426

 

تنبيهات حول أخبار (مَن بلغ)

بقي هنا التنبيه على اُمور:

 

بلوغ الكراهة:

الأمر الأوّل: في نسبة أخبار (مَن بلغ) إلى الروايات الواردة في باب الكراهة، والكلام في ذلك يقع:

أوّلاً: في أنّ أخبار (مَن بلغ) هل تشمل روايات الكراهة، أو تختصّ بمثل أخبار الاستحباب؟

وثانياً: في أنّه ـ على فرض شمولها لأخبار الكراهة ـ هل تثبت بذلك كراهة الفعل، أو لا يثبت إلاّ مجرّد رجحان الترك؟

وثالثاً: في أنّه إذا ورد خبر دالّ على الاستحباب وخبر آخر دالّ على الكراهة، فما هو أثر أخبار (مَن بلغ) تجاه ذلك؟

فالكلام يقع في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في أصل شمول (مَن بلغ) لروايات الكراهة.

ووجه الإشكال في ذلك ليس هو دعوى أنّ الظاهر منها هو النظر إلى جانب الطلب والترغيب لا إلى جانب الزجر، حتّى يقال في المقام: إنّ هذا الإشكال لا يأتي في أخبار الحثّ والترغيب على الترك واستحبابه، أو يقال: إنّ هذا الإشكال يتفرّع على مسألة أنّ النهي هل يكون مفاده طلب الترك، أو الزجر عن الفعل، فعلى الأوّل لا يأتي الإشكال، وعلى الثاني يأتي الإشكال، وإنّما وجه الإشكال في المقام هو انصراف لفظ العمل والفعل ونحو ذلك ممّا يوجد في أخبار (مَن بلغ) عن شموله للترك، ومن هنا يظهر ثبوت الإشكال حتّى في أخبار استحباب الترك.

والتحقيق في المقام: أنّه على فرض الجمود على المعنى المطابقيّ للّفظ وإن كان

427

يتأتّى هذا الإشكال، لكنّ الصحيح أنّ خصوصيّة الفعل تكون ملغيّة عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع، وإنّما المطلوب في هذه الأخبار بحسب ما يفهمه العرف في المقام هو العمل بما بلغه الإنسان من الثواب والخير سواء كان فعلاً أو تركاً، فالصحيح شمول هذه الأخبار للروايات الواردة في باب الكراهة خلافاً للسيّد الاُستاذ.

المقام الثاني: في أنّ هذه الأخبار هل تثبت في موارد بلوغ الكراهة مجرّد رجحان الترك، أو تثبت كراهة الفعل؟

التحقيق: هو الأوّل، سواء فرض أنّ مفاد هذه الأخبار هو جعل الحجّيّة، أو فرض أنّ مفادها الاستحباب النفسيّ.

أمّا على الفرض الأوّل: فلأنّها إنّما تنظر إلى جعل الحجّيّة بمقدار بلوغ الثواب وثبوت الخير لا أزيد من ذلك، فلا تثبت كراهة الفعل، وإنّما تثبت رجحان الترك الجامع بين استحباب الترك وكون الترك نقيضاً للفعل المكروه، أو قل: الجامع بين الرجحان الذاتيّ وهو الاستحباب والرجحان العرضيّ بلحاظ كونه نقيضاً للمكروه(1).

وأمّا على الفرض الثاني: فالأمر أوضح، فإنّ المفروض أنّ أخبار (مَن بلغ) تثبت الاستحباب، وفرض إثباتها للاستحباب في موارد أخبار المستحبّات والكراهة في موارد أخبار المكروهات خلاف الظاهر، فإنّها ظاهرة في جعل سنخ واحد من الحكم في تمام الموارد(2).



(1) الفرق بين الأمر بالترك إيجاباً واستحباباً والنهي عن الفعل حرمةً أو كراهة ـ حينما لا يكون مجرّد تفنّن في التعبير ـ هو أنّ الفعل قد يكون هو المقتضي لمفسدة مّا فيصبح مبغوضاً على مستوى الحرمة أو الكراهة، وقد يكون مانعاً عن حصول مصلحة مّا فيكون الترك عندئذ محبوباً لكونه مقدّمة لحصول المصلحة على حدّ مقدّميّة عدم المانع للمعلول، وليس الفعل مبغوضاً إلاّ بنحو مبغوضيّة نقيض المطلوب.

(2) والمفروض أنّها ظاهرة في الحثّ والترغيب المنصرف إلى الاستحباب.

428

المقام الثالث: في أنّه إذا دلّ خبر على استحباب شيء وخبر آخر على كراهته، فما هو مفاد أخبار (مَن بلغ) بالنسبة لهذا المورد؟

ذكر السيّد الاُستاذ: أنّه بناءً على القول باختصاص أخبار (مَن بلغ) بروايات الاستحباب يكون الثابت هنا استحباب العمل بعنوان البلوغ، وليس هناك أيّ معارض أو مزاحم لذلك؛ لأنّ المفروض أنّ أخبار (مَن بلغ) لم تشمل تلك الرواية الضعيفة الدالّة على الكراهة. وأمّا بناءً على القول بعدم اختصاص أخبار (مَن بلغ) بروايات طلب الفعل فعندئذ قد يقال: لا مانع من شمولها لكلتا الروايتين، فيثبت استحباب كلّ من الفعل والترك، إلاّ أنّهما يتزاحمان ولا ضير في ذلك؛ إذ ما أكثر المستحبّات المتزاحمة.

لكنّ الصحيح هو التفصيل بين ما لو كان الخبران الضعيفان دالّين على الحكم التوصّليّ وما لو كان أحدهما ـ على الأقلّ ـ دالّاً على الاستحباب التعبّديّ، ففي الأوّل يقع التعارض ـ لا محالة ـ بين دلالتي أخبار (مَن بلغ)؛ إذ لا يعقل جعل الاستحباب للفعل وللترك معاً؛ لأنّه تلزم من ذلك اللغويّة؛ إذ يستحيل أن يتفاوت حال العبد بعد الأمر عنه قبل الأمر، فإنّه ـ على أيّ حال ـ لا يقدر على الجمع بين الفعل والترك، وصدور أحدهما منه ضروريّ، فيقع التنافي بين الجعلين، وذلك يوجب التعارض في عالم الإثبات والدلالة. نعم، إذا كان أحدهما ـ على الأقلّ ـ تعبّديّاً لم يكن بينهما تعارض؛ إذ الفعل القربيّ مثلاً مع الترك ضدّان لهما ثالث، فيختلف حال العبد بعد الأمر عنه قبله؛ إذ يمكنه ترك كليهما واختيار الثالث، فالأمر يحرّكه نحو الجامع بينهما. هذا ما أفاده السيّد الاُستاذ في المقام(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: منع شمول أخبار (مَن بلغ) للرواية الدالّة على الاستحباب المعارضة



(1) راجع الدراسات، ج 3، ص 194 ـ 195.

