215

 

أقسام العموم

الجهة الثانية: في أقسام العموم.

يقسّم العموم على ثلاثة أقسام: استغراقيّ ومجموعيّ وبدليّ.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية أنّه ليس المائز بين هذه الأقسام في نفس العموم والاستيعاب، بل هي في الحقيقة أقسام لتعلّق الحكم بالأفراد المستوعبة، فإنّ نفس العموم ليس إلّا عبارة عن الاستيعاب والانبساط، وبعد فرض تماميّة الاستيعاب لجميع الأفراد تارةً يكون الحكم متعلّقاً بكلّ فرد فرد منها، واُخرى يكون متعلّقاً بالمجموع من حيث المجموع، وثالثة يكون متعلّقاً بواحد منها على سبيل البدل، فعلى الأوّل يسمّى العموم استغراقيّاً، وعلى الثاني مجموعيّاً، وعلى الثالث بدليّاً، فهذه أقسام للعموم باعتبار تعلّق الحكم(1). هذا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

ويحتمل أن يكون مراده من ذلك التنبيه على نكتة، وهي: أنّه لا مجال للبحث في أنّ الأداة الفلانيّة للعموم هل تدلّ على ذات العموم فقط الذي هو الجامع بين الأقسام الثلاثة، أو تدلّ أيضاً على كونه استغراقيّاً أو مجموعيّاً أو بدليّاً؛ وذلك لأنّ العموم في الحقيقة قسم واحد، وليست هذه الأقسام لأجل وجود مائز في ماهيّة العموم، بل هذه أقسام لتعلّق الحكم بالعامّ.

أقول: لو كان حقّاً مراده(رحمه الله) هو التنبيه على ذلك ورد عليه: أنّ هذا الكلام غير صحيح، توضيحه: أنّه بعد أن كان للعامّ في الخارج ثلاثة أفراد مثلا، فمن الممكن



(1) راجع الكفاية ج 1، ص 332 بحسب طبعة المشكينيّ.

216

أن توضع أداة خاصّة تدلّ على فرد خاصّ من تلك الأفراد، سواء كان المائز بينها ثابتاً في حقيقة العموم أو كان ناشئاً من تعلّق الحكم به.

ألا ترى أنّ هيئة تقدّم المسند على المسند إليه ربّما تدلّ على كون الموضوع محصوراً فيه الحكم، مع أنّ انقسام الموضوع إلى المحصور فيه الحكم وعدمه ليس انقساماً ذاتيّاً، بل يكون ناشئاً من ناحية الحكم. ومن الممكن أن تكون أداة العموم ونظير هذه الهيئة تدلّ على قسم خاصّ من العموم ينشأ انقسامه إليه وإلى غيره من ناحية الحكم، وذلك بأن تدلّ أداة العموم على أنّ الحكم تعلّق بموضوعه بهذا النحو من التعلّق.

فظهر: أنّه لا يفترق الأمر في ذلك ـ أي: في ثبوت المجال للبحث عن دلالة أداة العموم على خصوص قسم خاصّ ـ بين كون المائز ثابتاً في ذات العموم أو في تعلّق الحكم(1).

بقي الكلام في أصل ما أفاده(رحمه الله) من كون هذا التقسيم باعتبار تعلّق الحكم



(1) لا يخفى أنّ لصاحب الكفاية تعليقاً على كلامه هنا في كفايته صريحاً في أنّه(رحمه الله)لم يتوهّم في المقام كون رجوع هذه الأقسام إلى كيفيّة تعلّق الحكم مانعاً عن إمكانيّة اختلاف أدوات العموم لغةً في إفادة البدليّة والاستغراقيّة والمجموعيّة، ونصّ عبارته(رحمه الله)في تعليقه على الكفاية في المقام ما يلي:

«إن قلت: كيف ذلك، يعني كيف تكون هذه الأقسام باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام لا أقساماً ذاتيّة للعموم، ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر، مثل: (أيّ رجل) للبدليّ، و(كلّ رجل) للاستغراقيّ؟!

قلت: نعم، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له لا بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام؛ لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة، فتأمّل جيّداً».

217

لا باعتبار نفس العموم والاستيعاب، وقد ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) هنا إلى تفصيل، بيانه: أنّه(رحمه الله) سلّم عدم كون المائز بين الأقسام ثابتاً في نفس الاستيعاب، لكنّه قال: إنّ كون العموم بدليّاً أو غيره ناشئ من خصوصيّة في مدخوله، فإن كان مدخول أداة العموم نكرة فلا محالة يكون العموم بدليّاً لا استغراقيّاً أو مجموعيّاً؛ إذ النكرة يستحيل انطباقها على أفرادها واستيعابها لها عرضيّاً حتّى يكون العموم استغراقيّاً أو مجموعيّاً، وذلك لمكان أخذ قيد الوحدة في النكرة، فمهما انطبقت على جميع أفرادها كان انطباقها عليها واستيعابها لها على نحو البدل، وإن كان مدخولها اسم جنس كان العموم غير بدليّ؛ لأنّ انطباق اسم الجنس على أفراده عرضيّ.

ثُمّ بعد فرض تحقّق الاستيعاب العرضيّ تارةً يكون الحكم واحداً ثابتاً للمجموع، واُخرى يكون أحكاماً متعدّدة بعدد الأفراد، فعلى الأوّل يكون العامّ مجموعيّاً، وعلى الثاني استغراقيّاً.

فتحصّل: أنّ الفرق بين العموم البدليّ وغيره يكون من ناحية مدخوله، والفرق بين العموم الاستغراقيّ والمجموعيّ يكون من ناحية الحكم. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات(1).

وليعلم أنّ كون الخصوصيّة ناشئة من مدخول العموم أيضاً حاله حال كونها ناشئة من الحكم أو من نفس العموم في إمكان افتراض استفادة الخصوصيّة من أداة العموم وعدمها، ألا ترى أنّ كون المدخول نكرة أو اسم جنسليس في نفسه ظاهراً بلا نظر إلى الأداة، فإنّ تنوين التنكير والتمكّن كلاهما بشكل واحد.



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 430 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

218

وعلى أيّة حال فنحن يقع كلامنا هنا في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ الفرق بين البدليّ وغيره هل هو ناش من خصوصيّة في نفس العموم أو من خصوصيّة في شيء آخر؟ قد عرفت أنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)ذهب إلى نشوئه من خصوصيّة في كيفيّة تعلّق الحكم بالعامّ.

ويرد عليه: أنّ نفس الاستيعاب مع قطع النظر عن طروّ أيّ حكم عليه تارةً يتصوّر عرضيّاً واُخرى يتصوّر بدليّاً، فإنّك ترى وجداناً الفرق بين مفهوم (كلّ الأشياء)و(جميع الأشياء)، ومفهوم (أحد الأشياء) قبل أن يحكم عليه بحكم، ثُمّ ترى الحكم الذي يطرأ على الأفراد: تارةً يطرأ على الأفراد التي لوحظت بدليّاً، واُخرى على الأفراد التي لوحظت عرضيّاً، فالفرق بينهما سابقٌ على الحكم وليس من خصوصيّات الحكم.

