153

 

 

 

تداخل العلمين في بعض الأطراف

 

التنبيه الخامس: في علاقات العلوم الإجمالية بعضها مع بعض حينما تكون النسبة بين أطراف العلمين عموماً من وجه، أي: أنـّهما يشتركان في بعض الأطراف.

فبالإمكان أنْ يقال: إنـّه إذا تنجّز بعض الأطراف بأصالة الاشتغال بلحاظ علم إجمالي، فهذا يوجب انحلال العلم الإجماليّ الثاني، كما قد يقال في مورد أصالة الاشتغال الثابتة بلحاظ علم تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجماليّ: بانحلال العلم الإجماليّ، من قبيل ما لو علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يُصَلِّ صلاة الوقت الحاضر، أو فاتته صلاة الوقت الماضي، فإنّ صلاة الوقت الحاضر مورد لأصالة الاشتغال بلحاظ العلم التفصيلي بوجوبها، حيث إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراع اليقيني، وليس في المورد أصل مؤمّن.

أمّا الكلام في الأمر الثاني -وهو انحلال العلم الإجماليّ في مورد جريان أصالة الاشتغال في أحد الطرفين بلحاظ العلم التفصيلي- فقد ظهر حاله ممّا مضى، ولم نعقد هذا التنبيه لتفصيل الكلام فيه.

إلاّ أنّ خلاصة الكلام فيه هي: أنـّه تارة يفترض أنّ مورد أصالة الاشتغال لم يكن مجرى لأصل مؤمّن في نفسه، كما في المثال المذكور، وعندئذ يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض، وينحلّ العلم الإجماليّ بذلك.

واُخرى يفترض: أنّ مورد أصالة الاشتغال كان في نفسه مجرى لاُصول مؤمّنة سواء فرضت طولية أو عرضية.

وعندئذ إنْ فرض بعض تلك الاُصول مسانخاً للأصل الجاري في الطرف الآخر، وبعضه غير مسانخ له، جرى الأصل غير المسانخ بلا معارض، وانحلّ العلم الإجماليّ بذلك.

وإن لم يكن كذلك، بأن كانت كلّ تلك الاُصول مسانخة للأصل الجاري في الطرف الآخر، أو كانت كلّها غير مسانخة له، لم يجرِ الأصل، ولم ينحلّ العلم الإجماليّ:

154

مثال الأوّل: أعني فرض كون بعض تلك الاُصول مسانخاً لذاك الأصل وبعضها غير مسانخ ـ : ما لو علم إجمالاً بوقوع خلل في إحدى صلاتين؛ إحداهما حاضرة، والاُخرى فائتة، وكانت تجري في كلّ واحدة منهما قاعدة الفراغ، فتتعارض القاعدتان، ونرجع بالنسبة للصلاة الحاضرة إلى أصالة الاشتغال، وبالنسبة للصلاة الفائتة إلى الأصل غير المتسانخ، ولنفرضه أصالة البراءة عن القضاء مثلاً.

ومثال الثاني: ما لو صلّى صلاة الوقت الحاضر بالطهارة الاستصحابية عن الحدث، ثم علم إجمالاً بأنـّه إمـّا لم يكن طاهراً عند صلاته في الوقت الحاضر، أو أنّ صلاة الوقت الماضي كان فيها خلل، فهنايقول الأصحاب: إنـّه بعد تعارض الاستصحاب في هذه الصلاة، وقاعدة الفراغ في الصلاة الماضية، يرجع إلى أصالة الاشتغال في هذه الصلاة، والبراءة عن القضاء في الصلاة الماضية، لكن الصحيح سقوط هذه البراءة أيضاً بالتعارض، كما يظهر وجهه من مراجعة التنبيه الثاني.

هذا، والأصحاب يقولون في جميع هذه الفروض الثلاثة بالانحلال، ويختلفون في وجه الانحلال حسب اختلافهم في وجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ، فوجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ عند المحقّق العراقي (قدّس سرّه) هو أنـّه إذا وجد منجّز في أحد طرفي العلم الإجماليّ فقد تنجّز به، فالمعلوم بالإجمال على تقدير كونه في هذا الطرف لا يقبل التنجيز بالعلم الإجماليّ؛ إذ هو منجَّز بذاك المنجِّز، ويشترط في منجّزيّة العلم الإجماليّ كون المعلوم بالإجمال قابلاً للتنجز به على كلّ تقدير، فهذا الوجه العامّ طبّقه في المقام أيضاً، وقد مضت منّا فيما سبق مناقشة هذا الوجه.

ووجه الانحلال الحكمي بشكل عامّ عند مدرسة المحقّق النائيني (قدّس سرّه) هو أنّ قوام تنجيز العلم الإجماليّ يكون بتعارض الاُصول، فإذا كان أحد الطرفين مجرى لمنجِّز، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، فيطبّق هذا الوجه في المقام أيضاً، وتحقيق هذا الوجه يظهر بمراجعة التنبية الثاني.

والنتيجة: هي التفصيل بين الفروض الثلاثة بالنحو الذي عرفت.

وأمـّا الكلام في الأمر الأوّل، وهو أنـّه إذا كان أحد أطراف العلم الإجماليّ طرفاً لعلم إجمالي آخر، فهل يوجب هذا انحلاله حكماً بتنجّز أحد أطرافه، أو حقيقةً بواسطة طرفيّة ذاك الطرف لعلم إجماليّ آخر أو لا ؟

فنقول: إن فرض أنّ العلمين متقارنان معلوماً وعلماً، فلا إشكال في عدم

155

انحلال أحدهما بالآخر، كما لو علم بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، وعلم ـ أيضاً ـ في نفس الوقت بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر في نفس زمان المعلوم الأوّل، فإنّ العلمين عندئذ في عرض واحد، ونسبتهما إلى أطرافهما على حدّ سواء، فلا معنى لانحلال أحدهما بالآخر، وإن شئت فقل: إنّ لدينا علماً واحداً، أو يمكن أن يعبّر عن العلمين بعلم واحد، بنجاسة الإناء الأسود أو الانائين الآخرين، ولا إشكال في منجّزيّته، فهذا من قبيل ما لو علم ابتداءً بأنـّه إمـّا الإناء الأسود نجس، أو الإناءان الآخران نجسان.

وأمـّا إذا فرض أحد العلمين مُقدّماً على الآخر معلوما أو علماً، فهنا نظريات ثلاث:

الاُولى: انحلال ما هو متأخّر معلوماً بما هو متقدّم معلوماً، وهو ما قال به المحقق النائيني (قدّس سرّه)(1).

الثانية: انحلال ما هو متأخّر علماً بما هو متقدّم علماً، من دون أثر للتقدّم المعلومي وتأخّره، وأظنّ قويّاً أنّ هذا ما قال به السيّد الاُستاذ، وإن كان الموجود في الدراسات هي النظرية الاُولى(2).

الثالثة: إنكار الانحلال رأساً في جميع الفروض، وهو التحقيق كما يظهر من خلال الكلام.

أمـّا النظرية الاُولى، فمثّل المحقق النائيني (قدّس سرّه) في مقام بيانها أوّلاً بمثال فرض فيه أحد العلمين مقدّماً على الآخر معلوماً وعلماً؛ ليكون الانحلال فيه أوضح، ويساعد على توضيح المطلب، ثم أفرز تقدّم العلم عن تقدم المعلوم، وعمّم مدّعاه وبرهانه. ونحن نتّبعه في ذلك في مقام بيان مقصوده، ونأتي أوّلاً بالمثال الأوّل، أعني: مثال تقدّم العلم والمعلوم معاً، فنقول: إذا علم إجمالاً في أوّل الظهر، بوقوع قطرة دم في الإناء الأبيض أو الأسود، وبعد مضيّ ساعتين مثلاً علم بأنـّه وقعت الآن قطرة من الدم، إمـّا في الإناء الأسود أو الأحمر، فهذا العلم الإجماليّ الثاني لا ينجّز شيئاً في المقام، لأنـّه ليس علماً بالتكليف على كلّ تقدير، بل علم بشيء على بعض التقادير يكون تكليفاً، وعلى بعض التقادير لا يكون تكليفاً، فإنـّه


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 13-14، واجود التقريرات: ج 2 ص 248- 249.

(2) راجع الدراسات: ج 3، ص 237، والمصباح: ج 2، ص 366.

156

على تقدير وقوع القطرة في الإناء الأحمر، أو في الإناء الأسود، مع فرض كون النجس الأوّل هو الأبيض لا الأسود، قد ولّدت القطرة في المقام تكليفاً، لكن على تقدير وقوعها في الأسود، مع كونه هو النجس الأوّل لم تولّد تكليفاً، فليس لنا علم إجمالي بالتكليف، والمنجّز ليس هو مطلق العلم الإجماليّ، وإنـّما هو العلم الإجماليّ بالتكليف، ففي عالم التكليف يكون العلم الإجماليّ في المقام منحلاّ حقيقة.

ثم نأتي إلى صورة إفراز تقدّم العلم عن تقدّم المعلوم، كما لو فرضنا أنـّه علم إجمالاً بعد ساعتين من الظهر بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر من الآن، ثمّ بعد ساعة اُخرى علم بأنـّه من أوّل الظهر كان الإناء الأسود أو الأبيض نجساً، فهنا نقول: إنّ العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر، حينما حصل كان علماً بالتكليف، وكان منجّزاً، لكن بعد حصول العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض سقط ذلك العلم عن التنجيز؛ لأنـّه خرج بقاءً عن كونه علماً بالتكليف؛ لأنـّنا عرفنا الآن أنّ القطرة الواقعة بعد ساعتين من الظهر ـ على تقدير وقوعها في الإناء الأسود ـ لم تؤثّر شيئاً في كونه هو النجس من أوّل الظهر، والعلم الإجماليّ إنـّما يكون منجِّزاً ما دام هو علماً بالتكليف، وإذا خرج عن كونه علماً بالتكليف سقط عن المنجّزية.

