني وحال هذين الإشكالين بناءً عليها، ثمّ ننتقل إلى بيان ما هو الصحيح من تلك المباني:

أما المباني في باب الوجوبات الضمنية فهي ما يلي:

إمّا أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنيّة تسقط كلّها دفعة واحدة بانتهاء العمل، لا بالتدريج.

وإمّا أن نبني على أنّ امتثال بعضها يوجب سقوط ذاك البعض، فمن أتى بثلاث ركعات مثلاً سقطت عنه الوجوبات الضمنية المتعلّقة بتلك الركعات، ولو أبطل صلاته تولّد أمر جديد(1) وبعث جديد بتلك الأجزاء من باب وجود الملاك، ولازم هذا المبنى كون الأمر الضمني الباقي متعلّقاً بركعة رابعة في هذه الصلاة لا بركعة رابعة كلّية؛ وذلك لأنّ الصلاة المطلوبة للمولى هي أربع ركعات في صلاة واحدة، لا أربع ركعات ملفّقة، فالأمر بالركعة الرابعة أمر متعلّق برابعة لتلك الثلاث التي يمتثل بها الأوامر الضمنيّة السابقة، فما دامت تلك الثلاث باقية على كلّيتها تكون هذه ـ أيضاً ـ كلّيّة، ومهما طبّقت خارجاً على مصداق معيّن انحصر مصداق هذا الأمر ـ أيضاً ـ فيما يكمّل ذاك المصداق؛ لأنّه أمر برابعة تلك الثلاث.

 


القدرة يشكّ في أصل هذا الحكم. واستصحاب القدرة ـ أيضاً ـ لا يفيد شيئاً؛ لأنّ هذا الاستصحاب ـ أيضاً ـ مفاده جعل الحكم التكليفي وفق الحكم المترتّب على القدرة، وهذا الحكم بنفسه مشكوك المقدوريّة، فمرّةً اُخرى نقع في إشكال صيرورة الاستصحاب مشروطاً بمطابقته للواقع.

وقد تقول: إنّ مبنى الاُستاذ(رحمه الله) هو: أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها إبرازات لاهتمام المولى بالواقع على تقدير ثبوته، وهذا غير الحكم التكلفيّ، ويكفي في معقوليّة ذلك احتمال القدرة، فإنّ معنى الاستصحاب ـ عند ئذ ـ هو أنّ الواقع على تقدير ثبوته لا يرضى المولى بفواته، وهذا يكفي في تحريك العبد نحو محاولة الامتثال بمجرّد احتماله للقدرة عليه.

والجواب: أنّ اُستاذنا(رحمه الله) وإن كان يؤمن بأنّ روح الأحكام الظاهرية هو ذلك، ولكنّ الكلام فعلاً في لسان دليل الاستصحاب لا في روحه؛ إذ لو سلّمنا أنّ لسان دليل الاستصحاب هو لسان الحكم التكليفي، وأنّ هذا اللسان لا يناسب عرفاً شموله لفرض عدم القدرة، فهو يختصّ بفرض القدرة، وبالتالي لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بالقدرة، أو قل في المقام لا يصل إلى العبد إلاّ لدى علمه بمطابقته للواقع، ومع علمه بذلك لا حاجة له إلى الاستصحاب.

(1) ذكر اُستاذنا(رضوان الله عليه): إنّنا نتكلّم على المنهج المعروف من جعل الكلام في البعث، لا في روح الحكم الذي هو الحبّ، والذي يكون من الواضح عدم تجدّده بالإبطال، بل عدم زواله بالامتثال.

136

وإما أن نبني على أنّ الوجوبات الضمنية تسقط بالتدريج كما مضى في المبنى الثاني، إلاّ أنّه نقول: إنّ الأمر بالركعات الثلاث مثلاً لا يكفي في سقوطه الإتيان بها، بل يشترط في سقوطه شرط متأخّر، وهو الإتيان بباقي الصلاة فيما بعد. وهذه المباني كلّها تكون بغضّ النظر عمّا أشرنا إليه من أنّ الحقّ هو عدم سقوط الأمر بالامتثال حتّى إذا كان استقلالياً.

وحال ما مضى من الإشكالين يختلف باختلاف هذه المباني.

أمّا الإشكال الأوّل ـ وهو أنّ وجوب الركعة الرابعة مقطوع البقاء، فلا معنى لاثباته باستصحاب عدم الإتيان بها ـ فهو يختصّ بالمبنى الأوّل؛ إذ على المبنى الثاني لا علم ببقاء الوجوب، فإنّ الوجوب ساقط لو كان قد أتى بها، وكذلك على المبنى الثالث، فإنّ الوجوب ساقط على تقدير أنّه أتى بها، وأنّه سوف يأتي بباقي الصلاة.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو أنّ الوجوب المستفاد بالاستصحاب لا يقدر على امتثاله إلاّ إذا كان الاستصحاب مطابقاً للواقع، والحكم الظاهري المشروط بالمطابقة للواقع لا يقبل الوصول، وبالتالي لا يقبل التحريك ـ فبناءً على المبنى الأوّل الذي تسجّل فيه الإشكال الأوّل لم يبقَ موضوع لهذا الإشكال؛ لأنّ الاستصحاب ـ حسب ما فرض في الإشكال الأوّل ـ لا يثبت وجوباً ظاهرياً حتّى يتكلّم في اشتراطه بالقدرة، وبالتالي بموافقته للواقع وعدمه. نعم، بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل تصل النوبة إلى الإشكال الثاني. والحقّ عدم وروده؛ لثبوت القدرة على الامتثال حتماً ولو بإعادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالركعة الرابعة أمر بكلّي الرابعة ولو في ضمن صلاة اُخرى؛ إذ لم تنطبق بعدُ الأوامر الضمنية السابقة ـ بناءً على هذا المبنى ـ على ما أتى به من الركعات الثلاث، حتّى يقال بلزوم انطباق هذا الأمر الضمني ـ أيضاً ـ بركعة في هذه الصلاة.

وأمّا على المبنى الثاني فيتسجّل هذا الإشكال الثاني؛ وذلك لأنّ الأمر بالركعة الرابعة ـ على ما عرفت من لازم هذا المبنى ـ قد تعلّق برابعة هذه الصلاة بالذات، فيأتي ـ لا محالة ـ إشكال إرتباط القدرة على ذلك بمطابقة الاستصحاب للواقع؛ إذ لو كان في الواقع قد أتى بركعة رابعة لم يقدر على امتثال هذا الحكم الظاهري إمّا من باب دخل عنوان الرابعة فيه، أو من باب دخل عدم الزيادة فيه.

وأمّا على المبنى الثالث فلا يرد هذا الإشكال؛ وذلك لأنّ الشرط المتأخّر دخيل في تحقّق امتثال الأوامر الضمنية السابقة، والأمر بالصلاة في الرتبة السابقة على الامتثال أمر بالكلّي، وهو قادر على الإتيان به ولو ضمن فرد آخر. وفي الرتبة المتأخّرة عن الامتثال المساوق

137

لفرض الإتيان بالشرط في ظرفه المتأخّر يكون ساقطاً بكلّ ما فيه من الأوامر الضمنية. فالأمر في مرتبة وجوده قابل للتحريك، وفي المرتبة الاُخرى ليس موجوداً أصلاً.

بقي في المقام شيء، وهو أنّه إذا تكلّمنا في آخر الوقت الذي لا يمكنه أن يأتي فيه بفرد جديد، تسجّل الإشكال الثاني (وهو إشكال عدم القدرة إلاّ على تقدير موافقة الاستصحاب للواقع) على جميع المباني الثلاثة؛ لأنّه غير قادر على فرد جديد، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل نورد هذا الإشكال بعد التنزّل عن الإشكال الأوّل؛ إذ معه لا تصل النوبة إلى هذا الإشكال كما عرفت. وعلى المبنى الثاني والثالث نورده بلا حاجة إلى التنزّل؛ لعدم ورود الإشكال الأوّل فيهما.

وأمّا بيان ما هو الصحيح من هذه المباني الثلاثة، فالحق عدم سقوط الوجوبات الضمنيّة بالتدريج:

أمّا على مبنانا من عدم سقوط الوجوب الاستقلالي بالامتثال، فالأمر واضح، فإنّه ـ عندئذ ـ لا مجال لسقوط الأمر الضمني ـ أيضاً ـ نهائياً. نعم، حينما يأتي ببعض الأجزاء يسقط الأمر الاستقلالي عن الفاعلية من بعض الجهات دون بعض، أي: لا يحرّك نحو سدّ باب العدم الذي انسدّ، ويحرّك نحو سدّ أبواب اُخرى.

وأمّا على مبنى سقوط البعث والأمر الاستقلالي بالامتثال، لكون بقائه تحصيلاً للحاصل، وبعثاً نحو أمر قد حصل وتحقّق، فقد يتخيّل أنّ هذا البيان يأتي في الأوامر الضمنية أيضاً، فالأمر بالتكبيرة مثلاً قد سقط بعد الإتيان بها؛ لأنّه لو بقي لكان بعثاً نحو شيء حاصل.

لكنّ الصحيح عدم تأتّي هذه الشبهة في الأوامر الضمنيّة.

