669

يستحبّ إكرام السنّي من العراق الفاسق في مذهبه)، وهذا يخصّص العامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام السنّي من العراق) وهذا يخصّص العامّ الثاني. فإن فرضنا عدم التعارض بين الخاصّين كما في هذا المثال خصّص كلّ عامّ بمخصّصه، ونتيجة ذلك بناءً على انقلاب النسبة أنّ المخصَّص بأعمّ المخصّصين يكون أخصّ من الآخر؛ لأنّ نقيض الأعمّ أخصّ.

وإن فرضنا التعارض بينهما كما لو قال: (يكره إكرام الفاسق السنّي من العراق) وهذا مخصّص للعامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام السنّي من العراق) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، فعندئذ يخصّص أعمّ الخاصّين بأخصّهما، ثمّ يخصّص كلّ من العامّين بمخصّصه، وتكون النسبة بين العامّين بعد التخصيص عموماً من وجه، ونعامل معهما معاملة العموم من وجه، لا التباين، أي: لا نوقع التعارض بين السندين، وإنّما التعارض في مادّة الاجتماع.

الشق الرابع: أن نفرض أنّ النسبة بين موضوعي المخصّصين التساوي، كما لو قال: (لا يستحبّ إكرام العراقي الفاسق) وهذا مخصّص العامّ الأوّل، وقال: (لا يكره إكرام العراقي الفاسق) وهذا مخصّص للعامّ الثاني، فنخصّص كلاّ من العامّين بمخصّصه، وتبقى نسبة التباين على حالها؛ لأنّ ما خرج من أحدهما بنفسه هو عين ما خرج من الآخر.

وخلاصة الكلام: أنّ كبرى انقلاب النسبة تعني صيرورة مالم يكن قرينة قبل خروج شيء منه بالقرينة قرينة بعد خروجه منه بذلك. وأمّا انقلاب التعارض التبايني إلى التعارض بنحو العموم من وجه، فهي كبرى اُخرى غير كبرى انقلاب النسبة، والكبرى الاُولى غير مقبولة لما عرفت، والكبرى الثانية مقبولة بلا إشكال؛ لأنّ المعارض في الحقيقة إنّما هو المقدار الذي يكون حجّة كما عرفت، أي: إنّ المقدار الذي لا يكون حجّة لا معنىً لمزاحمته لحجّيّة مفاد الخبر الآخر.

وعليه، فلو كان عندنا عامّان وخصّص أحدهما بمخصّص فصار أخصّ من الآخر، فتخصيص العامّ الآخر به مبني على انقلاب النسبة(1)، ولو خصّص كلّ منهما بمخصّص مع استيعاب المخصّصين لتمام أفراد موضوع العامّ ارتفع التعارض، ولم يرتبط ذلك بكبرى انقلاب النسبة، ومع عدم الاستيعاب تصبح النسبة بين العاميّن عموماً من وجه إذا أخرج كلّ منهما من عامّه غير ما أخرجه الآخر من عامّه، ونعامل معهما معاملة العموم من وجه، لا


(1) ولكن حجّيّة العامّ الآخر في ما سقط العامّ الأوّل عن حجّيّته ليس مبنيّاً على انقلاب النسبة، فإنّه يكفي في حجّيّته في ذاك المورد سقوط مزاحمه عن اقتضاء الحجّيّة في ذاك المورد.

670

معاملة التباين. وهذا غير مرتبط بكبرى انقلاب النسبة وإن تخيّل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ذلك، وإذا اُخرج بالتّخصيص من أحدهما عين ما اُخرج من الآخر بقيت النسبة على حالها. وهذا أيضاً غير مرتبط بكبرى انقلاب النسبة.

الصغرى الثانية: ما لو كان عندنا عامّان من وجه مع مخصّص، كما لو قال: (يستحبّ إكرام الهاشمي) وقال: (يكره إكرام الفاسق) وعندئذ تارةً يفرض ورود مخصّص يخرج مادة الاجتماع: إمّا من كليهما، كما لو ورد: (إنّ إكرام الهاشمي الفاسق مباح اُي بالمعنى الأخصّ من الإباحة الذي هو في قبال باقي الأحكام الأربعة، وإمّا من أحدهما، كما لو ورد: (يكره إكرام الهاشمي الفاسق) فيخصّص كلا العامّين أو أحدهما بالمخصّص، ويرتفع التعارض من دون فرق بين القول بانقلاب النسبة وعدمه.

واُخرى يفرض ورد مخصّص واحد أخرج مادّة الافتراق من أحدهما، كما لو ورد: (يجب إكرام الهاشمي العادل) وهذا يدخل في مصاديق كبرى انقلاب النسبة، فإنّ العامّ الأوّل بعد تخصيصه بالخاصّ يصبح أخصّ من العامّ الثاني: فيتقدّم عليه بناءً على كبرى: انقلاب النسبة.

وثالثة يفرض أنّ كلّ واحد من العامّين ورد عليه مخصّص أخرج مادّة الافتراق منه، كما لو ورد (يجب إكرام الهاشمي العادل) وهذا مخصّص للعام الأوّل، وورد: (يحرم إكرام الفاسق غير الهاشمي) وهذا مخصّص للعامّ الثاني فهنا مسلكان.

الأوّل: مسلك المحقق النائيني (رحمه الله) من أنّ كلّ عامّ يخصّص بمخصّصه، وهما يتعارضان في مادّة الاجتماع، ويسقطان، وبالتالي قد يسقط كلّ واحد من العامّين بتمامه جزء منه بالتخصيص وجزء منه بالمعارضة. وهذا المسلك هو الصحيح، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل.

الثاني: مسلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وهو وقوع التعارض الرباعيّ الأطراف للعلم الإجمالي بكذب أحدها، ولذا لو غضّ النظر عن أيّ واحد منها أمكن الجمع بين الباقي من دون أي تعارض، أو علم بكذب أحدها، فلو غضّ النظر عن أحد الخاصّين مثلا خصّص العامّ الاخر بمخصّصه، وصار ذلك العامّ بدوره مخصّصاً للعامّ الأوّل بناءً على انقلاب النسبة. ومقصوده ـ دامت بركاته ـ دعوى التعارض السندي بين الأدلّة الاربعة.

والصحيح ـ كما أشرنا إليه ـ هو المسلك الأوّل. وتوضيح ذلك: أنّ التعارض السندي له أحد ملاكين:

671

الأوّل: أن ينصبّ العلم الإجمالي بالكذب ابتداءً على السند، كما لو علمنا إجمالا أنّ أحد الراويين لم يسمع ما ينقله من الإمام(عليه السلام) بل كذب عملا، أو أخطأ، وفي مثل ذلك يقع التعارض في السند حتّى لو فرض أنّ النسبة بين المضمونين نسبة القرينة وذي القرينة كالعموم والخصوص المطلق مثلا، فلا يقدّم الخاصّ على العامّ بدعوى القرينيّة والتخصيص، بل يتعارضان.

إلاّ أنّ الغالب والعادة في المتعارضين ليس هو هذا، فإنّنا عادة نحتمل صدق كلا الراويين حتّى لو فرض التعارض التبايني بين المضمونين؛ إذ نحتمل أن يكون كلّ من الكلامين صادراً من الإمام (عليه السلام) إلاّ أنّ أحد الظهورين غير مراد استعمالا أو جدّاً ولو بأن يكون أحدهما وارداً تقيّة.

نعم، نعلم إجمالا بكذب أحد الظهورين، أي: إنّه على تقدير صدورهما معاً من الإمام فأحدهما غير مقصود، فالمعارضة أوّلا وبالذات بين الظهورين والدلالتين، لا السندين.

الثاني: أن يتعدّى التعارض من الدلالتين إلى السندين، وذلك ببيان مطلب:، إمّا بصيغته المشهورية، أو بعد تعميقه، ونذكر هنا صيغته المشهورية، وهي: أنّه بعد أن وقوع التعارض بين الدلالتين فإن أمكن حلّه في نفس دائرة الدلالات بالجمع العرفي بينهما، فهو، وإلاّ استحكم التعارض بينهما، فوقع التساقط و الاجمال، و عندئذ يكون التعبّد بسند المجمل لغواً، فتسقط حجّيّة السند لأجل اللغوية.

إذا عرفت هذا فنقول: ما معنى دعوى التعارض بين الأدلّة الاربعة؟ فإن كان المقصود التعارض بينها بالملاك الأوّل، أي: إنّه انصبّ العلم الإجمالي بالكذب على أحد الأسانيد ابتداءً، فهذا واضح البطلان؛ إذ عادة نحتمل صدق الجميع مع كذب بعض الظهورات ولو بمعنى صدوره للتقيّة. وإن كان المقصود دعوى التعارض بين الدلالات ثمّ سريانه بعد استحكامه في دائرة الدلالات إلى دائرة الأسانيد، قلنا: إنّ سريان التعارض إلى الأسانيد الأربعة بأن يتشكّل منها تعارض سندي واحد رباعي الأطراف إنّما يكون لو فرض تعارض دلالي رباعي الأطراف مستحكم في دائرته، وهذا معناه أنّ كلّ ظهور من الظهورات الأربعة يعارض مجموع الظهورات الثلاثة الاُخرى من دون إمكان حلّه، وعندئذ لو أردنا أن نتمشى مع صيغة التعارض الرباعي قلنا: إنّ تعارض الخاصّ الأوّل مع مجموع العامّين والخاصّ الثاني محلول؛ لأنّ هذا الخاصّ مقدّم على عامّه، والمقدّم على أحد أجزاء المجموع مقدّم على المجموع.