كما أنّ ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من نشوئه من خصوصيّة في مدخول العموم أيضاً غير صحيح، فيمكن أن يفرض المدخول نكرة مع كون الاستيعاب عرضيّاً، وذلك بأن لا يكون المستوعب لأفرادها نفس تلك النكرة ـ حتّى يقال باستحالة ذلك لتقيّد النكرة بقيد الوحدة ـ بل يكون المستوعب لأفرادها عرضيّاً مفهوماً آخر كمفهوم كلّ، فلو فُرض (رجل) في قوله: (أكرم كلّ رجل) نكرة لم يكن ذلك مانعاً عن العموم العرضيّ؛ لأنّ المستوعب هو كلمة (كلّ) لا كلمة (رجل)، ولا استحالة في كون كلمة مقيّدةً بقيد الوحدة مع استيعاب شيء آخر لأفرادها عرضيّاً، بل هو واقع في النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادة ذلك للعموم، فإنّ النكرة مقيّدة بقيد الوحدة لكنّ العموم واستيعاب الحكم للأفراد استغراقيّ.

ويمكن أيضاً أن يُفرض المدخول اسم جنس مع فرض الاستيعاب بدليّاً:

أمّا أوّلا: فلأنّ اسم الجنس لا يجب أن يكون استيعابه للأفراد ـ مهما

219

استوعب ـ عرضيّاً، وإنّما فرقه مع النكرة أنّ النكرة لا يجوز استيعابها للأفراد عرضيّاً؛ لتقيّدها بقيد الوحدة، واسم الجنس يجوز استيعابها للأفراد عرضيّاً.

وأمّا ثانياً: فلأنّه لو سلّمنا أنّ اسم الجنس يجب أن يكون استيعابه للأفراد ـ مهما استوعب ـ عرضيّاً لا بدليّاً، قلنا: من الممكن فرض كون المستوعِب مفهوماً آخر، بأن يضع الواضع أداة تفيد مفهوماً اسميّاً مستوعِباً لأفراد مدخوله على نحو البدل وإن كان مدخوله اسم الجنس.

والتحقيق: أنّ انقسام العموم إلى البدليّة والعرضيّة ذاتيّ، فإنّ العموم عبارة عن الاستيعاب، والاستيعاب عبارة عن التطبيقات العديدة بعدد الأفراد، وهذه التطبيقات العديدة تارةً تُفرض في عرض واحد، واُخرى تُفرض لا في عرض واحد بل على سبيل البدل.

المقام الثاني: في أنّ المائز بين العموم الاستغراقيّ والمجموعيّ هل هو ثابت في ذات العموم أو في شيء آخر؟ قد عرفت توافق المحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ على أنّ انقسام العموم إليهما إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم لا باعتبار نفسه.

أقول: لا مجال للشكّ في أمرين:

أحدهما: أنّه بعد أن فُرض استيعاب تمام الأفراد عرضيّاً: تارةً يحكم على المجموع بحكم واحد، واُخرى يحكم على كلّ فرد بحكم على حدة، وهذان كيفيّتان لتعلّق الحكم.

ثانيهما: أنّه يمكن أن يقسّم العامّ في نفسه مع قطع النظر عن تعلّق حكم به إلى ما لوحظ فيه التركيب بين أفراده تركيباً اعتباريّاً وما لم يلاحظ فيه ذلك ـ كما نرى وجداناً الفرق بين مفهوم (مجموع الأشياء) ومفهوم (جميع الأشياء) ـ وأن يسمّى الأوّل بالمجموعيّ والثاني بالاستغراقيّ.

220

وإنّما الذي ينبغي أن يقع محلاًّ للبحث هو: أنّه مهما اُريد جعل تمام أفراد العامّ موضوعاً لحكم واحد لا لأحكام متعدّدة بعدد الأفراد، فهل اللازم جعل تلك الأفراد واحداً مركّباً بالاعتبار حتّى يمكن الحكم عليها بحكم واحد، أو يحكم عليها بحكم واحد بدون صيرورتها واحداً مركّباً اعتباريّاً قبل الحكم وإن صارت كذلك بالنظر إلى الحكم؟

وهذا البحث ينتج في جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وعدمه، ونحيل تحقيقه مع كيفيّة استنتاج تلك النتيجة منه إلى مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. هذا تمام الكلام في الأقسام الثلاثة للعموم بلحاظ عالم الثبوت.

وأمّا بلحاظ عالم الإثبات فبعض ألفاظ العموم ظاهر في خصوص الاستغراقيّة كلفظة (كلّ) و(جميع) ولام الجمع بناءً على إفادته للعموم(1)، وبعضها ظاهر في خصوص المجموعيّة كلفظة (مجموع)، ولعلّ كلمة (أيّ) تفيد خصوص العموم البدليّ.

وعلى أيّة حال فالجهة الإثباتيّة تختلف باختلاف الأدوات والمقامات والقرائن الخاصّة.



(1) الظاهر عدم دلالة هذه الألفاظ على خصوص الاستغراقيّة في مقابل المجموعيّة، وإنّما قد تنفى المجموعيّة بنكتة اُخرى، وهي: أنّه لو فُرضت المجموعيّة بمعنى اعتبار الوحدة التركيبيّة بين الأفراد فهي مؤونة زائدة تحتاج إلى قرينة ومع عدمها تنفى، ولو فُرضت بمعنى عدم انحلاليّة الحكم فالحكم بالانحلال وعدمه ـ بعد عدم أخذ المجموعيّة الاعتباريّة في طرف الموضوع ـ يختلف باختلاف الموارد بحسب مناسبات الحكم والموضوع، وغلبةُ الانحلال في القضايا العرفيّة ـ خاصّة الحقيقيّة ـ تقتضي الظهور في الانحلال ما لم تقتض المناسبات أو أيّة قرينة اُخرى عدم الانحلال.

221

 

وجه الفرق بين أسماء العدد وأدوات العموم

الجهة الثالثة: فيما صار مورداً للاشتباه مع أداة العموم.

إنّ العموم ـ وهو الاستيعاب ـ لا يختصّ باستيعاب الأفراد، بل قد يكون استيعاباً للأجزاء، كقولك: (قرأت كلّ الكتاب)، و(يجب إمساك جميع اليوم). ومن هنا وقع الاشتباه بين أسماء العدد وأداة العموم، فربّما يشكل الفرق بين كلمة (عشرة) مثلا وأداة العموم؛ إذ إنّ كلمة (عشرة) مستوعبة لأجزائها.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في حلّ هذا الإشكال: أنّ العموم عبارة عن شمول الأفراد لا الأجزاء(1).

