459

مرطوباً فينجّس ـ وذلك لأجل أنّ الارتكاز يقتضي أنّ الانفعال يكون بتأثّر الملاقي بالملاقى لا العكس ـ فمن الواضح أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ إذ لا تثبت به رطوبة الملاقى النجس.

وإن قلنا: إنّه تكفي في نجاسة الملاقي نجاسة الملاقى ورطوبة الملاقي فعندئذ نرجع إلى نظير ما مضى، بأن نقول: هل الموضوع هو رطوبة الشيء في نفسه، أو رطوبته بما هو ملاق للنجس؟ فعلى الأوّل يجري الاستصحاب، وعلى الثاني لا يجري.

ومنها: ما إذا افترضنا أنّ الشيء كان رطباً ولم ندرِ أنّه جفّ أو لا، ثمّ تنجّس بنجاسة مرطوبه، وعلمنا أنّ تلك الرطوبة الثانية التي اكتسبها من النجس زالت، ولم نعلم أنّ الرطوبة الاُولى التي كانت قبل النجاسة زالت أو لا، وذلك كما لو كانت الرطوبة الثانية سنخ رطوبة تكون أسرع في التحوّل إلى البخار من الرطوبة الاُولى، فعندئذ نقول: إنّ استصحاب الرطوبة الاُولى لا يثبت رطوبة هذا الشيء بما هو نجس.

وأمّا الجهة الثانية، فقد عرفت أنّهم ذكروا أنّ استصحاب النجاسة يجري سواء قلنا أنّ الميزان في انفعال الملاقي هو رطوبة النجس، أو سرايتها ؛ لأنّ الرطوبة أو السراية ثابتة بالوجدان، والنجاسة تثبت بالاستصحاب.

وهنا ـ أيضاً ـ يأتي التفصيل المتقدّم، فيتمّ هذا الكلام بناءً على ماهو الحقّ من أنّ أحد جزئي الموضوع هو رطوبة ذات الملاقى أو سرايتها. وأمّا بناءً على أنّه هو رطوبة النجس بما هو نجس، أو سرايتها، فهذا الاستصحاب لا يثبت ذلك.

ثم إنّ هذا البحث كلّه كان فيمالو افترضنا أنّ النجس غير بدن الحيوان.

وأمّا إذا كان النجس هو بدن الحيوان فزوال الرطوبة عنه يساوق زوال النجاسة عنه لو قلنا: إنّ بدن الحيوان ينجس، فهنا نحتاج إلى استيناف بحث جديد في أنّه لو شككنا في زوال الرطوبة عن بدنه ولاقى بدنه شيئاً رطباً أو ساور المائع الذي ينجس على تقدير وجود تلك النجاسة، فهل يحكم بنجاسة ذلك الشيء، أو ذلك المائع، أو لا؟

ذُكِرَ في المقام: أنّ هذا يبتني على البحث في أنّ بدن الحيوان هل ينجس بملاقاة النجاسة ثم يطهر بالجفاف، أو لا ينجس أصلاً، فعلى الثاني لا يجري استصحاب النجاسة؛ لأنّ المفروض عدم نجاسة بدنه، ولا استصحاب الرطوبة وبقاء عين النجس ؛ لأنّه لا تثبت بذلك ملاقاة ذلك الشيءأو المائع للنجس. وعلى الأوّل يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان، وتثبت بذلك نجاسة الملاقي.

أقول: إنّ عدم جريان الاستصحاب بناءً على المبنى الثاني واضح. وأمّا على المبنى الأوّل

460

فتنقيح الكلام فيه هو:أنّ هناك نكتة فقهية يجب أن تلحظ، وهناك نكتة أصولية يجب أن تلحظ أيضاً:

أمّا النكتة الفقهية فهي أنّ بدن الحيوان بناءً على تنجّسه بملاقاة النجاسة لا نقبل منجّسيته، لأنّ الدليل على منجّسيّة المتنجّس الأوّل هو أخبار غسل الأواني والفراش ونحو ذلك، وهي لا تشمل ما يكون من قبيل بدن الحيوان الذي لا يحتاج إلى الغسل حتماً؛ إذ المفروض أنّه يطهر بمجرّد زوال النجاسة أو جفافها، ومنجّسية المتنجس الذي يحتاج إلى الغسل لا تلازم منجّسية متنجس تكون نجاسته أخفّ من ذلك، فهي ليست إلاّ نجاسة تبعيّة لعين النجس، وتزول بزوالها، والعرف بما هو عرف يحتمل الفرق بينهما في التنجيس، فلا يمكن التعدّي بالارتكاز العرفي.

وأمّا النكتة الاُصولية فهي مبتنية على مقدّمة، وهي دعوى أنّ ملاقاة النجاسة إنّماتكون موضوعاً للحكم بنجاسة الملاقي إذا كانت ملاقاة اُولى. وأمّا الملاقاة الثانيةوالثالثة و... فليست موضوعاً للنجاسة، وعندئذ نقول: إنّ هذا المائع لم يتنجّس بملاقاة بدن الحيوان حتماً؛ لأنّه: إمّا أنّ بدن الحيوان طاهر ـ كما إذافرض زوال عين النجاسة ـ أو أنّه قد لاقى هذا المائع (قبل ملاقاته لبدن الحيوان) عين النجاسة الثابتة على بدن الحيوان. إذن فلا يجري استصحاب نجاسة بدن الحيوان للقطع بعدم تنجس المائع ببدن الحيوان، كما لا يجري استصحاب بقاء الدم أو أيّ نجاسة اُخرى على بدن الحيوان لعدم ثبوت ملاقاة المائع لتلك النجاسة بذلك(1).

وقد نُقِلَ: أنّ السيّد الاُستاذ ذكر في بحثه في هذه الدورة الأخيرة التي هو مشغول بها فعلاً(2) هذه النكتة الاُصولية وأجاب عنها بأنّه ليس المقصود إثبات نشوء نجاسة الملاقي من بدن الحيوان، وإنّما المقصود إثبات نجاسة الملاقي، فإن كان المقصود إثبات نشوئها من بدن الحيوان صحّ أن يقال: إنّ هذا مقطوع العدم، فكيف يثبت تعبّداً. وأمّا أصل نجاسة الملاقي فليست مقطوعة العدم، فيمكن إثباتهاتعبداً.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّه لو كان المقصود إثبات نجاسة الملاقي بأصل حكمي


(1) وهذا الإشكال يأتي ـ ايضا ـ في غير الحيوان إذا كان المستصحب هو رطوبة الملاقى، فيقال: إنّ الجسم الملاقى لم ينجّس الملاقي يقيناً ؛ إمّا لجفافه، أو لكون الملاقاة معه بعد الملاقاة مع الرطوبة، واستصحاب الرطوبة لا يثبت الملاقاة مع الرطوبة إلاّ بالملازمة العقلية. إذن لا تثبت نجاسة الملاقي بملاقاة الجسم، ولا بملاقاة الرطوبة.

(2) بتاريخ 1389 هجرية.

461

صحّ أن يقال: إنّ هذه النجاسة غير مقطوعة العدم، فلا بأس بإثباتها تعبّداً، لكن المفروض هو إثباتهابأصل موضوعي، ومعنى ذلك أن نثبت فرداً من أفراد موضوع نجاسة هذا الملاقي، وهذا ما لايمكننا إثباته ؛ لأنّ موضوع نجاسة الملاقي له فردان: أحدهما ملاقاة الدم الموجود على بدن الحيوان مثلاً،وهذا لايثبت إلاّ بالأصل المثبت. والثاني ملاقاة بدن الحيوان في حالة كونه نجساً، وهذا الموضوع في الحقيقة مركّب من ثلاثة أجزاء: ملاقاته لبدن الحيوان، ونجاسة بدن الحيوان، وعدم ملاقاته مسبقاً بنجاسة اُخرى. وليكن كل واحد من هذه الأجزاء ثابتاً: إمّا بالوجدان، وإمّا بالأصل، لكنّنانعلم وجداناً أنّ مجموع هذه الأجزاء الذي هو فرد من أفراد موضوع النجاسة غير ثابت ؛ وذلك لعلمنا الإجمالي إمّا بطهارة بدن الحيوان، أو بأنّه قد حصلت ملاقاة لعين النجاسة قبل ملاقاة بدن الحيوان.

وكان الأولى به ـ دامت بركاته ـ أن يناقش هذه النكتة الاُصولية بوجهين آخرين:

الأوّل: أنّ عين النجس الموجودة على بدن الحيوان إذا كان لهانُتوءٌ وحجم بارز كان لهذه النكتة الاُصولية مجال. وأمّا إذاكانت رطوبة لا حجم لها عرفاً بحيث تكون الملاقاة لعين النجس ولبدن الحيوان في وقت واحد بحسب النظر العرفي وإن فرض الترتّب بينهما بالدقة الفلسفية، فلا مجال لتلك النكتة الاُصولية، فإنّ بدن الحيوان يكون عندئذ منجِّساً في عرض منجسية عين النجس.

الثاني: أنّ عدم كون الملاقاة المسبوقة بملاقاة نجاسة اُخرى موضوعاً للحكم بالنجاسة إنّما هو على أساس اللغوية العرفية، من باب أنّه لا يجب التطهير إلاّ مرّة واحدة، ولا يتعدّد بتعدّد الملاقاة، ولولاها لتمسّكنا بإطلاق دليل (إنّ ملاقاة النجاسة تنجّس) لو وجد نصّ من هذا القبيل، وعندما تترتّب ثمرة عملية ترتفع اللغوية، ولذانقول بأنّ ما لاقى الدم إذا لاقى بعد ذلك البول تنجس مرّة ثانية ؛ لأنّه يترتّب على ذلك أثر عملي، وهو لزوم التعدّد في الغَسل.