672

وبكلمة اُخرى: أنّ المرّكب من المحكوم وغير المحكوم محكوم، وتعارض الخاصّ الثاني مع مجموع العامّين والخاصّ الأوّل ـ أيضاً ـ محلول؛ لأنّ الخاصّ الثاني مقدّم على عامّه، فهو مقدّم على المجموع، فالتعارض إنّما يبقى مستحكماً بين العامّين، فيتعدّى إلى سندهما فقط.

والصحيح: أنّه ليس هنا تعارض دلالي رباعي الأطراف، وإنّما هنا ثلاث تعارضات دلاليّة، كلّ واحد منها ثنائيّ الأطراف، فيجب أن نحسب حساب كلّ واحد منها مستقلاّ، لنرى هل يكون مستحكماً في دائرة الظهور حتّى يسري إلى دائرة السند أولا؟.

الأوّل: هو التعارض بين العامّ الأوّل وخاصه. وهذا تعارض ثنائي الأطراف، فإنّ كلاّ منهما لو فرض صدق صاحبه لسقط، ولا يؤثّر في ذلك صدق الباقي أو كذبه. وهذا التعارض ليس مستحكماً بين طرفيه في دائرة الظهور؛ لأنّ الخاصّ يتقدّم على العامّ، فلا يسري إلى السند.

الثاني: هو التعارض بين العامّ الثاني وخاصّه. وهذا ـ أيضاً ـ تعارض ثنائي الأطراف، فإنّ كلاّ منهما لو فرض صدق صاحبه لسقط، ولا يؤثّر في ذلك صدق الباقي وكذبه. وهذا التعارض ـ ايضاً ـ محلول بتقدّم الخاصّ على العامّ، فلا يسري إلى السند.

الثالث: هو التعارض بين العامّين في مادّة الاجتماع، وهو مستحكم في المقام؛ إذ لا يمكن تقديم أحد العامّين على الآخر وجعله مخصّصاً له، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل. أمّا اذا لم نقل بانقلاب النسبة فواضح. وأمّا إذا قلنا بانقلاب النسبة فهو هنا عبارة عن لحاظ أحدالعامّين مع خاصّه قبل لحاظ العامّ الآخر مع خاصّه حتّى تنقلب النسبة، ويصبح العامّ الأوّل أخصّ من العامّ الثاني.

وهذا كما ترى جزاف محض، فليس تخصيص أيّ واحد من العامّين بخاصّه بأولى وأقدم من تخصيص الآخر بخاصّه. اذن فهذا التعارض هو الذي بقي مستحكماً، فيسري إلى السند بعد أن كان كلّ واحد من العامّين مخصّصاً بلحاظ مادّة افتراقه.

فإن قلت: إنّ هنا تعارضاً سنديّاً ثلاثي الأطراف بين كلّ عامّ مع خاصّه والعام الآخر؛ لأنّ خاصّه يخرج منه مادّة الافتراق والعامّ الآخر يعارضه في مادّة الاجتماع، فلا يبقى له شيء.

قلت: هذا التعارض إن فرض بالملاك الأوّل: أعني العلم ابتداءً بكذب أحد الأسانيد، فهذا العلم غير موجود عادة كما قلنا، وغير مفروض في المقام. وإن فرض بالملاك الثاني باعتبار أنّ مجموع أحد الخاصّين مع العام الآخر لا يجتمع في الدلالة مع العام الذي يكون هذا

673

الخاصّ مخصّصاً له، قلنا: إنّ هذا الكلام إنّما كان يتمّ لو فرض أنّ العامّ الآخر كان قرينة على خلاف العامّ الأوّل في نفسه، فعندئذ يكون العامّ الأوّل مبتلىً بالتعارض مع مجموع أمرين كلّ منهما بمفرده قرينة يخرج شيئاً من العامّ، لكنّ جعل أحدهما قرينة دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فيكون مجموعهما هو المتعارض معه، ولكنّ المفروض أنّ العامّ الآخر ليس قرينة على خلاف العامّ الأوّل، سواء قلنا بانقلاب النسبة أو لم نقل كما عرفت وجه ذلك آنفاً. وعليه فمجموع ما جعل معارضاً للعامّ الأوّل وهو خاصّه مع العامّ الآخر منحلّ إلى ما هو قرينة، وهو الخاص، فيتقدّم، وينحلّ التعارض بلحاظه وما يكون تعارضه مستحكماً وهو العام الآخر.

لا يقال: إنّ دليل حجّيّة السند لا يمكنه أن يشمل العامّ الأوّل مع مخصّصه ومع العامّ الآخر الذي هو بمنزلة الخاصّ بمادّة الاجتماع؛ لخروج مادّة الافتراق عنه بمخصّصه، فيقع التعارض بين العامّ الأوّل ومجموع المخصّص والعامّ الآخر.

فإنّه يقال: إنّ دليل الحجّيّة إنّما يجعل الحجّيّة لسند العامّ الأوّل في مقابل ما يعارضه بلحاظ مقدار ما يتحصّل بعد الجمع العرفي مع مخصّصه، والمفروض أنّ مخصّصه يخرج منه مادّة الافتراق بالقرينية، فلا معنىً لإبقاء تلك الحصّة للعامّ كي يشمله دليل حجّيّة السند، بل يسقط أوّلا تلك الحصّة بالتخصيص ثمّ نتوجّه إلى حساب حجّيّة السند.

نعم، لو رفعنا يدنا عن الخاصّ نجا سند العامّ عن المعارضة؛ لأنّ العامّ الآخر إنّما يعارضه في مادة الاجتماع، لكنّ هذا ليس ميزاناً فنّياً لإدخال الخاصّ في عالم التعارض.

كما أنّ ما ذكره السيد الاُستاذ من أنّنا لو رفعنا يدنا من أيّ واحد من الأدلّة الأربعة ارتفع العلم الإجمالي بالكذب، ولم يوجد تعارض بين الباقي، ليس فنّياً، فإنّ ميزان المعارضة ليس هو هذا، وإنّما ميزان المعارضة هو ما قلناه من أحد أمرين: إمّا أن يعلم ابتداءً بكذب أحد الأسانيد، أو أن يسري من دائرة الدلالة إلى دائرة السند بالبيان الماضي بتلك الصيغة، أو بعد تعميقه. وأمّا مجرّد أنّ الخبر الفلاني أصبح صدفة بحيث لو غضضنا النظر عنه لارتفع التعارض بين أدلّة اُخرى باعتبار أنّ العامّ الآخر إنّما يعارض سنده فيما لو لم يبقَ لمدلوله شيء غير خارج بالتخصيص، فلا يجعله داخلا في ميدان المعارضة.

الصغرى الثالثة: أن يرد عامّ مع تعدّد المخصّصات، ولنفرضها ـ لأجل التسهيل ـ مخصّصين، وفي هذين المخصّصين ثلاث حالات:

الحالة الاُولى: أن يكونا بحسب الموضوع متباينين، وعندئذ: إمّا أن لا يستوعبا العامّ كما

674

لو قال: (أكرم العلماء) وقال: (لا تكرم زيداً العالم) وقال: (لا تكرم عمراً العالم). وإمّا أن يستوعباه: إمّا حقيقة أو حكماً، بأن يكون تخصيص العامّ بهما تخصيصاً للأكثر المستهجن، كما لو قال: (أكرم العراقيين وقال: لا تكرم أهل شمال العراق) وقال: (لا تكرم أهل جنوب العراق) بناءً على كون أهل شمال العراق وجنوبه مستوعباً حقيقة أو حكماً للعراقيين.

أمّا القسم الأوّل، وهو ما إذا لم يكونا مستوعبين للعام فلا إشكال في أنّ العامّ يخصّص بهما، ولا يوجد أيّ مجال لتوهّم انقلاب النسبة؛ إذ حتّى لو خصّص العامّ أوّلا بأحدهما بقيت نسبته إلى الخاصّ الآخر نفس نسبة العموم المطلق.

وأمّا القسم الثاني، وهو ما لو كانا مستوعبين ولو حكماً فيقع فيه التعارض الثلاثي الأطراف بين العامّ وكلّ واحد من الخاصّين، فكلّ واحد منهما يعارض مجموع الآخرين، فإنّ قوام وقوع التعارض بين مجموع أدلّة من هذا القبيل يكون بأمرين وكلاهما ثابت في المقام:

الأوّل: العلم بكذب أحد الظهورات، وهذا ثابت كما هو واضح

والثاني: عدم قرينيّة بعضها على بعض، وهذا ـ أيضاً ـ ثابت، فلا العامّ قرينة على الخاصّ كما هو واضح، ولا أحد الخاصّين قرينة على العامّ؛ إذ لو فرضت قرينيّة أحد الخاصّين على العامّ فهل هو جمعاً مع الخاصّ الآخر قرينة عليه أو بدلا عن الخاصّ الآخر قرينة عليه؟ فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ مجموعهما يلغي العامّ، فكيف يكون الملغي قرينة للملغى. وإن فرض الثاني لزم الترجيح بلا مرجح.

وقد اتّضح بما ذكرناه الفرق بين هذا وبين العامّين من وجه اللذين ورد على كلّ منهما مخصّص يخرج مادّة الافتراق، حيث لم نوافق هناك على ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من التعارض الرباعي الأطراف، وهنا نقول بالتعارض الثلاثي الأطراف، فإنّ الأمر الأوّل وهو العلم بكذب أحد الظهورات وإن كان ثابتاً هناك، لكنّ الأمر الثاني وهو عدم قرينيّة بعضها على بعض لم يكن ثابتاً هناك، لكنّه ثابت هنا.