ويرد عليه: منع ذلك، بل العموم معناه الاستيعاب سواء كان استيعاباً للأفراد، كقولك: (إقرأ كلّ كتاب)، أو كان استيعاباً للأجزاء، كقولك: (إقرأ كلّ الكتاب) ولا مبرّر لتخصيص العموم بالأوّل.

وذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في حلّه: أنّ العموم عبارة عن استيعاب المدخول، بمعنى أنّ المستوعَب بالفتح غير أداة الاستيعاب، وفي مثل كلمة (عشرة) يكون المستوعَب نفس أداة الاستيعاب(2).

ويرد عليه أيضاً: أنّ العموم إنّما هو الاستيعاب، ولو فُرض لفظ يدلّ بنفسه على الاستيعاب والمستوعِب والمستوعَب جميعاً فليس هنا وجه فنّيّ لعدم عدّه من



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 332 بحسب طبعة المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 431 ـ 432 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

222

أدوات العموم، كما أنّ كلام المحقّق الخراسانيّ أيضاً لم يكن له وجه فنّيّ.

اللّهمّ إلّا أن يكون المراد لكلّ واحد منهما ذكر اصطلاح، ولا مُشاحّة في الاصطلاح، لكن يبقى عليهما عندئذ أنّه لو كانت كلمة (عشرة) ونحوها من أسماء الأعداد متضمّنة لمعنى الاستيعاب كان هناك مجال لعدّها من أدوات العموم، ثُمّ الجواب بدعوى تقيّد العموم بكونه استيعاباً للأفراد، أو كون المستوعَب غير أداة الاستيعاب، لكنّها غير متضمّنة لمعنى الاستيعاب، فلا يصحّ أصل الإشكال ولا يصحّ الجواب عنه بأنّ كلمة (عشرة) مثلا مستوعبة للأجزاء لا للأفراد، أو بأنّها مستوعبة لنفس مفاد أداة الاستيعاب لا لمدخولها، وإنّما هي موضوعة لمفهوم مركّب، واستيعاب المركّب لأجزائه يكون من أحكامه التكوينيّة لا أنّه داخل في نفس المفهوم، ونظير ذلك أنّ المركّب يكون محكوماً تكويناً بكونه أكبر من جزئه مع أنّ هذه الأكبريّة ليست مفهوماً للفظ.

والخلاصة: أنّ أداة العموم ما يكون دالّاً على نفس الاستيعاب كــ (لام الجمع) بناءً على كونه من أداة العموم، وككلمة (كلّ)، أمّا دلالة مثل (لام الجمع) على نفس الاستيعاب بناءً على أنّه من أدوات العموم فواضح، فإنّه حرف وضع لإفادة النسبة الاستيعابيّة. وأمّا دلالة مثل كلمة (كلّ) على نفس الاستيعاب فلأنّه وإن كان موضوعاً لمفهوم اسميّ لكنّه موضوع للمفهوم المستوعب بما أنّه مستوعب، بحيث لو قطعنا النظر عن جهة استيعابه لم يبق شيء يكون مفهوماً له، إذن فلا محالة يكون مفاده هو الاستيعاب.

وأمّا كلمة (عشرة) ونحوها فحالها حال سائر الألفاظ الموضوعة للمركّبات كالكتاب والدار وغيرهما، أفهل يتخيّل أحد أنّ كلمة (كتاب) أو (دار) من أدوات العموم لكونه مستوعباً لأجزائه؟ كلاّ! فإنّ لفظة كتاب ودار لم توضع لإفادة

223

الاستيعاب، بل وضعت لمركّب يكون من أحكامه التكوينيّة الاستيعاب، فيقال: إنّ كلّ مركّب مستوعب لأجزائه، كما يقال: إنّ كلّ مركّب أكبر من جزئه، بدون أن يكون ذلك داخلا في مفهوم اللفظ، وأسماء الأعداد من هذا القبيل، فإنّها لم توضع للاستيعاب، بل وضعت لمفهوم مركّب، سواء قلنا بأنّها مفاهيم حقيقيّة مركّبة بالتركيب الحقيقيّ ـ كما عليه الفلاسفة ـ أو قلنا بأنّها مفاهيم انتزاعيّة. فكلمة (عشرة) ليست بنفسها من أدوات العموم.

 

دخول كلمة (كلّ) على مثل كلمة (عشرة):

نعم، تدخل على كلمة (عشرة) أداة العموم كما تدخل على كلمات اُخرى فيقال مثلا: (اقرأ كلّ العشرة)، أو (اقرأ كلّ عشرة)، أو (اقرأ كلّ واحد من العشرة). وإنّما مثّلنا بثلاثة أمثلة لما بينها من الفرق، فإنّ الأوّل والثالث يفيدان استيعاب أجزاء عشرة واحدة، والثاني يفيد استيعاب أفراد العشرة، أعني: أنّه يدلّ على وجوب قراءة تمام العشرات، كما أنّ هناك فرقاً بين الأوّل والثالث، وهو أنّه لو قيل: إنّ كلمة (العشرة) بنفسها ظاهرة في المجموعيّة أو مجملة من هذه الجهة فبإدخال كلمة (كلّ) عليها لا يتبدّل معنى الكلام من ذلك إلى الاستغراقيّة، لكن يتبدّل إليها بإدخال كلمة (كلّ واحد) بأن يقال: (اقرأ كلّ واحد من العشرة).

هذا كلّه بحسب الاستظهار العرفيّ المفيد للفقيه في مقام الاستنباط.

بقي هنا بحث علميّ، وهو: أنّه ما هو السرّ في أنّ إدخال كلمة (كلّ) على مثل كلمة (عشرة) معرّفة باللام يفيد استيعاب الأجزاء، وإدخاله عليها منكّرة يفيد استيعاب الأفراد؟

أفاد المحقّق العراقيّ(رحمه الله): أنّ السرّ في ذلك هو أنّ اللام وإن كان غير مختصّ

224

بالعهد، لكنّ العهد كأنّه هو الأصل في اللام والمرتكز منه في الأذهان، فصار ذلكقرينة عامّة على إرادة استيعاب الأجزاء دون الأفراد حتّى عند عدم وجود عهد، وكون كلمة (العشرة) إشارة إلى عشرة معهودة ومتعيّنة يمتنع اجتماعه مع إرادة استيعاب أفراد العشرة ـ كما هو واضح ـ وقد صار ذلك منشأً لصيرورة مطلق قولنا: (كلّ العشرة) ظاهراً في استيعاب الأجزاء لا الأفراد وإن لم يكن هناك عهد، وهذا بخلاف ما لو لم تكن معرّفة باللام فيكون الكلام عندئذ ظاهراً في استيعاب الأفراد. هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1).