ونوضّح ذلك بالحديث في مقامين:

الأوّل في مقابل المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنيّة سقوطاً محتّماً.

والثاني في مقابل المبنى الثالث القائل بسقوطها مشروطاً بالشرط المتأخّر.

أمّا المقام الأوّل: وهو في إبطال المبنى الثاني القائل بسقوط ما أتى به من الأوامر الضمنية سقوطاً محتّماً، فنحن نبرهن على بطلان هذا المبنى بوجوه أربعة، الأوّل والثاني منها يحلاّن أصل شبهة كون بقاء الأمر الضمني طلباً للحاصل، والثالث والرابع لا يحلاّن الشبهة وإن كانا يبرهنان على عدم السقوط، فان شئت فسمِّ الأوّلين بالجواب الحلّي، والأخيرين بالجواب النقضي.

138

الوجه الأوّل: ما حقّقناه في بحث التعبّدي والتوصّلي، وفي بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيين من أنّ الأمر الاستقلالي الواحد يستحيل أن يتعلّق بالكثير بما هو كثير، وإنّما يتعلّق في اُفق الجعل بشيء واحد بسيط، وتلبس هذه الأجزاء المتعدّدة لباس الوحدة في ذلك الاُفق، حيث إنّ متعلّقات الطلب موجودة بعين ذلك الطلب، كما أنّ متعلّقات العلم والحب والبغض ونحوها موجودة بعين وجودها، فهي موجودة بوجود وحداني، فهو أمر واحد متعلّق بشيء واحد لا معنى لتجزّئه في اُفق الجعل إلى أوامر ضمنية، حتّى يقال: إنّ الأمر الضمني بالتكبيرة مثلاً لو لم يسقط بعد الإتيان بالتكبيرة لكان طلباً للحاصل. نعم، هذا الواحد نأتي به بعد ذلك إلى عالم ذهننا ونجّزّئه، فيبدو لنا بعوث كثيرة، وإن هي إلاّ أجزاء تحليليّة تماماً، من قبيل الأجزاء الحدّية كالجنس والفصل العالي والسافل.

الوجه الثاني: بعد التنزّل عن البيان الأوّل، والغفلة عن استحالة تعلّق بعث واحد بأشياء كثيرة بما هي كثيرة نستعين بأصل موضوعي من دون ضمان صحّته، ونوكل أمر تحقيقه ببحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وحاصله: أنّ الأمر الضمني أمر بالجزء المقيّد بسائر الأجزاء، فالتقيّد ماخوذ في كلّ جزء جزء، والأمر الضمني تعلّق بالحصّة. وعليه نقول: لا يلزم من عدم السقوط طلب الحاصل؛ لأنّ الحصّة الخاصّة بما هي حصّة خاصّة لم تحصل، والتقيّد داخل في المطلوب، وهو لا يحصل إلاّ بحصول طرفيه، إلاّ أن يلتزم بتحليل الأمر بالمقيّد ـ أيضاً ـ إلى الأمر بذات المقيّد والأمر بالتقيّد. لكن كون ذلك تجزئه في عالم التحليل الذهني لا في واقع عالم الأمر أوضح منه في الأمر بأجزاء تركيبيّة؛ فإنّ التقيّد لا ينظر إليه مستقلاًّ، وإنّما ينظر إليه مندكّاً وبما هو معنىً حرفي، فنبرز في هذا البيان أوضحيّة المطلب.

الوجه الثالث: أنّ سقوط الوجوب إمّا يكون بمعنى سقوط الجعل، أو بمعنى سقوط المجعول. أمّا الأوّل فغير مقصود في المقام حتماً؛ لوضوح أنّ الجعل إنّما يسقط بالنسخ لا بالامتثال. وأمّا سقوط المجعول فلا يكون إلاّ بانتفاء أحد قيود الموضوع، فيفرض في المقام أنّ عدم الإتيان قيد من قيود الموضوع، وقد انتفى. وهنا نسأل: هل عدم الاتيان بكلّ جزء موضوع لوجوب ذاك الجزء فحسب، فعدم الإتيان بالتكبيرة مثلاً موضوع لوجوب التكبيرة دون الحمد وغيره، وعدم الإتيان بالحمد موضوع لوجوب الحمد دون التكبيرة وغيرها، أو عدم الإتيان بأيّ واحد منها قيد لموضوع وجوب كلّ تلك الأجزاء، أو قل: قيد لموضوع الوجوب الاستقلالي؟ فإن قيل بالأوّل كان معنى ذلك فرض وجوبات وجعول استقلاليّة لفرض موضوعات مقدّرة الوجود متباينة، والجعل عبارة عن إنشاء قضيّة

139

حقيقيّة على موضوع مقدّر الوجود، فهناك قضايا حقيقية متعدّدة، ووجوبات استقلالية متعدّدة، وهو خلف الفرض. وإن قيل بالثاني لزم سقوط أصل وجوب الصلاة بالتكبيرة مثلاً، وهذا ـ أيضاً ـ خلف المفروض؛ لأنّ المدّعى إنّما هو السقوط التدريجي لا السقوط الدفعي في ابتداء العمل.

الوجه الرابع: أنّه إذا سقط الأمر بالركعات الثلاث بالإتيان بثلاث ركعات، فالأمر بالركعة الرابعة هل يسقط ـ أيضاً ـ ولو بأن يفرض أنّه يأتي مكانه أمر جديد مستقلّ متعلّق بالجامع بين الركعة الرابعة وصلاة جديدة مثلاً، أو لا يسقط ويبقى متعلّقاً بطبيعي الركعة الرابعة، أو يصبح متعلّقاً بخصوص الرابعة في هذه الصلاة؟

أمّا الأوّل، فغير معقول؛ إذ يلزم من سقوط الأمر قبل الامتثال عدم قابلّيته للتحريك مع أنّه خلف فرض السقوط التدريجي الذي هو المدّعى، دون سقوط الكلّ دفعة من أوّل الأمر كما مضى.

وأمّا الثاني، فأيضاً غير معقول؛ لما مضى من أنّ الصلاة المطلوبة هي عبارة عن ركعات أربع في عمل واحد دون ركعات ملفّقة، والأمر بالرابعة أمر برابعة لنفس الثلاث التي يمتثل بها الأوامر السابقة، فبعد تعيّنها في فرد معيّن لا بدّ من تعيّن هذا أيضاً.

فينحصر الوجه المعقول في الثالث؛ ولذا جعلناه فيما مضى لازم هذا المبنى الثاني، لكنّ هذا الوجه خلاف الوجدان لكلّ إنسان في مطلوباته الارتباطيّة الحاكم بأنّ المطلوب يبقى على طبيعيّته وكلّيّته وإن أتى ببعض العمل، ولا فرق في حساب البعث والأمر بين تكميل هذا الفرد أو الإتيان بفرد جديد.

وأمّا المقام الثاني: فيمكن البرهنه على بطلان المبنى الثالث بما مضى من الوجه الأوّل والثالث:

أمّا الأوّل، فلأنّه يقال: إنّ الوجوب الاستقلالي الواحد تعلّق بشيء واحد، ولا ينحلّ في عالم الأمر إلى أوامر عديدة حتّى يفرض سقوطها تدريجاً بلا فرق بين فرض سقوطها تدريجاً غير مشروط بشرط متأخر كما في المقام الأوّل، أو مشروطاً به كما في هذا المقام.

وأمّا الثالث، فلأنّه هنا ـ أيضاً ـ يقال: هل عدم كلّ جزء قيد لوجوب ذلك الجزء، أو للوجوب الاستقلالي؟ فعلى الأوّل يلزم كونها واجبات استقلالية. وعلى الثاني يلزم سقوط الواجب دفعة في أوّل العمل، وهو خلف. نعم، لا يلزم سقوطه دفعة في أوّل العمل مطلقاً كما في المقام الأوّل، بل بشرط أن يكون ـ في علم الله ـ سوف يأتي بباقي العمل.

140

وأمّا الوجه الثاني والرابع، فلا يأتيان في المقام:

أمّا الوجه الثاني، فلأنّ تقيّد التكبيرة مثلاً بباقي الأجزاء كما يتصوّر بمعنى تقيّدها بتعقّبها بباقي الأجزاء بالفعل، كذلك يتصوّر بمعنى تقيّدها بأنّه سوف يتعقّبها باقي الأجزاء، فإنّ الوجه في الالتزام بهذا التقيّد هو دعوى أنّه لولاه للزم انطباق الواجب الضمني على الإتيان بالتكبيرة ولو مع ترك باقي الأجزاء، وكون ذلك امتثالاً للوجوب الضمني، وليس كذلك، فلا بدّ من إخراج هذه الحصّة، وهذا الإخراج ـ كما ترى ـ يحصل بالتقييد بالنحو الثاني كما يحصل بالتقييد بالنحو الأوّل. والتقييد بالنحو الأوّل وإن كان ينافي المبنى الثالث؛ إذ القيد لا يحصل إلاّ بعد الإتيان بباقي الأجزاء بالفعل، فلا وجه للسقوط قبله ولو مشروطاً، لكن التقييد بالنحو الثاني لا ينافي هذا المبنى، أي: السقوط مشروطاً بالإتيان بعد ذلك بباقي الأجزاء، فإنّه مع فرض تحقّق هذا الشرط يكون القيد (وهو أن يكون بحيث سوف يعقبه باقي الأجزاء) ثابتاً من أوّل الأمر، ولكنّه ينافي المبنى الثاني وهو السقوط بلا شرط؛ إذ مع فرض عدم تحقّق الشرط في ظرفه لا يكون القيد ثابتاً.

