289

الإجماليّ بنجاسة أحد الأواني العشرة، فإن حصل بعد ذلك العلم التفصيليّ بوثاقة واحد منهم بهذه الدرجة انحلّ العلم الإجماليّ بالوثاقة لزوال السبب، وبالتالي انحلّ العلم الإجماليّ بالنجاسة، وإن لم يحصل العلم التفصيليّ بوثاقة واحد منهم، ولكن حصل العلم التفصيليّ بنجاسة إناء معيّن من تلك الأواني لم ينحلّ شيء من العلمين الإجماليّين، أمّا العلم الإجماليّ بالوثاقة فلعدم تحقّق علم تفصيليّ في أحد أطرافه كي ينحلّ به، وأمّا العلم الإجماليّ بالنجاسة فلأنّ نسبة سببه وهو إخبار الثقة إلى أطراف العلم الإجماليّ ليست على حدّ سواء، وعندئذ لا يرتفع سبب العلم الإجماليّ، والوجدان حاكم في الأوّل بالانحلال وفي الثاني بعدم الانحلال، كما أنّ البرهان كذلك كما عرفت.

 

الانحلال الحكميّ:

وأمّا ا لجهة الثانية: وهي البحث عن الانحلال الحكميّ بالعلم التفصيليّ في موارد عدم الانحلال الحقيقيّ فنقول:

مقصودنا من الانحلال الحكميّ هو بطلان منجّزيّة العلم الإجماليّ رغم وجوده.

والانحلال الحكميّ تارةً يكون بلحاظ القواعد العقليّة من تنجيز العلم الإجماليّ من ناحية، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بناءً على الإيمان بها ـ من ناحية اُخرى من دون إدخال الاُصول الشرعيّة المؤمّنة في الحساب، واُخرى يكون بلحاظ الاُصول الشرعيّة المؤمّنة:

 

1 ـ بلحاظ القواعد العقليّة:

أمّا باللحاظ الأوّل: وهو قصر النظر على حكم العقل، فلعلّ أشهر ما بيّن في المقام ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذي تعلّق

290

العلم التفصيليّ بأحد اطرافه يستحيل أن يتنجّز بالعلم الإجماليّ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الإطلاقيّ القابل للانطباق على كلّ من الطرفين، أي: ما نعبّر عنه عرفاً بقولنا: الجامع سواء كان هذا أو ذاك، وهذا يستحيل تنجّزه بالعلم الإجماليّ، فإنّ قابليّته للتنجّز به فرع قابليّة كلا الطرفين لذلك، والطرف المعلوم بالتفصيل غير قابل لذلك؛ لأنّه تنجّز بالعلم التفصيليّ، ويستحيل أن يتنجّز مرّتين. نعم، الجامع المقيّد بالانطباق على خصوص الطرف الآخر يمكن أن يتنجّز لكنّه غير معلوم بالإجمال، فما هو المعلوم بالإجمال لا يقبل التنجيز، وما يقبل التنجيز غير معلوم بالإجمال(1).

أقول: إنّ دعوى خروج الجامع عن قابليّة التنجيز بخروج أحد طرفيه(2) عنها


(1) راجع المقالات، ج 2، ص 66 و67، ونهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 251 و 252.

(2) ولا يخفى أنّ خروج الجامع عن قابليّة التنجيز بخروج أحد طرفيه قد يكون بمعنى أنّ أحد طرفيه في ذاته خارج عن دائرة حقّ مولويّة المولى، من قبيل ما لو علمنا إجمالاً إمّا بوجوب الصلاة علينا، أو بأنّ عدد السماوات سبع، وهذا خارج عن بحثنا في المقام.

وتحقيق الكلام فيه: أنّه بناءً على أن يكون المقصود بالجامع الجامع بحدّه الجامعيّ فمن الواضح أنّ الجامع بحدّه الجامعيّ بين ما يكون داخلاً في دائرة حقّ المولويّة وما لا يكون داخلاً فيها لا يمكن أن يكون داخلاً في دائرة حقّ المولويّة، وبناءً على أن يكون المقصود به الواقع المردّد بين أمرين باعتبار افتراض تعلّق العلم بالواقع قد يدّعى أنّ العلم ينجّز الواقع على تقدير انطباقه على ما يقبل التنجّز، وعندئذ يتنجّز علينا وجوب الصلاة؛ لأنّ احتمال التنجيز منجّز ولا تجري البراءة العقليّة، ولكن قد يقال بصحّة النكتة الثانية

291

مبنيّة على نكتة، وهي دعوى أنّ التنجيز الذي عرض على الجامع الملحوظ هنا على نحو مفاد النكرة وصِرف الوجود يسري منه إلى الأفراد على هذا النحو، وذلك سنخ ما يقال في الوجوب الشرعيّ المتعلّق بصرف الوجود من أنّه يسري إلى الأفراد على سبيل البدل، فإذا وجب إكرام عالم كان كلّ فرد من أفراد العالم واجب الإكرام بدلاً عن باقي الأفراد، وكذلك في المقام حينما علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الأواني، وكان الجامع هو نجاسة أحد الأواني ملحوظاً بنحو النكرة التي يكون انطباقها على الأفراد بدليّاً، فتنجّز الجامع كان لابدّ من سريان هذا


التي سيشير إليها اُستاذنا الشهيد من إمكانيّة دعوى أنّ العلم إنّما ينجّز بشرط إحراز قابليّته للتنجيز، أو قل: بشرط أن نعلم تفصيلاً بكون متعلّقه قابلاً للتنجيز، وإلاّ لكان الشكّ البدويّ كافياً في حصول التنجيز؛ لأنّه يساوق العلم الإجماليّ بأحد النقيضين وهما التكليف وعدمه، وهذا العلم متعلّق بالواقع فنحن نحتمل العلم بالتكليف.

وقد يكون بمعنى أنّ أحد الطرفين قد تنجّز بمنجّز آخر فلا يقبل التنجيز، وهذا هو مورد بحثنا في المقام، والتحقيق فيه عدم إمكان تطبيق قاعدة أنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يقبل التنجيز سواء قصد الجامع بحدّه الجامعيّ، أو قصد به الواقع المردّد، أمّا على الأوّل فلمنع سريان التنجيز من الجامع إلى الأفراد أوّلاً، ولعدم المانع ثانياً من كون سريانه إلى أحد الفردين بالعلّيّة التامّة وإلى الفرد الآخر بالتحوّل إلى جزء العلّة على أساس اجتماع علّتين على معلول واحد، على أنّ المسألة أجنبيّة عن باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة كما سيشير إلى ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وأمّا على الثاني فأيضاً لعدم المانع من تنجّز الطرف المنجّز بمنجّز سابق بهذا العلم بقاءً إمّا بتحوّل كلّ من العلّتين بلحاظ هذا الطرف إلى جزء العلّة، أو بلحاظ كون المسألة أجنبيّة عن باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة.

292

التنجّز إلى تمام الأطراف بدليّاً، فإذا لم يمكن ذلك لتنجّز بعض الأطراف بالعلم التفصيليّ سقط العلم الإجماليّ عن تأثيره في تنجيز الجامع(1).