أقول: إن أراد(رحمه الله) أنّ مطلق التعيّن ينافي استيعاب الأفراد فغير صحيح، فإنّ لام الجنس أيضاً يفيد نوعاً من التعيّن ولا ينافي استيعاب الأفراد. وإن أراد أنّ التعيّن العهديّ ينافي استيعاب الأفراد فهذا صحيح، لكن ليس الفرق ثابتاً بين خصوص كلمة (العشرة) المعرّفة باللام والمجرّدة عن اللام، بل الفرق ثابت بين مطلق ما لو كانت معرّفة ولو بغير اللام أو نكرة، فإنّك ترى أنّه لو قيل: (قرأتُ كلّ كتاب زيد)، كان معناه استيعاب أجزاء كتاب واحد، ولو قيل: (قرأتُ كلّ كتاب أدب)، أو (قرأت كلّ كتاب أديب)، ونحو ذلك، كان معناه استيعاب الأفراد، فلابدّ من نكتة للفرق بين فرض كون كلمة (العشرة) ونحوها معرفة أو نكرة، لا بين خصوص كونها معرفة باللام أو نكرة.

وتحقيق الكلام: أن يقال: إنّ الأصل في لفظة (كلّ) هو استيعاب الأجزاء لا الأفراد؛ لأنّ مدخوله ـ أيّ شيء كان ـ فإنّما يحكي عن أجزاء نفسه لا عن أفراده، وهذا هو السرّ في أنّ كلمة (كلّ) إذا دخلت على اسم العدد معرّفاً ـ بل على أيّ معرفة ـ أفادت استيعاب الأجزاء لا الأفراد.



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 433 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

225

لكنّ الذي يظهر من ملاحظة الظهورات هو أنّ كلمة (كلّ) دائماً تكون معاندة لبدليّة مدخولها، أعني: أنّه مهما كان مدخولها يفيد البدليّة فكلمة (كلّ) تحكم على هذه البدليّة وتقضي عليها، فالسرّ فيما وقع من الفرق بين دخول كلمة (كلّ) على المعرفة أو النكرة عدداً كان المدخول أو غيره ـ فعلى الأوّل يفيد استيعاب الأجزاء وعلى الثاني يفيد استيعاب الأفراد ـ هو أنّ النكرة في نفسها تقتضي البدليّة والمعرفة لا تقتضيها(1).

ثُمّ لا يخفى أنّه لا يرد على ما ذكرناه النقض بقوله تعالى: ?كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيل﴾ بدعوى أنّه في هذه الآية أفاد استيعاب الأفراد مع أنّه دخل على المعرفة؛ وذلك لأنّ مفهوم الطعام يكون بنحو يمكن عدّ أفراده أجزاءً له، أعني: أنّ صدقه على الكثير كصدقه على القليل، نظير مفهوم الماء، وكلّ ما كان من هذا القبيل فإدخال كلمة (كلّ) عليه يدلّ على استيعاب الجميع، كما في قولنا: (كلّ الماء حلال شربه)، أو (كلّ الجبن حلال أكله) ونحو ذلك، ولكن لا يقال مثلا: (كلّ الإنسان حيوان ناطق)، بل يقال: (كلّ إنسان حيوان ناطق).



(1) أقول: لعلّ الأولى هو العكس، بأن يقال: إنّ الأصل في كلمة (كلّ) إرادة استيعاب الأفراد، ولهذا صارت معاندة لبدليّة مدخولها وقاضية عليها، ولكن حينما يكون معرفة فبما أنّ المعرفة تشير عادة إلى فرد معيّن ينصرف الكلام إلى استيعاب أجزاء الفرد؛ إذ لا معنى لاستيعاب أفراد الفرد. وبكلمة اُخرى: إنّ المعرفة بما هي معرفة لا يتصوّر لمفهومها أفراد حتّى تفيد كلمة (كلّ) استيعابها فتنصرف إلى استيعاب الأجزاء. وهذا يشمل حتّى المعرّف بلام الجنس، فإنّه بما هو معرّفٌ لا يفترض له أفراد فينصرف الأمر إلى استيعاب الأجزاء. وهذا البيان أقرب إلى كلام الشيخ العراقيّ(رحمه الله) منه إلى كلام اُستاذنا الشهيد(قدس سره).

226

 

دخول كلمة (كلّ) على التثنية أو الجمع:

واعلم أنّ التثنية أيضاً حالها حال العدد من حيث الأقسام الثلاثة، فإن قيل: (اقرأ كلّ الكتابين) فحاله حال قولنا: (اقرأ كلّ العشرة). وإن قيل: (اقرأ كلّ كتابين) فحاله حال قولنا: (اقرأ كلّ عشرة). وإن قيل: (اقرأ كلّ واحد من الكتابين) فحاله حال قولنا: (اقرأ كلّ واحد من العشرة).

نعم، هنا فرق بين التثنية والعشرة، وهو: أنّ استيعاب الأجزاء المستفاد من كلمة (كلّ) الداخل على (العشرة) كقولك: (قرأت كلّ العشرة) يكون بالنظر إلى كلّ واحد واحد من العشرة، في قبال قولك: (قرأت العشرة إلّا واحداً منها)، لا بالنظر إلى أجزاء كلّ واحد منها، ولكن لو قيل مثلا: (قرأت كلّ الكتابين) حصل الاستيعاب حتّى بالنظر إلى أجزاء كلّ واحد؛ لأنّ هذا الكلام لا يكون في قبال قولك: (قرأت الكتابين إلّا واحداً منهما)؛ لعدم صحّة استثناء الواحد من الاثنين حتّى يؤكّد عدم هذا الاستثناء بكلمة (كلّ)، بل هو في قبال قولك: (قرأت الكتابين إلّا بعضاً من أحدهما)، أو: (إلّا بعضاً منهما).

ويظهر بالنظر إلى جميع ما ذكرناه حال الجمع أيضاً(1).

 



(1) بفرق أنّ (أكرم كلّ العلماء) قد يعدّ لام الجماعة فيه تأكيداً لكلمة (كلّ)، فالمدخول في الحقيقة هو (عالم) وليس (علماء) أي: دخل على كلمة (عالم) هيئة الجمع المحلّى باللام وكلمة (كلّ).

227

 

أداة العموم

الجهة الرابعة: في أداة العموم.

 

دلالة كلمة (كلّ) ونحوها على العموم:

لا إشكال من أحد في أنّ كلمة (كلّ) ونحوها كـ (جميع) من أدوات العموم إلّا من بعض السابقين، حيث استشكل في ذلك، بل قيل: إنّه حقيقة في الخصوص. ولا نعتني بهذا القول ولا بالبحث عنه.

والذي يكون هنا جديراً بالبحث هو: أنّه هل نحتاج في استفادة العموم من كلمة (كلّ) ونحوه إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله أو لا؟

ذهب المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) إلى أنّ وضع (كلّ) ونحوه ثبوتاً يلائم مع الاحتياج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول وعدمه، بمعنى أنّه يمكن وضعه بنحو نحتاج إليها مع وجوده في الكلام، ويمكن وضعه بنحو لا نحتاج إليها معه.

