249

وأمّا في الفردين الطوليّين، فالتحقيق: أنّه لا يمكن الامتثال بمجموعهما بالرغم من أنّ الطبيعة هنا أيضاً نسبتها إلى الفرد والفردين على حدّ سواء؛ وذلك لأنّه وإن لم يكن ضيق في ذات الواجب يوجب عدم الانطباق على مجموع الفردين الطوليّين، لكن هناك ضيق في الوجوب، أو قل: في الواجب بما هو واجب؛ ذلك لأنّ الوجوب يسقط قهراً بمجرّد الإتيان بالفرد الأوّل؛ لتحقّق متعلّقه خارجاً، فلا يبقى مجال لافتراض امتثال الأمر بمجموع فردين، وافتراض التخيير العقليّ بين الفرد الواحد والفردين كما كنّا نفترضه في العرضيّين.

نعم، يمكن افتراض امتثال الأمر بمجموع فردين طوليّين على أساس التخيير الشرعيّ بالنحو الذي يتصوّره صاحب الكفاية في التخيير بين الأقلّ والأكثر، بأن يخيّرنا المولى بين التسبيحة الواحدة بشرط لا وثلاث تسبيحات مثلا(1)، لكن هذا يحتاج إلى مزيد مؤونة في البيان، وصياغة خاصّة في الخطاب، ولا يثبت بمجرّد إطلاق الأمر بالتسبيح مثلا. هذا.

تبديل الامتثال بفرد آخر:

وهل يمكن تبديل الامتثال من فرد إلى فرد آخر، أو لا؟

ذهب المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) إلى أنّ نسبة الغرض إلى المتعلّق لو كانت هي نسبة المعلول إلى العلّة، لم يمكن ذلك؛ لأنّه بمجرّد الإتيان بالفرد الأوّل يحصل الغرض، وبه يسقط الأمر، فلا مجال لتبديل الامتثال، ولكن حينما تكون نسبته إلى المتعلّق نسبة المقتضى إلى المقتضي، كما لو كان المولى عطشاناً فطلب الماء فقدّم العبد له الماء، وقبل أن يشربه ويرتفع العطش فكّر العبد في تبديل الماء بالإتيان بماء آخر،



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 227 ـ 228 بحسب طبعة المشكينيّ.

250

فهنا يمكن تبديل الامتثال قبل حصول الغرض؛ لأنّ الأمر باق ببقاء الغرض الذي دعا إليه(1).

وهذا الكلام قد نوقش فيه من قبل المحقّق الإصفهانيّ والسيّد الاُستاذ وغيرهما، وقبل الدخول في نقاشه ننبّه على خروج فرضيّة من محل الكلام، وهي ما لو كان للواجب شرط متأخّر، فترك الشرط وأتى بفرد آخر، من قبيل ما لو أمره المولى بأن يأتي له بماء ويجعله في الغرفة، ويبقيه فيها إلى أن يدخل المولى الغرفة، فأتى بماء وجعله في الغرفة، ثُمّ قبل أن يأتي المولى سكب الماء وأتى بماء آخر، فمثل هذا هدم للامتثال الأوّل لا تبديل له مع اكتمال الامتثال الأوّل، ولا إشكال فيه، وهو خارج عن محلّ النزاع.

وأمّا النقاش الذي ذكروه في كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) فهو: أنّ الغرض من الأمر دائماً يتحقّق بنفس الإتيان بمتعلّقه، ولهذا أصبح داعياً للمولى إلى الأمر. وأمّا ما قد يتراءى في مثل الأمر بإحضار الماء: من أنّ الغرض لا يحصل بالامتثال؛ لأنّ العطش لا يرتفع بمجرّد إحضار الماء، فهو على أساس الخلط بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى، فإنّ الغرض الأقصى هو الارتواء، والغرض الأدنى هو التمكّن من الارتواء ورفع العطش بسهولة، وهذا الغرض الأدنى هو الغرض من أمره بإحضار الماء، وهو يحصل بمجرّد إحضار الماء(2).

والصحيح: أنّه لا يمكن المساعدة لا على كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، ولا على



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 122 و 127 ـ 128 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 220 و 227 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم، وراجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 309 ـ 310 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

251

هذا النقاش، فنحن نبني على أنّ ثبوت الأمر وسقوطه تابع لإمكانيّة التحريك وعدمه الذي يكون بتحقّق الامتثال وعدمه، وليس تابعاً لبقاء الغرض وعدمه خلافاً للمحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) ووفاقاً للمناقش، وعلى أنّ الغرض يمكن أن لا يحصل بمجرّد الإتيان بالمتعلّق خلافاً للمناقش ووفاقاً للمحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، فلنا كلامان:

الكلام الأوّل مع المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله): وهو ما مضى في مسألة التعبّديّ والتوصّليّ، حيث كان يقول (رحمه الله): إنّ الأمر التعبّديّ متعلّق بذات الفعل، لكنه لا يسقط بالإتيان بمتعلّقه بدون قصد القربة؛ لأنّه لا يحصل بذلك الغرض، وقد قلنا هناك: إنّه إذا أتى بالمتعلّق بدون قصد القربة، فهل الأمر الباقي يفترض أمراً بذات الطبيعة القابلة الانطباق على ما أتى به كما كان منذ البدء متعلّقاً بذلك، أو يفترض أمراً بالطبيعة بقيد كونها في ضمن فرد آخر؟

فإن فرض الأوّل، فهذا محال؛ لكونه طلباً للحاصل، ولا يمكن التحريك نحو متعلّق قد حصل خارجاً ببعض أفراده. وإن فرض الثاني فهو أيضاً محال؛ لأنّ هذا معناه: تبدّل متعلّق الأمر مع وحدة الأمر، ففي زمان كان متعلّقاً بالطبيعة بما هي شاملة للفرد الأوّل الذي أتى به، وبعده تعلّق بما عدا ذلك الفرد، وهو غير معقول.

والكلام الثاني مع المناقش كالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وهو: أنّ الغرض قد لا يحصل بمجرّد العمل بالأمر كما هو الحال في مثال «اسقني ماءً»؛ وذلك لأنّ الغرض الأدنى الذي هو التمكّن من الارتواء وشرب الماء بلا مؤونة إنّما هو غرض مقدّميّ، ويكون مقدّمة للغرض الأقصى وهو الارتواء، وليس غرضاً نفسيّاً، والمختار وفاقاً للسيّد الاُستاذ في الأغراض المقدّميّة هو ما سنحقّق في مبحث وجوب المقدّمة ـ إن شاء الله ـ من أنّ الغرض إنّما يتعلّق بالحصّة الموصلة، وهذا معناه: أنّ متعلّق الغرض كأنّما هو مركّب بالتحليل من التمكّن من الارتواء ومن

252

إيصال ذلك إلى الارتواء على تحقيق وتفصيل يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

إذن فالتمكّن من الارتواء يكون غرضاً ضمنيّاً لا غرضاً مستقلاًّ، والغرض الضمنيّ لا يحصل خارجاً إلّا في ضمن الغرض المستقلّ، إذن فما لم يحصل الارتواء لم يحصل الغرض.