وأمّا الوجه الرابع، فقد قلنا هناك: هل الأمر بالرابعة بعد الإتيان بالثلاثة قد سقط أو هو باق على حاله، ويكون امتثاله بالإتيان بطبيعي الرابعة، أو باق على حاله ولا بدّ من تطبيقه على رابعة في هذه الصلاة؟ أمّا الأوّل والثاني فغير معقول. وأمّا الثالث فخلاف وجداننا في مطلوباتنا الارتباطية الحاكم ببقاء الطلب على الجامع، وكون نسبته إلى تتميم هذا الفرد والإتيان بفرد آخر على حدٍّ سواء. وهذا البيان لا ياتي في المقام؛ وذلك لأنّ انحصار امتثال الأمر بالرابعة برابعة في ضمن هذه الصلاة يكون في طول سقوط الأمر بالثلاثة الأُوَل، وذلك يكون في طول أن يكون سوف يأتي بالرابعة في هذه الصلاة، إذن فانحصار امتثال الأمر بالرابعة برابعة في ضمن هذه الصلاة يكون في طول فرض امتثاله في ضمن هذه الصلاة، وإذا كان في طول ذلك فليس امتثاله في ضمن هذه الصلاة محتّماً على المكلّف، فالمولى بعدُ تكون نسبة طلبه إلى الإتيان برابعة في ضمن هذه الصلاة أو الإتيان برابعة في ضمن صلاة اُخرى على حدٍّ سواء؛ لأنّ فرض الإتيان بها في ضمن صلاة اُخرى دون هذه الصلاة مساوق لعدم سقوط الأمر بالثلاثة الأُوَل (لعدم تحقق الشرط المتأخّر في ظرفه)، وهذا مساوق لعدم تعيّن امتثال أمر الركعة الرابعة بالإتيان بها في هذه الصلاة.

إن قلت: يلزم هنا ـ أيضاً ـ أن يكون طلب المولى ـ على تقدير أنّه سوف يأتي بالرابعة في هذه الصلاة ـ طلباً لرابعة في هذه الصلاة دون طبيعي الرابعة، وهذا ـ أيضاً ـ خلاف وجداننا

141

في مطلوباتنا الارتباطية.

قلت: المفروض أنّه على تقدير الامتثال وفي طول فرض الامتثال لا يوجد طلب، فلا يوجد وجدان يشخّص نوعيّة الطلب، وإنّما يوجد الطلب في المرتبة السابقة على الامتثال، وفي هذه المرتبة يكون الطلب باقياً على كلّيّته. وأمّا إذا بنينا على ما هو الصحيح من ثبوت الطلب حتّى بعد الامتثال، فهذا مساوق لما هو مختارنا من عدم سقوط الوجوب بالامتثال حتّى في الواجبات الاستقلالية. وعليه لا يبقى موضوع للبحث عن تعيين ما هو الصحيح من هذه المباني الثلاثة.

ثم إنّ هنا وجهاً آخر لإبطال المبنى الثالث، وهو أنْ يُبنى على ما هو الصحيح عندنا في الواجب الارتباطي من أنّ كلّ جزء من الأجزاء ليس مقيّداً بالجزء الآخر، فلو فرضنا انحلال الوجوب الاستقلالي في عالم الأمر إلى وجوبات عديدة بعدد الأجزاء، كان مقتضى برهان كون بقاء طلب الأمر بعد الامتثال طلباً للحاصل سقوط وجوب كلّ جزء بمجرّد الإتيان به منجّزاً؛ لأنّه لو أمر به كان طلباً للحاصل، فإنّ المطلوب هو ذات الجزء وقد حصل لا الجزء المقيّد بشرط متأخّر حتّى يفرض سقوطه أيضاً مشروطاً بشرط متأخر، فلا بدّ من السقوط منجّزاً لا مشروطاً.

بقي في المقام شيء: وهو أنّه قد مضى منّا في تصوير توجيه الأمر بالأجزاء غير المنسيّة إلى الناسي لبعض الأجزاء وجه، وهو أن يؤخذ التذكّر قيداً في نفس الواجب لا في الوجوب، وذلك بأن يقال: أيّها المتذكّر لبعض الأجزاء اِئتِ بما تكون متذكّراً له. وعنوان ما يكون متذكراً له يختلف في مقام الانطباق باختلاف الأشخاص في التذكّر وعدمه، فغير الناسي يجب عليه كلّ العمل لأنّه يتذكّر الكلّ، والناسي لأيّ مقدار يخرج ذلك المقدار عن هذا العنوان بالنسبة له.

وقد يتوهّم جريان هذا التوجيه في المقام لتصوير سقوط الواجبات الضمنية بالتدريج، وذلك بأن يؤخذ عدم الإتيان قيداً في الواجب لا في الوجوب، بأن يقال: يجب عليك المقدار غير المأتيّ به.

والجواب عن ذلك: أنّنا نتساءل: أيّ شيء تفرضه ظرفاً لعدم الإتيان الماخوذ قيداً في الواجب؟ هل ظرفه هو تمام الوقت، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به في شيء من الوقت أو ظرفه هو بعض الوقت على سبيل البدل، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به في بعض الوقت، أو ظرفه هو ظرف العمل، كما هو كذلك فيما ذكرناه

142

من مسألة الناسي، أي: أنّ الواجب هو الإتيان بالمقدار الذي لا يأتي به عندما يأتي بالمقدار الآخر؟ فإن قيل بالثاني فلا أثر لهذا القيد في المقام؛ فإنّ هذا القيد حاصل في كلّ الأجزاء دائماً؛ إذ ما من جزء إلاّ وهو لا يأتي به في بعض الوقت وإن كان يأتي به في بعض آخر، فعندما أتى بجزء مّا لم يخرج ذلك الجزء عن كونه موصوفاً بأنّه لا يأتي به في بعض الوقت على سبيل البدل حتّى يقال بأنّه سقط وجوبه على هذا الأساس. وإن قيل بالأوّل أو الثالث ورد عليه:

أوّلاً: أنّه يلزم من ذلك أنّ من صلّى ينكشف له بعد صلاته أنّه لم تكن تجب عليه الصلاة؛ لأنّ الواجب هو الذي لا يأتي به في تمام الوقت أو في وقت العمل وقد أتى بذلك.

وثانياً: أنّه لا معنى لا يجاب ما لا يأتي به في تمام الوقت أو في ظرف العمل؛ لأنّ هذا الشيء بهذا العنوان يستحيل أن يتحقّق في الخارج إلاّ بأن ينسلخ عن عنوانه.

هذا كلّه لو أخذنا بالمسلك الأوّل في استصحاب عدم الامتثال، وهو القول بجريانه من باب أنّ عدم الامتثال موضوع لحكم شرعي وهو الوجوب بقاءً.

وأمّا لو بنينا على المسلك الثاني: وهو استصحاب عدم الامتثال بغضّ النظر عن فرضه موضوعاً لحكم شرعي، فالإشكال الأوّل غير وارد؛ لأنّه ليس الاستصحاب جارياً بلحاظ الشكّ في وجوب الركعة الرابعة حتّى يقال: لا شكّ لنا في بقاء الوجوب.

وأمّا الإشكال الثاني، فإن بنينا على المبنى الأوّل أو الثالث من المباني الثلاثة التي ذكرناها في حال الوجوبات الضمنية، لم يرد، كما لم يرد على المسلك الأوّل. وأمّا لو بنينا على المبنى الثاني فهناك كان الاستصحاب بلحاظ وجوب الركعة الرابعة؛ ولذا قلنا: بما أنّ وجوبها قد تعلّق برابعة في هذه الصلاة يحصل لنا الشكّ في القدرة، ويكون ثبوت القدرة مشروطاً بمطابقة الاستصحاب للواقع، فتسجّل الإشكال، وأمّا هنا فالاستصحاب لا يكون بلحاظ وجوبها، وإنّما هو بلحاظ لزوم الامتثال، أي: أنّ الاستصحاب يدلّ على لزوم الحركة نحو ما كُنّا نتحرّك إليه بحكم العقل لو كنّا نعلم بعدم الإتيان بالركعة الرابعة، وعليه فيجب أن نرى: أنّنا لو كنّا نعلم بذلك كان هذا العلم ـ مع كون المفروض تعلّق وجوب الركعة الرابعة بركعة في هذه الصلاة بالذات ـ يحرّكنا عقلاً نحو ماذا؟ فإن قيل: إنّه

يحرّكنا نحو الإتيان بالرابعة في هذه الصلاة بالذات تسجّل الإشكال هنا أيضاً؛ إذ لا يعلم بثبوت القدرة على ذلك إلاّ بناءً على مطابقة الاستصحاب للواقع، وإن قيل ـ ولو من باب القول بباطل في باطل ـ: إنّ هذا الوجوب الضمني المتعلّق برابعة في خصوص هذه الصلاة لا يجب امتثاله، بل يكون المكلّف ـ بغضّ النظر عن حرمة قطع الصلاة ـ مخيراً بين أن يأتي

143

بركعة رابعة أو يبطل الصلاة ويأتي بصلاة جديدة؛ وذلك لانحفاظ الغرض بكلا المنهجين، وإنّما جعل المولى الوجوب متعلّقاً بخصوص الركعة في هذه الصلاة بالذات لكونه مجبوراً على ذلك، فلا يرد الإشكال للقدرة على ذلك ولو بأن يصلي صلاة جديدة.

