552

بالملازمة على عدم حجّيّة خبر الثقة مطلقاً فيصبح دليل حجّيّة خبر الثقة أخصّ منه، فيقدّم عليه.

2 ـ إنّ العامّين من وجه إنّما يتعارضان ويتساقطان لو لم نكن قاطعين بمطابقة أحدهما المعيّن للواقع في مورد الاجتماع، ونحن هنا نقطع بمطابقة احدهما وهو حجيّة خبر الثقة في مورد الاجتماع للواقع، وذلك لأنّ أحد أدلّة حجّيّة خبر الثقة هو سيرة المتشرعة التي لا تحتاج إلى إثبات عدم الردع ؛ لأنّها هي بنفسها في طول الأخذ من الشارع، ومن الواضح أنّ بناء المتشرّعة على الأخذ بخبر الثقة لم يكن مختصّاً بما عدا باب النجاسات، ولم يكونوا يفرّقون بين هذا الباب وسائر الأبواب. إذن فنقطع بحجّيّة خبر الثقة المعارض لأصالة الطهارة، ونقدمه عليها.

3 ـ لا إشكال في أنّ السيرة العقلائية لا تفرّق بين باب النجاسات وسائر الأبواب، إذن لا يبقى وجه لرفع اليد عن السيرة العقلائية في باب النجاسات إلاّ دعوى رادعية إطلاق دليل أصالة الطهارة، وعندئذ نقول بما قلناه في رادعية الآيات من أنّ سيرة عميقة الجذور من هذا القبيل لا يكفي في ردعها مجرّد إطلاق دليل من الأدلّة من آية أو رواية، بل تحتاج في الردع إلى ردع من قبيل الردع عن القياس.

4 ـ نفترض تعارض دليل حجّيّة خبر الثقة ودليل أصالة الطهارة، لكنّنا نقول في المتعارضين بالعموم من وجه بتقدّم أحدهما على الآخر إذا كان قطعيّ السند دون الآخر، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليل حجّيّة خبر الثقة قطعي السند. أمّا لكونه من القرآن، أو لكونه سنّة قطعية. وهذا بخلاف دليل أصالة الطهارة.

وهذا الوجه يتمّ في الشبهة الحكمية والموضوعية معاً لو كان دليل حجّية خبر الثقة هو آية النبأ. وأمّا لو كان الدليل هو آية النفر فهي إنّما وردت في الأحكام، ولا ربط لها بالموضوعات، كما أنّه لو كان الدليل هو السنّة القطعيّة فالمتيّقن من مجموعها هو حجّيّة خبر الثقة في الشبهة الحكمية ؛ لأنّ بعضها لا يدلّ على أكثر من ذلك. نعم، نقول بحجّيّة خبر الثقة في الموضوعات ؛ لدلالة بعض الروايات على ذلك، وهي داخلة في القدر المتيّقن ؛ لأنّها وردت في بيان حكم من الأحكام، وهو الحجّيّة، إلاّ أنّه لم يصبح دليل حجّيّة الخبر في الموضوعات قطعياً لكي يتقدّم بذلك على أصالة الطهارة.

5 ـ نفترض أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة مع دليل أصالة الطهارة تعارضا وتساقطا، لكنّنا نرجع عندئذ إلى استصحاب حجّيّة خبر الثقة ؛ لأنّه في أوّل الشريعة اُمضيت السيرة

553

العقلائية الدالّة على حجّيّة خبر الثقة بعدم الردع، ونحن نطمئنّ بأنّ أصالة الطهارة لم تجعل في السنوات الاُولى من البعثة، ونشكّ في أنّه هل سقط خبر الثقة عن الحجّيّة بعد ذلك أو لا، فنستصحب الحجّيّة.

هذه نكات خمس لتقديم الأمارة على أصالة الطهارة ؛ وبالإمكان ـ أيضاً ـ إبراز نكات اُخرى إضافية، إلاّ أنّنا تكفينا هذه النكات، كما تكفينا عن التكلّم في سائر الاُصول؛ لما قلنا من أنّ بعض هذه النكات على سبيل منع الخلوّ ثابت في أيّ أصل من الاُصول يفترض تعارضه مع الأمارة.

بقي هنا ثلاثة تنبيهات:

التنبيه الأوّل: قالوا: إنّ الأمارة تقدّم على الأصل ولو كان موافقاً لها. والوجه في ذلك ما ذهبوا إليه من الحكومة، وأنّ الأمارة ترفع موضوع الأصل، وهو الشكّ، وتورث العلم التعبّدي سواء كان الأصل موافقاً لها أو مخالفاً لها.

وهذا الكلام غير تام مبنىً وبناءً.

أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ تقدّم الأمارة على الأصل ليس بنكتة الحكومة أو الورود، وإنّما بنكتة التخصيص، والتخصيص فرع التعارض، وعند الموافقة لا تعارض حتّى يفترض التخصيص.

وأمّا الثاني فلأنّنا لو سلّمنا الحكومة قلنا: إنّ غاية الاُصول المأخوذة في أدّلتها إنّما هي العلم بالخلاف كما ترى في قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام»، وقوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»، وقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ، ولكن انقضه بيقين آخر». وطبعاً يقصد بذلك اليقين بالخلاف، إذن فالأمارة التي هي تخالف الأصل تحكم أو ترد عليه؛ لأنّها تفني موضوعه وتنجّز غايته بإيجاد العلم التعبّدي بالخلاف. وأمّا الأمارة الموافقة للأصل فلا تفني موضوعه ؛ إذ لا تورث العلم بالخلاف.

لا يقال: كيف لا يكون العلم مطلقاً، أي: سواء كان على وفق الأصل أو على خلافه غاية للأصل، مع أنّ المخصّص اللبّي موجود هنا، وهو يخصّص الأصل بصورة الشك وعدم العلم ؛ لاستحالة جعل الحكم الظاهري مع العلم، سواء كان مخالفاً للأصل أو موافقاً له. وعليه فالأمارة التي تثبت العلم تعبّداً تحكم على هذا الأصل وتوجد غايته.

فإنّه يقال: إنّهم قد اعترفوا بعدم حكومة الأصل على الأمارة، وأنّ الحكومة من طرف واحد، في حين أنّه لا فرق بينهما لو لوحظ المخصّص اللبّي، فإنّ المخصص اللبّي يخصّص الأصل

554

والأمارة معاً بصورة الشكّ، ويجعل العلم غاية لهما معاً، إلاّ أنّ العلم اُخذ غاية في لسان دليل الأصل ولم يؤخذ غاية في لسان دليل الأمارة، وهذا يوجب عدم حكومة الأصل على الأمارة، وكون الحكومة من طرف واحد، وهذه النكتة بنفسها موجودة في المقام ؛ وذلك لأنّ كون العلم الموافق غاية للأصل إنّما ثبت بالمخصّص اللبّي، ولم يؤخذ في لسان الدليل، والمخصّص اللبّي ـ في الحقيقية ـ لا يجعل القيد للأصل هو عدم العلم حتّى يفرض أنّ الأمارة تحكم على الأصل بهذه النكتة لافادتها العلم تعبداً (ولو تمّ ذلك لكانت الحكومة من الطرفين)، وإنّما المخصّص اللبّي يجعل الأصل مقيّداً بصورة التمكّن من جعل الحكم الظاهري، ومختصّاً بذاك الشخص الذي لا يستحيل تعبّده بالحكم الظاهري، وإنّما نعبّر بعنوان عدم العلم أو الشكّ كمعرّف لواقع فرض التمكّن من جعل الحكم الظاهري ومشير إليه، لا أنّ القيد حقيقةً هو عدم العلم.

هذا. وبما نقّحناه هنا يبطل تقدّم الاُصول ـ أيضاً ـ بعضها على بعض عند عدم المعارضة، وبذلك تبطل الآثار التي يُرتّبها الأصحاب في باب الاشتغال على طولية الأمارات والاُصول، وطولية الاُصول بعضها مع بعض، من قبيل ما يذكر في باب ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة من أنّ الأصل في الملاقى سقط بالتعارض مع الأصل في الطرف الآخر، ووصلت النوبة إلى الأصل في الملاقي، ونحو ذلك من الكلام، فكلّ هذا لا أساس له.