 


(1) لا يخفى أنّ هذه النكتة لا يمكن أن تكون توجيهاً لكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إذا أردنا أن نحمل كلامه على ما ينسجم مع مبانيه المشروحة في بحث العلم الإجماليّ في المقالات، ج 2، ص 84 ـ 87، وفي نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 299 و ص 309. بل فيما ذكره في المقام ما لا ينسجم مع تفسير كلامه بالتفسير الذي يتحمّل هذه النكتة حتّى مع غضّ النظر عن مبانيه في العلم الإجماليّ.

وتوضيح المقصود: أنّه قد يتراءى لمن يراجع كلام المحقّق العراقيّ في المقام في بحث البراءة والاحتياط أنّ مقصوده بالجامع الذي تعلّق به العلم الإجماليّ هو الجامع بين الطرفين، أو الأطراف الذي تكون نسبته إليها نسبة الكلّ إلى أفراده، وعليه فهو يقصد في المقام: أنّ العلم الإجماليّ لو نجّز الجامع لسرى التنجيز إلى كلّ الأطراف بدليّاً، بينما لا يمكن سريانه إلى الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيليّ، وهذا التفسير لكلامه تكون النكتة المناسبة له ما جاء في المتن من دعوى أنّ أعراض الجامع لابدّ أن تسري إلى أفراده.

إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا ليس هو مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، ويشهد لذلك أمران:

الأمر الأوّل: أنّ هذا لا ينسجم مع مبانيه المشروحة في بحث العلم الإجماليّ، فهو لا يرى أنّ العلم الإجماليّ قد عرض على الجامع الذي نسبته إلى الأطراف نسبة الكلّيّ إلى الأفراد فنجّز الجامع، ويسري التنجّز من الجامع إلى الأفراد بدليّاً، ثمّ تجب الموافقة القطعيّة على أساس تعارض الاُصول مثلاً، وإنّما يرى أنّه قد عرض العلم على الجامع بمعنىً آخر، وهي الصورة الإجماليّة المنطبقة على الواقع ـ على شرح وبيان يأتي في محلّه إن شاء الله ـ ومن هنا يرى أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع ابتداءً، ولا يقتصر تنجيزه على قدر الجامع بمعنى الكلّيّ الملحوظ على نحو صرف الوجود، وعلى هذا يبني فكرته

293

ويرد على التسليم بهذه النكتة ما بيّناه في بحث الأوامر والنواهي من أنّ ما يعرض على الجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود لا يسري إلى الأفراد لا بنحو العرضيّة، ولا بنحو البدليّة. نعم، ما يعرض على الجامع المأخوذ بنحو مطلق الوجود ـ أي: بمفاد اسم الجنس ـ يسري إلى الأفراد بنحو العرضيّة.

نعم، بالإمكان الاستغناء عن هذه النكتة لو وافقنا على نكتة اُخرى بدلاً عنها، إلاّ أنّ التقريب عندئذ يصبح أجنبيّاً عمّا أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وتلك النكتة الاُخرى هي أن نقول: إنّنا وإن سلّمنا أنّ الجامع في ذاته ليس ممّا يجزم بعدم قابليّته للتنجّز بعد أن كان أحد أطرافه منجّزاً بالعلم التفصيليّ، ولكن يبقى في المقام احتمال عدم قابليّته للتنجّز؛ إذ المعلوم بالإجمال لا يُعلم أنّه هل هو بحسب الواقع منطبق على المعلوم بالتفصيل، أو منطبق على الطرف الآخر، فإن كان منطبقاً على المعلوم بالتفصيل استحال تنجّزه؛ لأنّه منجّز بالعلم التفصيليّ، فيلزم اجتماع


عن علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، حيث يرى أنّه بعد أن تنجّز الواقع أصبح احتمال التكليف في كلّ واحد من الطرفين احتمالاً للتكليف المنجّز، واحتمال التكليف المنجَّز منجِّز، ولا يمكن رفع هذا التنجيز بتأمين شرعيّ.

إذن فالتفسير المنسجم مع هذه المباني لكلامه الوارد في بحث البراءة والاحتياط، والذي لا تأبى عنه عبارته هو أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ في المقام لا يمكنه أن ينجّز تلك الصورة الإجماليّة؛ لأنّ تنجيزه إيّاها يعني تنجيزها على كلّ تقدير، في حين أنّه ليس بالإمكان تنجيزها على تقدير انطباقها واقعاً على الطرف المعلوم بالتفصيل؛ لأنّه قد تنجّز بالعلم التفصيليّ.

الأمر الثاني: يأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ فيما بعد هذا التعليق بتعليقين فانتظر.

294

المثلين، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر كان قابلاً للتنجّز، وعندئذ إن قلنا: إنّه تكفي في منجّزيّة العلم القابليّة الواقعيّة للتنجيز فهنا احتمال التنجّز موجود، واحتمال التنجّز بنفسه منجّز. وإن ادّعينا أنّه يشترط في منجّزيّة العلم إحراز قابليّته للتنجيز، فبضمّ دعوى هذه الكبرى: وهي النكتة البديلة في المقام إلى صغرى عدم إحراز القابليّة للتنجيز فيما نحن فيه يثبت عدم التنجيز(1).

وعلى أيّة حال، فهنا تساؤلان قد يطرحان بوجه المحقّق العراقيّ(رحمه الله):

الأوّل: أنّه لماذا تفرضون أنّ منجّزيّة العلم التفصيليّ مفروغ عنها، ثمّ بعد هذا يقع العول والنقصان على العلم الإجماليّ، ولماذا لا تفرضون العكس، بأن يكون العلم الإجماليّ منجّزاً ويقع العول والنقصان على العلم التفصيليّ؟

والثاني: أنّه لماذا لا تفرضون المقام من قبيل اجتماع علّتين مستقلّتين على



(1) إنّ هذه النكتة وإن كانت غير مذكورة في كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) كما أنّ النكتة الاُولى أيضاً غير مذكورة فيه، ولا يفهم من كلام المحقّق العراقيّ أكثر من دعوى أنّ تنجيز العلم للواقع مشروط بقابليّة المعلوم بالإجمال للتنجيز على كلّ تقاديره المحتملة، ولكن هذه النكتة أنسب بكلام المحقّق العراقيّ من النكتة الاُولى، فإنّ النكتة الاُولى إنّما تناسب فرض منجّزيّة العلم الإجماليّ للجامع بدليّاً، والقول بسريان الحكم الثابت للجامع بدليّاً إلى الأفراد كما اتّضح فيما سبق، وهذا أجنبيّ عن مبنى المحقّق العراقيّ، في حين أنّ هذه النكتة إنّما تناسب فرض منجّزيّته للواقع كما هو مختار المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

فيقال عندئذ: إنّ الواقع إن كان منطبقاً على المعلوم بالتفصيل فهو غير قابل للتنجيز، وإن كان منطبقاً على الطرف الآخر فهو قابل للتنجيز، فبناءً على دعوى اشتراط منجّزيّة العلم بإحراز القابليّة للتنجيز يقال في المقام: إنّ العلم سقط عن التأثير مثلاً، إذن فهذه النكتة أكثر انسجاماً مع مباني المحقّق العراقيّ من النكتة الاُولى.