ثمّ إنّنا تكلّمنا حتّى الآن في استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة بداعي التحريك نحو ركعة موصولة.

وأمّا إجراؤه بداعي التحريك نحو ركعة مفصولة ـ وهذا ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)على ما مضى، حيث قال: إنّ موضوع وجوب الإتيان بالركعة المفصولة مركّب من الشكّ في الإتيان بالرابعة مع عدم الإتيان بها واقعاً، والجزء الأوّل ثابت بالوجدان، والثاني نثبته بالاستصحاب ـ فقد يتراءى أنّ هذا الاستصحاب الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) يتمّ على القاعدة من دون ورود شيء من الإشكالين: أمّا إشكال كون بقاء الوجوب معلوماً فلا معنىً لإثباته باستصحاب موضوعه، فلا يرد هنا؛ لأنّ المقصود هنا إثبات وجوب جديد وهو وجوب الركعة المنفصلة، لا الوجوب السابق حتّى يقال: نعلم ببقائه. وأمّا إشكال عدم القدرة إلاّ على تقدير مطابقة الاستصحاب للواقع، فمن الواضح عدم وروده؛ لأنّه قادر على الركعة المفصولة؛ إذ لم يؤخذ فيها عنوان الرابعة، ولا تلزم منها الزيادة قطعاً؛ لأنّها مفصولة.

إلاّ أنّ التحقيق في المقام أن يقال: إنّ الملاك الموجب لوجوب ركعة مفصولة لا بدّ أن تفرض فيه إحدى فرضيّتين:

الفريضيّة الاُولى: كون الملاك في الجامع بين الركعة الموصولة عند عدم الشكّ والركعة المفصولة عند الشكّ.

وعلى هذه الفرضية يكون الوجوب متعلّقاً بذاك الجامع، وهو بعدُ لم يتشهّد ولم يسلّم، فالوجوب ـ على ما هو الصحيح في سقوط الوجوبات الضمنية ـ باق على حاله، فلا معنىً لاستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة من باب فرضه موضوعاً لحكم شرعي وإثبات وجوب ركعة منفصلة كما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله).

نعم، لا باس باستصحاب عدم الإتيان بالرابعة على المسلك الثاني، أي: من باب جريان الاُصول الشرعية في ميدان الامتثال بلا حاجة إلى إرجاع الشكّ إلى الشكّ في التكليف، فيجري هذا الاستصحاب بناءً على تسليم أصل استصحاب عدم الإتيان في باب الشكّ في الامتثال.

الفرضيّة الثانية: أن يفرض ملاك في الصلاة ذات أربع ركعات متّصلة، ويفرض أنّ

144

الشاكّ يوجد في حقّه ملاك آخر مباين للملاك السابق ذاتاً أو مرتبة (بأن يكون أضعف مرتبة من الملاك الأوّل) يوجب وجوباً جديداً، ويُفرض أنّ العبد بمجرّد أن يشكّ يعجز عن تحصيل الملاك الأوّل، فلا يحصل لا بالإبطال والإعادة، ولا بالتكميل بعد الإتيان بالركعة الجديدة، ولا بالتكميل من دون الإتيان بالإعادة، ولا بركعة الاحتياط، فإنّما عليه أن يحصّل الملاك الجديد، وهذا الملاك الجديد يحصل بأحد أمرين:

الأوّل: الإتيان بركعة منفصلة.

والثاني: الإبطال والإعادة؛ إذ لو أبطل وأعاد صحّت صلاته حتماً.

ومن هنا يظهر أنّ الواجب عليه هو الجامع بين الإتيان بركعة منفصلة والإعادة عند الإبطال، فبناءً على هذه الفرضية لا بأس بما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة من باب كونه موضوعاً لحكم شرعي، لكن ليس هذا الحكم الشرعي هو وجوب ركعة الاحتياط كما ذكره(قدس سره)، بل الجامع بينه وبين الإعادة عند الإبطال(1).

هذا. والظاهر من الأدلّة الفقهيّة في المقام إنّما هو الفرضيّة الاُولى؛ حيث يقول ما مفاده: (ألا اُعلّمك ما لا يضرّك معه التمام والنقصان)(2) فإنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّه بهذه العملية لا يفوته شيء من الملاك الأوّل.

نعم، لا نضايق من دعوى: أنّ العرف يرى وجوبين متعدّدين.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه: أنّ الاستصحاب سواء أجريناه بداعي التحريك نحو ركعة متّصلة أو أجريناه بداعي التحريك نحو ركعة منفصلة يجب أن يكون من باب جريان الاُصول الشرعية في ميدان الامتثال لا من باب استصحاب موضوع حكم شرعيّ.

 

الرواية الرابعة:

رواية إسحاق بن عمّار قال: «قال لي أبوالحسن الأوّل(عليه السلام): إذا شككت فابنِ على اليقين. قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم»(3).


(1) بالإمكان أن يفترض أنّ الملاك الذي يحصل بالركعة المنفصلة كان أقوى ممّا يحصل بالإبطال والإعادة، فاوجبت الشريعة الأوّل تعييناً.

(2) هذا المضمون وارد في رواية عمّار الساباطي غير التامة سنداً في الوسائل: ج 8، باب 8 من الخلل الواقع في الصلاة، ح 3، ص 313 بحسب طبعة آل البيت.

(3) الوسائل: ج 5، باب 8 من الخلل الواقع في الصلاة، ح 2، ص318.

145

وجعل الشيخ الأنصاري(رحمه الله) عدم دلالة هذا الحديث على المقصود، وكونه وارداً في بيان قاعدة لزوم تحصيل اليقين بالفراغ أمراً مفروغاً عنه، وتكلّم في الصحيحة الثالثة في حملها على هذا المعنى، وأنّ هذا المعنى مستفاد من بعض الروايات، ومثّل لذلك بهذه الرواية(1). بينما السيّد الاُستاذ ادّعى ظهور هذه الرواية في الاستصحاب(2).

والكلام تارةً يقع في سند الحديث، واُخرى في دلالته:

 

سند الحديث:

أمّا سند الحديث فقد عبّروا عنه بالموثّقة، وهذا التعبير نشأ ممّا في الوسائل، حيث ذكر هذا الحديث في باب الخلل في الصلاة، ونقله عن الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمّار، وهذا اشتباه منه(قدس سره)، فإنّ الصدوق في الفقيه لم يذكره ابتداءً عن إسحاق، بل قال: روي عن إسحاق بن عمّار(3)، ومثل هذا لا يدخل في ما ذكره في مشيخته من كون الروايات التي يرويها عن إسحاق يرويها بالسند الفلاني. إذن فالرواية مرسلة لا اعتبار بها سنداً(4).

 

دلالة الحديث:

وأمّا دلالة الحديث فتوجد في الحديث ثلاثة احتمالات:

الأوّل: ما فرضه الشيخ(رحمه الله) مفروغاً عنه من إرادة قاعدة اليقين، بمعنى تحصيل اليقين بالفراغ.

الثاني: قاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه في الاُصول، أي: البناء على اليقين عند الشكّ في صحّته، أي: في تحقّق المتيقّن في نفس الزمان الذي كنّا نتيقّن بتحقّقه فيه.

الثالث: الاستصحاب.

أمّا الاحتمال الأوّل فهو خلاف الظاهر جدّاً؛ وذلك لنكتتين:


(1) الرسائل: ص 331 ـ 332 حسب الطبعة المشتملة على تعليق رحمة الله.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 64 ـ 65.

(3) الفقيه: ج 1، ح 1025.

(4) لا يبعد صحّة فهم صاحب الوسائل وأن يكون تعبير مشيخة الفقيه بقوله: (وما كان فيه عن إسحاق بن عمّار...) شاملاً بإطلاقه لذلك فيكون المقصود بما في الفقيه من قوله: (روي عن إسحاق بن عمّار) هو رواية كتاب إسحاق له.

146

1 ـ إنّه لم يفرض في الحديث كون الشكّ في ميدان الفراغ، ولم يشر إلى ذلك أيّ إشارة، مع أنّ هذا مؤونة تحتاج إلى البيان، وذكر الصدوق له في باب الخلل في الصلاة والشكّ في الركعات قد يكون بسبب كون ذلك مصداقاً من مصاديق الحديث، وليس شاهداً على أنّ الحديث كان مشتملاً على قرينة كانت تصرفه إلى مثل تلك الموارد.

