67

الترخيص التعييني

الإشكال الأوّل: أنّ إجراء الاُصول في أحد الطرفين معيّناً لا يوجب دائماً مشكلة الترجيح بلا مرجّح، فقد يتّفق إمكان التمسّك بدليل الأصل في أحدهما بعينه بلا لزوم هذا المحذور، وذلك كما لو فرضنا أنّ التكليف الإلزاميّ في أحد الطرفين مظنون وفي الطرف الآخر موهوم ولم يكن ترجيح محتمليّ أو أيّ مرجّح آخر في جانب الموهوم حتّى يزاحم الترجيح الاحتماليّ في جانب المظنون، وعندئذ فلا نحتمل كون الأصل الترخيصيّ جارياً في جانب المظنون دون الموهوم بناءً على ما هوالصحيح من أنّ الأحكام الظاهريّة تكون للتحفّظ على ملاكات نفس الأحكام الواقعيّة في طول الحافظ الأوّل، ولكن نحتمل العكس، والمفروض عدم جريان كلا الأصلين، فنستنتج من ذلك أنّ المظنون خارج عن إطلاق دليل الأصل قطعاً، والجانب الموهوم يحتمل دخوله فيه، فيتمسّك فيه بإطلاقه.

نعم، هذا البيان لا يأتي على مبنى السيّد الاُستاذ وغيره: من أنّ الأحكام الظاهريّة ناشئة من ملاكات في نفسها، إذ ـ عندئذ ـ كما يحتمل وجود الملاك في خصوص الترخيص في جانب الموهوم كذلك يحتمل وجود الملاك في خصوص الترخيص في جانب المظنون.

وعلى أيّ حال، فهذا البيان كما طبّقناه على فرض الترجيح الاحتماليّ كذلك يمكن تطبيقه على فرض الترجيح المحتمليّ، بأن يقال: إذا علمنا بأنّ المعلوم بالإجمال على تقدير ثبوته في أحد الطرفين المعيّن أهمّ منه على تقدير ثبوته في الطرف الآخر، فهنا أيضاً نقطع ـ على مبنانا من كون الأحكام الظاهريّة لأجل الحفاظ على ملاكات الواقع ـ بعدم جريان الأصل في الطرف الأهمّ، ويتمسّك ـ عندئذ ـ بإطلاق دليل الأصل في طرف المهمّ.

وهذا الإشكال سيأتي ـ إن شاء الله ـ في أواخر بحث الإشكال الثاني تعميقه، ببيان شمول العامّ بإطلاقه لعنوان (الفرد الثاني)، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ هناك حلّه بما ورد من دليل خاصّ على الاحتياط في الشبهات المحصورة.

نعم، هذا الوجه وجه سيّال يأتي في غير هذا الباب أيضاً، فيمكن الأخذ به في باب آخر لم يرد فيه دليل خاصّ على خلاف المقصود، فمثلاً لو كان دليل حجّيّة خبر الثقة دالاًّ بإطلاقه على حجّيّة كلّ واحد من الخبرين المتعارضين وكان أحد المخبرين أرجح في ملاك الحجّيّة، وهو الوثاقة ـ لا في صفة اُخرى كالجود والكرم مثلاً ـ أمكن

68

القول بأنـّه لا يسقط الإطلاقان بالتعارض، بل نتمسّك بإطلاق دليل الحجّيّة في خصوص خبر الأوثق بعد القطع بعدم حجّيّة الخبر الآخر، هذا لو لم نقل: إنّ حجّيّة خبر الواحد في نفسها مشروطة بعدم معارضة أماريّتها بأمارة ظنّيّة اُخرى، بأن كان المحذور في الحجّيّة منحصراً في عدم إمكان حجّيّة كليهما، وكون حجّيّة أحدهما ترجيحاً بلا مرجّح.

 

الترخيص التخييريّ

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام(1) من أنـّه لا مانع إثباتيّ عن إجراء الأصل الترخيصيّ في المقام بشكل ينتج التخيير، وجعل هذا نقضاً على من ينكر العلّيّة التامّة للعلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة.

وتقريب الإشكال: هو أنّ القول بتعارض الإطلاقين لكون جريانهما معاً موجباً للترخيص في المخالفة القطعيّة، وجريان أحدهما ترجيحاً بلا مرجّح، إنـّما يتمّ بلحاظ الإطلاق الأحواليّ، فإنّ الإطلاق الأفراديّ لدليل الأصل بالنسبة لكلّ واحد من الطرفين ليس مبتلياً بالمعارض، وإنـّما المحذور ينشأ من الإطلاق الأحواليّ في كلّ واحد من الفردين، حيث إنّ البراءة في كلّ واحد منهما ثابتة بالإطلاق، حتّى في حال ارتكاب الآخر، فيلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة، فنحن إنـّما نلتزم بسقوط الإطلاقين الأحواليّين مع بقاء الإطلاقين الأفراديّين على حالهما، فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، والإطلاق حجّة ما لم يعلم بخلافه، فنقول: إنّ كلّ واحد منهما مرخّص فيه، بحكم البراءة على تقدير عدم ارتكاب الآخر، ولا يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة بارتكاب كليهما، إذ في ظرف المخالفة القطعيّة لا يوجد ترخيص، وعليه فمن ينكر كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة لا بدّ له أن يلتزم بعدم وجوبها، وهذا نظير أنـّه لو ورد : « أكرم كلّ عالم»، وعلمنا من الخارج أنـّه لا يجب إكرام كلّ من زيد وعمرو العالمين تعييناً، فعندئذ لا نقول بجواز ترك إكرام كليهما معاً، بل نتمسّك بإطلاق الدليل لإثبات وجوب إكرام


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 317ـ .32، والمقالات: ج 2، ص 12.

69

كلّ واحد منهما على تقدير عدم إكرام الآخر، وينتج من ذلك التخيير.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام.

وهذا التقريب أحسن ممّا كان يقال قبل صاحب الكفاية من أنّ دليل البراءة وإن لم يجرِ في هذا المعيّن وفي ذاك المعيّن، لكنّه يجري في أحدهما التخييريّ.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم(1) (قدس سره): بأنّ أحدهما التخييري ليس شيئاً وراء هذا المعيّن وذاك المعيّن، وإن اُريد الفرد المردّد ورد عليه إشكال الفرد المردّد.

فشبهة التخيير بالشكل الذي طرحه المحقّق العراقيّ أمتن من التقريب الذي أجاب عنه الشيخ الأعظم بذاك الجواب.

وقد يجاب عنها بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما نقله السيّد الاُستاذ(2) عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله)من أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر، وفي ما نحن فيه الإطلاق ممتنع؛ لمنافاته لحرمة المخالفة القطعيّة، فيمتنع التقييد أيضاً، بأن تكون البراءة في كلّ واحد من الطرفين مقيّدة بعدم ارتكاب الآخر، فتسقط البراءتان رأساً.

وأورد السيّد الاُستاذ عليه(3) بمنع كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، حيث إنّ التقابل بينهما في رأي السيّد الاُستاذ تقابل التضادّ.

وقد مرّ منّا أنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب.

وعلى أيّ حال، فبقطع النظر عن المبنى لا يتمّ هذا الوجه في المقام، ولا حاجة إلى الدخول في المناقشة في المبنى فإنـّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ كلّ واحد من الإطلاقين ليس في نفسه ممتنعاً، وإنـّما الممتنع اجتماعهما، والقابليّة التي تؤخذ في تقابل العدم والملكة إنـّما هي القابليّة في مصبّ التقابل، ومصبّ التقابل في ما نحن فيه ـ وهو كلّ واحد من الإطلاقين في نفسه ـ غير


(1) طريقة البحث في رسائل الشيخ الأعظم تختلف عن هذه الطريقة، راجع الرسائل: ص 245 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 244 ـ 245، ومصباح الاُصول: ج 2، ص354، والدراسات: ج 3، ص 227.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 354، والدراسات: ج 3، ص 228.

70

ممتنع، فلو تعارض مثلاً إطلاقان بالعموم من وجه كأكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، فالجمع بين الإطلاقين ثبوتاً غير ممكن، لكنّ كلّ واحد من الإطلاقين في نفسه ممكن، فهل يتوهّم أحد أنّ الدليلين سقطا حتّى بلحاظ مادّتي الافتراق، لأنّ الإطلاق صار ممتنعاً، فامتنع التقييد بمادّتي الافتراق أيضاً؟ طبعاً لا، ومانحن فيه من هذا القبيل، حيث لم يكن الإطلاق في نفسه ممتنعاً، ولذا يلتزم هو (قدس سره)بجريان أصل واحد، إن لم يكن مبتلى ً بالمعارض، وإنـّما الممتنع هو اجتماع الإطلاقين، وإلاّ لم يجرِ الأصل حتّى بلا معارض، بل لم يجرِ الأصل في غير أطراف العلم الإجماليّ حسب هذه المباني، لأنّ إطلاق دليل البراءة لمورد العلم الإجماليّ ممتنع، فيمتنع تقييده بغير مورد العلم الإجماليّ أيضاً، ثمّ يلزم امتناع حجّيّة خبر الواحد، لأنّ إطلاقها لدليل البراءة ممتنع، فتقييدها بغيره ـ أيضاً ـ ممتنع، بل يمكن التعدّي أزيد من هذا.