التنبيه الثاني: أنّ حكومة الأمارة على الأصل بالنظر المضموني قد تُتمّم في طول ما مضى من نكتة تقدّم الأمارة على الأصل بالتخصيص، أعني كون الأمارة نصّاً في الإلزاميات، وذلك بأن يقال: إنّ التنصيص على جعل الحجّيّة في الإلزاميات وتنجيز الحكم على عهدة المكلّف معناه أنّ المولى يفترض تأميناً، وعَدَمَ إلزام في المرتبة السابقة، فيتصدّى إلى إثبات الإلزام والتنجيز، وإلاّ فلا حاجة إلى هذا التنجيز وجعل الشيء على العهدة ؛ إذ إنّ ذاك الشيء هو ثابت مسبقاً على العهدة ومنجّز على المكلّف.

ويرد عليه: أنّه يكفي لقضاء حقّ هذا النظر المفروض استفادته من نصوصية دليل الأمارة في الإلزام كما في قوله: (فاسمع لهما وأطع) مثلاً أن يفترض أنّه ينظر إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند الأصحاب، أو إلى البراءة الشرعية التي هي في رتبة قاعدة قبح العقاب بلا بيان عندنا، فلا تثبت حكومة الأمارة على الاُصول الشرعية المتعارفة.

التنبيه الثالث: أنّ كلّما ذكرناه حتّى الآن إنّما هو في الاُصول الشرعية. وأمّا الأصل العقلي سواء فرض تعذيراً أو تنجيزاً فلا إشكال في ورود الأمارة عليه، فإنّ العقل إنّما يحكم

555

بالتعذير ما لم يعلم المكلّف بالواقع، أو باهتمام المولى بالواقع المشكوك على تقدير وجوده، فإذا عرف اهتمام المولى بذلك بدليل الحجّيّة ـ بأيّ لسان فرض من ألسنة جعل الحجّيّة ولو فرض ذاك الحجّة أصلاً شرعياً كأصالة الاحتياط ـ فلا محالة يرتفع موضوع التعذير، كما أنّ العقل إنما يحكم بالتنجيز ما لم يعلم المكلّف بالواقع أو بعدم اهتمام المولى بالواقع المشكوك على تقدير وجوده، فإذا عرف عدم الاهتمام بذلك بدليل الحجّيّة ـ بأيّ لسان فرض من السنة جعل الحجّيّة ولو فرض ذلك الحجّة أصلاً شرعياً كأصالة البراءة ـ فلا محالة يرتفع موضوع التنجيز.

ويلحق بالاُصول العقلية الأصل الشرعي الذي فرض أخذ عدم الأمارة في موضوع دليله صدفة، كما قد يقال بالنسبة لرواية مسعدة بن صدقة: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام... إلى أن قال بعد ذكر أمثلة من قبيل الثوب المشترى من السوق والزوجة التي يحتمل كونها اُختك أو رضيعتك ونحو ذلك: والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البينة» بناءً على أنّ المقصود بالبيّنة شهادة شخصين تكون شهادتهما حجّة شرعاً.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل، أعني تقدم الأمارات على الاُصول.

 

المقام الثاني: في نسبة الاُصول بعضها إلى بعض

إنّ الأصلين اللذين يتكلّم في تقدّم أحدهما على الآخر وعدمه تارةً يفترض موافقة أحدهما للآخر، واُخرى يفترض تنافيهما.

فالمتوافقان من قبيل أصالة الطهارة واستصحابها، والمتنافيان تارةً يكون تنافيهما بلحاظ عالم الجعل تنافياً ذاتياً، من قبيل أصالة الطهارة مع استصحاب النجاسة، واُخرى يكون تنافيهما بلحاظ عالم الجعل تنافياً عرضياً، أي: بواسطة طروّ علم إجمالي من قبيل استصحابي الطهارة في طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة، وثالثة يكون تنافيهما بلحاظ عالم الامتثال والتزاحم عند العمل، من قبيل استصحاب وجوب الصلاة مع استصحاب وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مع عدم القدرة على امتثال كليهما في ظرف جريان الاستصحاب.

فهذه أقسام أربعة نتكلّم فيها في ثلاثة مقامات:

 

المقام الأوّل: في الأصلين المتوافقين أو المتنافيين بلحاظ عالم الجعل تنافياً ذاتياً

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) في ذلك إلى أنّه يتقدّم احد الأصلين على الآخر

556

بالحكومة (ولو كانا متوافقين) في موردين. وأمّا في غير الموردين فيعامل مع دليل الأصلين المتنافيين معاملة المتعارضين، ويطبّق عليهما سائر قواعد باب التعارض.

أمّا موردا الحكومة فهما ما يلي:

1 ـ أن يكون أحد الأصلين بحسب لسان دليله ملغياً للشكّ ومثبتاً للعلم بخلاف الآخر، وذلك من قبيل استصحاب الطهارة او النجاسة مع أصالة الطهارة.

2 ـ أن يكون أحد الأصلين سببيّاً والآخر مسبّبياً، فيقدّم السببي على المسببي ولو كان لسان كليهما رفع الشكّ وجعل العلم، كما في استصحاب طهارة الماء مع استصحاب نجاسة الثوب الذي طهّر به، فإنّ استصحاب طهارة الماء يلغي الشكّ في طهارة الماء وفي كلّ آثارها ومنها طهارة الثوب، ولكنّ استصحاب نجاسة الثوب لا يلغي الشكّ في نجاسة الماء.

أقول: إنّ لنا عدّة تعليقات على هذا الكلام.

التعليق الأوّل: يرجع إلى الأصلين المتوافقين، حيث نقول كما مضى: إنّنا لو سلّمنا مباني الحكومة والورود في الأصلين المتخالفين فذلك لا يتصوّر في المتوافقين ؛ إذ الأصل جعل مغيّى بالعلم بالخلاف، لا بالعلم بالوفاق، ويؤيّد عدم الحكومة والورود في المقام أنّه يلزم من ذلك، أي: من دعوى الحكومة بين الأصلين المتوافقين محاذير عرفية.

منها: في تقدّم الاستصحاب على أصالة الطهارة، فإنّه يلزم اختصاص قاعدة الطهارة بفرض نادر من قبيل توارد الحالتين ؛ إذ في غير مثل ذلك يجري: إمّا استصحاب الطهارة، وإمّا استصحاب النجاسة، ويقدّم عليها.

ومنها: في تقدّم الاستصحاب على أصالة البراءة وأصالة الحل، فمثل قوله: «رفع عن اُمتي ما لا يعلمون» الظاهر في الامتنان على الاُمّة يختصّ بخصوص مثل توارد الحالتين ؛ إذ في غيره يجري الاستصحاب الموافق للأصل أو المخالف له. وهذا ما لا يرتضيه العرف.

ومنها: في تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي، فإنّ ذلك لا ينسجم مع دليل الاستصحاب نفسه، فإنّ صحيحة زرارة تستصحب الوضوء (بمعنى الطهارة الشرعية القابلة للدوام) في حين أنّه يوجد في موردها استصحاب عدم الحدث الذي هو أصل سببي.

ولا يتصوّر أنّ استصحاب عدم الحدث لا يثبت الطهارة، لأنّهما نقيضان، واستصحاب عدم أحد النقيضين لا يثبت الآخر، فإنّ الطهارة ـ كما أشرنا إليه ـ حكم شرعي واعتبار خاصّ مجعول يدوم إلى أن يصدر أحد النواقض، فيكون دوامه أثراً شرعياً لعدم صدور الناقض، وانتقاضه أثراً شرعياً لصدوره، فباستصحاب عدم صدور الناقض تثبت الطهارة.

557

وكذلك الحال في صحيحة اُخرى لزرارة التي استصحب فيها طهارة الثوب مع أنّه يجري في المورد استصحاب عدم الملاقاة للدم الذي هو أصل سببي.

ولعلّ الإمام (عليه السلام) اختار الإصل المسببي في مقام الذكر لكونه ألصق إلى مقصود السائل من معرفة الحكم من الأصل السببي.

التعليق الثاني: يرجع إلى الأصل السببي والمسبّبي.

لا ينبغي الإشكال في أنّ الفهم العرفي يقتضي تقديم الأصل السببي على المسبّبي، ولذا ترى الفقهاء من قبل مئات السنين جيلاً بعد جيل يقدّمون الأصل السببي على المسبّبي بطبعهم الأوّلي قبل ولادة مدرسة الحكومة والورود واصطلاحات جعل العلم والطريقية. نعم، كانوا قد يخطأون فيعكسون مثلاً، أو يوقعون التعارض بينهما، لكنّ هذا من قبيل الأخطاء الاُخرى التي تصدر منهم أحياناً عند التطبيق، وكان الطبع الأوّلي لهم تقديم الأصل السببي على المسبّبي. إذن فأصل تقدّم الأصل السببي على المسبّبي ينبغي أن يكون مفروغاً عنه، ويبقى الكلام في تكييفه الفنّي.