295

معلول واحد، فيصير مجموعهما علّة واحدة كما هو الحال في الظواهر الطبيعيّة؟(1).

 


(1) وفي كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات، وفي نهاية الأفكار ما يفترض أن يكون جواباً على كلا السؤالين، فإنّ المفهوم من الكتابين: أنّ العلم التفصيليّ أثره تنجيز الفرد، والعلم الإجماليّ أثره تنجيز الجامع، أو الصورة الإجماليّة الذي لا يكون إلاّ بتنجيز تمام الأفراد، فقد اجتمع العلمان على تنجيز الفرد المعلوم تفصيلاً، فيصبح كلّ منهما جزء علّة لتنجيزه. وإذا تحوّل العلم الإجماليّ إلى جزء علّة للتنجيز لم يمكنه تنجيز الجامع وبالتالي تنجيز الفرد الآخر؛ لأنّ جزء العلّة غير كاف في التأثير.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ شأنه الإجابة على كلا هذين السؤالين، وهو في نفس الوقت هو الأمر الثاني الذي وعدنا فيما سبق بتعليقين بذكره هنا والذي يكون شاهداً على أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) لا يقصد في المقام تنجّز الجامع بالعلم ثمّ سريان التنجّز إلى الأفراد من باب سريان أعراض الكلّيّ إلى أفراده؛ وذلك لأنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) وغيره معترفون في موارد سريان أعراض الكلّيّ إلى أفراده بأنّ تحوّل العلّة إلى جزء علّة بلحاظ بعض الأفراد، لا لنقص في العلّة، بل للالتقاء صدفة بعلّة اُخرى انصبّت على ذاك الفرد مع بقائه في حدّ ذاته علّة تامّة لا يمنع عن تماميّة التأثير بالنسبة لفرد آخر، ولذا لم يناقش أحد في أنّه لو اجتمع حكمان متماثلان، كوجوب إكرام العالم، ووجوب إكرام الهاشميّ على مادّة الاجتماع، وهو العالم الهاشميّ، وأصبح كلّ منهما جزء علّة لوجوب مؤكّد في هذا الفرد، أو قل: أصبح كلّ من الملاكين جزء علّة للحبّ في الفرد الذي كان مادّة للاجتماع لم يضرّ ذلك بتماميّة التأثير بلحاظ الأفراد الاُخرى غير مادّة الاجتماع؛ لأنّ العلّة لم تبتلِ بنقص في ذاتها.

فالظاهر: أنّ مقصود المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ـ كما مضى فيما قبل هذا التعليق بتعليقين ـ هو أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع أو الصورة الإجماليّة، والواقع إنّما يكون قابلاً للتنجيز إن

296

ونقول بالنسبة للسؤال الأوّل: إنّه بحسب الحقيقة إنّما فرض الانسلاخ عن التنجيز بشأن العلم الإجماليّ دون العلم التفصيليّ(1)؛ لأنّ انسلاخ العلم التفصيليّ عن المنجّزيّة حفاظاً على منجّزيّة العلم الإجماليّ معناه أنّه على تقدير كون المعلوم بالإجمال منطبقاً على الطرف الآخر، لا عقاب على ارتكاب الطرف المعلوم بالتفصيل إلاّ من باب التجرّي من ناحية احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه؛ وذلك لأنّ برهان استحالة اجتماع سببين على مسبّب واحد اقتضى القول بأنّه لا عقاب على من ارتكب الطرف المقطوع حرمته بما هو معصية قطعيّة. واستهجان هذا المطلب بديهيّ، وهذا بخلاف ما لو قيل: إنّه لا عقاب على ارتكاب الطرف الآخر؛ لبرهان استحالة اجتماع سببين على مسبّب واحد، فإنّ استعمال هذا البرهان لنفي العقاب على الطرف الآخر ليس فيه استهجان بديهيّ.

 


أمكن تنجيزه على كلّ التقادير المحتملة، فكأنّه(رحمه الله)يقول: إنّ هذا التنجيز الواحد لا يقبل التجزئة بلحاظ تعدّد التقادير المحتملة، فإن أصبح العلم بلحاظ بعض التقادير جزء علّة كان كذلك بلحاظ التقدير الآخر، ومعه يسقط عن التأثير الفعليّ في ذاك التقدير.

وهذا التفسير الذي نفهمه لكلام المحقّق العراقيّ منسجم تماماً مع كلّ ما في عبارته ما عدا التعبير بالجامع الذي قد يكون ظاهراً في إرادة ما تكون نسبته إلى الأفراد نسبة الكلّيّ إلى الأفراد، ولكن من السهل حمله على معنى الصورة الإجماليّة بالمعنى الذي تصوّره هو في باب العلم الإجماليّ.

(1) مضى أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) يقول بأنّ كلاًّ من العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ أصبح بالاجتماع جزء علّة، فالمعلوم بالتفصيل تنجّز بهما، والطرف الآخر لا منجّزيّة له؛ لأنّ جزء العلّة لو بقى وحده لا يؤثّر.

297

والتحقيق: أنّ كلّ هذه الكلمات بلا موضوع في المقام؛ لأنّ باب العلم والتنجيز ليس باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة حتّى يقال: إنّه اجتمع سببان للتنجيز، ويستحيل تعدّد العلّة على معلول واحد، ويستحيل تعدّد المعلول هنا، فيدّعى انسلاخ أحدهما عن العلّيّة فيتوجّه الانحلال الحكميّ مثلاً، أو يفرض مجموعهما علّة واحدة فلا يتوجّه الانحلال الحكميّ، وإنّما بابه باب إدراك العقل العمليّ لدائرة حقّ المولى، ويجب أن نرى ما هي دائرة حقّ المولويّة، ولا إشكال في أنّ تكليف المولى غير الواصل ليس داخلاً في دائرة حقّ المولويّة، وإنّما الداخل في هذه الدائرة هو التكليف الواصل، وتجب مراجعة العقل العمليّ لتشخيص أنّ أيّ درجة من الوصول داخلة في دائرة حقّ المولويّة؟ وبعد البناء على أنّ الداخل في هذه الدائرة هو التكليف الواصل بدرجة العلم ولو إجمالاً، بحيث تجب الموافقة القطعيّة للعلم الإجماليّ يجب أن نرى أنّ التكليف الواصل بالعلم الإجماليّ هل هو داخل في دائرة حقّ المولويّة حتّى مع تعلّق العلم التفصيليّ بأحد طرفيه أو لا؟ فإن قلنا: نعم، كان معنى ذلك عدم الانحلال، وإن قلنا: لا، كان معنى ذلك الانحلال من غير علاقة لما نحن فيه بمسألة تعدّد الأسباب إطلاقاً.