2 ـ إنّه عبّر(عليه السلام) (إبنِ على اليقين) ولم يقل: حصّل اليقين، وهذا ظاهره الفراغ عن يقين ثابت يأمر ببناء عمله عليه، لا الأمر بتحصيل اليقين حتّى يحمل على لزوم تحصيل اليقين بالفراغ، والنكتة في ذلك هي: أنّ متعلّق المتعلّق المصطلح عليه في اُصول المحقّق النائيني(رحمه الله)بالموضوع يكون بحسب نظر العرف مأخوذاً مقدّر الوجود، فلو قيل: أكرم العالم كان معنى ذلك وجوب إكرام عالم فرض وجوده، وليس أمراً بإيجاد العالم ـ إن لم يكن موجوداً ـ وإكرامه. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ حيث إنّه جعل البناء متعلّقاً للأمر واليقين متعلقاً لهذا المتعلق(1)، بخلاف مالو قال: حصّل اليقين؛ فإنّه لو قال هكذا كان تحصيل اليقين بنفسه متعلّقاً للأمر.

وأمّا الاحتمال الثاني والثالث فالتحقيق: أنّه إذا دار أمر هذه العبارة بين هذين المعنيين فالثالث هو المتعيّن.

توضيحه: أن هذه الجملة ـ كما عرفت ـ تستبطن فرض يقين مفروغاً عنه يُبنى عليه العمل، وهذا اليقين المستبطن في الكلام هل هو مستبطن في جانب الشرط، أي قوله: «إذا شككت»، أو في جانب الجزاء، أيّ: قوله: «فابنِ على اليقين»؟ الظاهر عرفاً هو الأوّل دون الثاني؛ وذلك لأنّ الجزاء في نظر العرف لا يحلّل بنفسه إلى قضية شرطيّة تجعل هي جزاء للشرط الأوّل، بأن يصبح معنى الكلام في المقام هكذا: (إذا شككت فابنِ على اليقين إن كان لك يقين) وإنّما المفهوم عرفاً أنّ كل شرائط هذا الجزاء فرغ عنها في جانب الشرط، ثمّ رتّب على ذلك الجزاء. وعليه، فاليقين في المقام مستبطن في جانب الشرط، فيصبح معنى الكلام:


(1) لا يخفى أنّ مجرّد جعل الشيء متعلّقاً للمتعلّق ليس دليلاً على كونه موضوعاً بالمعنى المصطلح للمحقّق النائيني(رحمه الله)، أو قل: على كونه مقدّر الوجود، فقد يُجعل متعلّق للمتعلّق بداعي تحصيص المتعلّق، فلو قال مثلاً: أكرم العالم بالخُبز نرى أنّه يفهم عرفاً أنّ العالم موضوع، وأنّه لا يجب إيجاده إن لم يكن موجوداً، ولكن الخُبز الذي هو ـ أيضاً ـ متعلّق للمتعلق ليس إلاّ محصّصاً للإكرام، ويجب عليه طبخ الخبز وصنعه إن لم يكن مطبوخاً ومصنوعاً. ولو قال: صلِّ على إحدى الموادّ الفلانية (أي التي يصحّ السجود عليها) ولم يكن يمتلك شيئاً منها، ولكن كان بإمكانه إيجاد بعضها، وجب عليه إيجاده لكي تصحّ صلاته، ويبدو أنّ المسألة دائرة مدار المناسبات العرفيّة، أو المناسبات الشرعية والمتشرعية المؤثّرة في ظواهر الألفاظ.

147

(إذا شككت وكان لك يقين فابنِ على اليقين). وعليه نقول: إنّه إذا اُريد باليقين المفروض وجوده في المقام اليقين الذي نحتاجه في الاستصحاب وهو اليقين بالحالة السابقة، فحذف اليقين في المقام طبيعيّ؛ وذلك باعتبار الملازمة الغالبيّة بين الشكّ واليقين عادةً؛ إذ ما من شكّ إلاّ ويوجد معه يقين بحالة سابقة لا أقلّ من العدم الذي هو الأصل في الأشياء، إلاّ في الاُمور الذاتية، فيقال: إنّ المتكلّم اعتمد في مقام بيان الشيء هنا على ذكر لازمه العادي، واقتصر على غالبيّة الملازمة، ولم يصرّح بثبوت اليقين. وأمّا إذا اُريد باليقين اليقين الذي نحتاجه في قاعدة اليقين وهو اليقين بنفس ما شكّ فيه بعد ذلك، فهذا قلّ ما يتّفق للإنسان في شكوكه، فإنّ الشكّ ـ بحسب الغالب ـ ليس مسبوقاً بيقين زال بنحو الشكّ الساري، فهذا اليقين لا بدّ من ذكره، وليس ممّا يعتمد في بيانه على الملازمة الواضحة، وعليه فالمعنى الثاني يحتاج إلى مؤونة زائدة بخلاف الثالث.

فالإنصاف تماميّة هذه الرواية دلالةً، بل هي أحسن من الروايات السابقة من ناحية تصريحه(عليه السلام) بكون ذلك قاعدة عامّة، إلاّ أنّها ضعيفة سنداً كما عرفت.

هذا. ولو غضضنا النظر عمّا ذكرناه، وكانت نسبة العبارة في نفسها إلى الاستصحاب والقاعدة على حدٍّ سواء، قلنا: إنّ ارتكازيّة الاستصحاب دون القاعدة تصرف العبارة إليه خصوصاً مع فقهائية الاستصحاب، أي: كونه مذكوراً ومطرحاً للبحث عند الفقهاء والاُصوليين منذ وجد الاُصول، بخلاف قاعدة اليقين التي هي فكرة مستحدثة عندهم.

وممّا يؤيد ظهور الرواية في الاستصحاب أنّ الراوي فهم بحسب اعتقاده المقصود، ولم يتردّد فيه، فانتقل إلى السؤال عن أنّ هذا أصل كلّي أو لا، ومن الواضح أنّ العبارة لو لم تكن ـ بالرغم من كلّ ما عرفت ـ ظاهرة في الاستصحاب فلا أقلّ من عدم ظهورها في قاعدة اليقين، ومن البعيد جدّاً أن ينتقل ذهن الراوي إذا كان سوّياً في تفكيره ـ بالرغم من ارتكازيّة الاستصحاب وفقهائيّته وكونه معترفاً به ولو في الجملة لثبوته في باب الطهارة الحدثية والخبثية على الأقلّ بناءً على المناقشة في التعدّي من مورد الصحيحتين الاُوليين، وغالبيّة ملازمة اليقين الاستصحابي مع الشكّ بخلاف اليقين في القاعدة ـ إلى قاعدة اليقين.

بقي هنا شيء: وهو أنّه لو فرض كون ذكر الصدوق لهذا الحديث في باب الخلل والشكّ في الركعات قرينة على أنّ الحديث كانت فيه قرينة تدلّ على وروده في باب الركعات، جاء هنا إشكال صيرورة ذلك موافقاً للتقيّة، وعند ئذ نقول: إن صحّ حمل الحديث على الاستصحاب بنحو لا يستلزم موافقة العامّة فبها ونعمت، وإلاّ حمل التطبيق على التقيّة،

148

وأخذنا بأصل الكبرى لما مضى عن المحقّق العراقي(رحمه الله) في الصحيحة الثالثة من أنّه إذا دار الأمر بين كون الكبرى تقيّة أو التطبيق تقيّة بقيت الكبرى على حجّيّتها، ولا يرد هنا ما مضى في الصحيحة الثالثة من إشكال ثبوت القرينة على مخالفة التقيّة.

ثمّ إنّه وقع في سند الحديث في لسان الأصحاب اشتباه آخر إضافة إلى تخيّل كونه موثّقة، وهو أنّه نسب إلى عمّار لا إلى إسحاق بن عمّار، مع أنّ عمّاراً ليس له خبر من هذا القبيل، وإنّما هذا الخبر لإسحاق بن عمّار وهو ابن عمّار آخر غير عمّار الذي يتخيّل كونه صاحب هذه الرواية، وكأن منشأ الاشتباه كان هو الشيخ الأعظم(قدس سره) الذي عبّر في رسائله عن هذا الحديث بموثّقة عمّار، والحديث بالنحو الموجود في الوسائل باب 8 من أبواب الخلل هكذا: وبإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبوالحسن الأوّل: إذا شككت فابنِ على اليقين، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم.

وقد وقع هذا الحديث في بعض نسخ الوسائل في وسط حديث عن عمّار، واُشير إلى الاشتباه في الحاشية، وذاك الحديث هو قوله: «محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنه قال له: ياعمّار اجمع لك السهو كلّه في كلمتين ... إلخ». فوقع بعد قوله: (في كلمتين) متن حديث إسحاق بن عمّار، فلعلّ نسخة الشيخ الأعظم(قدس سره) كانت من هذا القبيل، فاوقعته في الاشتباه.

 

الرواية الخامسة:

رواية الخصال في حديث الأربعمائه عن محمّد بن مسلم وأبي بصير، عن الصادق(عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام):«من كان على يقين فشكّ فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين(1)». وسندها ضعيف بالقاسم بن يحيى.

 

دلالة الرواية:

وأمّا الدلالة فقد أبرزوا لهذه الرواية ثلاثة ظهورات تختلف في كونها في صالح إرادة قاعدة اليقين، أو في صالح إرادة الاستصحاب. فلنتكلم أوّلاً في تلك الظهورات واحداً بعد واحد، ثمّ نرى أنّه هل يوجد ظهور آخر أو لا؟ وأنّه ما هو المتحصّل من مجموع الظهورات؟ فنقول:


(1) الوسائل: ج 1، باب 1 من نواقض الوضوء، ح 6، ص 247 بحسب طبعة آل البيت. وفيه: ثمّ شكّ.