الحالة الثانية: أن يكونا بحسب الموضوع عامّين من وجه، كما لو قال: (أكرم العراقي) وقال: (لا تكرم عراقياً غير هاشمي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وهذان المخصّصان تارةً يفرض ورودهما في زمان واحد، واُخرى يفرض ورودهما في زمانين، فأحدهما عن الباقر(عليه السلام)والآخر عن الصادق(عليه السلام) مثلا.

أمّا الأوّل، أي: ما إذا ورد المخصّصان في زمان واحد، فلا إشكال في أنّ العامّ يخصّص بهما

675

معاً بعد افتراض عدم كونهما مستوعبين ولو حكماً للعامّ، وفرقه عمّا إذا كان المخصّصان متباينين موضوعاً من دون استيعاب أنّه هناك لم يكن أيّ مجال لتوهّم انقلاب النسبة؛ إذ حتّى لو خصّص العامّ أوّلا بأحدهما بقيت نسبته مع الآخر نفس نسبة العموم المطلق. وأمّا هنا فيمكن افتراض انقلاب النسبة بتخصيص العامّ بأحدهما أوّلا، فتنقلب نسبته مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه، إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال لانقلاب النسبة، فإنّ تقديم أحد الخاصّين على الآخر في التخصيص، ثمّ لحاظ نسبة العامّ إلى الخاصّ الآخر جزاف صِرف.

ويمكن أن يتوهّم أنّنا نخصّص أوّلا العامّ بمادّة الاجتماع بينهما فتصبح نسبة العامّ إلى كلّ من الخاصّين عموماً من وجه، فيقال: إنّنا لم نخصّص العامّ أوّلا بأحد الخاصّين حتّى يقال: لا مرجّح لأحدهما على الآخر، بل خصّصناه بهما معاً في مادّة الاجتماع، فلم نقدّم أحد الخاصّين في التخصيص جزافاً.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذا ـ أيضاً ـ مشتمل على الجزاف؛ لإنّه ترجيح لمادّة الاجتماع في التخصيص على مادّة الافتراق بلا مرجّح، وقرينيّة الخاصّ للعامّ ثابتة بنهج واحد لتمام مفاد الخاصّ من دون فرق بين مادة اجتماعه مع الخاصّ الآخر ومادّة افتراقه عنه.

وأمّا الثاني، وهو ما إذا فرض المخصّصان في زمانين، كما لو ورد (أكرم العراقي) ثم ورد (لا تكرم عراقياً غير هاشمي) ثم ورد في زمان آخر (لا تكرم العراقي الفاسق) فالحال فيه هو الحال في ما إذا ورد المخصّصان في زمان واحد، وإنّما أفردناه بالبحث لأجل إشكال ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في المقام على ما في تقرير بحثه(1) وأجاب عنه.

والبيان الفنّي للإشكال في المقام هو: أنّ المخصّص الثاني لو قسناه إلى العامّ بعرضه العريض كان أخصّ منه مطلقاً، لكنّه بناءً على انقلاب النسبة لا وجه لقياسه بالعامّ بعرضه العريض؛ وذلك لأنّ المخصّص الأوّل لمّا ورد لا ينتظر في تخصيصه للعامّ ورود أخيه، بل يتقدّم في الوقت على العامّ ويخصّصه، فيسقط العامّ عن الحجّيّة بمقدار ذلك المخصّص، فحينما يرد المخصّص الثاني يلقي العامّ مخصّصاً وغير حجّة، إلاّ فيما عدا ما خرج بالمخصّص الأوّل، فنسبته إليه بناءً على انقلاب النسبة إنّما هي العموم من وجه.

وأجاب ـ دامت بركاته ـ عن هذا الإشكال بأنّ المخصّصين وإن كانا بحسب الظاهر في زمانين، فورد مثلا أحدهما عن الباقر (عليه السلام) والآخر عن الصادق (عليه السلام)إلاّ أنّهما ينظران معاً إلى


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 392 ـ 393.

676

زمان واحد، وهو عصر التشريع؛ إذ ليس لكلّ إمام تشريع مستقلّ، فكأنّ المخصّصين وردا في زمان واحد.

وهذا الجواب ممّا لا نفهمه، فإنّ فيه خلطاً بين زمان مدلول الحديث وزمان الحجّيّة، فالإشكال يكون بالنظر إلى زمان الحجّيّة، والجواب ينظر إلى زمان المدلول، وهذا الجواب يكون في محلّه لو جعل جواباً على إشكال يرد في تخصيص عامّ متأخّر بخاصّ متقدمّ عليه زماناً، وهو أنّ الخاصّ يكون من حيث الزمان أعمّ لشموله لما قبل ورود العامّ، فالنسبة بينهما عموم من وجه، فكيف يخصّص العامّ به؟

فالجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إنّ كلاًّ من العامّ والخاصّ ينظران إلى زمان واحد، وهو تمام أزمنة الشريعة المقدّسة، فالنسبة بينهما هي العموم المطلق.

ولكنّ هذا الجواب فيما نحن فيه ممّا لا أساس له، فإنّ الإشكال ينظر إلى زمان الحجّيّة ويقول: إنّ زمان حجّيّة المخصّص الأوّل هو وقت وروده، فخصّص العام عند وروده، والمخصّصان وإن كانا ينظران كلاهما إلى وقت واحد، لكنّ أحدهما كان حجّة بعد زمان حجّيّة الآخر، لا معه، وأحدهما أسقط حجّيّة العامّ في دائرته قبل الآخر لا محالة، فيكون المخصّص الثاني قد جاء وقت تخصّص العامّ بالمخصّص الأوّل، فتكون النسبة بينه و بين المخصّص الثاني بناءً على انقلاب النسبة العموم من وجه، فالجواب عن هذا الإشكال بدعوى وحدة زمان المدلول لكلا المخصّصين ممّا لا ربط له بالإشكال.

والتحقيق: أنّ أصل الإشكال ممّا لا يُفهَم، ويصبح شيئاً مضحكاً لو بنينا على مبنى المشهور من أنّ حجّيّة الخبر يكون بوصوله لا بوروده، فعندئذ يصبح مركز الإشكال اختلاف المخصّصين في زمان الوصول، لا اختلافهما في زمان الصدور، فلو أنّ فقيهاً رأى أوّلا هذا المخصّص وخصّص العامّ به، ثمّ رأى الخاصّ الآخر، كان العامّ بالنظر إلى وظيفة هذا الفقيه معارضاً للخاصّ الآخر بالعموم من وجه، ولو أنّ فقيهاً آخر انعكس أمره، فرأى أوّلا المخصّص الثاني أصبحت نسبة العامّ إلى المخصّص الأوّل بالنظر إلى وظيفته العموم من وجه.

وحلّ الإشكال فنّيّاً هو: أنّ العامّ يكون تخصيصه حدوثاً بورود المخصّص الأوّل وحجّيّته، ويكون بقاءً ذلك التخصيص ببقاء المخصّص الأوّل على حجّيّته، ولذا لو ورد بعد ذلك مخصّص على ذلك المخصّص، أو حاكم عليه يفسّره بتفسير ينسجم مع مفاد العامّ، رجع العامّ إلى حجّيّته، وهذا معناه أنّ تخصيص العامّ بمخصّصه وسقوطه عن الحجّيّة في دائرة مخصّصه ليس من قبيل موت الانسان الذي يحصل دفعة وينتهي أمر ذلك الانسان، وانّما

677

يكون سقوط العامّ عن الحجّيّة في دائرة المخصّص وتخصيصه به أمراً يحصل حدوثاً بحدوث المخصّص الحجّة، ويثبت بقاءً ببقاء ذلك المخصّص على الحجّيّة، إذن فتخصيص العامّ بقاءً بالمخصّص الأوّل يكون في عرض تخصيصه بالمخصّص الثاني.

ولولا ما عرفته من الجواب لاستحكم الإشكال، ولم يكن جواب السيّد الاُستاذ جواباً عليه، وللزم تأسيس اُصول وفقه جديدين، فلو ورد مثلا دليل يدلّ على وجوب شيء ودليل آخر يدلّ على حرمته، ثمّ ورد في زمان ثالث متأخّر عنهما ما يدلّ على الكراهة يجب أن يقال بأنّ الدليلين الأوّلين تعارضا وتساقطا، وبقي دليل الكراهة بلا معارض، ولم يصح ما هو المألوف من إيقاع التعارض الثلاثي بينها، ويزداد ذلك غربةً لو بنينا على أنّ الحجّيّة تكون بالوصول، فمن كان آخر حديث اطّلع عليه هو حديث الوجوب يبني على الوجوب، ومن كان آخر حديث اطّلع عليه هو حديث الحرمة يبني على الحرمة، ومن كان آخر حديث اطّلع عليه هو الكراهة يبني على الكراهة. وحلّ ذلك ما عرفته من أنّ التخصيص والمعارضة شيء يكون حدوثاً بحدوث المخصّص والمعارض الحجّة في نفسه، وبقاءً ببقائه على الحجّيّة في نفسه.

الحالة الثالثة: أن يكونا بحسب الموضوع أعمّ وأخصّ مطلقاً، ونذكرهنا حول ذلك أربع كلمات:

الكلمة الاُولى: أنّ الخاصّ الأخصّ لو كان له مفهوم يخصّص الأعمّ فيجعله موافقاً له، فعندئذ لا إشكال في أنّ الخاصّ الأعمّ يخصّص به، والعام يخصّص بمقدار الخاصّ الأخصّ، وليس أيّ مجال لتوهّم تأثير مبنى انقلاب النسبة في المقام، ومثاله ما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وقال: (العراقي الفاسق إن كان كذّاباً لا تكرمه).