وقد ظهر بما ذكر أنّ فرض كون العلم الإجماليّ الثاني متعلّقاً بتكليف آخر من غير سنخ التكليف الأوّل الذي لا يتكرر، خارج عن كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)، ولا يقول فيه بالانحلال، فلو علم أوّلاً بنجاسة أحدهما، ثمّ علم بأنـّه أصبح الآن أحدهما ملكاً لشخص آخر، وحرم شربه من باب حرمة شرب مال الغير، فهنا لا ينحلّ العلم الثاني بالعلم الأوّل؛ لأنـّه علم بتكليف جديد غير التكليف الأوّل، إذ حرمة الغصب حرمة اُخرى، غير حرمة شرب النجس، فهو يعلم بالتكليف على جميع التقادير، حتّى على تقدير كون المغصوب هو الإناء الأسود، مع كونه هو النجس من أوّل الأمر، فإنـّه ـ عندئذ ـ يحرم بحرمة اُخرى، غاية الأمر أنـّه تتجلّى هذه الحرمة في لباس التاكّد.

هذا تمام الكلام في ذكر مقصود المحقّق النائيني (قدّس سرّه).

أقول: إنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل في المقام، فلو علم من أوّل الظهر بوقوع الدم في أحد الإنائين: الأبيض أو الأسود، ثمّ علم بعد ساعتين بوقوع قطرة اُخرى من الدم الآن في الأسود أو الأحمر، فماذا يقصد المحقّق النائيني (قدّس سرّه) بعدم كون العلم الثاني علماً بالتلكيف؟

157

إن كان يقصد بذلك أنـّنا لا نعلم بكون هذه القطرة الثانية سبباً للتكليف، فهذا صحيح؛ إذ على تقدير وقوعها في الإناء الأسود، مع كونه نجساً من أوّل الامر ليست سبباً للتكليف، لكنْ لا يشترط في حصول العلم بالتلكيف حصول العلم بكون هذه القطرة سبباً للتكليف، بل حصول العلم بكونها ملازمة للتكليف ـ أيضاً ـ يساوق العلم بالتكليف، ولا إشكال في أنـّنا نعلم بأنّ هذه القطرة ملازمة للتكليف على كلّ تقدير، فإنـّها إمّا واقعة في إناء نجس في نفسه نكون مكلفين بالاجتناب عنه، أو في إناء طاهر في نفسه، فأوجبت تكليفاً بالاجتناب عنه. ولو اشترط في التنجيز حصول العلم بالسببية، للزم الانحلال حتّى بشكّ بدوي، فلو احتمل بدواً نجاسة الإناء الأسود، ثمّ علم إجمالاً بوقوع القطرة في الإناء الأسود أو الأحمر، لا يكون هذا منجّزاً؛ إذ لا نعلم بكون القطرة سبباً للتكليف؛ لأنـّها على تقدير وقوعها في الإناء الأسود، وكونه نجساً من قبل، لا يؤثّر شيئاً. وهذا كما ترى.

وأمـّا إنْ اعترف بحصول العلم بعد ساعتين من الظهر بما يلازم التكليف المساوق للعلم بالتكليف، لكن كان مقصوده أنـّه لم يحصل العلم بحدوث تكليف، فهذا ـ أيضاً ـ صحيح؛ إذ على تقدير وقوع القطرة فيما كان نجساً من قبل، لم يحدث تكليف جديد، لكن لا يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ كونه علماً بتكليف حادث.

وهكذا الحال لو كان مقصوده أنـّه ليس هذا علماً بتكليف آخر غير التكليف الأوّل، ونحو ذلك من العناوين، فإنّ المنجّز إنـّما هو العلم بالتكليف بلا حاجة إلى أيّ واحد من هذه العناوين، كعنوان الآخر أو الحادث، أو نحو ذلك، بل يكفي العلم بأصل التكليف، سواء كان حدوثياً أو بقائياً، ولا إشكال في أنـّه بوقوع القطرة الثانية حصل لنا علم بثبوت التكليف: إمـّا بالاجتناب عن الإناء الأسود، أو بالاجتناب عن الإناء الأحمر، غاية الأمر أنـّه يحتمل كون هذا التكليف بقائياً، كما هو الحال ـ أيضاً ـ في المثال الذي ذكرناه من فرض الشكّ البدوي في نجاسة الإناء الأسود، والعلم الإجماليّ بوقوع قطرة بعد ذلك فيه أو في الأحمر؛ إذ التكليف على تقدير وقوعها في الأسود وكونه نجساً من قبل بقائي لا محالة(1).


(1) وكذلك لو كان مقصوده (رحمه الله) أنّ هذا العلم ليس علماً بتكليف آخر، غير التكليف الأوّل، ونحو ذلك من العناوين، قلنا: إنّ المنجّز إنـّما هو العلم بالتكليف، بلا حاجة إلى فرض تعلّق العلم بأيّ واحد من هذه العناوين، كعنوان الآخر أو الحادث أو نحو ذلك.

158

وأمـّا النظرية الثانية، وهي النظرية القائلة: بأنّ الميزان في الانحلال هو تقدّم أحد العلمين بنفسه، فالمدّعى في هذه النظرية: هو أنّ منجّز أحد أطراف العلم الإجماليّ بعلم إجمالي سابق يوجب انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر، سواء كان بمعلومه ـ أيضاً ـ متأخّراً أو لا، مثلاً إذا علم في أوّل الظهر بنجاسة الإناء الأبيض أو الأسود، ثمّ علم في أوّل الغروب بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر، سواء كان علماً بالنجاسة من الآن، أو من أوّل الظهر مثلاً، فالعلم الإجماليّ الثاني منحلّ بتنجيز أحد طرفيه من قبل، ومن المعلوم أنّ المدّعى هنا ليس هو الانحلال الحقيقي؛ إذ لا معنى لدعوى الانحلال الحقيقي للعلم الإجماليّ بمجرّد تنجّز أحد طرفيه بعلم إجمالي آخر، وإنـّما المدّعى هو الانحلال الحكمي.

وقد عرفت أنـّه في الانحلال الحكمي يوجد على العموم مسلكان:

أحدهما: مسلك المحقق العراقي (قدّس سرّه): من أنـّه مع تنجّز أحد الطرفين بمنجِّز آخر لا يقبل المعلوم بالإجمال التنجيز بالعلم الإجماليّ على كلّ تقدير، فلا يمكن تأثير العلم الإجماليّ.

والآخر: نظرية مدرسة المحقّق النائيني (قدّس سرّه) : من أنـّه عند تنجز أحد الأطراف لا تتعارض الاُصول، ففي ما نحن فيه يجب أن يكون ما قد يتوهّم من الانحلال على أحد هذين المسلكين:

أمـّا الانحلال على أساس المسلك الأوّل، فيمكن أن يتوهّم في المقام بلحاظ أنّ أحد الطرفين قد تنجّز من السابق بالعلم الأوّل، فلا يقبل التنجّز ثانياً، فلا يكون المعلوم بالعلم الثاني قابلاً للتنجّز به على كلّ تقدير، فيسقط العلم عن التأثير.

لكن التحقيق بعد غضّ النظر عن بطلان هذا المسلك في نفسه: أنـّه غير قابل للتطبيق على ما نحن فيه؛ وذلك لأنّ العلم الإجماليّ في كلّ آن إنـّما يؤثّر التنجيز بوجوده في ذلك الآن، ولا يكون وجوده في الآن الأوّل مؤثّراً للتنجيز في الآن الثاني، ففي وقت الغروب قد اجتمع على الإناء الأسود منجّزان في عرض واحد: أحدهما: العلم الإجماليّ الأوّل بوجوده البقائي، والآخر: العلم الإجماليّ الثاني بوجوده الحدوثي، وليس أحدهما قبل الآخر حتّى يرجَّح في تأثيره على الآخر، فيصبح مجموعهما منجّزاً واحداً لهذا الإناء الأسود، فكأنّ فكرة الانحلال على هذا الأساس مبنيّة على تخيّل أنّ العلم السابق بوجوده الابتدائي نجّز هذا الإناء، فهو منجّز بمنجِّز سابق. وأمـّا توهّم الانحلال على هذا الأساس عند وجود منجِّز تفصيلي في أحد

159

الطرفين فهو بإعتبار ركاكة أن يقال: إنّ الذي أثّر هو المنجِّز بالحدّ الإجماليّ دون المنجِّز بالحدّ التفصيلي مثلاً، أو يقال بكلمة اخرى: إنّ العقلاء الذين هم المدركون لمسألة التنجيز والتعذير وخصوصيّاتهما يأبون عن تقديم منجِّز الحدّ الإجماليّ، على منجِّز الحدّ التفصيلي، دون العكس، فيوثّر هذا المنجّز، ولا يبقى مجال لتأثير ذاك المنجّز.

وهذا البيان -كما ترى- على فرض تماميته في نفسه لا يأتي في المقام، فإنـّه يوجد في المقام منجّزان إجماليّان في عرض واحد(1).