429

بالرواية الدالّة على الكراهة حتّى بناءً على اختصاصها بروايات الاستحباب، فإنّ تلك الأخبار لا تشمل مثل هذه الرواية لا لمانع وهو التعارض حتّى يقال: إنّه على هذا المبنى لا يوجد تعارض في المقام، بل لعدم المقتضي للشمول في نفسه، والسرّ في ذلك أنّ المفروض في موضوع أخبار (مَن بلغ) ـ كما يدلّ عليه فاء التفريع ـ كون العمل متفرّعاً على داعي الثواب الموعود في تلك الرواية، فتختصّ أخبار (مَن بلغ) ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ بفرض معقوليّة تفرّع العمل على داعي الثواب في الرتبة السابقة على هذه الأخبار، وحيث إنّ الثواب إنّما يترتّب على العمل القربيّ، فلابدّ من فرض إمكان التقرّب بالعمل في المرتبة السابقة عليها والتقرّب إلى المولى بالفعل لا يعقل فيما لو كانت نسبة المولى إلى الفعل والترك على حدّ سواء، وحيث إنّه قد ورد الخبر على كلّ من استحباب الفعل والترك، ويحتمل الصدق في كلّ منهما، فنسبة المولى إليهما على حدّ سواء، فلا معنى للتقرّب إليه بالفعل(1).

 


(1) قد يقال: إنّ هذا الكلام ينافي فرض دلالة أخبار (مَن بلغ) على الاستحباب الذي هو مفروض السيّد الخوئيّ على ما تقدّم من اُستاذنا(رحمه الله) من أنّ أخبار (مَن بلغ) بعد تسليم دلالتها على الاستحباب تشمل من عمل بداعي التقرّب بهذا الأمر الجديد، ولا تختصّ بمن عمل بداعي الانقياد؛ إذ بناءً على هذا لا مبرّر لتخصيص مورد هذه الأخبار بفرض إمكانيّة الداعي القربيّ في الرتبة السابقة على أخبار (مَن بلغ).

وقد ورد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) جواب على ذلك، وهو أنّ أخبار (مَن بلغ) وإن كانت تشمل بالإطلاق فرض داعويّة نفس هذا الأمر الاستحبابيّ، ولكنّ ظهورها في تتميم محرّكيّة ما بلغ يوجب اختصاصها بفرض إمكان التحرّك ممّا بلغ في الرتبة السابقة على هذه الأخبار.

430

نعم، نستثني من ذلك فرض أقوائيّة أحد الجانبين من الآخر احتمالاً أو


أقول: إنّ فرض ظهور هذه الأخبار في تتميم محرّكيّة ما بلغ يناسب فرض دلالة هذه الأخبار على الحجّيّة أو الأمر الطريقيّ بالاحتياط، ولا يناسب فرض دلالتها على الاستحباب النفسيّ الذي مضى من اُستاذنا مبنيّاً عليه دعوى الإطلاق لمن عمل بداعي الأمر الجديد، فإنّ مفاد هذه الروايات لو كان استحباباً نفسيّاً موضوعه البلوغ فلا نكتة لاستظهار كونها بصدد تتميم محرّكيّة ما بلغ. نعم، لو فرض أنّ هذه الروايات جعلت الاستحباب النفسيّ لعنوان الاحتياط والانقياد، فهذا أيضاً يكون متمّماً لمحرّكيّة البلوغ، لكنّ هذا خلف فرض شمول إطلاق هذه الرواية لمن تحرّك بداعي الأمر الجديد فحسب ودون داعي الانقياد. والحقّ ما مضى من اختصاص أخبار (مَن بلغ) بناءً على إرادة الاستحباب بالحصّة الانقياديّة، وتلك لا تتصوّر لدى تعارض خبر الاستحباب بخبر الكراهة من دون ترجيح احتماليّ أو محتمليّ.

نعم، بناءً على كون مفاد أخبار (مَن بلغ) الحجّيّة لا يكون مفادها مختصّاً بالحصّة الانقياديّة، فتشمل الخبر الضعيف الدالّ على الاستحباب ولو كان معارضاً بخبر دالّ على الكراهة أو الحرمة، ولو كان المعارض صحيحاً سنداً فأخبار (مَن بلغ) تجعل الضعيف صحيحاً، ويقع طرفاً للمعارضة مع الخبر الصحيح.

أمّا لو كان مفادها حكماً طريقيّاً على مستوى الاحتياط، فلا تشمل الخبر الضعيف المعارض بخبر صحيح دالّ على الحرمة؛ إذ لا معنى للاحتياط في هذا الفرض، بل ولا تشمل المعارض بما دلّ على الكراهة، أو بخبر ضعيف دلّ على الحرمة ما لم يوجد ترجيح احتماليّ أو محتمليّ لطرف الاستحباب؛ لأنّ الحكم الطريقيّ باستحباب الاحتياط ينصرف إلى فرض إمكانيّة الاحتياط في الرتبة السابقة على ذلك، فكأنّ احتياطاً مفروغاً عن إمكانه حكم عليه بالاستحباب، في حين أنّه لا يمكن الاحتياط في المرتبة السابقة في المقام مع عدم مرجّح احتماليّ أو محتمليّ.

431

محتملاً. فيعقل التقرّب في ذلك الجانب. وأمّا بحسب ما هو طبع القضيّة والحالة الاعتياديّة في المقام فلا يعقل التقرّب، وعندئذ لا يعقل التفرّع على داعي الثواب، فيخرج ذلك عن موضوع هذه الأخبار.

وثانياً: أ نّا لو سلّمنا شمول الأخبار لرواية الاستحباب بقطع النظر عن ناحية التعارض فما ذكره من التفصيل بناءً على شمولها لرواية الكراهة ـ لو تمّ ـ فإنّما يجب أن يكون مركز هذا التفصيل الاستحباب المستفاد من أخبار (مَن بلغ)، لا الاستحباب المستفاد من تلك الرواية الضعيفة، فإنّ المفروض المختار له(1) أنّ أخبار (مَن بلغ) لم تجعل تلك الرواية حجّة حتّى يثبت الاستحباب المستفاد من تلك الرواية، وإنّما جعلت استحباباً نفسيّاً على عنوان البلوغ، فيجب أن يُرى أنّ هذا الاستحباب المستفاد من أخبار (مَن بلغ) هل هو تعبّديّ فلا يحصل التعارض أو التزاحم لوجود الضدّ الثالث، أو توصّليّ فيحصل التعارض أو التزاحم لعدمه، وحيث إنّ المستفاد من أخبار (مَن بلغ)، أو القدر المتيقّن منه هو التعبّديّة؛ إذ قد اُخذ في موضوعها فرض التفرّع على داعي الثواب الذي لا يكون إلاّ في فرض القربة(2)، فلابدّ أن يقول السيّد الاُستاذ ـ بحسب مذاقه ـ بالتزاحم في تمام الموارد لوجود الضدّ الثالث، لا بالتزاحم في بعض الموارد والتعارض في بعض آخر، وكأنّه غفل عن استفادة التعبّديّة، أو كونها قدراً متيقّناً من نفس أخبار (مَن بلغ)، وتخيّل أنّها تجعل متعلّق تلك الرواية الضعيفة مستحبّاً بعنوان البلوغ، ففصّل بين فرض كون مفاد تلك الرواية الاستحباب التعبّديّ، وفرض كون مفادها الاستحباب التوصّليّ.



(1) هذا هو مختار السيّد الخوئيّ(رحمه الله) بحسب ما ورد في الدراسات، ج 3، ص 189. ولكنّ مختاره في المصباح ـ ج 1، ص 319 ـ هو الإرشاد.

(2) بعد فرض كون الثواب استحقاقيّاً، وإلاّ لانسدّ باب استظهار الاستحباب.

