112

 

موقف المحقّق العراقيّ:

وقد أجاب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) عن شبهة حمل الحديث على الرفع الواقعيّ بوجهين، أحدهما عرفيّ، والثاني فنّيّ:

أمّا الوجه الأوّل: فهو أنّ قوله: «رفع عن اُمّتي» ظاهر في سوق الحديث مساق الامتنان، وبهذه القرينة يجب أن نلتزم بأنّ المقدار المرفوع هو المقدار الذي يكون ثبوته خلاف الامتنان، ويكون رفعه امتناناً، وهذا المقدار عبارة عن وجوب الاحتياط، فإنّه يوجب الكلفة على العبد، ويكون رفعه امتناناً. وأمّا رفعه برفع منشأه، أي: رفع كلّ من وجوب الاحتياط والواقع معاً، فالزائد فيه ليس توسعة على العباد، وليس فيه امتناناً عليهم، فإنّ مجرّد ثبوت الواقع لا يوجب كلفة على العباد(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذه القرينة مبنيّة على المبنى المشهور من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ على ذلك لا تكون مشقّة في التكليف الواقعيّ في نفسه بقطع النظر عن إيجاب الاحتياط، وإنّما يوجب التكليف المشقّة عند عدم العلم بتوسيط إيجاب الاحتياط، فليرفع الوسط في مقام الامتنان لا أصل التكليف. وأمّا بناءً على ما حقّقناه من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فالتكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ موضوع لحكم العقل بلزوم الامتثال بلا حاجة إلى توسيط إيجاب الاحتياط.

ولا نقول: إنّ الموضوع لحكم العقل بالامتثال هو التكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ زائداً اهتمام المولى به في ظرف الشكّ، حتّى يقال: إنّ نفي الاهتمام هو الذي يتجسّد فيه الامتنان، وليس في نفي الواقع زائداً على نفي الاهتمام امتنان،



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 212.

113

بل نقول: إنّ الموضوع لحكم العقل بالامتثال هو التكليف الواقعيّ بوجوده الاحتماليّ زائداً عدم وصول الترخيص، فلو لم يصل الترخيص وجب الامتثال؛ لنفس عدم وصول الترخيص مع احتمال التكليف، لا من باب احتمال اهتمام المولى بالتكليف في ظرف الشكّ، فالامتنان يكون بأحد أمرين في عرض واحد، إيصال الترخيص(1)، ورفع التكليف الواقعيّ.

وثانياً: أنّنا لو سلّمنا أنّ التكليف الواقعيّ في نفسه لا يتطلّب الامتثال، وإنّما يوجب الكلفة بتوسّط إيجاب الاحتياط، قلنا: إنّ التكليف الواقعيّ وإن لم يوجب الكلفة مباشرة، لكنّه واقع في طريق تحقّق الكلفة، فيكون رفع هذا التكليف واقعاً في صراط الامتنان وموجباً للامتنان، باعتبار أنّه مع رفع التكليف الواقعيّ المشكوك لا يبقى موضوع لذلك الوسط وهو إيجاب الاحتياط، فيقع التوسع للعباد. نعم، الامتنان لا يكون متوقّفاً على رفع التكليف، وإنّما هو متوقّف على رفع إيجاب الاحتياط بنفسه، أو برفع منشأه وهو التكليف. لكنّنا لا نسلّم ظهور الحديث في كون الرفع متوقّفاً عليه الامتنان، وإنّما نسلّم ظهوره في كونه امتنانيّاً وواقعاً في صراط الامتنان والتوسعة على العباد(2).

 


(1) الظاهر أنّ إيصال الترخيص إنّما يرفع حكم العقل بوجوب الامتثال، لكونه إيصالاً لعدم اهتمام المولى بالحكم، والموضوع الواقعيّ لحكم العقل بالامتثال لدى الشكّ، إنّما هو احتمال التكليف زائداً احتمال اهتمام المولى به. فإبراز عدم وجود تكليف يهمّه، هو الذي يرفع موضوع حكم العقل. وأمّا إبراز عدم أصل التكليف فأمر زائد لا يتوقّف عليه الامتنان.

(2) لا يخفى أنّنا لو قلنا: بأنّ الحكم عبارة عن الحبّ والبغض، فمن الواضح أنّ

114

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو بيان قرينة صناعيّة(1) في المقام ـ: فبيانها يتوقّف على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ رفع كلّ شيء نقيض وجوده، والنقيضان في مرتبة واحدة، فالرفع والمرفوع دائماً في مرتبة واحدة.

 


الامتنان إنّما يكون بنفي إيجاب الاحتياط لا بنفي الحكم الواقعيّ، لا للتقريب الماضي عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، بل لأنّ معنى نفي الحكم عدم الحبّ أو البغض، ومع عدمه لا مقتضي لثبوت الكلفة على العباد كي يمتنّ عليهم بالرفع. وأمّا لو قلنا: بأنّ الحكم عبارة عن الجعل والاعتبار، وهو أمر وسط بين الحبّ والبغض من ناحية، والإبراز من ناحية اُخرى، فمن الصحيح أن يقال: إنّ نفي هذا الجعل يكون امتنانيّاً عندما تكون المبادئ من المصالح والمفاسد والحبّ والبغض ثابتة، ولكنّ المولى نفى الجعل والاعتبار بغرض إفهام عدم اهتمامه بتلك المبادئ توسيعاً على العباد، وهذا امتنان، إلاّ أنّه يتمّ على هذا الفرض من الناحية الواقعيّة ما مضى من أنّه لا أثر عمليّ لمعرفة أنّ مفاد الحديث هل هو البراءة، أو نفي الحكم الواقعيّ؟ فعلى أيّ حال يتمّ التأمين، وهو المقصود. وما مضى من أنّ الأثر يظهر لدى علمنا صدفة بدليل خاصّ بشمول الحكم الواقعيّ ـ على تقدير ثبوته ـ لظرف الشكّ وإن كان صحيحاً عقلاً وفلسفيّاً، ولكن لا مورد له خارجاً، فلئن كان من حقّنا أن ندّعي القطع بثبوت الحكم بمعنى الحبّ والبغض في مورد الشكّ في كثير من الموارد، كالخمر مثلاً بمثل الضرورة الفقهيّة فليس من حقّنا عند دوران الأمر بين الترخيص الظاهريّ ورفع مجرّد الجعل والاعتبار واقعاً مع ثبوت المبادئ دعوى القطع بشمول الجعل والاعتبار ـ لو كان ـ بضرورة من هذا القبيل، ومن البعيد افتراض ورود نصّ يدلّ على ذلك.

(1) راجع المقالات، ج 2، ص 55 ـ 56. والعبارة لا تخلو من غموض يحتمل أن يكون نظره فيها إلى ما شرحه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا.

115

والثانية: أنّ الرفع المذكور في حديث الرفع متأخّر رتبة عن الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعيّ لأخذ ذلك في موضوعه، والشكّ في الحكم الواقعيّ متأخّر عن نفس الحكم الواقعيّ، فالرفع المذكور في حديث الرفع أصبح متأخّراً عن الحكم الواقعيّ، فلا يمكن أن يكون رفعاً لنفس الحكم الواقعيّ، وإلاّ لزم ـ بحكم المقدّمة الاُولى ـ أن يكون الحكم الواقعيّ في هذه المرتبة المتأخّرة، وهي مرتبة الرفع؛ لما مضى من اتّحاد مرتبة الرفع والمرفوع، ويكون بحكم هذه المقدّمة الثانية في مرتبة سابقة على الرفع، فلزم تقدّم الشيء على نفسه ووجوده في مرتبتين.