وثانياً: أنـّنا قطعنا النظر عمّا ذكرناه، لكن القابليّة التي تؤخذ في باب العدم والملكة ـ الذي بابه في الحقيقة باب الألفاظ لا الواقعيّات ـ إنـّما تؤخذ في جانب العدم لا في جانب الوجود، فمثلاً البصر وعدم البصر متقابلان تقابل السلب والإيجاب، وحينما يراد الإتيان بما يكون تقابله تقابل العدم والملكة يبدّل عدم البصر بالعمى مع إبقاء البصر على حاله، فيقال: إنّ العمى عبارة عن عدم البصر في مورد قابل للبصر، فالجدار الذي لا يقبل البصر لا يصدق عليه العمى، لكن لو وجد ما يكون البصر من ذاتيّاته يصدق عليه البصر وإن لم يكن قابلاً للعمى، فالذي يناسب كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة إنـّما هو امتناع الإطلاق إذا امتنع التقييد، كما ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في بحث التعبّديّ والتوصليّ(1) : أنّ تقييد الأمر بقصد الأمر ممتنع، فكذلك إطلاقه، ولا معنىً لأن يفرّع على كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة امتناع التقييد إذا امتنع الإطلاق كما ذُكر في ما نحن فيه.

الوجه الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ(2)، وهو ـ في الحقيقة ـ إدخال لبعض التصرّفات في المبنى، حيث إنـّه إلى هنا كان البناء على أنّ المحذور في جريان الاُصول في جميع الأطراف، إنـّما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فذُكر أنـّه


(1) راجع أجود التقريرات: ج 1، ص 113، وفوائد الاُصول: ج 1، ص 146.

(2) راجع المصباح: ج 2، ص 355، والدراسات: ج 3، ص 228.

71

بعد تقييد الإطلاق الأحواليّ لا يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، ولكن ذكر السيّد الاُستاذ هنا: أنـّه لاينحصر المحذور في ذلك، بل مجرّد الترخيص القطعيّ في الحرام قبيح ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، ففي المقام وإن لم يلزم الترخيص فيها، إذ في ظرف المخالفة القطعيّة لا ترخيص في المقام، لكنّه يلزم الترخيص القطعيّ في المخالفة، لأنـّنا نقطع عند اشتباه الخمر بالماء مثلاً في مورد العلم الإجماليّ بأنّ الشارع رخّصنا في أن نشرب الخمر بشرط أن نترك شرب الماء، وهذا ترخيص قطعيّ في المخالفة.

ولم يذكر السيّد الاُستاذ وجهاً لما فعله من التصرّف في المحذور المدّعى، من كون الترخيص القطعيّ في المخالفة قبيحاً وإن لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، عدا النقض(1) على القول بجواز إجراء الأصلين لو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، بأنـّه لو جاز هذا للزم أن يجوز إجراء الأصلين من دون تقييد للإطلاق فيما إذا لم يمكن تكويناً الجمع بين الطرفين، كما لو علمنا إجمالاً بأنـّه يحرم في هذا الآن مثلاً الكون في أحد المكانين، ولايمكن الكون في كليهما في آن واحد، فإنـّه ـ عندئذ ـ لا يلزم من إجراء الأصلين الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ لعدم إمكانها، لكنّه يلزم الترخيص القطعيّ في المخالفة(2).

ولنا مع السيّد الاُستاذ كلام في مقامين:

المقام الأوّل: في أنـّه لو سلّم ما ذكره من كون الترخيص القطعيّ في المخالفة


(1) جاء ذكر ذلك في الدراسات، ولم يذكر في المصباح.

(2) وبالإمكان الجواب على هذا النقض: بأنـّه لو فرض أنّ استحالة الجمع لا تبقي مجالاً لإطلاق الترخيص في كلّ من الطرفين لحالة ارتكاب الآخر، فقد رجعنا مرّةً اُخرى إلى تقييد كلّ من الإطلاقين بفرض عدم ارتكاب الآخر، فهذا عين ما نتكلّم عنه، وليس نقضاً عليه، والمحقّق العراقيّ ملتزم بصحته بناءً على نفي العلّيّة، ولو فرض أنّ هذه الاستحالة لا تنافي الإطلاق، فإطلاق الترخيص في كلٍّ من الطرفين لحالة ارتكاب الآخر باق على حاله، رغم استحالة فعله على تقدير ارتكاب الطرف الآخر ولو بمعنى أنـّه لو أمكنك الإتيان بهذا رغم الإتيان بضده فلا بأس بذلك، إذن هذا يعني الترخيص في المخالفة القطعيّة ولو بمعنى أنـّه لو أمكنك محالاً الإتيان بهما فلا بأس بذلك، والترخيص في القبيح قبيح، حتى لدى استحالته على تقدير تصوير الترخيص فيه لدى الاستحالة، فأيضاً لا يصلح هذا نقضاً على ما نحن فيه.

72

محذوراً ـ وإن لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة ـ فهل ترتفع بهذا شبهة التخيير أو لا؟

فنقول: تارةً يفرض أنّ مدّعاه هو محذوريّة الترخيص القطعيّ في المخالفة، إذا كان ترخيصاً فعليّاً قطعيّاً، بمعنى أنـّه لا ضير في الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير معلوم الحصول، وعندئذ فشبهة التخيير وإن كانت ترتفع في مثل ما لو علم بحرمة أحد المائعين؛ إذ لو ترك كليهما يصير كلا الترخيصين فعليّاً لحصول شرطهما، لكن يمكن دعوى التخيير مع إضافة قيد آخر فيما لو فرض أطراف العلم الإجماليّ ثلاثة مثلاً، فإنّ من الممكن أن يقيّد الترخيص في كلّ واحد منهما بترك أحد الآخرين وفعل الآخر، فعندئذ لا يحصل في آن من الآنات القطع بالترخيص الفعليّ في المخالفة، فإنـّه لو ترك الجميع، أو فعل الجميع فلا ترخيص، ولو فعل بعضاً دون بعض كان هناك ترخيص في بعض دون بعض.

إن قلت: كيف يرتكب فعل الأوّل مع أنـّه لم يتحقّق شرط إباحته من فعل أحد الآخرين؟

قلت: أوّلاً: نفرض أنـّه عصى بارتكاب الأوّل، فيجوز له ارتكاب أحد الآخرين بشرط ترك الآخر.

وثانياً: أنـّنا نفرض كون الترخيص في كلّ واحد منها مشروطاً بترك أحد الآخرين، وفعل الآخر في مجموع عمود الزمان ولو متأخّراً، فإذا علم بأنـّه سوف يرتكب الثاني، ويترك الثالث، جاز له ارتكاب الأوّل.

وأتذكّر أنـّي أوردت هذا النقض على السيّد الاُستاذ حينما كنت أحضر بحثه، فلم يأتِ بشيء.

واُخرى يفرض أنّ مدّعاه هو محذوريّة الترخيص القطعيّ في المخالفة، وإن كان مشروطاً بشرط غير معلوم الحصول، فترتفع شبهة التخيير حتى في مثل فرض أطراف العلم الإجماليّ ثلاثة، لكنّ هذاينافي مبناه في باب الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه، حيث يقول هناك(1): إنّ الحكم الواقعيّ ثابت على حاله، وإنـّه يثبت بالاضطرار الترخيص في الوجود الأوّل فحسب، ويبقى العلم الإجماليّ منجّزاً بمقدار المخالفة القطعيّة.


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 250، والمصباح: ج 2، ص 389.

73

فإنّ هذا يرد عليه بناءً على ذلك: أنّ الترخيص في الوجود الأوّل يرجع إلى الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير محرز الثبوت، وتوضيح ذلك: أنّ الوجود الأوّل هنا ليس مجرّد عنوان مشير ـ نظير قوله: إنّ الإمام بعدي خاصف النعل، فعنوان خاصف النعل مجرّد عنوان مشير إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولا يكون غيره إماماً ولو في الواقع فرض خاصف النعل ـ بل عنوان الوجود الأوّل بنفسه له موضوعيّة في المقام، فالقضيّة تنحلّ إلى قضيّتين شرطيّتين، وهما: الترخيص الظاهريّ في هذا الطرف مشروطاً بكونه الوجود الأوّل، والترخيص الظاهريّ في ذاك الطرف مشروطاً بكونه الوجود الأوّل، ويلزم من هذا الترخيص القطعيّ في المخالفة مشروطاً بشرط غير محرز الثبوت.

المقام الثاني : في أنّ الترخيص القطعيّ في المخالفة، هل هو محذور في نفسه وإن لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، أو لا؟. وهنا نحن والسيّد الاُستاذ متّفقون على أصل واضح، وهو أنّ الحكم الظاهريّ ليس بذاته من القبائح كقبح الظلم، ولا من المحالات كاستحالة الدور والتسلسل، وإنـّما استحالته تكون باعتبار مصادمته للحكم الواقعيّ في مرتبة من مراتبه من الجعل، أو مبدأ الجعل أو أثر الجعل، أي ما يتعقّبه من حكم العقل، وعليه نسأل: أنّ الترخيص الظاهريّ فيما نحن فيه لماذا أصبح محالاً؟ وفي أيّ شيء يصادم الحكم الواقعيّ؟

أمـّا مصادمته له في الجعل فالسيّد الاُستاذ يرى في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعي أنّ كلا الجعلين سهل المؤنة لا تضادّ بينهما.