وفي ما نحن فيه تترتّب ثمرة على النجاسة بلحاظ بدن الحيوان، وهي أنّ النجاسة بلحاظ ملاقاة الدم لاتصل ولا تتنجّز، لكن النجاسة بلحاظ بدن الحيوان تقبل الوصول والتنجّز.

فإن قلت: إنّ اللغوية في المقام عرفية، واللغوية العرفيّة إنّما ترتفع بتصوير ثمرة عرفية دون ثمرة اُصولية من هذا القبيل:

قلنا: إن بُني على أنّ مثل هذه الثمرة لا ترفع اللغوية كان معنى ذلك عدم الالتزام بشمول إطلاق دليل منجسية الملاقاة لبدن الحيوان رأساً، أي: عدم التسليم بأنّ بدن الحيوان ينجس؛ إذ ليس لنجاسة بدن الحيوان التي ترتفع بزوال عين النجس ثمرة إلاّ ما يكون من

462

هذا القبيل(1)، ففرض البناء على تنجّس بدن الحيوان مساوق لقبول ثمرة من هذا القبيل، وإلاّ رجعنا إلى المنبى الآخر، وهو عدم نجاسة بدن الحيوان(2).

 

أقسام اُخرى للاستصحاب المثبت

الأمر الثالث: إنّنا حتّى الآن كنّا نتكلّم في الاستصحاب المثبت، بمعنى إثبات اللازم الذي يكون مصبّ الملازمة فيه نفس المستصحب، فإنّ مصبّ الملازمة تارةً يفرض هو المستصحب، واُخرى يفرض هو الحكم الاستصحابي، وثالثة يفرض هو حجيّة الاستصحاب. فنحن حتى الآن كنّا نتكلّم في القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة، فإنّ الاستصحاب في هذا القسم هو المسمى بالاستصحاب المثبت.

وأمّا القسم الثاني، فلا إشكال في ثبوت اللازم فيه بالاستصحاب ؛ إذ هو في الحقيقة من


(1) قد تفترض ثمرة عملية من غير هذا القبيل لتنجّس بدن الحيوان، بأن يقال: لو لاقى بدن الحيوان دماً رطباً، ثمّ جفّ الدم على بدنه، ثمّ ذبح الحيوان، ثمّ اُزيل الدم بالحكّ، فبناءً على تنجّس بدن الحيوان بملاقاة النجس الرطب يكون الجلد نجساً ؛ لأنّ بدن الحيوان لاقى دماً رطباً فتنجس ثمّ لم يطهر إلى أن ذبح ؛ لأنّ المفروض عدم زوال عين النجاسة عن بدنه، والآن خرج عن كونه حيواناً، فلا يطهر بمجرد إزالة العين بالحكّ. وبناءً على عدم تنجّس بدن الحيوان يكون الجلد طاهراً ؛ لأنّه حينما لاقى الدم الرطب كان حيواناً لايتنجّس، وبعد أن خرج عن كونه حيواناً لم يكن ملاقياً إلاّ للدم الجافّ، والجافّ لا ينجّس، وقد أزلناه بالحكّ حسب الفرض، وكذلك الحال قبل الحكّ، فلو صلّى في هذا الجلد مع ذاك الدم الجافّ وكان أكثر من الدرهم، وقلنا: إنّ حمل النجس لا يبطل الصلاة، ولكن لبس المتنجّس يبطل الصلاة، فبناءً على تنجّس بدن الحيوان تبطل صلاته، وبناءً على عدم تنجّسه تصحّ صلاته.

نعم، لو قلنا: إنّ بدن الحيوان على تقدير تنجّسه يطهر بالجفاف بلا حاجة إلى إزالة العين بمثل الحكّ بطلت هذه الثمرة.

(2) قد يقال: إنّ عدم الإيمان بمنجّسية الملاقاة الثانية فيما إذا لم تكن نجاسة الملاقى الثاني أشدّ من نجاسة الملاقى الأوّل ليس لأجل لزوم اللغوية فحسب، بل حتّى لو آمنّا بأنّ عدم وجود ثمرة عملية لا يضرّ بالإيمان بالنجاسة، قلنا: إنّ دليل منجّسية الملاقاة ينصرف إلى كون الملاقاة منجّسة بالشكل المألوف في منجّسيّة الملاقاة في النجاسات العرفية التي ليست اعتبارية بحتاً، بل لهاواقعية خارجية، ومن المعلوم أنّ الملاقاة الثانية في النجاسات العرفية فيما إذالم تستلزم أشدّية النجاسة لا تكون منجّسة لا للغوية، إذ ليس الكلام فيها في الجعل والاعتبار، بل لعدم معنىً لاكتساب قذارة جديدة بتكرّر الملاقاة من دون فرض الاشتداد.

وعلى أية حال، فلو لم نتصوّر ثمرة اُخرى لتنجّس بدن الحيوان فهذا الكلام ـ أيضاً ـ يؤدّي بنا إلى عدم الإيمان بتنجّس بدن الحيوان بناءً على أنّ التنجّس أمر اعتباري شرعي ؛ وذلك لأنّ هذا الكلام ينتهي إلى إنكار الثمرة، فيصبح الحكم بتنجّس بدن الحيوان لغواً.

463

لوازم مفاد الأمارة، وهي الدليل الدالّ على حجيّة الاستصحاب، وليس من لوازم مفاد الأصل، أي: المستصحب. وهذا واضح.

ولكن يقع الكلام في تشخيص مصاديق هذا الشيء فنقول: إنّ ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي تارةً يكون لازماً له على كلّ المباني في تشخيص حقيقة هذا الجعل من كونه جعل الحكم المماثل، او جعل الطريقية، أو غير ذلك. واُخرى يكون لازماً له على بعض المباني.

أمّا الأوّل، وهو ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي على كلّ المباني، فهو تارةً يكون من باب قيام دليل تصديقي على الملازمة بين التعبد الاستصحابي وهذا اللازم. واُخرى يكون من باب الملازمة التصوّرية بينهما الموجبة لظهور دليل الاستصحاب في ثبوتهما معاً.

وتوضيح الثاني هو: أنّه قد يقال: إنّ التعبّد بالاُبوّة والتعبّد بالبنوّة بينهما ملازمة تصورية، أي: إنّ تصوّر أحدهما يستلزم تصور الآخر، فالدليل الدالّ على التعبّد بأحدهماوهو الاُبوّة مثلاً ـ لو فرض إمكان الشكّ في بقائهاـ آلة لا يجاد تصوّرين طوليين وبحكم استتباع الدلالة التصورية للكلام للدلالة التصديقية يثبت لدليل الاستصحاب ظهور تصديقي في كلا الأمرين، ولعلّ هذا هو مراد من استثنى من عدم حجيّة الاستصحاب المثبت المتضايفين.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هذا القسم من اللوازم لا يثبت، وذلك لأنّه لو كان دليل الاستصحاب على التعبّد بالاُبوّة بالخصوص صحّ هذا التقريب، لكن دليل الاستصحاب لم يدلّ على التعبد بهذا العنوان الخاصّ، وإنّمادلّ على التعبد بعنوان عامّ، وهو عنوان ماتيقّن به في السابق، وهو بهذا العنوان ليست له دلالة تصوّرية على التعبّد بالبنوّة حتى تتحوّل إلى دلالة تصديقية.

إذن، فينحصر الأمر في أن يفرض دليل تصديقي يدلّ على الملازمة بين التعبّد الاستصحابي وحكم آخر واقعي أو ظاهري، سواء كان دليلاً شرعياً، أو دليلاً عقلياً، أو ارتكازاً عقلائياً بحيث يفرض أنّ العرف لا يتصوّر أنّ مولىً عاقلاً يحكم بالاستصحاب هنا، ولا يحكم بالحكم الاخر، فينعقد لدليل الاستصحاب ظهور في ذلك الحكم الآخر.

ومثال الملازمة بالدليل التصديقي هو استصحاب نجاسة الماء المتنجّس المتممّ كراً بماء طاهر، واستصحاب طهارة ذلك الماء الطاهر ـ إذا عجزنا عن التمسك بالأدلّة الاجتهادية ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ـ فالاستصحابان هنا يتعارضان، ولا يمكن الالتزام

464

بنجاسة ما كان نجساًوطهارة ما كان طاهراً ؛ وذلك: إمّا لقيام الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يتبعّض حكمه، سواء كان واقعياً أو ظاهرياً، فهو دليل شرعي على الملازمة بين النجاسة المستصحبة ونجاسة الباقي ظاهراً، وكذلك بين الطهارة المستصحبة وطهارة الباقي ظاهراً، وإمّا لعدم مساعدة الارتكاز العقلائي على التفكيك في حكم أجزاء الماء الواحد، سواء كان حكماً واقعياً أو ظاهرياً، فالقطرة الواحدة في نظر العرف لا تتحمّل حكمين مختلفين من حيث الطهارة والنجاسة.

ويمكن أن يمثّل للمقام بمثال آخر، وهو استصحاب الجعل الكلّي، وإثبات فعليّة المجعول بناءً على تصوّرات المحقّق النائيني (رحمه الله) من التفكيك بين الجعل والمجعول. وتوضيح ذلك: أنّنا لو استصحبنا بنحو كلّي نجاسة الماء المتغيّر بعد فرض زوال تغيّره، ثمّ وجد خارجاً ماء متغيّر زال تغيّره، فذلك الاستصحاب كاف في ثبوت فعليّة النجاسة ظاهراً ؛ وذلك لأنّه كما أنّ الجعل الواقعي حينما يوجد موضوعه خارجاً يصبح فعلياً بحكم العقل بالملازمة بين الجعل وفعلية المجعول عند تحقّق الموضوع خارجاً، كذلك الجعل الظاهري يصبح فعلياً حينما يوجد موضوعه خارجاً بحكم العقل بالملازمة بينهما.