وهذا المحذور بنفسه هو المحذور الذي ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله)في بحث أخذ العلم بالحكم موضوعاً لشخص ذلك الحكم: من أنّ العلم بالحكم مؤخّر رتبةً عن نفس الحكم، فلو فرض أخذه موضوعاً له صار الحكم المتقدّم عنه رتبة مؤخّراً عنه تأخّر الحكم عن الموضوع، ولزم محذور الدور وتقدّم الشيء على نفسه(1).

و في الحقيقة يكون هذان العنوانان ـ أعني: عنوان أخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، وعنوان رفع التكليف غير المعلوم ـ وجهين لمطلب واحد، فإنّ رفع التكليف عن الشاكّ مساوق لاختصاص التكليف بالقاطع، ولهذا يأتي الإشكال الواحد في كلا الموردين ـ أعني: جانب الوضع، وجانب الرفع ـمع اختلاف العبارة بحسب اختلاف الوجهين. وجوهر الإشكال في كلا الموردين واحد.



(1) ومن هنا يظهر أنّ التقريب ليس بحاجة إلى نكتة كون النقيضين في رتبة واحدة حتّى يبطل عند من ينكر هذه القاعدة، بل يكفي في المقام أن يقال: إنّ رفع الحكم عن فرض الشكّ يعني أخذ العلم في موضوعه، بينما لا يمكن أخذ العلم بالحكم في موضوعه لتأخّره عنه.

116

وعندئذ نقول: إنّ الجواب في هذا المقام أيضاً هو نفس الجواب في ذاك المقام، وهو منع المقدّمة الثانية، فإنّه إن اُريد بتأخّر القطع أو الشكّ عن الحكم، تأخّره عن المقطوع أو المشكوك بالعرض، أي: الحكم بوجوده الخارجيّ الذي هو مصبّ الرفع الواقعيّ، فتأخّره عنه غير صحيح، كما حقّقناه في مسألة أخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، ولذا قد يوجد احتمال أو قطع مع عدم المحتمل أو المقطوع في الخارج. وإن أراد تأخّرهما عن المقطوع أو المشكوك بالذات فهو ليس مصبّاً للرفع، وإنّما مصبّه الحكم الخارجيّ(1).

 

وجه التحقيق في المسألة:

والتحقيق في المقام: أنّ هذا الحديث ليس ظاهراً في الرفع الواقعيّ، بل هو على بعض التقادير ظاهر في الرفع الظاهريّ، وعلى بعض التقادير مجمل، ونحن يكفينا الإجمال في اقتناص جميع النتائج المطلوبة من معنى البراءة. والثمرة التي مضى ذكرها فيما سبق من أنّنا لو علمنا في مورد مّا بدليل خاصّ عدم اختصاص الحكم الواقعيّ بفرض العلم، أمكن التمسّك بحديث الرفع لو كان مفاده البراءة، ولا يمكن التمسّك به لو كان مفاده نفي الواقع، أقول: هذه الثمرة إنّما تمنعنا عن التمسّك بحديث الرفع في هذا الفرض على تقدير ظهور الحديث في نفي الواقع. أمّا على الإجمال فمن حقّنا أن نتمسّك به لإثبات جامع الأمن. إذن لابدّ لنا هنا من توضيح اُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ الحديث ليس ظاهراً في الرفع الواقعيّ.



(1) نعم، كان لدينا وجه صحيح لاستحالة أخذ العلم بالحكم في متعلّق نفس المعلوم، ولكن عولج ذلك بمثل فرض أخذ العلم بالجعل في متعلّق المجعول على تحقيق وبيان مضى في محلّه.

117

والثاني: أنّه على تقدير إجمال الحديث وتردّده بين الرفع الواقعيّ والرفع الظاهريّ نحن نقتنص منه جميع النتائج المطلوبة من معنى البراءة.

والثالث: أنّ الحديث على بعض التقادير ظاهر في البراءة.

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو عدم ظهور الحديث في الرفع الواقعيّ ـ فبيان ذلك: أنّ نكتة دعوى ظهور الحديث في الرفع الواقعيّ إنّما هي اشتمال الرفع الظاهريّ على عناية زائدة، وتلك العناية الزائدة يمكن أن تتصوّر بأحد نحوين:

الأوّل: أن يقال: إنّه لو كان الرفع ظاهريّاً لزم كون مصبّ الرفع في الحديث غير مصبّ عدم العلم فيه؛ لأنّ مصبّ عدم العلم هو التكليف الواقعيّ، ومصبّ الرفع هو إيجاب الاحتياط الظاهريّ، وظاهر الحديث وحدة المصبّ فيهما، فيحمل الرفع على الرفع الواقعيّ كي لا نقع في مخالفة ظهور الحديث في وحدة المصبّ.

لا يقال: إنّ المرفوع وإن كان هو الحكم الظاهريّ، لكنّنا لا نفرضه مرفوعاً بقيد كونه ظاهريّاً، بل ذات الحكم يكون مرفوعاً، فالحكم هو متعلّق عدم العلم وهو المرفوع، فقد اتّحد مصبّ الأمرين.

فإنّه يقال: إن اُريد بذات الحكم ذاته بنحو سار في تمام أفراده، لزم رفع الحكم الواقعيّ أيضاً، وهو خلف. وإن اُريد به الحكم بنحو الإهمال، بمعنى أنّ حكماً مّا يكون مرفوعاً وحكماً مّا يكون متعلّقاً لعدم العلم، قلنا: إنّ حكماً مّا ـ أي: حصّة من الحكم ـ الذي تعلّق به الرفع إن كان في الواقع نفس حكم مّا الذي تعلّق به الشكّ وعدم العلم وهو الحكم الواقعيّ، لزم أيضاً رفع الحكم الواقعيّ، وإن كان في الواقع الفرد المرفوع غير الفرد المشكوك، فمصبّ الرفع غير مصبّ الشكّ وعدم العلم، ومجرّد كون كليهما حكماً مّا لا يعني اتّحاد المصبّين، فإنّ حكماً مّا الذي تعلّق به الرفع غير حكم مّا الذي تعلّق به عدم العلم، والحديث ظاهر بأقوى ظهور في اتّحاد مصبّ الأمرين مصداقاً لا مجرّد اتّحادهما في مفهوم حكم مّا.

118

والتحقيق: أنّنا نلتزم بظهور الحديث في وحدة المصبّين، لكن هذا لا يعني التسليم بكون الحديث ظاهراً في الحكم الواقعيّ؛ إذ بالإمكان تطعيم الظاهريّة في نفس الرفع ـ كما هو ظاهر عبارة الكفاية ـ لا في المرفوع، وبيان ذلك: أنّ الحكم الواقعيّ له وضعان: أحدهما نفس جعله الواقعيّ وثبوته في ظرف الشكّ وإن كان المكلّف غير ملزم به ومرخّصاً في تركه، والآخر جعل ثقله على المكلّف ووضعه على عاتقه بمعنى إلزامه بالإتيان به احتياطاً، و في قبال كلّ وضع رفع، فللحكم الواقعيّ رفعان: أحدهما رفعه بمعنى نفيه حقيقة، والآخر رفعه بمعنى تنحية ثقله عن عاتق المكلّف وعدم إلزامه بالعمل به وترخيصه في مخالفة التكليف عند الشكّ، وتطعيم الظاهريّة في نفس الرفع عبارة عن تعلّق الرفع بذلك الحكم بالمعنى الثاني.