توضيح ذلك: أنّ اسم الجنس وضع للطبيعة المهملة، وأعني بذلك: الجامع بين المطلق والمقيّد، فإن اُريد المقيّد فلابدّ من الإتيان بقرينة تدلّ على القيد، وإن اُريد المطلق فلابدّ أيضاً من الإتيان بقرينة تدلّ على الإطلاق، سواء كانت قرينة خاصّة أو كانت قرينة عامّة وهي مقدّمات الحكمة؛ لأنّ المفروض أنّ تلك الكلمة بنفسها لا تدلّ على ما اُريد من المقيّد أو المطلق، لكونها موضوعة للجامع بينهما.

ثُمّ كلمة (كلّ) من الممكن أن يضعها الواضع لاستيعاب ما اُريد من مدخولها، ومن الممكن أن يضعها لاستيعاب تمام ما يصلح مدخولها للانطباق عليه، فإن

228

وضعها على النحو الأوّل فلا محالة نحتاج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخولها؛ إذ المفروض أنّ كلمة (كلّ) إنّما تدلّ على استيعاب ما اُريد من مدخولها، ومدخولها إنّما هو اسم الجنس وهو غير دالّ بنفسه إلّا على الطبيعة المهملة، ولا يدلّ على ما اُريد من إطلاق أو تقييد، فلابدّ من تعيين كون المراد هو المطلق بمقدّمات الحكمة حتّى يثبت استيعاب (كلّ) لجميع أفراد هذا المطلق.

وإن وضعها على النحو الثاني فلا حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول؛ لأنّها بنفسها تدلّ على استيعاب تمام الأفراد التي يصلح المدخول للانطباق عليها.

هذا ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بحسب مقام الثبوت، وأمّا بحسب مقام الإثبات فاستظهَرَ الثاني، أعني: عدم الاحتياج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول(1).

ولكنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) ذهب إلى أنّ استيعاب كلمة (كلّ) لكلّ الأفراد يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول(2).

وذهب السيّد الاُستاذ دامت بركاته(3) والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(4) إلى عدم



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 334 بحسب الطبعة المعروفة بطبعة المشكينيّ.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 518 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 450 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(3) راجع أجود التقريرات الطبعة السابقة الذكر، ج 1، ص 440 ـ 441، تحت الخطّ، وكذلك ص 451، تحت الخطّ، وكذلك راجع المحاضرات، ج 5، ص 159 بحسب الطبعة الثالثة لدار الهادي للمطبوعات بقم.

(4) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 446 ـ 448 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

229

الاحتياج إلى ذلك كما استظهره المحقّق الخراسانيّ، وزادا عليه: أنّه لا يمكن ثبوتاً توقّف استفادة استيعاب تمام الأفراد من كلمة (كلّ) على إطلاق المدخول.

وقد أفاد المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) في وجه توقّف استفادة العموم من كلمة (كلّ) على إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول: أنّ كلمة (كلّ) إنّما تدلّ على استيعاب المدخول لا على تعيين المدخول، ولذا لا مانع من قِبَل هذه الكلمة عن دخولها على أيّ مدخول(2)، فتراها تدخل على المدخول المقيّد على حدّ دخولها على المفهوم المطلق، فلا فرق من ناحية (كلّ) بين قولنا: (أكرم كلّ إنسان)، وقولنا: (أكرم كلّ إنسان عالم)، وقولنا: (أكرم كلّ إنسان عالم عادل) ونحو ذلك، فمهما اُريد تقييد المدخول وتحصيصه إلى أيّ درجة شئنا فكلمة (كلّ) لا تأبى عن ذلك.

واسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيّد، فتارةً يقصد به الطبيعة الموجودة في ضمن المطلق، واُخرى الطبيعة الموجودة في ضمن المقيّد، وكلمة (كلّ) كما عرفت غير معيّنة للمدخول فهي لا تعيّن كون مدخولها الطبيعة المطلقة أو المقيّدة؛ لعدم إبائها عن الدخول على كلّ من المطلق والمقيّد، فلابدّ من إثبات كون المدخول هو المطلق بمقدّمات الحكمة كي تدلّ كلمة كلّ على استيعاب أفراد هذا المطلق.

وقد علّق السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا التقريب بأنّ عدم دلالة كلمة



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 518 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 450 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) هذا الاستشهاد غير موجود في عبارة التقريرات وإنّما ذكر ذلك هنا كتوجيه فنّيّ لكلام المحقّق النائينيّ(قدس سره).

230

(كلّ) على تعيين المدخول ممنوع، بل هي تعيّن المدخول وتدلّ على أنّه هو المطلق واللابشرط القسميّ لا المقيّد، فلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة.

وبكلمة اُخرى: إنّ كون المدخول مطلقاً تارةً يستفاد من عدم القرينة على القيد، واُخرى من القرينة على عدمه، وما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأوّل، ولولا ذلك لما أمكن التصريح بالعموم أصلا مع أنّه واضح البطلان، بل لا يحتمل ثبوتاً عدم إغناء كلمة (كلّ) عن مقدّمات الحكمة وتوقّف استفادة العموم والاستيعاب منها على جريان مقدّمات الحكمة في المدخول الدالّة على استيعابه؛ إذ مع فرض إحراز الاستيعاب في الرتبة السابقة تلغو كلمة (كلّ). هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

وقد لوّح المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) إلى تقريب آخر لإبطال الاحتياج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، وهو: أنّه لو فرض استيعاب المدخول بجريان مقدّمات الحكمة في الرتبة السابقة على الأداة فالاستيعاب بعد ذلك بالأداة مرّة ثانية ـ بأن يصير المدخول المستوعب مستوعباً ـ محال؛ لاستحالة قبول المماثل للمماثل كما يستحيل قبول المقابل للمقابل(1).

أقول: إنّ كلاًّ من كلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) مع كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ مع أصل التقريب الذي أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا يخلو عن إشكال.

أمّا كلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) فيرد عليه:

أوّلا: أنّ الإطلاق ـ على ما هو الحقّ المحقَّق ـ ليس عبارة عن الاستيعاب كالعموم حتّى يقال: إنّ المستوعَب لا يُستوعَب في طول كونه مستوعَباً، بل هو



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 447 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

231

عبارة عن تعرية الخصوصيّات الفرديّة ولحاظ الطبيعة معرّاة عن تلك الخصوصيّات،فالتكثّر يلغى في الإطلاق ويلحظ في العموم، بمعنى أنّه في العموم يرى جميع الأفراد من حيث هي أفراد، وفي الإطلاق يرى ذات الطبيعة بلا نظر إلى الأفراد من حيث هي، فكم فرق بينهما.