وأمـّا مصادمته له في المبادىء، فهو يرى: أنّ مبدأ الحكم الواقعيّ في متعلّقه، و مبدأ الحكم الظاهريّ في نفسه وليس في متعلّقه، لكي يضادّ مبدأ الحكم الواقعيّ.

وأمـّا مصادمته له في الأثر العقليّ، فليس هناك أثر عقليّ للحكم الواقعيّ المعلوم بالإجمال إلاّ أمران: أحدهما: حرمة المخالفة القطعيّة، والآخر: وجوب الموافقة القطعيّة، فهذا الترخيص القطعيّ يصادم أيّاً من الأثرين؟

أمـّا حرمة المخالفة القطعيّة فلا معنى لمصادمته لها بعد أن كان المفروض عدم استلزام الترخيص القطعيّ في المخالفة للترخيص في المخالفة القطعيّة.

وأمـّا وجوب الموافقة القطعيّة، فلا معنىً ـ أيضاً ـ لمصادمته إيّاه بعد أن كان المفروض أنّ وجوب الموافقة القطعيّة اقتضائيّ معلّق على عدم الترخيص.

فلا يبقى في المقام عدا أن يقال: إنّ الترخيص في المخالفة ـ وإن لم يستلزم

74

الترخيص في المخالفة القطعيّة في نفسه ـ قبيح إذا عرف العبد بأنـّه ترخيص في المخالفة، بحيث إنّ ترخيص المولى في المخالفة ـ مع عدم إحراز العبد لكونه ترخيصاً في المخالفة ـ ليس قبيحاً، ولكن بضمّ اطّلاع العبد على ذلك يصبح قبيحاً، وهذا شيء لا نتعقّله، وعهدته على مدّعيه، وهو خلف ما مضى من الأصل المسلّم بيننا: من أنّ الحكم الظاهريّ محذوره إنـّما هو المصادمة للحكم الواقعيّ ببعض مراتبه، لا أنـّه في نفسه محذور من المحاذير.

الوجه الثالث: ما لعلّه مذكور في الدراسات(1) : من أنّ الحكم الظاهريّ يجب أن يكون محتمل المطابقة للواقع، فلو علمنا مثلاً بالكراهة أو الإباحة، لا يكون الحكم الظاهريّ فيه الحرمة، وإن أمكن جعل الحرمة في ذلك، فهو حكم واقعيّ لا ظاهريّ، وعليه فالإباحة المشروطة بترك الآخر غير معقولة في ما نحن فيه؛ إذ لا نحتمل الإباحة المشروطة في شيء من الطرفين، بل أيّ واحد منهما إمـّا حرام مطلقاً، أو مباح مطلقاً.

ويرد عليه: أنـّه لا وجه لاشتراط احتمال مطابقة الحكم الظاهريّ للواقع، وإنـّما يشترط فيه أمران: أحدهما: الشكّ، والآخر: كون الحكم الظاهريّ صالحاً للتنجيز المحتمل أو التعذير عنه، لأنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن الخطاب الناشىء من تزاحم الملاكات الواقعيّة، وإعمال قوانين التزاحم، فلو انتفى الشكّ لم يكن هناك تزاحم، ولو لم يكن الحكم الظاهريّ صالحاً للتنجيز المحتمل أو التعذير عنه لم يكن إعمالاً لقوانين باب التزاحم، وتقديم أحد الجانبين على الآخر مثلاً، فلو علمنا مثلاً بالكراهة، فلا معنىً للحكم الظاهريّ؛ لعدم الشكّ، ولو علمنا إجمالاً بالكراهة أو الإباحة، فلا معنىً للحكم الظاهريّ بالحرمة، لعدم صلاحيّته لتنجيز المحتمل أو التعذير عنه. وأمـّا الإباحة المشروطة في ما نحن فيه فهي صالحة للتعذير عن الواقع تعذيراً ناقصاً، أي: مختصّاً بفرض ترك الآخر.

الوجه الرابع: أن يقال: إنّ هنا إطلاقين أفراديّين، وإطلاقين أحواليّين، لو تحفّظنا عليها كلّها لزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلابدّ من رفع اليد عن اثنين من أربعة، وهذا كما يمكن برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليّين، كذلك يمكن برفع اليد عن الإطلاق الأحواليّ والأفراديّ من أحد الجانبين، ويرتفع بذلك أيضاً


(1) وقع في الدراسات وفي المصباح الخلط بين هذا الوجه والوجه السابق.

75

المحذور، وتقديم الطريقة الاُولى على الثانية ترجيح بلا مرجّح، وكذلك العكس، فتتساقط الكلّ.

ويرد عليه: أنّ رفع اليد عن الإطلاق ليس جزافيّاً، وإنـّما هو بملاك التعارض، والإطلاق الأفراديّ في أحد الطرفين ليس معارضاً لأيّ من الإطلاقين الأفراديّ والأحواليّ في الطرف الآخر، إذ يرتفع محذور المخالفة القطعيّة برفع اليد عن إطلاق أحواليّ واحد في أحد الجانبين، والتحفّظ على الإطلاقات الثلاثة الاُخرى، وإنـّما التعارض يكون بين الإطلاقين الأحواليّين، وهذا التعارض يجبرنا على رفع اليد عن أحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما، ورفع اليد عن أيّ واحد منهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فنرفع اليد عنهما معاً. وأمـّا الإطلاق الأفراديّ فلا يوجد أيّ ملاك لرفع اليد عنه؛ إذ ملاك التساقط هو التعارض، والإطلاق الأفراديّ ليس مبتلياً بالمعارض، ولا معنىً لإسقاطه اُسوةً له بالإطلاق الأحواليّ.

الوجه الخامس: أن يقال: كما يمكن تقييد الإطلاق في كلّ واحد من الطرفين بعنوان الأوحديّ، كذلك يمكن تقييده بعنوان الوجود الأوّل، وتقديم الترخيص في الوجود الأوحديّ على الترخيص في الوجود الأوّل ترجيح بلا مرجّح، وكذلك العكس، فيتساقط جميع الترخيصات.

وهذا أيضاً يظهر جوابه من جواب الوجه السابق، فإنّ الإطلاق يجب التحفّظ عليه بأكبر قدر ممكن، ويرفع اليد فقط عن المقدار الذي يكون سبباً لتولّد المحذور، فإن كان إطلاق معيّن مولّداً للمحذور يرفع اليد عنه، وإن كان مجموع إطلاقين أو إطلاقات مولّداً للمحذور يرفع اليد عن ذينك الإطلاقين، أو عن تلك الإطلاقات، ونحن متسالمون على أنـّه لا محذور في كون عنوان الأوحديّ داخلاً تحت الإطلاق. وأمـّا عنوان الوجود الأوّل، فإن سلّمنا منكم أيضاً عدم المحذور في شمول الإطلاق له، أضفناه إلى عنوان الأوحديّ تقليلاً للتقييد بقدر الإمكان، ولا يكون شمول الإطلاق لكلّ من عنواني الأوحديّ والوجود الأوّل موجباً للترخيص في المخالفة القطعيّة، حتى يتعارضا، وإن لم نسلّم ذلك تعيّن ما ذكرناه من ثبوت الإباحة على عنوان الأوحديّ.

والصحيح: أنـّه لا يمكن التحفّظ على الإطلاق بلحاظ عنوان الوجود الأوّل، لأنّ إطلاق الحديث لعنوان الوجود الأوّل في كلّ واحد من الطرفين معارض بإطلاقه لعنوان الوجود الثانيّ في الطرف الآخر، إذ تلزم من مجموعهما المخالفة القطعيّة،

76

وليس التحفّظ على الإطلاق في أحد الطرفين للوجود الأوّل بأولى من التحفّظ على إطلاق الثاني للوجود الثاني.

ولا يتوهّم أنـّه يلزم من إطلاق الثاني للوجود الثاني الترخيص في المخالفة القطعيّة لو شرب الأوّل عصياناً أو نسياناً مثلاً، فإنّ القبيح هو مجموع العمل الذي به تحصل المخالفة القطعيّة، وليس جزء هذا العمل ـ إن كان مأذوناً فيه ـ قبيحاً، والمفروض أنّ المولى لم يرخّص في المجموع، وإنـّما رخّص في الجزء الثاني فقط، وليس معنى الترخيص فيه الترخيص في أن يأتي بالأوّل حتى تصل النوبة إلى الثاني، والشيء الذي رخّص فيه إنـّما هو مخالفة احتماليّة، وإنـّما لزمت المخالفة القطعيّة من الجمع بين ما رخّص فيه وما لم يرخّص فيه، فإن كان عن عمد كان معاقباً، وليس الحرام الذي لا يمكن الترخيص فيه عنوان المخالفة القطعيّة، حتى لا يمكن الترخيص في الجزء الأخير من علّته، وإنـّما الذي لا يمكن الترخيص فيه هو واقع المخالفة القطعيّة، وهو غير صادق على الوجود الثاني.

الوجه السادس: أن يقال: إنّ الترخيص في المقام إنـّما يعقل بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ الترخيص بلا قيد.

2 ـ الترخيص مع تقييد الموضوع بأن يرخّص المولى في حصّة من شرب أحدهما، وهي الحصّة المقترنة بترك الآخر.

3 ـ الترخيص مع تقييد الحكم بترك الآخر، بأن يرخّص المولى في طبيعيّ شرب هذا أو ذاك ترخيصاً مقيّداً بترك الآخر، فالمرخّص فيه هو طبيعيّ شرب هذا الإناء، ولكنّ الترخيص ليس في كلّ الحالات، بل في حالة ترك الآخر، ولايرد عليه عدم احتمال مطابقته للواقع لما مضى.