432

وثالثاً: أنّ أصل التفصيل الذي ذكره في غير محلّه، فإنّه إذا فرض أحدهما تعبّديّاً والآخر توصّليّاً وقع أيضاً التعارض بينهما، لا أنّه يتحقّق مستحبّان متزاحمان من قبيل مزاحمة زيارة أحد الإمامين لزيارة الإمام الآخر مع استحباب كلّ من الزيارتين؛ وذلك لأنّه إمّا أن يفرض أنّ هذين المستحبّين المتزاحمين مستحبّان بنحو الترتّب، أو يفرض أنّهما مستحبّان بنحو الإطلاق، أو يفرض أنّهما فردان لمستحبّ واحد بأن يكون المستحبّ هو الجامع بينهما.

فإن فرض الترتّب، قلنا: إنّ هذا إنّما يعقل في سائر الموارد التي تكون كزيارة الإمامين، فيعقل استحباب زيارة كلّ من الإمامين في فرض عدم زيارة الآخر. أمّا فيما نحن فيه فلا يعقل أن يكون مثلاً الترك مستحبّاً والفعل مستحبّاً قربيّاً على نحو الترتّب، فإنّ معنى ذلك أنّ الفعل مستحبّ قربيّ في فرض عدم الترك، وفرض عدم الترك مساوق لفرض الفعل، في حين أنّه إذا فرض الفعل في المرتبة السابقة على الإتيان به قربيّاً استحال تعلّق داعي القربة به؛ إذ هو في هذا التقدير ضروريّ الوجود بالفرض. نعم، لو كان كلّ من الفعل والترك قربيّاً لم يأتِ هذا الإشكال؛ لأنّ فرض عدم الترك القربيّ ليس مساوقاً لفرض الفعل.

وإن فرض أنّ كلاًّ منهما مستحبّ حتّى على تقدير الآخر بأن يقال: إنّ الترتّب إنّما التزمنا به في الواجبات المتزاحمة دفعاً لمحذور التكليف بغير المقدور وإحراج المكلّف، وأمّا في المستحبّات المتزاحمة فلا إحراج في البين، لجواز الترك، فنلتزم بإطلاق استحبابها وثبوت استحباب كلّ منهما على تقدير الإتيان بالآخر، قلنا: إنّ الإطلاق في باب المستحبّات المتزاحمة غير معقول بلا فرق بين كونها توصّليّة أو تعبّديّة أو مختلفة، بل لابدّ من الترتّب، فإنّ إطلاق الأمر بشيء لفرض اشتغال المكلّف بضّد ذلك الشيء مساوق لتحريك المكلّف وصرفه عن ذاك الضدّ إلى هذا العمل المأمور به، فإذا فرض ذاك الضدّ أيضاً مأموراً به ومستحبّاً لا

433

يكون أضعف من المستحبّ الأوّل لم يعقل هذا الإطلاق في المستحبّ الأوّل؛ لأنّ صرف المكلّف عن ذاك الضدّ إلى هذا بلا موجب؛ لأنّ المفروض أنّه لا يقلّ عن هذا العمل من حيث المحبوبيّة، فلا يعقل انقداح الإرادة الإطلاقيّة في نفس المولى. هذا في مطلق المستحبّات المتزاحمة.

أضف إلى ما ذكرناه شيئاً في خصوص ما نحن فيه، وهو أنّ التحريك المولويّ مع فرض استحباب الفعل والترك غير معقول، سواء فرض كلاهما توصّليّين أو فرض أحدهما أو كلاهما قربيّاً، وسواء فرض استحبابهما بنحو الإطلاق أو بنحو الترتّب؛ وذلك لأنّه وإن كان بفرض القربيّة يتعقّل الضدّ الثالث، لكنّ الداعي القربيّ يحرّك نحو ذات الفعل أو الترك، وتحريكه نحو أحدهما بالخصوص فرع أن لا تكون نسبة المولى إليهما على حدّ سواء، والمفروض هنا أنّ نسبة المولى إليهما على حدّ سواء، وتحريكه نحو الجامع بينهما غير معقول؛ لضروريّة الجامع، وهذا بخلاف غير ما نحن فيه من سائر المستحبّات المتزاحمة، فإنّه هناك يعقل التحريك نحو الجامع؛ إذ من الممكن ترك الجامع.

وإن فرض أنّ المستحبّ هو الجامع فهذا أيضاً غير صحيح، فإنّه يرد عليه:

1 ـ إنّ مقتضى أخبار (مَن بلغ) ليس هو استحباب الجامع، بل استحباب الفرد بالخصوص، وهذا سنخ ما يقال في الواجبين المتزاحمين من أنّ إرجاعهما إلى الواجبين المشروطين يكون على القاعدة، لكنّ إرجاعهما إلى الواجب التخييريّ بأن يكون الواجب هو الجامع على خلاف القاعدة.

2 ـ إنّ استحباب الجامع في نفسه غير معقول، ولو فرضت القربيّة في أحد الجانبين أو كليهما فإنّ داعي القربة لا يمكنه التحريك نحوالجامع، لضروريّة الجامع بين الفعل والترك، ولا نحو الفرد بخصوصيّته الفرديّة، لخروج الخصوصيّة الفرديّة عن تحت الأمر بحسب الفرض.

434

ورابعاً: أنّه مع غضّ النظر عن كلّ ما مضى لا يتمّ كلامه فيما لو دلّ خبر على الاستحباب ودلّ الخبر الآخر على كراهة الفعل لا على استحباب الترك، وقلنا: إنّ أخبار (مَن بلغ) بشمولها لروايات الكراهة تثبت الكراهة لا مجرّد رجحان الترك؛ وذلك للزوم وحدة مركز الحبّ والكراهة، ولا تنثلم وحدة المركز بأخذ قصد القربة.

 

البلوغ المعلوم الكذب:

الأمر الثاني: ذكر السيّد الاُستاذ ـ كما لعلّه المشهور أيضاً ـ: أنّ أخبار (مَن بلغ) لا تشمل الخبر المعلوم الكذب، وذكر في وجه ذلك دعوى الانصراف، وذكر أيضاً: أنّه يخرج منها الخبر الضعيف المحتمل الصدق المبتلى بالمعارضة لخبر صحيح دالّ على عدم الاستحباب؛ لأنّ ذلك الخبر الصحيح يجعلنا عالمين تعبّداً بالكذب، فيخرج المورد عن تحت أخبار (مَن بلغ) بالحكومة؛ إذ المفروض أنّه اُخذ في موضوعها عدم العلم بالكذب، وذكر أيضاً: أنّ هذه الأخبار منصرفة عن مورد دلّ الخبر الصحيح فيه على الحرمة، ثمّ أرجع هذا الانصراف إلى الانصراف الأوّل ببيان أنّه لمّا كان هذا الخبر الصحيح الدالّ على الحرمة يدلّ بالملازمة على عدم الاستحباب وكذب الخبر الضعيف فقد أصبحنا عالمين تعبّداً بكذبه، فخرج المورد عن تحت أخبار (مَن بلغ) بالحكومة.

أقول: إنّ خروج الخبر المقطوع الكذب عن تحت أخبار (مَن بلغ) ممّا لا محيص عنه؛ وذلك لأنّه وإن كان دخوله فيها ممكناً ثبوتاً؛ إذ المفروض عند السيّد الاُستاذ أنّ هذه الأخبار تدلّ على الاستحباب النفسيّ لا على جعل الحجّيّة حتّى يقال: إنّه لا يعقل جعل الحجّيّة مع القطع بالكذب، ومن المعلوم معقوليّة جعل الاستحباب بعنوان البلوغ ولو كذباً، لكنّه ـ مع هذا ـ خارج عن مفاد تلك الأخبار

435

إثباتاً، وذلك بنكتة ما مضى من أنّ المستفاد عرفاً منها إمكان التفرّع على الثواب في المرتبة السابقة على تلك الأخبار، حيث اُخذ في موضوعها تفريع العمل على ذلك الثواب، ومن المعلوم أنّ هذا التفريع غير معقول مع القطع بالكذب.