ولا يقال: قد حصل نصف الغرض، وهو الذي أوجب الأمر، فإنّ نصف الغرض إنّما يحصل في ضمن حصول تمام الغرض، كما لا يقال: قد حصل كلّ الغرض؛ لأنّ جزءاً منه وهو التوصّل إلى الارتواء غير حاصل.

وهذا الذي ذكرناه يأتي في الغرض النفسيّ أيضاً، أي: أنّ الغرض النفسيّ أيضاً قد لا يحصل بمجرّد الإتيان بمتعلّق الأمر؛ لكونه ضمنيّاً لا يتحقّق إلّا في ضمن الغرض المستقلّ، وذلك كما لو كان الغرض النفسيّ الواحد متعلّقاً بمجموع أمرين: أحدهما خارج عن قدرة المكلّف، والآخر عمل مقدور للمكلّف، فأمر المولى بالجزء المقدور برجاء حصول الجزء غير المقدور خارجاً بحسب الصدفة، فالأمر قد تعلّق بالجزء المقدور، ولكن الإتيان به لا يساوق حصول الغرض؛ إذ الغرض كان ضمنيّاً لا يحصل إلّا في ضمن الغرض المستقلّ.

ولا يقال: كيف يكون ذلك مع أنّ الأمر يجب أن يكون مطابقاً للغرض؟ فإنّه يقال: إنّ هذا إنّما يكون فيما لو لم يكن جزءاً ممّا هو دخيل في الغرض لا يمكن الأمر به، فيأمر المولى بالجزء الآخر رجاء حصول ذلك الجزء ولو صدفة.

ما يستظهر من روايات إعادة الصلاة جماعة:

يبقى الكلام في فرع فقهيّ قد يجعل من مصاديق تبديل الامتثال، وهو ما ورد من إعادة الصلاة حينما تُرى الجماعة قائمة، فلنرَ أنّه: هل يمكن أن يستظهر من روايات هذا الفرع خلاف ما توصّلنا إليه من عدم إمكان تبديل الامتثال، أو لا؟

253

فنقول: إنّ روايات هذا الفرع يمكن تقسيمها على ثلاث طوائف:

الطائفة الاُولى: ما وردت بعنوان أصل الحكم بالإعادة لا أكثر من ذلك(1)، وفيها ما يكون تامّ السند، لكن من الواضح: أنّ هذا لا يدلّ على كون ذلك من باب تبديل الامتثال؛ إذ لعلّ هذا أمر جديد استحبابيّ(2) له امتثال جديد، ومجرّد كون هذه الصلاة الثانية أيضاً معنونة بعنوان صلاة الظهر مثلا كالاُولى لا يلزم كونها تبديلا لامتثال الأمر الأوّل.

الطائفة الثانية: ما جاء فيها جملة (يجعلها الفريضة)، وهي روايتان: إحداهما ضعيفة السند، والاُخرى تامّة السند، وهي ما رواها الصدوق بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله(عليه السلام): «أنّه قال في الرجل يصلّي الصلاة وحده، ثُمّ يجد جماعة، قال: يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء»(3).

فقد يقال: إنّ هذا يدلّ على تبديل الامتثال؛ حيث إنّه يقول: «يجعلها الفريضة إن شاء»، ومعنى جعلها الفريضة: عدّها امتثالا للأمر الوجوبيّ الذي كان.

ويمكن الجواب على ذلك بعدّة وجوه:

الأوّل: أنّه من المحتمل كون المقصود من جعلها فريضة: أنّه يصلّي فرضاً قضاءً



(1) راجع وسائل الشيعة، ج. بحسب طبعة آل البيت، ب 54 من صلاة الجماعة.

(2) وبهذا يجاب أيضاً على مسألة استحباب إعادة صلاة الكسوف قبل الانجلاء كما ورد الأمر به في صحيحة معاوية بن عمّار، راجع ج 7، ب. من صلاة الآيات، ح 1.

(3) وسائل الشيعة، ج 8، باب 54 من أبواب صلاة الجماعة، ح 1، ص 401 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

ولم أجد في الوسائل ما يكون ضعيف السند بهذا المضمون. وفي نفس الباب رواية اُخرى تامّة السند بهذا المضمون مع حذف جملة «إن شاء»، وهي الرواية 11 من الباب، ص 403 بسند صحيح عن حفص بن البختريّ.

254

من الفرائض التي فاتته(1) في مقابل التطوّع والنافلة، حيث إنّ الجماعة في صلاة التطوّع باطلة(2).

إلّا أنّ هذا خلاف الظاهر جدّاً؛ وذلك لمكان اللام في (الفريضة) الظاهرة في الإشارة إلى نفس الفرض السابق، ولمكان «إن شاء»، فإنّه لو كان المقصود ذلك، لما كان شيئاً راجعاً إلى مشيّته؛ إذ عدم الجماعة في صلاة التطوّع حكم عزيمتيّ، إلّا أن يفرض: أنّ كلمة «إن شاء» لا ترجع إلى قوله: «يجعلها الفريضة» بل ترجع إلى مجموع قوله: «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة»، فيكون معنى ذلك: إن شاء يصلّي معهم ويجعلها الفريضة، وإن لم يشأ لم يصلِّ، إلّا أنّ هذا أيضاً خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهر سياق الحديث هو المفروغيّة عن أنّه يشاء إعادة الصلاة جماعة إن كان ذلك مشروعاً، وإنّما يسأل عن مشروعيّته، وليس هناك مجال لتوهّم وجوب الصلاة مرّة ثانية حتّى يرفع هذا التوهّم بقوله: «إن شاء».

الثاني: أنّه لعلّ عنوان الفريضة اُخذ معرّفاً ومشيراً إلى ذات صلاة الظهر مثلا(3)؛ حيث إنّ صلاة الظهر فريضة في نفسها وإن صارت مستحبّة أحياناً، كما أنّ صلاة الليل مثلا تطوّع في نفسها وإن وجبت أحياناً، إذن فترجع هذه الطائفة إلى الطائفة الاُولى الذاكرة لمجرّد إعادة الصلاة.