الكلمة الثانية: إن لم يكن للخاصّ الأخصّ مفهوم يخصّص الخاصّ الأعم، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (لا تكرم العراقي الفاسق) وقال: (لا تكرم العراقي الكذّاب)، فعندئذ يخصّص العامّ بكلا المخصّصين في عرض واحد. وتوهّم أنّ العامّ يخصّص في المرتبة السابقة بأخصّ الخاصّين فتنقلب نسبته مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه بناءً على كبرى انقلاب النسبة مدفوع بأنّ المقتضي لتخصيص العامّ بالخاصّ الأعمّ وهو القرينيّة موجود في نفس رتبة تخصيصه بالخاصّ الأخصّ، والمانع مفقود، وتقديم الخاصّ الأخصّ جزاف.

الكلمة الثالثة: إن كان الخاصّ الأخصّ متّصلا بالعامّ، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم الكذّاب منهم) ثمّ قال: (لا تكرم العراقي الفاسق)، فهذا لا إشكال في أنّه غير مرتبط

678

بباب انقلاب النسبة، وإنّ النسبة بين الخاصّ المنفصل والعامّ المخصَّص بالمخصّص هي العموم من وجه من أوّل الأمر؛ لأنّ المخصّص المتّصل قد هدم ظهور العامّ في شموله لما تحته، فالخاصّ المنفصل قد قسناه بما يكون العامّ ظاهراً فيه، لا بمقدار أقلّ من ذلك، باعتبار سقوط شيء من دلالة العموم عن الحجّيّة حتّى يرتبط ذلك بباب انقلاب النسبة. وعليه فلا إشكال في أنّ هذا العامّ مع ذلك الخاصّ متعارضان بالعموم من وجه، ولا يكون الخاصّ قرينة على العامّ.

إلاّ إنّ هناك شبهة لا يخلو جوابها عن دقّة، فلا بأس بذكرها، وهي: أنّه مضى فيما سبق قاعدة أعطاها المحقّق النائيني (رحمه الله) و نحن قبلناها، وهي: أنّه كلمّا يكون قرينة هادمة للظهور عند الاتّصال فهي قرينة هادمة للحجّيّة عند الانفصال، فقد يقال: إنّ هذه القاعدة حينما تطبق في المقام تكون نتيجتها تخصيص ذلك العامّ بهذا الخاصّ المنفصل بالرغم من اتّصاله بالخاصّ الأخصّ؛ وذلك لأنّه لو اتّصل به هذا الخاصّ الآخر بأن قال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم العراقي الكذّاب، ولا تكرم العراقي الفاسق) فلا إشكال في أنّ هذا الخاصّ الثاني يخصّص العامّ، ولا معنىً للحاظ العامّ أوّلا مخصَّصاً بالخاصّ الأوّل، ثمّ جعل النسبة بينه وبين الخاصّ الثاني عموماً من وجه؛ وذلك لأنّ الخاصّين في عرض واحد، فإذا اتّضح تقدّمه على العامّ عند اتّصاله ثبت تقدّمه عليه عند انفصاله أيضاً بتلك القاعدة الميرزائية. والجواب عن ذلك: أنّ تلك القاعدة وإن كانت صحيحة، لكنّ موردها ما إذا كان طرف المعارضة لتلك القرينة عند الانفصال نفس الظهور الذي يكون طرفاً لمعارضتها عند الاتّصال، فيقال: إنّ هذه القرينة التي تهدم ذاك الظهور عند الاتّصال به تهدم حجّيّته عند الانفصال عنه. وأمّا إذا كانت عند الاتّصال تهدم ظهوراً وعند الانفصال تقع طرفاً للمعارضة لظهور آخر فلا معنىً لجعل هدمها لذاك الظهور ميزاناً لاسقاطها لحجّيّة هذا الظهور. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ هذا الخاصّ لو كان متّصلا بذاك العامّ المتّصل بالخاصّ الآخر لوقع طرفاً للمعارضة لنفس العامّ، لا العامّ، بعد تخصيصه بالخاصّ الآخر، ولكنّه حين انفصاله ليس الظهور الذي يعارضه هو الظهور العمومي حتّى يرفع حجّيّته، فإنّ الظهور العمومي غير موجود حتّى يقع طرفاً لمعارضته، وترتفع حجّيّته؛ لأنّ الظهور العمومي قد انهدم بالمخصّص المتّصل. وإنّما الظهور الموجود هو ظهور العامّ المخصَّص، ونسبته إلى هذا الخاصّ هي العموم من وجه، فلا قرينية في المقام.

الكلمة الرابعة: إن كان العامّ ورد مرّة مستقلاً ومرّة اُخرى متّصلا بأخصّ الخاصّين، كما لو قال: (أكرم كلّ عراقي) وقال: (أكرم كلّ عراقي، ولا تكرم الكذّاب منهم) وقال: (لا تكرم

679

العراقي الفاسق)، فهنا ذكر المحقّق النائيني(رحمه الله) أنّ أعمّ الخاصّين يصبح في مادّة الاجتماع بينه و بين العامّ المخصّص بالمتّصل طرفاً للمعارضة مع العامّ المستقلّ، لا مخصّصاً له؛ وذلك لأنّه إنّما يصلح للمخصّصية إن لم يكن مبتلىً بالمعارض، وهنا مبتلىً بالمعارض وهو العامّ المخصّص بالمتّصل، حيث إنّهما يتعارضان بالعموم من وجه في العراقي الفاسق غير المخالف(1).

أقول: إنّ ما ذكره من أنّ أعمّ الخاصّين لا يصلح لتخصيص العامّ المستقلّ في الفاسق غير المخالف وإن كان صحيحاً، لكنّ ما ذكره من أنّه يقع طرفاً للمعارضة مع العامّ المستقلّ غير صحيح؛ لأنّ حجّيّة العامّ إنّما هي في طول عدم حجّيّة المخصّص، فإنّ حجّيّة ظهور ذي القرينة دائماً تتوقّف على سقوط حجّيّة القرينة. إذن فلا يمكن أن يكون من مبادئ سقوطه و معارضاً له في عرض معارضه الآخر، بل تصل النوبة إليه بعد تساقط أعمّ الخاصّين مع العامّ المخصّص بالمتصل، فهو مرجع بعد التساقط، لا ساقط بالتعارض.

 

الموقف في موارد انقلاب النسبة:

المقام الرابع: في أنّنا بعد أن أنكرنا انقلاب النسبة ماذا نصنع في موارد انقلاب النسبة؟

فمثلا لو ورد (يستحب إكرام العراقي) وورد (لا يستحب إكرام العراقي) وورد (لا يستحب إكرام العراقي البصري)، فالمحقّق النائيني (رحمه الله) يخصّص العامّ الأوّل بالدليل الثالث ثمّ يخصّص العامّ الثاني بالعامّ الأوّل المخصّص. وأما نحن فبعد أن لم نقبل ذلك فماذا نصنع في المقام؟

فنقول: إنّ هذا العامّ المخصَّص له أربع حالات:

الحالة الاُولى: أن يكون سنده قطعياً، وتكون الإرادة الجدّية لأصل الحكم الذي يكون الكلام ظاهراً فيه وهو استحباب إكرام العراقي قطعيّة، فلم نكن بحاجة إلى أصالة الجدّ لإثبات الجدّية (وعدم التقية مثلا) إلاّ من ناحية عموم الحكم. وفي هذا الفرض يحصل لنا قطع وجدانى بقضية مهملة مردّده بين المطلقة والجزئية، وهي استحباب إكرام العراقي في الجملة. أمّا أنّ هذا هل هو حكم مطلق يشمل كلّ العراقيين أو حكم جزئي لبعض العراقيين، فغير معلوم، وظاهر الدليل هو العموم، ولذا لو خلّينا نحن وهذا العامّ مع العامّ الثاني لم يمكن


(1) راجع فوائد الاصول الجزء الرابع ص 744 ـ 745 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج 2 ص 519 ـ 520.

680

تقييد العامّ الثاني بالمقدار المتيقّن من العامّ الأوّل على أساس القرينيّة وذي القرينيّة، فإنّ القضية المهملة ما دامت مردّدة بين المطلق والمقيّد لا تصلح قرينة للعامّ الآخر. نعم، يحصل لنا القطع بكذب عموم العامّ الآخر، فنكذّب عمومه بالقطع، لا بقانون القرينيّة والجمع العرفي، ولكن بعد أن ورد المخصّص للعامّ الأوّل وهو قوله: (لا يستحب إكرام العراقي البصري) فهذا المخصّص له دلالة التزامية عقلية، وفي نفس الوقت عرفية وواضحة، وهي دلالته على قضية شرطية، وهي أنّه لو استحب إكرام العراقي بنحو القضية المهملة لكان هذا الاستحباب في غير دائرة البصريين، وبما أنّنا نقطع بتحقّق شرط هذه القضية الشرطية تصبح هذه القضية الشرطية منافية للعامّ الثاني، وتتقدّم عليه بالقرينية، فإنّ العامّ الثاني لا يقوى على معارضة هذا الخاصّ الدالّ على تلك القضية الشرطية؛ إذ لا يمكنه أن ينفي الجزاء على تقدير تحقّق الشرط، ولا يمكنه أن ينفي تحقّق الشرط.

أمّا أنّه لا يمكنه نفي تحقق الشرط فلانّ تحققه مقطوع به حسب الفرض. وأمّا أنّه لا يمكنه أن ينفي الجزاء على تقدير تحقّق الشرط فلأنّ هذا أخصّ من العامّ، فيتقدّم على العامّ بالقرينيّة، ولا يمكن للعامّ أن ينفيه، وبهذا يثبت أنّ العامّ الثاني مخصَّص بمخصِّص غير محدّد المقدار في دائرة غير البصريين، فلو كان للقضية المهملة قدر متيقّن نقطع به اقتصرنا في التخصيص على ذاك المقدار، وإلاّ تشكّل العلم الإجمالي.

