261

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة الاحتياط

وننتقل بعد هذا إلى أدلّة الاحتياط، ويقع الكلام في ذلك في مقامين:

أحدهما: في الاحتياط بحكم العقل.

والثاني: في الاحتياط عن طريق النقل.

 

الاحتياط العقليّ

أمّا المقام الأوّل: فقد ذكر لإثبات الاحتياط عن طريق العقل وجهان:

 

أصالة الحظر:

الوجه الأوّل: ما ذكر في كلمات المتقدّمين بشكل مشوّش، وذكر في كلمات المتأخّرين كالشيخ الطوسيّ(قدس سره) باسم أصالة الحظر فيما لا يعلم جوازه.

والمظنون أنّ مقصودهم بذلك كان هو ما ذكرناه من أنّ حقّ المولويّة لا يختصّ بالتكاليف المعلومة، بل يشمل كلّ تكليف محتمل ما لم يعلم بعدم اهتمام المولى به في مورد الشكّ وإن عبّر عن ذلك بتعبيرات مشوّشة وفقاً لمستوى اللغة العلميّة وقتئذ.

والشيخ الطوسيّ(رحمه الله) أنكر أصالة الحظر وقال بأصالة الوقف، وبالنتيجة التزم في

262

مقام العمل بالاحتياط والحظر. وقال: إنّما نخرج عن هذا الاحتياط بسببالترخيصات الواردة عنهم(عليهم السلام).

والظاهر أنّ هذا مجرّد خلاف لفظيّ بين الشيخ الطوسيّ ومن قال بأصالة الحظر، نشأ من الخلط بين مقام الفتوى ومقام العمل، فكلاهما معترفان بأنّ الوظيفة العمليّة هي الحظر، وبأنّ الحكم الإلهيّ غير معلوم، فلا يمكن الإفتاء به.

هذا. ويظهر من قوله بالخروج عن الاحتياط بما ورد عنهم(عليهم السلام) من الترخيص: أنّه لولا الترخيص الوارد من الشارع لكان يقول بأصالة الاحتياط، وهذا يشهد لما قلناه من أنّ المقصود هو ما ادّعيناه من كون القاعدة العقليّة الأوّليّة هي الاحتياط، وأنّ من حقّ المولى ـ تعالى ـ الطاعة حتّى في تكاليفه الاحتماليّة ما لم يعلم برضاه بالمخالفة.

وعلى أيّة حال، فهذا الوجه لبيان الاحتياط العقليّ وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّه لا يقاوم الأدلّة التي أقمناها على البراءة بكلا المستويين؛ لأنّ موضوع الحكم العقليّ بالاحتياط هو التكليف المحتمل الذي لم يعلم عدم اهتمام الشارع به في ظرف الشكّ بوصول الترخيص بأحد المستويين، فيرتفع موضوعه بدليل البراءة، ولو دلّ على البراءة في مستوى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

 

العلم الإجماليّ بالأحكام:

الوجه الثاني: العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة في الشريعة الإسلاميّة، وهو يمنع عن الرجوع إلى البراءة و يوجب الاحتياط.

وقد اُجيب على ذلك بجوابين أساسيّين:

 

انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير:

الجواب الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجماليّ في جميع الشبهات بعلم أصغر في دائرة الأمارات المعتبرة الإلزاميّة مشتمل على مقدار المعلوم بالإجمال في

263

العلم الإجماليّ الكبير.

وفي تحقيق هذا الجواب يقع الكلام تارةً في كبرى انحلال العلم الإجماليّ، واُخرى في تنقيح كون ما نحن فيه صغرى من صغرياته وعدمه.

والبحث الكبرويّ موضعه الفنّيّ هو مبحث العلم الإجماليّ، إلاّ أنّ جملة من المحقّقين كالمحقّق العراقيّ(قدس سره)وغيره تعرّضوا لبحث هذه الكبرى هنا، ولعلّه بلحاظ حاجة البحث في المقام عن إبطال دليل الاحتياط الذي قد يتمسّك به الأخباريّ إلى المعرفة بصورة مسبقة بكبرى الانحلال.

وعلى أيّة حال، فلابدّ من بحث هذه الكبرى في مورد مّا، فليبحث عنها هنا كي يصبح البحث مع الأخباريّين واضح الجهات والخصوصيّات، وفي بحث العلم الإجماليّ يحوّل على هذا المقام، إذن فنعقد هنا مبحثين:

 

أ ـ كبرى انحلال العلم الإجماليّ:

المبحث الأوّل: في كبرى الانحلال، والكلام فيه يقع في جهتين:

الاُولى: في الانحلال الحقيقيّ.

والثانية: في الانحلال الحكميّ.

 

الانحلال الحقيقيّ:

أمّا الجهة الاُولى: وهي في البحث عن الانحلال الحقيقيّ، فنقول: إنّ هناك صورتين خارجتين عن محلّ النزاع:

الاُولى: ما لو اُخذت في المعلوم بالإجمال خصوصيّة زائدة لم تؤخذ في المعلوم بالتفصيل، فيحتمل ـ لا محالة ـ عدم انطباقه عليه، كما لو علمنا إجمالاً بموت أحد شخصين بالكهرباء، وعلمنا تفصيلاً بموت واحد منهما على التعيين،

264

ففي هذا الفرض لا إشكال في عدم الانحلال.

وأوضح من هذا ما لو كان كلّ منهما مقيّداً بخصوصيّة مباينة لخصوصيّة الآخر.

والثانية: ما إذا فرض أنّ العلم التفصيليّ كان في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا بالإجمال بموت ابن زيد وكان ابنه مردّداً بين شخصين، ثمّ عرفنا بالتفصيل من هو ابن زيد، ففي هذا الفرض لا إشكال في الانحلال.

فالكلام إنّما هو في مثل ما لو فرضنا مثلاً العلم الإجماليّ بموت أحد الشخصين من دون أخذ مثل خصوصيّة الكهرباء التي لم تؤخذ في المعلوم بالتفصيل، وعلمنا تفصيلاً بموت واحد معيّن منهما من دون أن يكون العلم التفصيليّ ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، وكذلك لو فرضنا العلم الإجماليّ باحتراق أحد الكتابين، وعلمنا تفصيلاً باحتراق واحد معيّن منهما، وما إلى ذلك من الأمثلة.

وهذا الباب هو أحد موارد الخلاف الشديد بين مدرسة المحقّق العراقيّ(قدس سره)ومدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، حيث بنت مدرسة المحقّق النائينيّ على الانحلال بخلاف مدرسة المحقّق العراقيّ.