الثاني: أن يقال: إنّه إذا طعّمت الظاهريّة في نفس الرفع كان ذلك خلاف ظاهر كلمة الرفع، ومشتملاً على عناية زائدة؛ وذلك لأنّ المعنى الحقيقيّ لرفع الحكم هو نفيه واقعاً لا تنحية ثقله عن عاتق المكلّف وعدم إلزامه به، ولهذا نحمل الرفع على الرفع الواقعيّ الذي ليس الرفع الحقيقيّ فيه بحسب الواقع رفعاً لبعض شؤون الحكم، وإنّما هو رفع حقيقة لنفس الحكم.

والجواب: أنّه لابدّ من إعمال هذه العناية في الرفع وإن فرض رفعاً حقيقيّاً، وهي عناية تعلّق الرفع الحقيقيّ ببعض شؤون الحكم الواقعيّ، وذلك لاستحالة كون العلم بشيء موضوعاً لنفس ذلك الشيء، لا لما مضى من الدور، بل بقطع النظر عن الدور كما بيّنّاه في باب أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم، فلابدّ أن يكون الرفع الواقعيّ للتكليف بحسب الدقّة راجعاً إلى أخذ العلم بشيء في موضوع شيء آخر، كأخذ العلم بالجعل في موضوع الفعليّة، فبالآخرة قد تعلّق الرفع بنفس متعلّق الشكّ وعدم العلم باعتبار الرفع الحقيقيّ لبعض شؤون ذلك كفعليَّته مثلاً.

119

إذن، فثبوت هذه العناية في الرفع الظاهريّ لا يجعل الحديث ظاهراً في الرفع الواقعيّ، بل غاية الأمر كون الحديث مجملاً ومردّداً بين الرفع الواقعيّ والظاهريّ.

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو اقتناص جميع النتائج المطلوبة للاُصوليّ من معنى البراءة من الحديث على تقدير إجماله وتردّده بين البراءة ورفع الحكم الواقعيّ ـ فتوضيحه: أنّ النتائج المطلوبة للاُصوليّ من هذا الحديث اُمور ثلاثة:

1 ـ التأمين في الجملة.

2 ـ إطلاق التأمين، بحيث يشمل فرض العلم باشتراك الحكم الإلزاميّ بين العالم والجاهل على تقدير ثبوته في نفسه.

3 ـ جعل هذا الحديث معارضاً لأدلّة الاحتياط. وجميع هذه النتائج تثبت في المقام بمجرّد الإجمال.

أمّا الاُولى: فواضح؛ إذ لا فرق في تحقّق التأمين بين جعل البراءة ورفع أصل الحكم الواقعيّ، فثبوت أحدهما بالإجمال كاف في المقام.

وأمّا الثانية: فلأنّه بعد أن فرض إجمال الحديث فلا يقطع بكونه مبتلى بمعارضة الدليل القطعيّ الدالّ على اشتراك ذلك التكليف ـ على تقدير ثبوته ـ بين العالم والشاكّ حتّى يسقط عن الحجّيّة، فلئن لم يمكن رفع إجمال الحديث بدلالة ذلك الدليل القطعيّ على بطلان أحد محتمليه ـ على ما بيّنّاه في بحث المجمل والمبيّن(1) ـ يكفينا أنّ التأمين أثر مترتّب على الجامع بين المحتملين، فالحديث حجّة في إثبات هذا الأثر؛ لعدم ثبوت معارض له. فالمكلّف يجمع بين أثر ذاك الدليل القطعيّ وأثر هذا الحديث مادام التعارض بينهما غير ثابت، فمثلاً لو علمبعد انتهاء الوقت بثبوت الحكم المشكوك وكان قد ترك العمل به، وكان ممّا يُقضى،



(1) وهذا ما عدل عنه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في الدورة الأخيرة من بحثه.

120

كان عليه القضاء عملاً بالدليل الدالّ على اشتراك الحكم بين العالم والشاكّ، ولكنّهكان في نفس الوقت معذوراً في تركه للامتثال في داخل الوقت بحكم حديث الرفع. فكما لو قطع بكون الرفع ظاهريّاً جمع بين الأثرين كذلك الحال على تقدير الإجمال.

وأمّا الثالثة: وهي معارضة هذا الحديث لأدلّة الاحتياط، فلأنّ وجوب الاحتياط كما يكون منافياً للرفع الظاهريّ كذلك يكون منافياً للرفع الواقعيّ؛ إذ لو فرضنا أنّ الأحكام الواقعيّة مخصوصة بالعالمين بها، إذن فلماذا يوجب الاحتياط؟! فهذا الحديث على إجماله يعارض أدلّة الاحتياط.

وأمّا الأمر الثالث ـ وهو ظهور الحديث في البراءة على بعض التقادير ـ فنقول: إنّ في الحديث قرينة على كون المراد من الرفع فيه هو الرفع الظاهريّ على تقدير أن يقال: إنّ معنى العلم في الحديث هو القطع من دون تطعيمه بفرض الإصابة، فإنّه على هذا يكون مقتضى إطلاق الحديث شمول الرفع لكلّ ما لا يقطع به من تكليف، سواء فرض ذلك التكليف ثابتاً في الواقع أو غير ثابت.

وهذا إنّما يناسب الرفع الظاهريّ، لا الرفع الواقعيّ، فإنّ رفع التكليف واقعاً عن الشاكّ معناه ثبوت تكليف في نفسه خصّص بالعالم. وأمّا لو فرض عدم التكليف حتّى على العالم فلا معنى لرفعه عن الشاكّ، فيكون الرفع واقعيّاً لايناسب شمول الرفع للتكليف الثابت في الواقع والتكليف غير الثابت في الواقع. وأمّا الرفع الظاهريّ فهو مناسب لكليهما، فإنّ الرفع الظاهريّ كالوضع الظاهريّ مناسب للتكليف المشكوك الثابت في الواقع والتكليف المشكوك غير الثابت في الواقع.

أمّا التكليف الثابت في الواقع المشكوك للمكلّف فإذا وضع على المكلّف بما هو تكليف مشكوك، فالوضع الحقيقيّ وإن توجّه إلى إيجاب الاحتياط إلاّ أنّه يصحّ أن ينسب الوضع بالعناية إلى الواقع بنكتتين:

الاُولى: أنّ إيجاب الاحتياط مسبّب عن ذلك التكليف الواقعيّ، فكأنّ وضعه وضع للتكليف الواقعيّ، ويضاف الوضع إلى المؤثّر بمناسبة ثبوت الوضع للأثر. وفي

121

مقابل هذا الوضع أيضاً ينسب الرفع إلى المؤثّر بمناسبة ثبوت رفع الأثر.