149

الظهور الأوّل: ظهور الرواية في كون زمان اليقين قبل زمان الشكّ، حيث قال: «من كان على يقين فشكّ»، وهذا الظهور استخدمه الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) وغيره في صالح قاعدة اليقين، باعتبار أنّ هذه الخاصّيّة توجد في تلك القاعدة.

وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه تارةً تحمل العبارة على كون ولادة الشكّ بعد اليقين، أي: بعد ولادته فلا ينافي تعاصره مع اليقين بأن يستمرّ اليقين إلى زمان الشكّ، واُخرى تحمل على كون ولادة الشكّ بعد اليقين، أي: بعد انتهاء أمده وموته. فعلى الثاني لا بدّ من حمل الحديث على قاعدة اليقين لتعاصر الشكّ مع اليقين في الاستصحاب دائماً. وأمّا على الأوّل فتنسجم العبارة مع كثير من موارد الاستصحاب أيضاً؛ لأنّه كثيراً ما يكون الشكّ في باب الاستصحاب متولّداً بعد اليقين، فلا بدّ لتتميم استظهار كون الحديث في قاعدة اليقين من ضمّ أحد أمرين:

الأوّل: أن يدّعى القطع من الخارج بعدم الفرق في باب الاستصحاب بين كون ولادة الشكّ بعد اليقين أو قبله أو معه، فيقال: إنّ أخذ البعديّة في الحديث قرينة على عدم إرادته للاستصحاب، وإرادته لقاعدة اليقين.

الثاني: أن يقصد النقض على من يرى الاستصحاب حجّة مطلقاً، أي: حتّى مع تقدّم الشكّ على اليقين أو تقارنه معه، فيقال: إنّه لو دار الأمر بين إرادة الاستصحاب بهذا الوجه وقاعدة اليقين تعيّنت قاعدة اليقين.

وقد يجاب على هذا الظهور المدّعى في المقام بأمور:

الأمر الأوّل: هو إنّ هذا التعبير جار مجرى الغالب من قبيل (وربائبكم اللاتي في حجوركم) حيث إنّ اليقين في الاستصحاب غالباً مقدّم على الشكّ.

وهذا الجواب إنّما يتمّ بناءً على استفادة تأخّر الشكّ من ولادة اليقين من الرواية. وأمّا بناءً على استفادة كون الشكّ حادثاً بعد موت اليقين فلا يأتي هذا الجواب، باعتبار أنّه في موارد الاستصحاب لا بدّ من اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد.

الأمر الثاني: ما في تقرير المحقّق العراقي(قدس سره)(2) من أنّ الترتّب في المقام لعلّه لم يقصد به الترتّب الزماني، بل قصد به الترتّب الرتبي من قبيل: حرّكت يدي فتحرّك المفتاح.


(1) راجع الرسائل: ص 333 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 63 ـ 64.

150

وفيه: أنّه إن اُريد فرض الترتّب الرتبي بين اليقين والشكّ فمن الواضح أنّهما حالتان نفسيّتان في عرض واحد، ولا ترتّب بينهما، وإن اُريد حمل الفاء في قوله: (فليمض على يقينه) على الترتّب الرتبي، أي: أنّ الحكم بالمضيّ متأخّر رتبةً عن اليقين، فمن الواضح أنّ الإشكال لم يكن هنا، وإنّما الإشكال في أنّه يستفاد من قوله: (من كان على يقين فشكّ) تأخّر الشكّ عن اليقين.

الأمر الثالث: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)(1) من أنّ اليقين والشكّ بما لهما من المرآتيّة والفناء في متعلّقيهما يكتسبان صفة متعلّقيهما، وبهذا الاعتبار نسب إليهما ما لمتعلّقيهما من تقدّم وتأخرّ.

وفيه: أنّ فناء العنوان في المعنون إنّما يكون بمعنى اتّحادهما بالحمل الأوّلي وإن اختلفا بالحمل الشائع، فحينما يحكم على النار بالحرارة يحكم في الحقيقة على الصورة الذهنية بها باعتبار فنائها في النار الخارجية، بمعنى كونها بالحمل الأوّلي ناراً وإن كانت بالحمل الشائع صورة ذهنية للنار، لا ناراً خارجية. وهذا المطلب صادق في باب اليقين والعلم ونحوه بالنسبة للمصاديق، فمن يعلم بمجيء زيد مثلاً صحّ القول بالنسبة لهذا المصداق من العلم أنّ صورته العلمية بالحمل الأوّلي هي مجيء زيد وإن كانت بالحمل الثانوي صورة ذهنية، ولا يصدق ذلك بالنسبة للمفاهيم، فمفهوم اليقين أو الشكّ الموجود في كلام الإمام(عليه السلام) لا يكون فانياً في المتيقّن أو المشكوك لعدم اتّحادهما معهما بالحمل الأوّلي.

وإذا فرض أنّ مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو أنّ اليقين والشك في كلامه(عليه السلام) لمّا كانا مفهومين للمصداق الفاني في معنونه ومرآتين له صحّ أن ينسب إليهما عرفاً ما للمتيقّن والمشكوك، قلنا: إنّ هذا ـ أيضاً ـ غير صحيح؛ فإنّ الإنسان العرفي لو تيقّن في يوم السبت بعدالة زيد في يوم الجمعة وشكّ مقارناً ليقينه في عدالته يوم السبت لا يقول: كان لي يقين فشككت، ولو قيل له:(كان لك يقين فشككت) يقول: لا، بل حصل لي الآن اليقين والشكّ(2).

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 296 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) توضيح الكلام في مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) وجوابه:

إنّ مقالة المحقّق الخراساني(رحمه الله) قد تبقى على ظاهرها البسيط، وهو أنّ اليقين مرآة الى المتيقّن، باعتبار أنّ صاحب اليقين يرى به المتيقّن، إذن فيكتسب لون المتيقّن.

151

الأمر الرابع: أنّنا حتّى لو أخذنا بأشدّ وجهي الإشكال يكون بإمكاننا دفعه.

توضيح ذلك: انّ الإشكال الذي بعّد الرواية عن الاستصحاب كان يمكن بيانه بأحد وجهين:

1 ـ استظهار كون الشكّ بعد ولادة اليقين، وهذا لا يكون في تمام موارد الاستصحاب، ولكنّه يكون في تمام موارد قاعدة اليقين.

2 ـ استظهار كون الشكّ بعد وفاة اليقين، وهذا لا يكون في شيء من موارد الاستصحاب، ويكون في موارد قاعدة اليقين، ولعلّ كون الشكّ بعد وفاة اليقين هو الأظهر من الرواية، لا لأنّه مهما فرض في العبارة الترتيب بين شيئين كان ظاهراً في كون الثاني بعد فوت الأوّل؛ بل لأنّه مهما فرض الترتيب بين شيئين هما متضادّان بحسب النظر العرفي كاليقين والشكّ كان ظاهر ذلك كون الثاني بعد موت الأوّل.

ولكن بالإمكان دفع الإشكال في المقام حتّى على تقريبه الثاني، وذلك بأن يقال: إنّ هذا الظهور لا يعيّن كون المراد بهذا الحديث قاعدة اليقين، بل ينسجم ـ أيضاً ـ مع كون المراد به الاستصحاب مع إعمال شيء يتعارف إعماله، وهو غضّ النظر عن خصوصية الزمان في المتيقّن والمشكوك، فيحسب حساب اليقين والشكّ بالنسبة لذات المتيقّن والمشكوك، وبهذا


وهذا جوابه: أنّ صفة المرآتية إنّما توجد في واقع اليقين الذي هو في نفس صاحبه لا في مفهوم اليقين الذي جاء في كلام الإمام(عليه السلام).

وقد تعمّق بإبراز نكتة لولاها لما تمّت هذه المرآتية، وهي مؤلّفة من مقدّمتين:

الاُولى: أنّ اليقين عين المتيقّن بالذات، كما أنّ الحبّ عين المحبوب بالذات، والبغض عين المبغوض بالذات.

والثانية: أنّ المتيقّن بالذات فان في المتيقّن بالعرض، باعتباره يرُى بمنظار الحمل الّاولي عينه كما هو الحال ـ أيضاً ـ في المحبوب بالذات والمحبوب بالعرض، أو المبغوض بالذات والمبغوض بالعرض.

وبالإمكان أن تفرض نفس هذه النكتة سبباً لاكتساب اليقين لون المتيقّن.

فإن فرض كذلك كان الجواب: أنّ المقدّمة الاُولى إنّما تصدق في واقع اليقين الذي هو في نفس صاحبه، لا في مفهوم اليقين الذي جاء في كلام الإمام(عليه السلام).

وقد يفرض أنّ مقصود المحقّق الخراساني(رحمه الله) هو: أنّ مفهوم اليقين فان في واقعه فناءَ العنوان في المعنون، وواقع اليقين مرآة للمتيقّن أو أنّه عين المتيقّن بالذات الفاني في المتيقّن بالعرض، إذن فمفهوم اليقين يكتسب بهذه الواسطة لون المتيقّن.