وثانياً: أ نّا لو سلّمنا أنّ الإطلاق أيضاً عبارة عن الاستيعاب، فالمستوعَب في الرتبة السابقة على الأداة هو ذات المدخول، والمستوعَب الثاني هو الأداة؛ لأنّ كلمة (كلّ) تفيد المفهوم الاسميّ المستوعب، وليست حرفاً حتّى تدلّ على استيعاب المدخول حتّى يلزم استيعاب المستوعَب.

وأمّا كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ففي الحقيقة ينحلّ إلى كلامين:

أحدهما: تعيين كلمة (كلّ) إثباتاً واستظهاراً لمدخولها وإفادة كون مدخولها مطلقاً وإلّا لما أمكن التصريح بالعموم، في حين أنّه لا شكّ في إمكان التصريح بالعموم لدى العرف ويكون ذلك بمثل كلمة (كلّ).

وثانيهما: دعوى أنّه لا محيص ثبوتاً من استغناء (كلّ) عن إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله وإلّا لزمت اللغويّة.

ولعلّ نظره في كلامه الثاني إلى الاستدلال على ما قرّره في كلامه الأوّل من دعوى تعيين كلمة (كلّ) لمدخولها وإفادة كونه مطلقاً.

وعلى أيّة حال فكلا كلاميه لا يخلو من نظر:

أمّا كلامه الثاني ـ وهو لزوم اللغويّة ـ فصحيح أنّه لا يرد عليه نفي اللغويّة بدعوى أنّ الفائدة هي التأكيد؛ لأنّ فرض الطوليّة بين إفادة الكلّ للعموم ومقدّمات الحكمة يبطل التأكيد، ولكنّه مع ذلك نمنع لزوم اللغويّة، سواء اُريد بها اللغويّة في

232

الوضع أو في الاستعمال:

إذ لو اُريد باللغويّة لغويّة الوضع ورد عليه:

أوّلا: أنّ العموم والإطلاق ليس مفادهما متّحداً حتّى يلزم لغويّة الوضع، فإنّ العموم هو الاستيعاب، ومقدّمات الحكمة لا تفيد الاستيعاب حتّى يقال: إنّ الاستيعاب المتوقّف على الاستيعاب لغو، بل تفيد نفي الخصوصيّات ولحاظ الطبيعة مجرّدة عنها. وهذا هو الإيراد الأوّل الذي أوردناه على المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ويكفي داعياً إلى الوضع نفس كون معنى العموم غير معنى الإطلاق، وإن فرض عدم ثبوت نتيجة عمليّة بالنسبة للحكم الشرعيّ، فإنّ الفائدة المترقّبة من الوضع إنّما هي إفادة المعاني المختلفة سواء اختلفت بذلك النتيجة من حيث الحكم الشرعيّ أو لا.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا كون مفاد كلّ منهما الاستيعاب، فالاستيعاب العموميّ وإن كان في طول الاستيعاب الحكميّ فلا يعقل تأكيده به، لكن إفادة كلمة (كلّ) لعرضيّة الاستيعاب وعدم كونه بدليّاً ليست في طول كون الاستيعاب الحكميّ عرضيّاً لا بدليّاً، فإن كان الكلام بحيث تستفاد العرضيّة منه مع قطع النظر عن كلمة (كلّ) كانت كلمة (كلّ) تأكيداً للعرضيّة، وإلّا كانت بياناً لها فلا يلغو الوضع. هذا بالنسبة للأداة التي تفيد خصوصيّة العرضيّة، وكذلك الكلام فيما لو فرضت إفادتها للخصوصيّة البدليّة، فإنّه أيضاً لا يلغو وضع الأداة؛ لأنّه يبيّن هذه الخصوصيّة أو يؤكّدها.

وإن اُريد باللغويّة لغويّة الاستعمال، ورد عليه:

أوّلا: ما عرفت من أنّ أداة العموم تفيد الخصوصيّة العرضيّة أو البدليّة تأكيداً أو بياناً.

وثانياً: أنّه مع قطع النظر عن ذلك ربّما يوجد هناك تفنّن في استعمال أداة

233

العموم في الكلام، كما لو اُريد بيان الحكم رأساً على الأفراد لا على الطبيعة المجرّدة التي هي مفاد الإطلاق، لنكتة أنّ ما اشتمل على ملاك الحكم هو نفس خصوصيّات الأفراد من حيث هي مثلا.

وأمّا كلامه الأوّل ـ وهو: أنّ كلمة (كلّ) تعيّن مدخولها وتدلّ على أنّه مطلق بمعنى اللابشرط القسميّ ـ فيرد عليه: أنّ هذا صِرف دعوى لا دليل عليها. وأمّا ما استدلّ به لذلك من فهم العرف التصريح بالعموم فلا يصلح دليلا على مدّعاه، وكلامه الثاني لو تمّ في نفسه لا يصلح أيضاً دليلا على ما في كلامه الأوّل من دعوى تعيين (كلّ) لمدخوله؛ فإنّ غاية ما يثبت بهما هي عدم صحّة توقّف العموم على ثبوت الإطلاق في الرتبة السابقة عليه، وهذا لا يستلزم كون كلمة (كلّ) دالّة على كون مدخولها مطلقاً بمعنى اللابشرط القسميّ إلّا بناءً على أنّ الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيّد لا تقبل الانطباق على الأفراد. فإن تمّ هذا المبنى صحّ أن يقال: إنّ كلمة (كلّ) بما أنّها تقتضي الانطباق على الأفراد تدلّ على أنّ مدخولها مطلق بهذا المعنى لا مهمل، لكن هذا المبنى غير صحيح لا عندنا ولا عند السيّد الاُستاذ.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو بني على هذا المبنى الباطل ـ وهو عدم قابليّة انطباق الطبيعة المهملة على الأفراد ـ ورد إشكال آخر على ما مضى من دعواه لزوم اللغويّة في الأداة إذا احتاجت في إفادة العموم إلى مقدّمات الحكمة؛ إذ تكفي عندئذ فائدة لها أنّها تنفي احتمال الإهمال بالوضع.

والخلاصة: أنّه لا دليل على أنّ كلمة (كلّ) تجعل مدخولها مطلقاً، فليكتفى مثلا بادّعاء أنّ كلمة (كلّ) لا تحتاج في الاستيعاب إلى تعيين مدخولها في المطلق بمقدّمات الحكمة؛ لأنّها تستوعب أفراد ما يقبل المدخول ـ حتّى على إهماله ـ

234

الانطباق عليه، بدليل إمكانيّة التصريح بالعموم أو بدليل لزوم اللغويّة.