وشيء من هذه الترخيصات غير معقول:

أمـّا الأوّل، فللزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وأمـّا الثاني، فلأنّ الشرب المقيّد بترك الآخر ليس بهذا العنوان محتمل الحرمة، حتى يأتي التأمين الظاهريّ عن هذا العنوان، وإنـّما المحتمل حرمته هو طبيعيّ الشرب مطلقاً، وقد مضى مراراً أنّ الإطلاق رفض للقيود، لا جمع بين تمام القيود.

وأمـّا الثالث، فلأنـّه لامعنىً لكون الحكم مقيّداً والموضوع مطلقاً، بأن يسري

77

الترخيص المقيّد بترك الآخر إلى جميع حصص الشرب حتى الشرب غير المقترن بترك الآخر، فلا محالة يصير الموضوع مقيّداً، فنرجع إلى الوجه الثاني، وقد عرفت إشكاله.

وهذا جواب كنّا نجيب به عن شبهة التخيير بناءً على مبنى السيّد الاُستاذ من الإطلاق اللحاظيّ، ولكن لا يتمّ على مبنانا من الإطلاق الذاتي.

وتوضيح ذلك: أنـّه تارةً يفرض أنّ الإطلاق عبارة عن مؤنة زائدة كالتقييد، وهو لحاظ السريان ورفض القيود، وهذا ماسمّيناه بالإطلاق اللحاظيّ، واُخرى يفرض أنّ الإطلاق ليس إلاّ عبارة عن عدم لحاظ القيد، أي أنّ جعل الحكم على الطبيعة المهملة بنفسه يقتضي السريان لاقتضاء الطبيعة المهملة السريان، فلا نحتاج في مقام السريان لدى جعل الحكم على الطبيعة المهملة، إلاّ إلى عدم المانع، وهذا ما سمّيناه بالإطلاق الذاتيّ.

فإن قلنا بالأوّل تمّ ما ذكرناه من الجواب، فإنـّه إن لوحظ العنوان المقيّد، ورد عليه ما مضى: من أنّ الشرب بهذا العنوان ليس حراماً، وإن لوحظ السريان ورفضُ القيود، فإن كان الحكم مطلقاً لزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، وإن كان مقيّداً، قلنا: إنّ تقييده مع لحاظ السريان مستحيل.

وإمـّا إن قلنا بالثاني ـ كما هو الصحيح ـ، فلا يأتي هذا البيان، فإنـّنا نختار أنـّه لوحظ طبيعيّ الشرب في الترخيص، لا الشرب المقيّد بقيد ترك الآخر، فلا يرد إشكال: أنّ هذا العنوان ليس هو الحرام كي نحتاج إلى التأمين عنه، وفي نفس الوقت يكون الحكم، وهو الترخيص مقيّداً بترك الآخر، فلم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، ولم يكن هذا التقييد منافياً لإطلاق الشرب المرخّص فيه، إذ ليس معنى إطلاقه لحاظ السريان، وإنـّما معنى إطلاقه عدم لحاظ القيد، وهو إنـّما يوجب سريان الحكم إلى جميع الحصص لدى عدم المانع، وتقييد الحكم بفرض ترك الآخر أصبح مانعاً عن السريان.

الوجه السابع: أنّ دليل البراءة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون من قبيل حديث الرفع الذي مضى أنـّه لا ينظر إلى علاج التزاحم بين الغرض الإلزاميّ المعلوم وغيره، وإنـّما ينظر إلى علاج التزاحم بين الغرضين الاحتماليّين.

والثاني: الاستصحاب.

78

والثالث: أحاديث الحلّ.

أمـّا القسم الأوّل ـ فقد عرفت أنـّه لا يثبت في نفسه الترخيص في مقابل الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال، فلايجري حتى مع عدم الإبتلاء بالمعارض، كما لو اختصّ الأصل بأحد الطرفين لمانع من إجراءه في الطرف الآخر.

وأمـّا القسم الثاني ـ وهو الاستصحاب، فهو قد جعل بلسان فرض الكاشفيّة واعتبارها، حيث يقول: لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً، والتبعيض في الكاشفيّة بأن يقال: إنّ الكاشف عن طهارة هذا الإناء موجود إن تركت شرب ذاك الإناء خلاف المتفاهم العرفي، حيث إنّ هذا القيد غير مربوط بباب الكشف، وليس هذا من قبيل تقييد الاستصحاب بفرض عدم وجود أمارة على الخلاف.

نعم، لو ورد دليل بالخصوص على جريان الاستصحاب في كلّ واحد من الجانبين على تقدير ترك الآخر، فنحن نقبله؛ إذ ليس من اللازم أن يتبع الشارع دائماً في قوانينه الأذواق العرفيّة، لكن حيثما لم يرد هذا بالخصوص، وإنـّما قصد استفادته من الإطلاق، فعدم تعقّل العرف للتبعيض في الكاشفيّة يوجب عدم انعقاد ظهور للكلام في الإطلاق.

وأمـّا القسم الثالث ـ وهو أخبار الحلّ، فهو وإن كان ناظراً إلى الترخيص حتى بلحاظ الغرض الإلزاميّ المعلوم بالإجمال، وذلك بقرينة كلمة (بعينه) ـ وإنـّما لا يجري في موارد الشبهة المحصورة المجتمع فيها بعض الشروط؛ لنكتة اُخرى وهي مصادمته عرفاً للحكم الواقعيّ أو لما يقولونه من حكم العقل تنجيزيّاً بحرمة المخالفة القطعيّة ـ لكن أحاديث الحلّ ـ كما مضى ـ كلّ واحد منها إمـّا مبتل بضعف السند، أو بضعف الدلالة، أو بكلا الداءين، عدا رواية واحدة، وهي رواية عبد الله بن سنان: (كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه)، وهذا الحديث لا تتمّ فيه ما مضت من شبهة التخيير؛ لأنّ قوله: (كلّ شيء فيه حلال وحرام) يستفاد منه اشتمال الشيء الذي حكم عليه بالحلّيّة الظاهريّة على الحلال والحرام، وهذا الاشتمال إمـّا من قبيل اشتمال الكلّ على أجزائه، أو من قبيل اشتمال الكلّيّ على أفراده.

فإن فرض أنـّه من قبيل اشتمال الكلّ على أجزائه، بأن حلّل مثلاً مجموع الجبن الموجود في السوق المشتمل على الحلال والحرام، فمن المعلوم أنـّه لا يمكن تقييد الحلّيّة في بعض أجزائه بقيد أحواليّ، بأن يستفاد من ضمّ إطلاق هذا

79

الحديث إلى دليل عدم حلّيّة بعض أجزائه في بعض الأحوال حلّيّته في خصوص غير تلك الحال.

نعم، لو ورد تقييد على أصل حكم الكلّ، بأن دلّ على عدم حلّيّة هذا الكلّ في بعض الأحوال، فلا بأس بأن يستفاد من ضمّ ذلك إلى دليل الحلّيّة حلّيّة الكلّ في غير تلك الحال؛ لأنّ هذه الاستفادة لا تتوقف على مؤنة أزيد من مؤنة التقييد الثابت بالدليل، ولو صرفت الحلّيّة عن حال اُخرى ـ أيضاً ـ غير الحالة المستثناة في الدليل المقيِّد، لكان هذا ارتكاب لمؤنة اُخرى، فدفعاً للمؤنة الزائدة بقدر الإمكان يفهم ثبوت الحلّيّة في تمام الأحوال غير تلك الحالة المستثناة.

لكن لو ورد دليل على عدم حلّيّة جزء من هذا الكلّ في حالة من الحالات، كما فرض في ما نحن فيه، حيث إنّ المفروض أنـّه لا يحلّ هذا الجبن على تقدير أكل ذاك الجبن، وبالعكس، حتى لا يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلا يمكن أن تثبت بذلك حلّيّة هذا الجزء في غير تلك الحالة، دفعاً للمؤنة الزائدة، بل هذا في نفسه إيجاد لمؤنة زائدة، إذ معنى ذلك كون المولى ناظراً في قوله: (كلّ شيء فيه حلال وحرام) إلى كلّ جزء جزء مستقلا ًّ، حتى يطرأ التقييد على الجزء ابتداءً، وتثبت حلّيّة هذا الجزء في غير الحالة المستثناة، وهذا خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر ذلك الكلام هو ملاحظة شيء يشتمل على الحلال والحرام وهو الكلّ.

وإن فرض أنـّه من قبيل اشتمال الكلّيّ على أفراده، بأن حلّل مثلاً طبيعة الجبن المشتملة على الحلال والحرام، فأيضاً يأتي مثل هذا البيان، ونقول: إنـّه لو ورد تقييد على الكلّيّ ابتداءً، فهذا لا بأس به، فإنّ استفادة حكم مقيّد لا تتوقّف على مؤنة زائدة، أزيد من مؤنة التقييد الثابت بالدليل، ورفضاً لمؤنة زائدة نلتزم بثبوت الحكم في جميع الحالات غير الحالة المستثناة، لكن لو ثبت في خصوص فرد من أفراد ذلك الكلّيّ انتفاء ذلك الحكم في حالة مخصوصة، لم يمكن أن تثبت بهذا الدليل حلّيّة هذا الفرد من الجبن في غير تلك الحالة، فإنّ هذا ليس رفضاً لمؤنة زائدة، بل إيجاد لمؤنة زائدة، إذ مقتضاه أن يكون المولى في المرتبة السابقة على التقييد ناظراً إلى الأفراد ابتداءً، وهو خلاف الظاهر؛ إذ الظاهر من الحديث اشتمال الشيء على الحلال والحرام، وهو الكلّي.