وحاصل ما يقال في مقام تقريب انحلال العلم الإجماليّ ـ مضافاً إلى دعوى الوجدان ـ أحد وجوه:

الوجه الأوّل: قياس ما نحن فيه بباب الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين وجعله من صغريات ذلك الباب، فكما لا إشكال في أنّه لو علمنا بفوت صيام اليوم الأوّل من رمضان مثلاً، واحتملنا فوت اليوم الثاني أيضاً وعدمه، فالعلم الإجماليّ بوجوب القضاء المردّد بين الأقلّ والأكثر منحلّ ـ لا محالة ـ إلى العلم التفصيليّ باليوم الأوّل، والشكّ البدويّ في اليوم الثاني، ولا يوجد لنا في الحقيقة علم إجماليّ

265

بالتكليف، كذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر بين الأقلّ وهو احتراق كتاب الهندسة مثلاً، والأكثر وهو احتراق كتاب التأريخ مثلاً معه، وهذا من صغريات دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، ولا إشكال ـ لدى دوران الأمر بينهما ـ في أنّ الأقلّ معلوم تفصيلاً، والأكثر مشكوك بدواً(1).

ويرد عليه: أنّ هذا قياس مع الفارق؛ إذ فيما نحن فيه يوجد ـ لا محالة ـ وراء العلم التفصيليّ علم آخر ولو مستتراً وتقديريّاً، ويقع الكلام في أنّه هل هو منحلّ وغير موجود بالفعل أو لا؟

ولم يكن الأمر كذلك في باب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، و الدليل على ذلك ما تراه من أنّه لو زال علمنا باحتراق كتاب الهندسة لم يزل أصل العلم باحتراق أحد الكتابين، بخلاف باب الأقلّ والأكثر؛ إذ لو زال علمنا بفوات صوم اليوم الأوّل لم يكن لدينا علم بفوات صوم يوم من الأيّام أصلاً.



(1) راجع نهاية الأفكار تقرير بحث المحقّق العراقيّ(رحمه الله) القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250، وقد أجاب عليه في نهاية الأفكار بأنّ الإجمال في باب الأقلّ والأكثر إنّما هو في الحدّ، لا في أصل التكليف، بدليل عدم صدق قضيّة تعليقيّة تقول: لو كان الواجب هو الأكثر لكان الأقلّ غير واجب في حين أنّه تصدق القضيّة التعليقيّة من الطرفين في الدوران بين المتباينين حتّى بعد تحقّق العلم التفصيليّ، أقول: صحيح أنّ في موارد العلم الإجماليّ بين المتباينين إذا كان للمعلوم بالإجمال تعيّن واقعيّ صدق نفي وجوده في أحد الطرفين على تقدير وجوده في الطرف الآخر، بينما هذا غير صادق بلحاظ ذات التكليف في الأقلّ والأكثر، فهذه آية انتفاء العلم الإجماليّ في الأقلّ والأكثر بخلاف المقام، إلاّ أنّ الذي يقول بالانحلال لا يعترف بصدق هذه القضيّة التعليقيّة بعد تحقّق العلم التفصيليّ، فالأولى في الجواب ما ذكرناه في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

266

الوجه الثاني:(1) ما يتحصّل من كلمات مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وتوضيحه يكون بذكر أمرين:

أحدهما: بيان أركان العلم الإجماليّ.

والثاني: بيان فقدان بعضها لدى تكوّن العلم التفصيليّ في بعض الأطراف.

أمّا الأمر الأوّل: فالعلم الإجماليّ له ركنان أساسان:

الأوّل: أنّ العلم فيه متعلّق بالجامع وبذلك يمتاز عن العلم التفصيليّ المتعلّق بالفرد.

الثاني: احتمالات انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من أطراف العلم الإجماليّ(2)، وبذلك يمتاز عن العلم بالجامع الموجود في ضمن العلم بالفرد في العلم التفصيليّ.

ومرجع هذين الركنين بعد التعميق إلى أمر واحد، وهو أنّ العلم الإجماليّ علم بالجامع بحدّه الجامعيّ ـ أي: بشرط لا ـ عن السريان إلى حدّ أخصّ، وهذا بخلاف العلم بالجامع الموجود في ضمن العلم بالفرد، فهو علم بالجامع لكن لا بحدّه الجامعيّ. وهذا ـ أعني: كون العلم واقفاً على الجامع بحدّه الجامعيّ ـ يستلزم ما ذكر من احتمالات الانطباق، وكون العلم علماً بالجامع بحدّه الجامعيّ بما هو حدّ



(1) لم أره فيما يحضرني من الكتب.

(2) ورد في تقريري بحث المحقّق النائينيّ(1)(رحمه الله): أنّ العلم الإجماليّ بالجامع مشوب بالجهل في الأطراف فتكون هناك قضيّة معلومة وقضايا مشكوكة بعدد الأطراف، ولم أرَ فيها ما يدلّ على ذكر ذلك كبرهان على الانحلال فيما نحن فيه.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 237 و 238، وفوائد الاُصول، ج 4، ص 4.

267

يساوق ما قلناه من عدم السريان إلى حدّ أخصّ، فإنّ الحدّ بما هو حدّ لا يكونمحفوظاً في ضمن حدّ أخصّ، وإلاّ للزم أن يكون الفرد قابلاً للانطباق على كثيرين، ومن هنا يظهر أنّ المطابق الخارجيّ للعلم الإجماليّ إنّما هو مطابق للمعلوم بالذات القائم في اُفق النفس ذاتاً وليس مطابقاً له حدّاً، بخلافه في العلم التفصيليّ، فإنّ المطابق الخارجيّ فيه مطابق للمعلوم بالذات ذاتاً وحدّاً.

والحاصل: أنّ معروض العلم الإجماليّ كمعروض الكلّيّة، إنّما هو الجامع بحدّه، وكما يستحيل سريان الكلّيّة إلى الفرد كذلك يستحيل سريان العلم إليه، غاية الفرق بين الكلّيّة والعلم، هي أنّ الكلّيّة تعرض للحدّ الجامعيّ بما هو حدّ ذهنيّ قائم في الذهن. وأمّا العلم فيعرض للحدّ الجامعيّ بما هو مرآة للخارج، وبما أنّه يُرى به بالنظر التصوّري الخارج، ولهذا لا توصف الاُمور الخارجيّة بالكلّيّة وتوصف بالعلم.

وأمّا الأمر الثاني: فهو أنّنا لو علمنا باحتراق أحد الكتابين كتاب الهندسة وكتاب التأريخ مثلاً، ثمّ علمنا تفصيلاً باحتراق كتاب الهندسة فقد انهدم بذلك الركن الثاني من ركني العلم الإجماليّ؛ إذ بتعلّق العلم تفصيلاً بأحد الأطراف قد زاد المنكشف، فلا محالة يزيد الانكشاف، فإنّ الانكشاف إنّما توقّف على الجامع لنقص المنكشف وقد زال النقص فقد سرى العلم من ذاك الحدّ إلى الحدّ الشخصيّ، فلم يكن علماً بالجامع بحدّه الجامعيّ ولا مقترناً باحتمالات الانطباق على الأطراف، إذن فقد انحلّ العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ باحتراق كتاب الهندسة مثلاً، وشكّ بدويّ في احتراق كتاب التأريخ.