الحالة الثانية: أن يكون سنده غير قطعي، وتكون الإرادة الجدّية لأصل الحكم الذي يكون الكلام ظاهراً فيه قطعية. وهنا ـ أيضاً ـ نصل إلى نفس النتيجة التي وصلنا اليها في الحالة السابقة.

وتوضيح ذلك: أنّ العامّ الأوّل فيه دالّان و مدلولان: الدال الأوّل هو كلام الراوي، ومدلوله هو كلام الإمام، والدال الثاني هو كلام الإمام، ومدلوله هو الحكم العامّ المستفاد منه ببركة أصالة الجدّ. وهذا المدلول الثاني ليس قضية مهملة، وإنّما هو عبارة عن أحكام متعدّدة وجدّيات عديدة بعدد أفراد العامّ، وكلّ واحد منها معارض بمثله في العامّ الثاني، وانتزاع العقل لقضية مهملة من مجموع هذه القضايا الجزئية مطلب آخر، ولو كنّا نحن وهذين العامّين لسرت المعارضة إلى السند، فالعامّ الثاني ينفي الحكم الموجود في العامّ الأوّل، فلو كان الحكم قطعياً على تقدير الصدور فهو يدلّ على نفي الصدور. والمدلول الأوّل وهو كلام الإمام له لازم عقلي، وهو ثبوت استحباب إكرام العراقي في الجملة بنحو القضية المهملة؛ وذلك لفرض القطع بجدّية أصل الحكم على تقدير صدوره. إذن فالدّال الأوّل وهو كلام

681

الراوى له دلالة التزامية وهي ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة، وقد بيّنا في الحالة الاُولى أنّ الخاصّ وهو قوله: (لا يستحبّ إكرام العراقي البصري) له دلالة التزامية عقلية وعرفية، وهي: أنّه لو ثبت استحباب إكرام العراقي بنحو القضية المهملة لكان الاستحباب في دائرة غير البصريين، وهذه القضية الشرطية كان شرطها مقطوعاً به في الحالة الاُولى، وفي هذه الحالة ليس مقطوعاً به، لكنّ الدّال الأوّل وهو نقل الراوي يدلّ بالدلالة الالتزامية على ثبوت شرطها، ودليل حجّيّة السند قد جعل الدال الأوّل حجّة، والعامّ الثاني لا يمكنه أن ينفي حجّيّة سند العامّ الأوّل مع وجود هذا الخاصّ وإن كان ينفيها بالمعارضة لولا هذا الخاصّ.

ونكتة الفرق بين فرض وجود هذا الخاصّ وعدمه هي: أنّه لولا هذا الخاصّ فكلام الراوي وإن كان يدلّ بالدلالة الالتزامية على القضية المهملة لكنّ كلام الراوي في العامّ الأوّل لا يخصّص كلام الإمام في العامّ الثاني؛ إذ لا معنى لتخصيص كلام شخص بكلام شخص آخر، مضافاً إلى أنّ القضية المهملة ما دامت مردّدة بين المطلقة والجزئية لا تصلح للقرينيّة. إذن فتقع المعارضة بين العامّ الثاني وسند العامّ الأوّل، ولكن بعد ورود هذا الخاصّ نقول: إن هذا الخاصّ يدلّ على قضية شرطية أخصّ من العامّ الثاني، وهي: أنّه إذا ثبت الاستحباب بنحو القضية المهملة فهو ثابت في غير دائرة البصريين، فيتقدّم على العامّ الثاني بقانون قرينيّة الخاصّ للعامّ بعد إحراز شرط القضية تعبّداً بدليل حجّيّة سند العامّ الأوّل، أي: بدليل حجّيّة كلام الراوي الدالّ على كلام الإمام، ولازمه الذي هو ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة والعامّ الثاني لا يمكنه أن يعارض نقل الراوي في الحجّيّة؛ لأنّ نقل الراوي يثبت شرط ما هو قرينة على العامّ الثاني ومقدّمة عليه.

الحالة الثالثة والرابعة: أن يكون سنده قطعياً أو غير قطعي، وتكون الإرادة الجدّية لظاهر الكلام بلحاظ أصل الحكم غير قطعية، بل نحتاج في ذلك إلى أصالة الجدّ، وعندئذ فالتعارض بين العامّين مستحكم، والخاص لا يصنع شيئاً في المقام، فإنّ الخاصّ وإن كان يدلّ بالدلالة الالتزامية الواضحة على ما عرفتها من القضية الشرطية، وهي أنّه لو كان هناك استحباب بنحو القضية المهملة لكان في دائرة غير البصريين، لكنّ شرط هذه القضية الشرطية غير ثابت بالقطع ولا بالتعبّد؛ لأنّ قطعية سند العامّ الأوّل أو حجّيّته لا تدلّ بالملازمة على ثبوت القضيّة المهملة، لعدم قطعيّة الدلالة على الاستحباب حسب الفرض.

نعم، اصالة الجدّ تدل على أنّه لو كان هذا الكلام صادراً من الإمام فالاستحباب ثابت،

682

ولكن لو اُريد إثبات الاستحباب بضمّ أصالة الجدّ قلنا: إنّ أصالة الجدّ ـ على ما عرفت ـ لا تدلّ على القضية المهملة، وإنّما تدلّ على قضايا جزئية بعدد أفراد العامّ، كلّ واحدة منها معارضة بمثلها.

فقد تحصّل بما ذكرناه أنّه متى ما كان العام الأوّل قطعي الدلالة على إرادة أصل الحكم جدّاً، أصبح الخاصّ مخصّصاً للعامّ الثاني. ومتى ما لم يكن كذلك لم يكن الخاصّ مخصّصاً للعامّ الثاني، واستحكم التعارض بين العامّين في غير ما خرج من العامّ الأوّل بالتخصيص، وعندئذ فإن كان أحد العامّين قطعي السند والآخر غير قطعي السند اُخذ بالقطعي على ما بنينا عليه في محلّه من أنّ الخبر غير القطعي السند المعارض بما هو قطعي السند غير حجّة في نفسه. وإن كانا متساويين في قطعيّة السند أو عدمها عمل بقوانين باب التعارض.

هذا تمام الكلام فيما تقتضيه القاعدة عند تعارض الخبرين.

 

 

683

 

 

 

مفاد الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين

 

الجهة الثالثة: في ما هو مفاد الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين، فإن كان مقتضى الأخبار العلاجية في المقام موافقاً لمقتضى القواعد فهو، وإلاّ قدّم ـ طبعاً ـ مقتضى الأخبار العلاجية على مقتضى القواعد. والكلام في ذلك يقع في ثلاثة أبحاث:

الأوّل: في الأخبار التي يستدلّ بها للتخيير.

الثاني: فيما يجعل دالا على الاحتياط، أو التوقّف، أو نحو ذلك ممّا يكون معارضاً لأخبار التخيير إن تمّت في نفسها سنداً ودلالة.

الثالث: فيما قد يجعل مقيّداً ومخصّصاً لأخبار التخيير كأخبار الترجيح. وبعد ذلك نتكلّم في تنبيهات المسألة.

 

أخبار التخيير

أمّا البحث الأوّل ، فهناك عدّة روايات يستدلّ بها لما ذهب إليه المشهور من التخيير.

فمنها: ما في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعاً، عن سماعة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) «سألته عن الرجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه والآخرينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه»(1).

وسند الحديث تامّ لا إشكال فيه. أمّا دلالته فقد يستفاد التخيير من قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) أي: في سعة من الأخذ بأيّهما شاء، فكأنّ قوله: (يرجئه) راجع إلى اكتشاف الحكم الواقعي، فيقول: إنّه يرجىء تشخيص ما هو الصحيح واقعاً حتّى يلقى من يخبره وهو الإمام مثلا. وأمّا وظيفته الفعلية فهي التخيير.


(1) الوسائل: كتاب القضاء، ب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 5، ص 77، ج 18 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وص 108 ج 27 بحسب طبعة آل البيت.

684

هذا هو تقريب الاستدلال بهذا الحديث.

وأورد على ذلك السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ هذه الرواية وإن دلّت على التخيير، لكنّ موردها هو فرض دوران الأمر بين المحذورين، حيث إنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى، والتخيير في مثل ذلك على القاعدة، فهذه الرواية لم تدلّ على شيء جديد يخالف القواعد(1).

ويرد عليه:

أوّلا: أنّ دوران الأمر بين المحذورين الذي تُجرى فيه أصالة التخيير عبارة عمّا لو علمنا بجنس الإلزام وتردّدنا بين الوجوب والتحريم. أمّا إذا شككنا في الوجوب والتحريم معاً فلا إشكال في اجراء البراءة عنهما معاً، فإنْ كان مقصوده ـ دامت بركاته ـ أنّ السائل افترض العلم من الخارج فهذا شيء لم يرد عنه ذكر في هذا الرواية، ولم يفرض سماعة العلم بالإلزام في المقام، بل الغالب في مثل هذه الموارد أنّه كما يحتمل كذب أحد الخبرين أو يعلم به كذلك يحتمل كذبهما معاً. وإن كان مقصوده أنّ جامع الإلزام يثبت بنفس مجموع هذين الخبرين فهذا ليس على طبق القاعدة، وإنّما هو شيء على خلاف القاعدة، تفترض استفادته من الأخبار العلاجية(2).