 


(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) لا يقول في مورد تعلّق علم تفصيلي بأحد طرفي العلم الإجماليّ بالانحلال الحكمي، بنكتة تقديم تأثير العلم التفصيلي في التنجيز على تاثير العلم الإجماليّ فيه، وإنـّما يقول بذلك بنكتة أنّ العلم الإجماليّ والتفصيلي لا يمكن أن يبقيا علّتين تامّتين للتنجيز، وإلاّ لزم اجتماع علّتين على معلول واحد في متعلّق العلم التفصيلي، فيتحوّل كلّ منهما إلى جزء علّة، ويكون المجموع علّة واحدة للتنجيز، وبهذا يسقط التنجيز في الطرف الآخر، لأنـّه اختصّ بأحد جزئي العلّة.

وقد يقال: إنّ نظير هذا البيان يأتي فيما نحن فيه أيضاً، فكلّ من العلمين الإجماليين المتداخلين في أحد الطرفين - سواء فرضنا أحدهما متقدّماً زماناً، أو فرضناهما متعاصرين- يصبح جزء علّة في تنجيز الطرف المشترك؛ لاستحالة اجتماع علّتين على معلول واحد، ويسقط التنجيز في الطرفين الآخرين؛ لاختصاص كلّ واحد منهما بأحد جزئي العلّة.

وقد يجاب عن ذلك: بأنـّه فيما نحن فيه قد تكوّن في الحقيقة العلم الإجماليّ: إمـّا بنجاسة الطرف المشترك، أو بنجاسة الطرفين الآخرين، وهذا العلم هو المنجّز لكلّ الأطراف.

وقد يورد على ذلك: بأنّ هذا العلم الإجماليّ الثالث مع العلمين الأوّلين تشترك جميعاً في التنجيز، ويصبح كلّ منها جزء علّة للتنجيز في الطرف المشترك، ويبقى الطرفان الآخران بلا تنجيز؛ لأنّ كلاّ منهما اختصّ بجزئي العلّة من بين أجزاء ثلاثة للعلّة.

وقد يجاب عن ذلك: بأنّ العلمين الآخرين مندكّان في العلم الثالث، ولا توجد في الحقيقة علوم ثلاثة، وإنـّما العلمان الآخران كلّ منهما جزء تحليلي من العلم الثالث.

وقد يورد على ذلك: بأنـّه لِمَ لا تقولون بمثل هذا في مورد العلم الإجماليّ مع تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفيه، بأنّ يقال: إنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين مع العلم التفصيلي

160


بنجاسة الأوّل منهما يرجعان بروحهما إلى العلم الإجماليّ بين الأقلّ والأكثر، أي: العلم بنجاسة الأوّل أو نجاستهما معاً، وربما أنـّهما غير ارتباطيين. هذا عين الانحلال الحقيقي الذي أنكره المحقق العراقي، فعليه: إمـّا أنْ يعترف بالانحلال الحقيقي في مورد تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجماليّ، أو أنْ لا يقول في المقام باندكاك العلمين في علم ثالث، ويقول بالانحلال الحكمي فيه بلحاظ الطرفين غير المشتركين.

إلاّ أنّ الواقع: أنّ هذا النقض غير وارد على المحقق العراقي، فإنـّه إنـّما يقول (رحمه الله) بعدم الانحلال في مورد تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجماليّ، ببرهان أنّ احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر لا زال موجوداً، وطبعاً هذا الاحتمال ليس مندكّاً في طرف العلم التفصيلي وموجوداً في أحشائه، وكذلك لو ارجعناه إلى الأقلّ والأكثر، فاحتمال الأكثر ليس مندكّاً ضمن احتمال الأقلّ، وموجوداً في أحشائه. وأمـّا في المقام، فاحتمال انطباق الجامع المعلوم في كلا العلمين الأوّلين على الطرف غير المشترك، موجود ضمن احتمال انطباق الجامع المعلوم في العلم الثالث على الطرفين غير المشتركين، ومندكّ فيه، فدعوى اندكاك العلمين الأوّلين في الثالث ـ فيما نحن فيه ـ لا تلازم دعوى الانحلال في مورد تعلّق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجماليّ.

وهذا البيان يأتي حتّى لو لم نبنِ على برهنة المحقّق العراقي على عدم الانحلال باحتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر، بأن اخترنا برهاناً آخر على عدم الانحلال؛ وذلك لأنّ احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر ـ على أيّ حال ـ شرط في عدم الانحلال، فقد يقول منكر الانحلال هناك ومدّعي اندكاك العلمين في الثالث هنا: إنّ الفرق هو أنّ احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر لم يكن موجوداً في احشاء العلم التفصيلي، أو احتمال الأقلّ، وثابتاً ضمنه، في حين أنّ احتمال انطباق الجامع في المقام في العلمين الأوّلين على الطرف غير المشترك موجود في احشاءه احتمال انطباق الجامع في العلم الثالث على الطرفين غير المشتركين، ويكون كلّ منهما جزءاً منه، ولهذا قلنا هنا بالاندكاك، ولم نقل هناك بالانحلال.

ثمّ إنّ المستفاد من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله) في نهاية الأفكار: أنّ الوجه في عدم انحلال العلم الإجماليّ الثاني انحلالاً حكمياً بالعلم الإجماليّ الأوّل، هو أنّ العلم الإجماليّ الأوّل وإن كان سابقاً زماناً، لكنّ تأثيره في التنجيز في كلّ آن إنـّما هو بوجوده في ذاك الآن، فهما في

161

هذا، والمحقّق العراقي (قدّس سرّه) بنفسه اعترف بعدم تأتّي نظرية الانحلال هنا(1).

وأمـّا الانحلال على أساس المسلك الثاني، فقد يتوهّم ـ أيضاً ـ في المقام بلحاظ أنّ الإناء الأسود ليس مورداً للأصل؛ لتساقط أصله مع أصل الإناء الأبيض من قبل، فحينما يوجد العلم الثاني يكون الأصل في الإناء الأحمر خالياً عن المعارض.

وهذا قد انقدح جوابه ممّا ذكرناه بالنسبة للمسلك الأوّل، فهنا ـ أيضاً ـ نقول:


المقام بمنزلة العلمين المتعاصرين.

نعم، لو كنّا نفترض أنّ العلم الأوّل بوجوده الحدوثي، يوجب التنجيز إلى الأبد، لتمّ الانحلال في المقام؛ لأنّ أحد الطرفين قد تنجّز بالعلم السابق، فيبقى الطرف الآخر بلا منجّز.

أقول: إنّ توجيه هذا الكلام ـ وهو الانحلال على تقدير كفاية العلم الأوّل للتنجيز إلى الأبد ـ يكون بأنْ يقال: إنّ العلم الأوّل، وإن كان في قطعته الوجودية المعاصرة للعلم الثاني مندكّاً هو والعلم الثاني في علم ثالث، وهو العلم بنجاسة الثاني أو الأوّل والثالث، وهذا العلم يقتضي تنجيز كل الأطراف، ولكنّه في قطعته الوجودية السابقة ليس مندكّاً في العلم الثالث، لعدم معاصرته إيّاه، فلو فرضنا كفاية تلك القطعة الوجودية للتنجيز إلى الأبد، فإمّا أن يكون معنى ذلك أنّ ما تنجّز بها يبقى متنجّزاً إلى الأبد، ولا يعقل تأثير منجّز آخر عليه؛ لأنـّه تحصيل للحاصل، أو يكون معنى ذلك: أنّ القطعة الوجودية الاُولى للعلم الأوّل، تصبح هي مع أيّ علّة للتنجيز ـ فرضت في الزمان الثاني- علّة كاملة للتنجيز، فيكون كلّ منهما جزء علّة، سنخ ما يقال في سائر موارد اجتماع علّتين على معلول واحد.

فإن قلنا بالأوّل فالنتيجة هي: أنّ الإناء الأوّل والثاني اللذين هما طرفان للعلم الأوّل قد تنجّزا بالعلم الأوّل، ويبقى الإناء الثالث بلا منجّز؛ لأنّ العلم الإجماليّ بتنجّز الثاني أو الأوّل والثالث قد سقط عن التأثير في بعض أطرافه، فسقط عن التاثير في كلّ الأطراف حسب ما هو المفروض في مبنى المحقّق العراقي. من عدم إمكان تاثير العلم الإجماليّ في بعض الأطراف دون بعض.

وإن قلنا بالثاني فقد أصبح هذا العلم الإجماليّ الثالث جزء علّة في تنجيز الإناء الأوّل والثاني، والجزء الآخر هو القطعة الوجودية الاُولى للعلم الأوّل، ويبقى الإناء الثالث مختصّاً بأحد جزئي العلّة، فيسقط ـ أيضاً ـ عن التنجّز بعدم وجود علّة تامّة توجب التنجيز فيه.

(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 337.

162

إنّ تعارض الاُصول وتساقطها في كلّ آن فرع تنجّز حرمة المخالفة القطعيّة في ذلك الآن، المتفرّع على وجود العلم الإجماليّ في نفس ذلك الآن؛ ولذا لو زال العلم في أيّ زمان، واحتمل أنّ ما تخيّل نجاسته لم يكن نجساً، يرتفع التنجّز، ويتمسّك بإطلاق دليل الأصل بالنسبة لهذه القطعة من الزمان، فالمنجّز في ساعة الغروب لحرمة المخالفة القطعيّة بالنسبة للإناء الأبيض والأسود ليس هو وجود العلم الإجماليّ الأوّل في أوّل الظهر، وإنـّما يكون ذلك العلم منجِّزاً لها بوجوده البقائي الآن، وهو في عرض الوجود الحدوثي للعلم الإجماليّ الثاني، المنجّز لحرمة المخالفة القطعيّة بالنسبة للإناء الأسود والأحمر، وتعارض الأصلين في الإناء الأسود والأبيض وتساقطهما في هذا الآن يكون بملاك تنجّز حرمة المخالفة القطعيّة في هذا الآن، لا فيما سبق، فيكون للأصل في الإناء الأسود معارضان في عرض واحد: أحدهما: الأصل في الإناء الأبيض، والآخر الأصل في الإناء الأحمر(1).