ومنه يظهر أيضاً خروج المورد الذي دلّ فيه خبر صحيح على الحرمة؛ إذ عند ذلك يتنجّز الترك على العبد ويصبح بالفعل مستحقّاً للعقاب، فكيف يعقل تفريعه على الثواب؟

أمّا في مورد معارضة الخبر الضعيف لخبر صحيح دالّ على عدم الاستحباب فليس الخبر الضعيف خارجاً عن مدلول تلك الأخبار، لمعقوليّة التفرّع هناك مادام احتمال الصدق موجوداً تكويناً. ودعوى الحكومة لإفادة الخبر الصحيح العلم تعبّداً بعدم الاستحباب في غير محلّها حتّى بناءً على قيام الأمارة مقام العلم الموضوعيّ؛ وذلك لأنّه لم يؤخذ في موضوع تلك الأخبار عدم العلم بعنوانه، كما في (رفع ما لا يعلمون) و (كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) كي يلتزم بالحكومة من هذه الجهة مثلاً، وإنّما المأخوذ فيها إمكان تفرّع العمل على الثواب، وخروج مورد العلم بالكذب إنّما يكون لعدم إمكان التفرّع فيه، وفي مورد المعارضة للخبر الصحيح الدالّ على عدم الاستحباب يكون التفرّع ممكناً، وبكلمة اُخرى: أنّ إمكان التفرّع لازم تكوينيّ للشكّ التكوينيّ، والعلم التعبّديّ لا يرفع اللوازم التكوينيّة للشكّ.

 

هل يكفي البلوغ للفقيه؟

الأمر الثالث: إذا وصل الفقيه خبر ضعيف دالّ على الاستحباب فهل يجوز له الإفتاء بالاستحباب للعاميّ الذي لم يصله ذلك أو لا؟

436

ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1): أنّ ذلك متفرّع على ما هو المختار فيما هو مفاد هذه الأخبار، فإن كان المختار فيها جعل الحجّيّة جاز له ذلك؛ لأنّه وإن اختصّ البلوغ بهذا الشخص فصار حجّة لهذا الشخص، لكنّ مفاد ذلك الخبر البالغ الذي صار حجّة هو الاستحباب للكلّ، وإن كان المختار فيها جعل الاستحباب النفسيّ بعنوان البلوغ لم يجز له ذلك؛ لأنّ موضوع هذا الاستحباب هو البلوغ، وهذا الموضوع إنّما تحقّق بشأن هذا الشخص دون ذاك.

أقول: أمّا الشقّ الأوّل من كلامه وهو أنّه على تقدير الحجّيّة يجوز الإفتاء بالاستحباب للجميع، فيرد عليه: أنّه على تقدير اختصاص الحجّيّة بمن بلغه هذا الخبر ـ بحسب ما اعترف(رحمه الله) به ـ يكون جواز الإفتاء بالاستحباب للجميع مع عدم علمه وجداناً بالاستحباب للجميع مبنيّاً على القول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ، ونحن وإن كنّا نقول فيما يكون دليل حجّيّته سيرة العقلاء، أو مثل قوله: (يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني) بقيامه مقام القطع الموضوعيّ في خصوص حكم الإفتاء والإسناد إلى الشارع، لكن لا نقول بذلك فيما نحن فيه؛ إذ مجرّد دليل الحجّيّة لا يدلّ عندنا على القيام مقام العلم الموضوعيّ، وإنّما يجب أن يستفاد ذلك بمؤونة زائدة، كشمول السيرة لذلك، أو دلالة الأخذ على ذلك، وهذا منتف فيما نحن فيه.

وبعد تسليم قيام الأمارة بدليل حجّيّتها مقام القطع الموضوعيّ نقول: إنّه يمكن الإيراد عليه(قدس سره) بأنّه وإن كان مفاد الخبر البالغ هو الاستحباب للجميع، لكنّه بحسب مقام الثبوت كما يعقل جعل الحجّيّة لتمام مفاد هذا الخبر كذلك يعقل جعل



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 286، وهو صريح في خلاف ما نقله اُستاذنا(رحمه الله) هنا عنه.

437

الحجّيّة لقطعة من مفاده، وهي الاستحباب لهذا الشخص الذي بلغه هذا الخبر، وإذا كان كلا الأمرين معقولاً بحسب عالم الثبوت قلنا: إنّ المتيقّن بحسب عالم الإثبات هو الثاني؛ لأنّ الحجّيّة هنا إنّما استكشفناها بلسان الترغيب في العمل، والترغيب الموجود في هذه الأخبار ـ كما ترى ـ مختصّ بعمل من بلغه دون عمل الجميع.

لكنّ الإنصاف أنّه بعد تسليم أصل مبنى قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ يكون الصحيح ما ذكره(رحمه الله) من صحّة الإفتاء بالاستحباب للجميع؛ وذلك لأنّ المرتكز في نظر العقلاء في باب جعل الحجج هو فرض عدم التقطيع في المفاد بحسب الأفراد، وأدلّة جعل الحجج تنصرف ـ لا محالة ـ إلى ما يلائم المرتكزات العقلائيّة في باب الحجج، فتلغى عرفاً خصوصيّة هذا الفرد، ويصحّ بذلك الإفتاء بالاستحباب للجميع.

والتحقيق في المقام: منع اختصاص الحجّيّة المجعولة في هذه الأخبار بخصوص من بلغه الخبر الضعيف، بل تشمل حتّى من لم يبلغه، والسرّ في ذلك أنّ البلوغ في دليل الحجّيّة لم يؤخذ بحسب المتفاهم العرفيّ موضوعاً، وإنّما اُخذ طريقيّاً، فدليل حجّيّة الخبر البالغ يدلّ على حجّيّة أصل ذلك الخبر للجميع، وإنّما البلوغ المأخوذ في الكلام في الحقيقة بلوغ للحجّة.

وأمّا الشقّ الثاني من كلامه، فالإنصاف أنّه إشكال صحيح وارد على المشهور ـ على مانسب إليهم من استفادة الاستحباب النفسيّ من هذه الأخبار ـ حيث يفتون بالاستحباب مطلقاً بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

وإن كان دفع السيّد الاُستاذ ـ على ما أتذكّر(1) ـ هذا الإشكال بأنّ هذا الإفتاء



(1) لم أجد ذلك في الدراسات ولا في المصباح، ولعلّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) يذكر ذلك مباشرة عن اُستاذه.

438

لا بأس به؛ إذ إنّ أيّ شخص وصله هذا الإفتاء صار الإفتاء صدقاً بالنسبة له؛ لحصول البلوغ بنفس وصول هذا الإفتاء إليه، وأيّ شخص لم يصله هذا الإفتاء لا يهمّ أمر هذا الإفتاء بالنسبة لذاك الشخص.

أقول: يرد عليه:

أوّلاً: أنّه يتحقّق محذور الكذب بالنسبة لوصول هذا الإفتاء إلى بعض الأشخاص وإن كان الكذب بلحاظ أشخاص آخرين، فإنّ من وصله هذا الإفتاء قد اُخبِر بالاستحباب حتّى بالنسبة لمن لم يصله.