وهذا البيان يأتي ـ أيضاً ـ في مثل قوله: (رفع ما لا يعلمون) لو سلّمنا شموله لفرض العلم الإجماليّ، وغضضنا النظر عمّا مضى، فإنّ الرفع نسب أوّلاً وبالذات إلى

80

طبيعة (ما لا يعلمون) بنحو الإطلاق، لا إلى الأفراد بنحو العموم، وتقييد فرد بحال يستلزم ملاحظة الأفراد في المرحلة السابقة، وذلك خلاف الظاهر. نعم، لا يأتي هذ البيان في مثل قوله: (كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه النهي) وقوله: (كلّ شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه) لو صحّ الاستدلال بهما في أنفسهما.

هذا، ولكن لا يخفى أنّ هذا الجواب الذي بيّنّاه إنـّما يأتي على شبهة التخيير، بحسب اللسان الذي بيّنوه في مقام بيان الشبهة، من تصوير إطلاقين أفراديّين، ولكن من الممكن دعوى التخيير، بأن يرجع التقييد ابتداءً إلى الطبيعة، بأن يقال: إنّ الشيء المحكوم عليه بالحلّ أو الرفع مقيّد بقيدين: أحدهما: ما صرّح به في الكلام، وهو عدم العلم التفصيليّ بالحرمة، والآخر: ما استفيد بحكم العقل مثلاً، وهو عدم طرفيّته لعلم إجماليّ يرتكب طرفه الآخر، وعليه تعود شبهة التخيير.

إلاّ أنّ هذه الشبهة لو عادت فإنـّما تعود بلحاظ حديث الحلّ. أمـّا القسمان الآخران فقد عرفت جواباً آخر عن الشبهة فيهما.

وهذه الشبهة إنـّما تعود بلحاظ حديث الحلّ على تقدير كون المراد بالشيء في حديث عبد الله بن سنان الكلّيّ، لكن من المحتمل كون المراد به الكلّ، وإذا كان المراد ذلك فما بيّنّاه في تقريب عدم استفادة التخيير ثابت على حاله، ويكفينا الإجمال.

إلاّ أنّ الإنصاف عدم الإجمال في الحديث، وأنّ الظاهر منه إرادة الكلّيّ لا الكلّ، فإنـّه لا يُرى في إطلاق الشيء على كلّيّ الجبن أو الخبز أو غيرهما عناية، في حين أنّ جعل مجموعة أشياء فرداً للشيء، بأن يكون أفراده في قوله: (كلّ شيء) عبارة عن مجاميع، كما هو فرض إرادة معنى الكلّ لا عن أجناس مثلاً كما هو فرض إرادة معنى الكلّيّ، تكون فيه عناية ومؤنة، ولا يعارض هذا بدعوى أنّ الظرفيّة المستفادة من قوله: (فيه) إنـّما تناسب ظرفيّة المركّب للأجزاء، لا الكلّيّ للأفراد، لثبوت العناية والمؤنة في ظرفيّة الكلّيّ للأفراد، فإنّ هذا ممنوع، وظرفيّة الكلّيّ للأفراد أيضاً أمر عرفيّ.

فتحصّل: أنّ شبهة التخيير لا زالت مستحكمة بلحاظ حديث الحلّ.فإن لم نجد حلاًّ لها بمقتضى القواعد، واستحكمت بلحاظ أدلّة البراءة العامّة، انحصر الطريق لإبطال التخيير بالتمسّك ببعض الأخبار المتفرّقة الواردة في موارد العلم الإجماليّ في الشبهة المحصورة الدالّة على عدم جواز المخالفة الاحتماليّة، كما ورد

81

في لزوم الاجتناب عن الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءاً، وكما ورد في ماءين علم بنجاسة أحدهما من قوله: (أهرقهما وتيمّم)، فالإراقة كناية عن عدم الانتفاع بهذا الماء حتى بالشرب، فما صحّ سنداً من هذه الأخبار (1) يبطل الفتوى بالتخيير في المقام.

 

وجه التحقيق في المسألة

إلاّ أنّ الصحيح عدم تماميّة شبهة التخيير في نفسها، بلا حاجة إلى التمسّك بروايات خاصّة في المقام، وذلك حتى في مثل حديث الحلّ الذي لم يتمّ بشأنه الوجه السابق، لوجود كلمة (بعينه) وذلك لما نوضّحه بذكر اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ الحكم الإلزاميّ أو الترخيصيّ ـ سواء كان واقعيّاً أو ظاهريّاً ـ يكون له عادةً مدلولان تصديقيّان: أحدهما: المدلول الإنشائيّ، وهو الإيجاب الإنشائيّ أو التحريم أو الترخيص، وثانيهما: المدلول التصديقيّ الحكائيّ، وهو ثبوت مبادىء الحكم من المصلحة والحبّ، أو المفسدة والبغض، أو مصلحة في التسهيل، أو عدم ملاك للإلزام، أو ترجيح أحد الملاكين على الآخر في عالم المحرّكيّة.

الأمر الثاني: أنّ الإلزام التخييريّ تارةً يكون مدلوله الإنشائيّ إلزاماً بالجامع، واُخرى يكون إلزاماً بكلّ واحد من الطرفين مشروطاً بترك الآخر، كما أنّ مدلوله التصديقيّ الحكائيّ تارةً يكون عبارةً عن وجود المبدأ في الجامع، واُخرى عبارة عن وجوده في كلّ من الطرفين مشروطاً بترك الآخر، ففي الحقيقة يكون هنا حكمان مشروطان، بحيث لو ترك كليهما عوقب بعقابين، بخلاف ما لو كان الواجب هو الجامع مخيّراً.

فإن كان المدلول الإنشائيّ إلزاماً بالجامع، فالظاهر منه أنّ المدلول التصديقيّ الحكائيّ ـ أيضاً ـ كذلك، وإن كان المدلول الإنشائيّ إلزاماً بكلّ واحد من الفردين مشروطاً بترك الآخر، فلعلّ الأنسب له كون المدلول التصديقيّ الحكائيّ أيضاً كذلك،


(1) وكلا المضمونين يمتلكان السند التامّ، فالمضمون الأوّل ورد بسند تامّ في الوسائل: ج 16، ب 30 من الأطعمة المحرّمة ح 1، ص 358، والمضمون الثاني ورد بسند تامّ في الوسائل: ح 1، ب 8 من الماء المطلق، ح 2، ص 113 و ح 14، ص 116.

82

وإن كان لعله يناسب أيضاً كون المدلول التصديقيّ الحكائيّ عبارة عن وجود المبدأ في الجامع، بحيث يكون هنا في الحقيقة وجوب واحد تخييريّ، لا وجوبان مشروطان. هذا كلّه في جانب الإلزام التخييريّ.

وكذلك الأمر في جانب الترخيص التخييريّ، فمن الممكن أن يكون الترخيص ـ بحسب الإنشاء ـ ترخيصاً في الجامع، ومن الممكن أن يكون ترخيصاً في كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، كما أنـّه ـ بحسب المدلول التصديقيّ الحكائيّ أيضاً ـ يمكن أن يكون الترخيص في الجامع، بأن يكون ما تعلّق غرضه الإلزاميّ به أحد الفردين مخيّراً، فيرخّص في الفرد الآخر، كما يمكن أن يكون الترخيص في كلّ واحد منهما على تقدير مخالفة الآخر، بأن يكون ما تعلّق به غرضه الإلزاميّ عبارة عن فعل كلّ واحد منهما على تقدير ترك الآخر، لا أحدهما مخيّراً، فيرخّص في ترك كلّ واحد منهما على تقدير فعل الآخر. هذا كلّه في الحكم الواقعيّ.

وأمـّا في الحكم الظاهريّ، فبحسب المدلول الإنشائيّ وإن كان يعقل تارةً التخيير بمعنى تعليق الحكم بالجامع، واُخرى ذكر حكمين مشروطين، لكن بحسب المدلول التصديقيّ الحكائيّ لا يعقل سوى التخيير بمعنى تعليق الحكم بالجامع؛ وذلك لما عرفته ممّا هو الصحيح في حقيقة الحكم الظاهريّ، فإنّ الحكم الظاهريّ ليس ناشئاً من ملاك في نفس الحكم ـ كما يقال ـ حتى يعقل ترخيصان مشروط كلّ منهما بترك الآخر؛ لكون الملاك هكذا، وإنـّما هو ناتج من ترجيح الملاكات الواقعيّة بعضها على بعض، فإن قدّم الملاك الإلزاميّ على الملاك الترخيصيّ حتى في مرتبة الموافقة القطعيّة اُلزم الاحتياط التامّ، وإن قدّم الملاك الترخيصيّ على الملاك الإلزاميّ حتى في مرتبة المخالفة القطعيّة، رخّص حتى في المخالفة القطعيّة، وإن قدّم الملاك الإلزاميّ على الترخيصيّ في مرتبة المخالفة القطعيّة، والترخيصيّ على الإلزاميّ في مرتبة الموافقة القطعيّة، رخّص في أحدهما المخيّر، إن لم يكن في البين مرجّح للترخيص في أحد الجانبين، وإلاّ رخّص في خصوص ذلك الطرف. وأمـّا الترخيص في كلّ واحد منهما بشرط ترك الآخر فغير معقول، فإنّ إتيان العبد بكلا الطرفين، أو تركه لهما، أو لأحدهما ليس له أثر في درجة اهتمام المولى بأغراضه.