فتحصّل: أنّ هذه النظرية الثانية ـ بأيّ لحاظ كانت ـ بالنسبة للمسلك العامّ في الانحلال الحكمي لا ترجع إلى مُحصَّل.

وقد ظهر من تمام ما ذكرناه: أنّ المتعيّن هو المصير إلى النظرية الثالثة، وهي القول بعدم الانحلال رأساً.

 

 


(1) سيأتي ـ إن شاء الله منه (رحمه الله) ـ في التنبيه الثاني عشر جواب آخر عن شبهة جريان الأصل في الطرف الثاني للعلم الثاني، بسبب سقوط الأصل في طرفه الأوّل مسبقاً، بالتعارض مع الأصل في الطرف الآخر للعلم الأوّل.

163

 

 

 

الأثر المختصّ ببعض الأطراف

 

التنبيه السادس : فيما إذا كان أثر مشترك في جانبي العلم الإجمالي، وأثر زائد في أحدهما.

ذكر المحقق النائيني(1) (قدّس سرّه): أنـّه إذا كان كذلك، كما لو علم بنجاسة هذا الماء، أو ذاك المضاف، فهنا أثر مشترك في كلا الجانبين، وهو حرمة الشرب، وأثر مختصّ بالأوّل، وهو عدم جواز الوضوء، فالعلم الإجمالي يؤثّر بالنسبة للأثر المشترك، ويكون الأثر الزائد شكّاً بدوياً، فلا مانع من جريان الأصل بلحاظه. واكتفى (قدّس سرّه) في بيان المطلب بهذا البيان الساذج.

وذكر في الدراسات(2): أنّ الصحيح هو تنجّز الأثر الزائد أيضاً؛ وذلك لأنّ الأثر الزائد كان ينفيه نفس الأصل الذي ينفي الأثر المشترك، وهو أصالة الطهارة، والمفروض سقوطه في المقام، فيبقى احتمال عدم صحة الوضوء به بلا مؤمّن.

وهذا ظاهره: أنـّه يسلّم مع المحقّق النائينيّ (قدس سره) خروج هذا الأثر عن دائرة العلم الإجماليّ، وإنـّما يقول مع ذلك بلزوم مراعاته من باب عدم المؤمّن بعد سقوط الأصل بتنجّز الأثر المشترك، وعليه فينبغي أنْ يفصِّل بين ما لو كان الأثر الزائد منفياً بنفس الأصل النافي للأثر المشترك، كما في هذا المثال، فتلزمه مراعات ذلك الأثر، أو كان منفيّاً بأصل مستقلّ كما لو علم إجمالاً بأنـّه استقرض من زيد خمسة دنانير، أو من عمرو عشرة دنانير، فإنـّه تجري أصالة البراءة عن الزائد مستقلاً، فلا تلزمه مراعاة ذلك الأثر؛ لأنّ احتماله لم يبقَ بلا مؤمّن، إذ له أصل مستقلّ عن الأصل الساقط بتنجّز الأثر المشترك.


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 16. وأجود التقريرات: ج 2، ص 250.

(2) الدراسات: ج 3، ص 238. المصباح: ج 2، ص 367.

164

والصحيح هو كون الأثر الزائد داخلاً في دائرة العلم الإجماليّ، وتوضيح ذلك: أنـّه تارة يفرض الأثر المشترك، والأثر الخاصّ في موضوع واحد، ويكون العلم الإجماليّ بالنسبة للأثر المشترك بلحاظ السبب، كما لو علم إجمالاً بأنـّه استدان من زيد خمسة دنانير، أو نذر أن يعطيه عشرة دنانير، وهذا في الحقيقة خارج عمّا نحن فيه، ولا إشكال في جريان البراءة عن الزائد، لدوران الأمر بين الأقل والأكثر، فإنْ فرضا استقلاليّين، كما في الدين والنذر الانحلاليّ، فالبراءة جارية بلا كلام، وإن فرضا ارتباطيّين، كما في النذر ونحوه، إذا كان بنحو العموم المجموعيّ، فأيضاً تجري البراءة على ما يأتي (إن شاء الله) من أنّ التحقيق في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هو جريان البراءة.

واُخرى يفرض الأثر في موضوعين، كما في مثال الماء والمضاف، ومثال الاستدانة من زيد أو من عمرو، وعندئذ إن كان الأقلّ والأكثر غير ارتباطيّين، كما هو الحال في مثال الدين، ومثال الماء والمضاف، فقد يتوهّم خروج الأثر الزائد عن دائرة العلم الإجمالي، ويمكن استقراب ذلك بهذا الوجه الصوريّ، وهو أنْ يقال: إنـّنا نعلم بخطاب لا يكون العمل بالزائد دخيلاً في امتثاله، وهو الخطاب بالأثر المشترك المردّد بين هذا الموضوع وذاك الموضوع، ولا نعلم وجود خطاب آخر غيره يكون ذلك دخيلاً في امتثاله.

لكن هذا غير صحيح، فإنـّه كما يمكن أنْ يقال: إنـّنا نعلم بخطاب لا يكون لترك الوضوء بهذا الماء دخل في امتثاله، وهو الخطاب بترك الشرب فى أحدهما، كذلك يمكن عكس المطلب، بأنْ يقال: إنـّنا نعلم إجمالاً بخطاب لا يكون لترك شرب الماء دخل في امتثاله، وهو الخطاب بترك شرب المضاف، أو بترك الوضوء بذلك الماء، ولا نعلم بوجود خطاب آخر غيره يكون ترك شرب الماء دخيلاً في امتثاله.

وهذا يكشف عن أنـّه يوجد في الحقيقة عندنا علمان إجماليّان مشتركان في طرف واحد، وهو الأثر المشترك في الجانب الذي لا يوجد فيه الأثر الزائد، والطرف الآخر في أحدهما هو الأثر المشترك فى الجانب الذي يوجد فيه الزائد، وفي الآخر هو الأثر الزائد فيه، و قد مضى أنـّه في مثل ذلك لا ينحلّ أحد العلمين الإجماليّين بالآخر.

وأمـّا إن كان الأقلّ والأكثر ارتباطيّين، كما لو علم إجمالاً بأنـّه نذر بنحو العامّ

165

المجموعيّ، إمـّا إعطاء خمسة دنانير لزيد، أو إعطاء عشرة دنانير لعمرو، فالأثر الزائد داخل في دائرة العلم الإجماليّ، حتى لو قلنا بعدم دخوله فيها في الفرض الأوّل؛ وذلك لعدم تأتّي ذلك الوجه الصوري هنا، بأنْ يقال: نعلم إجمالاً بخطاب لا يتدخّل الزائد في امتثاله، ونشكّ في خطاب آخر يتدخّل ذلك في امتثاله، فإنّ المفروض أنّ الزائد مرتبط مع الأقلّ في أحد الطرفين فلا نعلم إجمالاً بخطاب لا يتدخّل الزائد في امتثاله.

وقد تحصّل أنّ الصحيح هو عدم جريان الأصل بلحاظ الأثر الزائد، بلا فرق بين كون الأقلّ والأكثر ارتباطيّين، أو استقلاليّين وبين كون أصل الزائد هو عين أصل المشترك، أو مستقلاًّ في نفسه.

نعم يتّجه عندنا التفصيل: بين ما لو كان للأثر الزائد أصل مستقلّ غير مسانخ لأصل الأثر المشترك وما لو لم يكن كذلك، ففي الثاني لا يجري الأصل، ولكن في الأوّل يجري الأصل؛ لأنّ دليل أصل الأثر المشترك أصبح مجملاً، فلا يبقى معارض لأصل الأثر الزائد.

بقي في المقام شيء: وهو أنـّه مضى منّا أنّ الموضوع إن كان واحداً جرى الأصل بالنسبة للأثر الزائد، ونقول هنا: إنّ السيّد الاُستاذ استثنى في الدراسات ما إذا وجد أصل حاكم على الأصل الترخيصي في الأثر الزائد. وهذا الكلام من القضايا التي قياساتها معها، وإنـّما ذكرناه هنا لأجل التطبيق الذي وقع منه، وهو في غير محلّه، حيث مثّل لذلك بما لو علمنا بنجاسة الثوب: إمـّا بالدم وإمـّا بالبول، فإذا كان متنجّساً بالبول وجب غسله مرّتين، وإذا كان متنجساً بالدم وجب غسله مرّة واحدة، فوجوب الغسل الثاني في المتنجّس بالبول أثر زائد، ولكن لا يمكننا الرجوع إلى أصالة عدم وجوبه، لوجود أصل حاكم، وهو استصحاب النجاسة بعد الغسل الأوّل، وقبل الغسل الثاني، فالمرجع هو هذا الاستصحاب.

أقول: يرد عليه إشكالان: أحدهما: ما ذكره في جانب الأصل المحكوم، والآخر: في جانب الأصل الحاكم .