وثانياً: أنّه لو سلّمنا دوران الأمر بين المحذورين في المقام فليس متى ما دار الأمر بين المحذورين جرت أصالة التخيير، بل إنّما تجري أصالة التخيير إن لم يكن عندنا مرجع من قبيل عموم فوقاني أو استصحاب نرجع إليه، وإلاّ فلا معنىً لأصالة التخيير، فإطلاق هذه الرواية لفرض وجود مرجع من هذا القبيل يرجع إليه بعد تساقط الخبرين يدلّ مثلا على ما


(1) مصباح الاُصول: ج 3، ص 424.

(2) قد تقول: لا فرق في ثبوت التخيير العملي بين فرض العلم بجنس الإلزام وعدمه. وفي الحقيقة ليس للعلم بجنس الإلزام المردّد بين الوجوب والحرمة أثر، فمفاد التخيير في الفرضين أمر واحد.

ولكنّا نقول: إنّ هذا البيان منه (رحمه الله) مبنيّ على مجاراة الأصحاب من افتراض كون أصالة التخيير مضمونها غير مضمون البراءة، وأنّها لا تجري إلاّ لدى العلم بجنس الإلزام والدوران بين الوجوب والتحريم. أمّا لو التفتنا إلى أنّ أصالة التخيير ليس لها مفاد عدا مفاد البراءة غاية الأمر أنّ مفاد البراءة تارةً يكون منشأه عدم البيان، واُخرى يكون منشأه عدم القدرة الذي لافرق فيه بين العلم بجنس الالزام وعدمه، فلا يبقى مجال لتوهّم احتياج ابطال الاستدلال بهذه الرواية على ابراز كونها واردة في مورد دوران الامر بين المحذورين، فانّ الرواية بعد فرض حملها على ما يساوق مفاد البراءة من الواضح عدم دلالتها على المقصود، سواء كانت واردة في مورد دوران الأمر بين المحذورين، أم لا.

685

يقوله المشهور من التخيير عند تعارض الخبرين.

وثالثاً: أنّ التخيير الذي يقوله المشهور في المقام عبارة عن التخيير الاُصولي أو الفقهي، ولذا يبحثون بعد إثبات التخيير عن أنّ هذا التخيير هل هو اُصولي أو فقهي؟

ويقصد بالتخيير الاُصولي التخيير في تعيين الحجّة، فبأيّ الخبرين يأخذ يصبح هو الحجّة. ويقصد بالتخيير الفقهي التخيير في الحكم ابتداءً، فإن شاء أخذ بالوجوب وأسند الوجوب إلى المولى، وإن شاء أخذ بالحرمة وأسندها ألى المولى.

وأمّا التخيير في دوران الأمر بين المحذورين فليس عبارة عن أحد المعنيين، وأنّما هو تخيير عملي. لا تثبت فيه حجّيّة في أحد الطرفين، ولا يمكنه أن يسند إلى المولى الوجوب أو التحريم، وأنّما هو عملا مخيّر بين الفعل والترك.

وعليه نقول: إنّه ـ دامت بركاته ـ لو أراد بالتخيير التخيير الاُصولي أو الفقهي، فهو ليس على طبق القاعدة، ولو أراد به التخيير العملي، أي: إنّه يستفيد من هذه الرواية التخيير العملي، إذن فلا يثبت في الخبرين المتعارضين التخيير الذي يقوله الأصحاب(1) حتّى لو لم يكن مورده مورد دوران الأمر بين المحذورين.

والتحقيق: عدم تماميّة دلالة الرواية في المقام على مختار المشهور؛ لقوّة احتمال كونها في اُصول الدين؛ وذلك لما جاء فيها من التعبير بقوله: (أحد هما يأمر بأخذه) فإنّ الأخذ إنّما يناسب الاعتقاديات، لا الأعمال. وأمّا في الأعمال فينبغي أن يقال مثلا: أحدهما يأمر بفعله والآخر ينهاه عنه، وهذا إن لم يكن قرينة على صرف الرواية إلى الاعتقاديات فلا أقلّ من أنّه يوجب الإجمال، على أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة إنّما يكون غالباً في الاعتقاديات. وأمّا في الفروع فهو نادر جدّاً.

ويؤيّد ما ذكرنا قوله: (يرجئه حتّى يلقى من يخبره) أي: يترك هذا الشيء بكلا جانبيه، ولا يلتزم بأحد الاعتقادين حتّى يلقى من يخبره.

ويلتئم مع هذا المعنى قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) أي: إنّه في سعة من الاعتقاد والالتزام بشيء في المقام، فلا يلتزم بأحدهما حتّى يلقاه. فتفسير السعة بالتخيير إنّما يناسب فرض عدم اختصاص الرواية باُصول الدين. وأمّا إذا استظهرنا اختصاصها باُصول الدين والاعتقاديات فمعنى السعة هو عدم لزوم الالتزام والاعتقاد بأحد الطرفين، وفرض التخيير


(1) يحتمل أن يكون مراد الأصحاب بالتخيير الفقهي التخيير العمليّ البحت.

686

في الاعتقاد غريب على أذهان المتشرعة.

ثمّ إنّه بغضّ النظر عن فرضية اختصاص الرواية بالاعتقاديات توجد في قوله: (فهو في سعة حتّى يلقاه) عدّة احتمالات، على بعضها يتمّ الاستدلال بالرواية على التخيير، وعلى بعضها لا يتمّ:

الاحتمال الاوّل: أن يكون تأكيداً لقوله: (يرجئه حتّى يلقى من يخبره) ويكون معنى قوله: (يرجئه...) أنّه يرجئ تشخيص الواقع إلى أن يرى الإمام مثلا صدفة فيسأله، ولا يجب عليه شدّالرحال مثلا إلى الإمام في مقام تشخيص الواقع، فيكون قوله: (فهو في سعة حتى يلقاه) تفريعاً على الجملة الاُولى تاكيداً لنفس ذلك المعنى، أي: إنّه في سعة من معرفة الواقع حتّى يلقاه، فليس عليه الفحص وشدّ الرحال.

فان استظهرنا هذا الاحتمال قلنا: إنّ هذا الاحتمال أجنبيّ عن التخيير الاُصولي والفقهي كما هو واضح. والرواية بمد لولها اللفظي لا تدلّ أصلا على ما هي الوظيفة العملية عندئذ، وإنّما تدلّ بمدلولها اللفظي على عدم وجوب الفحص. أمّا أنّه عندئذ ماذا يصنع، فغير معلوم من المدلول اللفظي للكلام، لكن بمدلولها المقامي والسكوتي تدلّ على أنّ وظيفته بعد ورود الخبرين كوظيفته قبل ورودهما؛ إذ لو كان لورود الخبرين أثر في وظيفته لكان عليه أن يبيّنه. وهذا ـ كما ترى ـ معناه تساقط الخبرين والرجوع إلى ما يرجع إليه لولاهما. وأين هذا من التخيير الاُصولي والفقهي؟!

الاحتمال الثاني: أن تكون هذه الجملة بياناً لمطلب جديد غير ما في الجملة الأولى، وهو كونه قبل لقاء الإمام في سعة بلحاظ نفس ما هو في ضيق بلحاظه لو لقي الإمام، فهو حينما يلقى الإمام يكون السؤال منه طريقه الوحيد في تشخيص الواقع، لكن قبل لقائه الإمام ليس طريق تشخيص الواقع له منحصراً في سؤال الإمام ولو بشدّ الرحال عليه، بل هو في سعة من ذلك، فله طريق آخر لتشخيص الواقع وهو جعل مفاد أحد الخبرين مشخّصاً للواقع بنحو الحجّيّة التخييرية الاصولية أوالفقهية، فإنْ استظهرنا هذا الاحتمال تمّت دلالة الرواية على التخيير المختار للأصحاب لولا ما مضى منّا من استظهار كون الرواية واردة في خصوص الاعتقاديات، من قبيل الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، والبداء، والمشيئة، ونحو ذلك. وأمّا بلحاظ ذلك فتبطل دلالة الرواية على المقصود كما عرفت.

الاحتمال الثالث: أن تكون هذه الجملة بياناً للتخيير العملي من قبيل التخيير العملي عند دوران الأمر بين المحذورين، ومعنى ذلك أنّ المكلف مخيّر بين العمل بمضمون هذه الرواية

687

أو مضمون تلك من دون حجّيّة لاحدى الروايتين، أو إمكان إسناد مضمون إحداهما إلى الشارع. وعليه تكون هذه الجملة أجنبية عن المقصود.

ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن العباس، عن عليّ بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب لعبدالله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم أنْ صلّها في المحمل، وروى بعضهم لا تصلّها إلاّ على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك، فوقّع(عليه السلام)، موسّع عليك بأيّة عملت»(1).

وسند الحديث ـ أيضاً ـ تامّ، فيقال: إنّ هذه الرواية تدلّ على التخيير بين الخبرين، ولا تحمل السعة فيها على مثل البراءة؛ لأنّه اُضيفت السعة فيها إلى الروايتين، حيث قال: (موسّع عليك بأيّة عملت).

إلاّ أنّه مع ذلك يمكن النقاش في دلالة الرواية من وجهين:

الوجه الأوّل: دعوى ظهور الرواية في بيان التخيير الواقعي بين مضموني الروايتين، لا التخيير الظاهري، وذلك بنكتتين:

النكتة الاُولى: أنّ السائل قد سأل عن الحكم الواقعي حيث يقول: (فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك) ومقتضى أصالة التطابق بين السؤال والجواب هو كون الجواب ـ أيضاً ـ عن الحكم الواقعي، بل لو لم يكن قد صرّح السائل بالسؤال عن الحكم الواقعي كان ـ أيضاً ـ ظاهر كلامه هو السؤال عن الحكم الواقعي؛ لأنّه لم يسأل عن حال الخبرين المتعارضين بشكل عامّ حتّى يتعيّن في السؤال عن الحكم الظاهري، وإنّما سأل عن فرض مخصوص، وهو اختلاف الروايتين في ركعتي الفجر، وهذا كما يمكن حمله على السؤال عن الحكم الظاهري يمكن حمله على السؤال عن الحكم الواقعي. والثاني هو الظاهر من الكلام؛ لأنّ ظاهر حال السائل في نفسه هو أنّه يسأل عن الحكم الواقعي؛ لأنّ الإنسان بطبيعة حاله يفتّش عن الواقع، وإنّما يفتّش عن الحكم الظاهري عند عجزه عن الواقع.