وهذا أيضاً خلاف الظاهر جدّاً، فإنّه:

أوّلا: أنّ الحمل على المعرّفيّة الصرف يحتاج إلى قرينة، فإنّ الظاهر الأوّليّ لأخذ كلّ عنوان هو الموضوعيّة.



(1) كما هو مفاد حديث إسحاق بن عمّار، باب 55 من تلك الأبواب، ص 404.

(2) هذا أحد الأجوبة التي ذكرها الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله)، راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 230 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(3) هذا أيضاً أحد الأجوبة التي ذكرها الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله)، راجع نفس المصدر.

255

وثانياً: أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الأمر بالإعادة وبين قوله: «يجعلها الفريضة» أي: يجعلها تلك الصلاة، فإنّ الأمر بالإعادة ينسجم مع افتراض كونه أمراً جديداً له امتثال مستقلّ، ويكون الممتثل به حاملا لنفس عنوان صلاة الظهر مثلا، ويكون ذلك من قبيل أن يقول: يصلّي ويجعلها صلاة ظهر. أمّا لو قال: يصلّي ويجعلها تلك الصلاة ـ على ما هو مستفاد من اللام ـ فمن الواضح: أنّ هذا ظاهره: أنّ هناك صلاة ظهر واحدة، وقد أصبحت هي هذه لا السابقة.

وثالثاً: أنّ فرض كون المقصود مجرّد الإعادة بأن يصلّي صلاة بعنوان صلاة الظهر لا ينسجم مع ظاهر قوله: «إن شاء»؛ لأنّ ظاهر سياق الرواية هو السؤال عن إعادة صلاة الظهر بعنوان صلاة الفريضة؛ إذ هو يشاء ذلك على تقدير مشروعيّته.

الثالث: أن يقال: إنّ الرواية واردة فيمن هو مشغول بالصلاة ويجد الجماعة قبل فراغه عن الصلاة(1)، وذلك بقرينة(2) التعبير بصيغة المضارع دون الماضي، حيث قال: «في الرجل يصلّي...».

إذن، فمعنى الرواية: أنّه إذا وجد الجماعة في أثناء الصلاة، فإن شاء يقطعها أو يقلبها نافلة مثلا، ويصلّي الفريضة مع الجماعة. وإن شاء يكمل صلاته ويصلّي صلاة اُخرى قضاءً مثلا مع الجماعة.

وهذا أردأ الوجوه؛ فإنّه:



(1) هذا ما ذكره الشيخ الطوسيّ في التهذيب في ذيل صحيحة حفص بن البختريّ، أي: في ذيل الرواية 176 من الجزء الثالث من التهذيب، ص 50 بحسب طبعة الآخونديّ، والوارد في تعبير الشيخ: فليجعلها نافلة، ثمّ يصلّي في جماعة.

(2) هذه القرينة نقلها الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) في نهاية الدراية ـ ج 1، ص 229 تحت الخطّ بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم ـ عن الوحيد.

256

أوّلا: التعبير بفعل المضارع لا يشفع للحمل على وجدانه للجماعة في أثناء الصلاة بعد أن عبّر بكلمة «ثُمّ»، حيث قال: «يصلّي وحده ثُمّ يجد جماعة»، فهذا ـ كماترى ـ ظاهر في الفراغ عن الصلاة.

وثانياً: يلزم من ذلك: أنّ الإمام لم يبيّن بالمطابقة الحكم العمليّ الفعليّ لهذا الشخص بالنسبة إلى ما بيده من الصلاة، وإنّما بيّن حكماً آخر وهو الإتيان بالفريضة مع الجماعة إن شاء، فيفهم منه بالملازمة جواز قطع هذه الصلاة أو قلبها إلى النفل. وهذا خلاف المحاورة العرفيّة جدّاً، بينما لو فرض أنّ السؤال راجع إلى ما بعد تماميّة الصلاة، فالإمام(عليه السلام) قد أجاب عن الوظيفة العمليّة الفعليّة له بالمطابقة لا الالتزام.

والصحيح هو: أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الرواية هي أنّه بإمكان هذا المصلّي أن يجعل هذه الصلاة هي تلك الفريضة، ويسحب عنوان الواجب عن الفرد الأوّل ويطبّقه على الثاني، وهذا لا ينحصر وجهه في تبديل الامتثال الذي أثبتنا استحالته، بل ينسجم مع فرضيّة اُخرى أيضاً، وهي أن يقال: إنّ الواجب كان مشروطاً بشرط متأخّر، من قبيل أن لا يأتي بعد ذلك بفرد آخر أفضل مثلا بنيّة تطبيق الفريضة عليه، فإتيانه بهذا الفرد هدم للامتثال الأوّل بإعدام شرطه والإتيان بامتثال آخر، وهذا هو ما ذكرنا منذ البدء: أنّه لا إشكال فيه، وأنّه خارج عن محلّ النزاع.

فإن قلت: إنّ فرض مشروطيّة الواجب بشرط متأخّر من هذا القبيل ينفيه إطلاق المادّة في ذلك الواجب.

قلت: أوّلاً: ليس الكلام في تنجيز حكم أو التعذير عنه حتّى يتمسّك بهذا الصدد بالإطلاق، وإنّما الكلام في أنّنا قد أقمنا برهاناً عقليّاً على استحالة تبديل الامتثال، فلو فرض ورود نصّ من الإمام(عليه السلام)ظاهر فيما فرضناه محالا، كان هذا نقطة ضعف في كلامنا، فإنّه وإن كان الدليل النقليّ الظنّيّ لا يقابل الدليل العقليّ القطعيّ، وعند

257

التعارض معه يطرح أو يؤوّل، ولكن بالأخرة قد تُشكَّل بواسطة ظهور الخبر قرينةٌ ناقصةٌ على احتمال الاشتباه والخطأ في ما ادّعيناه وبرهنّا عليه، والمقصود كان دفع هذه القرينة الناقصة بأن لا تبقى قرينة عقلائيّة معتدّ بها على الخلاف، ويكفي في ذلك ما بيّنّاه: من أنّه لا ظهور لكلام الإمام(عليه السلام) في خلاف ما ادّعيناه؛ لانسجامه مع فرض الشرط المتأخّر للواجب، وأمّا مجرّد كون ذلك خلاف إطلاق المادّة في دليل الواجب، فلا يشكّل قرينة معتدّ بها توجب نقطة ضعف في كلامنا ودليلنا.

نعم، الإطلاق حجّة يؤخذ به في مقام التنجيز والتعذير، ونحن لم نكن بصدد الكلام عن تنجيز وتعذير.