هذا على تصورات المحقق النائيني (رحمه الله).

وأمّا على تصوّراتنا فلا موضوع لهذا الكلام؛ إذ لايوجد لنا عالم المجعول والفعلية وراء عالم الجعل، ويكفي استصحاب الجعل مع تحقّق الموضوع خارجاً لترتّب التنجيز المطلوب.

وأمّا الثاني، وهو ما يكون لازماً للجعل الاستصحابي على بعض المباني، فمن قبيل وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ بناءً على الإيمان بهما، فقد يقال: إنّنا إذا استصحبنا وجوب شيئاً ثبت وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه ؛ لأنّه كما أنّ الوجوب الواقعي لشيء يستلزم وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه واقعاً كذلك الوجوب الظاهري له يستلزم وجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه ظاهراً. إلاّ أنّ هذا الكلام إنّما يتأتى على بعض المباني وهو مبنى كون مفاد الاستصحاب وجوباً تكليفياً كما لو قلنا بالحكم المماثل، فعلى هذا المبنى لو استصحبنا وجوب شيء ثبت وجوب مقدّمته وحرمة ضدّه إن ادّعينا التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، أو حرمة ضدّه بلحاظ عالم الجعل والإنشاء.

ويترتّب على ذلك بطلان الضدّ إذا كان عبادة بناءً على مبطلية هذا النهي للعبادة، وعدم الحرمة مطلقاً إذا كانت المقدّمة في نفسها محرّمة بناءً على أنّه ترتفع حرمتها بمجرّد صيرورتها واجبة بالوجوب المقدّمي، ونحو ذلك من الآثار التي قد تظهر بالتتبّع في الأبواب المتفرّقة.

465

وأمّا إن كان التلازم مقصوراً على عالم المبادئ فهنا لا يثبت وجوب المقدّمة أو حرمة الضد على شيء من المباني في الاستصحاب، ولو كان من قبيل مبنى جعل الحكم المماثل؛ وذلك لأنّ الأحكام الظاهرية ليست لهامبادئ وراء مبادئ الأحكام الواقعية.

وأمّا القسم الثالث، وهو ما كان ملازماً لحجّيّة الاستصحاب فثبوته في غاية الوضوح، فإنّه إن كان القسم الأوّل يدخل في مثبتات الاُصول والقسم الثاني يدخل في مثبتات الأمارة، فهذا القسم لا يدخل حتّى في مثبتات الأمارة، بل يثبت بالقطع الوجداني؛ إذ هو من لوازم الحجّيّة المفروض ثبوتها بالقطع الوجداني ؛ لانتهاء سلسلة ادلّتها إلى القطع، فتثبت حتماً اللوازم والآثار المترتّبة على الحجّيّة من قبيل ثبوت التنجيز،ووجوب الطاعة، وحرمة المعصية، واستحقاق العقاب.

وبعد هذا كلّه ننتقل إلى ملاحظة حال ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) حيث إنّه عطف على استثناء الشيخ خفاء الواسطة من قانون عدم حجّيّة الأصل المثبت فرض جلاء الملازمة، وذكر له ملاكين أو تقريبين:

الأوّل: إنّ العرف حينما لا يتعقّل التفكيك في التعبّد بين شيئين ؛ لشدّة التصاق أحدهما بالآخر كالاُبوّة والبنوّة مثلاً، فلا محالة يدلّ دليل التعبد بأحدهما على التعبّد بالآخر.

الثاني: أنّ أثر الواسطة يسنده العرف إلى نفس المستصحب ؛ لشدّة التصاق الواسطة به، فكأنّما يكونان وجهين لشيء واحد، فكأنّ علقة الاُبوّة والبنوة مثلاً شيء واحد، حينما ينظر إليه من هذا الجانب يسمّى بالابوّة. وحينما ينظر إليه من ذاك الجانب يسمّى بالبنوّة(1).

وبين هذين الملاكين فرق عملي، وهو أنّه إذا كان المستصحب وهو الاُبوّة مثلاً لا يترتّب عليه أثر شرعي، وإنما يترتّب الأثر على البنوّة، فالتقريب الأوّل لا يتمّ، لكنّه يتمّ التقريب الثاني، فإنّه على التقريب الثاني يقال: إنّ أثر البنوّة هو أثر للاُبوّة، فيثبت. وأمّا على التقريب الأوّل فالتعبّد بالاُبوّة لم يثبت ؛ إذ لا أثر له حتّى يقال: إنّه إذا ثبت هذا التعبّد ثبت التعبد بالبنوّة ـ أيضاً ـ بالملازمة العرفية بين التعبّدين.

وتحقيق حال الملاك الأوّل ظهر من هذا التنبيه، وتحقيق حال الملاك الثاني ظهر من التنبيه السابق. أمّا الملاك الأوّل فقد عرفت أنّه متى ما كان بحسب الارتكاز العرفي ملازمة بين التعبّدين ثبت أحدهماعند ثبوت الآخر بالاستصحاب، ولا يبعد كون المتضايفين


(1) راجع الكفاية: ج2 ص327 بحسب طبعة المشكيني.

466

كذلك، وليس هذا استثناء من الأصل المثبت، وإنّما هذا داخل في لوازم الأمارة ؛ لأنّ مركز الملازمة والأثر هو نفس التعبّد الاستصحابي الذي هو مفاد أمارة من الأمارات. وأمّا الملاك الثاني فهو نفس ما مضى في خفاء الواسطة من أنّ العرف يسند أثر الواسطة إلى المستصحب، غاية ما هناك أنّ نكتة هذا الاسناد المدّعى هناك كان هو خفاء الواسطة، وهنا هو جلاء الملازمة وشدّة التصاق الواسطة بالمستصحب، ويظهر عدم ثبوت آثار اللوازم هنا بمراجعة ما مضى في عدم ثبوتها هناك.

الأمر الرابع: ذكر المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1): انّه إذا كان الامر مرتباً على عنوان الكلّي فهذا العنوان تارةً يكون ذاتياً كعنوان الإنسان، واُخرى عرضياً بنحو المحمول بالضميمة، ويقصد(رحمه الله)بذلك ما يكون بإزائه في الخارج شيء زائد على ذات المعنون كعنوان الأسود الذي يكون بإزائه السواد، وثالثة بنحو الخارج المحمول، ويقصد بذلك العنوان الانتزاعي الذي ليس بإزائه في الخارج شيء زائد على ذات الموصوف والمعنون، كعنوان فوق.

أمّا في القسم الأوّل وهو العناوين الذاتية فقد ذكر (رحمه الله): أنّه لا بأس باستصحاب الفرد وترتيب أثر العنوان ؛ لأنّ الواسطة في المقام التي هي ذلك العنوان وهو عنوان الإنسان مثلاً لا تضرّ بعد ماكان روحها وجوهرها في الخارج ليس إلاّ الفرد.

أقول: إنّ كلامه (رحمه الله) يمكن أن يعمّم، بأن يقال: إنّ ذلك يشمل كلّ الأقسام الثلاثة، فيجري في جميعها استصحاب الفرد لإثبات أثر العنوان، إلاّ أنّ كلاًّ بحسبه، ففي عنوان الإنسان يستصحب فرد الإنسان، وفي عنوان الأسود ـ أيضاً ـ يستصحب فرد الأسود بما هو أسود، فإنّ هذا العنوان بالنسبة لفرده، أي: الاسود بماهو أسود ذاتي لا محالة، وفي عنوان الفوق ـ أيضاً ـ يستصحب هذا الفرد من الفوق بما هو كذلك، فإنّ هذا العنوان ذاتي بالنسبة إليه.

وعلى أي حال، فقد اعترض عليه السيّد الاُستاذ بأنّ جريان الاستصحاب هنا ليس من باب الاستثناء من قاعدة عدم حجّيّة الاستصحاب المثبت، وإنّما هو خارج عن الاستصحاب المثبت موضوعاً، فإنّ العنوان الكلّي إن لوحظ بمعناه الاسمي فهو مباين للفرد، ويأتي إشكال الاستصحاب المثبت، لكنّ الأحكام دائماً تتعلّق بالعناوين لا بمعانيها الاسمية، بل بما هي مرآة، وبما هي فانية في الفرد ومنطبقة عليها، فتثبت تلك الأحكام ـ لا محالة ـ


(1) راجع الكفاية: ج2، ص329 ـ 330 بحسب طبعة المشكيني.

467

باستصحاب الفرد(1).

أقول: الظاهر أنّ مقصود المحقّق الخراساني (رحمه الله) أيضاً كان هو هذا المطلب، لا دعوى الاستثناء من الأصل المثبت.

وعلى أيّ حال، فكلّ هذه الكلمات لا تخلو من تشويش.