الأمر الثالث: أنـّه لو جعل المولى الترخيص الظاهريّ بلسان: رخّصتك في كلّ واحد منهما إن تركت الآخر، فلا بأس بحمل ذلك على ما عرفته من الترخيص في أحدهما تخييراً. وأمـّا إذا جعل الترخيص بلسان كلّ شيء حلال، أو رفع ما لا

83

يعلمون، ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في كون مصبّ الترخيص كلّ واحد من الطرفين تعييناً، فتقييد كلّ من الترخيصين بترك الآخر وإن كان لا بأس به بلحاظ المدلول الإنشائيّ؛ إذ ليس فيه عدا مؤنة التقييد، لكنّه لا يتمّ لاستلزامه قلب الترخيص في كلّ طرف بعينه بحسب المدلول التصديقيّ الجديّ إلى الترخيص في الجامع، وهذه مؤنة زائدة لا تستفاد من مجموع دليل الترخيص التعينيّ، وقرينة عدم إمكان الترخيص في كلّ من الفردين بالإطلاق، فقياس ما نحن فيه في كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) وفي كلام المحقّق النائينيّ (قدس سره)لدى بيانه لشبهة التخيير بما لو قال: أكرم كلّ عالم، وعلمنا بعدم وجوب إكرام زيد وعمرو معاً، حيث نستفيد في مثل ذلك التخيير، يكون من باب الغفلة عن المدلول الجدّيّ الأقصى، وقصر النظر على المدلول الإنشائيّ، فالواقع أنّ استفادة التخيير في مثل هذا المثال هي مقتضى القاعدة، ولكن في ما نحن فيه تكون على خلاف القاعدة.

وقد تقول في المقام بجواز إجراء الأصل في أحد الطرفين على أساس مبنى ً نقوله في باب العموم، وتوضيح ذلك: أنـّنا نقول في باب العموم: إنـّه إذا ورد مثلاً: أكرم كلّ عالم، وورد مخصّص ـ ولو متّصلاًـ لا يخرج عن تحت هذا العموم عدا فرد واحد مع احتمال خروج فردين، وذلك لا بمعنى كون المخصّص مجملاً مردداً بين الأقل والأكثر، ويكون المتيقّن منه خروج فرد خاص، بل بمعنى أنّ هذا المخصّص لم تكن له قابليّة إخراج أزيد من فرد واحد، كانت نسبته إلى زيد وعمرو مثلاً على حدّ سواء، أي: أنـّه على تقدير كون الخارج في الواقع كليهما ـ كما هو محتمل ـ لا يكون لما هو الخارج بهذا المخصّص تعيّن حتى في الواقع، فعندئذ دليل حجّيّة الظهور هنا لا يسقط رأساً، بل نلتزم بالتبعيض في الحجّيّة بحيث تثبت لنا قضيّتان مشروطتان: إحداهما: أنـّه إن كان زيد خارجاً، فعموم العامّ حجّة في عمرو، والاُخرى: أنـّه إن كان عمرو خارجاً، فعموم العامّ حجّة في زيد، ونعلم إجمالاً بحصول أحد الشرطين، فنعلم إجمالاً بحصول أحد الجزاءين، فنعلم بنحو العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحدهما.

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام إنـّما يتمّ في فرض المخصّص المنفصل، حيث إنّ الظهورين ثابتان في هذا الفرض، فيمكن دعوى حجّيّة كلّ واحد منهما على تقدير كذب الآخر. وأمـّا إذا كان متّصلاً فينتفي الظهوران؛ لأنّ ثبوتهما معاً غير معقول لفرض المخصّص المتّصل، وثبوت أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

84

فإنـّنا نقول في مقام الجواب عن هذا التوهّم: إنّ ظهور العامّ في عنوان (الفرد الثاني) محفوظ عرفاً، ودليل الحجّيّة شامل له، لكن هذا ـ بحسب التدقيق العقليّ ـ يكون على ظاهره محالاً، لعدم معلوميّة تعيّن لعنوان (الفرد الثاني)، حتى في الواقع، فترجع حجّيّة الظهور في عنوان (الثاني) ـ بحسب التحليل الفلسفيّ ـ إلى حجّيّتين مشروطتين.

كما أنـّه لا يرد إشكال: أنّ الحجّيّة تكون بملاك الكاشفيّة، ومثل هذه الحجّيّة لا تتبعّض عند العرف، فإنّ حجّيّة الظهور وإن تبعّضت في المقام فلسفيّاً حيث رجع الأمر ـ بحسب التحليل الفلسفيّ ـ إلى ما عرفته من حجّيّتين مشروطتين، ولكنّها لم تتبعّض عرفاً؛ لأنّ العرف يرى أنّ للكلام ظهوراً في شمول فرد بعنوان (الثاني)، وأنّ هذا الظهور حجّة، وهذا ليس فيه أيّ تبعيض واشتراط في الحجّيّة.

هذاكلامنا في باب العموم، ونقول بعينه في باب الإطلاق، إذ يمكن إرجاع القيد ـ بوجه من الوجوه ـ إلى الطبيعة.

إذا عرفت هذا قلنا: إنـّه قد يتوهّم في المقام أنـّه يمكن الاستفادة من هذا المبنى في باب العموم في ما نحن فيه، لإجراء الأصل في أحد الطرفين، بأن يقال: إنّ الظهور باق على حجّيّته، في كلّ واحد من الفردين على تقدير عدم الترخيص في الفرد الآخر، ونحن نعلم بعدمه في أحد الفردين، فنعلم بحجّيّته في أحدهما.

ويرد عليه: أوّلاً: أنـّه لا فائدة في حجّية أحد الترخيصين؛ إذ لا نعلم بأنّ أيّ الترخيصين هو الحجّة، ولا يثبت بذلك التخيير في ارتكاب أيّ واحد من الطرفين.

وثانياً: أنّ هذا ترخيص في أحد الطرفين تعييناً، دون الترخيص في الطرف الآخر، إلاّ أنـّنا لا نعلم ما هو الطرف المرخّص فيه، في حين أنّ ملاك الترخيص وهو الشكّ، أو ملاك عدمه وهو حرمة المخالفة القطعيّة، نسبته إلى الفردين على حدّ سواء.

نعم، يمكننا أن نستفيد من الدليل الترخيصيّ في أحد الفردين إن كان الفرد الآخر لا يجري فيه الأصل الترخيصيّ في نفسه، كما لو علم إجمالاً في الوقت بأنـّه إمـّا لم يصلّ صلاته، أو أنّ هذا المائع خمر، أو لأصل إلزاميّ حاكم على الأصل الترخيصيّ، كما إذا جرى في أحد الطرفين استصحاب النجاسة. أمـّا الأوّل فواضح، وأمـّا الثاني فلأنّ دليل الأصل له ظهور في الترخيص في كلّ ما لم يعلم تفصيلاً حرمته، ولم يكن طرفاً لعلم إجماليّ، لا يوجد منشأ ـ ولو من الخارج ـ يفهمه العرف؛

85

لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر، فهذه كبرى نستفيدهامن ظاهر دليل الترخيص، ونستفيد صغراها من جريان الأصل المثبت في ذلك الطرف.

وبهذا تنحلّ شبهة القول بأنّ ظهور دليل الترخيص في شمول كلّ طرف معارض بظهوره في شمول الطرف الآخر، فيحصل الإجمال، وجريان أصل مثبت للتكليف من الخارج في أحد الطرفين لا يرفع الإجمال.

ومن هنا يظهر ـ أيضاً ـ أنـّه لو علم إجمالاً بأحد تكليفين، وأحدهما أهمّ من الآخر، فمقتضى القاعدة جريان الأصل في الطرف غير الأهمّ؛ وذلك لما عرفت من ظهور دليل الترخيص في تلك الكبرى، وهي الترخيص في كلّ ما لم تعلم تفصيلاً حرمته، ولم يكن طرفاً لعلم إجماليّ لا يوجد منشأ ـ يفهمه العرف ـ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر، ونستفيد الصغرى من أهمّيّة التكليف في ذلك الطرف.

ولولا هذه النكتة، أي: شمول العام بإطلاقه لعنوان (الفرد الثاني)، وكنّا نحن ودلالة الدليل على الترخيص في هذا بالخصوص، وفي ذاك بالخصوص، لأمكنت المناقشة في إجراء الأصل في الطرف غير ألاهمّ، بأنّ العرف في مقام استظهار المعنى لا يلتفت إلى هذه الأهمّيّة، ويرى الدلالتين متعارضتين متساقطتين، فينتفي الظهور رأساً(1).