وثانياً: أنّنا لا نقبل إطلاقاً للواجب في مثل «أقيموا الصلاة» ونحوه، وإنّما نستفيد الإطلاق من الصلوات البيانيّة. ومن الواضح: أنّ الصلوات البيانيّة لم تكن بصدد البيان من ناحية ما لو جاء بعد ذلك بفرد أفضل حتّى ينعقد لها إطلاق لنفي هذا الشرط المتأخّر.

الطائفة الثالثة: ما وردت بلسان «إنّ الله يختار أحبّهما»(1)، فقد يقال: إنّ هذه تدلّ على تبديل الامتثال، فإنّ معنى اختيار الأحبّ هو تعيينه في مقام أداء الوظيفة، فإذا كان الثاني هو الأحبّ والأكمل عيّن؛ لكونه هو الامتثال للوظيفة. وهذا معناه: تبديل الامتثال.



(1) الوسائل، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، باب 54 من صلاة الجماعة، ح 10، ص 403.

وفي مرسلة الصدوق: «يحسب له أفضلهما وأتمّهما»، راجع الفقيه، ج. بحسب طبعة الآخونديّ، ح 1133، وتكون هذه الرواية من هذه الطائفة إن قُرئ «أفضلهما وأتمّهما» بالرفع.

258

والجواب عن ذلك ـ بغضّ النظر عن ضعف سند هذه الطائفة ـ هو سنخ الجواب الذي ذكرناه عن الطائفة الثانية، فنقول: إنّ غاية ما يستفاد من هذه الطائفة هي اختيار الله تعالى لما هو أحبّ إليه من العملين لتطبيق الوظيفة عليه. وهذا كما ينسجم مع تبديل الامتثال كذلك ينسجم مع فرض كون الواجب مقيّداً بشرط متأخّر، وهو أن لا يأتي بعد ذلك بفرد أفضل وأحبّ إلى الله تبارك وتعالى، فيكون الإتيان بذلك هدماً للامتثال الأوّل بفقد شرطه، وإيجاداً لامتثال آخر. وهذا غير تبديل الامتثال المتنازع فيه.

ومعه لا حاجة في مقام الجواب عن هذه الطائفة إلى أن يقال: إنّه لعلّ المقصود هو اختيار الله تبارك وتعالى لأفضل الفردين في مقام الثواب، لا في الجانب الوظيفيّ(1).

وهذا الجواب خلاف الظاهر؛ فإنّه:

أوّلا: يكون ظاهر سياق الكلام وتعبيره هو الاختيار بلحاظ الجانب الوظيفيّ، لا الجانب الثوابيّ.

وثانياً؛ أنّ ظاهر قوله: «يختار أحبّهما» أنّ الأمر في الاختيار دائر بين هذين الفردين، وذلك بحيث لا يختاران معاً، وهذا إنّما يكون في الجانب الوظيفيّ. وأمّا في جانب الثواب، فيثبت كلّ من الثوابين بحدّه بحكم العقل؛ لأنّ كلاًّ منهما له محبوبيّة وانقياد خاصّ(2) به، بل نفس النصّ يشير إلى ذلك حيث يقول: «يختار



(1) هذا مذكور من قبل الشيخ الإصفهانيّ؛ في نهاية الدراية، ج 1، صفحة 229 ـ 230.

(2) وجّه الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) الأمر بأنّ الصلاة الثانية تشتمل على نفس القرب الموجود في الصلاة الاُولى وزيادة، فالمقدار الأوّل من القرب المشترك لم يحصل مرّتين،

259

أحبّهما» فكأنّ كليهما محبوب، إلّا أنّ أحدهما أحبّ.

اللّهمّ إلّا أن يراد الاختيار بلحاظ مقام الثواب، وبلحاظ ثواب مخصوص وهو ثواب الفريضة، أي: كأنّه يفرض: أنّه أتى بالفريضة في ضمن الفرد الأكمل، فيثيبه ثواب من أتى بالفريضة في ضمن الفرد الأكمل ولو كانت الفريضة واقعاً تحقّقت بالفرد الأوّل، وكان الأكمل هو الفرد الثاني، وهذا تمحّل في تمحّل؛ إذ فرض نظره إلى الثواب، ثُمّ إلى ثواب خاصّ كلّه خلاف الظاهر، ولا حاجة إليه بعد ما عرفت.



قال: ويمكن أن يقال: إنّ الصلاة الاُولى أوجبت أثراً في النفس، ثُمّ اُعقبت الصلاة الاُولى بمثل أقوى، وهي الصلاة الثانية، فانقلب الأثر إلى أثر أقوى، وبعد وجود الأثر الأقوى لا وجود للأثر الضعيف.

أقول: كلّ هذا تمحّل، فإنّ المفروض إذا تكرّر العمل أن يزيد القرب أو الأثر النفسيّ بما يساوي مجموع ما يقتضيه الناقص وما يقتضيه الكامل، لا أن يتداخل الناقص في ضمن الكامل، أي: أنّ المترقّب هو أن يكون المجموع أكمل من الكامل وحده في إيجاد القرب أو في صفاء النفس مثلا؛ لأنّ العبد عبد الله عبادة زائدة على الفرد الكامل.

261

الفور والتراخي

الجهة الثامنة: في الفور والتراخي.

الواجب يمكن ثبوتاً أن يقيّد بالفور أو بالتراخي، أو يطلق. وما اُخذ فيه الفور يمكن أن يكون على نحو وحدة المطلوب، ويمكن أن يكون على نحو تعدّد المطلوب. والثاني تارةً يتصوّر بمعنى: وجوب العمل فوراً ففوراً، وهذا يكون تصويره بأن توجد عدّة وجوبات: وجوب تعلّق بالفرد الأوّل من العمل، ووجوب آخر تعلّق بالفرد الثاني مشروطاً بترك الفرد الأوّل، ووجوب ثالث تعلّق بالفرد الثالث مشروطاً بترك الفردين الأوّلين وهكذا، فالوجوب منحلّ إلى عدّة وجوبات بعدد الأفراد الطوليّة. واُخرى يتصوّر بمعنى: وجوب العمل فوراً مع سقوط الفور إذا تركه وبقاء وجوب أصل العمل، وهذا يكون تصويره بفرض انحلال الوجوب إلى وجوبين: وجوب لأصل العمل، ووجوب للإتيان به فوراً، فإن لم يمتثل الثاني بقي الأوّل على حاله.