نعم، لو كانت كلمة (كلّ) حرفاً تجعل المدخول مستوعباً صحّ أن يقال: إنّها تدلّ على أنّ المدخول مطلق، بناءً على أنّ الإطلاق يفيد الاستيعاب كالعموم، لكنّها ليست حرفاً بل هو اسم يفيد المفهوم المستوعِب.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في مقام إثبات الاحتياج إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول: من أنّ كلمة (كلّ) تدلّ على استيعاب المدخول لا على تعيينه، فيستفاد منه الفراغ عن أنّها لو دلّت على استيعاب المدخول لا على تعيينه لا يستفاد منها العموم بدون إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول. وهو المستفاد أيضاً من جواب السيّد الاُستاذ دامت بركاته؛ إذ أجاب بدعوى دلالتها على تعيين المدخول لا على صرف الاستيعاب.

فدليل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على مدّعاه ـ من الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة ـ في الحقيقة مركّب من مقدّمتين:

الاُولى: دعوى أنّ كلمة (كلّ) إنّما تدلّ على استيعاب المدخول لا على تعيينه.

الثانية: دعوى أنّ عدم دلالة (كلّ) على تعيين المدخول مستلزم لعدم استفادة العموم منها بدون إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول. وهذا هو الذي قلنا: إنّ المستفاد من جواب السيّد الاُستاذ تسليمه، فكأنّه ـ دامت بركاته ـ صدّق الكبرى وأورد الإشكال على الصغرى وهي المقدّمة الاُولى.

أقول: أمّا الكبرى ـ وهي دعوى استلزام دلالة (كلّ) على خصوص استيعاب مدخوله دون تعيينه لعدم استفادة العموم منه بدون إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله ـ: فلا تسمع إلّا بإثبات استحالة استفادة العموم منه عندئذ ثبوتاً أو عدم إمكان ذلك إثباتاً، فإن كان المراد عدم إمكانه إثباتاً فسيظهر ـ إن شاء الله ـ ما هو

235

التحقيق في ذلك عند بيان ما هو المختار عندنا، وإن كان المراد الاستحالة في مرحلة الثبوت فهي متوقّفة على القول بعدم قبول الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيّد للانطباق على الأفراد كما هي كذلك عند المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وأمّا على ما هو الحقّ من أنّ الجامع بينهما قابل للانطباق عليها فمن الممكن ثبوتاً كون كلمة (كلّ) موضوعة لاستيعاب المعنى الاستعماليّ لمدخوله الذي هو الطبيعة المهملة، فتدلّ ـ لا محالة ـ على العموم مع فرض عدم تعيين مدخولها، أي: عدم إثبات أنّ مدخولها مطلق.

هذا مضافاً إلى أنّه لو قبلنا ذلك المبنى، أعني: عدم قابليّة الجامع بين المطلق والمقيّد للانطباق على الأفراد فأيضاً من الممكن ثبوتاً استفادة العموم من (كلّ) بدون إجراء مقدّمات الحكمة مع فرض أنّه لا يعيّن المدخول، وذلك بدعوى كون كلمة (كلّ) موضوعة لاستيعاب أفراد مطلق مدخوله.

وأمّا الصغرى ـ وهي دعوى عدم دلالة (كلّ) على تعيين المدخول ـ: فإن كان المراد دعوى استحالة دلالته على التعيين ثبوتاً فهذا صحيح. ويدلّ عليه: أنّ دلالة لفظ (كلّ) على تعيين المدخول علاوة على دلالته على استيعابه غير متصوّر، فإنّه يلزم استعمال اللفظ في معنيين أو تركّب المفهوم. نعم، يمكن ثبوتاً كونه دالّاً على استيعاب مطلق مدخوله كما ذكرناه في الإيراد الثاني الذي أوردناه على الكبرى، بناءً على كونها دعوى ثبوتيّة لا إثباتيّة، وأمّا دلالته على أنّ مدخوله مطلق مع دلالته على استيعاب هذا المطلق فغير ممكن.

ومن هنا انقدح إشكال آخر على السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ علاوة على ما سبق، حيث التزم في مقام الجواب عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) بدلالة لفظ (كلّ) على كون مدخوله مطلقاً وبنحو اللابشرط القسميّ.

236

وإن كان المراد إنكار دلالته على تعيين المدخول إثباتاً بعد تسليم إمكان ذلك ثبوتاً، فغاية ما يمكن الاستدلال به على ذلك هي ما نراه وجداناً من أنّ كلمة (كلّ) لا تأبى عن الدخول على أيّ شيء، مطلقاً كان أو مقيّداً بأيّ درجة من درجات التقييد، فكما يقال: (أكرم كلّ شخص)، كذلك يقال: (أكرم كلّ شخص عالم)، أو (كلّ شخص عالم عادل) بلا مؤونة في هذا الكلام.

ويرد عليه: أنّ مَن يدّعي دلالة (كلّ) على تعيين المدخول يقول: إنّها تدلّ على أنّ ما ذكر في اللفظ بعدها ـ سواءً كان وسيع الدائرة أم ضيّقها ولو بقيد زائد بحسب اللفظ ـ يكون مطلقاً بالنسبة لسائر التقيّدات غير المذكورة في اللفظ. وهذا ـ كما ترى ـ لا ينافي عدم إباء كلمة (كلّ) عن الدخول على أيّ مدخول.

وأمّا بيان ما هو التحقيق عندنا في هذا المقام فنقول: إنّ الحقّ هو دلالة مثل كلمة (كلّ) على العموم بلا حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة في المدخول، ولا نكتفي بالاستدلال بدعوى الفهم العرفيّ بل نزيد على ذلك ذكر برهانين:

البرهان الأوّل: أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تدلّ على أنّ المراد الجدّيّ هو المطلق، أي: على أنّ موضوع الحكم في عالم الثبوت هو الطبيعة المطلقة بالإطلاق الذاتيّ، أعني: الطبيعة الملحوظة بحدودها الذاتيّة بلا قيد.

وأمّا المراد الاستعماليّ ـ وهو المعنى المستفاد بالوضع المستعمل فيه اللفظ ـ فدائماً يكون هو الطبيعة المهملة الموجودة في ضمن المطلق والمقيّد، وهي الطبيعة بحدودها الذاتيّة التي هي أيضاً نسمّيها بالمطلق الذاتيّ، ولا إشكال في أنّ (كلّ) دائماً يدلّ على الاستيعاب، أي: أنّه يستوعب أفراد مفهوم.

وعلى هذا فإمّا أن يدّعى أنّه يستوعب أفراد المعنى الاستعماليّ للمدخول بتمامها، أو يدّعى أنّه يستوعب من أفراد المدخول خصوص ما ينطبق عليه ما في

237

ذهن المتكلّم، أو يدّعى أنّه يستوعب أفراد المراد الجدّيّ، أي: أفراد ما هو موضوع للحكم الجدّيّ ثبوتاً.