وحيث إنّنا ننكر أساساً قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موضوع لهذا البحث عندنا، ولكن لو سلّمنا القاعدة قلنا: إنّه تارةً يفترض أنّ العلم الإجماليّ ينجّز الواقع بحيث تجب موافقته القطعيّة، واُخرى يفرض أنّه ينجّز الواقع بمقدار إضافته إلى الجامع، وإنّما تجب موافقته القطعيّة من باب تعارض الاُصول، وثالثة يفرض أنّه ينجّز الجامع، وأيضاً إنّما يجب الاجتناب من الطرفين بملاك تعارض الاُصول. والفرق بين الثاني والثالث هو أنّه على الثاني ـ حيث إنّ فرضه فرض تعيّن للمعلوم بالإجمال ـ لو انكشف أنّ الحرام كان الفرد الآخر دون الفرد الذي تعلّق به العلم الإجماليّ لم يكن تنجّز وعقاب بغير ملاك التجرّي، بخلافه على الثالث.

298

فعلى الفرض الثالث لابدّ من توجّه الانحلال في المقام؛ لأنّ ما عدا الواحد في مورد العلم الإجماليّ داخل تحت التأمين، أي: لو ارتكب شخص كلا الطرفين وكان كلاهما في الواقع حراماً لا يعاقب أزيد من عقاب واحد، فإذا تنجّز أحد الطرفين بالعلم التفصيليّ لم يمكن بقاء الفرد الآخر على التنجّز مع الحفاظ على كون ما عدا الواحد تحت التأمين.

وعلى الفرض الأوّل أو الثاني، أعني: فرض تنجيز العلم الإجماليّ للواقع ولو بمقدار إضافته إلى الجامع يمكن القول بعدم الانحلال بأن يقال: إنّه على تقدير كون الواقع هو ذلك الفرد الآخر الذي لم يتعلّق به العلم التفصيليّ يكون المنجّز بالعلم الإجماليّ هو ذاك، وما عدا ذاك الذي لولا العلم التفصيليّ به لكان تحت الأمان تنجّز بالعلم التفصيليّ، بحيث لو ارتكبها كان مستحقّاً لعقابين: أحدهما العقاب على الحرام المعلوم تفصيلاً، والآخر العقاب على واقع المعلوم بالإجمال الذي هو غير المعلوم حرمته تفصيلاً، ولا معنى لافتراض كون تعلّق العلم التفصيليّ بأحد الفردين مخرجاً لواقع الحرام الآخر المعلوم بالإجمال عن التنجيز؛ إذ لا نتصوّر شيئاً يكون دخيلاً في كون الحكم الواصل داخلاً تحت حقّ المولويّة وعدمه عدا شدّة الوصول وضعفه، وتعلّق العلم التفصيليّ بذاك الفرد ليس له أيّ دخل في شدّة وصول هذا الفرد وضعفه(1).

 


(1) وقد تقاس مسألة انحلال العلم الإجماليّ بلحاظ الاُصول المؤمّنة العقليّة بمسألة انحلاله بلحاظ الاُصول المؤمّنة الشرعيّة، وذلك على مبنى عدم كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنّه لم يتعلّق إلاّ بالجامع، فلم ينجّز مباشرة إلاّ الجامع المنحفظ ضمن الموافقة الاحتماليّة، فكما يقال على هذا المبنى في الاُصول الشرعيّة بأنّها

299

 

2 ـ بلحاظ الاُصول الشرعيّة:

وأمّا باللحاظ الثاني: وهو الانحلال الحكميّ بالنظر إلى الاُصول المؤمّنة الشرعيّة، فالصحيح على غير مباني مدرسة المحقّق العراقيّ(رحمه الله)هو الانحلال، فإنّ عدم جريان الاُصول في الأطراف يجب أن يستند إمّا إلى محذور ثبوتيّ، أو إلى محذور إثباتيّ. أمّا المحذور الإثباتيّ فمنتف بعد تعلّق العلم التفصيليّ بأحد الأطراف، لعدم ابتلاء الأصل عندئذ بالمعارض، ولسان الدليل إثباتاً لا يقصر عن الدلالة على الأصل في بعض الأطراف عند عدم تحقّق موضوع الأصل في الطرف


إنّما تساقطت بالتعارض، ومع وجود منجّز خاصّ ببعض الأطراف ينتهي التعارض، فتجري الاُصول المؤمّنة الشرعيّة في باب باقي الأطراف، كذلك يقال على هذا المبنى في الأصل المؤمّن العقليّ، وهي البراءة العقليّة بأنّ تساقط الاُصول كان بالتعارض، وبعد اختصاص بعض الأطراف بمنجّز خاصّ به، كالعلم التفصيليّ تخرج البراءة العقليّة في باقي الأطراف عن المعارضة، فتجري وينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً.

ولكن الواقع أنّه بناءً على عدم تعلّق تنجيز العلم مباشرة إلاّ بالجامع إنّما تجري البراءة العقليّة بلحاظ المقدار الذي لم ينصبّ عليه هذا التنجيز، فهي لا ترخصّ إلاّ بلحاظ الخصوصيّتين، ولا تعني عدا أنّنا في سعة عقلاً من ناحية الخصوصيّتين، وهذا لا يعني جواز ارتكابهما معاً المؤدّي إلى ترك الجامع، فلا تعارض بين البراءتين من أوّل الأمر، وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعيّة من أوّل الأمر، فوجوب الموافقة القطعيّة إن قلنا به ـ رغم فرض إيماننا بالبراءة العقليّة ـ يجب أن ينشأ إمّا من دعوى تعلّق العلم الإجماليّ بالواقع، أو من دعوى ضرورة سريان عوارض الجامع إلى أفراده شموليّاً، ولا ينشأ من التعارض بين البراءتين كي يكون تنجّز أحد الطرفين بمنجّز خاصّ به موجباً للانحلال.

300

الآخر. وأمّا المحذور الثبوتيّ فلا يكون إلاّ على مباني مدرسة المحقّق العراقيّ(رحمه الله)القائلة بأنّ العلم الإجماليّ مهما صلح للمنجّزيّة فهو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فعلى هذا المبنى لا مجال للانحلال بالأصل الشرعيّ، بل إمّا أن يفرض عدم صلاحيّة العلم للتنجيز وانحلاله الحكميّ قبل النظر إلى الأصل الشرعيّ كما مضى عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فلا تصل النوبة إلى الانحلال بالأصل الشرعيّ، وإمّا أن تفرض صلاحيّة العلم للتنجيز في نفسه فيصبح العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، فلا يمكن الانحلال بالأصل الشرعيّ.

ومن هنا ذهبت هذه المدرسة في غير الموارد التي ترى فيها الانحلال قبل النظر إلى الأصل الشرعيّ وهي موارد تعلّق القطع التفصيليّ أو منجّز آخر بأحد الطرفين إلى أنّه لا يجري الأصل المؤمّن الشرعيّ في أطراف العلم الإجماليّ حتّى إذا كان أصلاً واحداً.