أقول: إنّ هذا الجامع الذي لا يبدو في بادئ النظر مقيّداً بقيد يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد إن كان حاله ـ بحسب الدقّة العقليّة ـ كذلك، أي: لم يكن حقيقة مقيّداً بقيد يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد، فلا محالة يتحقّق الانحلال بالبرهان الذي عرفت، والشأن في مقام مصير هذا الوجه هو تحقيق هذه النكتة،

268

وهي أنّه هل يكون هذا الجامع مقيّداً بما يحتمل عدم انطباقه على هذا الفرد، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ بهذا الوجه؛ لعدم العلم بانطباق الجامع المعلوم على ما علم به تفصيلاً، أو لا يكون كذلك، فيكون العلم الإجماليّ منحلاًّ؟ وهذه هي النكتة التي حاموا حولها ولم يدخلوا في تحقيقها، وكأنّهم اكتفوا فيها بالارتكاز والوجدان.

الوجه الثالث: أنّه لولا انحلال العلم الإجماليّ بعد تعلّق العلم التفصيليّ بأحد الفردين للزم اجتماع المثلين؛ إذ العلم الإجماليّ بعد العلم بانطباق الجامع على هذا الفرد قد سرى إلى هذا الفرد وهو معروض لعلم تفصيليّ، فقد أصبح معروضاً لعلمين وهو محال(1).

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه لا يرجع إلى محصّل، فإنّه إن سلّمنا بسريان العلم من الجامع إلى الفرد فهو مساوق لانحلال العلم الإجماليّ وانتفاء الإجمال، فقد ثبت المقصود بقطع النظر عن إشكال اجتماع المثلين، وإن لم نقبل بالسريان لم يلزم اجتماع المثلين؛ لأنّ أحد العلمين واقف على الجامع بحدّه الجامعيّ، والعلم الآخر ثابت على الفرد.

والإشكال بأنّ الجامع بحدّه الجامعيّ غير موجود في الخارج فما معنى وقوف العلم عليه؟ مدفوع بأنّ الجامع بحدّه الجامعيّ قابل للوجود في عالم النفس وإن لم يكن قابلاً للوجود في عالم الخارج، والعلم الإجماليّ ـ ككلّ علم ـ يكون معروضه بالذات الصورة القائمة في عالم النفس، وما في الخارج يكون معروضاً له ومنكشفاً به بالعرض.

على أنّ هذا الوجه بقطع النظر عن الإشكال الذي شرحناه يكون تحقيقه مرتبطاً بتحقيق تلك النكتة، وهي أنّه هل يكون المعلوم بالإجمال محدوداً بحدّ يحتمل



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250.

269

عدم انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فإن كان كذلك لم يحصل الانحلال ولم يلزم من تواجد العلمين اجتماع المثلين على شيء واحد، والخصم معترف بأنّه لو كان العلم الإجماليّ متعلّقاً باحتراق أحد الكتابين بالكهرباء مثلاً، والعلم التفصيليّ متعلّقاً باحتراق كتاب الهندسة من دون علم بسبب احتراقه لم ينحلّ العلم الإجماليّ، فبأيّ وجه أجاب عن إشكال اجتماع المثلين هناك أجبنا به هنا، وإن لم يكن كذلك، أي: لم يكن محدوداً بحدّ محتمل الإباء عن الانطباق توجّه مثلاً القول بالانحلال؛ للزوم اجتماع المثلين بالسريان.

الوجه الرابع: هو أنّ لازم العلم الإجماليّ هو التردّد في النفس، وصحّة تشكيل القضيّة المنفصلة بأن يقال مثلاً: إمّا أن احترق كتاب الهندسة، أو احترق كتاب التأريخ، ومن المعلوم أنّ هذا التردّد النفسيّ قد انتفى، فلا يصحّ أن يقال: إمّا أن احترق هذا، أو احترق ذاك، بل قد احترق هذا جزماً، والثاني مشكوك بدواً، ولا تردّد بينهما في عالم النفس.

ولكن هذا أيضاً تحقيقه يرجع إلى تنقيح تلك النكتة من أنّه هل يكون المعلوم بالإجمال محدّداً بحدّ قابل للإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فإن لم يكن كذلك فقد انحلّ العلم الإجماليّ، ونعترف بالانحلال بلا حاجة إلى النظر إلى هذا اللازم، وإن كان كذلك فالتردّد ثابت والقضيّة المنفصلة منعقدة، ونقول: إنّ الجامع المقيّد بالقيد الفلانيّ إمّا موجود هنا أو هناك.

الوجه الخامس: أنّ للعلم الإجماليّ لازماً، وقد اعترف به المحقّق العراقيّ(قدس سره)وهو صحّة تشكيل القضيّة الشرطيّة(1) بأن يقال: إن كان المعلوم بالإجمال في هذا



(1) وعبّر عنها في نهاية الأفكار بالقضيّة التعليقيّة، راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250.

270

الطرف فليس في ذاك الطرف، وإن كان في ذاك الطرف فليس في هذا الطرف، ومن المعلوم أنّ هذه القضيّة الشرطيّة لا تأتي بعد العلم باحتراق كتاب الهندسة مثلاً، فلا يصحّ أن يقال: إن كان كتاب التأريخ محترقاً فكتاب الهندسة غير محترق، فإنّ كتاب الهندسة محترق على كلّ حال.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه ينشأ من إساءة فهم معنى هذا اللازم؛ إذ ليس هذا اللازم بالمعنى الذي يمكن أن يقال به عبارة عن أنّ الطبيعيّ لو وجد في هذا الطرف فهو معدوم في ذاك الطرف وبالعكس، فإنّ هذا واضح البطلان؛ إذ لا ينطبق على موارد احتمال وجوده في كلا الطرفين، كما لو قطع باحتراق أحدهما واحتمل احتراق كليهما، وليس مراد المحقّق العراقيّ(قدس سره) ذلك، وإنّما مراده أنّ المنكشف بالعلم الإجماليّ ـ الذي يستحيل أن يكون أكثر من واحد؛ لأنّ العلم تعلّق بمفاد النكرة لا بمفاد اسم الجنس ـ لو كان موجوداً في هذا الطرف فهو غير موجود في ذاك الطرف وبالعكس، وعلى هذا لا يكون موضوع لهذا الوجه؛ إذ لا يمكن أن يقال: إنّ احتراق كتاب الهندسة هو المعلوم بالإجمال على كلِّ حال ـ أي: سواء كان الفرد الآخر معلوماً بالإجمال أو لا ـ كما كنّا نقول: إنّ كتاب الهندسة محترق على كلّ حال ـ أي: سواء كان الكتاب الآخر محترقاً أو لا ـ إذ لو صحّ هذا اللازم وفرضنا أنّ المعلوم بالإجمال له تعيّن حتّى على فرض احتراق الكتابين في الواقع، فعلى تقدير كون الفرد الآخر هو المعلوم بالإجمال لا يكون هذا الفرد معلوماً بالإجمال قطعاً، فليس احتراق كتاب الهندسة هو المعلوم بالإجمال على كلّ حال.