والتكييف الفنّي الذي اختارته مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) هو الحكومة بالتقريب الماضي، إلاّ أنّه لو تمّ ـ وقد عرفت عدم تماميّته في بحث تقديم الأمارات على الاُصول ـ فإنّما يتمّ فيما لو كان الأصل السببي ممّا تدّعي مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) أنّه يجعل العلم والطريقية، فماذا يقولون فيما إذا لم يكن الأصل السببي من هذا القبيل؟! وذلك كما لو كان عندنا ماء متوارد الحالتين، فأثبتنا طهارته بأصالة الطهارة دون الاستصحاب ؛ لعدم جريانه عند توارد الحالتين، أو سقوطه فيه بالتعارض، وغسلنابه ثوباً متنجّساً، فإنّه لا إشكال هنا عند الأصحاب، وكذا عند مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) فقهياً في تقدّم أصالة طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب، مع أنّ أصالة الطهارة لا تجعل العلم، ولا ترفع الشكّ.

والسيّد الاُستاذ بعد أن رفع يده عن هذا التكييف أخذ بتكييف ثان لإثبات الحكومة، وهو: أنّ أصالة طهارة الماء مثلاً تنقّح موضوع الدليل الدال على كبرى أنّه كلّما غسل الثوب المتنجّس بالماء الطاهر طهر الثوب، وهذا الدليل يتقدّم بالحكومة على استصحاب النجاسة ؛ لكونه أمارة مقدّمة على الأصل(1).

وقد مضى منّا في بحث الأصل المثبت بيان أنّ الآثار في باب الاُصول لا تثبت بإطلاق


(1) مصباح الاُصول: ج3، ص256.

558

الكبريات، وإنّما تثبت بإطلاق أدلّة الاُصول لتلك الآثار.

والسيد الاُستاذ بعد رفع يده عن هذا التكييف انتقل إلى تكييف ثالث، وهو: أنّ أصالة الطهارة في الماء مثلاً ـ بقرينة لغويّة جعل ذات الطهارة بغضّ النظر عن آثارها ـ تكون ناظرة إلى آثار طهارة الماء، ومنها طهارة الثوب، إذن فأصالة الطهارة في الماء ناظرة إلى استصحاب النجاسة في الثوب دون العكس، فمن هذه الناحية تتمّ الحكومة.

ويرد عليه: أنّ أصالة طهارة الماء ليست ناظرة إلى الأحكام الظاهرية التي تثبت للثوب عند الشكّ في طهارته كاستصحاب النجاسة، وإنّما هي ناظرة إلى نفس الآثار الواقعيّة، للطهارة والنجاسة، ولذا ترى أنّ أصالة الطهارة تلغو لو فرض عدم تلك الآثار الواقعية راساً، ولا تلغو لو فرض عدم تلك الأحكام الظاهرية، إذن فأصالة طهارة الماء تثبت طهارة الثوب، واستصحاب نجاسة الثوب يثبت في عرض ذلك نجاسته فيتعارضان.

والتحقيق في تكييف تقدّم الأصل السببي على المسبّبي عدة اُمور، بعضها يختصّ ببعض الموارد، وبعضها يعمّ كلّ الموارد.

منها: ما يختصّ بتقدّم الاستصحاب السبّبي على الاستصحاب المسبّبي، وهو: أنّ الاستصحاب ـ كما مضى ـ أمر ارتكازي عند العقلاء بدرجة من درجات الارتكاز، كما يشير إلى ذلك تعبير الإمام (عليه السلام) بقول: «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» سواء فرض ذلك لأجل كاشفية احتمال البقاء أكثر من احتمال الانتقاض، أو لأجل الوهم الموجود في الإنسان الدّاعي إلى الميل إلى فرض بقاء الحالة السابقة. وهذه الارتكازية تتحكّم في فهم لسان الدليل، وهذا الارتكاز بأيّ درجة كان، قويّاً كان أو ضعيفاً من الواضح جدّاً أنّه في مورد الاستصحاب السببي والمسبّبي المتعارضين إنّما يوجد في جانب الاستصحاب السببي، ولا يحسّ بأيّ مقتض في ذلك للاستصحاب المسبّبي يزاحم المقتضي الأوّل، فمثلاً لو كانت حياة زيد سبباً لمجيئه إلى المكان الفلاني كان المرتكز عقلائياً عند الشكّ في حياته هو استصحاب حياته دون استصحاب عدم مجيئه إليه. وهذا يوجب انصراف دليل الاستصحاب عن الاستصحاب المسبّبي في مثل المقام.

ومنها: ما يختصّ بأصالة الطهارة بالنسبة إلى الاستصحاب الموجود في آثار الطهارة، كاستصحاب الحدث، أو الخبث عند الوضوء، أو الغسل بماء ثبتت طهارته بأصالة الطهارة،

559

وهو: أنّ أصالة الطهارة في الماء المستفاد من رواية: (كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر)(1)تقدّم على استصحاب بقاء الحدث والخبث بعد استعماله بالأخصّيّة ؛ وذلك لأنّ العدول عن صبّ التأمين على أثر من الآثار كجواز الشرب إلى صبّه على الطهارة التي هي موضوع لتلك الآثار يكون ظاهراً في أنّ النظر يكون إلى عدّة آثار، لا إلى أثر واحد، وفي طليعة آثار طهارة الماء رفع الحدث والخبث، إذن فلا يمكن فرض جريان أصالة الطهارة في الماء في نفسها بحكم تلك الرواية مع تقدّم استصحاب الحدث والخبث عليها، ولا يكفي فرض مورد نادر قد لا يجري فيه الاستصحاب لتوارد الحالتين.

ومنها: ما يعمّ جميع الموارد، وهو أنّ العرف بسذاجته يُسري الناقضيّة من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات.

وتوضيح المقصود: أنّ طهارة الماء ـ مثلاً ـ ثبوتاً وواقعاً لا شكّ في أنّها تنقض نجاسة الثوب، ولا تزاحمها نجاسة الثوب، فالعرف يُسري هذه الحالة من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات، فيرى أنّ إثبات طهارة الماء بأصالة الطهارة تنقض إثبات نجاسة الثوب باستصحاب النجاسة، ولا يقال: إنّ هذا البيان يأتي إذن في الأمارتين ـ أيضاً ـ إذا كانت إحداهما في جانب السبب والاُخرى في جانب المسبّب، فيجب أن تكون الأمارة الدالّة على طهارة الماء مقدّمة على الأمارة الدالّة على نجاسة الثوب، فإنّه يقال: إنّ كلاًّ من الأمارتين باعتبار حجّيّة مثبتاتها ولوازمها أمارة على السبب والمسبّب معاً، فيتعارضان.

التعليق الثالث: في الأصلين العرضيين المتعارضين.

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) إلى أنّه إن كان أحدهما يرفع الشكّ دون الآخر كما في استصحاب النجاسة واصالة الطهارة، تقدّم عليه بالورود أو الحكومة، وإلاّ ـ كما لو كان كلاهما استصحاباً أو أصلاً ـ تعارضا، وليس لنا هنا مزيد كلام في الورود أو الحكومة غير ما عرفته فيما سبق، وعرفت بطلانهما.

نعم هنا ذكر المحقّق العراقي (رحمه الله)(2) وجهاً آخر لحكومة الاستصحاب وهو: أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو الأمر بالجري العملي على طبق آثار اليقين، والنهي عن نقض آثار اليقين (وبكلمة اُخرى: تنزيل الشكّ في الانتقاض منزلة اليقين بعدمه، لا في الآثار الشرعية، بل


(1) هذا فيما لو تمّ سند حديث قاعدة الطهارة الخاصّ بالماء.

(2) راجع نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الرابع ص 109 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

560

في العمل، أي: يقول: اعمل كما كنت تعمل لو كنت متيقّناً) وهذا مطلق يشمل الأثر العملي لليقين الطريقي وهو الجري نحو الواقع المنكشف به، والأثر العملي لليقين الموضوعي كترك العمل بالاُصول المغياة بالعلم، فإنّه أثر عملي لنفس اليقين بالخلاف، فدليل الاستصحاب ناظر إلى كلّ هذه الآثار، فيكون حاكماً على تلك الاُصول بملاك النظر.