هذا. وبما أنّنا منكرون لعلّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة نرى تماميّة الانحلال بلحاظ الاُصول المؤمّنة الشرعيّة.

بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه(1)، وهو: أنّ الانحلال الحقيقيّ حيث يكون يشترط فيه عدم تأخّر المعلوم التفصيليّ عمّا تنجّز من المعلوم الإجماليّ فلو تأخّر عنه لم يتمّ الانحلال، فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين في أوّل النهار، وعلمنا تفصيلاً بنجاسة واحد منهما في آخر النهار، فالعلم الإجماليّ ثابت بإحدى نجاستين: إحداهما من أوّل النهار إلى ما قبل حصول العلم التفصيليّ، والاُخرى من أوّل النهار مستمرّة حتّى بعد حصول العلم التفصيليّ، ولكن لا يشترط فيه عدم



(1) تعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لهذا المطلب في مبحث العلم الإجماليّ، ولكنّا نقلناه إلى هنا كي نستغني عن بحثه حينما ننتهي ـ إن شاء الله ـ إلى مبحث العلم الإجماليّ.

301

تأخّر العلم التفصيليّ عن العلم الإجماليّ، ففي المثال السابق لو علمنا في آخر النهار بنجاسة واحد منهما تفصيلاً من أوّل النهار فقد زال الإجمال والتردّد من النفس ـ لا محالة ـ في آخر النهار، فينحلّ العلم، ويتبرهن انحلاله بنفس برهان انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ.

وأمّا الانحلال الحكميّ فيشترط فيه عدم تأخّر العلم التفصيليّ عن العلم الإجماليّ زائداً على عدم تأخّر المعلوم التفصيليّ على المعلوم المنجّز بالعلم الإجماليّ، فلو كان العلم التفصيليّ في المثال السابق بنجاسة واحد منهما في آخر النهار لم ينحلّ به العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً حتّى مع فرض تعلّق العلم التفصيليّ بنجاسة ثابتة من أوّل النهار؛ وذلك لأنّ المعلوم بالعلم التفصيليّ بالنسبة لتلك القطعة القصيرة من الزمان لم يكن منجّزاً كي ينحلّ العلم المردّد بين القطعة القصيرة من أحد الفردين والفرد الطويل انحلالاً حكميّاً، وهذا من أهمّ الثمرات بين الانحلال الحقيقيّ والحكميّ.

 

ب ـ تطبيق الانحلال على المقام:

المبحث الثاني: في انطباق كبرى انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ وعدمه على ما نحن فيه من العلم بتكاليف إلزاميّة بشكل عامّ بالعلم بالتكاليف الإلزاميّة في دائرة الأمارات المعتبرة الذي هو تفصيليّ نسبيّاً، أي: أنّه واقع في دائرة أصغر من دائرة العلم الكبير.

وعناصر المسألة التي بيّنوها هنا في مقام دعوى الانحلال هي أنّه يوجد لدينا علم إجماليّ كبير في دائرة مطلق الشبهات، وأنّه يوجد لدينا علم إجماليّ صغير في دائرة الأمارات المعتبرة، ومقدار المعلوم بالإجمال في العلم الصغير ليس بأقلّ من المعلوم بالإجمال في العلم الكبير.

302

ولا يخفى أنّه لو قصرنا النظر على هذه العناصر توجّه في المقام الانحلال الحقيقيّ، فإنّك عرفت أنّ ضابط الانحلال الحقيقيّ هو كون نسبة سبب العلم الإجماليّ إلى الأطراف على حدّ سواء، والأمر فيما نحن فيه كذلك، فإنّ العلم الإجماليّ الكبير في المقام له سببان:

الأوّل: حكم العقل بأنّ الشريعة لا تخلو من أحكام إلزاميّة، ففرض الشريعة ملازم عقلاً لفرض البعث والزجر في الجملة، وهذا ـ كما ترى ـ نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، فإنّه يبرهن مباشرةً على الجامع، وعلى عدم اجتماع تمام الشبهات في عدم الإلزام، نظير ما مضى من البرهان على عدم اجتماع النبوّة في متنبّئين متكاذبين.

والثاني: حساب الاحتمالات بمعنى تحوّل قيم احتمال التكليف الإلزاميّ في كلّ فرد من الأطراف بتجمّعها في الجامع إلى العلم به، وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، نظير ما مضى في فرض العلم بمساورة المسيحيّ لأحد الأواني، وهذا هو الحال في كلّ علم إجماليّ فرض قائماً على أساس جمع الاحتمالات من الأطراف.

ولكنّ التحقيق: أنّ هنا عناصر اُخرى لم يبرزوها في المقام، وبإبرازها يظهر عدم الانحلال لا حقيقةً ولا حكماً، ولنا بهذا الصدد كلامان:

الكلام الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ الصغير في دائرة الأمارات المعتبرة لم ينشأ عن اعتبارها، وإنّما نشأ عن تجمّع القوى الاحتماليّة لها سواء فرضت معتبرة أو لا، ونفس هذا المنشأ موجود في الأمارات غير المعتبرة كالشهرة التي استقرّ الرأي بعد الشيخ الأعظم(قدس سره) على عدم حجّيّتها، فكما يوجد علم صغير في دائرة أخبار الثقات مثلاً، كذلك يوجد في عرض هذا العلم علم صغير في دائرة الشهرات، والنسبة بين الدائرتين عموم من وجه، وعندئذ لو فرضنا عدم احتمال انطباق كلا

303

المعلومين على مادّة الاجتماع كان معنى ذلك أنّ المعلوم بالعلم الكبير أكثر من المعلوم بالإجمال في دائرة أخبار الثقات؛ إذ هو يساوي مجموع المعلومين في العلمين الصغيرين، فلا مجال للانحلال، ولو فرضنا احتمال انطباقهما على مادّة الاجتماع فحلّ العلم الإجماليّ بأحد العلمين وإخراج مادّة الافتراق للآخر عنه ترجيح بلا مرجّح، وإخراج كلتا مادّتي الافتراق معناه القطع باشتمال مادّة الاجتماع على مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الكبير، وهو باطل بالوجدان. نعم، لا بأس بانحلال العلم الكبير بكلا العلمين، بمعنى أنّ الشبهات الخالية عن الأمارات معتبرة أو غير معتبرة تكون شبهات بدويّة.

وحقيقة الأمر: أنّ العلم الإجماليّ الكبير قد تعلّق بالجامع بين فرد من مادّة الاجتماع وفردين من مادّتي الافتراق، ولم يتعلّق بأحد طرفيه علم تفصيليّ حتّى ينحلّ هذا العلم انحلالاً حقيقيّاً.

وإن شئت تغضّ النظر عن العلم الكبير وتقول: لدينا علم إجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة في دائرة الأمارت غير المعتبرة كالشهرة مثلاً، يمنعنا عن الرجوع إلى البراءة في تلك الدائرة، ولا ينحلّ هذا العلم الإجماليّ بالعلم الإجماليّ في دائرة الأمارات المعتبرة، فإنّهما في عرض واحد، وكذلك الحال بالنسبة للانحلال الحكميّ، فإنّ كلاًّ من هذين العلمين العرضيّين منجِّز ولا يمكن رفع اليد عن تنجيز أحدهما بالخصوص دون الآخر، فإنّه ترجيح بلا مرجّح، أو قل: إنّا علمنا بالجامع بين فرد وفردين آخرين ولم يتحقّق منجّز لخصوص أحد طرفي هذا العلم كي ينحلّ انحلالاً حكميّاً.