وتحقيق الحال بنحو يخرج من التشويش هو: أن يقال: ماذا يقصد باستصحاب الفرد؟ هل يقصد به إجراء الاستصحاب في الفرد الخارجي الذي لا يمكن أن يدرك أو يقصد به إجراؤه في المفهوم الذهني المدرك المضيّق إلى درجة لا تنطبق إلاّ على فردواحد، وهو المفهوم الذي يعبّر عنه بكلمة زيد ونحوها؟

فإن قصد الأوّل قلنا: إنّه لا يجري فيه الاستصحاب، فإنّه ليس هو مصبّ اليقين والشكّ، والأحكام الشرعية، وإنّما مصبّ الجميع هي المفاهيم الذهنية. وان قصد الثاني قلنا: إنّ هذا المفهوم هل يفترض مركّباً من مجموعة مفاهيم منها ذاك العنوان العام الذي يقصد ترتيب آثاره كما لو استصحبنامفهوم زيد الذي هو مثلاً عبارة عن الإنسان الذي طوله كذا وعرضه كذا ولونه كذا و... أو يفترض عدم دخول ذاك العنوان العام في هذاالمفهوم وإنّما ذاك العنوان وهذا المفهوم مفهومان في عرض واحد، متصادقان على شيء واحد، كما لو كان المستصحب مثلاً عنوان المولود في الساعة الفلانية، وهذا المفوم ليس أحد أجزائه عنوان الإنسان؟

فإن قصد الثاني فهذامن أوضح أنحاء الاستصحاب المثبت، وكيف يمكن استصحاب مفهوم وترتيب آثار مفهوم آخر بمجرّد أنّهما متصادقان على شيء واحد؟

وإن قصد الأوّل فهذاالعنوان العامّ بنفسه قد استصحب في ضمن استصحاب الفرد فتترتّب عليه آثاره لا محالة، وباقي المفاهيم المنضمّة إلى هذا العنوان العامّ لو فرض أنّه كان لها أثر صحّ استصحاب الفرد الذي هو استصحاب لمجموعة هذه المفاهيم، وإلاّ فاستصحاب تلك المفاهيم المنضمّة لامعنى له وهذامعناه أنّه عندئذ يجري استصحاب ذاك العنوان العامّ فحسب.

وأمّا في القسم الثاني والثالث فذكر (رحمه الله) التفصيل بينهما، ففي المحمول بالضميمة قال: إنّه لا تثبت آثار هذا العنوان العرضي باستصحاب ذات الفرد، فإنّ هذا العنوان ما بإزائه في الخارج غير ذات الفردوأمر زائد عليه، وهذا الأمر الزائد لا يثبت باستصحاب ذات الفرد. وأمّا في


(1) راجع مصباح الاُصول: ج3 ص171، والدراسات ج 4 ص 169 ـ 170.

468

الخارج المحمول من قبيل عنوان الزوج والملك (على ما يمثّلُ به حيث يرى أنّهما من قبيل عنوان الفوقية) فلا بأس بترتيب الآثار بمجرّد استصحاب ذات الشخص المتصف بصفة الزوجية أو الملك مثلاً ؛ وذلك لأنّ هذا العنوان ليس له ما بإزاء في الخارج حقيقة عدا نفس هذا الشيء الذي قد ثبت بالاستصحاب.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ هذا العنوان الخارج المحمول يكون على أيّ حال واسطة بين المستصحب والأثر المطلوب، فيكون الاستصحاب من الاستصحاب المثبت، ولا يجري.

أقول: الظاهر من عبارة المحقّق الخراساني (رحمه الله) في الكفاية والصريح في تعليقته على الرسائل(1) هو أنّه يقصد الاستظهار من دليل تلك الآثار كونها ـ في الحقيقة ـ مترتّبة على ذات الشيء المستصحب، فأحكام الزوجية مثلاً مترتّبة على ذات الشخص بشرط كونه قد عقَد على إمرأة لا على هذا العنوان الاعتباري، وهو الزوجية ؛ وذلك بنكتة أنّ هذا العنوان ليس له ما بإزاء في الخارج زائد على ذات الشيء، فإمّا ببرهان عقلي أو بالارتكاز العرفي يكون غير قابل لكونه دخيلاً في الحكم.

إذن فينبغي النقاش مع صاحب الكفاية في هذه النكتة، وهي أنّه هل هذا العنوان الانتزاعي دخيل في الحكم، أو لا؟

فنقول: يمكن أن يتصوّر عدم دخله في الحكم بأحد تقريبين:

الأوّل: القطع الخارجي بعدم دخل مثل هذا العنوان في الحكم، لأنّه ليس إلاّ مجرّد اعتبار وافتراض وخيال، ولا معنى لفرض دخله في الحكم.

وفيه: أنّ الفرض والاعتبار إن كان عبارة عن خيال يتخيّله الإنسان ويفترضه متى ما اراد، وبإمكانه أن يفترض عكسه، وذلك كأن يفترض أنّ هذه الغرفة فوق المريخ، فالاعتبار بهذا المعنى ليس دخيلاً في الحكم الشرعي قطعاً. وأمّا إذا كان الاعتبار عبارة عن ذاك الاعتبار الذي يكون مفروضاً على العقل البشري، ولا يمكن للعقل البشري أن يتخلّى عنه، وذلك من قبيل اعتبار أنّ هذا فوق ذاك، وهذا هو القسم المبحوث عنه هنا، فالقطع بعدم دخله في الحكم ممنوع جدّاً، خصوصاً بناءً على مبنانا من أنّ هذه الاُمور لها واقع موضوعي خارج حدود الذهن، وإلاّ فلماذا يكون العقل البشري مضطراً إلى الخضوع لهذه


(1) ص214 ـ 514، بحسب طبعة منشورات مكتبة بصيرتي.

469

الاعتبارات، ولا يمكنه رفضها كالقسم الأوّل من الاعتبارات؟!

والثاني: دعوى: أنّ الارتكاز العرفي يأبى عن دخل مثل هذه العناوين كالفوقية والتحتية في الحكم.

وفيه: أنّ الارتكاز العرفي لا معنى لإبائه عن ذلك إلاّ إذا كان العرف يرى أنّ هذه العناوين أوهام وخيالات، ولا واقع لها، في حين أنّنا حتّى لو فرضنا أنّ هذه العناوين بالدقّة الفلسفية ليست إلاّ أوهاماً وخيالات فالعرف بسذاجته يراها اُموراً واقعية، فلا معنى لفرض إباء الإرتكاز العرفي عن دخل مثل هذه الاُمور في الحكم.

فقد تحصّل: أنّ كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام في غير محلّه، وبعد هذا ينبغي التكلّم في الأمثلة التي ذكرها المحقّق الخراساني (رحمه الله) في المقام، لنرى موقفنامنها في جريان الاستصحاب في خصوص تلك الأمثلة وعدمه. فنقول: يتحصّل من مجموع كلماته في الكفاية وفي تعليقته على الرسائل عدّة أمثلة.

منها: الزوجية، فترتيب آثار الزوجيّة بمجرّد استصحاب حياة ذات الزوج يكون عند المحقق الخراساني (رحمه الله) تعويلاً على الأصل المثبت لولا ما نقحّه من أنّه إذا كان العنوان مجرّد أمر اعتباري فلا بأس بجريان الاستصحاب.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام في غير محلّه ؛ فإنّ الزوجية ليست من الاُمور الانتزاعية، ومن قبيل الفوقية، وإنّما هي بنفسها حكم شرعي موضوعه ذات الشخص، وهذا الحكم الشرعي بدوره موضوع لآثار، فباستصحاب حياته تترتّب كلّ تلك الآثار على القاعدة بلا حاجة إلى ما ذكره (رحمه الله) في المقام.

ومنها: الملكية (ولنفترض هنا خصوص الملكية القهرية كالمالكية الحاصلة بالإرث).

والتحقيق: أنّ هذا المثال ـ أيضاً ـ في غير محلّه ؛ فإنّ الملكية حكم شرعي مترتّب على بقاء ذات المالك حيّاً، ويترتّب عليها آثار اُخرى، وباستصحاب الحياة يثبت كلّ الآثار بلا أيّ إشكال.

ومنها: ما جاء في تعليقته على الرسائل من الملكيّة في باب الوقف، ولعلّه يقصد كُلَّ ملكية جاءت بالعقد لا قهراً، كالإرث، وقد ذَكَرَ (رحمه الله) هنا: أنّ ترتّب الملكية على هذا الشخص يكون بواسطة عنوان الموقوف عليه، فنبتلي بإشكال المثبتية لولامسألة أنّ العنوان اعتباري صرف، ليس له ما بإزاء في الخارج.

وهذا الكلام في غير محلّه ؛ فإنّ هذه الملكية ـ أيضاً ـ كالملكية القهرية حكم تترتّب رأساً بحسب لسان الدليل على حياة هذا الشخص، من دون توسيط هذا العنوان في الظاهر الأوّلي

470

للسان الدليل. نعم، صدور الوقف شرط في هذه الملكية، والمفروض القطع بصدوره.

والوجه في ما قلنا من أنّ الموضوع بحسب الدليل هو نفس حياة الشخص لا عنوان كونه موقوفاً عليه ـ الذي فرض كونه عنواناً يمتدّ بامتداد حياته، وينتهي بانتهائهاـ هو أنّ دليل صحّة الوقف وترتّب الملكية قد دلّ على ذلك بلسان إمضاء الشارع لتمليك الواقف، ومن المعلوم أنّ موضوع تمليك الواقف هو نفس الشخص، لا عنوان كونه موقوفاً عليه ومملّكاً، فإنّ هذا العنوان في طول الوقف.

