84

من ملاحظة حال تلك الثمرات بعد تصوير تلك الفروض بالنحو الذي عرفناه هنا.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الصحيح خلافاً للمحقّق الإصفهاني(قدس سره) وجود فرق ذاتي بين فرض الطهارة شرطاً وفرض النجاسة مانعة:

أمّا على الوجه الأوّل فواضح؛ لأنّ الثوب الطاهر أمر وجودي في مقابل الثوب النجس ولو كانت الطهارة أمراً عدمياً، وعليه فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا على الوجه الثاني والثالث، فلأنّ مفهوم الطهارة الخبثية وإن لم يكن بازائها أمر وجودي في الخارج أو في عالم الفرض والتشريع من قبيل النورانية التي تقال مثلاً في الطهارة الحدثية، لكن هذا لا يعني كون الطهارة أمراً عدميّاً محضاً، بل هي أمر عدمّي مطعّم بشيء من الثبوتيّة (ولا يستفاد من مسلّمات المحقّق الإصفهاني خلاف ذلك)، فالطهارة تفترق عن عدم النجاسة من قبيل افتراق عنوان الفوت عن عدم الإتيان الذي يقال: إنّه لا يثبت باستصحاب عدم الإتيان، ولا أقلّ في تطعيم الطهارة بشيء ثبوتي من تطعيمها بمسألة الاتّصاف، فلا تكون عدماً نعتيّاً، إذن فاشتراط أحدهما غير اشتراط عدم الآخر.

وأمّا ما ذكره السيّد الاُستاذ من إنكار الثمرة بين شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة فهو ـ أيضاً ـ غير صحيح، فإنّنا نبرز ظهور الثمرة بينهما في موردين:

الأوّل: في جريان البراءة أو الاشتغال لدى الشكّ في طهارة الثوب، فعلى اشتراط الطهارة يجرى الاشتغال مطلقاً، وعلى مانعيّة النجاسة تجري البراءة على بعض الصور المتقدّمة.

والوجه في ذلك هو ما مضى في مبحث الشبهة الموضوعيّة من البراءة والاشتغال من أنّه إذا كان الشكّ في انطباق العنوان المتعلّق للحكم على حصّة من الحصص كان الشكّ شكّاً في التكليف، وتجري البراءة، كما لو شككنا في صدق عنوان قتل المؤمن الحرام على قتل زيد؛ للشكّ في إيمانه، فتجري البراءة بقطع النظر عن انقلاب الأصل في الدماء مثلاً، وإذا أحرزنا انطباق العنوان على الحصّة وشككنا في تحقّق تلك الحصّة بفعلنا، كان الشكّ شكّاً في الامتثال، كما لو شككنا في أنّه بإطلاقنا هذا الرصاص هل يقتل زيد المؤمن لمصادفته إيّاه، أو


الحال في ذاتها، وليست مسبوقة بحالة سابقة تستصحب في المقام.

ثم استظهر(رحمه الله) من الأدلّة الثالث، أعني: مانعيّتها عن الصلاة بما هي من الخصوصيّات اللاحقة لنفس الصلاة دون المصلّي مثلاً أو ما يصلّي فيه.

85

لا يقتل لعدم المصادفة، فهنا تجري أصالة الاشتغال. وعليه فنقول في ما نحن فيه: إذا كانت الطهارة شرطاً بأيّ نحو من الانحاء الثلاثة المتقدمة، فالشكّ متمحّض في حصول الواجب بالصلاة في هذا الثوب وعدمه، فتجري أصالة الاشتغال، وإذا كانت النجاسة مانعة فعندئذ إن تصوّرنا ذلك بالنحو الأوّل، أعني: أنّ المانع هو الثوب والنجاسة حيثيّة تعليليّة، فهذا ينحلّ بتعدّد الثوب النجس، ويكون الشكّ في نجاسة ثوب شكّاً في مانع جديد تجري البراءة عنه؛ لأنّنا شاكّون في كون الصلاة في هذا الثوب متّصفاً بنحو مفاد كان الناقصة بكونها صلاة في الثوب النجس، ويشترط في حرمتها اتّصافها بذلك.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثاني، أي: أنّ المانع هو النجاسة أو نجاسة الثوب، فهنا وإن تمّ الانحلال ـ أيضاً ـ إلى موانع عديدة، ولكنّنا حينما شككنا في نجاسة ثوب ليس هذا معناه الشكّ في حرمة الصلاة في نجاسة هذا الثوب، بل هذا مقطوع به بناءً على ما نقّحناه في محلّه من أنّ فعليّة مانعيّة المانع لا تتوقّف على وجود المانع بنحو مفاد كان التامّة، وإنّما الشكّ شكّ في تحقق هذا الحرام بالصلاة في هذا الثوب وعدمه نظير الشكّ في حصول قتل زيد بالرصاص، فهنا لا بدّ من الاحتياط.