ثمّ بعد غضّ النظر عن هذه الجهة نقول: إنّه لو صحّ هذا اللازم واُريد تطبيقه على محلّ الكلام فلابدّ أيضاً أن نرجع إلى تلك النكتة الأساسيّة؛ إذ لو فرضنا أنّ الجامع المعلوم بالإجمال كان متخصّصاً بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على الفرد

271

المعلوم بالتفصيل قلنا: إنّ هذا اللازم موجود، فهذا الجامع المتخصّص بتلك الخصوصيّة إن كان في هذا الطرف فليس في ذاك الطرف وبالعكس، وإن فرض أنّه لم يكن متخصّصاً بتلك الخصوصيّة فلا محالة يتحتّم الانحلال ويقطع بانطباق المعلوم بالإجمال على هذا الفرد فيتمّ الوجه الثاني.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه إن كان هناك انحلال فلابدّ لإثباته من إثبات تلك النكتة، وهي أنّ الجامع لم يتخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلاً، فلو أثبتنا ذلك فالانحلال برهانيّ، وإلاّ لم يمكن المصير إلى الانحلال إلاّ بنكتة اُخرى سوف تظهر إن شاء الله.

وقد قرّب في المقام عدم الانحلال بوجوه يرجع حاصلها إلى تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: دعوى أنّ الوجدان حاكم بعدم الانحلال ووجود علمين في النفس.

ومن الغريب أنّ الوجدان ادّعي من قِبل كلتا المدرستين، فمدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره)تدّعي الوجدان على الانحلال(1)، ومدرسة المحقّق العراقيّ(رحمه الله) تدّعي الوجدان على عدمه(2).



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 14.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى ما جاء في المقالات، ج 2، ص 66 من بيان عدم انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ؛ إذ كلّ واحد من العلمين متعلّق بصورة غير الاُخرى؛ إذ الصورة الإجماليّة مباينة للصورة التفصيليّة ذهناً وإن اتّحدتا أحياناً في الخارج، ومع اختلافهما فكلّ علم متقوّم بمتعلّقه بلا موجب لقلب أحدهما بالآخر، والإجمال في نفس الذات باق على حاله وإن تحقّق علم تفصيليّ بأحدالطرفين كما هو الظاهر. انتهى مع تغيير يسير في التعبير ومع حذف ما لا يعنينا الآن.

272

والصحيح ـ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ هو التفصيل في المقام، فالوجدان في مورد يقتضي البرهان الانحلال شاهد على الانحلال، والوجدان في مورد يقتضي البرهان عدم الانحلال شاهد على عدم الانحلال، وبعد الالتفات إلى برهان الانحلال في بعض الموارد وعدم الانحلال في بعض آخر يُرى أنّ الوجدان أيضاً مطابق للبرهان.

التقريب الثاني: ما ذكره المحقّق العراقيّ(قدس سره) من أنّنا نثبت بقاء العلم الإجماليّ ببقاء لازمه، وهو احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلاً، وهذا الاحتمال موجود وجداناً، فيستكشف من وجود اللازم وجود الملزوم(1).

وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ مجرّد صدق قضيّتين إحداهما: أنّ الجامع معلوم، والاُخرى: أنّ الجامع محتمل الانطباق على الطرف الآخر لا يبرهن على وجود العلم الإجماليّ، وإنّما يكون العلم الإجماليّ موجوداً لو فرض أنّ الجامع الذي يحتمل انطباقه على هذا محدود بنفس الحدّ الذي به يكون معروضاً للعلم. أمّا لو فرض أنّ الجامع محدود بحدّ يحتمل انطباقه على الطرف



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 250، وقد كرّر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقل ذلك حينما وصل إلى بحث العلم الإجماليّ بفارق جزئيّ في صيغة البيان عمّا بيّنه هنا، ونحن نسجّل هنا تلك الصيغة كي لا نعود إلى ذلك في بحث العلم الإجماليّ، وهي أنّنا نحتمل انطباق الجامع في غير الطرف المعلوم بالتفصيل، وهذا كاشف عن وجود الاحتمال في الطرف المعلوم بالتفصيل أيضاً؛ لأنّ احتمال انطباقه على هذا الطرف يجب أن يكون في قباله احتمال الانطباق على طرف آخر، وإلاّ لقطعنا بالانطباق على هذا الطرف، فالركن الثاني من ركني العلم الإجماليّ وهو احتمال الانطباق موجود، كما أنّ الركن الأوّل وهو العلم بالجامع موجود.

273

الآخر ولكنّه ليس معلوماً بهذا الحد، وإنّما هو معلوم بحدّ آخر غير محتمل الانطباق على ذاك الطرف، فالعلم الإجماليّ غير موجود، وقد يكون ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو فرض أنّ الجامع المعلوم مجرّد عن الخصوصيّة المحتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، فإنّ الجامع بحدّه الجامعيّ محتمل الانطباق على الطرف الآخر، ولكنّه بهذا الحدّ ليس معروضاً للعلم؛ إذ ـ كما مضى في الوجه الثاني من وجوه تقريب الانحلال ـ قد سرى العلم إلى الحدّ الشخصيّ لا محالة، وهو بحدّه الشخصيّ غير محتمل الانطباق على الطرف الآخر، فيصبح حال العلم بالجامع هنا حال العلم بالجامع في ضمن كلّ علم تفصيليّ عندما احتمل بدواً وجود فرد آخر، فلو فرضنا مثلاً أنّنا علمنا بوجود زيد في المسجد، فإنّنا نعلم بوجود جامع الإنسان في ضمنه أيضاً، ونحتمل في نفس الوقت أن يكون جامع الإنسان موجوداً في المسجد في ضمن عمرو، فكلتا القضيّتين صادقتان في المقام ولا علم إجماليّ فيه(1)، والنكتة في ذلك هي اختلاف الحدود.

إذن فلابدّ من تركيز البحث على أنّ الجامع المعلوم في المقام هل هو متخصّص بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل أو لا.

التقريب الثالث: أن يقال: إنّه لا إشكال في الانحلال في موارد قيام العلم التفصيليّ في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، كما لو علمنا إجمالاً بموت ابن زيد المردّد بين بكر وخالد، ثمّ علمنا تفصيلاً أنّ ابن زيد هو بكر، فلو فرض الانحلال حتّى في صورة عدم كون العلم التفصيليّ ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال للزم أن يكون الأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للثاني، كالأثر الوجدانيّ والنفسانيّ للأوّل، مع



(1) ولم يكن احتمال الجامع فى أحد الطرفين العارض على الجامع بحدّه الجامعيّ مستلزماً لعروضه عليه في الطرف الآخر على أساس معلوميّة الجامع.

274

أنّنا نرى بالوجدان أنّ هناك فرقاً بين الحالتين.

وفيه: أنّ الفرق بحسب الحالة النفسانيّة ثابت بينهما حتّى على تقدير الانحلال، والسرّ في ذلك أنّ العلم التفصيليّ حينما يكون ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال يثبته في طرف وينفيه عن الطرف الآخر؛ إذ فرض كونه ناظراً إلى ذلك مساوق لثبوت تعيّن واقعيّ للمعلوم بالإجمال، فالعلم التفصيليّ كما يتعلّق بثبوت ذلك الواقع في هذا الطرف كذلك يتعلّق بانتفائه في ذاك الطرف، فيزول احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر، وهذا بخلاف ما لو لم يكن ناظراً إلى تعيينه، فإنّه عندئذ إنّما يزول العلم الإجماليّ بتبدّل احتمال الانطباق في هذا الطرف إلى العلم بالانطباق من دون أن يتبدّل أيضاً احتمال الانطباق في الطرف الآخر إلى العلم بعدم الانطباق، بل يبقى احتمال الانطباق في الطرف الآخر على حاله، ولكنّه لا يستلزم ثبوت العلم الإجماليّ؛ لاختلاف الحدود كما مضى بيانه.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ جميع ما بيّنوه في المقام ليس بحثاً أساساً في الانحلال.