ثمّ لو تنزّلنا وفرضنا أن الملكية الشرعية تترتّب على عنوان الموقوف عليه الذي جعله الواقف لمّدة حياة هذا الشخص لا أكثر، قلنا: إنّه بالإمكان إجراء الاستصحاب في نفس عنوان كونه موقوفاً عليه ومملّكاً من قبل الواقف بناءً على ما اخترناه في باب استصحاب الأحكام من أنّ نفس الجعل يلحظ له حدوث وبقاء، وبالنظر إليه بالحمل الأؤّلي، وليس المجعول إلاّ هو هذا الجعل بهذا النظر. وأمّا بناءً على ما يقال من أنّ الجعل ليس له حدوث وبقاء، وإنّما يستصحب المجعول، فلا يجري هنا استصحاب كونه موقوفاً عليه ومملَّكاً من قبل الواقف؛ إذ جعل الواقف ليس له حدوث وبقاء، ومجعوله ليس موضوعاً للملكية الشرعية، وإنّما موضوعه جعل الواقف(1).

ومنها: النذر، فلو نذر التصدّق ما دام ابنه حيّاً فوجب التصدق يترتّب على حياة ابنه بواسطة كونه منذوراً، فأيضاً لا يجري الاستصحاب بحسب مذاق الآخوند إلاّ باعتبار مانقَّحه من عدم الاعتداد بمثل هذه العناوين الاعتبارية.

أقول: قد اتّضح حال ذلك ممّا سبق، وهو أنّه إن جعلنا النذر حيثية تعليليّة فلا موضوع لهذا الكلام ؛ فإنّ موضوع الحكم هو نفس حياة الولد الثابتة بالاستصحاب، وأصل النذر الذي هو شرط في الحكم مقطوع الحصول وإن جعلناه حيثية تقييدية (كما هو الظاهر من دليل وجوب الوفاء بالنذر، خلافاً لما استظهرناه في المثال السابق بالنسبة للوقف، فإنّ دليل (فِ بنذرك) يكون ـ لا محالة ـ ظاهراً في كون الموضوع هو النذر، وليس من قبيل دليل إمضاء الوقف الظاهر في كون موضوعه نفس موضوع الوقف ) فعنئذ نجري استصحاب نفس الجعل النذري الصادر من قبل الناذر، بناءً على مبنانا من تصوّر الحدوث والبقاء العرفي في نفس الجعل.

 


(1) وبما أنّنا شاكّون في مشمولية الزمان المتأخر لجعل الواقف فاستصحاب الحياة مبتلىً بإشكال المثبتية.

471

 

 

 

الاستصحاب في متعلقات الاحكام

 

التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب: قد يذكر هنا إشكال في استصحاب متعلّقات الأحكام كالطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة في الصلاة، ونحو ذلك، وذلك بأن يقال مثلاً: إنّ الاستصحاب يجب أن ينتهي إلى أثر شرعي إمّا بأن يكون المستصحب بنفسه حكماً شرعياً، أو بأن يكون موضوعاً لحكم شرعي حتّى يكون أمر وضع ذلك الأثر ورفعه بيد الشارع، فيعقل التعبّد به، وأمّا المتعلق فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه؛ إذ ليس هو حكماً شرعياً، ولا يترتّب عليه حكم شرعي ؛ إذ الأحكام تترتّب على موضوعاتها لا على متعلّقاتها.

وقد أدرج المحقّق الخراساني (رحمه الله) الإشكال في ذلك في إشكال الاستصحاب المثبت(1)، في حين أنّه غير مرتبط بذلك، وإنّما الإشكال هو عبارة عن عدم الانتهاء إلى أثر شرعي، لا عن كون الانتهاء إليه بواسطة أمر عقلي مثلاً، وهذا لا يرتبط ببحث الاستصحاب المثبت ؛ ولهذا جعلناه تنبيهاً مستقلاً.

وعلى أيّ حال، فهذا الإشكال يأتي في استصحاب كلّ ما هو متعلّق للتكليف، بأن يكون جزءً أو شرطاً، وفي قيود تلك الشرائط أو القيود، من قبيل طهارة الماء الذي يتوضأ به، فأيضاً يقال: إن هذه الطهارة ليست حكماً ولا موضوعاً لحكم، وإنّما هي قيد لأحد قيود متعلّق التكليف، فكيف يستصحب وجوداً أو عدماً؟

وهنا ثلاثة أجوبة عن هذا الإشكال حسب اختلاف المذاقات:

الجواب الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ الإشكال نشأ من قصر النظر على الأحكام التكليفيّة، ومع النظر إلى الأحكام الوضعية يرتفع الإشكال، فإنّ استقبال القبلة مثلاً وإن لم يكن حكماً ولا موضوعاً لحكم تكليفي لكنّه موضوع لحكم وضعي، وهو الشرطية، ولا يضرّ كون الشرطية أمراً ينتزعه العقل وليس مجعولاً بالأصالة، فانّه يكفي


(1) راجع الكفاية: ج2، ص330 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني في الحواشي.

472

كونها منتزعة من الحكم الشرعي وكون منشأ انتزاعها مجعولاً، فيكون أمر وضعهاورفعها بيد الشارع(1).

وأورد عليه السيّد الاُستاذ بأنّ الاستقبال مثلاً ليس موضوعاً للشرطية أيضاً من قبيل موضوعية سائر الموضوعات لأحكامها، بمعنى ترتّب تلك الأحكام عليها، وكونها بوجودها الخارجي دخيلة في فعلية تلك الأحكام، فإنّ الاستقبال لا تترتّب عليه الشرطية، ولا تصبح الشرطية موجودة بوجود الاستقبال خارجاً، وإنّما الشرطية موجودة سواء استقبل المصلّي القبلة خارجاً أو استدبرها، إذن فلا يترتّب على استصحاب الاستقبال حكم شرعي.

أقول: إنّ هذا الكلام في الحقيقة مناقشة في المثال وليس إبطالاً لأصل الفكرة في جواب المحقّق الخراساني (رحمه الله) وهي أنّه متى ما ترتّب حكم وضعي على متعلّق الحكم ارتفع الإشكال، فنحن لكي يتّضح عدم ورود إشكال السيد الاُستاذ على الفكرة نبدّل التعبير بالشرطية بالتعبير بالصحّة، فنقول: إنّ الصحّة حينما تضاف إلى هذا الفرد من الصلاة لا إلى طبيعي الصلاة المستقبلة للقبلة يكون وجودها مترتّباً على استقبال القبلة خارجاً، فهذا حكم وضعي مترتّب على هذا المستصحب.

والصحيح في مناقشة فكرة المحقّق الخراساني(رحمه الله) أن يقال: إنّ أصل الإشكال في غير استصحاب الحكم وموضوعه إن كان عبارة عن أنّ غير الحكم وموضوعه ليس أمراً وضعه ورفعه بيد الشارع فكيف يتعبّد به؟ كان جواب المحقّق الخراساني(رحمه الله)صحيحاً، لكن أصل الإشكال لا ينبغي أن يبيّن بهذا الترتيب ؛ فإنّ عدم كون الشيء بيد الشارع وضعاً ورفعاً لاينافي التعبّد به، فإنّه لا يقصد بالتعبّد به إثباته واقعاً، حتّى يكون عدم كونه بيده مانعاً عن ذلك، بل التعبّد به بمعنى اعتباره وهو سهل المؤونة لا يكون في نفسه أمراً مستحيلاً، فالإشكال إنّما هو عبارة عن مسألة اللغوية، وعدم تصوير النقض العملي حتّى يُنفى في المقام، وهذا الإشكال غير مرتفع بهذا الجواب، فإنّه إن اُريد بالاستصحاب مجرّد إثبات هذا الحكم الانتزاعي من الشرطية أو الصحة من دون إثبات منشأ انتزاعه، فهو لغو لا يترتّب عليه أثر عملي، وإن اُريد التعدّي عن ذلك إلى إثبات منشأ انتزاعه، أي: التعدّي من المعلول إلى العلّة، أعني تعلّق الأمر بما ينطبق على هذا الفرد المأتيّ به، كان هذا تعويلاً على الأصل المثبت.


(1) راجع الكفاية: ج2، ص330 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني في الحواشي.

473

الجواب الثاني: أنّ استصحاب استقبال القبلة مثلاً يترتّب عليه عدم وجوب الصلاة بعد هذه الصلاة إعادةً أو قضاءً، فإنّ إتيان الصلاة بتمام شرائطها يكون عدمه مأخوذاً في موضوع وجوب الصلاة الذي هو حكم تكليفي، وإلاّ لزم أن تجب الصلاة حتّى بعد إتيانها كاملة، فيجب على المكلّف أن يصلّي دائماً، وليس كذلك، إذن، فاستصحاب ثبوت الشرائط من قبيل استقبال القبلة أو غيره ناف لموضوع هذا الحكم التكليفي، وهو وجوب الصلاة وبالتالي ناف لهذا الحكم التكليفي من دون إشكال واستصحاب عدم الشرائط مثبت لموضوع هذا الحكم التكليفي. وبكلمة اُخرى: إنّنا حينما نقيس الحكم إلى متعلّقه فهو ـ تماماً كما لو قسناه إلى أيّ شيء آخر ـ إمّا مطلق بالنسبة إليه، أو مقيّد، ولا يعقل الإهمال، والإطلاق غير محتمل في المقام، وإلاّ لزم تكرار الصلاة دائماً، فتعيّن التقييد بصورة عدم الإتيان بالمتعلّق بتمام شرائطه، فيكون للاستصحاب عندئذ باب واسع.

وفيه ما نقّحناه في بعض أبحاث ماضية من أنّ الحكم بامتثاله لا ترتفع فعليّته، وإنّما ترتفع فاعليته، فالحكم بالنسبة إلى متعلّقه مطلق.