فإن ادّعي الثالث لزم عدم دلالة (كلّ) على الاستيعاب عند عدم وجود حكم جدّيّ، كما لو قال سخريّةً: (أكرم كلّ بني اُميّة)، فلابدّ أن لا يكون (كلّ) في مثل هذا الكلام مستعملا فيما وضع له، وهذا واضح البطلان. وإن ادّعي الأوّل أو الثاني ثبت عدم احتياج كلمة (كلّ) إلى إجراء مقدّمات الحكمة في مدخوله؛ لأنّ مقدّمات الحكمة مربوطة بعالم المراد الجدّيّ؛ إذ هي تعيّن المراد الجدّيّ، وأداة العموم تستوعب أفراد المراد الاستعماليّ أو خصوص ما ينطبق عليه ما في ذهن المتكلّم فيستحيل احتياجها إلى مقدّمات الحكمة؛ إذ إنّ أداة العموم تسير في عالم ومقدّمات الحكمة تسير في عالم آخر وكلٌّ في فلك يسبحون.

ولا يخفى أنّ الاحتمال الثاني أيضاً غير صحيح؛ إذ لو كانت كلمة (كلّ) موضوعة لاستيعاب أفراد المدخول بمعنى خصوص ما ينطبق عليه ما في ذهن المتكلّم لزم عدم إمكان إحراز العموم في مورد إلّا نادراً، فإنّ معنى قوله: (أكرم كلّ عالم) بناءً على هذا الاحتمال هو: أكرم كلّ فرد من أفراد العالم ينطبق عليه ما في ذهنيّ، ونحن لا نعلم ما في ذهنه ولا أصل يعيّن ما في ذهنه إلّا في دائرة المعنى الاستعماليّ ـ وهي أصالة الحقيقة ـ وهذا يرتبط بالاحتمال الأوّل، أو في دائرة الإرادة الجدّيّة وهذا يرتبط بالاحتمال الثالث، وفي غير هاتين الدائرتين لا يوجد عند العقلاء أصلٌ يقول بأنّ المتكلّم في مقام بيان كلّ ما في ذهنه حتّى يستنتج من ذلك ـ بعد ضمّه إلى عدم ذكر القيد ـ أنّ ما في ذهنه هو الطبيعة المطلقة مثلا.

وعلى هذا فيتعيّن الاحتمال الأوّل، أعني: أنّ كلمة (كلّ) تستوعب أفراد المدلول الاستعماليّ من اللفظ الذي هو الطبيعة المهملة المحفوظة ضمن المطلق

238

والمقيّد على ما هو الحقّ من إمكان انطباقها على الأفراد.

وقد ظهر بهذا البيان: أنّ كلمة (كلّ) تدلّ على العموم بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة، ولكن ليس هذا برهاناً على الاستحالة الثبوتيّة للاحتياج إلى مقدّمات الحكمة وعدم معقوليّة ذلك؛ لإمكان فرض وضع كلمة (كلّ) لاستيعاب أفراد المراد الجدّيّ من المدخول، لكنّه ممنوع إثباتاً؛ لما ترى بالضرورة من أنّ كلمة (كلّ) تكون دالّة على ما وضعت له من الاستيعاب حتّى في فرض عدم ثبوت حكم جدّيّ كما مضى مثاله.

البرهان الثاني: أنّه لو فرض أنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد ما اُريد صبّ الحكم الجدّيّ عليه فلا يرد البرهان الأوّل، قلنا: إنّنا كنّا في مثل (أكرم العالم) بحاجة إلى مقدّمات الحكمة لنفي وجود القيد للمدخول في المراد الجدّيّ، كي يثبت سريان الحكم بمعنى من المعاني على تمام أفراد المدخول، وأمّا في مثل (أكرم كلّ عالم) فما هو المقصود بقولكم: أداة العموم تدلّ على استيعاب أفراد ما اُريد من المدخول؟

فإن كان المقصود بذلك أخذ قيد ما اُريد من المدخول في المدلول الاستعماليّ لكلمة (كلّ) والموضوع له تلك الكلمة، فمن الواضح أنّ هذا لا يؤدّي إلى العموم المقصود بل يؤدّي إلى الإجمال؛ لأنّ أصالة التطابق بين المدلول الاستعماليّ والمدلول الجدّيّ ـ بمعنى نفي أيّ إضافة أو قيد عليه في عالم الجدّ ـ إنّما تجري بعد تعيين المدلول الاستعماليّ بحدوده، أمّا في المقام فقد أصبح المدلول الاستعماليّ مردّداً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ قيد (ما اُريد من المدخول) دخل في المدلول الاستعماليّ لـ (كلّ)، فأصبح وزان قوله: (أكرم كلّ عالم) وزان ما لو صرّح بالأمر بإكرام كلّ مَن هو داخل في مراده الجدّيّ من كلمة عالم، ومن الواضح أنّه

239

لو صرّح بذلك أصبح الكلام مجملا ولم يمكن تعيين المراد الجدّيّ في المطلق بمقدّمات الحكمة.

وإن كان المقصود بذلك تعيين ما اُريد من المدخول ابتداءً ثُمّ صبّ كلمة (كلّ) عليه من دون أخذ ذلك في المدلول الاستعماليّ لكلمة (كلّ)، قلنا: مادام أنّ هذا ليس داخلا في المدلول الاستعماليّ لكلمة (كلّ) فالقيد كيف يحتمل وجوده حتّى ينفى بمقدّمات الحكمة كي تدلّ كلمة (كلّ) على العموم؟ فإمّا أن يفترض احتمال أخذه في معنى المدخول وهذا يعني احتمال التجوّز؛ لأنّ استعمال الكلمة الموضوعة للطبيعة في المقيّد مجاز، وهذا ينفى بأصالة الحقيقة بلا حاجة إلى مقدّمات الحكمة. وإمّا أن يفترض احتمال القيد بتقييد إضافيّ لم يشتمل عليه المدخول ولم يرد بالمدخول إلّا معناه الحقيقيّ، وهذا يعني أنّ كلمة (كلّ) لم تستوعب إذن أفراد ما اُريد من المدخول، فهذا القيد المحتمل منفيّ بالدلالة اللغويّة لكلمة (كلّ).

والخلاصة: أنّ إرادة المقيّد ـ لو لم يؤخذ قيد ما اُريد من المدخول في نفس معنى (كلّ) ـ يستحيل أن تجتمع مع إرادة المعنى الحقيقيّ من كلمة (كلّ) ومن مدخولها؛ لأنّ القيد لو دخل في المدخول لزم التجوّز في المدخول، ولو خرج من المدخول ففرض التقيّد بقيد خارجيّ هو بمعنى عدم استيعاب الكلّ لأفراد ما اُريد من المدخول.

وهذا البرهان الثاني يثبت استحالة احتياج كلمة (كلّ) في الدلالة على العموم إلى مقدّمات الحكمة.

وهناك تقريب ثالث للبرهان نذكره وفق مبنى الشيخ النائينيّ(رحمه الله) وليس على مبنانا.