الكلام الثاني: أنّهم (قدّس الله أرواحهم) نظروا ـ في مقام دعوى الانحلال ـ إلى الفقه بنظرة مجموعيّة، فرأوا وجود علم إجماليّ بوجود ألف تكليف مثلاً في دائرة الشبهات مع وجود علم إجماليّ بوجود ذلك المقدار في دائرة الأمارات المعتبرة،

304

فقالوا بأنّ الأوّل ينحلّ بالثاني. ولكنّ الصحيح: أن ينظر إلى الفقه بنظرة انحلاليّة، فإنّ لنا في كلّ باب من أبواب الفقه علماً إجماليّاً كبيراً مستقلاًّ يوجد في بعضها علم إجماليّ صغير في دائرة خبر الثقة لا يقلّ المعلوم بالإجمال فيها عن المعلوم بالإجمال في العلم الكبير كما في باب الصلاة مثلاً، ولا يوجد في بعضها الآخر كباب الضمان مثلاً، فإنّنا نقطع بأنّه قد صدرت من الشارع في باب الضمان دستورات إلزاميّة، وليس الموقف دائماً تجاه أموال الناس موقفاً غير إلزاميّ، ولكنّ الأخبار الواصلة لنا في ذلك الباب ليست بمقدار يُكوّن العلم الإجماليّ بعدد يساوي عدد المعلوم بالإجمال فيه، فإنّ كثرة الاحتمالات وقلّتها تؤثّر في مقدار المعلوم بالإجمال القائم على أساس حساب الاحتمالات، وفي مثل هذا لا وجه للانحلال الحقيقيّ ولا للانحلال الحكميّ بالمعلوم بالعلم الثاني؛ إذ هو أقلّ من المعلوم بالعلم الأوّل(1).



(1) وهذا يعني: أنّ ما رأوه بالنظرة المجموعيّة إلى الفقه من كون المعلوم بالعلم الصغير مساوياً للمعلوم بالعلم الكبير إنّما ينشأ من النظر إلى العلم الكبير الناشئ من حكم العقل بضرورة اشتمال الشريعة على تكاليف إلزاميّة، أو الناشئ من تجمّع الاحتمالات المتواجدة في أطراف الشبهات في حدّ ذاته وبقطع النظر عن تقوّيها بالأمارات. أمّا لو نظروا إلى العلم الكبير بكلّ ما له من مناشئ بما فيها نفس الأمارات الواردة في كثير من الأطراف، فحتّى لو كان النظر مجموعيّاً، كان لازم ما ادّعاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام أنّ المعلوم بالعلم الكبير أكثر من المعلوم بالعلم الصغير؛ لأنّ المعلوم بالعلم الكبير في مثل باب الصلاة لا يمكن أن يكون أقلّ من المعلوم بالعلم الصغير فيه، فإذا ضمّ إلى المعلوم بالعلم الكبير في مثل باب الضمان الذي فرض أكثر من المعلوم بالعلم الصغير فيه كان مجموع ما في العلم الكبير أكثر من مجموع ما في العلم الصغير.

305

 

انحلال العلم بالأمارت:

الجواب الثاني: دعوى انحلال العلم الإجماليّ بنفس الأمارات المعتبرة الإلزاميّة الواردة في بعض الأطراف، وهي لا تقلّ عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ بل أكثر منه.

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ العلم الإجماليّ إذا تعلّقت ببعض أطرافه أمارة مطابقة له بمقدار المعلوم بالإجمال، فالعلم الإجماليّ ينحلّ انحلالاً حقيقيّاً بالتعبّد(1).

وذكر السيّد الاُستاذ في تقريب ذلك(2): أنّ العلم الإجماليّ أركانه عبارة عن العلم بالجامع والشكّ بعدد الأطراف فيها، وقد عبّدنا الشارع في مورد الأمارة بالعلم وعدم الشكّ وسريان العلم من الجامع إلى هذا الطرف، وهذا يعني التعبّد بانحلال العلم الإجماليّ حقيقةً.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ السيّد الاُستاذ يرى أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجّز الجامع، وأنّ سقوط الاُصول في الأطراف يكون بملاك التعارض باعتبار أنّ جريانها في تمام الأطراف ينافي تنجّز الجامع، وجريانها في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح، فتتساقط الاُصول في جميع الأطراف بالمعارضة، فنقول: لو كان الأمر كذلك فجريان الأصل في أحد الطرفين فيما نحن فيه فرع عدم ابتلائه بالتعارض مع الأصل في الطرف الآخر، وذلك بعدم جريان الأصل في الطرف الآخر، وعدم



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 14، وأجود التقريرات، ج 2، ص 245.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 304 و 307.

306

جريان الأصل في الطرف الآخر فرع تنجيز الأمارة لخصوص ذلك الطرف، سواء فرض التعبّد بعدم العلم الإجماليّ أو لا، أي: أنّه لو فرض جريان الأصل في ذلك الطرف في نفسه، فلا محالة يقع التعارض والتساقط، ولا ينفعه التعبّد بعدم العلم؛ لأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز الجامع ولا يمكن دفع تنجيزه بالتعبّد بعدم العلم، ولو فرض عدم جريان الأصل فيه في نفسه لتنجيز الأمارة جرى الأصل في الطرف الخالي عن الأمارة بلا معارض، ولا يضرّه العلم الإجماليّ؛ لأنّه لا يمنع عن جريان الأصل الواحد، ولذا لا يختصّ الانحلال بالأمارة بمبنى جعل العلم والطريقيّة في الأمارة، فتحصّل: أنّ ضمّ التعبّد بعدم العلم الإجماليّ إلى تنجيز الأمارة لأحد الطرفين ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان؛ إذ لو لم يثبت هذا التنجيز لم ينفعنا التعبّد بعدم العلم، ولو ثبت هذا التنجيز كفى ذلك في صحّة جريان الأصل الآخر بلا حاجة إلى التعبّد بعدم العلم.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ العلم الإجماليّ بنفسه يقتضي سقوط الأصل حتّى لو اختصّ بطرف واحد، وتكلّمنا على مباني التعبّد بطريقيّة الأمارة قلنا: إنّ التعبّد بشيء لا يسري إلى لوازم ذلك الشيء؛ إذ بالإمكان كون ملاك التعبّد مختصّاً بذلك الشيء وغير ثابت في لوازمه، وفي المقام يكون إسقاط التنجيز في الطرف الخالي عن الأمارة مبنيّاً على إسراء التعبّد من الشيء إلى بعض لوازمه؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ انتفاء الشكّ في أحد الأطراف ليس بنفسه انحلالاً للعلم الإجماليّ، وإنّما هو ملزوم لانحلاله؛ لأنّ العلم الإجماليّ ليست أركانه حقيقة عبارة عن العلم بالجامع مع الشكوك في الأطراف، وإنّما الشكوك في الأطراف من لوازم العلم الإجماليّ، والعلم الإجماليّ عبارة عن العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ، فزوال الشكّ في بعض الأطراف يلزمه زوال العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ، وليس التعبّد بالأوّل مستلزماً للتعبّد بالثاني.