وهذا جوابه: أنّنا نرى أنّ الإنسان العرفي لو تيقّن اليوم بعدالة زيد في يوم سابق، وشكّ مقارناً ليقينه أو قبل يقينه في عدالته في هذا اليوم لا يقول: كان لي يقين فشككت.

وهذا الجواب يبطل رأساً كلّ هذه التقريبات الثلاثة.

152

النظر يقال عرفاً: إنّه قد مات اليقين؛ ولذا نرى أنّ شخصاً علم بعدالة زيد ثمّ احتمل زوالها يقول ـ بلا أن يُحَسّ بأيّ مؤونة ـ: كنتُ على يقين من عدالة زيد والآن قد زال يقيني. وإلغاء خصوصيّة الزمان وتجريد المتيقّن والمشكوك عنه هو أحد الوجوه التي يصحّح بها صدق النقض في روايات الاستصحاب، حيث يقال: كيف فرض العمل بالشكّ نقضاً لليقين مع أنّ اليقين بحسب الواقع تعلّق بشيء وهو الحدوث، والشكّ تعلّق بشيء آخر وهو البقاء؟ فيجاب على ذلك بوجوه، منها: أنّه قد غضّ النظر عن الزمان وخصوصية الحدوث والبقاء، ولوحظ اليقين والشكّ متعلّقين بذات الطبيعة.

نعم، بناءً على هذا الذي ذكرناه يبقى إشكال: أنّ هذا لا ينطبق على تمام موارد الاستصحاب، ويختصّ بما إذا كان الشكّ بعد اليقين لا قبله، أو معاصراً له، بل هذا الإشكال يجري في كلّ روايات الاستصحاب لو فسّرنا إسناد النقض بهذا التفسير، أي: بتفسير غضّ النظر عن زمان المتيقّن والمشكوك، فإنّه عندئذ يقال ـ لدى كون الشك معاصراً لليقين او متقدماً عليه ـ: إنّه لو لم يجرّد المتعلّق عن الزمان لم يصدق النقض، فلا تشمله الروايات، ولو جرّد عنه لم يكن اليقين بهذا النظر التجريدي موجوداً في وقت من الأوقات أصلاً؛ إذ مع الشكّ لا يقين بهذا النظر حسب الفرض، وقبله لم يكن متيقّناً بشيء، وعندئذ لا بدّ من دفع هذا الإشكال بمسألة التعميم بالارتكاز العرفي.

إن قلت: كيف يعمّم بالارتكاز العرفي مع أنّ احتمال دخل صدق النقض في جريان الاستصحاب موجود، ولا يصدق النقض إذا كان الشكّ قبل اليقين أو معه؛ لما بُيّن من أنّه مع التجريد لا يوجد يقين، وبدون التجريد لا يوجد نقض.

قلت: إنّ ما ذكر من أنّه لا بدّ من التجريد حتّى يصدق النقض إنّما هو بيان لنكتة مربوطة بعالم العبارة والتعبير، فيقال: إنّ التعبير بالنقض لا يستلطف عرفاً مثلاً إلاّ إذا فرض التجريد عن الزمان، حتّى يُرى تعلّق الشكّ بعين ما تعلّق به اليقين، وذلك لا يفيد إلاّ إذا كان الشكّ بعد اليقين. وأمّا حاقّ المطلب وواقعه الذي باعتباره يدّعى ارتكاز التعميم، فلا فرق فيه في نظر العرف بين فرض الشكّ بعد اليقين أو وجوده من قبل أو معاصراً معه.

الظهور الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ(2) من أنّ قوله: «فليمضِ


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 372. وفوائد الاُصول: ج 4، ص 365 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 66.

153

على يقينه» ظاهر في كون اليقين معاصراً لزمان وجوب المضيّ، وثابتاً فيه، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب، فهذا الظهور في صالح الاستصحاب.

ومن العجيب ما ذكره المحقّق النائيني(قدس سره)(1) والسيّد الاُستاذ(2) في مقام تقريب هذا الظهور من أنّ العناوين الاشتقاقية وقع الخلاف في صدقها عند انقضاء المبدأ وعدمه، فيقال: إنّ الصحيح عدم صدقها إلاّ بنحو من المسامحة والمجاز. وأمّا المصدر فمن الواضح بشاعة استعماله مع الانقضاء، فكيف يمكن فرض إطلاق اليقين في قوله:«فليمضِ على يقينه» مع فرض انقضاء المبدأ كما هو الحال في قاعدة اليقين؟!

أقول: إنّ من يحمل هذه الرواية على قاعدة اليقين لا يقصد بذلك أنّه استعمل اليقين في حالة كانت متّصفة باليقينيّة وقد زالت عنها هذه الصفة، ولا توجد عندنا حالة من هذا القبيل أصلاً، ولا ينظر من يحمل الرواية على القاعدة إلى ذلك أبداً، وإنّما مقصوده هو أنّ اليقين اُطلق على تلك الحالة السابقة التي انتهت وزالت، واُوجب المضيّ على تلك الحالة التي اسمها اليقين.

نعم، يمكن تقريب هذا الظهور بدعوى: أنّ الكلام المشتمل على حكم وموضوع كقوله: (أكرم العالم) ظاهر في تعاصر زمان العمل بالحكم مع الموضوع، فقوله:«فليمضِ على يقينه» ظاهر في تعاصر زمان المضيّ مع اليقين.

ويرد عليه: أنّه إن قصد لزوم تعاصر زمان الحكم مع زمان اتّصاف ذات الموضوع بعنوانه بنحو مفاد كان الناقصة، فهذا مسلّم، وهو ثابت في المقام، فإنّ تلك الحالة السابقة متّصفة حتّى الآن بكونها يقيناً بنحو مفاد كان الناقصة. وإن قصد لزوم تعاصر زمان الحكم لزمان وجود الموضوع بنحو مفاد كان التامّة، فهذا الظهور غيرمقبول. نعم، قد لا يتعقّل تحقّق متعلّق الحكم إلاّ مع وجود الموضوع كما في (إكرام العالم)، فلا بدّ من التعاصر لا محالة. وأمّا حينما لا يكون هكذا كما في المقام الذي يتصوّر المضيّ على اليقين حتّى بعد موت اليقين، فليس من اللازم ثبوت هذا التعاصر.

الظهور الثالث: ظهور الرواية في وحدة متعلق اليقين والشكّ. والوحدة من تمام الجهات حتّى جهة الزمان إنّما تكون في قاعدة اليقين دون الاستصحاب، فيجعل هذا في صالح قاعدة اليقين.


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 372.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 66.

154

ويرد عليه: أنّ هذه الوحدة لو كانت مستفادة من التصريح، كأن يقول: (من تيقّن وشكّ في شيء واحد) مثلاً، فلعلّه أمكن استظهار الوحدة من جميع الجهات حتّى من جهة الزمان، ولكن ليس الأمر هكذا، وإنّما فهمت الوحدة في المقام بقرينة حذف المتعلّق، وتلك القرينة نسبتها إلى الوحدة من جميع الجهات والوحدة من غير جهة الزمان على حدٍّ سواء.

ومن هنا قد يعكس المطلب ويقال: إنّ قيد وحدة الزمان ننفيه بالإطلاق، ويكون ذلك في صالح الاستصحاب.

لا يقال: لا بدّ من قيد وحدة الزمان أو تعدده، وهما متباينان، فلا معنى للإطلاق(1).

فإنّه يقال: يمكن فرض عدم لحاظ شيء من القيدين، وذلك بعدم لحاظ الزمان رأساً على ما مضى من أنّه في باب اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء قد يُلغي العرف خصوصيّة الزمان، ويلحظ تعلّق اليقين والشكّ بذات الطبيعة فقط.

ويرد عليه: أنّ الإطلاق إنّما يجري في مورد تحدّد مقدار المدلول في عالم الإثبات في المرتبة السابقة على الإطلاق، فينفى بالإطلاق مقدار آخر من قيد يحتمل تحقّقه في عالم الثبوت، وذلك بأصالة تطابق عالم الثبوت وعالم الإثبات. وأمّا في المقام فمقدار المدلول في عالم الإثبات في المرتبة السابقة على الإطلاق غير معلوم؛ لما مضى من أنّ نسبة قرينة الحذف إلى الوحدة من جميع الجهات والوحدة من غير جهة الزمان على حدٍّ سواء.

ومن هنا قد يقال بالإجمال، كما اختاره المحقّق العراقي(قدس سره)(2)؛ لأنّه لا يدرى هل قصدت الوحدة من جميع الجهات حتى الزمان، أو من سائر الجهات غير الزمان، فتردّد الحديث بين قاعدة اليقين والاستصحاب.

ورفع الإجمال يكون بإبراز ظهور رابع في المقام، وهو ظهور كلمة اليقين والشك في اتّحادهما زماناً مع متعلّقهما، فمن قال مثلا: (أنا على يقين من عدالة زيد) يفهم منه أنّه على يقين من عدالته في الزمان الحاضر، ومن قال: (كنت في يوم الجمعة على يقين من عدالة زيد) لا يُسأل عن أنّه هل كنت على يقين من عدالته في نفس ذلك اليوم أو من عدالته في يوم آخر، وبما أنّ الحديث يظهر منه تقدّم اليقين على الشكّ فيظهر منه ـ لا محالة ـ تقدّم المتيقّن على المشكوك، وهذا لا يكون إلاّ في الاستصحاب.