أمـّا الأوّل: فلأنـّه لا معنى لإجراء أصالة البراءة عن وجوب الغسلة الثانية، إذ ليس لذلك وجوب تكليفيّ، وإنـّما وجوبه وضعيّ، بمعنى أنـّه لا يطهر إلّا أذا غسله مرّتين.

وأمـّا الثاني: فلأنّ استصحاب بقاء النجاسة هنا محكوم باستصحاب آخر، بناءً

166

على ما يسلّمه هو من وجود عموم فوقانيّ، يدلّ على أنّ المتنجّس يطهر بالغسل بالماء مرّة واحدة، ولكن قيّد ذلك بما ورد من أنّ المتنجّس بالبول لابدّ من غسله مرّتين، فإنـّه بناءً على هذا يجري هنا استصحاب موضوعيّ ينقّح موضوع الطهارة؛ لأنّ موضوع حصول الطهارة بغسلة واحدة قد أصبح له جزءان: أحدهما: ما يستفاد من الدليل العامّ، من كون الشيء متنجّساً، وهذا ثابت بالوجدان، والآخر: ما يستفاد من المقيّد، وهو عدم كون ما لاقاه بولاً، أو عدم ملاقاته للبول، ومدخول العدم على الأوّل منحلّ عرفاً إلى ملاقاة شيء، وكون ذلك الشي بولاً، وعليه فبناءً على استصحاب العدم الأزليّ، يمكننا الرجوع إلى استصحاب عدم بوليّة الملاقى، وبناءً على أنّ الجزء الثاني هو عدم ملاقاته للبول، يوجد استصحاب العدم النعتيّ أيضاً، وهو استصحاب عدم ملاقاته للبول، ولا يعارض ذلك باستصحاب عدم دميّة الملاقى، أو عدم ملاقاته للدم؛ لأنـّه لا أثر لذلك؛ إذ لو قصد من ذلك نفي النجاسة، فنحن نقطع بالنجاسة، ولو قصد نفي أثر زائد، فليس للدم أثر زائد.

 

 

167

 

 

 

العلم الإجماليّ في الأحكام الظاهريّة

 

التنبيه السابع: قد عرفت حتى الآن حكم العلم الإجمالي الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، وأمـّا العلم الإجماليّ الوجدانيّ بالحكم الظاهريّ، كما لو قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين، أو قل: العلم التعبّديّ بالحكم الواقعيّ، فهذا على قسمين: إذ تارةً يكون العلم الإجمالي في طول قيام الحجّة على فرد معيّن، كما لو شهدت البيّنة بنجاسة أحد الإناءين معيّناً، ثمّ تردّد عندنا بين هذا وذاك، واُخرى يكون الإجمال فى نفس البيّنة، أي: أنّ البيّنة بنفسها تشهد من أوّل الأمر بنجاسة فرد مردّد، بشرط أن لا نعلم أنـّها في الحقيقة تعلم بنجاسة فرد معيّن عنده، وإنـّما ترديده يكون من باب الإجمال في البيان فقط، وإلّا فهو داخل في القسم الأوّل.

 

العلم الإجماليّ في طول قيام الحجّة

أمـّا الكلام في القسم الأوّل وهو ما لو قامت البيّنة على نجاسة فرد معين وتردّد عندنا بين فردين ـ فلا إشكال في أنّ هذا كالعلم الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، وينجّز وجوب الموافقة القطعيّة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعيّة، إلّا أنّ هناك فوارق فنّية بين هذا العلم الإجمالي والعلم الإجمالي الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، قد تؤدّي أحياناً إلى ثمرة عملية، فلابدّ من التدقيق في إبراز تلك الفوارق، حتى يُرى أنـّه على أيّ منهما تترتّب ثمرة عمليّة فنقول:

الفارق الأوّل: وهو فارق جوهري بين علاقات الاُصول بعضها مع بعض في هذا العلم الإجماليّ، وعلاقات الاُصول بعضها مع بعض في العلم الإجماليّ الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، كما لو رأينا وقوع قطرة دم في أحد الإناءين، وذلك هو أنّ الاُصول في أطراف العلم الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، كان بابها باب تعارض الحجّة بالحجّة؛ لحجّيّة الأصل في كلّ من الطرفين لولا الأصل الآخر، وأمـّا فيما نحن فيه، فهنا قسمان من الاُصول، قسم يجري بلحاظ التأمين عن الواقع، كأصالة الطهارة

168

واستصحابها، والتي هي مؤمِّنات في عرض المنجِّز، فهي تؤمّن عن الواقع، والبيّنة تنجّز الواقع، لكنّ البيّنة تقدّم على الأصل على ما ثبت في الفقه، وهذه الاُصول ليس بابها باب تعارض الحجّة بالحجّة، بل بابها باب اشتباه الحجّة باللاحُجّة؛ لأنّ أحد الأصلين معيّناً قد قامت في مورده البيّنة على النجاسة المفروض تقدّمها عليه، فهو غير حجّة، وقد اشتبه بالآخر، ولا ندري ما هو، فقد علمنا بعدم حجّيّة واحد منها معيّن عند الله مردّد عندنا، وعندئذ نشكّ في كلّ واحد من الأصلين أنـّه هل هو حجّة أو لا، فيأتي دور إثبات حجّيّته بالتمسّك بالقسم الثاني من الاُصول، وهي الاُصول التي تكون في طول المنجِّز، وتؤمّن عن ذلك المنجِّز، والحكم الظاهري كاستصحاب عدم قيام البيّنة على النجاسة، وهذه الاُصول تتعارض فيما بينها تعارض الحجّة بالحجّة، لأنـّنا نعلم إجمالاً بقيام البيّنة في أحد الجانبين، ونسبة هذه الاُصول إلى هذا العلم هي نسبة الاُصول المؤمّنة عن الواقع إلى العلم الإجمالي الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ، وكما كنّا نقول هناك: إنّ الاُصول المرخّصة مضادّة بحسب الارتكاز العقلائيّ للغرض الإلزاميّ الواقعيّ المعلوم بالإجمال. كذلك نقول هنا: إنّ الاُصول المرخِّصة مضادّة بحسب الارتكاز العقلائي؛ لاهتمام الشارع المعلوم بالإجمال بغرضه الإلزامي عند التزاحم في عالم المحرّكيّة.

هذا. ولا يفترق فيما ذكرناه من كون القسم الأوّل من الاُصول بابها باب تعارض الحجّة باللاحجّة؛ لقيام البيّنة في مورد واحد منها معيّناً، وحجّيّتها فيه، بين ما يقول به الأصحاب من أنّ تنافي الأحكام الظاهريّة العرضيّة يكون بوجودها الواصل، و ما هو المختار عندنا من أنّ تنافيها يكون بوجودها الواقعي. توضيح ذلك: أنّ الأحكام الظاهرية التي تكون في مرتبة واحدة، اي: ليس أحدها ناظراً إلى حال الآخر نفياً وإثباتاً في حال الشكّ فيه، إنـّما تتنافى عند الأصحاب في صورة الوصول، فأصالة الطهارة مثلاً مع حجّيّة البيّنة على النجاسة إنـّما تتنافيان في فرض الوصول، إذ هي في فرض الوصول تؤثّر في التنجيز والتعذير، ويستحيل اجتماع التنجيز والتعذير معاً، وأمـّا في أنفسهما فلا تنافي بينهما؛ إذ الأحكام الظاهرية ليست إلّا مجرّد إنشاءات مثلاً، وعليه فلو شكّ بدويّاً في مورد تجري فيه أصالة الطهارة في أنـّه هل قامت بيّنة فيه على النجاسة أو لا، فهذا الشكّ لا يمنع عن التمسّك ابتداءً بأصالة الطهارة، سواء فرض دليل حجّيّة البيّنة مخصّصاً أو حاكماً أو وارداً، لأنّ البيّنة لم تصل حتى يقع التنافي بين أصالة الطهارة وحجّيّة البيّنة،

169

وتقدّم البينة عليها بالتخصيص أو الحكومة أو الورود، ولا معنى لتقدّم انشاء على انشاء، فلا مانع من حجّيّة أصالة الطهارة أصلاً.

وأمـّا نحن فلمّا اخترنا أنّ الأحكام الظاهرية ليست مجرّد انشاءات جوفاء، بل تشتمل على روح وحقيقة تكون عبارة عن شدّة الاهتمام بالفرض الواقعي، وعدم الاهتمام به، قلنا عندئذ: إنّ التنافي بينها ثابت بوجودها الواقعي، لتنافي الاهتمام مع عدم الاهتمام ذاتاً، وعليه ففي هذا المثال إنـّما نتمسّك بأصالة الطهارة بعد رفع محذور احتمال وجود البيّنة التي تقدّم بحجّيّتها عليها، سواء كان بالورود أو بالحكومة أو بالتخصيص، باستصحاب عدم قيام البيّنة، ولكن فيما نحن فيه، لا يفترق الحال بكون التنافي بين الأحكام الظاهرية بوجودها الواقعي أو بوجودها الواصل؛ إذ المفروض أنّ البيّنة واصلة إلينا ولو بالعلم الإجمالي، وهذا المقدار من الوصول كاف في المقام، لأنّ المفروض أنّ البيّنة تنجّز، ولو علمت بنحو العلم الإجمالي، فيقع التنافي بين التنجيز والتعذير.