وثانياً: أنّه لو فرض أنّ المحذور ليس هو محذور الكذب، وينحصر المحذور في محذور الإغراء بالجهل، فأيضاً لا يصحّ هذا الكلام، وتوضيح ذلك: أنّ في المقام استحبابين: أحدهما استحباب ثابت، وهو الاستحباب الذي دلّت عليه أخبار (مَن بلغ)، والآخر استحباب محتمل، وهو الاستحباب الذي دلّ عليه ذاك الخبر الضعيف، وبلوغ هذا الاستحباب موضوع لذاك الاستحباب، ويستحيل أن يكون بلوغ استحباب موضوعاً لنفس ذاك الاستحباب على حدّ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم.

وعندئذ نقول: إنّ المفتي بالاستحباب إن فرض أنّه أفتى بالاستحباب تعليقاً وبنحو القضيّة الشرطيّة، أي: أنّه قال: (مَن بلغه استحباب هذا العمل صار هذا العمل مستحبّاً له) فهذه القضيّة الشرطيّة لا تُحقِّق شرطها إلاّ إذا فرض أنّه عُرِف من حال الفقيه أنّه يكون مبناه في التكلّم على هذا النحو ـ أي: أنّه يتكلّم بمثل هذه القضيّة الشرطيّة ويقصد بذلك الإخبار بموضوع الشرط ـ ولا كلام لنا بشأن هذا الشخص.

وإن فرض أنّه أفتى بالاستحباب الفعليّ قلنا: إنّ هذا الإفتاء إن كان إفتاءً بالاستحباب الذي دلّ عليه الخبر الضعيف، فالمفروض عدم دلالة أخبار (مَن بلغ) على حجّيّة ذلك الخبر الضعيف، فكيف يفتي بلا حجّة؟ وإن كان إفتاءً بالاستحباب

439

الذي جعل على موضوع البلوغ في أخبار (مَن بلغ)، قلنا: إنّه ما هو المقصود بقولكم: إنّ هذا الإفتاء يوجب بلوغ الاستحباب إلى العاميّ حتّى تترتّب على هذا البلوغ صحّة هذا الإفتاء ويتحقّق الاستحباب بشأنه؟ هل المقصود بذلك حصول بلوغ هذا الاستحباب، أو حصول بلوغ الاستحباب الذي دلّ عليه الخبر الضعيف؟ إن قصد الأوّل ورد عليه ما ذكرناه من أنّ بلوغ الاستحباب يستحيل أخذه في موضوع ذاك الاستحباب، وإن قصد الثاني ـ بدعوى أنّ هذا الإفتاء يدلّ بالالتزام على ورود خبر بالاستحباب؛ لأنّ العاميّ بحسن ظنّه بالفقيه يعرف أنّه لولا ورود خبر بالاستحباب لما أفتى بالاستحباب ـ ورد عليه: أنّ العوام كيف يعرفون أنّ مدرك هذا الإفتاء هو الخبر لا شيء آخر، كالشهرة الفتوائيّة، أو مطلق الظنّ مثلاً، فهل هم مطّلعون على مباني هذا الفقيه، ويرون أنّه لا يقول بحجّيّة الشهرة والظنّ مثلاً، أو يعلمون بعدم وجود الشهرة والظنّ في المقام مثلاً فينتقلون من ذلك إلى أنّ مدرك هذا الفقيه كان خبراً من الأخبار؟

هذا تمام الكلام في مبحث أخبار (مَن بلغ) وقد بقي بعض اُمور جزئيّة في هذا المبحث يظهر حالها بالتأمّل فيما ذكرناه.

 

440

 

البراءة في الشبهات الموضوعيّة

التنبيه الثالث: في البراءة في الشبهات الموضوعيّة.

إنّ جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة محلّ الوفاق تحقيقاً أو تقريباً بين القائلين بالبراءة في الشبهات الحكميّة والمنكرين لها، ولكنّ هنا بحثين:

أحدهما: أنّه هل يجري في مورد الشبهات الموضوعيّة تمام أقسام البراءة الجارية في الشبهات الحكميّة أو لا؟

والآخر: أنّه بعد الفراغ عن جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة لدى الشكّ في التكليف وعدمه لدى الشكّ في المكلّف به يتكلّم عن بعض الصغريات المشتبهة، وبيان الضابط في التمييز بين القسمين.

 

أقسام البراءة في الموضوعات

أمّا البحث الأوّل: فبالنسبة للبراءة الشرعيّة لا إشكال في شمول إطلاق بعض أدلّتها للشبهات الموضوعيّة كحديث الرفع، حيث عرفت فيما مضى أنّ المأخوذ فيه سنخ جامع ينطبق على كلّ شيء من الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، كقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ وإن كان بعض أدلّتها لا يشمل الشبهات الموضوعيّة كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً...﴾ على ما مرّ بيانه فيما سبق.

وممّا يدلّ على البراءة في الشبهات الموضوعيّة بالخصوص، أو بشمول إطلاقه لها حديث: (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال).

وهنا إشكال في الاستدلال بهذا الحديث على البراءة مبنيّ على دعوى اختصاص مفاده بموارد العلم الإجماليّ، بقرينة قوله: (فيه حلال وحرام) وقوله: (حتّى تعرف الحرام بعينه)، وذلك الإشكال هو: أنّه وإن كان عندئذ يدلّ بالأولويّة

441

على البراءة في مورد الشكّ البدويّ؛ إذ في مورد العلم الإجماليّ يوجد الشكّ بالإضافة إلى العلم، ولا نحتمل أنّ وجود العلم له دخل في تحقّق البراءة، فيدلّ الحديث بالأولويّة أو المساواة على البراءة في الشبهات البدويّة، إلاّ أنّه بناءً على المشهور من عدم معقوليّة جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ تسقط الدلالة المطابقيّة للحديث عن الحجّيّة، ولابدّ من توجيهها، وتسقط الدلالة الالتزاميّة أيضاً عن الحجّيّة بتبع الدلالة المطابقيّة.

ونحن لا نريد هنا التكلّم في أنّه هل يكون هذا الحديث وارداً في خصوص موارد العلم الإجماليّ أو لا؟ ولا في أنّه هل يعقل جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ أو لا؟ فإنّ هذين البحثين سنبحثهما ـ إن شاء الله تعالى ـ في مبحث العلم الإجماليّ، بل المقصود هنا بعد تسليم كون هذا الحديث وارداً في خصوص موارد العلم الإجماليّ، وأنّه لا يعقل جريان البراءة في أطراف العلم الإجماليّ هو توضيح أنّ هذا الإشكال في غير محلّه؛ وذلك لأنّه سوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ تنجيز العلم الإجماليّ مشروط بكون الشبهة محصورة وبغير ذلك من الشروط، فنقول: إن سلّم اختصاص هذا الحديث بموارد العلم الإجماليّ لا نسلّم اختصاصه بفرض كون الشبهة محصورة، وغير ذلك من الشروط، فيخرج من إطلاقه بحكم العقل فرض كون الشبهة محصورة مع اجتماع سائر شروط التنجيز ويبقى الباقي تحت الإطلاق، وتثبت بالملازمة البراءة في موارد الشبهات البدويّة.