كلّ هذا معقول ثبوتاً، وإنّما الكلام في ما يستفاد من الدليل إثباتاً. ويقع الكلام في ذلك في عدّة اُمور:

دلالة نفس الصيغة على الفور أو التراخي:

الأمر الأوّل: في استفادة الفور أو التراخي من نفس صيغة الأمر بغضّ النظر عن دليل خارجيّ، وعدمها، فنقول: لا ينبغي الإشكال في عدم استفادة التراخي من صيغة الأمر. وأمّا الفور فالصحيح أيضاً عدم استفادته منها؛ إذ مادّة الأمر لا تدلّ إلّا

262

على الطبيعة الجامعة بين الأفراد، والهيئة لا تدلّ إلّا على الوجوب بالمعنى الحرفيّ، ولذا نرى أنّ التصريح بعدم الفور لا يوجب الإحساس بعناية، بينما لو كان الفور مستفاداً وضعاً من المادّة أو الهيئة، لكان التصريح بعدمه موجباً للإحساس بعناية المجاز.

وأحسن ما يمكن أن يقال للدلالة على الفور: إنّ الهيئة موضوعة للدفع بنحو المعنى الحرفيّ، وهو مواز عرفاً وارتكازاً للدفع التكوينيّ بخواصّه، فتنعكس خواصّ الدفع التكوينيّ على المدلول التصوّريّ لصيغة «افعل»، ومن خواصّه الفوريّة؛ فإنّ من يدفع تكويناً نحو شيء إن اندفع إليه، فقد وقع عليه فوراً، فكذلك في الدفع التشريعيّ لابدّ للمندفع وهو المطيع أن يعمل فوراً.

وبكلمة اُخرى: إنّ الاندفاع الفوريّ يكون من لوازم التحريك التكوينيّ، وهو وإن لم يكن من لوازم التحريك التشريعيّ لكن العرف يراه ـ على أساس الموازنة بين التحريكين ـ كأنّه من لوازم التحريك التشريعيّ، فتنعقد دلالة التزاميّة عرفيّة للأمر على الفور.

والجواب: أنّ الفوريّة في الدفع التكوينيّ ليست من شؤون نفس الدفع ابتداءً، وإنّما هي من شؤون جزئيّة المدفوع إليه، حيث إنّ الدفع التكوينيّ يستحيل أن يكون دفعاً نحو الكلّيّ والجامع بين الأفراد الطوليّة، ولا يمكن أن يكون إلّا دفعاً لمدفوع جزئيّ نحو مدفوع إليه جزئيّ حاضر، فلا محالة ينتج الفور باعتبار أنّ المدفوع إليه هو الجزئيّ الحاضر. وأمّا الدفع التشريعيّ فيمكن تعلّقه بالكلّيّ الجامع بين الأفراد الطوليّة كما هو مقتضى إطلاق المادّة، وإذا تعلّق بذلك لم يبقَ مبرّر لاستفادة الفوريّة.

وبكلمة اُخرى: إنّ الدفع تكويناً أو تشريعاً نحو شيء يقتضي الاندفاع تكويناً أو تشريعاً نحو ذلك الشيء، فإذا كان ذلك الشيء جزئيّاً خارجيّاً

263

مقارناً زمناً لوقت الدفع، تحقّقت الفوريّة، وإذا كان كلّيّاً جامعاً بين الأفراد الطوليّة، لم تثبت الفوريّة، وحيث إنّ الدفع التكوينيّ دائماً من القسم الأوّل، فلهذا يكون دائماً موجباً للاندفاع الفوريّ، وحيث إنّ الدفع التشريعيّ قد يكون من القسم الثاني بمقتضى إطلاق المادّة، فحينما يكون كذلك لا يقتضي الفوريّة(1).

إمكان استفادة الفور من دلالة عامّة:

الأمر الثاني: في أنّه: هل توجد دلالة عامّة خارج حدود الخطاب بالأمر تقتضي الفور في الأوامر، إلّا ما خرج بالدليل، أو لا؟

قد يستدلّ بهذا الصدد على وجوب الفور بآية المسارعة إلى المغفرة(2) في سورة آل عمران، وآية الاستباق إلى الخيرات(3) في سورة البقرة، حيث إنّ العمل بأوامر المولى سبب للمغفرة، فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات، ولا شكّ



(1) وبكلمة ثالثة: لو قصد بالتقريب الماضي دلالة الأمر بالمطابقة على الفور، فصيغة الأمر لا تدلّ إلّا على الدفع والإرسال، وحاقّ الدفع والإرسال عار عن الفور. ولو قصد به دلالته بالالتزام، فالفور من لوازم الدفع التكوينيّ أو الدفع إلى الجزئيّ الخارجيّ المقارن زمناً لوقت الدفع، والدفع التشريعيّ إلى الجامع بين الأفراد الطوليّة ليس كذلك.

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 133، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 148، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وكذلك السورة 15، المائدة، الآية: 48.

وقد ورد في سورة 57، الحديد، الآية: 21: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالاَْرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).

264

في صدق عنوان الخيرات على العمل بأوامر المولى.

وقد يناقش في ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ هذه الآيات لابدّ من حملها على الإرشاد، من قبيل الأمر بإطاعة الله والرسول وإن كان مقتضى الطبع الأوّليّ لأمر المولى حمله على الأمر المولويّ الإلزاميّ؛ وذلك لاستقلال العقل بحسن المسارعة إلى المغفرة والخيرات كاستقلال العقل بوجوب الإطاعة.

ويرد عليه:

أوّلا: منع استقلال العقل بحسن المسارعة بعنوانها عند كون نسبة رغبة المولى إلى كلّ الأفراد الطوليّة على حدّ سواء.

نعم، قد ينطبق عليه عنوان ثانويّ حسن كالاحتياط والتحفّظ عن الفوت؛ حيث إنّ في التأخير آفات، فيحتمل الموت أو عروض أيّ مانع آخر. أمّا نفس عنوان المسارعة فلا يحكم العقل بحسنها، فلا بأس بالأمر بها مولويّاً.

وثانياً: أنّ هذا الحسن لو سلّم، لم يكن بمرتبة الوجوب، فلا بأس بالأمر المولويّ الإلزاميّ به، كما هو ظاهر الخطاب في نفسه بحسب الفرض.