307

والثاني: أنّنا لو سلّمنا أنّ الشكوك واحتمالات الانطباق في الأطراف هي أركان للعلم الإجماليّ، وقد زال أحد هذه الأركان تعبّداً، وهو الشكّ في الطرف الذي قامت عليه الأمارة، قلنا: إنّ تنجّز الطرف الآخر لم يكن أثراً لهذا الركن، وإنّما كان أثراً للعلم بالجامع مع الشكّ واحتمال الانطباق في ذاك الطرف، والتعبّد بعدم هذا الركن ليس تعبّداً بعدم ركن آخر، والتلازم بين احتمالات الانطباق للجامع المعلوم بحدٍّ قابل للانطباق على تلك الأطراف لا يجعل التعبّد بعدم أحدها تعبّداً بعدم الباقي، لما أشرنا إليه من أنّ التعبّد بشيء لا يسري إلى لوازم ذلك الشيء.

وقد تحصّل بما ذكرنا: أنّه لا مجال فيما نحن فيه لدعوى انحلال العلم الإجماليّ بالأمارات انحلالاً حقيقيّاً تعبّداً.

بقي الكلام في انحلاله بها انحلالاً حكميّاً، فنقول: إنّ ما مضى من تقريبي الانحلال للعلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ يأتيان هنا:

أمّا تقريب الانحلال بقطع النظر عن الاُصول الشرعيّة لو تمّ ـ لاستحالة اجتماع منجّزين على طرف واحد، وهما العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ ـ فلأنّه فيمانحن فيه أيضاً يكون المفروض منجّزيّة الأمارة، فيلزم اجتماع منجّزين على طرف واحد(1).

وأمّا تقريب الانحلال بالاُصول الشرعيّة، فلأنّه هنا أيضاً قد بقي الأصل في الطرف غير المنجّز بالأمارة خالياً عن المعارض، لعدم جريان الأصل في الطرف الآخر.



(1) وكذلك يأتي في المقام تقريب الانحلال بدعوى أنّ ما عدا الواحد تحت التأمين، فإذا تنجّز واحد بعينه تعيّن الآخر للتأمين؛ إذ لو لم يكن الآخر تحت التأمين لم يصدق كون ما عدا الواحد تحت التأمين.

308

وهنا إشكال، وهو أنّ الأمارة فيما نحن فيه لم يطّلع عليها من أوّل آنات العلم الإجماليّ، فإنّ العلم الإجماليّ حاصل من أوّل الأمر، والأمارات توجد بالفحص تدريجاً، فلدينا علم إجماليّ غير منحلّ أحد طرفيه عبارة عن قطعة من الفرد الذي وردت فيه الأمارة، وهي قطعة ما قبل وجدان الأمارة، فيصير ذلك نظير العلم الإجماليّ بتكليفين: أحدهما قصير والآخر طويل.

وأجاب المحقّقون كالمحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ والسيّد الاُستاذ(1)على ذلك: بأنّ تلك الأمارات كانت منجّزة من أوّل الأمر؛ لأنّ عدم وجداننا لها كان من باب الشبهة قبل الفحص، والشبهة قبل الفحص إذا كانت حكميّة ـ كما هو المفروض ـ يجب فيها الاحتياط.

وهذا الجواب متين، إلاّ أنّ الإشكال عندنا محلول في المرتبة السابقة عليه، فإنّ الإشكال في المقام مبتن على مباني الأصحاب في باب الحكم الظاهريّ من أنّه حكم إنشائيّ ينشأ من الملاك في نفس إنشائه لا الملاك في متعلّقه. أمّا على ما اخترناه من أنّ الحكم الظاهريّ ليس إلاّ عبارة عن إبراز شدّة الاهتمام وعدمها بالأحكام الواقعيّة فلا يرد هذا الإشكال من أساسه.

وتترتّب على هذا الخلاف المبنائيّ بيننا وبينهم ثمرات كثيرة، منها: انتفاء موضوع الإشكال في المقام، وتوضيح ذلك: أنّه بناءً على مبناهم لا يوجد تضادّ بين حكمين ظاهريّين ما لم يصلا إلى المكلّف؛ إذ كلّ منهما ناشئ من ملاك في نفسه، نعم بعد الوصول يتضادّان من ناحية المحرّكيّة. وأمّا بناءً على مبنانا فهما



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 69، ونهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 254 و 255، ونهاية الدراية، ج 2، ص 200 و 201، ومصباح الاُصول، ج 2،ص 307 و 308.

309

متضادّان في أنفسهما قبل الوصول كالحكمين الواقعيّين؛ إذ لا يمكن اجتماع شدّة الاهتمام وعدمها في وقت واحد، فبوجدان الأمارة نكشف عن عدم ثبوت أصل البراءة من أوّل الأمر(1).

 


(1) وليس المقصود بهذا الكلام أنّه لو كانت الأمارة الحجّة ثابتة في علم الله على التكليف لم يعقل جعل المؤمّن الظاهريّ الراجع إلى عدم الاهتمام بالتكليف؛ لأنّ المفروض اهتمام المولى بالتكليف بمقتضى الأمارة رغم عدم وصولها، بل المقصود بذلك أنّه بعد أن اختلطت الأهداف الإلزاميّة وغيرها في موارد الشبهات فقد اهتمّ المولى بأهدافه الإلزاميّة في موارد ثبوت الأمارة ولم يهتمّ بها في غير موارد الأمارة، ولذا جعل الحكم الترخيصيّ الظاهريّ في موارد عدم الأمارة ولم يجعله في موارد الأمارة، وفي طول جعله للترخيص الظاهريّ في موارد عدم الأمارة وعدم اهتمامه بأهدافه الإلزاميّة فيها وقع خلط آخر بين أهدافه المهمّة في موارد الأمارة وأهدافه غير المهمّة في غير موارد الأمارة، حيث شككنا في وجود الأمارة وعدمها، ومن المعقول افتراض أنّ المولى في هذه المرحلة لا يهتمّ بأهدافه، ويجعل الحكم الترخيصيّ الظاهريّ سواء كان بلسان استصحاب عدم ورود الأمارة، أو بلسان البراءة ابتداءً، إلاّ أنّ هذا الترخيص وعدم الاهتمام ـ كما ترى ـ إنّما هو في طول الترخيص وعدم الاهتمام بالأهداف في موارد عدم الأمارة؛ إذ لو كان المولى مهتمّاً بأهدافه الإلزاميّة حتّى في موارد عدم الأمارة لم يكن الشكّ في ثبوت الأمارة وعدمها موجباً للخلط بين أهدافه المهمّة في موارد الأمارة وأهدافه غير المهمّة في غير موارد الأمارة؛ لأنّ المفروض الاهتمام بها جميعاً.