وأمّا البراءة العقليّة فنحن قد أنكرناها من أساسها فلا تصل النوبة إلى البحث عن جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة وعدمه، إلاّ أنّ الذين ادّعوا حكم العقل بالبداهة بقبح العقاب بلا بيان اختلفوا في الشبهات الموضوعيّة، وكأنّ البداهة لم تكن في حدود هذا الحكم، فادّعى بعضهم عدم جريان هذه القاعدة في الشبهات الموضوعيّة لتماميّة البيان من قبل المولى؛ إذ المفروض من قبل المولى

442

إنّما هو بيان الكبرى، وأمّا بيان أنّ هذا خمر مثلاً أو خلّ، فليس من شأن المولى، وذهب الأكثر إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، ولهم في دفع كلام اُولئك الأوّلين مسلكان:

أحدهما: ما ذكره بعضهم من الكلام في معنى لفظ (البيان) من أنّ البيان معناه الإظهار، وظهور الشيء إنّما يكون بظهور كبراه وصغراه معاً، وفي الشبهات الموضوعيّة لم تظهر الصغرى وإن ظهرت الكبرى، فلم يتمّ بيان النتيجة، فكأنّ هؤلاء وقعوا تجاه نصّ في الكتاب أو السنة فأرادوا تفسيره.

وثانيهما: ما ذكره بعضهم من دعوى ثبوت ملاك البراءة في الشبهات الحكميّة في موارد الشبهات الموضوعيّة أيضاً. وتقريبه: أنّ ملاك قبح العقاب بلا بيان ليس هو تقصير المولى في مقام البيان حتّى يقال: إنّ في موارد الشبهات الموضوعيّة لا تقصير من جانب المولى، وإنّ بيان الموضوع ليس من شأن المولى، وإنّما ملاكه هو عدم المقتضي للتحريك الذي هو العلم، وهذا ثابت في الشبهات الموضوعيّة أيضاً، لعدم العلم، فيقبح العقاب لعدم المقتضي للتحريك.

أقول: إنّنا نستفيد من نفس اختلافهم في ذلك تأييد عدم بداهة هذه القاعدة، فإنّ المفروض عند القائلين بالبراءة العقليّة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معاً أنّ جريانها فيهما بملاك واحد، فلا يعترفون بالملاك الذي أدركه القائلون باختصاص البراءة بالشبهات الحكميّة، والقائلون بالاختصاص لا يعترفون بهذا الملاك العامّ، فهذا يؤيّد عدم بداهة شيء من الملاكين، وبالتالي يشهد لعدم بداهة قاعدة قبح العقاب بلا بيان. أمّا تعليقنا على نفس الكلامين:

فالكلام الأوّل ـ كما ترى وكما أشرنا إليه ـ: كأنّه افترض أنّنا تجاه نصّ شرعيّ اُخذ في موضوعه عدم البيان فأصبح بصدد تفسير كلمة (البيان)، في حين أنّنا تجاه حكم عقليّ نتكلّم في حدوده، ولا أثر لفهم المعنى اللغويّ لكلمة (البيان) في ذلك.

443

وأمّا الكلام الثاني ـ وهو ثبوت الملاك الذي هو عدم المقتضي في الشبهات الموضوعيّة ـ: فتحقيق الكلام في هذا المقام على الإجمال ـ وقد مرّ تفصيله فيما مضى ـ هو: أنّه ينبغي أن يكون المقصود بالمقتضي للتحريك هو المقتضي المولويّ، فمرجع القاعدة إلى قاعدة قبح العقاب بلا مقتض مولويّ للتحريك، ونحن نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا مقتض ونعترف ببداهتها، والمقتضي المولويّ للتحريك عبارة عن تنجّز التكليف بحكم العقل، فمرجع هذه الصيغة إلى صيغة اُخرى وهي قبح العقاب بلا تنجّز للتكليف، وكلّ هذه العبارات كقولنا: (قبح العقاب بلا مقتض)، (قبح العقاب بلا موجب)، (قبح العقاب بلا تنجيز) صحيحة، إلاّ أنّه يجب الالتفات إلى صغراها، وهي أنّه في فرض الشكّ هل يكون المقتضي للتحريك ثابتاً أو لا؟ وهذه الصغرى لاتنقّح بتلك الكبريات، وتنقيحها يكون بالالتفات إلى نقطة أغفلوها في المقام رأساً وهي ملاحظة دائرة المولويّة، وأنّها هل تشمل التكاليف المشكوكة أو لا؟

والمولويّات العرفيّة في المجتمعات البشريّة حيث إنّها مجعولة يجب أن يرجع في فهم سعتها وضيقها إلى جاعلها، وهي عادةً مختصّة بدائرة التكاليف المعلومة، ومن هنا نشأ توهّم قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقول مطلق، ومولويّة الخالق المنعم المتفضّل مولويّة حقيقيّة ذاتيّة يجب أن يرجع في فهم سعة دائرتها وضيقها إلى العقل العمليّ الذي هو الحاكم بأصل مولويّته، وليست سعتها وضيقها أمراً برهانيّاً، كما أنّ أصلها لم يكن برهانيّاً، بل كلّ ذلك يجب أن يدرك ببداهة العقل العمليّ، ونحن ندرك بعقلنا العمليّ وجوب الموافقة وحرمة المخالفة بمجرّد احتمال التكليف إذا احتمل أنّ التكليف على تقدير وجوده يكون مهمّاً بدرجة لا يرضى المولى بتفويته حتّى في ظرف الشكّ.

444

 

ضابط الشكّ في التكليف والمكلّف به

وأمّا البحث الثاني: وهو بيان الضابط في الشبهات الموضوعيّة لموارد الشكّ في التكليف، وموارد الشكّ في المكلّف به. فقد ذكر المحقّق النائينيّ(قدس سره) في رسالته في اللباس المشكوك كلاماً يكون مفاده بحسب الصياغة التي صاغها بها غامضاً، فنحن نصوغ جوهر كلامه في صياغة اُخرى توضيحاً لمقصوده(رحمه الله).

فجوهر ما أفاده في المقام هو: أنّ الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة هو أنّه إن كان الشكّ فيما يستتبع التكليف كان ذلك مجرىً للبراءة؛ إذ الشكّ في المستتبِع يوجب الشكّ في المستتبَع، فيتحقّق الشكّ في أصل التكليف، وإن لم يكن الشكّ فيما يستتبع التكليف بل كان تمام ما يستتبع التكليف معلوماً، كان ذلك مجرىً للاشتغال.

وتفصيل ذلك: أنّ التكليف له أطراف ثلاثة: أحدها المتعلّق كشرب الخمر في (لا تشرب الخمر)، والصلاة في (صلِّ)، وثانيها موضوع التكليف، ومرادنا من موضوع التكليف هنا هو متعلّق المتعلّق، أي: ذاك الشيء الخارجيّ الذي يكون المتعلّق مربوطاً به كالخمر في (لا تشرب الخمر)، والقبلة في (صلِّ إلى القبلة)، وثالثها القيود المأخوذة في نفس التكليف، وهي عبارة عن الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل ووجود المكلّف خارجاً، والشرائط الخاصّة كدخول الوقت مثلاً، وكالاستطاعة في الحجّ ونحو ذلك.