والثانية: أنّ إيجاب الاحتياط تحميل للواقع على المكلّف وتنجيز له عليه، فكأنّه بإيجاب الاحتياط قد وضع التكليف الواقعيّ على المكلّف، وبذلك صار له وجود. و في مقابله أيضاً ينسب الرفع إلى الواقع باعتبار أنّ رفع وجوب الاحتياط تنحية للواقع عن ابتلاء المكلّف به، فكأنّه إعدام للواقع.

وأمّا التكليف غير الثابت في الواقع فيعقل أيضاً وضعه الظاهريّ ورفعه الظاهريّ، فإنّه وإن كانت النكتة الاُولى غير ثابتة هنا؛ إذ ليس هناك إيجاب الاحتياط مسبّباً عن التكليف الواقعيّ؛ لأنّ المفروض عدمه، لكنّ النكتة الثانية ثابتة هنا، فإنّ إيجاب الاحتياط تحميل للواقع المحتمل على المكلّف، ورفعه رفع لهذا الوجود التحميليّ للواقع المحتمل.

إذن فإطلاق الموصول وشموله لكلا قسمي التكليف قرينة على كون الرفع رفعاً ظاهريّاً بناءً على عدم تطعيم العلم في الحديث بالإصابة.

وبكلمة اُخرى: إنّ التكليف المشكوك بما هو مشكوك ـ أي: الأعمّ من أن يكون ثابتاً في الواقع أو غير ثابت ـ لا يقبل إلاّ الرفع الظاهريّ، وإنّما الذي يقبل الرفع الواقعيّ هو التكليف الواقعيّ بما هو تكليف واقعيّ ثابت في نفسه. فإطلاق الموصول الدالّ على أنّ المرفوع هو التكليف المشكوك بما هو مشكوك لا بما هو ثابت في الواقع دليل على ظاهريّة الرفع.

والعمدة(1) في المقام ما عرفته من كفاية الإجمال في استنتاج النتائج المقصودة.



(1) لعلّه إشارة إلى أنّ كون المقصود من العلم ما يشمل القطع الخاطئ غير ثابت، أو إشارة إلى أنّ إطلاق الموصول لا يرفع إجمال كلمة (الرفع)، بل إجمال كلمة (الرفع) وتردده يجعل هذه الكلمة صالحة للقرينيّة على نفي الإطلاق، فالعمدة في المقام كفاية الإجمال.

122

 

شمول الحديث للموضوعات والأحكام:

وأمّا المقام الثاني: وهو شمول الحديث للشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً وعدمه، فشموله لهما معاً موقوف على أمرين:

الأوّل: ثبوت جامع بينهما يجعل مصبّاً للرفع.

والثاني: عدم قرينة فيه للاختصاص بإحداهما.

 

تصوير الجامع:

أمّا الأمر الأوّل: فقد صوّر في المقام الجامع بعدّة وجوه(1)، وما ينبغي التعرّض له منها وجهان:

1 ـ ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وغيره من أنّ الجامع هو التكليف المشكوك، فإنّه أعمّ من كونه تكليفاً كلّيّاً منشأ الشكّ فيه فقد النصّ، أو إجماله، أو تعارض النصّين، كما في الشبهة الحكميّة، وكونه تكليفاً جزئيّاً منشأ الشكّ فيه الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.

2 ـ ما ذكره أيضاً المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) وغيره من المحقّقين من عنوان الشيء الشامل.

وقد أورد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) على هذا الجامع ـ أعني: إرادة الشيء ـ بأنّه يلزم من ذلك الجمع بين أمرين متقابلين؛ وذلك لأنّ نسبة الرفع إلى الحكم نسبة للشيء إلى ما هو له، ونسبته إلى الموضوع نسبة له إلى غير ما هو له(2).



(1) راجع بهذا الصدد نهاية الدراية، ج 2، ص 180 و 181.

(2) تعليقة المحقّق الخراسانيّ على الرسائل، ص 114 بحسب الطبعة التي هي من منشورات مكتبة بصيرتي.

123

وأجاب السيّد الاُستاذ(1) على ذلك بأنّ الإسناد إلى مجموع ما هو له وما ليس له إسناد إلى ما ليس له؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، والمجموع المركّب من الداخل والخارج خارج ـ أي: أنّ المجموع المركّب من الذاتيّ والعرضيّ عرضيّ ـ فلم يلزم اجتماع الوصفين.

وأجاب المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(2) على إشكال المحقّق الخراسانيّ بما يرجع حاصله إلى أنّه لا مانع من اجتماع هذين الوصفين ـ أعني: كون الإسناد إسناداً إلى ما هو له وإسناداً إلى غير ما هو له ـ فإنّ هذين الوصفين ليسا من الأوصاف الحقيقيّة المتقابلة كالسواد والبياض حتّى يستحيل ثبوتهما لموجود واحد، وإنّما هما من الأوصاف الاعتباريّة المتقابلة. إذن يكفي في مقام اجتماعهما تعدّد الحيثيّة الاعتباريّة التي بها يوصف بهذا الوصف أو بذاك الوصف. فهذا الإسناد الواحد باعتبار كونه إسناداً إلى الشيء القابل للانطباق على الحكم إسناد إلى ما هو له، وباعتبار كونه إسناداً إلى الشيء القابل للانطباق على الموضوع إسناد إلى غير ما هو له.

والتحقيق: أنّه ينبغي أن يكون نظر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)من الإشكال في المقام إلى ذات الإسناد الموصوف بوصف كونه لما هو له، أو لغير ما هو له، لا إلى الوصفين ـ أي: أن لا يكون الإشكال عنده عبارة عن مجرّد تقابل الوصفين ـ كي يرد عليه أحد الجوابين، بل يكون الكلام في الموصوف في المرتبة السابقة على تعدّد الوصفين وتقابلهما ـ أي: ذات الإسناد والنسبة ـ وذلك لأنّ نسبة الفعل إلى



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 261.

(2) نهاية الدراية، ج 2، ص 181.

124

مفعوله ـ وهو (الموصول) في الحديث ـ إن كانت إلى ما هو له فهي مغايرة ذاتاً،لنسبته إلى غير ما هو له، إذا لوحظت العناية في حاقّ النسبة المستعمل فيها الهيئة، فعندئذ يقال: إنّ الهيئة استعملت في نسبة واحدة؛ لاستحالة الاستعمال في معنيين، أو عدم مقبوليّته عرفاً، ولا يعقل أن تكون هي النسبة الاُولى والثانية معاً، ولا يعقل الاستعمال في الجامع بين النسبتين، فإنّ النسب كلّها متباينة ذاتاً.

نعم، لو كانت هويّة النسبتين واحدة وتعدّد النسب إنّما جاء من تعدّد الطرف، أمكن فرض نسبة ثالثة بجعل طرفها الجامع بين الطرفين، فتكون تلك النسبة الثالثة شاملة لموارد النسبتين الاُوليين في الصدق ـ أي: أنّها تصدق على جميع موارد صدق الاُوليين ـ وإن كانت متباينة في مفهومها مع الاُوليين، ولكن فيما نحن فيه ليس منشأ تعدّد النسبتين تعدّد الطرفين فحسب، بل هناك تباين بين النسبتين في أنفسهما بقطع النظر عن الطرفين. على أنّه لو صوّرت نسبة جامعة بين النسبة الحقيقيّة والنسبة العنائيّة في المقام، كما تصّور الجامع بين النسبتين في موارد نشوء تعدّدهما من تعدّد الطرفين فحسب، كان الاستعمال عندئذ مجازيّاً، لمكان العناية، ولا يمكن إثبات ذلك بالإطلاق.