(1) قد يقال: إنّ بالإمكان إلغاء كلا القيدين وفرض الرواية دالّة على الاستصحاب والقاعدة معاً.

(2) راجع المقالات: ج 2، ص 353 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي. ولكنّه اختار في نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 65 ظهور الرواية في الاستصحاب.

155

يبقى إشكال: أنّ هذا لا يشمل فرض كون الشكّ معاصراً لليقين أو قبله. ويجاب عنه بما مضى من مسألة الارتكاز المعمِّم في المقام.

 

الرواية السادسة:

مكاتبة عليّ بن محمد القاساني، قال:«كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب(عليه السلام): اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وافطر للرؤية»(1).

وقد عدّها الشيخ الأعظم(قدس سره) أظهر من الروايات السابقة(2) في الاستصحاب. ولعلّه لأجل عدم تطرّق احتمال عهديّة اللام كما كان يتطرّق في جملة من الروايات السابقة. فتدلّ الرواية بشكل عامّ على أنّ اليقين لا يرفع اليد عن أثره بالشكّ، وهو الاستصحاب.

وقد نوقش في الاستدلال بهذه الرواية بإبداء احتمالين مخالفين لفرض إرادة الاستصحاب.

الاحتمال الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)(3) من دعوى أنّ المراد باليقين هو اليقين بشهر رمضان، وبالشكّ هو الشكّ فيه، وقد اُريد باليقين والشك المتيقّن والمشكوك في المقام. والمعنى: أنّ اليوم المشكوك كونه من شهر رمضان لا تدخله في شهر رمضان، ولا تجعله إلى صفّ الأيّام المتيقّن كونها من شهر رمضان، فمفادها مفاد روايات باب صوم يوم الشكّ الدالّة على اعتبار اليقين بدخول شهر رمضان في نيّة صومه. ولو حمل اليقين والشكّ في المقام على المعنى الاستصحابي للزم أن يكون الدخول في الرواية بمعنى النقض، وهذا بحاجة إلى عناية.

أقول: إنّه وإن وجدت روايات مفادها ذلك، لكن حمل هذه الرواية على ذلك بالتقريب الذي عرفت خلاف الظاهر. والدخول ـ على أيّ حال ـ لم يستعمل في معناه الأصلي حتّى لو أخذنا بتفسير المحقّق النائيني(رحمه الله)؛ فإنّ دخول يوم الشكّ في شهر رمضان ليس من قبيل دخول شخص في الغرفة، فلا بدّ من معنىً مسامحي، وليس ما يذكره المحقق النائيني(رحمه الله)أولى


(1) الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، ح 13، ص 255 ـ 256 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الرسائل: ص 334 بحسب طبعة رحمة الله.

(3) أجود التقريرات: ج 2، ص 373. وراجع ـ أيضاً ـ الفوائد: ج 4، ص336 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

156

من حمل الدخول على معنى النقض والإفساد، ويكون التقريب الذي ذكره(رحمه الله)خلاف الظاهر من وجوه:

أوّلاً: أنّ حمل اليقين والشكّ على اليقين والشكّ بشهر رمضان من دون أيّ ذكر سابق في كلام الإمام(عليه السلام)، ولا في كلام السائل لليقين بشهر رمضان خلاف الظاهر جدّاً، بل مقتضى طبيعة الكلام كون المقصود جنس اليقين والشكّ.

وثانياً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّ حمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك خلاف الظاهر؛ فإنّ مقتضى طبيعة الكلام أن يراد باليقين نفس اليقين، وبالشك نفس الشكّ(1).

وثالثاً: ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّه بناءً على هذا لا يمكن أخذ قوله: «وافطر للرؤية» تفريعاً على قوله: «اليقين لا يدخل الشك»؛ إذ الذي يتفرّع عليه هو أن لا يصام يوم الشكّ في آخر شهر رمضان بنيّة شهر رمضان، للزوم إدخال المشكوك في شهر رمضان المتيقّن، مع أنّ ظاهر الحديث كونه تفريعاً عليه(2).

الاحتمال الثاني: ما ذكره المحققّ الخراساني(رحمه الله) من أنّ ملاحظة روايات الباب(3) تشرف الفقيه على القطع بإرادة معنىً آخر، بيانه: أنّ اليقين بدخول شهر رمضان موضوع لوجوب الصوم، واليقين بدخول العيد موضوع لوجوب الإفطار كما ورد من قوله: «إيّاك والشكّ والظنّ» وقوله: «ليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية» وما إلى ذلك، فيقصد في المقام أنّه لا تدخل الشكّ في اليقين، أي: لا تلحقه به في الحكم، فإنّ الحكم بوجوب الصوم أو الإفطار يترتّب على اليقين بالهلال لا الشكّ(4).

وهذا لا يرد عليه الإشكال الثاني الذي مضى على الاحتمال الأوّل؛ لأنّه لم يحمل اليقين والشكّ على المتيقّن والمشكوك، ولا الثالث؛ لأنّه يقول: إنّ موضوع وجوب الصوم هو اليقين بهلال شهر رمضان، وهذا ثابت إلى اليوم الأخير، وموضوع وجوب الإفطار هو اليقين بهلال العيد، فلا يرد عليه عدم تمامية تفريع قوله: «وافطر للرؤية» بل التفريع على هذا المعنى يكون أنسب منه على الاستصحاب؛ إذ على الاستصحاب ليس وجوب الصوم عند الرؤية هو نتيجة الاستصحاب مباشرة، وإنّما نتيجته عدم وجوب الصوم قبل ذلك، ولازمه


(1) نقل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هذا الإشكال من اُستاذه مباشرة، وهو غير موجود في ما وصلنا من تقرير بحثه.

(2) راجع المصباح: ج 3، ص 67 ـ 68.

(3) راجع الوسائل: ج 10، باب 3 من أحكام شهر رمضان، بحسب طبعة آل البيت.

(4) راجع الكفاية: ج 2، ص 298 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكيني.

157

تحدّد الصوم بالرؤية، وكذا ليس الإفطار عند الرؤية هو ما يحكم به الاستصحاب مباشرة، وإنّما يحكم الاستصحاب بحرمة الإفطار قبل الرؤية، وهذا بخلاف ما لو أخذنا بتفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله)، فإنّ وجوب الصوم أو الإفطار متفرّع ابتداءً ـ عندئذ ـ على اليقين.

إلاّ أنّ تفسير المحقّق الخراساني(رحمه الله) خلاف الظاهر من وجوه، عمدتها وجهان:

الأوّل: هو الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها في مقام التعليق على كلام المحقّق النائيني(رحمه الله) حيث إنّه حمل(قدس سره) اليقين والشكّ على خصوص اليقين والشكّ بشهر رمضان وشوال لا جنس اليقين والشك، وهو خلاف الظاهر.

الثاني: أنّ حمل الدخول على المغايرة في الحكم ليس عرفياً، كأن يقول: الماء لا يدخله التراب، أي لا يلحقه حكم الماء في التطهير مثلاً، وهذا بخلاف حمله على النقض والإفساد؛ إذ باعتبار تضادّ اليقين والشكّ عرفاً يقال: إنّ إدخال الشكّ في اليقين إفساد له، ونقض وإخلال بتركيبه مثلاً، فيحكم تعبّداً بعدم دخول الشكّ في اليقين، أي: عدم إفساده له. وأمّا ما ذكره من إشراف الروايات للفقيه على القطع بما ذكره فغير صحيح، ولا توجد رواية واحدة تدلّ على موضوعية اليقين في المقام. وقوله: «إيّاك والظنّ والشكّ» ونحو ذلك لا يدلّ على موضوعيّة اليقين، بل يكون في مقام بيان أنّ قصد امتثال صوم شهر رمضان يجب أن يكون بنحو اليقين، فلا يصحّ الصوم بقصد صوم شهر رمضان مع الشكّ في دخول شهر رمضان.

ثمّ إنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ذكر في المقام: أنّه لا يمكن حمل الحديث على الاستصحاب؛ لكونه مثبتاً؛ لأنّ وجوب الصوم ليس مترتّباً على ثبوت شهر رمضان بنحو مفاد كان التامّة حتى ينفى باستصحاب عدمه، ولا وجوب الإفطار مترتّب على ثبوت عيد الفطر بنحو مفاد كان التامّة حتّى ينفى باستصحاب عدمه، وإنما هما مترتّبان على كون الزمان الفعلي متّصفاً بكونه شهر رمضان، أو بكونه عيداً بنحو مفاد كان الناقصة، وسلب مفاد كان الناقصة باستصحاب عدم كان التامّة تمسّك بالاستصحاب المثبت، فحمله على ما ذكره المحقّق الخراساني(1).

أقول: أوّلاً: أنّ الاستصحاب المثبت إنّما لا يكون حجّة لقصور دليل حجّيّة الاستصحاب لا لديل على عدم حجّيّته، فلو تمّ هذا الحديث، وكان الاستصحاب فيه مثبتاً التزمنا بحجّيّة الاستصحاب المثبت.

وثانياً: أنّه سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث الاستصحاب في الاُمور التدريجية بيان


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 136. ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 65 ـ 66.