الجواب الثالث: أنّه لم ترد آية أو رواية على اشتراط كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي، ومجرّد التعبّد والاعتبار سهل المؤونة، ويمكن تعلّقه بالاُمور التكوينية. نعم، العمدة مسألة اللغوية، وترتفع اللغوية بترتّب أثر عقلي عملي على نفس الاستصحاب، وعندئذ يعقل جريان الاستصحاب، ولا يكون لغواً، ويتصوّر النقض العملي، والاستصحاب كسائر الأحكام الظاهرية وظيفته تعيين ماهو الأهمّ من الأغراض المتزاحمة عند المولى، وهذا هو روح كلّ الأحكام الظاهرية، وهذا كما يكون عند الشكّ في مرحلة الجعل كذلك يكون عند الشكّ في مرحلة الامتثال، فمن شكّ في أنّه صلّى أو لا، لو وجبت عليه ظاهراً الإعادة قد يفوت الغرض الترخيصي في عدم الإلزام بصلاة ثانية، ولو لم تجب عليه الإعادة قد يفوت الغرض الإلزامي في أصل الصلاة، فالمولى يقدّم الجانب الأهم إمّا بلسان مكشوف كأن يأمر بالاحتياط، أو يرخّص في الترك، أو بلسان غير مكشوف كأن يقول: بلى قد ركعت، أو يقول: جعلت المنجّزية والمعذّرية، أو الطريقية، أو أيّ لسان آخر، وما ذكره المحقّق النائيني من أنّه لا بدّ أن يكون الحكم الظاهري المجعول المرخِّص في مرحلة الامتثال بلسان الإحراز(1) في غير محلّه، وكذلك ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من أنّه إذا


(1) يقصد احراز تحقق العمل حيث يعتقد الشيخ النائيني(رحمه الله) أنّ الأصل النافي على قسمين فتارة يكون

474

كان الحكم الظاهري في مورد العلم بالتكليف بلسان الترخيص في المخالفة الاحتمالية لم يصحّ لكون العلم بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فيجب أن يكون بلسان من قبيل: بلى قد ركعت ونحو ذلك ممّا يحكم بحصول الامتثال(1)، أقول: كلّ هذه الكلمات في غير محلّها، فإنّ كلّ هذه الألسنة ونحوها ليست إلاّ مجرّد تعبيرات عن واقع واحد، وهو إبراز أهميّة أحد الغرضين المتزاحمين في مقام الحفظ لدى الشكّ من الآخر، ولا يعقل أن يكون اختلاف التعبير مؤثراً في الإمكان والاستحالة، والعلم سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

والخلاصة: أنّ الاستصحاب في المقام لسان عرفي يبرز به المولى اهتمامه بغرضه الترخيصي (إذا كان المستصحب بقاء الشرط) فلا يلزم عقلاً الإعادة، أو بغرضه الإلزامي (إذا كان المستصحب عدم الشرط) فيلزم عقلاً الإعادة.

 

 

 


ناظراً إلى مرحلة التكليف من قبيل حديث الرفع ونحوه واخرى يكون ناظراً إلى مرحلة الامتثال لكي يثبت تحقق الامتثال من قبيل قاعدتي الفراغ والتجاوز الحاكمتين بتحقق العمل ولا ينبغي الخلط بين القسمين وكأنّه(رحمه الله) يرى فرقاً جوهرياً بين القسمين راجع أجود التقريرات ج2 ص238.

(1) راجع نهاية الأفكار القسم الأول من الجزء الثالث ص48 ـ 49 والقسم الثاني من الجزء الثالث ص311 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم والمقالات ج2 ص31 و237 ـ 238 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي بقم، وتعليقات الشيخ العراقي على فرائد الاصول ج3 ص77 وج4 ص300.

475

 

 

 

استصحاب جزء الموضوع

 

التبيه العاشر: في تحقيق حال استصحاب جزء الموضوع. فإنّه يوجد في إجراء الاستصحاب في جزء من أجزاء موضوع الحكم إشكالان:

1 ـ أنّ جزء الموضوع ليس هو حكماً شرعياً، ولا يترتّب عليه حكم شرعي؛ إذ الحكم يترتّب على تمام الموضوع، فوجوب التقليد يترتّب على الفقاهة والعدالة مثلاً، لا على أحدهما، فكيف يستصحب أحدهما؟

وهذا الإشكال بعد التعميق قد يتحوّل إلى ما يستعصي على الحلّ، كما سيتضح ممّا يأتي.

2 ـ أنّه لو سلم جريان استصحاب جزء الموضوع في ذاته، أي: إنّنا أجبنا على الإشكال الأوّل، بقي إشكال آخر، وهو أنّ الموضوع هو المجموع المركّب من الجزئين، وهذان الجزءان وإن أثبتنا أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، لكن إثبات عنوان المجموع لكي يترتّب عليه الحكم تمسّكٌ بالأصل المثبت.

وفي الكفاية ذكر هذا الإشكال الثاني في بحث الاستصحاب المثبت(1)، ولم يذكر الإشكال الأوّل، ونحن بما أنّنا أردنا الجمع بين الإشكالين عقدنا تنبيهاً مستقلاً لذلك.

فنقول: أمّا الإشكال الأوّل، فقبل تحقيق الحال فيه نشير إلى أصل كيفيّة تصوير الاستصحاب في موضوعات الأحكام، فنقول: إنّ هنا اتّجاهين رئيسيين في تصوير استصحاب موضوع الحكم:

الأوّل: هو الاتّجاه السائد في علم الاُصول، وهو: أنّ استصحاب موضوع الحكم يعبّدنا بفعلية الحكم بلسان من الألسنة التي تذكر في المقام من جعل الطريقية، أو المنجّزية، والمعذّرية، أو الحكم المماثل، أو غير ذلك.

والثاني: الاتّجاه الصحيح، وهو: أنّ استصحاب الموضوع يعبّدنا بنفس الموضوع، ويكون التعبّد بالموضوع الذي هو صغرى منضماً إلى علمنا بالكبرى، وهو الجعل كافياً في


(1) راجع الكفاية ج2 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليق الشيخ المشكيني ص335 و337.

476

التنجيز العقلي، ولا يوجد عندنا مجعول وفعلية للحكم وراء الجعل نتعبّد به باستصحاب الموضوع مثلاً.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّه بناءً على الاتّجاه الثاني الذي أوضحناه فيما مضى لا موضوع لهذا الإشكال الأوّل في المقام أساساً ؛ إذ ليس المقصود باستصحاب جزء الموضوع إثبات حكم حتّى يقال: إنّ جزء الموضوع لا حكم له، وإنّما المقصود به إثبات هذا الجزء من الموضوع، لكي ينضمّ إلى الجزء الثاني المعلوم بالوجدان، وإلى الجعل الشرعي للحكم المعلوم بالوجدان أيضاً، لكي يترتّب على ذلك كلّه التنجيز العقلي.

وإنّما الإشكال يكون على الاتّجاه الأوّل الذي هو عبارة عن أنّ استصحاب الموضوع يكون مفاده التعبّد بالحكم، فعندئذ يتوجّه السؤال عن أنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبت أيّ حكم من الأحكام؟

وهذا السؤال يمكن أن يقدّم عليه أحد أجوبة ثلاثة، وبإبطالها جميعاً يتحوّل السؤال الى مشكلة قد تستعصي على الحلّ:

الجواب الأوّل، أن يقال: إنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبتُ نفس الحكم الثابت شرعاً لذاك الموضوع.

وهذا الجواب بهذا المقدار يكون عدم الاقتناع به واضحاً ؛ إذ ذلك الحكم حكم لتمام الموضوع لا لجزئه، فما معنى كون استصحاب جزئه تعبّداً بهذا الحكم؟ وقد يُتمّم هذا الوجه بماقد يقال في بحث الترتّب، من أنّ الحكم الموقوف على شرائط عديدة يخرج عن كونه موقوفاً على بعض تلك الشرائط حينما يتحقّق ذلك الشرط خارجاً، وإنّما يبقى موقوفاً على باقي الشرائط التي لم تحصل بعدُ، فبما أنّ أحد جزئي الموضوع في المقام حاصل بالوجدان يكون الحكم موقوفاً على الجزء الآخر، فيثبت باستصحاب ذلك الجزء.

وجوابه ما نقحّوه في بحث الترتّب من أنّ هذا الكلام خلط بين التوقّف بمعنى ثبوت الحالة الانتظارية والتوقف بمعنى الشرطية والموضوعية، فالمشروط بتحقّق شرطه لا يخرج عن كونه مشروطاً. نعم، يخرج عن كوننا بلحاظه في حالة الانتظار بالنسبة لهذا الشرط.

الجواب الثاني، أن يقال: إنّ استصحاب جزء الموضوع يُثبت من الحكم المقدار المرتبط به.

وهذا خلط بين موضوعات التكليف ومتعلّقاته، ففي المتعلّق يمكن أن يقال: إنّ كلّ حصّة منه تنال حصّة من الحكم، فالحمد له حصّة من الوجوب، والسورة لها حصّة اُخرى، وهكذا، لكن هذا الكلام بالنسبة لأجزاء الموضوع غير معقول، فليست مثلاً الفقاهة تنال

477

حصّة من وجوب التقليد، والعدالة تنال حصّة اخرى.

الجواب الثالث، وهو أحسن الأجوبة أن يقال: إنّ الإجتهاد وإن كان جزءاً لموضوع الحكم بوجوب التقليد منجّزاً مثلاً، لكن هنا حكم آخر تكون الفقاهة تمام موضوعه، وهو الحكم بوجوب التقليد المشروط بالعدالة.