هذا كلّه على تقدير ملاحظة العناية في حاقّ النسبة بلحاظ غير ما هو له.

وقد يقال: لا نلحظ عناية في حاقّ النسبة، ونفترض إسناد الرفع للحكم والموضوع معاً بنسبة واحدة، وذلك بأن يفرض ادّعاءً ثبوت النسبة الحقيقيّة بين الرفع والموضوع كما هو الحال بالنسبة للحكم، فتستعمل الهيئة حقيقة في نسبة الرفع إلى جامع الموضوع والحكم على حدّ الحقيقة الإدّعائيّة عند السكّاكيّ.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الفرض والإدّعاء الذي هو مؤونة زائدة لا يمكن إثباته بالإطلاق، فإنّ دلالة الموصول بالإطلاق على شموله للحكم والموضوع معاً فرع ادّعاء نسبة حقيقيّة بين الرفع والموضوع من قِبل المتكلّم، فيجب أن يثبت ذلك

125

أوّلاً حتّى يترتّب عليه الإطلاق، ولم يثبت ذلك(1).

والتحقيق في مقام الجواب على إشكال المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): ما انقدح من بحثنا في المقام الأوّل من أنّ نسبة الرفع إلى الحكم أيضاً تحتاج إلى العناية بأحد الوجهين الماضيين، فمثلاً يقال: إنّ نسبة الرفع إلى الحكم الواقعيّ بمناسبة رفع ما ينشأ منه من وجوب الاحتياط، ونفس هذه العناية ثابتة في الموضوع، فخمريّة المائع المجهول الخمريّة مثلاً، ينسب الرفع إليها بمناسبة رفع ما ينشأ منها بالتالي من وجوب الاحتياط الناشئ من الحرمة الفعليّة الناشئة من خمريّته، فنسبة الرفع إلى كلّ من الموضوع والحكم تكون بمعنىً واحد.

بقي لنا كلام فيما أفاده السيّد الاُستاذ بقطع النظر عن كونه جواباً لإشكال المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وعدمه، وهو ما مضى ذكره من (أنّ إسناد الرفع إلى المجموع المركّب ممّا هو له وممّا ليس هو له يكون إسناداً إلى ما ليس هو له)، فإنّ



(1) وللسيّد الخوئيّ(رحمه الله) في المقام جواب آخر كما ورد في مصباح الاُصول(1) على الإشكال، غير الجواب الذي يبطل بحمل كلام المحقّق الخراسانيّ على تباين ماهويّ بين النسبتين، وذلك الجواب الآخر هو أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو اُريد بالرفع الرفع التكوينيّ فيقال عندئذ: إنّ إسناد الرفع إلى الفعل الخارجيّ يكون مجازاً. أمّا لو اُريد به الرفع التشريعيّ فإسناد الرفع إلى الفعل الخارجيّ أيضاً حقيقيّ.

أقول: سيأتي البحث ـ إن شاء الله ـ في المتن عن أنّ الرفع في المقام هل هو تكوينيّ، أو حقيقيّ؟ وسيتّضح أيضاً في التعليق الآتي أنّه لو فرض الرفع تكوينيّاً لكنّه كان رفعاً للوجود التشريعيّ كفى ذلك أيضاً في رفع الإشكال، فالإشكال إذن منحصر في فرض حمل الحديث على الرفع التكوينيّ للوجود التكوينيّ.


(1) ج 2، ص 261.

126

هذا التعبير لا يخلو من مسامحة. فإنّ النتيجة في المجموع المركّب منهما تتبع أشرف المقدّمتين، ورفع المجموع المركّب ممّا يكون رفعه حقيقيّاً وما لا يكون رفعه حقيقيّاً رفع حقيقيّ؛ لأنّه يكفي في رفع المركّب رفع أحد جزئيه. نعم، رفع الجامع(1) بين ما يكون رفعه حقيقيّاً وما لا يكون رفعه حقيقيّاً تابع لأخسّ المقدّمتين، ويكون رفعاً غير حقيقيّ؛ لأنّ رفع الجامع لا يكون إلاّ برفع كلا فرديه، وعلى عكس ذلك ما ذكره من مثال الذاتيّ والعرضيّ(2). فالمجموع المركّب من الذاتيّ والعرضيّ عرضيّ، ولا يكون ذاتيّاً، فإنّه ليس من ذاتيّات الشيء أن يثبت له ذاتيّه وعرضيّه معاً وإن كان قد يثبت له ذلك. والجامع بين الذاتيّ والعرضيّ قد يكون ذاتيّاً للشيء، كما إذا كان الجامع ذاتيّاً لا عرضيّاً، فإنّ الذاتيّ لذاتيّ شيء ذاتيّ لذلك الشيء.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(3) ذكر أوّلاً تقريب شمول الحديث للشبهة الحكميّة والموضوعيّة معاً بفرض إرادة هذا الجامع، وهو الشيء من الموصول الشامل للحكم والموضوع معاً. ثمّ أشكل على شمول الحديث للشبهة الحكميّة والموضوعيّة معاً بما نقلناه عن المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)من أنّه يلزم من ذلك الجمع بين الإسناد الحقيقيّ والعنائيّ. ثمّ أجاب على ذلك بتفسير الموصول بالتكليف الشامل للتكليف الكلّيّ كما في الشبهات الحكميّة، والجزئيّ كما في الشبهات الموضوعيّة، وهذا هو الجامع الأوّل من الجامعين الذين ذكرهما المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).



(1) وهو المقصود في المقام.

(2) مثال الذاتيّ والعرضيّ، أو الداخل والخارج غير موجود في مصباح الاُصول، ولعلّه موجود في الدراسات، ولا يحضرني فعلاً هذا الكتاب.

(3) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الأوّل، ص 216 و217.

127

والتحقيق في المقام: أنّ الإشكال الذي مضى عن المحقّق الخراسانيّ له مركزان: أحدهما جملة: (رفع ما لا يعلمون)، والآخر ما في صدر الحديث من قوله: (رفع عن اُمّتي تسعة). والالتزام بالجامع الأوّل وهو التكليف إنّما يرفع الإشكال عن جملة: (رفع ما لا يعلمون) ويبقى الإشكال متمركزاً في صدر الحديث، فإنّه نسب فيه الرفع إلى تسعة أشياء بنسبة واحدة، ونسبة الرفع إلى التكليف نسبة للشيء إلى ما هو له، ونسبته إلى ما اضطرّوا إليه مثلاً نسبة إلى غير ما هو له(1). فإنّ ما اضطرّوا إليه موجود بحسب الخارج. والتحقيق في الجواب ما ذكرناه.

ثمّ إنّ هذا الجامع الأوّل في نفسه أيضاً لا بأس به، ولا يرد عليه إشكال. وخير إشكال يمكن إيراده عليه هو أنّ هذا الجامع إنّما يتصوّر بناءً على القول بأنّ للحكم وجودين، وجود الجعل ووجود المجعول، فوجوده الجعليّ يتحقّق بمجرّد تشريع الحكم في الشريعة. وأمّا المجعول فإنّما يوجد بفعليّة موضوع الحكم في الخارج، وعلى هذا يقال: إنّه كما يكون المكلّف في الشبهة الحكميّة شاكّاً في التكليف،



(1) هذا بقطع النظر عمّا سيأتي من أنّ الرفع رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ، وإلاّ فنسبة الرفع إلى الجميع نسبة للشيء إلى ما هو له.