والبحث الأساس فيه يقع في نكتتين للانحلال:

الاُولى: ما وصل إليها كلام المثبتين للانحلال والنافين له، ولكن لم يتعرّضوا لها مباشرة بالتحقيق إثباتاً أو نفياً، وهي أنّ الجامع المعلوم هل هو متّصف بخصوصيّة تأبى احتمالاً عن انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو لا؟ فهذه النكتة هي ما حامت كلتا المدرستين حولها ولم يحقّقوها.

والثانية: ما لم يحوموا حولها فضلاً عن أن يحقّقوها، وهي زوال العلم الإجماليّ بزوال سببه في نفسه، وذلك بواسطة العلم التفصيليّ.

فنحن نقول: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ يتصوّر له ملاكان:

الملاك الأوّل: أن ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل بنحو الجزم،

275

فينحلّ العلم الإجماليّ ـ لا محالة ـ كما مضى، والميزان في هذا الانطباق وعدمه، هو كون المعلوم بالإجمال متخصّصاً بخصوصيّة يحتمل إباؤها عن انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل أو غير متخصّص بها.

وهنا يمكن أن يقال في بادئ النظر: إنّ الجامع المعلوم بالإجمال متخصّص دائماً بخصوصيّة محتملة الإباء عن الانطباق، وذلك بأن نلحظه مقيّداً بوصف العلم الإجماليّ ونقول: إنّ هذا الجامع وإن كان بما هو غير آب عن الانطباق على الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيليّ، لكنّه بما هو معلوم بالإجمال يحتمل إباؤه عن الانطباق عليه؛ إذ لا نعلم أنّ معلومنا الإجماليّ أهو هذا أو ذاك.

إلاّ أنّ هذا التخيّل غير صحيح؛ وذلك لأنّ العلم إذا عرض على جامع يقطع بانطباقه على هذا الفرد سرى ـ لا محالة ـ إلى هذا الفرد، فلابدّ لنفي السريان من خصوصيّة في معروضه ـ أي: في المرتبة السابقة على العلم ـ موجبة لاحتمال الإباء عن الانطباق.

وإن شئت فقل: إنّه لو اُخذت الخصوصيّة من نفس العلم لزم الدور، فإنّ وجود العلم الإجماليّ يتوقّف على هذه الخصوصيّة، فلو فرضت منتزعة من المعروض بلحاظ نفس العلم الإجماليّ لزم الدور.

وقد يخطر بالبال وجه آخر في بيان خصوصيّة للمعلوم بالإجمال موجبة لاحتمال إبائه عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، وذلك بأن يقال: إنّ العلم الإجماليّ وإن تعلّق بالجامع وهو احتراق أحد الكتابين القابل للانطباق في بادئ النظر على هذا الفرد، ولكنّ الجامع لم يؤخذ بما هو في طريق الوجود والتطبيق كما في باب الأمر بالجامع، بل اُخذ بما هو مفروغ عن وجوده، فنستطيع أن نشير إلى ذلك الوجود المفروغ عنه ونقول: أهو نفس المعلوم بالتفصيل أو غيره؟ فالجامع وإن كان بقطع النظر عن مفروغيّة وجوده قابلاً للانطباق على المعلوم

276

بالتفصيل جزماً، لكن بالنظر إلى ذلك يصبح محتمل الإباء عن الانطباق عليه.

وهذا التصوّر أيضاً خاطئ؛ لأنّ الخصوصيّة، وهي الوجود المفروغ عنه لا يكون داخلاً تحت العلم إلاّ بمقدار معرّفيّة هذا الجامع، ومقدار معرّفيّته يلائم كلا الطرفين لا محالة.

والتحقيق: أنّ هناك خصوصيّتين يمكن إبرازهما لجعل الجامع المعلوم محتمل الإباء عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ:

الخصوصيّة الاُولى: توجد في بعض موارد العلم الإجماليّ لا في جميع موارده، وتلك الخصوصيّة مستمدّة من تحديد خارجيّ للمعلوم بالإجمال ـ أي: تكون بلحاظ وجوده الخارجيّ ـ وتوضيح ذلك: أنّ العلم الإجماليّ بلحاظ سبب تكوّن العلم ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن لا تكون نسبة سببه إلى كلّ من الطرفين على حدّ سواء، بخلاف نفس العلم الذي تكون نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وذلك كما لو رأينا الدخان يتصاعد من جانب أحد الكتابين لا نراه بأعيننا كي نميّزه من الآخر، فعلمنا باحتراق أحدهما بدليل إنّيّ وهو تصاعد الدخان الذي ليست نسبته إلى احتراق الكتابين على حدّ سواء، بل هو معلول لأحدهما المعيّن في الواقع، أو رأى ثقة ـ نقطع بعدم كذبه ـ احتراق أحدهما، فأخبرنا به فعلمنا باحتراق أحدهما بإخبار الثقة الذي هو أيضاً معلول لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كليهما على حدّ سواء، وكما لو رأينا النار توجّهت نحو أحد الكتابين ولم نره بأعيننا كي نميّزه من الآخر فعلمنا باحتراق أحدهما بالدليل اللمّيّ، وهو توجّه النار نحوه الذي يكون علّة لاحتراق أحدهما المعيّن في الواقع وليست نسبته إلى كلا الطرفين على حدّ سواء، فسبب العلم في أمثال هذه الموارد يركِّز في نفسه على فرد معيّن بحسب الواقع صار مجهولاً عندنا لجهة من الجهات، ومردّداً بين فردين فأوجب تحقّق العلم الإجماليّ.

277

الثاني: أن تكون نسبة سبب العلم كنفس العلم إلى جميع الأطراف على حدّ سواء، وذلك بأن لا يكون سبب العلم مركِّزاً على أحد الأطراف، بل يكون مصبّ إثباته في نفسه هو عدم اجتماع أمرين مثلاً، فلا محالة يحصل العلم الإجماليّ بانتفاء أحدهما، وذلك يكون لأحد وجهين:

الأوّل: أن يفرض أنّ سبب العلم هو تجمّع احتمالات في جميع الأطراف ممّا يشكّل كلّ واحد منهما قرينة ناقصة على الجامع بين الأطراف، فحصل العلم بالجامع نتيجة لتكاثف الاحتمالات عليه ممّا يوجب التحوّل إلى العلم وفق ضوابط وقوانين معيّنة، فنسبة سبب العلم إلى جميع الأطراف على حدّ سواء، كما لو علمنا بمساورة الكافر لبعض ما حوله من الأواني في فترة طويلة من الزمن نتيجة تجمّع احتمالات المساورة لهذا الإناء أو ذاك، فسبب العلم هنا لا يركِّز في نفسه على فرد معيّن في الواقع، بل هو يركِّز ابتداءً على نفي اجتماع عدم المساورة في تمام الأطراف.