وثالثاً: أنّه لو فرض كون حكم العقل وأمر الشرع متماثلين في الإلزام وعدمه، كما لو حملنا الأمر في المقام على الاستحباب، فأيضاً يقال: إنّ حكم العقل بحسن المسارعة لا يمنع عن أمر المولى بها؛ فإنّ ما يوجب تخيّل مانعيّته عنه هو: أنّ الخطاب المولويّ ـ مع إدراك العقل ـ يصبح لغواً وتحصيلا للحاصل، بينما ليس كذلك، فإنّ الخطاب بالمسارعة يؤكّد الداعي إلى المسارعة؛ إذ يتبيّن به أنّ المولى يحبّ المسارعة إلى الخيرات، فتكون المسارعة أمراً حسناً من ناحيتين: من ناحية كونها مسارعة في محبوب المولى وطاعته التي فرض

265

حكم العقل بحسنها، ومن ناحية كون المسارعة بذاتها محبوباً آخر للمولى ومستحبّاً، فلا محالة يتأكّد بذلك حسنها، ولا تلزم اللغويّة(1).

الوجه الثاني: أنّه لابدّ من حمل الأمر على الاستحباب حتّى لا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً؛ لخروج أكثر الواجبات وتمام المستحبّات.

وقد بنى على هذا الوجه السيّد الاُستاذ دامت بركاته(2)، بينما هذا الوجه وإن كان يتمّ على مبنانا من كون دلالة الأمر على الوجوب لفظيّة، حيث إنّه لو كان الأمر حينئذ مستعملا في معناه وهو الوجوب، لزم إخراج أكثر الواجبات وكلّ المستحبات من المدلول اللفظيّ للأمر، لكنّه لا يتمّ على مبناه ومبنى المحقّق



(1) لا يخفى: أنّ هذه الاعتراضات من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) مبنيّة على جعل الدليل على الإرشاديّة ضرورة كونها إرشاداً عقلا، كما يقال في «أطيعوا الله»، فهذه الاعتراضات كلّها تبيّن عدم ضرورة كونها إرشاداً، بل حتّى في مثل «أطيعوا الله» أيضاً لا ضرورة في كونه إرشاداً.

ولكن يمكن إقامة البيان على مطلب آخر غير حكم العقل والضرورة، وذلك بأن يقال: إنّ الشريعة حينما تأمر بشيء في مورد حكم العقل الواقع في سلسلة معلولات حكم الشرع تنصرف عرفاً إلى الإرشاد إلى حكم العقل، باعتبار مناسبة ذلك جدّاً، وترقّبه في سلسلة معلولات حكم الشرع، فوجوب الإطاعة حكم للعقل معلول لأوامر الشرع، والأمر بالإطاعة إن هو إلّا إرشاداً إلى ما هو معلول تلك الأوامر من وجوب الإطاعة عقلا، وكذلك المسارعة إلى المغفرة وإن لم تكن بعنوانها مورد حكم العقل بالحسن، لكنّها مصداق واقعيّ للاحتياط المحكوم بحسنه من قبل العقل في سلسلة معلولات أوامر الشارع، فينصرف الأمر بها عرفاً إلى الإرشاد إلى ذلك.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 216 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

266

النائينيّ (رحمه الله) من كون دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل، بمعنى: أنّ الأمر يدلّ على الطلب، فإذا لم يرد الترخيص حكم العقل بوجوب امتثاله، وإذا ورد الترخيص لم يحكم العقل بوجوب امتثاله، فإنّه على هذا المبنى لا يلزم تخصيص الأكثر؛ إذ اللفظ بذاته لم يدلّ على أزيد من طلب المسارعة، غاية ما هناك: أنّ هذا الطلب في أغلب الموارد اقترن بالترخيص في الخلاف، فلم ينعقد للعقل حكم بوجوب امتثاله، وأحياناً لم يقترن بذلك، فينعقد للعقل حكم بوجوب امتثاله.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1): من أنّ ظاهر الأمر بالمسارعة كون المادّة التي تتعلّق بها المسارعة قابلة للإسراع فيها والتراخي والتأجيل، فيأمر المولى بالمسارعة، بينما لو وجبت المسارعة في الخير، سقط الخير عن الخيريّة على تقدير التأجيل، فلم تكن المادّة قابلة للإسراع تارةً وللتأجيل اُخرى.

وهذا الكلام بهذا المقدار لا يتمّ؛ إذ إنّما يأتي هذا الكلام لو فرض مفاد الأمر بالمسارعة عبارة عن الوجوب الشرطيّ، وعليه يكون الواجب مضيّقاً، ولا تصدق فيه المسارعة، وإنّما المدّعى هو الوجوب النفسيّ، ومعه لا يسقط الخير عن الخيريّة بالتأخير، غاية الأمر فوات خير آخر مستقلّ، وهو المسارعة، اللّهمّ إلّا إذا تكلّفنا بالقول بأنّ ظاهر جملة «استبقوا الخيرات» النظر إلى مجموع الخيرات، فيستفاد منه إمكانيّة التأجيل في مجموع الخيرات، بينما لو كانت المسارعة واجبة، فهي خير لا يمكن التأجيل فيه، إلّا أنّ هذا تكلّف غير صحيح؛ إذ لابدّ من صرف



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 258 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

267

الآية عن نفس المسارعة المستفادة منها، فإنّها ناظرة إلى غيرها، وإلّا لوقع المحذور حتّى لو كان الأمر استحبابيّاً؛ فإنّ المسارعة ـ على أيّ حال ـ تصبح خيراً لا يمكن تأجيله.

الوجه الرابع: أنّ هاتين الآيتين أجنبيّتان عمّا نحن فيه: أمّا آية الاستباق، فلأنّ الاستباق ليس معناه الفور والمسارعة حتّى تدلّ على وجوب الفور، وإنّما معناه: التسابق بين الأفراد من قبيل: (فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)(1)، فيأمر بالمسابقة بين الأفراد في الخير والصلاح كمّاً وكيفاً وحجماً، ومن جميع الجهات، ومن الواضح: أنّ الأمر بهذه المسابقة العامّة ليس إلّا مجرّد تشويق وترغيب للمؤمنين إلى تكثير الخيرات وتقليل الآثام، وليس إلزاماً شرعيّاً، وإلّا لما أمكن امتثاله لكلّ الأفراد، فمثلا ماذا نصنع لو صلّوا جميعاً في أوّل الوقت؟!

وأمّا آية المسارعة، فإن لم نستفد منها نفس ما استفدناه من الآية الاُولى من التشويق والترغيب، قلنا: إنّ غاية ما تدلّ عليه الآية هي وجوب المسارعة إلى حطّ الذنوب ومحوها، ولا بأس بالالتزام بوجوب ذلك بأن يقال: المذنب تجب عليه التوبة فوراً مع الإمكان؛ حيث إنّ التوبة هي السبب المضمون الوصول إلى العفو بخلاف سائر الأسباب، فإن لم يمكنه التوبة وجعل النفس تتّصف بالندامة، وكان هناك شيء آخر ثبت بدليل أنّه يوجب المغفرة، وجب الإسراع إليه بدلا عن التوبة.