إن قلت: إذا كان الرفع رفعاً للوجود التشريعيّ عاد الإشكال بشكل منعكس. فنسبة الرفع إلى باقي التسعة نسبة للشيء إلى ما هو له، ونسبته إلى ما لا يعلمون نسبة له إلى ما ليس له بناءً على عدم مرفوعيّة التكليف في عالم التشريع كي لا يلزم التصويب.

قلت: إنّ ما لا يعلمون له وجود عنائيّ في عالم التشريع بلحاظ إيجاب الاحتياط والرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ رفع حقيقيّ لوجود عنائيّ، وهذا متحقّق حتّى بالنسبة لما لا يعلمون ولو بلحاظ وجوب الاحتياط. هذا كلّه ما استفدته منه(رحمه الله)بالسؤال والجواب بعد أن بيّن ما سيأتي في المتن من كون الرفع رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ.

128

كذلك في الشبهة الموضوعيّة أيضاً شاكّ فيه، فإنّه وإن كان عالماً بالجعل لكنّه ليس عالماً بالمجعول، فإذا كان المقصود بالموصول مطلق وجود التكليف سواء كان وجوده الجعليّ أو المجعوليّ، أو كان المراد به خصوص المجعول فالشكّ فيه يكون ثابتاً في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة معاً. وأمّا بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ الحكم ليس له إلاّ وجود واحد، وهو وجود الجعل ففي الشبهة الموضوعيّة ليس هناك شكّ في التكليف، وإنّما الشكّ في الموضوع الخارجيّ، فإنّ الجعل معلوم.

والجواب: أنّ هذا الكلام إنّما يكون صحيحاً في تحقيق حقيقة الحكم فلسفيّاً، ولا يكون مرتبطاً بما نحن فيه، فإنّ الفهم العرفيّ ينتزع عنوان الإلزام والتكليف في مقامين: الأوّل: جعل الحكم في الشريعة على عنوان كلّيّ كإيجاب الحجّ على المستطيع، فينتزع العرف منه الإلزام والتكليف بالنسبة لذلك العنوان. والثاني: انطباق ذلك العنوان بحسب الخارج على شخص، وتماميّة الموضوع في حقّه خارجاً، فإنّ العرف ينتزع هنا أيضاً الإلزام والتكليف بالنسبة لذلك الشخص من دون أيّ مؤونة أو عناية في نظره، فيصحّ أن يقال بلا عناية: إنّه قد وجب على زيد مثلاً باستطاعته الحجّ بعد أن لم يكن واجباً عليه، وصار مكلّفاً بهذا التكليف الشرعيّ بعد أن لم يكن كذلك. فنقول عندئذ: إنّ المقصود بالموصول هو التكليف بمعناه العرفيّ الذي ينتزع عند العرف في كلا المقامين، فيشمل الحديث ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً، فهذا الجامع في نفسه لا بأس به.

نعم، لا داعي للمصير إليه في قبال الجامع الآخر وهو الشيء، فإنّ (ما) الموصولة معناها هو الشيء ومساوق له في الإبهام، وحملها على معنىً أخصّ وهو التكليف خلاف الظاهر.

وقد يقال: إنّ جامع الشيء لو لم يفد في المقام فجامع التكليف لا يفيدنا شيئاً،

129

فإنّنا لو رفعنا يدنا عن جامع الشيء الذي هو ظاهر الموصول بحدّ ذاته في الحديث فحمله على جامع التكليف حتّى يشمل الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً ممّا لا دليل عليه، فمن المحتمل أن يكون المراد بالموصول هو الفعل الذي لا يعلم عنوانه فيختصّ بالشبهة الموضوعيّة، فإنّ تفسير الموصول بذلك وتفسيره بالتكليف كلاهما خلاف الظاهر الأوّليّ للموصول، وليس أحدهما أولى من الآخر، فإن فرض رفع اليد عن الظاهر الأوّليّ لجهة من الجهات فالمصير إلى خصوص تفسيره بالتكليف لا شاهد له.

ويمكن دفع الإشكال بأن يقال: إنّ الرفع الصادر من الشارع ألصق بالتكليف منه بالفعل، وإنّما يصحّ إسناده إلى الفعل باعتبار التكليف، فهذا يصبح نكتة في ظهور الموصول ـ بعد رفع اليد عن ظاهره الأوّليّ ـ في إرادة التكليف في قبال إرادة الفعل.

 

نفي القرينة على الاختصاص:

وأمّا الأمر الثاني: فقد ادّعيت القرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة، وادّعيت أيضاً القرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، فنتكلّم في جهتين:

الجهة الاُولى: في اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة بالقرينة وعدمه، وقد ذكروا في المقام قرينيّة وحدة السياق في جملة: «ما لا يعلمون» مع مثل جملة: «ما اضطرّوا إليه» و «ما اُكرهوا عليه»؛ إذ لا شكّ في أنّ المقصود بالموصول في تلك الجمل هي الموضوعات الخارجيّة لا الأعمّ منها ومن الأحكام الشرعيّة، فكذلك الحال في «ما لا يعلمون» بقرينة وحدة السياق.

أقول: إنّ وحدة السياق في الكلمة المتكرّرة لا شكّ أنّها تؤثّر بلحاظ المراد

130

الاستعماليّ، أي: أنّ حمل تلك الكلمة بمدلولها الاستعماليّ تارةً على معنىً، واُخرى على معنىً آخر يكون خلاف ظهور وحدة السياق، فلو قال مثلاً: (أكرم الإمام وأطع الإمام) كان فرض حمل المراد الاستعماليّ في الأوّل على إمام الجماعة و في الثاني على إمام المسلمين خلاف مقتضى وحدة السياق.

وهناك إشكال في تأثير وحدة السياق بالنسبة للمراد الجدّي وعدمه بعد فرض اتّحاد الكلمتين في المراد الاستعماليّ، فمثلاً لو قال: (أكرم كلّ عالم وقلّد كلّ عالم) وكان المراد الجدّي له من الأوّل ما يعمّ العالم العادل والعالم الفاسق، ومن الثاني خصوص العالم العادل، فهل هذا ينافي ظهور وحدة السياق بعد فرض اتّحاد الكلمتين في المراد الاستعماليّ، أو لا؟ يمكن الاستشكال فيه وإن كان الصحيح عندنا عدم منافاته لظهور وحدة السياق.

وأمّا إذا فرض أنّه لم يكن اختلاف في مفاد الكلمتين بلحاظ المراد الاستعماليّ، ولا بلحاظ المراد الجدّي، وإنّما كان الاختلاف بينهما بلحاظ المصداق الخارجيّ، فهنا لا إشكال في عدم تأثير وحدة السياق وعدم اقتضائها لاتّفاق الكلمتين في المصداق، فلو قال مثلاً: (لا تغصب ما تأكل، ولا تغصب ما تطالع، ولا تغصب ما تلبس) فالمراد الاستعماليّ والجدّي من (الموصول) في هذه الجمل هو مفهوم الشيء، إلاّ أنّ المصداق الخارجيّ للشيء الذي يقبل الأكل هي الأطعمة، وللشيء الذي يقبل المطالعة هي المكاتيب، وللشيء الذي يقبل اللبس هي الثياب المحيطة بجسم الإنسان، وهذا الاختلاف في المصاديق الخارجيّة ليس خلاف مقتضى وحدة السياق جزماً؛ لأنّ عدم الاتّحاد في عالم التطبيق يكون مربوطاً بماهيّات تلك الأشياء لا بعناية من قِبل المتكلّم بوجه من الوجوه.