والثاني: أن يفرض أنّ سبب العلم وإن لم يكن عبارة عن تجمّع الاحتمالات من الأطراف بل كان برهاناً من البراهين، لكن هذا البرهان إنّما يبرهن بالمطابقة على عدم الاجتماع، مثاله: ما لو ادّعى شخصان النبوّة قبل خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله) وكذّب كلّ منهما الآخر، فعلمنا إجمالاً بأنّ أحدهما غير نبيّ ببرهان أنّهما لو كانا نبيّين للزم كونهما نبيّين كاذبين يكذّب كلّ منهما الآخر، ومثال آخر لذلك: أنّه ادّعى كلّ واحد من شخصين أنّه اُرسل نبيّاً بالنسبة لشخص واحد في زمان واحد وفي حكم واحد، فعلمنا بكذب أحدهما بناءً على أنّ البرهان يقتضي عدم صحّة إرسال نبيّين إلى شخص واحد في زمان واحد لحكم واحد.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه في القسم الأوّل، وهو ما لو لم تكن نسبة السبب إلى كلا الطرفين على حدّ سواء يكون المعلوم بالإجمال محدّداً بحدّ خارجيّ وهو عنوان

278

الفرد المنتسب إلى ذلك السبب، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بنكتة الانطباق، فلو علمنا باحتراق كتاب الهندسة بالنار مثلاً، كان علمنا الإجماليّ باحتراق أحد الكتابين ـ الناتج من رؤية تصاعد الدخان من جانب أحدهما، أو من إخبار الثقة باحتراقه، أو من رؤية توجّه النار إليه ـ غير منحلّ بالعلم التفصيليّ بالانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّ الحدّ الخارجيّ المحرز في المقام محتمل الإباء عن الانطباق عليه. وأمّا في القسم الثاني فلا يوجد هناك تحديد خارجيّ للمعلوم بالإجمال؛ إذ المفروض أنّ نسبة سبب العلم إلى كلا الفردين على حدّ سواء، فلا مورد للقول بأنّنا لا ندري أنّ الفرد المنتسب إلى هذا السبب أهو هذا أو ذاك؟

وقد يقال: إنّ هذا الملاك لعدم الانحلال وإن كان صحيحاً في القسم الأوّل بلحاظ المعلوم بالإجمال المتحصّص بقيد خارجيّ، لكنّه لا يوجب بقاء تنجيز العلم الإجماليّ بلحاظ متعلّق الحكم الشرعيّ وموضعه، فلو رأينا مثلاً توجّه قطرة الدم إلى أحد الماءين فحصل علم إجماليّ بنجاسة أحدهما، ثمّ علمنا تفصيلاً بنجاسة واحد معيّن منهما، فصحيح أنّ العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما المحدّدة بالانتساب إلى تلك القطرة من الدم غير منحلّ بالعلم التفصيليّ لعدم معلوميّة الانطباق، ولكن هذا العلم الإجماليّ لا أثر له في عالم التنجيز؛ لأنّ التكليف إنّما تعلّق بترك شرب المائع النجس بما هو نجس، لا بترك شرب المائع الذي تنجّس بتلك القطرة بما هو كذلك، وتأثير العلم الإجماليّ بالتكليف في تنجيز الأطراف إنّما هو رهين لتردّد الانكشاف في مرتبة الحدّ الذي تعلّق به التكليف، وفي مرتبة هذا الحدّ ـ وهو جامع النجاسة ـ لا تردّد في الانكشاف، بل يعلم بنجاسة هذا الفرد ولا يعلم بنجاسة ذاك الفرد، والتردّد في هذا الانكشاف إنّما هو واقع في مرتبة حدّ آخر غير داخل في دائرة التكليف، وهو كون النجاسة ناشئة من تلك القطرة، فلا

279

تردّد ولا إجمال عندنا بلحاظ ما هو موضوع للتكليف، وإن شئت فعبّر بأنّ العلم الإجماليّ انحلّ بلحاظ معروض التكليف وإن لم ينحلّ بلحاظ عنوان آخر غير معروض للتكليف.

والجواب(1): أنّ الحصّة التوأم لقيد النشوء عن تلك القطرة لها تعيّن ذاتيّ في الواقع، وهي موضوع للحكم الشرعيّ ضمن موضوعيّة جامع النجس، والتردّد ثابت بالنسبة إليها، وما نقوله في باب متعلّق الأحكام من أنّه إمّا مطلق أو مقيّد، ولا يتصوّر خروج القيد والتقيّد من تحت التكليف مع اختصاص الحكم بالحصّة التوأم لا يبطل التفاتنا في المقام إلى الحصّة التوأم؛ وذلك لأنّه في عالم المفاهيم لا يوجد تعيّن مفروض للشيء خارجاً، فإن لم يؤخذ القيد أو التقيّد فيه كان الحكم ـ لا محالة ـ مطلقاً، وإن اُخذ فيه ذلك كان مقيّداً، فلا نتصوّر تعلّق الحكم بخصوص الحصّة التوأم فقط مع خروج القيد والتقيّد عن الموضوع، فالأمر بالصلاة مثلاً، إمّا هو أمر بالصلاة على الإطلاق فينطبق على الصلاة خارج المسجد أيضاً، أو أمر بالصلاة بقيد كونها في المسجد فيكون مقيّداً، ولا نتصوّر اختصاصه بالحصّة التوأم لكونها في المسجد مع خروج القيد والتقيّد عن الموضوع.

أمّا فيما نحن فيه فنحن نتكلّم في العلم والنظر التصديقيّ مع الإجمال والتردّد الموجود فيه، لا في عالم المفاهيم والنظر التصوّريّ البحت، فهناك تعيّن مفروض للشيء خارجاً يمكن افتراض التردّد في المكلّف به بلحاظ ذاك التعيّن رغم أنّ القيد والتقيّد خارجان عن متعلّق التكليف، ففي المثال الماضي نقول: إنّ الحصّة التوأم من النجاسة لقيد النشوء من تلك القطرة لها تعيّن ذاتيّ في الواقع، والتردّد



(1) هذا الجواب ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث العلم الإجماليّ، وقد ثبّتناه هنا كي لا نحتاج إلى تكرار شيء من المطلب في بحث العلم الإجماليّ.

280

ثابت بالنسبة لها، ولا يضرّنا خروج هذا القيد والتقيّد به عن دائرة التكليف، وكذلك لو علم إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين؛ لأنّ الثقة أخبر بوجوب إحداهما معيّناً ولم ندرِ أنّه أخبر بأيّة منهما، وعلمنا تفصيلاً بوجوب إحداهما بالتعيين، فذات الحكم الذي أخبر به الثقة له تعيّن ذاتيّ في عالَمِه، والتردّد ثابت بالنسبة له، وهذا يكفينا في التنجيز وإن كان القيد والتقيّد بإخبار الثقة خارجين عن دائرة التكليف.