 


(1) توضيح المقصود: أنّ نكتة دخل الأهمّيّة في تيقّن سقوط الأصل في طرف الأهمّ مغفول عنها عرفاً، وهذا يجعل تعيّن خروج هذا الفرد غير ثابت بقرينة كالمتّصل، في حين أنّ أصل خروج أحدهما على الإجمال ثابت بقرينة كالمتّصل، وهو عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعيّة عرفاً، وهذا يؤدّي إلى عدم إمكان انحفاظ ظهور الدليل في الترخيص في خصوص الفرد الآخر، وهو غير الأهمّ، ولكن يبقى ظهوره في الترخيص في (الفرد الثاني) على الإجمال ـ وهوما عدا ما خرج على الإجمال بالقرينة التي هي كالمتّصل ـ محفوظاً، فإذا عيّنّا بقرينة منفصلة ذاك الفرد الخارج، وتلك القرينة هي الأهمّيّة، لحكم العقل بعدم إمكان سقوط الأصل في المهمّ وحده، دون الأهمّ، ضممنا ذلك إلى ظهور دليل الأصل في الترخيص في (الفرد الثاني)، وثبت بذلك الترخيص في طرف المهمّ، أو قل: ثبتت حجّيّتان مشروطتان: حجّيّة الأصل في الأهمّ على تقدير سقوطه في المهمّ وبالعكس، وتكون الحجّيّتان لغواً لو لم يحرز من الخارج

86

نعم لو كان المقيّد الدالّ على خروج أحد الفردين منفصلاً، ولم يكن كالمتّصل، فالظهوران كانا محفوظين، كان الظهور في جانب غير الأهمّ حجّة؛ لعدم ابتلائه بمعارضة الظهور في جانب الأهمّ؛ للقطع بعدم حجّيّته وعدم مطابقته للواقع، لكن الأمر ليس كذلك.

نعم، هذه المناقشة لا تأتي في إثبات حجّيّة خبر الأوثق، أو فتوى الأعلم من دليل حجّيّة الخبر، أو الفتوى عند المعارضة لخبر غير الأوثق، وفتوى غير الأعلم؛ لأنّ نكتة الحجّيّة ـ وهي الوثاقة ـ مصرّح بها في الدليل، فلا يلغي العرف في مقام الاستظهار أوثقيّة أحد الجانبين، كما يلغي في ما نحن فيه أهمّيّة أحد الجانبين.

نعم، الشيء الذي يمنعنا عن الأخذ بخبر الأوثق بقطع النظر عن الأخبار العلاجّيّة، هو ما نقّحناه في بحث الفقه من عدم حجّيّة خبر الثقة عند معارضته لأمارة نوعيّة تبطل كشفه، خلافاً لما ذكرناه في الاُصول في بحث خبر الواحد(1).

 


شرط إحدى الحجّيّتين، ولكن أحرزنا أحد الشرطين، وهو سقوط الأصل في طرف الأهمّ، فثبتت الحجّيّة في طرف المهمّ.

(1) اختار اُستاذنا الشهيد ـ في بحث خبر الواحد في الدورة التي حضرتها ـ حجّيّة خبر الثقة المعارضة بما يبطل كشفه النوعيّ من أمارة غير حجّة، بدعوى أنّ كشفه في مورده وإن بطل، لكن كشفه بلحاظ كونه جزءاً من مجموعة تورث العلم الإجماليّ بحساب الاحتمالات لم يبطل، واستشهد أيضاً لمدّعاه ببعض الأخبار العلاجيّة. (راجع الجزء الثاني من القسم الثاني من تقريرنا هذا، ص 585 ـ 591)، ولكنّه عدل عن ذلك في بحث الفقه في كتاب الطهارة، ولم يتعرّض في ذاك البحث للإجابة عن استشهاده في الاُصول ببعض الأخبار العلاجيّة، ولكن تعرّض لما قاله في الاُصول من بقاء الكشف بلحاظ كونه جزءاً من مجموعة تورث العلم الإجماليّ، فأجاب عنه: بأنّ ظهور دليل الحجّيّة في الانحلال، وملاحظة كلّ فرد فرد، وعدم فرض أفراد كثيرة في المقام، كلّ هذا دليل على أنّ الملحوظ هو كاشفيّة خبر الثقة في كلّ مورد مورد، لا كاشفيّته باعتبار العموم المجموعيّ، وتدخّله في تكوّن ذلك العلم الإجماليّ، فإطلاق دليل الحجّيّة قاصر عن الشمول للخبر المبتلى بالمزاحم في الكشف.

انتهى ما ذكره في الفقه في بحث الطهارة، في مسألة مطهّريّة ماء الورد عن الحدث وعدمها.

87

والذي يريحنا عن هذه الجهة إنـّما هو الأخبار العلاجيّة(1) . والأخبار العلاجيّة غير واردة في باب التقليد، فيبقى الإشكال في باب التقليد مركّزاً.

نعم إذا كانت الأوثقيّة أو الأعلميّة، بنحو بقي لخبره أو لفتواه ـ بعد المعارضة بخبر الثقة أو فتواه ـ الكشف بمقدار خبر أدنى درجات الثقة(2)، أو فتواه غير المبتلى بالمعارض، فلا بأس بالقول بحجّيّته(3).

 


وهذا المطلب محذوف في كتابه (رضوان الله عليه) المطبوع باسم (بحوث في شرح العروة الوثقى)، وهو مثبّت في تقريرنا الخطّي لبحثه الشريف.

وعلى أيّة حال، فالمختار لنا في بحث حجّيّة خبر الواحد، هو عدم سقوط خبر الثقة عن الحجّيّة بمعارضته لأمارة ظنّيّة غير حجّة، لأنّ المقياس هو الكاشفيّة النوعيّة، بمعنى غلبة الصدق في خبر الثقة، أو قل: كونه في حدّ ذاته مورثاً للظنّ، لا بمعنى كونه بالفعل مورثاً للظنّ لغالب الناس، وهذه الكاشفيّة النوعيّة لا تبطل بمعارضته لأمارة ظنّيّة. نعم، مجموع هذا الخبر مع الأمارة المعارضة غير الحجّة ليست له كاشفيّة نوعيّة عن المقصود. أمـّا ذات هذا الخبر فلا زالت كاشفيّته النوعيّة محفوظة، فيكون حجّة.

ولكن هذا الكلام لا يأتي في ما إذا كانت الأمارة المعارضة له عبارة عن خبر ثقة مثله، لأنّ نكتة الحجّيّة ـ عندئذ ـ ثابتة لكلا المتعارضين، فيرى الفهم العرفي أنـّهما تتزاحمان في التأثير، ومجرّد أوثقيّة أحد المخبرين لا يحلّ الإشكال ما لم تكن الزيادة في الوثاقة بقدر وثاقة كاملة؛ لأنّ الزيادة التي تكون أقلّ من الوثاقة ليست مصداقاً لنكتة الحجّيّة المصرّح بها في الدليل، فيلغيها العرف في مقام الاستظهار، ويتمّ تعارض الإطلاقين والإجمال، بل ولا يتمّ إطلاق العامّ حتى لعنوان (الفرد الثاني)؛ لأنّ ملاك الحجّيّة المفهوم عرفاً غير ثابت في الفرد الثاني، لأنّ أصل الوثاقة مزاحم بمثله، والزيادة ليست بالغة إلى مستوى ملاك الحجّيّة، إذن فالأوثقيّة إنـّما توجب الحجّيّة رغم المعارض إذا كانت الزيادة في الوثاقة تساوي ـ على الأقلّ ـ أدنى درجات الوثاقة.

(1) ولعلّ المقصود بذلك: أنّ الأخبار العلاجيّة حصرت المرجّح في موافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فالأوثقيّة ليست مرجّحة.

(2) ولعلّ الأخبار العلاجيّة منصرفة عن مثل هذا الفرض بمناسبة الحكم والموضوع.

(3) لنا بحث حول معارضة فتوى الأعلم بفتوى غيرالأعلم، خاصّة إذا فرض أنّ غير الأعلم كان كفوءاً لقيادة المجتمع، والأعلم لم يكن كفوءاً لها، لا بأس بالتعرّض لهذا البحث هنا

88


استطراداً، فنقول:

إذا تعارض فتوى الأعلم مع فتوى غير الأعلم فقد يقال: إنّ الثاني متيقّن السقوط، والأوّل مشكوك السقوط، فنتمسّك بإطلاق الدليل لإثبات حجّيّته، وكذلك البناء العقلائيّ ثابت على حجّيّته، وتيقّن فتوى غير الأعلم للسقوط إن كان واضحاً لدى العرف ـ ولو بنكتة: أنّ العلم مأخوذ في لسان دليل حجّيّة الفتوى ـ يبقى ظهور الدليل في حجّيّة فتوى الأعلم محفوظاً، وإن لم يكن واضحاً لدى العرف، ولكنّه كان واضحاً لدى العقل، إذن يتمسّك بإطلاق الدليل لعنوان الفرد الثاني، بعد العلم بسقوط أحد الفردين إجمالاً، لعدم إمكان حجّيّتهما معاً، ثمّ يعيّن أحد الفردين الساقط في فتوى غير الأعلم بحكم العقل، فتثبت حجّيّة فتوى الأعلم.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ تزاحم مايفهمه العرف من ملاكي الحجّيّة في الفتويين لا يُبقي مجالاً للظهور، لا في حجّيّة فتوى الأعلم، ولا في عنوان الثاني، إلاّ إذا كان الفاصل بين الملاكين كبيراً، أي ما يكون بقدر الملاك الكامل في نظر العرف.