ويرد عليه ما نقّحناه في بحث الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع من أنّه بناءً على كون مفاد الاستصحاب الأمر بالجري العملي وفق اليقين، لا ينظر ذلك إلاّ إلى الجري العملي وفق اليقين الطريقي، فراجع.

وقد تحصّل بطلان الحكومة في المقام بكلّ تقريباتها الثلاثة، أعني الورود والحكومة التنزيلية والحكومة المضمونية التي قرّ بها المحقق العراقي (رحمه الله).

والصحيح: أنّ الأصلين العرضيين المتنافيين إذا كانا بدليل واحد كما في استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة في موارد توارد الحالتين، حصل التساقط والإجمال، وإذا كانا بدليلين فعندئذ إن وجدت نكتة الأخصّيّة وما يشبهها في أحدهما، قدّم، وإلاّ استحكم التعارض، فنقول:

أمّا استصحاب النجاسة مع قاعدة الطهارة فقد نقّحنا في الفقه: أنّ قاعدة الطهارة لا تجري في نفسها عند اليقين بالنجاسة السابقة، إذ دليل قاعدة الطهارة: إمّا هي الروايات الواردة في الموارد الخاصّة وهي ليس لها إطلاق لفرض اليقين بالنجاسة السابقة، وإمّا هي رواية: (كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر)، وهي مجملة؛ لاحتمال كون (قذر) بضمّ الذال وكونه فعلاً لا وصفاً، وإذا كان فعلاً دلّ على الحدوث، فإذا كان الشكّ في البقاء لا تجري القاعدة.

وأمّا الاستصحاب مع قاعدة اليد والفراغ والتجاوز، فهذه القواعد مقدّمة عليه بملاك الأخصّية لندرة موارد عدم الاستصحاب على الخلاف في موردها، مضافاً إلى ورود أدلّتها في موارد كان مقتضى الاستصحاب خلافها، فهي نصّ في مورد الاستصحاب المخالف فتقدم عليه.

وأمّا الاستصحاب مع البراءة فقد يوجد الاستصحاب ولا توجد البراءة المعارضة، وقد توجد البراءة ولا يوجد الاستصحاب المعارض، وقد يتعارضان، فالنسبة عموم من وجه، إذن فيبدو إشكال التعارض مستحكماً، إلاّ أنّ هذا لا يوجب الوقوع في مشكلة في الشبهات الموضوعية؛ إذ في الشبهات الموضوعية لا يجري استصحاب التكليف إلاّ ومعه استصحاب

561

موضوع التكليف، وهو مقدّم على البراءة بملاك تقدّم الأصل السببي على المسبّبي.

فإنّما يتصوّر الوقوع في المشكلة بالنسبة للشبهات الحكمية، والتحقيق فيها ـ أيضاً ـ تقدّم الاستصحاب. أمّا على البراءة التي تكون في عرض قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فواضح، فإنّه يتقدّم عليها دليل الاحتياط فضلاً عن الاستصحاب. وأمّا على مثل (رفع ما لا يعلمون) فلأنّه لم يتمّ عندنا دليل على البراءة المعارضة لدليل الاحتياط والاستصحاب سنداً ودلالةً، إلاّ ما كان مطلقاً، ولم يتمّ عندنا ما يكون عامّاً، ودليل الاستصحاب عامّ ؛ فإنّ كلمة (أبداً) في قوله: «لا ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» أوضح تعبير عن العموم، والعموم يقدّم على الإطلاق ما لم توجد مزيّة في الإطلاق توجب قوّته.

أضف إلى ذلك أنّ عدم قبول العرف للتفصيل في الاستصحاب المركوز في ذهنه بين موارد استصحاب الإباحة وموارد استصحاب التحريم ؛ لكون الارتكاز فيهما على حدّ سواء، وقبوله للتفصيل في البراءة بين موارد جريان استصحاب الحرمة وغيرها يجعل دليل الاستصحاب أقوى وأظهر في الشمول من دليل البراءة، ويوجب ذلك عدّ دليل الاستصحاب قرينة على رفع اليد عن دليل البراءة، ومقدّماً عليه.

ثمّ إنّه لو سلّم ما قد يقال من كون الاستصحاب ناظراً إلى إثبات الواقع ينفتح باب آخر لإثبات تقدّمه على البراءة ونحوها، ونحن نطرق هنا هذا الباب، وهو وإن لم ينفع في تقديم الاستصحاب على البراءة ونحوها ؛ لإنكار كونه ناظراً إلى إثبات الواقع، لكنّه ينفع في تقديم كلّ ما يكون ناظراً إلى إثبات الواقع من قبيل الأمارات وقاعدة اليد ونحوها، وحاصل الكلام في ذلك: أنّه قد ارتكز في ذهن المتشرّعة أنّ الشارع ليست وسيلة الإثبات عنده منحصرة في العلم، فإنّهم يعلمون إجمالاً ـ وعلى شكل إرتكاز غير محدّد الأطراف ـ أنّ ذوق الشارع في مقام الإثبات ليس على الاقتصار على العلم، وهذا الذوق كان واضحاً على الشريعة من أوائل أيّام الشرع، فلم يكن ذوق الشارع مثلاً على رفض العمل بالظواهر أو القواعد العقلائية من قبيل اليد، وهذا الارتكاز ثابت في أذهانهم وإن لم يعلموا حدود وسائل الإثبات تفصيلاً عند الشارع، وهذا الارتكاز غير المحدّد يجعل مثل دليل البراءة منصرفاً عن كون مفاده نفي سائر وسائل الإثبات عدا العلم، ويجعل عرف المتشرّعة يفهم من مثل قوله: «رفع ما لا يعلمون» أنّه بصدد رفع كلّ ما لم يعلم ولم يثبت بسائر وسائل الإثبات، إذن فكلّ ما يثبت بدليل آخر أنّه من وسائل الإثبات عند الشارع يصبح وارداً على مثل حديث الرفع، بل ما لم يثبت بدليل معتبر كونه وسيلة إثبات عنده لكن احتملنا

562

كونه كذلك، كما لو احتملنا حجّيّة الشهرة مثلاً يمنعنا ذلك عندئذ عن التمسّك راساً بحديث الرفع لنفي التكليف الذي دلّ عليه ذاك الدليل المشكوك، وهو الشهرة مثلاً، فالعلاج في مثل ذلك هو أحد أمرين:

الأوّل: إجراء استصحاب عدم جعل حجّيّة ذلك الدليل المشكوك حجّيّته.

والثاني: إجراء البراءة عن هذه الحجّيّة على ما تقدّم في محلّه من معقولية البراءة عن الأحكام الظاهرية، كالبراءة عن الأحكام الواقعية.

 

المقام الثاني: في التعارض العرضي بلحاظ مرحلة الجعل

إن الأصلين الجاريين في أطراف العلم الإجمالي لو لزمت من جريانهما مخالفة عمليّة قطعيّة فقد مضى في بحث العلم الإجمالي أنّهما يتساقطان بالتعارض، ولا يجريان، ولا يجري أحدهما على سبيل التخيير. ولو لم تلزم من جريانهما مخالفة عملية قطعية فمجرّد كونهما أصلين على خلاف العلم الإجمالي لا يوجب التساقط.

هذا كلّه مضى تحقيقه في بحث العلم الإجمالي، ولا نعيده هنا، وإنّما الذي نتكلّم عنه هنا هو: أنّه لو كان الأصلان تنزيليين من قبيل الاستصحابين مثلاً فهل كونهما تنزيليين يوجب سقوطهما في أطراف العلم الإجمالي ولو لم تلزم من مجموعهما مخالفة عملية قطعية، كما في مستصحبي النجاسة مع العلم بطهارة أحدهما، أو لا؟

قد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) في الاستصحاب: أنّ الاستصحابين يتساقطان لمحذور إثباتي، وهو: أنّ صدر الحديث يدلّ على السالبة الكلّيّة، حيث يقول: لا تنقض اليقين بالشكّ، ولكنّ ذيله يدلّ على موجبه جزئية، حيث يقول: أنقضه بيقين آخر، وهنا عندنا يقين آخر يوجب نقض أحد اليقينين السابقين بنحو الموجبة الجزئية، والموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، إذن فلا يثبت جريان الاستصحاب لتعارض الصدر والذيل.