الخصوصيّة الثانية: ما يكون ثابتاً في جميع موارد العلم الإجماليّ، وهي وإن كانت دقيقة لا يلتفت إليها تفصيلاً إلاّ بعد الدقّة والتأمّل لكنّها بوجودها الارتكازيّ تحفظ ـ لا محالة ـ العلم الإجماليّ(1) وتوجب عدم الانحلال، وهي في الحقيقة ليست تحديداً خارجيّاً للمعلوم بالإجمال بلحاظ وجوده الخارجيّ كما هو الحال في الخصوصيّة الاُولى، بل هي تحديد ذهنيّ لنفس العلم يوجب عدم الانحلال بملاك الانطباق، ونحن نوضّح المقصود في المقام بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ المعلوم التفصيليّ هنا محدود بحدّ تقييديّ، والمعلوم الإجماليّ محدود بحدّ إطلاقيّ.

أمّا الأوّل: فبيانه: أنّ العلم بمساورة هذا الإناء بعينه مثلاً وليد لعلمين:

الأوّل: العلم بقضيّة شرطيّة، وهي أنّه لو كان جهازي الإحساسيّ سليماً حينما رأيت المسيحيّ يساور هذا الإناء المعيّن فقد ساور المسيحيّ هذا الإناء.

والثاني: العلم بتحقّق الشرط في هذه القضيّة الشرطيّة، فيتولّد منهما ـ لا محالة ـ العلم بتحقّق الجزاء، لكن ليس هذا علماً على كلّ تقدير، فإنّنا لا نعلم بمساورة هذا الإناء على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس، وإنّما نعلم بها على تقدير سلامته.

وقد تقول: كيف لا أعلم بالمساورة على كلّ تقدير مع أ نّي أعلم بالفعل بالمساورة؟



(1) أو قل: بوجودها الواقعيّ تبرهن على عدم الانحلال بملاك الانطباق.

281

لكنّا نقول: إنّك وإن كنت تعلم بالمساورة إلاّ أنّ هذا العلم إنّما صار فعليّاً من ناحية العلم بفعليّة الشرط، وهذا لا يخرج المعلوم التفصيليّ عن كونه معلوماً بعلم محدود بالحدّ الجزائيّ للقضيّة الشرطيّة، أي: بما هو مقيّد بالشرط ومرتبط به بنحو يستحيل إطلاقه لفرض فقدان الشرط.

وأمّا الثاني: فبيانه: أنّ المعلوم بالإجمال عبارة عن مساورة أحد هذه الأواني على كلّ تقدير ـ أي: سواء كان جهازي الإحساسيّ سليماً أو لا ـ لأنّ سبب هذا العلم لم يكن هو العلم بسلامة جهاز الإحساس، وإنّما كان حساب الاحتمالات المحفوظ على كلا التقديرين.

الأمر الثاني: بعد أن عرفت أنّ المعلوم بالإجمال محدود بحدّ إطلاقيّ، والمعلوم بالتفصيل محدود بحدّ تقييديّ وإن كانا حدّين ذهنيّين قلنا: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بملاك الانطباق على المعلوم التفصيليّ لا يعقل إلاّ بعدم التنافي بين الحدّين، أو بتبدّل أحد الحدّين إلى الآخر حتّى ينطبق أحدهما على الآخر، والتنافي بين الإطلاق والتقييد واضح لا يمكن إنكاره، فلا يعقل الانحلال بملاك الانطباق إلاّ بأن يفقد العلم الإجماليّ حدّه الإطلاقيّ، أو يفقد العلم التفصيليّ حدّه التقييديّ، وكلاهما غير متحقّق في المقام:

أمّا الأوّل: فمعنى فقد العلم الإجماليّ إطلاقه هو أن لا نعلم إجمالاً على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس بمساورة أحد الأواني مع أنّنا نعلم ذلك بالوجدان.

وأمّا الثاني: فمعنى فقد العلم التفصيليّ تقييده هو أن نعلم بمساورة هذا الإناء المعيّن حتّى على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس، مع أنّنا لا نعلم بذلك بالوجدان.

وهذا هو وجه الفرق بين مثل ما نحن فيه وبين ما لو كان مصبّ الدليلين ابتداءً شيئاً واحداً، كما لو قطعنا بأمر تفصيلاً بدليلين، فالقطع به بكلّ واحد من الدليلين

282

وإن كان لولا الدليل الآخر مقيّداً، فلا نقطع بثبوت ذلك على تقدير حصول الغفلة في ذلك الدليل مثلاً، لكنّه بمجموع الدليلين يحصل إطلاق في العلم من كلا الجانبين ويتحقّق علم واحد بذلك الأمر مطلق من ناحية تقدير الغفلة في هذا الدليل، وكذلك من ناحية تقدير الغفلة في ذاك الدليل، ولا يكون مقيّداً إلاّ بلحاظ تقدير الغفلة في كلا الدليلين، فالحدّان الثابت كلّ منهما لولا الدليل الآخر غير ثابتين عند اجتماع الدليلين، وإنّما الثابت حدّ ثالث مقيّد بما عرفت، بينما في المقام يكون الحدّان باقيين على حالهما كما اتّضح لك ذلك.

فيتحصّل ممّا ذكرناه: عدم صحّة انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بملاك الانطباق؛ لما نرى فيما بين العلمين من الاختلاف في الحدود الذهنيّة.

وإن شئت فقل: إنّ انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ بملاك انطباق الحدود يستلزم عدم وجود العلم الإجماليّ على أيّ تقدير، مع أنّ العلم الإجماليّ ـ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس ـ ثابت بالوجدان لا بمعنى كون العلم تقديريّاً، بل هو فعليّ متعلّق بقضيّة اُخذ فيها هذا التقدير.

إن قلت: إنّنا نلتزم بانحلال أحد تقديري العلم الإجماليّ بالانطباق، فنقول: إنّ العلم الإجماليّ بمساورة أحد الأواني ـ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس ـ وإن لم ينحلّ بالعلم التفصيليّ؛ لأنّ العلم التفصيليّ ثابت على تقدير آخر لا على هذا التقدير، لكن العلم الإجماليّ بمساورة أحد الأواني ـ على تقدير سلامة جهاز الإحساس ـ قد انحلّ بالعلم التفصيليّ الثابت على هذا التقدير.

قلت: إنّنا نعلم أنّ الفرد المعلوم بالإجمال ـ على التقدير الثاني ـ هو عين الفرد المعلوم بالإجمال على التقدير الأوّل، فإذا احتمل إباء الفرد المعلوم بالإجمال ـ على التقدير الأوّل ـ عن الانطباق على الفرد المعلوم بالتفصيل فلا محالة يحتمل إباء هذا الفرد أيضاً عن ذلك لتقيّده بهذا القيد، وليس حال هذا القيد حال ما مضى

283

من تقييد الفرد المعلوم بالإجمال بواقعه، والذي أبطلناه فيما مضى بأنّ الواقع ليس داخلاً تحت العلم إلاّ بمقدار معرّفيّة الجامع الملائم لجميع الأطراف، أو قل: إن اُريد التقييد بذات الواقع فهو خارج عن دائرة العلم، وإن اُريد التقييد بعنوان الواقع الكلّيّ فهو قابل للانطباق على المعلوم بالتفصيل. أقول: إنّ ما نحن فيه لا يقاس بذلك، فإنّ الفرد في المقام قد قيّد بعنوان داخل تحت العلم محتمل الإباء عن الانطباق وهو كونه ذاك الفرد المعلوم على التقدير الأوّل.