والشكّ تارةً يفرض وقوعه في أصل التكليف بقطع النظر عن الأطراف الثلاثة، وهذا خروج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الشبهة عندئذ لا يمكن أن تتصوّر بنحو الشبهة الموضوعيّة، واُخرى يفرض وقوعه في الأطراف، وعندئذ يعقل فرض الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة، وفي هذا الفرض نتكلّم في ضابط جريان البراءة والاشتغال، وهنا نبدأ من الطرف الثالث فنقول:

أمّا الطرف الثالث ـ وهو قيود التكليف وشرائطه العامّة أو الخاصّة ـ: فلا

445

إشكال في أنّه عند الشكّ فيه يرجع إلى البراءة؛ لأنّ الشكّ فيه يستوجب الشكّ فيأصل التكليف؛ إذ قيود التكليف تكون ممّا يستتبع التكليف، فالشكّ فيه داخل فيما مضى من الضابط.

وأمّا الطرف الثاني ـ وهو موضوع التكليف ـ: فتارةً يفرض الموضوع أمراً جزئيّاً فرغ عن وجوده كالقبلة في (الصلاة إلى القبلة)، واُخرى يفرض أمراً كلّيّاً:

فإن فرض الأوّل: فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ هو خلف فرض الفراغ عن وجوده.

وإن فرض الثاني: فتارةً يكون ذلك مأخوذاً بنحو صرف الوجود كما في (توضّأ بالماء)، واُخرى يكون مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كما في (أكرم العالم):

فإن كان مأخوذاً بنحو صرف الوجود: فتارةً يكون الشكّ في أصل وجود الموضوع ممّا يستتبع التكليف، والشكّ فيه شكّ في أصل التكليف، واُخرى يكون الشكّ في فرد آخر زائداً على الفرد المعلوم، كما لو وجد فرد من الماء وشكّ في فرديّة مائع آخر للماء، وعندئذ لا يكون الشكّ في التكليف؛ إذ التكليف مسلّم بوجود الفرد الأوّل، ولا يستوجب الفرد الثاني زيادةً في التكليف؛ إذ لا يجب الوضوء إلاّ بماء واحد بنحو صرف الوجود، وإنّما الشكّ في الفرد الثاني شكّ في توسعة دائرة الامتثال فتجري ـ لا محالة ـ أصالة الاشتغال دون البراءة.

وإن كان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود: فالشكّ في كلّ فرد يكون شكّاً في أصل التكليف؛ لأنّ الحكم ينحلّ إلى عدّة قضايا شرطيّة شرطها تحقّق الموضوع وجزاؤها الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة، فهناك أحكام عديدة كلّ واحد منها إنّما أصبح فعليّاً بتحقّق شرطه ـ أي: بوجود موضوعه ـ فكما أنّ فعليّته تتوقّف على وجود موضوعه، كذلك تنجّزه يتوقّف على العلم بوجود موضوعه، فإذا قال المولى مثلاً: (أكرم العالم) فشكّنا في عالميّة أيّ فرد من الأفراد شكّ في تحقّق تكليف مستقلّ

446

مرتبط بذاك الفرد، والمفروض أنّه ما لم يتحقّق ذاك الشرط لم يصبح التكليف فعليّاً، إذ فعليّته تتبع وجود الموضوع، فلا محالة يقع الشكّ في التكليف فتجري البراءة.

وأمّا الطرف الأوّل ـ وهو المتعلّق ـ: فتارةً يفرض لهذا المتعلّق متعلّق، أي: يفرض أنّ التكليف له موضوع كما في وجوب الوقوف بعرفة، أو حرمة الإفاضة عنها، واُخرى يفرض عدم الموضوع، وكون مصبّ الحكم هو ذات فعل الشخص من دون أن يتعلّق بشيء، كما في حرمة الغناء، وكما لو فرض وجوب ذات التكلّم من دون أن يتعلّق بشيء:

فإن فرض الثاني: فلا معنى للشكّ في المتعلّق؛ إذ هذا المتعلّق تارةً يفرض فعلاً اختياريّاً مباشريّاً للمكلّف، واُخرى يفرض مسبّباً توليديّاً له، فإن كان فعلاً اختياريّاً مباشريّاً له كما في وجوب التكلّم، فلا معنى للشكّ فيه؛ إذ الشخص لا يشكّ في فعله حين صدوره منه، ولا يعقل أن يشكّ في أنّه في هذا الآن هل هو يتكلّم، أو لا؟ نعم، يعقل الشكّ فيه بعد مضيّ زمان الفعل الذي هو مجرىً لمثل قاعدة الفراغ، لكنّه خارج عمّا نحن فيه، وإن كان مسبّباً توليديّاً كما في وجوب قتل الكافر مثلاً الذي يتولّد عن ضربه بالرصاص مثلاً، فالشكّ فيه لا يكون إلاّ من باب الشكّ في المحصّل وهو خارج عمّا نحن فيه، ومن الواضح جدّاً كونه مورداً للاشتغال دون البراءة.

وإن فرض الأوّل: فعندئذ يعقل ثبوت الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى موضوعه(1)، وذلك كما إذا شكّ في الوقوف بعرفات من ناحية الشكّ في دخول



(1) قد يقال: إنّ هذه الصياغة من التقسيم ليست الصياغة المثلى، فإنّ الشكّ في المتعلّق بلحاظ نسبته إلى الموضوع مع قسم مضى وهو الشكّ في الموضوع بمعنىمتعلّق

المتعلّق دائماً متلازمان ومتصادقان على مورد واحد، فالأولى في مقام البيان هو صياغة التقسيم بالشكل الوارد في اللباس المشكوك للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) وهي ما يلي: أنّ متعلّق التكليف إمّا أن يكون فعلاً اختياريّاً غير متعلّق بموضوع خارج الاختيار، أو يكون متعلّقاً به، فالأوّل لا يتصوّر الشكّ فيه من غير مثل جهة النسيان بعد الفراغ إلاّ في المسبّب التوليديّ الذي هو مورد للاشتغال، والثاني إمّا أن يفترض فيه أنّ متعلّق المتعلّق جزئيّ خارجيّ كالقبلة وعرفة والمشعر، أو يفترض كلّيّاً، فإن فرض جزئيّاً فهذا القسم يزداد على القسم الأوّل في أنّه يتصوّر الشكّ فيه من ناحية نسبة الفعل إلى متعلّق المتعلّق، فقد يدور الأمر بين متباينين كما في الصلاة إلى جهتين لدى شكّنا في جهة القبلة، وهنا يجري الاشتغال، وقد يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر، ومثاله ما إذا تردّد الموقف في المشعر أو عرفات بين الأقلّ والأكثر من جهة الشبهة الخارجيّة، وهنا فصّل(رحمه الله) بين الشبهة الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف، والتحريميّة كما في حرمة الإفاضة. وإن فرض كلّيّاً فهنا فصّل(رحمه الله)بين صرف الوجود ومطلق الوجود، فقال في صرف الوجود بأنّ الشكّ في الفرد الزائد لا يؤدّي إلى الشكّ في التكليف، بل يكون من الشكّ في الامتثال. وأمّا الشكّ في أصل وجود صرف الوجود فيعود إلى الشكّ في القدرة، يلحقه حكم تلك المسألة، وقال في مطلق الوجود بالانحلال وجريان البراءة لدى الشكّ. راجع رسالة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك، ص 252 ـ 258.

وأمّا كون الضابط في جريان البراءة أو الاشتغال في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع التكليف وعدمه، فلم أره في الرسالة.