وهذا الجواب ـ أيضاً ـ غير صحيح ؛ إذ الشارع جعل وجوب التقليد على مجموع الجزئين، ولم يجعل الوجوب المشروط بأحد الجزئين على الجزء الآخر، على أنّ هذا الكلام غير معقول بالنسبة لمدرسة المحقّق النائيني (رحمه الله) ؛ إذ هي في بحث الاستصحاب التعليقي أنكرت استصحاب هذه القضيّة الشرطية بحجّة أنّها انتزاعية، وليست شرعية، فليس لها أن تلتزم هنا باستصحاب موضوع تلك القضية الشرطية لإثباتها.

فتحصّل: إنّ هذا الإشكال مستعص على الحلّ بناءً على الاتّجاه الأوّل، وهذا بنفسه برهان نقضي على صحّة الاتجاه الثاني؛ إذ القائل بالاتّجاه الأوّل يضطرّ إمّا إلى أن يجنح إلى أحد هذه الأجوبة الباطلة، أو إلى إنكار جريان الاستصحاب في جزء الموضوع، وهو لا يلتزم بذلك.

ويمكن أن يقال بناءً على ما اخترناه في بحث الاستصحاب التعليقي ـ خلافاً لمدرسة المحقق النائيني(رحمه الله) ـ من أنّه يجري الاستصحاب إذا كانت نفس القضية الشرطية مجعولة على الموضوع: إنّه هنا ـ أيضاً ـ في هذا الفرض يتمّ الجواب الثالث، ويجري الاستصحاب ؛ فإنّه من الممكن أن يجعل الشارع الاجتهاد مثلاً تمام الموضوع لقضية شرطية، وهي وجوب التقليد إن كان عادلاً، فإذا جعل هكذا فلا مانع من إجراء استصحاب الاجتهاد لتثبت هذه القضية الشرعية.

إلاّ أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ غير صحيح ؛ وذلك لإنّنا وإن اخترنا في بحث الاستصحاب التعليقي جريان استصحاب تلك القضية الشرطية، لكن قد مضى هناك إشكال على هذا الاستصحاب، وهو أنّ التنجيز إنّما يترتّب على هذه القضية الشرطية إذا صارت فعليّة بفعليّة الشرط، وصيرورتها فعليّة بفعليّة الشرط إنّما هي أمر عقلي، فالتعويل على هذا الاستصحاب تعويل على الاستصحاب المثبت وأجبنا هناك عن هذا الإشكال بأنّنا لا نؤمن بفعلية في مقابل الجعل، وإنّما نقول: إنّ نفس إحراز الجعل وإحراز الموضوع كاف في التنجيز العقلي.

وهذا الجواب ـ كما ترى ـ هو اختيار للاتّجاه الثاني، ولو اخترنا الاتّجاه الثاني لم يبقَ

478

موضوع للإشكال في المقام، ونحن إنّما كنّا بصدد إيراد الإشكال على الاتّجاه الأوّل. نعم، مضى هناك جواب آخر عن إشكال المثبتية، وهو فرض الالتزام بجعل الحكم المماثل، لكن مضى ـ أيضاً ـ أنّه يبقى عندئذ إشكال إثباتي في شمول إطلاق دليل الاستصحاب للمقام، فراجع.

وأمّا الإشكال الثاني، وهو أنّ الأثر مترتّب على عنوان المجموع، وهذا لا يثبت باستصحاب الجزء.

فقد ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله) في ذلك ضابطاً، وهو أنّه متى ما كان الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحله، فالموضوع يكون ـ في الحقيقة ـ تقييدياً، فانّ هذا العرض أو عدمه وإن كان فلسفياً يمكن أن ينظر إليه بما هو ومستقلاًّ، ويمكن أن ينظر إليه باعتباره وصفاً للمحل ؛ ولذا لو كان هو تمام الموضوع لأمكن أن يكون تمام الموضوع ملحوظاً في ذاته وبما هو، وأمكن أن يكون تمام الموضوع بما هو وصف للمحل، لكن إذا كان جزء الموضوع وجزءه الآخر محلّه فهناك برهان عقلي على أنّه لا بدّ أن يكون جزء الموضوع بما هو وصف، لا بما هو هو.

وقبل أن نذكر باقي كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في هذا الضابط نقول: إنّ هذا البرهان مضى ذكره في بحث استصحاب العدم الأزلي مع جوابه، ولا نتعرّض له هنا، ونقول هنا إجمالاً: إنّ المختار هو إمكان كونه في هذا الحال جزء الموضوع بما هو هو، لا بما هو وصف.

هذا بحسب عالم الثبوت. وأمّا بحسب عالم الإثبات فمقتضى الأصل الأوّلي ـ لولا قرينة على الخلاف ـ هو عدم القيديّة ولحاظه بما هو وصف، لأنّ لحاظ قيد الوصفية يحتاج إلى مؤونة زائدة. نعم، بالإمكان فرض القرينة على ذلك.

وأمّا إذا لم يكن الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحلّه سواءً كانا عبارة عن عرضين لمحلّ واحد، أو لمحلّين، أو عبارة عن جوهرين، أو غير ذلك، فيقول المحقّق النائيني (رحمه الله): إنّه بحسب مقام الثبوت يمكن أن يرجع هذا إلى التركيب، بأن يكون الموضوع مركّباً من جزءين، فيثبت الموضوع ـ لا محالة ـ حينما يثبت أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد، ويمكن أن يرجع إلى التقييد بأن يربط أحدهما بالآخر بأخذ قيد الاجتماع، أو التقارن، أو التقدّم، أو التأخّر ونحو ذلك في الموضوع، إلاّ أنّ الظاهر بحسب مقام الإثبات هو الأوّل ما لم تقم قرينة على الخلاف؛ وذلك لأنّ هذين الجزءين ليس أحدهما وصفاً للآخر، فبطبعهما الأوّلي لم يؤخذ ربط بينهما، وإنّما أخذُ الربط بينهما يكون بإدخال عنصر ثالث، وهو

479

عنوان الاجتماع، أو التقدّم، أو التأخّر ونحو ذلك، فيتّصف أحدهما بأنّه مجتمع مع الآخر، أو مقدّم عليه، أو مؤخّر عنه، وإدخال العنصر الثالث طبعاً مؤونة زائدة يحتاج إلى قرينة.

أقول: إنّ كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في ما إذا لم يكن الجزءآن عبارة عن العرض ومحلّه، أو عدم العرض ومحلّه وإن كان صحيحاً، فثبوتاً يمكن التركيب كما يمكن التقييد، وإثباتاً يحتاج التقييد إلى القرينة كما قلنا في العرض ومحلّه: إنّه يحتاج التقييد إلى القرينة، بل احتياج ذلك هنا إلى القرينة أوضح ؛ إذ التقييد هنا بحاجة إلى إدخال عنصر ثالث كالتقارن، أو التقدّم، أو التأخّر.

إلاّ أنّه يبقى هنا شيء لم يتعرّضوا له، وهو أنّه وإن كان التقييد في العرضين لمحلّ واحد بحاجة الى القرينة لكن في أكثر الموارد يمكن أن يقال: إنّه توجد القرينة العامّة على التقييد، في حين انّ الاستصحاب يجريه الأصحاب فيها، فلكي نستطيع حلّ إشكال مثبتية الاستصحاب لا بدّ من الفحص عمّا يبطل تلك القرينة ولو بأن توجد قرينة اُخرى تنقض أثر تلك القرينة العامّة الاُولى.

فأوّلاً نتكلّم عمّا قد يدّعى من القرينة على التقييد، ثمّ نتكلّم عن أنّه هل يمكن حلّها ولو بإبداء قرينة ثانوية تقلب الظهور، أو لا.

فنقول: إنّ هناك ثلاثة موارد يمكن دعوى وجود القرينة على التقييد فيها.

المورد الأوّل: ما إذا كانا العرضان أُخِذا في لسان الدليل طوليين، فإنّهما قد يؤخذان عرضيين كما لو قال: (يجب إطاعة الإنسان الفقيه العادل) فالفقاهة والعدالة أخذتا عرضيتين، وقد يؤخذان طوليين كما لو قال: (الغَسل بالماء الطاهر مطهِّر) فالطهارة قد اُخذت في موضوع الغَسل. وهذا يستوجب التقييد لا بمعنى أنّ الغَسل عَرَضَ على الطهارة حتّى يقال: إنّ هذا لا يعقل إلاّ بمعنى عروض عنصر ثالث على الطهارة من التقارن مثلاً، حتّى يقال: إنّه مؤونة زائدة يحتاج إلى قرينة غير موجودة، بل بمعنى أنّ الغسل عرض على الماء، لكن في طول الطهارة، أي: عَرَضَ على الماء الطاهر بما هو طاهر، وعندئذ فاستصحاب الطهارة في الماء لا يثبت عنوان الغسل بالماء الطاهر إلاّ بالملازمة العقلية، من باب أنّه حصل الغَسل بالماء وجداناً، والماء طاهر تعبّداً، فقد أصبح الماء الحدّ الأوسط، والنتيجة: أنّه حصل الغسل بالماء الطاهر.

وقلّ ما يوجد مورد يسلم عن هذا الإشكال، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم العادل) فاستصحاب عدالة شخص لا يثبت أنّ إكرامه إكرام للعادل حتّى يثبت وجوبه، وكذلك لو

480

قال: (يجب إطاعة الإنسان الفقيه العادل) فاستصحاب الفقاهة أو العدالة لا يثبت أنّ إطاعته إطاعة للفقيه العادل، وهكذا.

المورد الثاني: شرائط الأعمال، من قبيل الطهارة التي هي شرط الصلاة مثلاً، فبناءً على ما يقال من أنّ الشرط ما كان تقيّده جزءً ونفس القيد خارجاً، نقول كيف يمكن استصحاب الطهارة لتصحّح الصلاة في حين أنّ استصحابها لا يثبت حصول تقيّد الصلاة بهاوارتباطها الخاصّ بها إلاّ بالملازمة العقلية؟!