وهذا الفارق الجوهريّ الذي بيّناه بين علاقات الاُصول بعضها مع بعض في هذا العلم الإجماليّ، وعلاقاتها في العلم الإجماليّ الوجدانيّ بالحكم الواقعي حتى الآن لم يؤدِّ إلى ثمرة عمليّة، لكن ينتهي إلى ثمرة عمليّة بلحاظ بعض ما يترتّب عليه من الفوارق كما سوف يظهر ـ إنْ شاء الله ـ .

الفارق الثاني: ما يترتّب على الفارق الأوّل، وهو أنـّه إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي مورداً للأصل المثبت، والطرف الآخر مورداً للأصل النافي، كما لو قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين معيّناً، واشتبه بإناء آخر، وكان أحدهما مورداً لاستصحاب النجاسة، والآخر مورداً لاستصحاب الطهارة، فهنا كما نقول في فرض العلم الوجدانيّ بنجاسة أحد الإناءين بالرجوع إلى استصحاب الطهارة في الإناء المسبوق بالطهارة، كذلك نقول بذلك هنا، لكن يختلف الأمر في فلسفة الموقف الفنّيّ، فهناك كنّا نقول: إنّ استصحاب الطهارة في هذا الطرف غير مبتلىً بالمعارض فيجري، وهنا نقول: إنّ استصحاب الطهارة في الإناء المسبوق بالطهارة يحتمل عدم حجّيّته. لقيام البيّنة على خلافه، فنرجع إلى استصحاب عدم قيام البيّنة على النجاسة في ذلك المورد، ولا يعارض باستصحاب عدم قيام البيّنة على النجاسة في الطرف الآخر، فإنّ الطرف الآخر في نفسه مستصحب النجاسة، فإن بنينا على أنّ البيّنة لا تقدّم على الأصل المطابق لها، بل يجريان معاً، فالاجتناب عن الإناء الآخر منجَّز ـ

170

على أيّ حال ـ باستصحاب النجاسة، وضمّ منجِّز إلى منجّز مع وحدة المنجَّز لا أثر له، فالبيّنة في ذلك الجانب، وجودها وعدمها على حدّ سواء، فلا يجري استصحاب عدم البيّنة هناك حتى يعارض استصحاب عدم البينة هنا، وإن بنينا على أنّ البيّنة تقدّم على الأصل الموافق لها، فالأمر أيضاً كذلك، فإنـّه وإن كنّا لا نعلم عندئذ بجريان استصحاب النجاسة في الطرف المسبوق بالنجاسة، لكنّنا على أيّ حال نعلم تفصيلاً بتنجّز الاجتناب عنه، إمـّا لكونه مورداً لاستصحاب النجاسة، أو لكونه مورداً لقيام البيّنة على النجاسة، فلا يجري استصحاب عدم البيّنة، وعليه فاستصحاب عدم البينة في الطرف الأوّل يكون ـ على أيّ حال ـ بلا معارض، وبعد إجرائه نتمسّك باستصحاب الطهارة أو أصالتها، فالنتيجة هي عين النتيجة في فرض العلم الوجدانيّ بالتكليف الواقعيّ، إذن فإلى هنا لم ننتهِ إلى أثر عملي للفرق بين العلمين.

الفارق الثالث: ما يترتّب ـ أيضاً ـ على الفارق الأوّل في فرضيّة اُخرى غير فرضيّة الفارق الثاني، ويتجلّى فيه الأثر العمليّ، وذلك كما إذا فرض في الطرفين أصلان عرضيّان نافيان مع أصل طولي ناف، كما إذا فرض أنـّه يجري في كلّ من الطرفين استصحاب الطهارة، وفي أحد الطرفين توجد في طول ذلك أصالة الحلّ، وفي الطرف الآخر لا يوجد أصل ناف طوليّ في عرض أصالة الحلّ، وعندئذ إن كان العلم علماً وجدانيّاً بالحكم الواقعي، كنّا نقول بالرجوع إلى أصالة الحلّ في الطرف الذي يوجد فيه هذا الأصل، إمـّا لما يقوله المحقق العراقي (قدس سره) من أنـّه بناءً على الاقتضاء يتعارض الأصلان العرضيّان ويتساقطان، وتصل النوبة إلى الأصل النافي الطوليّ، ولا يسقط بالمعارضة لكونه طوليّاً، أو لما يقوله السيّد الاُستاذ من إجمال دليل الاستصحابً؛ لعدم شموله لكلا الاستصحابين، وكون شموله لأحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجّح، وعدم إجمال دليل أصالة الحلّ؛ لاختصاصها في نفسها بأحد الطرفين،

وأمـّا في فرض العلم الإجمالي بقيام البيّنة على نجاسة أحدهما المعيّن، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة الحلّ في الطرف الذي يكون مورداً لأصالة الحلّ، سواء كان الوجه في الرجوع إلى أصالة الحلّ في العلم الوجدانيّ بالحكم الواقعيّ هو البيان الأوّل، أو كان هو البيان الثاني.

أمـّا على الأوّل فلأنـّه هنا لم يتعارض الأصلان العرضيّان، بل أحدهما حجّة، والآخر غيرُ حجّة، ونعلم إجمالاً بان مورد أصالة الحلّ إمـّا يوجد فيه الاستصحاب

171

الحاكم على أصالة الحلّ، أو البيّنة الحاكمة عليها، فنعلم تفصيلاً بعدم جريان أصالة الحلّ.

وأمـّا على الثاني، فلأنّ دليل الاستصحاب ليس مجملاً، لما قلنا من انّ الأصلين ليس كلّ منهما في نفسه حجّة، بل أحدهما حجّة والآخر غير حجة، فبناءً على أنّ استصحاب الطهارة مقدّم على أصالة الحلّ نعلم ـ أيضاً ـ تفصيلاً بعدم جريان أصالة الحلّ، إمـّا للاستصحاب، أو للبيّنة، وبناءً على عدم تقدّمه عليه، تكون أصالة الحلّ حالها حال استصحاب الطهارة في هذا الطرف في الدخول في دائرة اشتباه الحجّة باللاحجّة، فإنـّه نعلم إجمالاً بأنـّه إمّا أن لا يكون الاستصحاب في ذاك الطرف حجّة؛ لقيام البينة على الخلاف، أو لا يكون الاستصحاب ولا أصالة الحلّ في هذا الطرف حجّة؛ لقيام البيّنة على الخلاف.

 

قيام الحجّة في طول العلم الإجماليّ:

وأمـّا الكلام في القسم الثاني: وهو ما لو كانت الحجّة في طول العلم الإجماليّ لا العكس، كما لو شهدت البيّنة بنفسها على نجاسة أحد الإناءين بنحو الترديد، فيقع في مقامين:

أحدهما: في أنّ مثل هذه البيّنة هل تكون حجّة في نفسها، أو لا؟ وهل تكون حجّيّتها بحيث تقتضي الموافقة القطعيّة، وتدفع البراءة العقلية في الأطراف، أو لا؟

وثانيهما: في أنـّه بعد الفراغ عن حجّيّتها في نفسها، هل تقدّم على الاُصول الشرعيّة في الأطراف ـ كما تقدّم على الأصل في موردها فيما لو شهدت البيّنة على نجاسة شيء معين، حيث لا إشكال في تقدمها على أصالة طهارته ـ أو لا؟

أمـّا المقام الأوّل: فلا إشكال في حجّيّة البيّنة في المقام على مبنانا في كيفيّة فهم الحكم الظاهريّ من أنـّه مهما كان لونه ولسانه من حكم تكليفيّ أو جعل التنجيز، أو الطريقية أو غير ذلك، فواقعه هو إبراز الاهتمام بالواقع على تقدير ثبوته في حال الشكّ، كاهتمامه به في حال العلم، فعلى هذا المبنى كما نقول في البيّنة القائمة على نجاسة شيء معيّن: بأنّ دليل حجّيّتها يدلّ على أنـّه وإن كان يوجد احتمال مخالفة البيّنة للواقع، لكن يهتمّ المولى بالواقع على تقدير مصادفتها حتى في ظرف وجود هذا الاحتمال، كما لو لم يوجد هذا الاحتمال، وكان يعلم تفصيلاً بنجاسة هذا

172

الشيء، كذلك نقول في البينة القائمة على نجاسة أحد الفردين: بأنّ دليل حجّيّتها يدلّ على أنـّه وإن كان يوجد احتمال مخالفتها للواقع، لكن يهتمّ المولى بالواقع على تقدير المصادفة، حتى مع وجود هذا الاحتمال، كما لو لم يكن موجوداً، وكان يعلم إجمالاً بنجاسة أحد الشيئين، وعليه، فكما أنـّه لو كان يعلم بنجاسة أحدهما كان ذلك موجباً لوجوب الموافقة القطعيّة، كذلك الأمر في فرض قيام البيّنة على أحدهما؛ إذ العلم باهتمام المولى بغرضه المردّد ـ حتى مع الشكّ في أصل الغرض، كما لو لم يكن شكّ فيه ـ يحتّم بحكم العقل على العبد الموافقة القطعيّة. كما كان يحتّم عليه ذلك العلم بنفس الغرض المردّد، وهذا واضح على مبانينا.