وبكلمة اُخرى: إنّ تقييد هذا الفرد بكونه ذاك الفرد المنكشف ـ على التقدير الأوّل ـ ليس تقييداً خارجيّاً للمعلوم بالإجمال ـ أي: مأخوذاً من الخارج ـ وإنّما مرجع هذا التقييد بحسب الحقيقة إلى أنّ الفرد المنكشف ـ على التقدير الثاني ـ منكشف بنفس الانكشاف الثابت على التقدير الأوّل، وهذا يعني أنّ لدينا علماً واحداً محدوداً بحدّ إطلاقيّ شامل لكلا التقديرين لا يمكن أن ينحلّ بسبب الانطباق على العلم التفصيليّ المحدود بحدّ تقييديّ، لاستحالة الانطباق عند تباين الحدّين.

الملاك الثاني: زوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ، فإذا زال سببه انحلّ العلم الإجماليّ لا محالة، وهذا الملاك ملازم دائماً لعدم وجود التحديد الخارجيّ للمعلوم بالإجمال المحتمل الإباء عن الانطباق.

وتوضيح ذلك: أنّك قد عرفت أنّ المعلوم بالإجمال تارةً يوجد له تحديد خارجيّ، وذلك فيما لو كانت نسبة سبب العلم إلى الأطراف لا على حدّ سواء، واُخرى لا يوجد له حدّ خارجيّ وهو ما لو كان الدليل مركّزاً بالمباشرة على نفي اجتماع أمرين مثلاً، فيعلم إجمالاً بعدم أحدهما سواء كان ذلك على أساس تجمّع الاحتمالات، أو على أساس البرهان، ونقول في المقام: إنّ القسم الأوّل لا يوجد فيه وجه لزوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ، فمهما لم تكن نسبة

284

سبب العلم إلى الأطراف على حدّ سواء فلا سبيل إلى الانحلال، والقسم الثاني يوجد فيه وجهان لزوال سبب العلم الإجماليّ بحدوث العلم التفصيليّ:

الوجه الأوّل: يختصّ بما لو كان سبب العلم الإجماليّ تجمّع الاحتمالات في الأطراف، وهو أنّه مع حصول القطع في أحد الأطراف سقط عدد الاحتمالات المتجمّعة والمتكاتفة لإثبات الجامع بحدّه الجامعيّ عن النصاب المفروض لتوليد العلم، فلا محالة ينحلّ بذلك العلم الإجماليّ، ففي مثال المساورة الماضي لا نعلم بعد العلم التفصيليّ بمساورة أحد الأواني إجمالاً إلاّ على تقدير عدم سلامة جهاز الإحساس؛ إذ على هذا التقدير لم ينقص عدد الاحتمالات المتكاتفة في إثبات الجامع(1).

 


(1) لا يخفى أنّ كلّ احتمال من احتمالات الأطراف كان منصبّاً على أحد الأفراد بحدّه الفرديّ لا على الجامع بحدّه الجامعيّ، وإنّما تولّد العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ بنكتة أنّ الجامع هو القدر المشترك بين هذه الأفراد التي انصبّت عليها الاحتمالات، فلم تتكاتف الاحتمالات في الإثبات إلاّ بقدر الجامع بحدّه الجامعيّ، وعندئذ يبقى هنا سؤال، وهو أنّ العلم التفصيليّ الذي تعلّق بأحد الأفراد حاله حال الاحتمالات المتعلّقة بباقي الأفراد في التعلّق بالفرد بحدّه الفرديّ دون الجامع بحدّه الجامعيّ، وفي أنّ القدر المشترك بين ما يكشفه هذا العلم وما يكشفه باقي الاحتمالات إنّما هو الجامع، فلماذا لا يتكاتف هذا العلم مع باقي الاحتمالات في إثبات الجامع بحدّه الجامعيّ؟ ولماذا سقط من الحساب فاختلّ النصاب المفروض لتوليد العلم الإجماليّ؟ هل سقط من الحساب لأجل أنّ الانكشاف الموجود في العلم أقوى منه في الاحتمالات؟ ولماذا تكون الأقوائيّة موجبة للسقوط من الحساب؟ نعم، لو تعلّق العلم التفصيليّ بعدم المساورة في إناء معيّن كان سقوط ذلك الاحتمال من الحساب أمراً مفهوماً؛ لأنّ الاحتمال هنا مات بزوال الكشف

285

الوجه الثاني: يعمّ مطلق موارد نفي السبب لعنوان الاجتماع سواء كان ذلك بحساب الاحتمالات أو بالبرهان، وهو أنّه لو قام برهان مثلاً على عدم اجتماع هذين المدّعيين للنبوّة في الصدق، فعلمنا إجمالاً بعدم نبوّة أحدهما، فسبب حصول العلم الإجماليّ مركّب في الحقيقة من أمرين، وتوضيح ذلك: أنّ الممكنات العقليّة ـ بقطع النظر عن هذا البرهان ـ أربعة: نبوّتهما معاً، وعدم نبوّتهما معاً، ونبوّة هذا دون ذاك، وبالعكس، فهذه الاُمور الأربعة تستنفد عالم الإمكان في هذا المطلب، فإذا قام البرهان على بطلان أحد هذه الشقوق اضطرّ النفس ـ لا محالة ـ إلى التوجّه إلى شقّ آخر غير هذا الشقّ، فإن لم يرَ مرجّحاً لبعضها على بعض في عالم التوجّه توجّه ـ لا محالة ـ إلى الجميع على حدّ سواء وتولّد العلم الإجماليّ بينها، فعلمه الإجماليّ بعدم نبوّة أحدهما يكون بسبب مركّب من أمرين: أحدهما البرهان على عدم نبوّتهما معاً، والثاني عدم الترجيح في عالم توجّه النفس بين


الناقص وانقلابه إلى النقيض لا بتصاعد مستوى الكشف ووصوله إلى حدّ العلم، فالكشف الذي زال يسقط عن القدرة على التكاتف مع باقي الكشوف الناقصة لإثبات الجامع بحدّه الجامعيّ، ولكن الكشف الذي تقوّى إلى حدّ العلم لماذا يسقط عن التأثير في المقام؟

وجواب هذا السؤال هو عبارة عن أنّ العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ كان وليد عدم المرجّح في النفس للتوجّه في عالم الانكشاف القطعيّ إلى طرف دون طرف، وهذا العامل مختلّ في العلم التفصيليّ المتعلّق بطرف معيّن، فإنّ الانكشاف القطعيّ توجّه هنا إلى طرف خاصّ فلم يكن ترجيح بلا مرجّح.

وبهذا يتّضح أنّ هذا الوجه لبيان زوال سبب العلم يجب إرجاعه إلى مايأتي من الوجه الثاني الناظر إلى إبراز عامل الترجيح بلا مرجّح وتأثيره في العلم الإجماليّ.