ومن هنا يبدو أنّ الإشكال في المقام ليس عبارة عن مجرّد الإشكال على علماء الاُصول بعنوان أنّكم لماذا تجرون الاستصحاب في أمثال هذه الموارد، بل ينقدح منه الإشكال على دليل الاستصحاب نفسه الوارد عن الإمام(عليه السلام) أعني صحيحة زرارة التي استصحبت فيها الطهارة، وعليه فنستكشف أنّه حتماً يوجد خطأ في إحدى مبانينا الاُصولية. فإمّا أنّ ما التزمناه من عدم حجّية الاستصحاب المثبت مثلاً غير صحيح، أو أنّ بعض الاستثناءآت من الأصل المثبت الذي لم نقبله يجب أن نتراجع عن رأينا فيه ونقبله بحكم الصحيحة بعد فرض دخول المقام تحت ذلك البعض، كعنوان خفاء الواسطة، أو جلاء الملازمة مثلاً.

المورد الثالث: أنّه لا أقلّ من العطف بالواو، فلو قال: (إن غسلت يدك بالماء وكان الماء طاهراً طهرت يدك) فالغسل وطهارة الماء وإن أُخذا في عرض واحد لكنّ الواو حرف يدلّ على نوع من التقيّد والارتباط لا محالة، وبالاستصحاب لا يثبت هذا التقيّد.

إذن، فلم يبقَ مورد يجري فيه الاستصحاب لإثبات أحد الجزئين، اللّهم إلاّ إذا كان أحد الجزئين ثابتةً جزئيّته بالتخصيص، كما لو ورد: (أكرم كلّ عالم) وورد: (لا تكرم العالم الفاسق) فعرفنا بذلك أنّ الموضوع مركّب من جزئين: العلم وعدم الفسق، من دون أن يؤخذ بينهما نوع من التقيّد والارتباط.

والجواب عن المورد الأوّل: أنّ العناوين التي تؤخذ في موضوع الحكم إذا كانت عناوين خارجية من قبيل عنوان الفقاهة والعدالة، أو عناوين لهاوجود تشريعي من قبيل الطهارة وغيرها من الأحكام الشرعية، أو كانت عنواناً انتزاعياً ينتزعه العقل، لا بمعنى كونه من الأوهام والخيالات، من قبيل فرض جبل من ذهب، بل له نوع وجود في خارج حدود الذهن، من قبيل عنوان الأوّل، أو القبلية أو البعدية ونحو ذلك، ففي كلّ هذا لا يُلغي العرف ذلك العنوان ؛ إذ يحتمل بما هو عرف دخل ذلك العنوان في الحكم حقيقة، فمثلاً إذا كان ظاهر الدليل أنّ موضوع الحكم هو الإنسان الفقيه لا يجعل العرف موضوع الحكم مطلق الإنسان،

481

وإذا كان ظاهر الدليل أنّ موضوع الحكم هو اليوم الأوّل من الشهر لا يقول العرف: إنّ الموضوع هو يوم رؤي فيه الهلال، ولم يرَ قبله، بل يحتفظ بدخل عنوان الأوّل. وأمّا إذا كان هذا العنوان مجرّد أمر عارض على الصورة الذهنيّة التي طرأ عليها الحكم في ذهن المولى من قبيل الطوليّة بين الغَسل وطهارة الماء في قول المولى: (تطهر يدك بالغَسل بالماء الطاهر) فإنّ هذه الطوليّة لا تحكي عن شيء خارجي زائداً على أصل الماء وطهارته وغسل اليد به، ولا فرق بحسب الواقع الخارجي بين أن يقول المولى: (تطهر يدك بالغسل بالماء الطاهر) أو يقول: (تطهر يدك إذا غسلت بالماء وكان الماء طاهراً) وإنّما الطوليّة في الأوّل والعرضيّة في الثاني من صفات الصورة الذهنيّة التي طرأ عليها الحكم في ذهن المولى، فهنا لا يحتمل العرف دخل مثل هذا العنوان في الحكم، ويجعل الموضوع للحكم الجامع بين الصورتين، فينحلّ إشكال الإثبات.

والجواب عن المورد الثاني، ما تكون بذرته موجودة في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)، فنستطيع أن نستخلصها من كلامه (رحمه الله) ونوجّهها بنحو تصبح جواباً مستقلاًّ، وذلك بأن نقول: إنّ تصوّر الربط بين عرضين لمحلّ واحد بجعل أحدهما يطرأ على الآخر بنحو من التعمّل يكون على خلاف الطبع العرفي، بخلاف العرض مع محلّه (وهذه هي البذرة المستخلصة من كلامه(رحمه الله)) ولأجل ذلك يصعب للعرف أن يتصوّر الارتباط بين الطهارة والصلاة مثلاً بهذا الترتيب، بأن يضاف أحدهما إلى الآخر بمثل عنوان التقارن، فإن لم يكن تصريح من قبل الشارع بهذا الارتباط يوجب استحكام إشكال المثبتيّة في المقام (وهو فرض نادر) يتصوّر العرف الارتباط بينهما بنحو آخر، وهو أخذ عنوان المحلّ، أعني الزمان، فيضيف كلا العرضين إليه، فعن طريق وحدة مصبّ العرضين يتصوّر الارتباط بينهما، وقوله: (لا صلاة إلاّ بطهور) وإن فرض ظهوره في ارتباط الطهارة بالصلاة ابتداءً لا من باب إضافة كلّ منهما إلى الزمان، لكنّه ما دام لا يكون صريحاً في ذلك يرجعه العرف إلى ما قلناه؛ لأنّه يصعب عليه تصوّر ارتباط أحدهما بالآخر ابتداءً، وعندئذ إن كان هذان العرضان المضافان إلى محلّ واحد، وهو الزمان الواحد أُخذا في لسان الدليل عرضيّين لم يبقَ إشكال في المقام، وإن اُخذا طوليّين جاء إشكال المورد الأوّل مع جوابه.

والجواب عن المورد الثالث، هو منع دلالة واو العطف على التحصّص ونوع من ذلك

482

المعنى من الارتباط(1)، وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه.

 

 

 


(1)وبكلمة اُخرى: أنّ واو العطف إنّما يدلّ على ربط طارئ على الصور الذهنيّة ولا يحكي عن نوع وجود خارج الذهن ولو على مستوى العناوين الانتزاعيّة التي تنتزع من الخارج، كعنوان الأوّليّة، أو القبليّة، أو البعديّة، وإذا كان الربط الموجود من سنخ الاُمور الطارئة على الصور الذهنيّة ورد في توضيح عدم إيجابه لإشكال المثبتيّة نفس الجواب الذي مضى عن المورد الأوّل.

483

 

 

 

تأثير العلم بانتقاض أحد جزءي الموضوع

في جريان الاستصحاب

 

التنبيه الحادي عشر: قد عرفت في التنبيه السابق أنّ الموضوع إذا كان مركّباً من جزءين جاز إحراز أحدهما بالوجدان، وإحراز الآخر بالاستصحاب حينما يكون مسبوقاً بالوجود، كما يجوز ـ أيضاً ـ استصحاب عدمه حينما يكون مسبوقاً بالعدم.

والآن نضيف إلى ذلك فرضيّة جديدة، وهي فرضيّة العلم بانتقاض الحالة السابقة، بأن كان أحد الجزءين مسبوقاً بالوجود وانعدم، والآخر بالعكس، وإنّما الشكّ في تأريخ الانتقاض، فلم نعرف المقدّم منهما عن المؤخّر، ونريد أن نستصحب عدم أحد الحادثين إلى زمان الحادث الآخر، فهل هذا يصبح مانعاً عن جريان الاستصحاب بوجه من الوجوه، أو لا؟

مثاله: ما إذا فرض موت الأب وكفر الابن في زمان واحد موضوعاً لانتقال تمام المال إلى غيره من الورثة، وموت الأب محرز وجداناً، وكفر الابن يمكن ـ بحسب ما مضى في التنبيه السابق ـ إحرازه بالاستصحاب ؛ لأنّنا نفرض ثبوت كفره سابقاً والشكّ في إسلامه قبل موت الأب، لكنّ الفرضيّة الإضافيّة هي أنّنا قد علمنا بانتقاض الكفر، وأنّه أصبح مسلماً، فهل يجري عندئذ استصحاب الكفر إلى حين موت أبيه، أو لا؟ أي: إنّه هل يجري استصحاب بقاء أحد جزءي الموضوع إلى زمان حدوث الجزء الآخر الذي نفرضه زهاق روح الأب، لكي يثبت بذلك الحكم أو لا؟ وهل يجري ـ أيضاً ـ استصحاب عدم أحد جزءي الموضوع (وهو في المثال موت الأب) إلى زمان انتفاء الجزء الآخر (وهو في هذا المثال الكفر)، لكي ينفى بذلك الحكم خلافاً للاستصحاب الأوّل، أو لا؟

ولا نتعرّض في هذا التنبيه لما ذكره في الكفاية من الشقوق من أنّه تارةً يكون موضوع الحكم هو تقدّم أحد الجزءين على الآخر بنحو مفاد كان التامّة، واُخرى وجوده متّصفاً بالتقدّم بنحو مفاد كان الناقصة، وثالثة عدمه في زمان الآخر بنحو مفاد ليس التامّة، ورابعة وجوده المتّصف بالعدم في زمان الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة، فعندئذ تدخل في المسألة