ولكن جملة من مباني مدارس الأصحاب الآخذة في حقيقة الحكم الظاهريّ ببعض ألسنة بيان الحكم الظاهريّ تواجه المشكلة في هذا المقام، ونذكر على سبيل المثال جملة منها:

فمنها ـ ما يظهر من كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ (1) من أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن التنجيز والتعذير، فعلى هذا المبنى يشكل الأمر في المقام، فإنّ دليل حجّيّة البيّنة إن قيل بأنـّه ينجّز هذا الطرف بالخصوص، أو ذاك الطرف بالخصوص، فهو ترجيح بلا مرجّح، ونسبة البيّنة إليهما على حدّ سواء، والدليل إنـّما دلّ على تنجيز مفاد البيّنة، وليس مفاد البيّنة هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص، بل نفرض أنّ البيّنة بنفسها لا تعلم أنّ هذا بالخصوص نجس أو ذاك، والفرد المردّد ليس شيئاً حتى ينجّز بالبيّنة، وإن قيل بأنّه ينجّز الجامع، اتّجه التخيير، ولا وجه لوجوب الموافقة القطعيّة، بل يجوز شرب أحدهما، بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي يُؤمن بها المحقق الخراساني (قدس سره)، ولا يقاس ذلك بما يقوله (رحمه الله) من منجّزيّة العلم الإجماليّ للواقع إن قيل بأنّ العلم متعلّق بالجامع، ومع ذلك ينجّز الواقع، فإنّ منجّزيّة العلم حيث كانت بحكم العقل أمكن أنْ يُدّعى ـ كما هو الصحيح ـ: أنّ العلم الإجمالي بالرغم من تعلّقه بالجامع يحكم العقل بمنجّزيّته للواقع، أمـّا في المقام فهل نُسري التنجيز من الجامع إلى الواقع بحكم العقل، أو بحكم الشرع؟ فإن قيل بالأوّل، فهو خلف فرض أنّ أصل التنجيز هنا شرعيّ، وإن قيل بالثاني، يرد عليه: أنّ دليل حجّيّة البيّنة، إنـّما يدلّ على تنجيز مفاد


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 44 حسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

173

البيّنة لا أكثر، والبيّنة إنـّما شهدت بمقدار الجامع.

ومنها ـ ما ذهب إليه المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من جعل الطريقيّة (1) على فرق دقيق بين طريقيّته وطريقيّة المحقق النائيني (رحمه الله) مضى ذكره في بحث الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وهو (قدس سره) يقول بأنّ العلم الإجمالي إنـّما ينجّز الواقع؛ لأنـّه يتعلّق بالواقع.

وعليه، نقول في المقام: إنّ هذه البيّنة هل تنجّز هذا الطرف بعنوانه، أو ذاك الطرف بعنوانه، أو الواقع، أو الجامع؟ فالأوّل والثاني ترجيح بلا مرجّح، وتنجيز لغير مفاد البيّنة، والثالث لا يتمّ فيما إذا احتمل كذب البيّنة، لا مجرّد خطئها واشتبهاها؛ لأنّ نسبة البيّنة إلى الواقع ـ لو كان هناك واقع ـ وغيره على حدّ سواء، وليس الحال في ذلك هو الحال في العلم الإجماليّ الذي فرض المحقّق العراقيّ أنـّه ينجّز الواقع؛ لتعلقه بالواقع(2)، فيتعّين الرابع، ويلزم جواز الاكتفاء بترك أحدهما تخييراً، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة.

نعم، على مبنى المحقّق النائينيّ (قدس سره) منّ أن العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، ومع ذلك ينجّز كلا الطرفين (3) ببيان مضى في محلّه، لا يرد هذا الإشكال، فإنّه قد


(1) لا يخفى أنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) يقول بالطريقيّة في باب الأحكام الظاهرية بمعنيين:

الأوّل ـ ما يقوله في خصوص الأمارات من جعل العلم وتتميم الكشف، إلّا أنـّه لا يرى هذاإلّامجرّدصيغة من الصيغ، لا يختلف روح الحكم الظاهريّ به، عن روحه من موارد الاُصول العمليّة.

والثاني ـ ما يراه عبارة عن روح الحكم الظاهريّ، وهو كونه إنشاءً حاكياً عن لبّ الإرادة القائمة بالمتعلّق وإبرازاً لها، وتكون دائرة إنشائها أوسع من دائرة لبّ الإرادة الواقعيّة، فإنـّها تختصّ بالواقع، في حين أنّ الحكم الظاهريّ قد يخطىء الواقع.

راجع المقالات: ج 2، ص 6 و 19. ونهاية الافكار: القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص18 ـ 20 والقسم الثاني من الجزء الثالث، ص 327.

(2) نعم على الوجه الثاني من وجهي قوله (رحمه الله) بوجوب الموافقة القطعيّة، حسب ما ورد في نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 300 و 309، يمكن حلّ الإشكال في المقام، حيثُ ادّعى (قدس سره) في هذا الوجه: أنّ العلم الإجماليّ حتى لو فرض تعلّقه بالجامع، لابُدّ من موافقته القطعيّة؛ لأنـّه ينظر إلى الجامع مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، وهذا ـ كما ترى ـ لو تمّ يأتي في المقام أيضاً، فإنّ البيّنة تشهد بالجامع مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه ولو شهادة كاذبة.

(3) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 345.

174

ثبت في المقام العلم بالجامع تعبّداً، وذلك ينجّز كلا الطرفين بنفس البيان الذي اختاره هناك.

ومنها ـ المذهب التقليديّ الموروث عن الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن جعل حكم مماثل للمؤدّى، على شرط احتمال مطابقته للواقع، وعليه ـ أيضاً ـ يشكل الأمر في المقام؛ إذ لو فرض جعل الحكم في هذا الطرف بالخصوص، أو ذاك الطرف بالخصوص، لم يكن ذلك مماثلاً للمؤدّى، ولو فرض جعل الحكم بالجامع لم تجب الموافقة القطعيّة، مضافاً إلى أنّ هذا خلف فرض اشتراط احتمال المطابقة للواقع لأنـّا نعلم أنّ الواقع إمـّا هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص(1)، ومن هنا كان الإشكال على هذا المذهب أشدّ منه على ما مضى.

ثم لو فرضنا عدم احتمال كذب البيّنة، وإنّ احتمال الخلاف كان منحصراً في احتمال الخطأ و الاشتباه، وسلّم ـ أيضاً ـ أنّ العلم الإجماليّ يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فعندئذ يمكن رفع الإشكال على مبنى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) بأن يقال: إنّ الشارع جعل لنا العلم بما تعلم به البيّنة، والمفروض تعلّق علمها بالواقع، وأنّ علم البيّنة ينجّز عليها وجوب الموافقة القطعيّة، فإذا جُعِلَ لنا علم كعلمها نجّز ذلك علينا وجوب الموافقة القطعيّة.

ولكن لا يمكن رفع الإشكال بذلك على مبنى جعل المنجّزيّة والمعذّريّة، بأن يقال: إنّ الشارع جعل المنجّزية للواقع، فإنـّنا نحتمل خطأ البيّنة، وعلى تقدير الخطأ لا يوجد واقع ينجّز، كما لا يوجد مفاد للبيّنة يقتضي تنجيزه الموافقة القطعيّة، وهذا بخلاف فرض قيام البيّنة على نجاسة شيء معيّن، فإنّ الشارع قد جعل هناك مفاد البيّنة منجّزاً، وتنجيز ذاك المفاد يوجب الموافقة القطعيّة ولو فرضت بيّنة خاطئة.

كما لا يمكن أيضاً رفع الإشكال بذلك على مبنى الشيخ الأعظم من جعل الحكم المماثل، بأنْ يقال: إنّ الشارع حكم بالواقع حكماً مماثلاً لمفاد البيّنة، فإنـّنا لو علمنا بعدم خطأ البينة، فقد علمنا وجداناً بنجاسة أحد الإناءين، ولا حاجة إلى حجّيّة البيّنة، ولو احتملنا خطأها، فما معنى حكم الشارع بالواقع؟!

وعلى أيـّة حال، فهذا إشكال تواجهه هذه المدارس؛ لانشغالها بالألفاظ عن


(1) قد يقال: نكتفي في احتمال المطابقة للواقع بالمقدار الموجود في المقام، فإنّ مؤدّى البيّنة على تقدير صدقها وعدم خطئها مطابق للواقع بمقدار الجامع؛ لأنّ الجامع موجود ضمن الفرد.

175

الواقع، وأخذها في حقيقة الحكم الظاهري ببعض ألسنة بيانه(1)، والصحيح هو ما


(1) الواقع: أنّ سقوط البراءات العقليّة في الأطراف، ووجوب الموافقة القطعيّة وعدمه لدى قيام بيّنة على الجامع بين الحكمين، يرتبط بما هو المبنى في حقيقة العلم الإجماليّ، ومدى تنجيزه أكثر ممّا هو مرتبط بفهم حقيقة الحكم الظاهري.

وتوضيح المقصود: أنـّنا بعد فرض الإيمان بأصل قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تارةً نبني في باب العلم الإجمالي على أنـّه متعلّق بالواقع، ومن ثمّ ينجّز الواقع، فتجب الموافقة القطعيّة، واُخرى نبني على أنـّه رغم تعلّقه بالجامع تجب موافقته القطعيّة؛ لأنّ الجامع منظور إليه بما هو مفروغ عن انطباقه وتحصّصه، وثالثة نبني على أنـّه تجب الموافقة القطعيّة؛ لتعارض البراءات العقلية وتساقطها في الأطراف ولو فرض تعلّق العلم بالجامع، ورابعة نبني على أنّ العلم الإجمالي رغم تعلقّه بالجامع يقتضي تنجيز الواقع، أي: أنّ تنجيزه أوسع بما تعلّق به؛ لأنـّنا لا نؤمن بحرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) ونرى أنّ العلم بالجامع يكفي لانتفاء موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بناءً على الإيمان بأصل هذه القاعدة، وهذا المبنى الرابع هو مختار اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فيما مضى، وخامسة نبني على أنّ العلم الإجمالي لا تجب موافقته القطعيّة؛ لأنـّه لم ينجّز أكثر من مقدار الجامع.