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث إنّ ما لا يُعلم قابل للانطباق على الموضوع وعلى الحكم، ومثل «ما اضطرّوا إليه» إنّما ينطبق على الموضوعات والأفعال

131

الخارجيّة دون الأحكام، وليس هنا اختلاف في المدلول الاستعماليّ أو المرادالجدّيّ، فالمقام أجنبيّ عن مسألة تأثير وحدة السياق.

الجهة الثانية: في اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة بالقرينة وعدمه. قد ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1) قرينة على اختصاص الحديث بالشبهة الحكميّة، وجعل ذلك ردّاً على ادّعاء اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعيّة بالقرينة السابقة، فإنّه(قدس سره)أجاب على ذلك بجوابين، أحدهما جواب مستقلّ عن قرينة العكس ـ أعني: قرينة الاختصاص بالشبهة الحكميّة ـ وهو جواب غير صحيح، ونحن تركنا ذكره(2) واقتصرنا على الجواب الصحيح الذي مرّ بنا في الجهة الاُولى. والثاني الجواب بمعارضة تلك القرينة بقرينة اُخرى توجب الاختصاص بالشبهة الحكميّة، وقال: إنّ هذه القرينة أقوى من تلك القرينة ومقدّمة عليها، وتلك القرينة عبارة عن أنّ تطبيق (ما لا يعلمون) على الحكم صحيح بلا عناية، فإنّه في



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 216.

(2) وذلك الجواب هو: أنّه لا يوجد اتّحاد في السياق يقتضي كون المراد بالموصول في (ما لا يعلمون) الفعل لا الحكم؛ وذلك لأنّ من الفقرات في الحديث: (الطيرة والحسد والوسوسة) ولا يكون المراد منها الفعل، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه.

أقول: ينبغي أن يكون مقصود من يتمسّك بوحدة السياق لإثبات اختصاص (ما لا يعلمون) بالفعل أو الموضوع وعدم شموله للحكم أنّ (ما) الموصولة تكرّرت في سياق واحد عدّة مرّات، واُريد بها في بعض المرّات الفعل، أو الموضوع دون الحكم، فيحمل الباقي أيضاً على ذلك. أمّا وجود كلمات اُخرى غير الموصول إلى جنب الموصول اُريدت بها معانيها لا الفعل أو الموضوع، ولا الحكم، فهذا لا ارتباط له بوحدة السياق بالنسبة للكلمة المكرّرة وهي الموصول، خاصّة وأنّها لم تقع بين الموصولات، بل وقعت على طرف منها.

132

الشبهات الحكميّة يكون الحكم غير معلوم حقيقة، فتكون داخلة في مفاد الحديث.وأمّا إضافة عدم العلم إلى الموضوع الخارجيّ، كالمائع المردّد بين كونه ماءً أو خمراً، فتكون بضرب من المسامحة والعناية؛ لأنّ المجهول ليس هو ذات الموضوع، بل هو عنوانه، فإنّ ذات الموضوع عبارة عن ذات هذا المائع، وهو ليس مجهولاً، وإنّما هو مجهول العنوان، فتوصيف ذات الموضوع بالجهل يكون من باب توصيف الشيء بحال متعلّقه، فهذا غير مشمول لإطلاق الحديث، فإنّ الإطلاق إنّما يتكفّل شمول المفهوم لأفراده الحقيقيّة، لا لأفراده العنائيّة(1).



(1) الموجود في نهاية الأفكار يختلف عمّا نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام من وجهين:

الأوّل: أنّه لم يجعل إضافة عدم العلم إلى الموضوع الخارجيّ خلاف الظاهر بنكتة كون توصيف الشيء بحال متعلّقه خلاف الظاهر، بل جعله خلاف الظاهر بنكتة وحدة السياق باعتبار أنّ المراد بالموصول في غير (ما لا يعلمون) من العناوين هو ما كان بنفسه معروضاً للوصف من الاضطرار أو غيره، فلو حمل (ما لا يعلمون) على ما لا يكون بنفسه معروضاً لوصف عدم العلم وإنّما المعروض له هو عنوانه، كان هذا خلاف وحدة السياق. إذن لا ينبغي حمل الموصول في (ما لا يعلمون) على الفعل؛ لأنّه ليس بنفسه غير معلوم، وإنّما يكون عنوانه غير معلوم.

والثاني: أنّه لم يجعل هذا قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، وإنّما جعله قرينة على عدم اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة، باعتبار أنّ فرض اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة يتطلّب تفسير الموصول بمعنى الفعل، وهو مجهول بعنوانه لا بنفسه، وهذا خلاف مقتضى وحدة السياق، فلابدّ من تفسير الموصول بمعنى الحكم، والحكم بنفسه مجهول في الشبهات الحكميّة وفي الشبهات الموضوعيّة معاً، إلاّ أنّ منشأ الشكّ في الشبهات الحكميّة فقد النصّ، أو إجماله، أو تعارض النصّين، وفي الشبهات الموضوعيّة الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.

133

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه قد يكون في الشبهة الموضوعيّة ذات الموضوع مجهولاً، كما لو فرض الشكّ في وجوب الحجّ للشكّ في أصل وجود الاستطاعة ومالكيّته لمال مّا مثلاً. وإذا ثبت شمول البراءة لمثل هذه الشبهات تعدّينا إلى غيرها؛ لعدم احتمال الفرق بين شبهة موضوعيّة وشبهة موضوعيّة اُخرى.

وثانياً: أنّه لا حاجة إلى انطباق عنوان (ما لا يعلمون) على ذات الموضوع، فلو أردنا مثلاً تطبيق الحديث على المائع المردّد بين كونه خمراً أو ماءً، طبّقناه على عنوان الخمر في هذا المثال لا على ذات المائع، فنقول: إنّ خمريّة هذا المائع غير معلومة، فهي مرفوعة، وعنوان الخمر هو المناسب أن يكون مصبّاً للرفع والوضع باعتباره موضوعاً للحكم الشرعيّ لا ذات المائع؛ لأنّ الحرمة إنّما جعلت على عنوان الخمر لا على ذات المائع. إذن فليس المقصود تطبيق عدم العلم على الذات كي يقال: إنّه تطبيق عنائيّ، وإنّ الذات ليس مجهولاً حقيقة، وإنّما المقصود التطبيق على العنوان، فإنّه الموضوع للحكم الشرعيّ والقابل للوضع والرفع من قِبل الشارع، والمفروض أنّ العنوان مجهول حقيقة.

وقد تحصّل: أنّ الحديث يشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معاً، ولا موجب لاختصاصه بأحد القسمين دون الآخر.