وقد أورد عليه المتأخّرون عنه تارةً بأنّنا لو سلّمنا تعارض الصدر والذيل، فلماذا لا نرجع إلى الروايات الاُخرى غير المذيّلة بهذا الذيل بعد إجمال هذا النصّ، فإنّ ما لا يكون مذيّلاً بهذا الذيل لا إجمال فيه فيؤخذ به، واُخرى بأنّنا لا نسلّم هنا التعارض والإجمال، فإن ظاهره كون اليقين الثاني متعلّقاً بنفس ما تعلّق به اليقين الأوّل لا بالجامع بينه وبين غيره.


(1) راجع الرسائل: ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

563

والمحقّق النائيني(رحمه الله) عدل عمّا يقوله الشيخ الأعظم(قدس سره) من المحذور الإثباتي إلى دعوى محذور ثبوتي في الاُصول التنزيلية التي مفادها ـ حسب ما يراه ـ جعل العلم والطريقية، وهو استحالة اجتماع أصلين منها على خلاف العلم الإجمالي(1).

وفي مقام الاستدلال على هذا المدّعى لا يستفاد من كلام التقريرين لبحثه(قدس سره)شيء زائد على تكرار المدّعى بعبائر مختلفة، إلاّ أنّه يمكن تقريب هذا الكلام بأحد بيانين:

الأوّل: أن يقال بناءً على ما بنى عليه المحقّق النائيني (رحمه الله) في تصوير جعل الطريقية من أنّ ما ليس طريقاً وكاشفاً ظنّياً يستحيل جعله طريقاً، وإنّما يعقل جعل الطريقية بمعنى أنّ ما له كشف تكويني ناقص يتمّم كشفه تعبداً: إنّ جعل الطريقية لكلا الاستصحابين في المقام غير معقول ؛ إذ يستحيل ثبوت الكشف الذاتي لهما معاً بأن يفيد كلاهما الظنّ مع أنّا نعلم إجمالاً بخلاف أحدهما.

ويرد عليه (بغضّ النظر عن النقض عليه بما لو كانت الأطراف ثلاثة أو أكثر، فعندئذ يعقل حصول الظنّ في كلّ واحد منها بعدم الانتقاض بالرغم من العلم بالانتقاض في أحدها): أنّ العبرة لو كانت بالظنّ الفعلي إذن للزم عدم حجّيّة الاستصحاب، ولا خبر الثقة عند عدم الظنّ الفعلي. وهذا ما لا يلتزم به المحقّق النائيني(قدس سره)، وإن كانت العبرة بقابليّة ما جعل طريقاً لإفادة الظنّ لو خلّي ونفسه ولو منع مانع عن فعليّة ذلك، فالأمر في المقام كذلك؛ فإنّ كلاًّ من الاستصحابين لو خلي وحده كان بالإمكان حصول الظنّ فيه على طبق الحالة السابقة.

الثاني: أنّ يقال: إنّ ما كانت حجّيّته بلحاظ حكايته عن الواقع يشترط فيه احتمال المطابقة للواقع، بمعنى احتمال المطابقة لكلتا الحكايتين ـ اذا كانت الحكاية متعدّدة ـ في عرض واحد إذا كانت حجّيّتهما في عرض واحد، لا بنحو البدلية. وفي المقام المفروض حجّيّة كلا الاستصحابين في عرض واحد، لا بنحو البدليّة، مع أنّ احتمال المطابقة في كلتا الحكايتين عرضاً غير موجود.

ويرد عليه ـ بعد إنكار كون الاستصحاب حاكياً عن الواقع ـ: أنّنا لا نقبل شرطاً زائداً في ما تكون حجّيّته على أساس الحكاية إضافة إلى أصل الشرط الموجود في كلّ الأحكام


(1) راجع فوائد الاصول: ج 4، ص 14 و 693 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 499.

564

الظاهرية من الشكّ في الواقع، واحتمال انحفاظ الواقع به. وأمّا احتمال المطابقة لكلتا الحكايتين عرضياً، بمعنى مطابقة المجموع (لكون حجّيّتهما عرضية) فلا نقبل اشتراطه، واحتمال المطابقة في كلّ منهما في نفسه موجود.

نعم، بالإمكان أن يقال بتعارض الاستصحابين وتساقطهما بناءً على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من ناحية أنّ كلاًّ من الاستصحابين يثبت لنا جواز إسناد المستصحب إلى المولى، مع العلم بكون أحدهما كذباً وتشريعاً، فمن هذه الناحية نقع في المخالفة العملية القطعية.

إلاّ أنّ هذا ـ مضافاً إلى عدم تسليم مبناه من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ـ لو تمّ فإنّما يقتضي سقوط الاستصحابين بلحاظ هذا الأثر فحسب، لا بلحاظ آثار العلم الطريقي(1).

 


(1) قد تقول في ما إذا كان الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي بالخلاف إلزامياً والآخر ترخيصياً، كما لو كان أحد الإنائين مستصحب النجاسة، والآخر مستصحب الطهارة: إنّ جواز الحكاية أو الإسناد المترتّب على قيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي في جانب الأصل الإلزامي مع الترخيص المترتّب على قيامه مقام العلم الطريقي في جانب الأصل الترخيصي يتعارضان ويتساقطان.

إلاّ أنّه لو فرض دليل قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي دليلاً منفصلاً عن دليل قيامه مقام القطع الطريقي، فدليل قيامه مقام القطع الموضوعي هو الذي يسقط بالتعارض الداخلي بلحاظ لزوم جواز الحكاية أو الإسناد في كلا الطرفين، ويبقى دليل قيامه مقام القطع الطريقي ـ بعد سقوط ذاك بالإجمال ـ بلا معارض.

ولو فرض الدليل على قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي وقيامه مقام القطع الموضوعي واحداً، وهو نفس دليل الاستصحاب كصحيحة زرارة مثلاً، ولكنّ دلالته على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي كان بدلالة التزامية عرفية على ما قد يقال من أنّ دليل الاستصحاب يجعل الموّدّى او المشكوك منزلة الواقع، ولازمه العرفي كون العلم بالمؤدّى بمنزلة العلم بالواقع، فعندئذ قد يقال في المقام: إنّ الدلالة الالتزامية العرفية لا تصلح لمعارضة الدلالة المطابقية، فإنّها بمجرّد أن تعارضها يَسقط مفادها عن كونه لازماً عرفيّاً.

إلاّ أنّه بالإمكان الإيراد على هذا الجواب بأنّ دلالة رواية الاستصحاب انحلالية بعدد الموارد، والدلالة الالتزامية لكلّ من الطرفين إنّما عارضت الدلالة المطابقية للطرف الآخر، لا المطابقية التي كانت تلازمها حتّى يقال: إنّ فرض المعارضة يُنهي الملازمة العرفية لا محالة، فتسقط الدالة الالتزامية، لا المطابقية.

اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الأمر وإن كان بالتدقيق العقلي كذلك ؛ لمكان الانحلال، ولكنّه بالنظر العرفي يُرى سقوط الدلالة الالتزامية العرفية في المقام على أثر تنافيها مع الدلالة المطابقية الرافع للالتزام، وبقاء الدلالة المطابقية على حالها.

والذي يحسم مادّة الإشكال بعد فرض تسليم أنّ نفس دليل الاستصحاب يدلّ على قيامه مقام القطع الموضوعي هو أنّ دلالة دليل الاستصحاب على ترتيب آثار المتعلّق أقوى من دلالته على ترتيب آثار اليقين

565

نعم، لو انحصر في مورد مّا أثر الاستصحاب في مسألة الاخبار والاسناد، كما لو قيل في الاستصحابات التي يجريها الفقيه فيما هو خارج عن ابتلائه شخصياً: إنّ أثره إنّما هو جواز الإفتاء بالمستصحب، تساقط الاستصحابان.

 

المقام الثالث: في الأصلين المتنافيين بلحاظ عالم الإمتثال

كما في استصحاب وجوب الصلاة واستصحاب وجوب الإزالة مع عدم القدرة على الجمع بينهما. فقد يقال: إنّ هذا التنافي يسري إلى عالم الجعل باعتبار أنّ جعلهما معاً يستلزم التكليف بالمحال.

وذكرت مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله): أنّ هذا خلط بين باب التعارض والتزاحم، وأنّ الجواب الذي يجاب به عن الإشكال في نفس الحكمين الواقعيين المتزاحمين يأتي ـ أيضاً ـ في فرض استصحابهما.