وقد يقال: إنّ البناء العقلائيّ من باب الرجوع إلى أهل الخبرة قائم على أساس ترجيح فتوى الأعلم ولو كانت الأعلميّة بدرجة ضئيلة، وهذا البناء والارتكاز يؤثّر على ظهور الأدلّة اللفظيّة، فتحمل أدلّة التقليد اللفظيّة على الطريقة العقلائيّة في التقليد، فينحفظ لها ظهور في حجّيّة فتوى الأعلم لدى التعارض، ولو كانت الأعلميّة بدرجة قليلة، ولو لم نقبل تأثير هذا البناء والارتكاز على ظهورات الأدلّة اللفظيّة، كفانا القول بأنـّه بعد سقوط الإطلاقات اللفظيّة يبقى لنا البناء العقلائيّ دليلاً تامّاً على حجّيّة فتوى الأعلم بعد ثبوت الإمضاء بعدم الردع.

وقد يفرض أنّ الفتويين المتعارضين أحدهما راجع إلى الأعلم غير الكفوء للقيادة، والآخر راجع إلى الكفوء غير الأعلم، فأيـّهما يقدّم؟

والكفاءة وإن كانت دخيلة في الأعلميّة، فإنّ نظرة الكفوء إلى مفاد الأدلّة تختلف كثيراً عن نظرة غير الكفوء في شتّى الأبواب، من قبيل فهم معنى أدلّة التقيّة، وأدلّة الجهاد، وأدلّة حرمة الربا في أنـّها هل تحرم الحيل التي تؤدّي إلى نتيجة الفوائد الربويّة أو لا، وأدلّة الولايات، وغير ذلك من الاُمور، ولكن مع ذلك قد يتصوّر فرض كون غير الكفوء أعلم؛ لأنّ الملاكات الدخيلة في الأعلميّة عديدة، أحدها الكفاءة، فقد يكون غير الكفوء أعلم بلحاظ قوّته في بعض الملاكات الاُخرى، كحدّة الذكاء مثلاً بمستوى يغلب على مقدار تأثير الكفاءة في الأعلميّة.

89


وتحقيق الحال في المقام: أنّ الأدلّة اللفظيّة للتقليد على قسمين:

أحدهما: ما دلّ على منصب التقليد فقط، دون منصب الولاية، من قبيل: رواية أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنـّه الثقة المأمون. وسأل ابا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنـّهما الثقتان المأمونان(1) . فقوله: (ما أدّى إليك عنّي) و(ما أدّيا إليك عنّي) وإن كان في حدّ ذاته ظاهراً في الإخبار عن الحسّ، فلا يشمل الفتوى، لكن السؤال وهو قوله: (من اُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل) قرينة على كون المقصود ما يعمّ الأداء الحسّيّ والحدسيّ، أي: ما يعم الرواية والفتوى؛ لأنّ التعامل والأخذ الذي هو محلّ الابتلاء ليس هو خصوص أخذ الحديث، بل كثيراً مّا يكون بلحاظ أخذ الفتوى، بل تخصيص كلمة التعامل بأخذ الحديث خلاف الظاهر جدّاً.

ورواية عبد الله بن يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنـّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفيّ، فإنـّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً (مرضيّاً ـ خ لـ )(2) . فإنّ جواب سؤال السائل ليس دائماً بإعطاء الرواية، بل كثيراً ما يكون بإعطاء النتيجة المستفادة من الإطلاق ونحوه.

ورواية يونس بن يعقوب قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النضريّ؟(3) والمفزع والمستراح ليس هو من يؤخذ برواياته فحسب، بل من يؤخذ بفتواه أيضاً، ومبدأ الولاية ليس مستفاداً من هذا الحديث؛ لأنّ رأس خيط الارتباط اُعطي في الحديث هذا بيد الناس بفزعهم واستراحتهم إلى الحرث بن المغيرة، ولم يعط بيد الحرث بأن يكون له الأمر والنهي ابتداءً، حتى فيما لم


(1) الوسائل: ج 18، ب 11 من صفاة القاضي، ح 4، ص 100.

(2) نفس المصدر: ح 33 ص 105.

(3) نفس المصدر: ح 24 ص 105. وفي الوسائل: ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 145، ورد الحارث بن مغيرة النصريّ، وهو الصحيح، ولم يرد النضريّ في كتب الرجال.

90


يرجعوا فيه بالخصوص إليه، وهذا يناسب منصب الفتوى لا الولاية، والإرجاع إلى الحرث في الفتوى إنـّما هو ـ حسب المرتكز العقلائي ـ إرجاع إليه بما هو فقيه ثقة، لا بما هو شخص معيّن، فيستفاد منه جواز تقليد الفقيه الثقة على الإطلاق.

ورواية عليّ بن المسيّب قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا(1) . وأخذ معالم الدين يشمل الأخذ بالفتوى، ولا يختصّ بأخذ الرواية.

ورواية عبد العزيز بن المهتديّ، والحسن بن عليّ بن يقطين عن الرضا (عليه السلام)، قلت: لا أكاد أصل اليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم(2).

والروايتان الأخيرتان غير تامّتين سنداً.

القسم الثاني ـ ما دلّ على منصب الولاية كالتوقيع الوارد إلى إسحاق بن يعقوب : .... وأمـّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنـّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله(3).

ولا إشكال في أنّ منصب الولاية مشروط بالكفاءة، والقدرة على إدارة الاُمور، وهذا واضح بحكم العقل والارتكاز العقلائيّ. إذن فإطلاق الرواية مقيّد بقيد ارتكازيّ كالمتّصل، وهو قيد الكفاءة، إلاّ أنّ قيد الكفاءة يمكن أخذه بأحد شكلين:

الأوّل: أن يجعل قيداً للرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا الكفوئين، فإنـّهم حجّتي عليكم.

والثاني: أن يجعل قيداً لما يرجع فيه إلى الرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى الرواة في كلّ ما لهم الكفاءة بالنسبة له، فإنـّهم حجّتي عليكم في تلك الاُمور الداخلة في كفاءتهم. إذن، فمن كان منهم كفوءاً في استنباط الحكم الفقهيّ فحسب دون إدارة اُمور المجتمع يرجع إليه في أخذ الفتوى فحسب، ومن كان كفوءاً في إدارة اُمورالمجتمع يرجع


(1) نفس المصدر ح 27 ص 106.

(2) نفس المصدر ح 33 ص 107.

(3) نفس المصدر ح 9 ص 101.

91


إليه في إدارتها، وتكون له الولاية.

والاحتمال الثاني أوفق بالإطلاق، والاحتمال الأوّل أوفق بارتكازيّة الترابط بين مرافق القيادة وعدم الانحلال والتفكيك فيما بينها بالفصل بين منصب الفتوى ومنصب ملء منطقة الفراغ أو تشخيص الموضوعات. فنتكلّم تارةً بناءً على استظهار الاحتمال الأوّل، واُخرى بناءً على استظهار الاحتمال الثاني.

أمّا على الاحتمال الأوّل: وهو فرض الترابط بين شؤون القيادة، وكون الكفاءة قيداً ارتكازياً راجعاً إلى الرواة ـ فهذه الرواية إنـّما دلّت على ثبوت منصب التقليد ضمن منصب القيادة لمن يكون أهلاً للقيادة متمتّعاً بالكفاءة لها، فإذا وقع التعارض بين فتوى الأعلم غير الكفوء للقيادة وفتوى الكفوء لها غير الأعلم. فنحن نتكلّم عندئذ في ما هو مقتضى الفنّ بناءً على فروض ثلاثة بالنسبة للقسم الأوّل من أدلّة التقليد الذي أثبت منصب التقليد فحسب للفقيه دون منصب القيادة:

الفرض الأوّل: أن ننكر ارتكازيّة تقدّم رأي الأعلم على الإطلاق عقلائيّاً في باب الرجوع إلى أهل الخبرة، ونفترض التعارض الداخليّ بين إطلاقي تلك الأدلّة، لعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً، إذن تلك الأدلّة تبتلي بالإجمال الداخليّ، في حين أنّ القسم الثاني من أدلّة التقليد ـ وهو الذي أثبت التقليد ضمن منصب القيادة لا منفصلاً عنها ـ غير مبتل بالتعارض الداخليّ، لاختصاصه بالكفوء قياديّاً، فنأخذ به، ويكون التقليد لدى تعارض الفتويين للكفوء قياديّاً لا للأعلم غير الكفوء.

الفرض الثاني: أن نؤمن بالارتكاز العقلائيّ الدالّ على تقديم رأي الأعلم على الإطلاق، أي حتى مع كون الفاصل بينهما ضئيلاً، ولكن نبني ـ مع ذلك ـ على التعارض الداخليّ في القسم الأوّل من الأدلّة اللفظيّة للتقليد، لعدم قبول تأثير ذاك الارتكاز على ظهور الألفاظ، ولعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً. وعندئذ فالقسم الأوّل من الدليل اللفظيّ ساقط بالإجمال. أمـّا البناء العقلائيّ على تقليد الأعلم الذي فرضنا الإيمان به، فهو مقيّد بفرض عدم نصب قائد من قبل الشريعة للرجوع إليه في كلّ شيء حتى الفتوى، إذ من الواضح أنـّه مع مفرض نصب قائد من هذا القبيل لا يبني العقلاء في أخذ آراء تلك الشريعة، والعمل بها على الرجوع إلى غير ذاك المنصوب، ولوكان أعلم، والنصب هنا ثابت بحكم القسم الثاني من الأدلّة الخاصّة بمن هو كفوء قياديّاً، فلا يبقى موضوع للرجوع إلى بناء العقلاء.