النكتة الثانية: أنّ ظاهر حال الإمام ـ حتّى لو فرض عدم ظهور لكلام السائل في السؤال عن خصوص الحكم الواقعي ـ هو الإجابة عن الواقع؛ لأنّ الإمام (عليه السلام)باعتبار اطلاعه على


(1)الوسائل: ج 3، كتاب الصلاة، ب 15 من أبواب القبلة، ح 8، ص 240 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 4 ص 330 بحسب طبعة آل البيت.

688

الواقع يكون ظاهر حاله هو أنّه يجيب بما يرفع الشكّ، لا أنّه يبيّن حكم الشكّ إلاّ في مورد لا يمكنه رفع الشكّ، وذلك كما لو كان السؤال عن الخبرين المتعارضين بشكل عامّ(1).

الوجه الثاني: دعوى عدم المعارضة رأساً بين الخبرين في المقام. إذن فقوله: (موسّع عليك) لا بدّ من حمله على التخيير الواقعي، ولا معنىً للتخيير الظاهري، وذلك بناءً على مبنى المحقق النائيني(رحمه الله) من أنّ الأمر إنّما يدلّ على الطلب وأمّا الوجوب فهو شيء ينتزعه العقل من الطلب عند عدم ورود الترخيص. وعليه فما دلّ على طلب الصلاة على الأرض لا يوجد أي معارضة بينه وبين ما دلّ على الترخيص في الصلاة في المحمل، فإنّ الطلب يجتمع مع الترخيص. نعم، الوجوب لا يجتمع مع الترخيص، لكنّ الطلب لم يكن دليلا على الوجوب بنفسه، وإنّما العقل كان ينتزع الوجوب لولا الترخيص، ومع ورود الترخيص لا ينتزع الوجوب(2).

ومنها: ما رواه الشيخ في الغيبة بسنده عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري في مكاتبة بتوسّط الحسين بن روح إلى صاحب الزمان (عليه السلام): «سألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبيرة، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوّته أقوم وأقعد، فكتب في الجواب: أنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر، ثمّ جلس، ثم قام، فليس عليه في القيام بعد القعود


(1) كلتا هاتين النكتتين لظهور الكلام في بيان الحكم الواقعي واضحة الصحّة لو كانت الرواية واردة عن أحد الأئمّة المتقدّمين(عليهم السلام)، ولكن بما أنّ الرواية واردة عن الإمام الهادي (عليه السلام)وهو من الأئمّة المتأخرين الذين لعلهم كانوا يخططون لعصر الغيبة، فقد يقول قائل: حتّى لو كان سؤال السائل عن الحكم الواقعي فالإمام (عليه السلام)تعمّد الجواب عن الحكم الظاهري بالتخيير بين الروايتين تعليماً لطريقة الاستنباط التي تشتدّ الحاجة إليها لدى عصر الغيبة، ولعلّه لهذا ترى أنّه رغم أنّ السؤال كان عن أنّ الإمام كيف يصنع حتّى يقتدي السائل به، ولكنّ الجواب لم يأتِ بلسان أنّي أصنع كذا، بل جاء بلسان إجازة العمل بأيّ واحدة من الروايتين.

(2) إلاّ أنّ هذا المبنى غير تامّ.

نعم، لا يخفى أنّ الروايتين وإن كانتا متعارضتين على غير مبنى الشيخ النائيني (رحمه الله)لكنّهما قابلتان للجمع العرفي؛ لأنّ رواية النهي عن الصلاة إلاّ على الأرض تدلّ على بطلان الصلاة في المحمل، ووجوب الصلاة على الأرض، ولكنّ رواية الأمر بالصلاة في المحمل تدلّ على جواز الصلاة في المحمل لا وجوبها؛ لأنّها أمر وارد مورد توهّم الحظر، ومن المعلوم أنّ دليل جواز الصلاة في المحمل يكون قرينة عرفية على حمل الأمر بالصلاة على الأرض على الاستحباب. وهذا الجمع العرفي يقتضي عملا أن يكون موسّعاً على المكلف يعمل بأيّ الروايتين شاء؛ لأنّ الأولى تبيّن ما يكفي في الإجزاء، والثانية تبيّن ما هو المستحبّ.

689

تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1) فيتمسّك بذيل هذا الحديث، وهو قوله: (بأيّهما أخذت) لإثبات التخيير.

إلاّ أنّه توجد حول هذا الحديث ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يقال: إنّه غير وارد في الخبرين المتعارضين أصلا؛ لعدم المعارضة بين ما دلّ على طلب التكبيرة وما دلّ على الترخيص، وذلك بناءً على مبنى المحقق النائيني (رحمه الله)من أنّ الوجوب إنّما هو أمر ينتزعه العقل من الطلب إذا لم يرد الترخيص، وبناءً على هذا الاحتمال تكون الرواية أجنبية عمّا نحن فيه، وتحمل على التخيير الواقعي.

ويرد عليه: أنّ الرواية النافية للتكبير في القيام بعد القعود ليس مفادها مجرّد الترخيص في ترك التكبير، وإنّما مفادها أنّ ذاك الطلب الثابت في سائر موارد الانتقال من حالة إلى اُخرى غير ثابت في القيام بعد القعود، وقد ثبت فقهياً أنّ ذاك الطلب استحبابي، إذن فهذا الحديث ينفي مطلوبيّة التكبير في القيام بعد القعود حتّى بنحو الاستحباب، فتقع المعارضة بين الحديثين حتّى على مبنى المحقّق النائيني(رحمه الله)(2).

الاحتمال الثاني: أن يقال: إنّ الخبرين وإن كانا متعارضين إلاّ أنّهما ليسا متعارضين في مورد سؤال السائل، وهو التكبير في القيام بعد التشهّد الأوّل؛ لأنّ الخبر الثاني إنّما دلّ على نفي التكبير في القيام بعد الجلوس، وهذا لا ينافي كون القيام بعد التشهّد يستوجب التكبير، وهذا بناءً على أنّ قوله: (وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى) ليس تتمّة للخبر الثاني، وإنّما هو كلام لصاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ(3).

وبناءً على هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ تكون الرواية أجنبية عن المقصود، ولابدّ من حملها على التخيير الواقعي.

هذا. ويكفينا الأجمال وعدم الظهور في كون تلك الفقرة تتمّة للخبر الثاني، فوجود هذا الاحتمال يكفي لاسقاط هذا الحديث عن الاستدلال به للتخيير.

الاحتمال الثالث: أن يقال: إنّ الخبرين متعارضان حتّى في مورد السؤال، وذلك بناءً على


(1) الوسائل: ج 4، ب 13 من أبواب السجود، ح 8، ص 967 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 6 ص 368 بحسب طبعة آل البيت.

(2) على أنّ مبنى المحقق النائيني (رحمه الله) غير تامّ.

(3) الظاهر أنّه حتّى لو كان هذا كلاماً للإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه ـ فالمقصود به بيان أنّ خبر نفي التكبير بعد الجلوس من السجدة الثانية يشمل فرض التشهّد أيضاً.

690

كون تلك الفقرة تتمّة للخبر الثاني، لا كلاماً لصاحب الزمان ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ، وعندئذ نقول: إنّه وإن كان الخبران متعارضين إلاّ أنّه يوجد بينهما جمع عرفي يكون من أحسن أنحاء الجموع العرفية، وهو الحكومة، حيث إنّ الخبر الثاني ناظر إلى حكم التكبير الثابت في موارد الانتقال من حال إلى حال، وناف له في حال الانتقال من الجلوس إلى القيام، فمقتضى الجمع العرفي تقديم الخبر الثاني على الأوّل(1).

فإن فرضنا أنّنا لا نحتمل في موارد الجمع العرفي مطلقاً أو في جمع عرفي من هذا القبيل أن يحكم الشارع بالتخيير، فلا بدّ من طرح هذه الرواية أو حملها على التخيير الواقعي، وإن احتملنا ذلك قلنا عندئذ في مقام الجواب على هذه الرواية: إنّ لها ظهوراً في إرادة الحكم الواقعي لنفس النكتتين الماضيتين في الرواية السابقة، من أنّ السائل قد سأل عن الحكم الواقعي، ومن أنّ ظهور حال الإمام هو رفع الشكّ مع الإمكان، لا بيان حكم الشكّ(2).

هذا كلّه لو افترضنا أنّ الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) ينقل حديثين غير مقطوعي الصحّة، ويصبح بصدد العلاج.

وأمّا إذا قلنا، إنّ الظاهر من كلمة (حديثين) هو إخباره (عليه السلام) القطعي بتحدّث أجداده(عليهم السلام)بهذين الكلامين، وإنّ قوله: (فإنّه روي) أيضاً يقصد روايةً هو (عليه السلام)يمضي ورودها بنفس هذا النقل، فعندئذ تخرج هذه المكاتبة عمّا نحن بصدده راساً؛ لأنّنا نتكلّم في خبرين متعارضين غير مقطوعي الصدور(3). ولو فرض ثبوت التخيير في مقطوعي الصدور لا يمكن التعدّي عنهما الى غير مقطوعي الصدور.