والخلاصة: أنّ غاية ما يستفاد من الآية الوجوب الفوريّ لتدارك الذنب السابق بالتوبة أو بدلها، ولا بأس بذلك، ولا يرتبط بما نحن فيه.



(1) السورة 83، المطفّفين، الآية: 26.

268

هل يسقط الواجب بترك الفور؟

الأمر الثالث: في أنّه بناءً على الفور هل يسقط الواجب رأساً بترك الفور، أو أنّه بعد ترك الفور يبقى عليه أصل الواجب ويصبح موسّعاً، أو أنّه يجب عليه الإتيان به فوراً ففوراً؟

كلّ هذه الاحتمالات معقولة ثبوتاً، فمن الممكن أن يكون الواجب الحصّة الاُولى، فبتركها يسقط الواجب لا محالة، ومن الممكن أن يكون هناك واجبان: أحدهما الطبيعة المطلقة، والثاني الحصّة الاُولى، فبترك الثاني لا يسقط الأوّل، ويبقى عليه الواجب موسّعاً، ومن الممكن أن تكون هناك وجوبات متعدّدة بعدد الحصص، وتكون كلّ حصّة متأخّرة واجبةً على تقدير عدم الإتيان بالحصص السابقة، فينتج ذلك وجوب العمل فوراً ففوراً.

وأمّا بحسب الإثبات، فلابدّ من ملاحظة الوجه الذي يقال على أساسه بالفور، ليرى أنّ ذلك الوجه هل يقتضي أحد هذه الفروض بعينه حتّى يلتزم به، أو أنّه مجمل من هذه الناحية حتّى يرجع إلى الاُصول العمليّة، فنقول:

تارةً يبنى على الفور بدعوى دلالة الأمر على أخذه في متعلّقه بوجه من الوجوه، وعليه لا ينبغي الإشكال في سقوط الطلب بترك الفور؛ فإنّ الصيغة لا تدلّ إلّا على طلب واحد، وهذا الطلب الواحد قد تعلّق بالفعل مع الفور، فنسبته إلى الفعل مع الفور نسبة الوجوب إلى أجزاء الواجب الواحد، لا إلى أفراد الواحد.

وبكلمة اُخرى: إنّ المتعلّق للطلب هو العمل المقيّد بالفور، والمقيّد ينتفي بانتفاء قيده.

واُخرى يبنى على الفور بدعوى: أنّ العرف يفهم بالموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ الفور؛ حيث إنّه يعطي بفهمه العرفيّ خواصّ التحريك التكوينيّ

269

للتحريك التشريعيّ، ومن خواصّ التحريك التكوينيّ هو التحرّك فوراً، فتنعقد للأمر دلالة التزاميّة عرفيّة على الفور، وبناءً على هذا يتعيّن القول بوجوب العمل فوراً ففوراً؛ فإنّ هذا هو مقتضى الموازنة بين الدفع التشريعيّ والدفع التكوينيّ وإعطائه خصائص الدفع التكوينيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الدفع التكوينيّ باليد ونحوه لو فرض فيه: أنّ الشخص لم يندفع به، ومع ذلك بقي الدفع باليد مثلا مستمرّاً، فلا إشكال في أنّ ذلك يقتضي الاندفاع في الزمان الثاني فوراً، فإن لم يندفع أيضاً وبقي الدفع مستمرّاً، اقتضى الاندفاع في الزمان الثالث فوراً، وهكذا.

نعم، لو لم يبقَ الدفع مستمرّاً، بل انقطع بعد الزمان الأوّل، فطبعاً لا دفع في الزمان الثاني حتّى يقتضي الاندفاع فوراً، فالدفع التشريعيّ أيضاً ينبغي أن يكون من هذا القبيل، فلو بقي الدفع التشريعيّ مستمرّاً، اقتضى الاندفاع فوراً ففوراً، ومقتضى إطلاق المادّة هو بقاء الدفع التشريعيّ، فإنّه إنّما أمر بذات الطبيعة غير المقيّدة بالزمان الأوّل، وإنّما فرض الدلالة على الفور لا من باب تقيّد المتعلّق بالفور، بل من باب أنّ العرف فهم بالملازمة العرفيّة لزوم الفور، ولا مبرّر لجعل ذلك قيداً للمتعلّق بعد أن كان المتعلّق بذاته مطلقاً، إذن فالطلب يبقى مستمرّاً لا محالة، وإذا بقي مستمرّاً، اقتضى الاندفاع نحو العمل فوراً ففوراً قياساً له على الدفع التكوينيّ.

وثالثة يبنى على الفور بدعوى دلالة آيتي المسارعة والانسباق عليه، وحينئذ لا إشكال في أنّ الأمر لا يسقط بترك الفور؛ إذ لا وجه لجعل الفور قيداً لمتعلّق الأمر حتّى يسقط بتركه، وإنّما فهم وجوب الفور بأمر آخر مستقلّ، فبتركه لا يسقط الأمر الأوّل بلا إشكال، وإنّما الكلام في أنّه هل يبقى العمل واجباً فوراً ففوراً، أو يصبح العمل واجباً موسّعاً؟

ذهب المحقّق العراقيّ (رحمه الله) إلى أنّ الفور يسقط نهائيّاً، ويصبح العمل واجباً

270

موسّعاً، أي: لا يجب فيه الفور، وذلك بتقريب: أنّ عنوان المسارعة: تارةً يفرض: أنّه لا يصدق إلّا على الإتيان بالفرد الأوّل من الأفراد الطوليّة، واُخرى يفرض: أنّ له مصاديق طوليّة عديدة حيث يصدق على ما قبل الفرد الأخير، فالمسارعة صادقة في كلّ مورد أتى المكلف بعمل كان بإمكانه تأخيره إلى وقت متأخّر عن ذلك الوقت. فإن فرضنا الشقّ الثاني، كانت النتيجة عدم وجوب الفور من أوّل الأمر؛ إذ المسارعة مصداقها ليس منحصراً في الفور، وهذا طبعاً خلف المفروض؛ لأنّنا نتكلّم بناءً على فرض الفوريّة، فينحصر الأمر في الشقّ الأوّل، ونتيجته: أنّ الأمر بالمسارعة يسقط بمجرّد ترك الفرد الأوّل؛ لأنّ مصداق المسارعة منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل وقد فاته، فلا يبقى إلّا الأمر بأصل الواجب، فيكون واجباً موسّعاً لا فور فيه(1).