 

فقه الحديث:

وأمّا المقام الثالث: وهو في فقه هذا الحديث، ففيه جهات عديدة من البحث:

 

نسبة الرفع إلى المرفوعات:

الجهة الاُولى: في تصوير نسبة الرفع إلى المرفوعات في هذا الحديث، حيث إنّ

134

ما فيه من الخطأ، والنسيان، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، ونحو ذلك ليست اُمور مرفوعة حقيقة، وإنّما هي اُمور محقّقة وثابتة في الخارج ومع ذلك نسب الرفع إليها، فلابدّ عندئذ من تصوير وجه لتصحيح هذه النسبة فنقول:

الذي يظهر من كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) هو الالتزام بالتقدير. وأصحاب هذا الوجه وقعوا في البحث عن أنّ المقدّر هل هو المؤاخذة، أو مطلق الآثار، أو بعض الآثار دون بعض؟ وما هو الضابط في هذا التبعيض؟ وذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه لا حاجة إلى التقدير الذي هو خلاف المتفاهم العرفيّ جدّاً، بل يسند الرفع إلى نفس الاُمور المذكورة في الحديث، إلاّ أنّ العالم الذي لوحظ الرفع بالنسبة إليه هو عالم التشريع لا عالم التكوين، فيكون الرفع رفعاً تشريعيّاً لا رفعاً تكوينيّاً. وادّعى جملة من المحقّقين (قدّس الله أسرارهم) أنّ الرفع في المقام يكون رفعاً تنزيليّاً لا رفعاً حقيقيّاً، وتشوّشت جملة من الكلمات، فوقع الخلط فيها بين الرفع التشريعيّ والرفع التنزيليّ.

والتحقيق: أنّ العناية المتصوّرة في المقام تتصوّر بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن تكون هي عناية التقدير من دون تدخّل وإعمال عناية في نفس الرفع أو المرفوع، فيكون المقصود من الرفع هو الرفع الحقيقيّ، والمقصود من العناوين المرفوعة وجوداتها الخارجيّة الحقيقيّة، إلاّ أنّ المرفوع في الحقيقة ليس منتسباً إلى نفس تلك العناوين ممّا اضطرّوا إليه أو استكرهوا عليه، ونحو ذلك، وإنّما هو منتسب إلى العقاب أو إلى أثر آخر من آثارها.

وترجع إلى ذلك دعوى نسبة الرفع الحقيقيّ إلى الوجود الحقيقيّ لتلك العناوين نسبة مجازيّة، فإنّ معنى ذلك أنّه في عالم المراد الجدّيّ يكون الرفع الحقيقيّ لأثر من آثار تلك العناوين لا لنفس تلك العناوين، فهناك شيء في عالم المراد الجدّيّ للكلام لم يذكره في الكلام، وهو المقصود من التقدير.

135

الثاني: أن تكون العناية في الرفع بأن لا يقدّر شيء، وينسب الرفع إلى نفس العناوين الخارجيّة، ويكون المقصود من تلك العناوين وجوداتها الخارجيّة، إلاّ أنّ رفع تلك الوجودات الخارجيّة ليس رفعاً حقيقيّاً، وإنّما المقصود الرفع التنزيليّ أو الاعتباريّ من باب رفع موضوعات بعض الأحكام تعبّداً الذي يكون حاكماً على تلك الأحكام، كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده)(1)، وقوله: (لا شكّ لكثير الشكّ)، وقوله: (لا سهو مع حفظ الإمام)، وقوله: (الطواف بالبيت صلاة) ونحو ذلك، وهذه حكومة في مستوى عقد الوضع.

الثالث: عكس الثاني، ففي الثاني فرض قصد الرفع التشريعيّ للوجود الحقيقيّ لتلك العناوين، وهنا يفرض قصد الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ لها، حيث إنّ موضوع الحكم كما يكون له وجود حقيقيّ في عالم الخارج، كذلك يكون له وجود عنائيّ في عالم التشريع والحكم؛ لأنّ الحكم متقوّم بموضوعه بوجه من الوجوه، فقد يرفع حقيقة هذا الوجود العنائيّ عن عالم التشريع، كقوله: (لا رهبانيّة في الإسلام)، فإنّ معناه بقرينة (في الإسلام) هو رفع الرهبانيّة عن صفحة التشريع الإسلاميّ، وهذا ليس رفعاً تعبّداً للوجود الحقيقيّ للموضوع، وإنّما هو راجع إلى رفع الحكم عن الموضوع، فإنّ رفع وجوده في عالم التشريع والحكم يعني نفي كونه مشرّعاً، ورفع كونه موضوعاً للحكم، ورفع موضوعيّته للحكم مساوق لرفع الحكم، وهذه حكومة في عقد الحمل، وإن شئت فقل: إنّها تشبه الحكومة في عقد



(1) أفاد (رضوان الله عليه): أنّ ظاهر هذا كونه رفعاً عنائيّاً للوجود الحقيقيّ للربا، لا رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ للربا، فإنّه على الثاني تلزم إرادة عالم معيّن من التشريع هو عالم الحرمة، وهي خلاف الظاهر، فإنّ معنى رفع الوجود التشريعيّ للربا عدم كونه مشرّعاً، فيحمل على الرفع العنائيّ للوجود الحقيقيّ.

136

الحمل لا أنّها هي بالذات؛ إذ ليس ذلك عيناً من قبيل (لا ضرر ولا ضرار) بناءً على تفسير الشيخ الأعظم(قدس سره)له من كونه رفعاً للحكم الضرريّ، بل يشتمل المقام على شيء من الالتواء(1).

وعلى أيّة حال، فالوجه الثاني والثالث متعاكسان، ولابدّ من التمييز بينهما وعدم الخلط في المقام، وعبائر التقريرات مشوّشة، فبعضها يناسب الثاني، وبعضها يناسب الثالث. والذي كنت اُقدّره ـ لولا التزامه ببعض النتائج المناسبة للوجه الثاني ـ أنّ مقصود المحقّق النائينيّ(قدس سره)كان هو الثالث.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه مهما تعلّق الرفع بموضوع من الموضوعات فضابط كونه حكومة في مستوى عقد الوضع، أو حكومة في مستوى عقد الحمل، هو أنّه إن كان رفعاً تشريعيّاً للوجود الحقيقيّ فهي حكومة في مستوى عقد الوضع، وإن كان رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ، فهي حكومة في مستوى عقد الحمل.

إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ جعل الضابط شيئاً آخر، وهو أنّه إذا تعلّق الرفع بالعنوان الأوّليّ كما في (لا ربا بين الوالد وولده) كانت حكومة على عقد الوضع، وإذا تعلّق بالعنوان الثانوي كالاضطرار في قوله: (رفع ما اضطرّوا إليه) كانت حكومة على عقد الحمل.

وتوضيح مرامه: أنّه إن رفع العنوان الأوّلي للموضوع فهذا رفع لنفس الموضوع، فتكون حكومة على عقد الوضع. وإن رفع العنوان الثانوي وهو



(1) ففي مثال (لا ضرر) على تفسير الشيخ(رحمه الله) فرض المرفوع وهو الضرر عنواناً للحكم، بينما فيما نحن فيه فرض المرفوع هو الموضوع، ولكنّه رفع عن صفحة التشريع؛ ولعلّه لهذا ورد في تقرير الشيخ النائينيّ(رحمه الله) عدّ ذلك من الحكومة على عقد الوضع. راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 127.