ثمّ ان سند الحديث لا يخلو عن شوب اشكال، وذلك لأنّ النوبختي الذي ينقل هذا


(1) الظاهر أنّ الإمام (عليه السلام) فرض قطعية إرادة الإطلاق من الخبر الأوّل لحال الانتقال من الجلوس إلى القيام، فلم يكن مجال لهذا الجمع العرفي.

(2) ما أجبنا به عن النكتتين في الرواية الماضية يكون أوضح في هذه الرواية؛ لأنّها عن الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ وخاصّة أنّ قوله ـ عجل الله فرجه ـ: (من باب التسليم) ظاهر في التسليم للرواية، لا التسليم للواقع، إلاّ إذا حمل الحديثان على مقطوعي الصدور، كما سيأتي الآن في المتن إبداء احتماله.

(3) قد يقول قائل: إنّه بما أنّ هذه الرواية مرويّة عن الإمام صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ في زمن غيبته، فمن الطبيعي ـ كما قلنا ـ أن يكون بصدد تعليم طريقة الاستنباط من الروايات المروية، وهذا يُسقط ظهور العبارة في إرادة قطعيّة الحديثين، بل يوجب الظهور في النظر إلى الروايات المتعارفة والتي هي غير قطعية الصدور، أو يوجب الإطلاق على أقلّ تقدير.

691

الحديث عن الحسين بن روح لم يثبت توثيقه، فإن كان الحميري(1) هو الذي يشهد بنفسه أن ما رآه من الكتاب كان جواباً للإمام (عليه السلام) صحّ السند. وأمّا لو كان افتراضه لكون هذا الجواب جواباً للإمام، ماخوذاً من نفس المكتوب وكلام النوبختي، أي كان هذا الافتراض في طول نقل الخبر عن النوبختي، فلا يبقى وثوق بسند الحديث، ويكفينا الإجمال.

ومنها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فتردّه عليه»(2).

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على الاستدلال بذلك بأنّ هذه الرواية لم يفرض فيها التعارض أبداً، واِنّما هي من روايات حجّيّة خبر الثقة(3).

ويرد عليه إن سلّمنا عدم ورودها في فرض التعارض، ولم نقبل ما سوف نشر اليه من فرض قرينة على إرادة صورة التعارض: أنّ دليل حجّيّة الخبر إذا كان بمثل لسان جعل المنجزية أو الطريقية أو إيجاب العمل فهو لا يشمل الخبرين المتعارضين، لعدم معقولية كون كليهما طريقاً وواجب العمل. وأمّا إذا كان بلسان جواز العمل كما في قوله في هذا الحديث: (موسّع عليك) فهو يشمل بإطلاقه المتعارضين؛ لأنّ جواز العمل بأحد المتعارضين لا ينافي جواز العمل بالأخر، وليس كالوجوب. ومن هنا نقول: إنّ حديث (للعوام أن يقلّدوه(4))


(1) بل أبو الحسن محمد بن أحمد بن داود، راجع الوسائل: ج 20، ص 31. والعبارة مايلي: وروى جميع مسائل محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام) عن جماعة، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود، قال: وجدت بخطّ أحمد بن إبراهيم النو بختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح، وذكر المسائل كما رواها الطبرسي.

أقول: لا يبعد ظهور العبارة في شهادة محمد بن أحمد بن داود بكون ذلك كلّه بإملاء أبي القاسم حسين بن روح. وقد ظهر بكلّ تعليقاتنا أنّ هذا الحديث هو أفضل ما يمكن الاستدلال به على التخيير في الخبرين المتعارضين.

هذا. ولا ينبغي الدغدغة في السند من ناحية عدم معرفة الجماعة المتوسّطة بين الشيخ الطوسي ومحمد بن أحمد بن داود، فإنّه بغضّ النظر عن إمكان حلّ الإشكال بحساب الاحتمالات نقول: أنّ أحد هؤلاء الجماعة هو الشيخ المفيد على ما يظهر من عبارة الشيخ (رحمه الله) في الفهرست في ترجمة محمد بن أحمد بن داود، فراجع.

(2) الوسائل: ج 18، ب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 41، ص 87 ـ 88 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 27 ص 122 بحسب طبعة آل البيت.

(3)مصباح الاُصول: ج 3، ص 424.

(4)الوسائل: ج 18، ب 10، من صفات القاضي، ح 20، ص 95 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً وج 27 ص 131 بحسب طبعة آل البيت.

692

لولا ما فيه من ضعف السند دليل على التخيير في التقليد بين المجتهدين المختلفين في الفتوى.

هذا، وهنا إيراد آخر على الاستدلال بهذه الرواية، وهو: أنّه لعلّ المقصود من قوله: (موسع عليك) هو الرجوع إلى البراءة بعد تساقطهما، لا التوسعة بلحاظ التخيير بين الخبرين.

ويرد عليه: أنّه بعد تساقطهما ليس المرجع دائماً هو البراءة ونحوها ممّا تفيد السعة، بل قد يكون المرجع استصحاب الفساد أو أصالة البطلان ونحو ذلك ممّا لا يمتّ إلى السعة بصلة، بل يوجب التضييق.

ثم إنّ: قوله: (وكلّهم ثقة) لا إشكال في دلالته على أنّ الوثاقة دخيلة في الحكم الذي حكم به، وهو (موسّع عليك). فإنْ فرضنا كون وثاقة الكلّ مأخوذة بنحو الانحلال، أي: إنّ وثاقة كلّ راو لها دخل في الحكم بالسعة بلحاظ رواية ذاك الراوي كان ذلك قرينة على أنّه ليس المقصود بالسعة البراءة، أي كان قرينة على خلاف الإشكال الثاني.

وإن فرضنا كونها مأخوذة بنحو المجموعية، أي: إنّ وثاقة الجميع هي الدخيلة في الحكم، فلو فرضت وثاقة بعض دون بعض لم يثبت الحكم بالسعة، كان ذلك قرينة على أنّ مفروض الكلام هو الأخبار المتعارضة، وأنّ المقصود هو التخيير، لا حجّيّة خبر الثقة، فإنّ وثاقة الكلّ إنّما تؤثّر في المتعارضين من باب أنّه لو كان أحدهما ثقة دون الآخر لم تكن عندنا حجّتان متعارضتان، وقد يكون التخيير في خصوص ما إذا كان كلاهما ثقة وكلتاهما حجّة في نفسهما أمّا لو فرض أنّ المقصود بيان حجّيّة خبر الثقة فلا معنى لدخل وثاقة الكلّ بنحو المجموعية، بل لا بد أن يكون بنحو الانحلال، فبناءً على المجموعية يصبح قوله: (وكلّهم ثقة) قرينة على خلاف الإشكال الأوّل.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه أنّ هذه الرواية تامّه دلالة، إلاّ أنّها ساقطة سنداً.

ومنها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا عن الحسن بن الجهم، عن الرضا (عليه السلام)قال: «قلت للرضا (عليه السلام) تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله ـ عزّوجلّ ـ وأحاديثنا، فإن كان يشبهها فهو منّا، وإن لم يشبهها فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ، فقال: إذا لم تعلم فموسّع عليك

693

بأيّهما أخذت»(1).

وهذه الرواية لا تردعلى دلالتها شيء من المناقشات السابقة، إلاّ أنّها ـ أيضاً ـ ساقطة سنداً.

ومنها: مرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي جمهور الأحسائي صاحب كتاب غوالي اللئالي عن العلاّمة الحلّي، رفعها إلى زرارة، وسوف يأتي نقل الرواية بعد ذلك ـ إن شاء الله ـ وفيها الترجيح بالشهرة، وبعد أن فرض الراوي أنّ كليهما مشهور جاء الترجيح بالأوثقية والأعدلية والأصدقية، وبعد التساوي يقول: خذ بما فيه الحائطة لدينك، وبعد افتراض كونهما معاً موافقين للاحتياط أو مخالفين له يقول: فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر(2).

وناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في دلالة هذه الرواية بأنّه افترض فيها أنّهما معاً مشهوران، والمقصود الشهرة الروائية لا الفتوائية، وبذلك تصبح الروايتان قطعيتي الصدور، فهما خارجتان عن محلّ الكلام، فإنّنا نتكلّم عن التخيير في المتعارضين غير قطعيي الصدور(3).

ويرد عليه: أنّه لا بدّ من تفسير الشهرة بمعنىً لا يوجب قطعية الصدور، وإلاّ لم يكن معنىً للترجيح ـ بعد فرض كون كليهما مشهورين ـ بالأوثقية والأعدلية والأصدقية.

وأمّا أنّه ما هي تلك الشهرة؟ فسوف يقع الحديث عن ذلك عندما ننقل نصّ الرواية في بحث المرجحات ـ إن شاء الله تعالىـ.

وعلى أيّ حال فالرواية ساقطة سنداً. وقد قالوا: لم توجد هذه الرواية في كتب العلاّمة التي بأيدينا(4)، وسواء وجدت في كتب العلاّمة أو لا كفاها كونها مرفوعة.

ثمّ الرواية أخصّ من المدّعى؛ إذ تعطي التخيير بعد فرض عدم كون الأخذ بأحدهما المعيّن هو مقتضى الاحتياط دون العكس، فتعارض روايات التخيير التي فرضت دلالتها على المدّعى، فهذه الرواية على خلاف المطلوب أدلّ.


(1)الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 40، ص 87 أو ج 27 ص 121 ـ 122 حسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

(2) مستدرك الوسائل: ج 17، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 303 ورقم التسلسل العام للحديث. [413 21].

(3) مصباح الاُصول: الجزء 3، ص 423.

(4) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 405.