وبما ذكرناه يتّضح: أنّه لا يرد على سيّدنا الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في المقام: أنّ الترخيص الظاهريّ كان ثابتاً في موارد الأمارة قبل العثور عليها ولو في مرحلة ثانية، فهو يعارض الترخيص في غير موارد الأمارة، وتعدّد المرحلتين لا يرفع التعارض، فإنّ الجوابعلى

310

نعم، هذا إنّما يفيد في بيان الانحلال بلحاظ الاُصول الشرعيّة، وأمّا بقطع النظر عنها، فالجواب منحصر بما أفادوه.

 

 


ذلك: أنّ الترخيص في المرحلة الثانية متوقّف على الترخيص في المرحلة الاُولى كما عرفت، فيستحيل وقوع التعارض بينهما، فالصحيح أنّ الترخيصات الظاهريّة في المرحلة الثانية تعارضت وتساقطت، ولكن الترخيص في غير موارد الأمارات في المرحلة الاُولى كان خالياً عن المعارض من أوّل الأمر.

311

 

الاحتياط الشرعيّ

وأمّا المقام الثاني: وهو إثبات الاحتياط عن طريق النقل فقد استدلّ لإثبات الاحتياط شرعاً بالكتاب تارةً، وبالسنّة اُخرى:

 

الاحتياط في الكتاب الكريم

أمّا الكتاب: فقد استدلّ بآيات منه:

الآية الاُولى: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِين﴾(1).

وتقريب الاستدلال بها: أنّها نهت عن الاقتحام في التهلكة والتعريض لها، والاقتحام فيما يحتمل كونه مخالفة للّه ـ سبحانه وتعالى ـ اقتحام في التهلكة وتعريض لها، فيحرم بمقتضى إطلاق الآية، فيثبت وجوب الاحتياط.

أقول: إنّ هذه الآية يوجد فيها احتمالان:

الأوّل: كونها ناظرة إلى المخاطبين بالنظر الأفراديّ، وأن يكون المراد بالتهلكة أيضاً ـ باعتبار ظهور الآية في وحدة اللحاظ في جانب الموضوع والمحمول ـ هو التهلكة بالنظر الأفراديّ، فكلّ شخص يحرم عليه إلقاء نفسه بما هو فرد من الأفراد في التهلكة.

والثاني: كونها ناظرة إليهم بالنظر المجموعيّ، فتلحظ التهلكة أيضاً باللحاظ المجموعيّ، والتعريض للهلاك باللحاظ المجموعيّ يختلف عنه باللحاظ الأفراديّ، فالجهاد مثلاً يكون بلحاظ الأفراد تعريضاً للهلاك، وأيّ إلقاء في



(1) سورة البقرة، الآية: 195.

312

التهلكة أعظم من جعل الشخص نفسه في معرض الموت والقتل؟ لكنّه بلحاظ المجتمع قد يكون حياة، كما أنّ ترك الجهاد قد لا يكون موتاً وهلاكاً للأفراد بما هم أفراد، ويكون موتاً وهلاكاً للمجتمع بما هو مجتمع؛ إذ يتسلّط عليه أعداؤه ويهدم كيانه ورسالته ومبادئه.

ولا يمكن دعوى الإطلاق في الآية بحيث يشمل كلا قسمي الهلاك، فإنّ كلاًّ منهما يستوجب لحاظاً ينافي اللحاظ الآخر، والإطلاق لا يستوجب الجمع بين اللحاظين، وإنّما يستوجب توسعة دائرة اللحاظ الواحد، فالأمر دائر بين هذين المعنيين.

والظاهر من قوله: ﴿لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ لو فصل عمّا قبله من الآيات وإن كان هو الأوّل؛ لأنّ اللحاظ المجموعيّ أشدّ عناية ومؤونة في نظر العرف، فمع عدم القرينة عليه ينفى بالإطلاق، إلاّ أنّه يمكن أن يدّعى أنّ وقوع الآية في سياق آيات الجهاد(1) يوجب مناسبته للّحاظ المجموعيّ إمّا بأن يكون المراد منها الأمر بالجهاد، كالآيات التي وقعت قبلها لكنّها رمزت إلى الجهاد بمعنىً



(1) قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِين﴾. سورة البقرة، الآية: 190 ـ 195.

313

في غاية الجمال وهو أنّ ترك الجهاد هلاك للمجتمع، أو بأن يكون المراد منها تحديد الأمر بالجهاد الذي سبق في الآيات المتقدّمة، أي: أنّها في مقام بيان أنّ الأمر بالجهاد إنّما يكون فيما لو لم يكن الجهاد هلاكاً للمجتمع، وتكون الحرب ـ بحسب مصطلح اليوم ـ حرباً يائسة.

وعلى أيّة حال، فإن حملت الآية على إرادة الهلاك باللحاظ المجموعيّ، فخروجها عمّا نحن فيه في غاية الوضوح. وإن حملت الآية على إرادة الهلاك باللحاظ الفرديّ، فأيضاً لا تدلّ على المقصود؛ وذلك لأنّه إمّا أن يفترض أنّه يوجد في المرتبة السابقة على هذه الآية في الشبهات البدويّة أصل عقليّ أو شرعيّ يؤمّن من العقاب، أو يفرض أنّه لا يوجد ذلك، وأنّه يجب في المرتبة السابقة عليها الاحتياط، وأنّه بقطع النظر عن هذه الآية يكون الاقتحام في الشبهة اقتحاماً في الهلكة والعذاب الاُخرويّ، فإن فرض الأوّل فلا موضوع للآية في تلك الشبهات؛ إذ لا هلاك حتّى ينهى عن الاقتحام فيه، وإن فرض الثاني ـ أعني: ثبوت الهلاك في ارتكاب الحرام الواقعيّ مع الشكّ حتّى يتمّ موضوع التمسّك بالآية ـ فقد ثبت وجوب الاحتياط في المرتبة السابقة على الآية، ولا يكون نفس النهي عن الإلقاء في التهلكة ملاكاً لوجوب الاحتياط.

نعم، لو فرض في مورد من موارد احتمال التكليف وجود احتمال الهلاك الدنيويّ أيضاً ففرضنا في شرب التتن مثلاً أنّه كما يحتمل كونه حراماً كذلك يحتمل كونه مُهلِكاً، فهنا وإن دلّت الآية على وجوب الاجتناب، لكنّها لم تدلّ على الاحتياط في قبال حرمة شرب التتن بما هي شبهة حكميّة، بل دلّت إمّا على حرمة الإلقاء في معرض التهلكة حرمة واقعيّة، أو على أنّ إهلاك النفس بما هو حرام شرعاً، وأنّ إيقاع النفس فيما يحتمل فيه الهلاك يجب فيه الاحتياط بما هي شبهة موضوعيّة، فتكون الآية مخصّصة للبراءة في هذا المورد من الشبهات الموضوعيّة