أقول: إنّ روح الجواب الذي أجاب به المحقّق النائيني (رحمه الله) عن الإشكال في نفس الحكمين الواقعيين المتزاحمين هو أنّ كلاًّ من الجعلين موضوعه إنّما هو الإنسان القادر بالقدرة بكلا جناحيها: العقلي والشرعي، فالقدرة العقلية عبارة عن التمكّن خارجاً، والقدرة الشرعية عبارة عن عدم الانشغال بالمزاحم المساوي أو الأهمّ. إذن فلا يلزم من الجعلين التكليف بالمحال ؛ إذ مع الانشغال بأحدهما المساوي أو الأهمّ لا يكون الآخر في حقّه فعلياً لعدم فعليّة موضوعه ؛ لانتفاء القدرة الشرعية الدخيلة في الموضوع. نعم، لدى عصيانه لكليهما أو انشغاله بالمرجوح وعصيانه للراجح بأحد المرجّحات التي يراها المحقّق النائيني(رحمه الله) من الأهمية أو عدم البدل له، مع كون الآخر ذا بدل أو غير ذلك يصبح التكليفان فعليين عليه، ويسقط ما تركه بالعصيان.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ إنّما يدفع التنافي بين الجعلين، وهو في الحقيقة اعتراف بالتنافي بين المجعولين ـ وإن عبّر بالتنافي في مقام الامتثال ـ وإنّما صحّ للمولى الجمع بين هذين الجعلين؛ لأنّه مطمئنّ بعدم إمكان فعلية المجعولين معاً عندما لا يعصي العبد.

 


الموضوعي، فلدى التعارض الداخلي تنتفي الثانية دون الاُولى. والوجه في الأقوائية: أنّ دليل الاستصحاب كصحيحة زرارة وارد في مورد آثار المتعلّق، أو قل: آثار القطع الطريقي، وناظر إليها بالخصوص وإن فرض شمول إطلاقه لآثار القطع الموضوعي، فبطبيعة الحال تصبح دلالته بلحاظها أقوى منها بلحاظ آثار القطع الموضوعي.

566

هذا، والاستصحاب عند المحقّق النائيني(رحمه الله) إنّما يجري في المجعول لا في الجعل، فهو ينكر استصحاب القضية التعليقية التي هي لون من الوان الجعل، ومعه نقول: إنّه عند الشكّ في بقاء الحكمين واستصحابهما إذا اشتغل بالمساوي والراجح دون المرجوح حصل له القطع بعدم فعليّة المجعول الآخر إمّا لانقطاع أمد الحكم وإمّا لانشغاله بالمعجّز الشرعي المساوي أو الأهمّ (إذ الرافع للقدرة الشرعية لا يشترط فيه العلم بكونه مطلوباً للشارع واقعاً، بل يكفي الانشغال بما تنجّز على العبد) وعليه فلا يجري الاستصحاب في ذلك المجعول.

وحلّ الإشكال يكون بالرجوع إلى استصحاب القضية التعليقية، وهي وجوب هذا العمل عليه سابقاً لو كان قادراً. وهذا ما لا ينسجم مع مسلك المحقّق النائيني «رحمة الله تعالى عليه»(1).

والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


(1) إلاّ أن يكتفي المحقّق النائيني (رحمه الله) في مقام دعوى جريان الاستصحاب في المقام بالقول بأنّه على تقدير قدرته على ما تركه من المساوي أو المرجوح يكون استصحاب الحكم الفعلي جارياً، فالتعليق يكون في الاستصحاب لا المستصحب. وهذا كاف في إثبات الحكم الظاهري لدى التزاحم بين الحكمين بمقدار ما كان يثبت الحكم الواقعي لدى التزاحم بينهما.

567

 

 

 

 

 

 

 

مبحث

التعادل والتراجيح

 

 

 

 

 

 

ويقع الكلام في جهات:

الجهة الاولى: تعريف التعارض.

الجهة الثانية: مقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين.

الجهة الثالثة: مفاد الأخبار العلاجيّة.

 

 

 

 

 

569

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعريف التعارض

 

الجهة الاُولى: أنّه فسّر التعارض ـ كما جاء في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) ـ بأنّه تنافي مدلولي الدليلين(1)، وعدل المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن هذا التعريف إلى التعريف بأنّه تنافي الدليلين في دلالتهما(2)، وكأنّ المقصود بهذا العدول أنّ المدلولين متنافيان حتّى إذا وجد بينهما جمع عرفي، في حين أنّهما عندئذ لا يدخلان في التعارض.

وانتصرت مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله) للتعريف الأوّل بأنّ تنافي المدلولين ـ أيضاً ـ إنّما يكون فيما إذا لم يوجد بينهما جمع عرفي.

فهذا السيّد الاُستاذ ذهب إلى أنّ الدليلين الذين يجتمعان معاً لكون نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة التخصّص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص لا يوجد أيّ تناف بين مدلوليهما(3).

أمّا التخصّص فواضح، فلو دلّ مثلاً دليل على رفع ما لا يعلمون، ودّل دليل آخر قطعي على حرمة شيء، فأيّ تناف بينهما؟!

وكذلك الحال في الورود؛ إذ إنّ أحد الدليلين يرفع موضوع الدليل الآخر تكويناً بواسطة


(1) راجع الرسائل ص431 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2)راجع الكفاية ج2 ص376 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكيني(رحمه الله).

(3) راجع مصباح الاُصول ج3 ص347.

570

التعبّد، فإذا كان موضوع دليل البراءة العقلية مثلاً هو عدم البيان ولو بالحجّة التعبّدية، فأيّ تناف بينه وبين دليل يثبت حرمة شيء بالتعبّد؟!

وكذلك الحال في الحكومة، كما في (لا ربا بين الوالد وولده) مثلاً مع دليل حرمة الربا، فإنّ دليل المحكوم يبيّن قضية شرطية، ودليل الحاكم ينفي تعبّداً الشرط، وأيّ تناف بين القضيّة الشرطية ونفي الشرط؟!

بل الحال كذلك في باب التخصيص بالرغم ممّا يتراءى من التنافي بين المدلولين فيه؛ وذلك لأنّ الدليل الخاصّ حاكم على دليل حجّيّة العامّ، فما هو المدلول الذي ينافي مدلول الخاصّ؟ إن كان هو مدلول دليل حجّيّة العامّ فهو محكوم له، وقد عرفنا عدم التنافي بين المدلولين في باب الحكومة، وإن كان هو مدلول العامّ فهو قد سقط مسبقاً بحكومة الخاصّ على دليل حجّيّته، فكيف يعارض الخاصّ حينئذ؟! وهذا يكون من باب تعارض الحجّة مع اللاحجّة؛ ولذا يعامل مع الخاصّ والعامّ معاملة الحاكم والمحكوم، فيقدّم الخاصّ ولو كان أضعف ظهوراً، كما يقدّم الحاكم ولو كان أضعف ظهوراً؛ لأنّه لا منافاة بين مدلولي الحاكم والمحكوم، فيؤخذ بكليهما، فيحكم الحاكم ـ لا محالة ـ على المحكوم ولو كان أضعف ظهوراً.

أقول: إنّ لنا هنا ثلاث كلمات:

الكلمة الاُولى: في منهج البحث.

والكلمة الثانية: مع المحقّق الخراساني(رحمه الله).

والكلمة الثالثة: مع مدرسة المحقّق النائيني(رحمه الله).

أمّا الكلمة الاُولى، وهي في منهج البحث. فنقول: إنّ مبحث التعادل والتراجيح فيه مسألتان أساسيّتان:

احداهما: هو حال الدليلين المتعارضين بالقياس إلى دليل الحجّيّة العامّ، فهل يسقطان معاً، أو يرجّح أحدهما، أو يخيّر بينهما مثلاً؟

والثانية: في أنّه هل يوجد دليل خاصّ على الحجّيّة في خصوص دائرة المتعارضين (وهو المسمّى بالأخبار العلاجية)، وما هو مفاده؟

فإن كان المقصود بتعريف التعارض تعريف موضوع البحث الأوّل، فطبعاً موضوعه هو كلّ دليلين وقع التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ لشمولهما، سواء فرض تناف بين مدلوليهما أو دلالتهما، أو لا، كما في أمارتين مرخّصتين غير مثبتتين للوازمهما حصل العلم الإجمالي بالإلزام في مورد أحداهما، ومتى ما لم يفرض التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ

571

لشمولهما خرجا عن موضوع هذه المسألة، سواء فرض التنافي بين الدليلين أو الدلالتين، أم لا.