447

هذه النقطة من الأرض في عرفات بنحو الشبهة الموضوعيّة، كأن يكون منشأ الشكّ هو ظلمة الهواء مثلاً، ولا يكون الشكّ من باب الشكّ في سعة دائرة عرفات وضيقها أساساً بنحو الشبهة الحكميّة كي يكون خروجاً عمّا نحن فيه، وعندئذ

448

يكون الصحيح في جريان البراءة وعدمه التفصيل بين الشبهات الوجوبيّة كما في وجوب الوقوف بعرفات، والشبهات التحريميّة كما في حرمة الإفاضة من عرفات، ففي الاُولى تجري أصالة الاشتغال، وفي الثانية تجري أصالة البراءة.

والسرّ في ذلك أنّ في باب الأوامر تكون مطابقة الفعل لذلك العنوان الذي تعلّق به الأمر داخلة تحت دائرة الطلب، فيطلب المولى كون الوقوف وقوفاً بعرفات، فالشكّ في تحقّق المطابقة شكّ في تحقّق الامتثال، وهذا بخلاف باب النواهي، فإنّ مطابقة الفعل للعنوان المنهيّ عنه ليست داخلة تحت دائرة الطلب، فإنّ المولى لا يطلب منّا المطابقة للعنوان المنهي عنه، وإنّما المولى ينهى عن الفعل بشرط مطابقته لذلك العنوان، فينهى عن الشرب مثلاً على تقدير كونه شرباً للخمر، فالمطابقة في باب النواهي تكون قيداً للتكليف وشرطاً له، فالشكّ فيها شكّ في قيود التكليف الذي مضى أنّه مجرىً للبراءة. هذا كلّه بيان لمقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المقام.

أقول: أمّا ما ذكره من عنوان الضابط في المقام من أنّ الشكّ إن كان فيما يستتبع التكليف كان مجرىً للبراءة، وإلاّ كان مجرىً للاشتغال، فهو من دون تأويل غير صحيح، والصحيح هو ضابط آخر يقتنص ممّا سنذكره ـ إن شاء الله ـ في التفصيلات.

وأمّا ما ذكره من التفصيلات فتحقيق الكلام فيها أن يقال:

إنّ ما ذكره في المتعلّق في فرض عدم وجود موضوع للحكم من أنّه لا يتصوّر الشكّ فيه، يرد عليه: أنّه من الممكن أن يفرض هذا المتعلّق محدّداً بحدود دقيقة بحيث يحصل الشكّ من نفس الفاعل في حال الفعل في ذلك، كما لو حرم على المكلّف ترسيم دائرتين متساويتين، فشكّ المكلّف في حين عمله في أنّه هل هذا ترسيم لدائرتين متساويتين، أو تختلف إحداهما عن الاُخرى ولو بقليل؟ فهذا

449

شكّ يتصوّر في المقام يجب التكلّم في أنّه هل هو مجرىً للبراءة، أو لا؟ ويظهر الحال فيه من حيث جريان البراءة وعدمه من بحثنا في جريان البراءة وعدمه في متعلّق الحكم الذي له موضوع والذي اعترف المحقّق النائينيّ فيه بتصوير الشكّ.

وأمّا ما ذكره في المتعلّق في فرض وجود موضوع للحكم من أنّه إذا كانت الشبهة وجوبيّة لم تجرِ البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان المأمور به داخل تحت دائرة الطلب، وإذا كانت تحريميّة جرت البراءة؛ لأنّ مطابقة الفعل لعنوان الحرام لم تجعل تحت دائرة الطلب، بل جعلت قيداً للحكم، فيرد عليه: أنّ مطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم التي هي مفاد (كان) الناقصة تارةً تلحظ بلحاظ ما بعد الوجود، واُخرى تلاحظ بلحاظ ما قبل الوجود. فإن لوحظت بلحاظ ما بعد الوجود فهي كما تكون أمراً داخلاً تحت الطلب في باب الأوامر ـ بمعنى أنّ الطلب يجرّ العبد نحو الامتثال وإيجاد الفعل بنحو مفاد (كان) التامّة، ويساوق ذلك مفاد (كان) الناقصة، فإنّ كون الفعل صلاةً مثلاً بنحو (كان) الناقصة حصيلة لوجود الصلاة بنحو مفاد (كان) التامّة، فكان تحصيل هذا الذي هو مفاد (كان) الناقصة مطلوباً بمطلوبيّة تحصيل مفاد (كان) التامّة ـ كذلك تكون أمراً داخلاً تحت النهي في باب النواهي، حيث إنّ النهي عن الغناء مثلاً بمفاد (كان) التامّة نهي عن إيجاد الغناء، ويكون وجوده مساوقاً لكون الفعل غناءً، أي: أنّ مفاد (كان) الناقصة هنا أيضاً حصيلة مفاد (كان) التامّة المنهيّ عنه.

وإن لوحظت بلحاظ ما قبل الوجود، أو قل: لوحظ مفاد (كان) الناقصة باعتبار ماهيّة الفعل بقطع النظر عن وجودها، فكما أنّه في باب النواهي يكون النهي متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، كذلك في باب الأوامر يكون الأمر متعلّقاً بالفعل بقيد كونه معنوناً بذاك العنوان، وليس ذلك داخلاً تحت الحكم، فمطابقة الفعل للعنوان المتعلّق به الحكم تكون باعتبار داخلة

450

تحت الحكم في كلّ من بابي الأوامر والنواهي، وباعتبار آخر قيداً للحكم في كلا البابين، فلا وجه للتفصيل بينهما من هذه الناحية.

والتحقيق في المقام: أنّ العبرة في جريان البراءة وعدمه سواء كان الشكّ من ناحية المتعلّق ـ كما هو المفروض فعلاً ـ أو من ناحية الموضوع، أو من ناحية القيود إنّما هي بكون الحكم بنحو البدليّة أو الشموليّة، فإن كان بنحو الشموليّة وحصل الشكّ كان المرجع البراءة، وإن كان بنحو البدليّة وحصل الشك، كان المرجع الاشتغال بلا فرق في ذلك بين باب الأوامر وباب النواهي، وبلا فرق بين فرض ذلك الحكم الشموليّ انحلاليّاً أو حكماً واحداً.

والسرّ في ذلك أنّ الحكم إذا كان بنحو البدليّة فالشكّ ليس في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها حتّى تجري البراءة ويكون المرجع هو الاشتغال. وأمّا إذا كان شموليّاً فالشكّ يقع في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة الشرعيّة، وكذا العقليّة بناءً على الإيمان بها بلا فرق بين فرض الحكم انحلاليّاً فيكون الشكّ في تكليف آخر غير التكليف المعلوم، وفرضه غير انحلاليّ، فإنّه عندئذ وإن لم يكن الشكّ شكّاً في التكليف إلاّ أنّه شكٌّ في سعة دائرة التحريك المولويّ وضيقها، فتجري البراءة.

ومن هنا ظهر ما في الضابط الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في المقام من أنّه إذا كان الحكم واحداً كان المرجع الاشتغال، وإن كان متعدّداً كان المرجع البراءة، فإنّه إن قصد بالوحدة والتعدّد ما ذكرناه من البدليّة والشموليّة ورد عليه: أنّ الشموليّة لا تستلزم التعدّد؛ إذ قد يكون الحكم بنحو المجموعيّة لا الانحلال فلا يكون الحكم متعدّداً. وإن قصد بالتعدّد ما يضادّ المجموعيّة(1) ورد عليه ما عرفت



(1) كلامه(رحمه الله) في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة صريح في هذا المعنى، راجع الكفاية، ج 2، ص 200 بحسب طبعة المشكينيّ.