فعلى الأخير لا مورد للبحث هنا، إذ حتى على تقدير العلم الإجماليّ الوجدانيّ بالحكم الواقعي لا تجب موافقته القطعيّة، فضلاً عن فرض قيام البيّنة على الجامع، وإنـّما يقع الكلام في المقام على المباني الاُخرى.

فعلى المبنى الأوّل نقول في المقام: إنّ البيّنة إمـّا نقطع بعدم كذبها وإن احتملنا خطأها، أو نحتمل كذبها، فإن قطعنا بعدم كذبها إذن هي تعلم علماً إجماليّاً بأحد الحكمين، وعلمها متعلّق بالواقع حسب الفرض، أي: أنّ المعلوم بالفرض لها هو مقدار الواقع لا مقدار الجامع، والبيّنة ـ طبعاً ـ تشهد بما تعلم، إذن فبأيّ قدرة قادر نفذ علمها إلى مقدار الواقع نفذت شهادتها ـ أيضاً ـ إليه، فتجب موافقتها القطعيّة، كما وجبت الموافقة القطعيّة للعلم الإجماليّ بالواقع، وإنْ شئت فقل: إنّ علم البيّنة حُجّة لنا، وهو متعلّق بالواقع، فقد تنجّز الواقع علينا، ووجب موافقته القطعيّة، وأمـّا إنْ احتملنا كذبها وعدم علمها بالواقع، قلنا: إنّ البيّنة هي تشهد بأنـّها عالمة، وهذه الشهادة حُجّة لنا، اي: أنـّنا نعمل كما كنّا نعمل لو كانت عالمة، ومن المعلوم انّ علمها لو كان فهو نافذ إلى مقدار الواقع حسب الفرض، فقد تنجّز علينا الواقع، وإن شئت فعبّر بأنّ الشهادة بالعلم بالواقع دعوى للشهادة بالواقع، وهذه الدعوى حجّة لنا.

وعلى المبنى الثاني أيضاً تكون البيّنة موجبة لتنجيز الموافقة القطعيّة؛ لأنّ البيّنة وإن تعلّقت بالجامع فنجّزت الجامع، لكنّها قد تعلّقت به بما هو منظور إليه مفروغاً عن انطباقه وتحصّصه، فتنجّزت كذلك، فوجبت الموافقة القطعيّة.

176

اخترناه. وعلى مبانينا لا يرد أيّ إشكال في المقام.

ثم إنـّه يمكن الجواب عن هذا الإشكال حتى بناءً على هذه المدارس، وذلك بأنْ يقال: إنّ المدلول المطابقيّ للبيّنة، وهو شهادتها بالعلم بنجاسة أحد الإناءين وإن لم تتمّ حجيّته بالنحو المقصود، لكنْ توجد لذلك مداليل التزامية، وهي دلالتها على العلم بقضايا شرطيّة بعدد الأطراف، فلو كان عدد الأطراف اثنين مثلاً، فشهادة البيّنة تدلّ بالملازمة على أنّها تعلم بأنّه إنْ كان هذا الإناء طاهراً فذاك نجس، وبأنـّه إنْ كان ذاك طاهراً فهذا نجس، فيشمل إطلاق دليل حجّيّة البيّنة هذه الدلالات الالتزامية من دون إشكال، وذلك ينتج لنا العلم بأنّ أحد الإناءين نجس حتماً، إمـّا واقعاً أو ظاهراً؛ إذ لا يخلو الحال من أنـّه يوجد في البين طاهر في الواقع أو لا، فعلى الثاني يكون كلا الإناءين نجساً واقعاً، وعلى الأوّل يوجد في البين نجس أيضاً بحكم الدلالتين الالتزاميّتين.

 


وعلى المبنى الثالث ـ أيضاً ـ تجب الموافقة القطعيّة؛ لتعارض البراءات العقلية، لتنجّز مقدار الجامع بالبيّنة.

نعم، على المبنى الرابع، وهو أنّ العلم الإجمالي رغم تعلّقه بالجامع ينجّز أكثر ممّا تعلّق به، فهو منجّز للواقع رغم عدم كشفه للواقع بحدوده؛ وذلك لعدم إيماننا بحرفيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) واعتقادنا بكفاية العلم بالجامع؛ لانعدام موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) يمكن القول باختلاف النتيجة حسب اختلاف المباني في حقيقة الحكم الظاهري.

فعلى مبنى اُستاذنا الشهيد من عدم الوقوف على ألسنة الحكم الظاهري، والنفوذ إلى عمقه، وهو اهتمام المولى بغرضه على تقدير وجوده، بقدر الاهتمام على تقدير العلم تجب الموافقة القطعيّة، فإنـّه على تقدير العلم الوجداني بالحكم كانت الموافقة القطعيّة واجبة، حسب الفرض.

في حين أنـّه على مبنى كون حقيقة الحكم الظاهري عبارة عن التنجيز والتعذير قد يقال: إنّ التنجيز يقف على مقدار لسان الأمارة، ولسان الأمارة في المقام إنـّما هو الشهادة بالجامع، وكذلك على مبنى جعل الحكم المماثل قد يقال: إنّ الحكم المماثل جعل بمقدار لسان الأمارة، ولسانها في المقام هو الشهادة بالجامع.

نعم، على مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من جعل العلم قد يقال: إنّ جعل العلم بالجامع يؤدّي عقلاً إلى تنجيز الواقع، كما فرضناه في العلم الوجدانيّ.

أمـّا لو فرضنا جعل العلم مجرّد صيغة ولسان، وقلنا: إنّ الحكم الظاهريّ تكون طريقيّته التي هي روحه بمعنى حكايته للإرادة المتعلّقة بالواقع، فقد يقال: إنّ الحكاية هنا اقتصرت على مقدار الجامع حسب الفرض، فلا مبرّر لوجوب الموافقة القطعيّة.

177

لكنّ التحقيق: أنّ هذا الجواب لا يتمّ دائماً؛ لأنّ ما كان يقول به المحقّقون من الاُصوليّين إلى يومنا هذا من أنّ العلم الإجماليّ يستلزم دائماً علوماً بقضايا شرطيّة بعدد الأطراف، تاليها ثبوت طرف من هذه الأطراف ومقدّمها انتفاء باقي الأطراف غير صحيح؛ لأنّ العلم الإجمالي قد ينتج عن برهان أو ما بحكم البرهان (1)، فيتمّ فيه ما ذكر، وقد ينتج عن حساب الاحتمالات في الأطراف، كما لو علمنا بنجاسة إناء من أواني هذا المسيحي نتيجة لتراكم احتمالات المساورة الثابتة في تلك الأواني، وفي مثل ذلك لا يستلزم العلم الإجمالي تلك العلوم؛ لأنـّه على تقدير انتفاء باقي الأطراف لا يوجد لنا احتمالات نضمّ بعضها إلى بعض، حتى تولّد علماً في المقام، فليس لنا علم على هذا التقدير، ففي مثل ذلك لا يتمّ هذا الجواب مع أنـّهم يلتزمون بوجوب الاجتناب ولو فرض كون منشأ العلم للبيّنة هو حساب الاحتمالات.

وامـّا المقام الثاني: فيوجد هنا إشكال في تقديم إطلاق دليل حجّيّة البينة، بعد الفراغ عن صحّتها في نفسها في المقام الأوّل على إطلاق دليل الأصل؛ وذلك لأنـّه لا يمكن قياس ذلك بفرض قيام البيّنة على نجاسة شيء معيّن، فإنـّه هناك قد عبّدنا الشارع بنجاسة هذا الإناء، وفرض أنّ الأصل إنـّما يجري مع عدم العلم بالنجاسة واقعاً أو تعبّداً، فدليل البيّنة ناف لموضوع دليل الأصل بالحكومة أو الورود، وأمـّا فيما نحن فيه ففي كلّ واحد من الإناءين يكون موضوع دليل الأصل تاماً؛ لعدم العلم بنجاسته واقعاً ولا تعبّداً، غاية الأمر أنـّنا نعلم بجامع النجاسة تعبّداً، أو بالقضيّتين الشرطيّتين بالنحو الذي عرفت، فتقع المعارضة بين دليل حجّية البيّنة ودليل الأصل، ولا يقاس ما نحن فيه بالعلم الوجدانيّ بنجاسة أحد الإناءين، فإنّ العلم الوجدانيّ كان منجِّزاً عقلاً أو عقلائيّاً، فدليل الأصل لو أراد إبطال هذه المنجّزيّة، فهو خلف ما يفرض من عدم تعليقيّة منجّزيّة العلم الإجمالي عقلاً، أو القرينية المتّصلة للارتكاز العقلائيّ في المقام، ولو أراد رفع النجاسة واقعاً، فهو خلف عدم التصويب، ولو أراد رفع العلم، فهو خلف مفروض المسألة، وأمّا في المقام فمنجّزيّة البيّنة إنـّما ثبتت بإطلاق دليل شرعي، فيقع التعارض بين هذا الاطلاق


(1) كأنّ مقصوده (رحمه الله) بما بحكم البرهان حساب الاحتمالات في مرحلة اُخرى غير احتمالات نفس الأطراف، كما لو شهد من نقطع بصدقه، وعدم خطأه بحساب الاحتمالات بأنـّه رأى بعينه نجاسة أحد الإناءين.