وإن كان المقصود تعريف موضوع البحث الثاني، فلا ينبغي أن يؤخذ موضوعه من فهم معنى التعارض لغةً أو اصطلاحاً مثلاً، بل ينبغي أن يؤخذ موضوعه من الأخبار العلاجية نفسها التي لم يؤخذ في شيء منها عدا النادر عنوان التعارض أصلاً.

وإن كان المقصود ذكر عنوان يعمّ موارد الجمع العرفي وغيرها حتّى يقسّم بعد ذلك إلى قسمين، ويقال: أمّا ما وجد فيه جمع عرفي فلا يرجع فيه إلى التساقط، أو التخيير، أو الترجيح مثلاً، وأمّا ما لم يوجد فيه جمع عرفي فحكمه كذا وكذا. إذن فلا بدّ من أخذ عنوان لا يخرج منه موارد الجمع العرفي.

وأمّا الكلمة الثانية، وهي مع من يعدل عن التعريف بالتنافي بين المدلولين إلى التعريف بالتنافي بين الدليلين بلحاظ الدلالة، بدعوى أنّ التنافي بين المدلولين يثبت حتّى مع الجمع العرفي(1)، فهي: أنّ موارد الجمع العرفي كما يوجد فيها التنافي بين المدلولين كذلك يوجد فيها التنافي بين الدلالتين، فدلالة العامّ مع دلالة الخاصّ متنافيتان لا محالة، فإنّ المخصّص المنفصل لا يرفع الظهور، هذا إذا قصد بالتنافي بحسب الدلالة، التنافي بحسب الظهور، وكذلك الحال إذا قصد به التنافي بحسب الحجّيّة، فإنّ حجّيّة ظهور العامّ مع حجّيّة ظهور الخاصّ متنافيتان لا محالة. نعم، لو قصد بذلك ما ذكرناه من التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة لشمولهما، فمن الواضح عدم التنافي عند الجمع العرفي؛ لأنّ اقتضاء دليل الحجّيّة لشمول العامّ معلّق على عدم الخاصّ، ولكن هذا ليس مقصوداً للمحقّق الخراساني (رحمه الله)، بقرينة أنّه (رحمه الله) يقول بأنّ التعارض هو التنافي بين الدلالتين (بنحو التناقض أو التضادّ)، ومن الواضح أنّ التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة دائماً يكون بنحو التضادّ.

وأمّا الكلمة الثالثة، وهي مع مدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله)، فنحن نقتصر هنا على جانب واحد من جوانب المناقشة، وهي المناقشة بلحاظ باب التخصيص تاركين باقي الجوانب إلى حين بيان مسائل الورود والحكومة.

فنقول: إنّه وإن جاء في لسان الشيخ الأعظم (رحمه الله) التعبير بأنّ دليل الخاصّ حاكم على دليل حجّيّة العموم، لكنّ الظاهر أنّ هذا كان مجرّد ترف علمي، وتحليل فلسفي، ولم يكن المقصود به ما تفرضه مدرسة المحقّق النائيني من الالتزام بنكات التقديم بالحكومة؛ وذلك


(1)الظاهر أنّ الورود خارج عن المقصود.

572

لأنّ تقدّم الخاصّ على العامّ بحاجة إلى نكتة قبل فرض حكومته على دليل حجّيّة العموم، ولولا تلك النكتة كانت حكومته على دليل حجّيّة العموم بلا مبرّر، ولم تكن أولى من العكس، فلو ورد مثلاً: (لا يجب إكرام الفقير) وورد: (أكرم الفقير العادل) فكما يمكن أن يقال مثلاً: إنّ حجّيّة العموم موضوعها الشكّ، والخاصّ يرفع الشكّ، فيحكم عليها، كذلك يمكن أن يقال مثلاً: إنّ حجّيّة ظهور الخاصّ في الوجوب موضوعها الشكّ، والعامّ يرفع الشكّ، فيحكم عليها، فيجب أن يفترض في المرتبة السابقة على ذلك نكتة في تقديم الخاصّ على ما ينافيه مدلوله وهو العامّ، حتّى يأتي بعد ذلك الاُصوليون ويقولوا: إنّ حجّيّة العامّ أصبحت مشروطة بعدم الخاصّ، فالخاصّ حاكم أو وارد عليها، فحكومة الخاصّ أو وروده على دليل حجّيّة العامّ مسبوقة بنكتة تقديم الخاصّ على نفس العامّ.

 

 

 

573

 

 

 

مقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين

 

الجهة الثانية: في ما هو مقتضى القاعدة لو بقينا نحن والدليلين المتعارضين مع دليل الحجّيّة العامّ. ونقدم لذلك مقدمات:

 

مقدمات في التعارض غير المستقر

 

الورود بالمعنى الأعمّ:

المقدّمة الاُولى: يشترط في وقوع التنافي بين اقتضائي دليل الحجّيّة العامّ للشمول لكلّ من الفردين أن لا يكون أحدهما رافعاً تكويناً لموضوع الاخر. وهذا تحته عنوانان:

أحدهما: التخصّص، وهو أن يرفع أحدهما موضوع الآخر تكويناً من دون توسيط التعبّد.

والثاني: الورود، وهو أن يرفع أحدهما موضوع الآخر حقيقةً وتكويناً، لكن بتوسيط التعبّد.

والتخصّص تارةً يكون بنظر إخباري، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) ثم أخبر عن عدم كون زيد عالماً. واُخرى يكون بتوليد التخصّص تكويناً، كما لو قال: (رفع ما لا يعلمون) ثمّ أوجد العلم بالحرمة بواسطة دليل قطعي، وبما أنّه لا فرق في الثمرة والنتائج بين التخصّص بكلا قسميه والورود نسمّي المجموع بالورود بالمعنى الأعمّ، ونتكلم في هذا العنوان العام فنقول:

إنّ الورود بالمعنى الأعمّ الشامل للتخصّص ينقسم إلى خمسة أقسام، فإنّ أحد الحكمين قد يكون بمجرّد جعله رافعاً لموضوع الآخر، واُخرى يكون بفعليّته رافعاً لموضوع الآخر، وثالثة يكون بوصوله رافعاً له، ورابعة يكون بتنجّزه رافعاً له، وخامسة يكون بامتثاله رافعاً له.

أمّا الخامس، فمن قبيل المتزاحمين بناءً على إمكان الترتّب، فبامتثال الأهمّ أو المساوي يرتفع موضوع الآخر، ومن قبيل دليل وجوب صوم شهر رمضان، ودليل الكفارة على

574

المفطر، فبامتثال الأوّل يرتفع موضوع الثاني وإن كان هذا المثال خارجاً عن باب التعارض.

وأمّا الرابع، فمن قبيل المتزاحمين بناءً على استحالة الترتّب، فليس موضوع المهمّ يرتفع بامتثال الأهمّ، وارتفاعه بامتثال الأهمّ لا يحل مشكلة المنافاة عند القائلين باستحالة الترتّب، بل يرتفع موضوع المهمّ بمجرّد تنجّز الأهمّ، وإنّما لم نقل بارتفاعه بفعليّة الأهمّ لأنّ وجه تخصيص المهمّ بعدم الأهمّ هو قبح إيجاب المهمّ مع الأهمّ على من لا يقدر عليهما معاً مثلاً، ومن الواضح أنّ قبح إيجاب المهمّ إنّما يكون عند تنجّز الأهمّ المستدعي ـ بحسب قانون المولوية والعبودية ـ انشغال العبد به عن المهمّ. وأمّا مع عدم تنجّزه عليه فمن الواضح أنّ العقل لا يرى أيّ قبح أو استحالة في توجيه خطاب المهمّ إليه.