ولنا حول هذا الكلام ثلاث تعليقات:

التعليقة الاُولى: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الثاني، وهو أنّ المسارعة لها أفراد عديدة بعدد ما قبل الفرد الأخير، ومع ذلك نقول: إنّ هذا لا ينتج الخلف، بل ينتج وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّنا إذا فرضنا مثلا: أنّ للواجب عشرة أفراد طوليّة، فالأمر بطبيعة العمل قد جَعَلَ الجامعَ بين الأفراد العشرة خيراً، والأمر بالمسارعة في الخيرات يوجب لزوم الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة السابقة على الفرد الأخير، فيصبح الإتيان بالجامع بين الأفراد التسعة خيراً، فيكون هذا فرداً جديداً لموضوع الأمر بالمسارعة في الخيرات، والمسارعة فيه عبارة عن الإتيان بالجامع بين الثمانية السابقة على التاسع، فيكون ذلك خيراً جديداً يجب المسارعة فيه بالإتيان بالجامع بين السبعة السابقة على الثامن، وهكذا، فالأمر



(1) بدائع الأفكار، ج 1، ص 253 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

271

بالمسارعة ينحلّ بتعدّد أفراد موضوعه المتولّدة من نفس الأمر؛ لأنّه أمر بنحو القضيّة الحقيقيّة، فكلّما تولّد خير أمكن المسارعة فيه يصبح مشمولا للأمر بالمسارعة ولو كان متولّداً من نفس الأمر بالمسارعة، وهذا سنخ ما يقال في (صدّق العادل) بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة، وبهذا يثبت وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثانية: أنّنا أيضاً نفرض اختيار الشقّ الثاني، ونفترض تنزّلا عن الجواب الأوّل: أنّ الأمر بالمسارعة ليس أمراً بنحو القضيّة الحقيقيّة يشمل حتّى الفرد المتولّد من نفسه، بل أمر بنحو القضيّة الخارجيّة يشير إلى الخيرات الثابتة بغضّ النظر عن هذا الأمر بالمسارعة، ويأمر بالمسارعة فيها، ولكن مع ذلك نقول: إنّنا نستنتج وجوب العمل فوراً ففوراً، وذلك بناءً على أنّ أفراد المسارعة ليست أفراداً عرضيّة ثابتة في عرض واحد، من قبيل أفراد البياض والسواد ونحو ذلك من الطبائع، وإنّما هي أفراد طوليّة للمسارعة، أي: أنّ العرف إنّما ينتزع عنوان المسارعة من الفرد الثاني بعد فرض فوات الأوّل، وهكذا إلى ما قبل الفرد الأخير، وكلّما كان أفراد طبيعة مأمور بها أفراداً طوليّة وهي في المقام أفراد المسارعة، فهم العرف من الأمر بها أنّ هذا الأمر يكون بلحاظ هذه الأفراد على وزان طبع نفس الأفراد، فكما أنّ نفس الأفراد يوجد بينها طوليّة كذلك الأمر بكلّ فرد إنّما يكون بعد فوات العمل بالأمر بالفرد السابق، ويكون أمراً اضطراريّاً بالنسبة إلى الأمر بالفرد السابق، ولذا ترى أنّه لو قال: «تطهّر قبل الفجر من الجنابة»، لم يجز للعبد تأخير الغسل إلى أن يضيق الوقت عنه، وينتقل إلى التيمّم وإن صحّ التيمّم لو صنع ذلك، والسرّ في ذلك ما قلناه: من أنّ الفردين الطوليّين لطبيعة يفهم العرف من الأمر بها كونه أمراً اختياريّاً بلحاظ الفرد الأوّل، واضطراريّاً في طول فوات الفرد الأوّل بلحاظ الفرد الثاني، فحيث إنّ الطهارة لها فردان: الفرد الأوّل هو الطهارة

272

المائيّة، والفرد الثاني هو الطهارة الترابيّة، وهذا الفرد الثاني إنّما يكون فرداً للطهارة عند تعذّر الأوّل، فهم العرف من الأمر بالطهارة الأمر الاختياريّ بالغسل، والأمر الاضطراريّ بالتيمّم بعد العجز عن الغسل لضيق الوقت مثلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فحيث إنّ أفراد المسارعة أفراد طوليّة، فلا محالة يفهم من الأمر بالمسارعة الأمر بالفرد الأوّل، وفي طول تركه وفواته الأمر بالفرد الثاني اضطراراً، وهكذا، وهذا معناه وجوب العمل فوراً ففوراً.

التعليقة الثالثة: أنّنا نفرض اختيار الشقّ الأوّل، وهو أنّ المسارعة في الخير معناها منحصر في الإتيان بالفرد الأوّل من الخير، ومع ذلك نقول: إنّه يستفاد من دليل الأمر بالمسارعة في الخيرات وجوب العمل فوراً ففوراً.

وتوضيح ذلك: أنّ الخير عبارة عن الفعل الذي يكون أفضل من الناحية الشرعيّة للمكلف من تركه، فإذا كان للواجب عشرة أفراد طوليّة مثلا، فقبل أن يفوته الفرد الأوّل يكون الخير بالنسبة إليه عبارة عن الجامع بين العشرة؛ لأنّ فعله أفضل من تركه، وأمّا الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل فليس خيراً، إذ بالإمكان تحقّق تركه في ضمن الإتيان بالفرد الأوّل، فلا يكون فعل الجامع بين ما عدا الفرد الأوّل أفضل من تركه، وبما أنّ المسارعة في الخيرات واجب، ومعنى المسارعة هو اختيار الفرد الأوّل، إذن يجب عليه الفور باختيار الفرد الأوّل، ولكن حينما يترك الفرد الأوّل ويفوته يصبح الجامع بين الأفراد التسعة الباقية خيراً؛ لأنّ فعله ـ بعد فرض فوت الفرد الأوّل ـ خير له من تركه، فتجب عليه المسارعة في هذا الخير، وذلك باختيار الفرد الأوّل منه الذي هو فرد ثان من الطبيعة، فإذا عصى وفاته الفرد الأوّل، أصبح الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية خيراً؛ لأنّه بعد فوات ما سبق يكون فعل الجامع بين الأفراد الثمانية الباقية أفضل من تركه، فتجب المسارعة فيه باختيار فرده الأوّل الذي هو ثالث أفراد الطبيعة وهكذا، فالنتيجة هي وجوب العمل فوراً ففوراً.

273

الفصل الثالث. الأوامر

إجزاء الأمر الاضطراريّ والظاهريّ

* إجزاء الأمر الاضطراريّ.

* إجزاء الأمر الظاهريّ.