ومن هذا القبيل الواجبات التي يقال باشتراط القدرة الشرعية فيها بالمعنى الذي يرتفع بمجرّد تنجّز المنافي عليه، سواء امتثله أو لا، أي: إنّه أخذ فيها عدم العجز التكويني مع عدم العجز العقلي بلحاظ عالم المولوية والعبودية، بأن لا يفرض تنجّز شيء عليه يستنفد قدرته، فلا يبقى له قدرة على هذا الواجب، مثاله ما يقال من أنّ وجوب الحجّ مشروط بعدم تنجّز واجب آخر عليه وإن كنّا نحن لا نقبله، وكذلك يقال أيضاً: إنّ وجوب الوضوء يتوقّف على عدم تنجّز صرف الماء في أمر آخر كحفظ النفس مثلاً، ومن هذا القبيل ما يدّعى في الزكاة من اشتراط عدم تنجّز حرمة التصرّف عليه في النصاب في أثناء الحول، فلو تنجّز عليه ذلك ارتفع موضوع الزكاة.

وأمّا الثالث، فكتقدّم الدليل القطعي على (رفع ما لا يعلمون) إذا اقتصرنا في الغاية على حاقّ اللفظ، وهو العلم، ولم نفسّره بالتنجّز، وكتقدّم الدليل العلمي على حرمة الافتاء بغير علم.

وأمّا الثاني، فكتقدّم دلالة الكتاب أو السنّة على حرمة شيء على دليل وجوب الوفاء بالشرط إلاّ شرطاً خالف الكتاب والسنّة، وكتقدّم دليل عدم رجحان شيء، أو مرجوحيّته على دليل الوفاء بالنذر أو اليمين المشروط بالرجحان أو عدم المرجوحيّة على الأقلّ.

وأمّا الأوّل، فمثاله ما يقال في باب الزكاة من عدم تعلّق الزكاة بشيء مرّتين، ويفسّر ذلك بأنّه لا يمكن دخول عين واحدة في نصابين في سنة واحدة، فلو كان يملك عشرين إبلاً إلى ستّة أشهر، فهنا يكون حكم جعلي مقدّر على بقاء هذا النصاب إلى آخر السنّة، وهو ثبوت أربع شياة عليه، ثمّ نفرض أنّه صارت إبله على رأس ستّة أشهر خمسة وعشرين إبلاً، وهذا هو النصاب الخامس الذي فيه خمس شياة، فيقع التعارض بين دليلي جعل الزكاتين،

575

ونضمّ إلى ذلك ما قالوا من أنّه في مورد من هذا القبيل تكون الزكاة الثانية مشروطة بعدم تقدّم ما يقتضي الزكاة الاُولى.

إذن فالزكاة الاُولى بجعلها ـ قبل أن تصبح فعلية ـ رفعت موضوع الزكاة الثانية.

وهذا المثال وإن كنّا نحن لا نقبله في الفقه لكنّ المقصود به هنا تقريب هذا القسم من الورود إلى الذهن.

 

الورود من الجانبين:

ثمّ إنّ الورود قد يفترض في بادئ الأمر من الجانبين، وهذا على أقسام:

الأوّل: أن يفرض أنّ كلاًّ منهما مشروط بعدم وجود حكم آخر يعارضه أو يزاحمه مطلقاً، فالحجّ والنذر مثلاً يفترض أن وجوب كلّ منهما مشروط بعدم الآخر مطلقاً، وهذا معناه أنّ كلاًّ منهما يتوقّف على عدم الآخر، وهذا مستحيل يوجب الدور، سنخ ما يقال في استحالة توقّف أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر، وعندئذ يقع التعارض بين الدليلين، لا لاقتضائهما الجمع بين الحكمين؛ فإنّ كلاًّ منهما مشروط بعدم الآخر، فلا يعقل اقتضاؤهما للجمع بين الحكمين، بل للقطع بكذب أحد الظهورين؛ لاستحالة صدقهما معاً.

الثاني: أن يفرض أنّ كلاًّ من وجوب الحجّ ووجوب النذر مثلاً مشروط بعدم الآخر على تقدير عدم الأوّل، أي: إنّ وجوب الحجّ يقول: إنّه لولا وجودي هل كان يوجد حكم آخر يعارض أو يزاحم وجوب الحجّ أو لا، فإن كان يوجد شيء من هذا القبيل فأنا لست بموجود. وكذلك الحال في وجوب النذر.

وهذا القسم معقول؛ لأنّ كلاًّ منهما يتوقّف على العدم اللولائي اللاخر، لا العدم الفعلي، فلا يلزم الدور، إلاّ أنّه عندئذ لو خلّينا نحن ودليلي الحجّ والنذر المفروض تقيّد كلّ منهما بعدم الآخر اللولائي، لم يصبح شيء منهما فعلياً، إلاّ أن يفرض أنّنا نعلم من الخارج بوجوب أحدهما، وعندئذ لو ظهر من الدليل الخارجي وجوب أحدهما تعييناً أو تخييراً فهو، وإلاّ عملنا بقوانين العلم الإجمالي.

الثالث: أن يكون كلّ منهما مقيّداً بالعدم الفعلي دون اللولائي للآخر، إلاّ أنّه لا يكون مقيّداً بعدم المخالف مطلقاً، بل يكون كلّ منهما مقيّداً بعدم حكم يمتاز ذلك الحكم على الحكم الأوّل في أنّه ليس مقيّداً بقيد من قبيل قيد الأوّل الذي يقتضي محكوميّته للأوّل، بل هو الحاكم على الأوّل، وعندئذ يكون مقتضى دليل كلّ منهما وجوبه، ولا يتقدّم أحدهما على

576

الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ ما قيّد بعدمه كلّ واحد منهما هو حكم يفرض امتيازه عليه، وليس في شيء من الحكمين امتياز على الآخر، إذن فلا يوجد حاكم في المقام، فيقع بينهما التعارض أو التزاحم.

الرابع: أن يفرض أنّه اُخذ في أحدهما عدم الآخر اللولائي، كما في الصورة الثانية، وفي الثاني عدم الآخر بالنحو الذي مضى في الصورة الثالثة، فيفرض مثلاً أنّ النذر مشروط بالعدم اللولائي لما يزاحمه، والحجّ مشروط بعدم حكم آخر مخالف له يمتاز عليه بأنّه ليس مقيّداً بقيد من قبيل قيد الأوّل حتّى يمنعه عن التقدّم، وعندئذ يتقدّم هذا الحكم على ذاك الحكم المقيّد بالعدم اللولائي وهذا أحد الوجوه الفنّية لتقديم الحجّ على النذر، فيقال: إنّ وجوب الوفاء بالنذر مقيّد بأن لا يجب ما يزاحمه ولو كان وجوباً ثابتاً لولا النذر، ولا إشكال في أنّ الحجّ واجب ثابت لولا النذر، إذن فموضوع النذر منتف.

وأمّا وجوب الحجّ فهو مقيّد بعدم حكم مخالف يمتاز عليه. وهنا لا يوجد حكم مخالف يمتاز عليه؛ فإنّ الحكم المخالف الموجود إنّما هو وجوب الوفاء بالنذر الذي هو مقيّد بقيد أسوأ من قيد الحجّ، فلا يمتاز عليه، فموضوع وجوب الحجّ تامّ.

هذا كلّه إذا فرض تقيّد كلّ واحد من الحكمين بعدم الحكم الآخر.

وقد يفرض أنّ أحدهما مقيّد بعدم الحكم المخالف، لكنّ الآخر مقيّد بعدم امتثال المخالف، فيتقدّم الثاني على الأوّل. وهذا ـ أيضاً ـ أحد الوجوه الفنّيّة لتقديم الحجّ على النذر، حيث يقال مثلاً: إنّ دليل النذر اُخذ فيه عدم الحكم المخالف، وأن لا يكون محلّلاً للحرام، ودليل الحجّ اُخذ فيه القدرة التي بعد التوسيع تشمل عدم انشغاله بامتثال حكم آخر. وعليه فالحجّ مقدّم على النذر؛ لأنّ النذر غير قابل لوجوب الوفاء في هذا الفرض؛ لأنّه كيف يجب الوفاء به؟ هل يجب الوفاء به مطلقاً، أي: سواء امتثل العبد هذا الوجوب أو لا، أو يجب الوفاء به بقيد امتثاله؟

أمّا الأوّل فغير معقول؛ لأنّه عند عدم امتثاله يصبح الحجّ فعلياً، وإذا أصبح فعلياً تقدّم عليه؛ لأنّ النذر مقيّد بعدم الحكم الآخر.

وأمّا الثاني فأيضاً غير معقول؛ لعدم معقوليّة تعليق وجوب شيء على امتثاله.

هذا. ويمكنك بالتأمّل استخراج أقسام اُخرى.

هذا تمام الكلام في أصل توضيح الورود من طرف واحد، أو من طرفين.