وإن تصوّرنا ذلك بالنحو الثالث، أي: أنّ المانع عبارة عن أن يكون ثوب المصلّي نجساً، فهنا ـ أيضاً ـ يثبت الانحلال، لكن بلحاظ تعدّد أثواب المصلّي إذا لبس أثواباً متعدّدة، فتوجد موانع متعدّدة لا بلحاظ مطلق الأثواب الخارجية؛ لما مضى من أنّه ليس كون أيّ ثوب نجساً هو المانع، وهنا ـ أيضاً ـ نقول بما قلناه في النحو الثاني من أنّ الانحلال لا يشفع لجريان البراءة؛ لأنّ المهمّ في المقام ما ذكرناه من أنّ فعليّة المانعيّة ليست مشروطة بوجود المانع خارجاً، فيكون المورد مورداً للاشتغال.

والخلاصة: أنّنا لو قلنا باشتراط فعليّة المانعيّة بوجود المانع خارجاً، فالبراءة تجري في كلّ الأنحاء الثلاثة للمانعيّة لدى الشكّ، ولكنّها لا تجري في فرض شرطيّة الطهارة. ولو قلنا بعدم اشتراط فعليّة المنع بوجود المانع خارجاً: إمّا لاستظهار لفظي، أو لعدم معقولية هذا الاشتراط، كما اخترنا ذلك في بعض أبحاثنا الماضية، فالشكّ في النحوين الأخيرين من أنحاء المانعيّة يلحق بفرض شرطيّة الطهارة في أنّه يكون مجرىً للاشتغال دون البراءة، ويكون النحو الأوّل من أنحاء المانعيّة هو المورد الوحيد لجريان البراءة لدى الشكّ.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة ثمرة فرضيّة وتقديريّة؛ لأنّه على أيّ حال تجري أصالة الطهارة، فيتنقّح بذلك وجود الشرط أو عدم المانع.

86

قلت: يمكن فرض عدم جريان أصالة الطهارة لسقوطها بمعارض، كما لو علم إجمالاً بنجاسة هذا الثوب أو ذاك الماء الذي كان قد استعمله في الوضوء وانتهى بالاستعمال، ولنفترض أنّ وضوءه به كان مع الغفلة؛ كي لا تجري قاعدة الفراغ وتعارض أصالة البراءة في المقام.

الثاني: ما إذا شكّ في النجاسة الذاتيّة، كالشكّ في كون هذا اللباس من جلد الخنزير بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان أصالة الطهارة لدى الشكّ في النجاسة الذاتيّة، فعند ئذ لو قلنا بمانعيّة النجاسة رفعنا احتمال المانع باستصحاب عدم النجاسة الأزلي. و أما لو قلنابشرطية الطهارة فلا يمكن إحراز الشرط بالاستصحاب بناءً على كون الطهارة مطعّمة بمعنىً ثبوتي لا أقلّ من الاتّصاف.

إن قلت: إنّ هذه الثمرة فرضيّة وتقديرية؛ لأنّه على أيّ حال يجرى في المقام استصحاب موضوعيّ، وهو استصحاب عدم الخنزيريّة مثلاً.

قلنا: إنّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري في ما هو ذاتيّ عرفاً كالخنزيريّة.

 

وجوه الشرطية والمانعية الملائمة لصحّة الصلاة حال الجهل:

والآن فلندخل في تصوير وجوه الشرطيّة والمانعيّة الملائمة لصحّة الصلاة عند الجهل. وكلامنا في ذلك يكون ثبوتياً. وأمّا البحث الإثباتي فمحوّل على الفقه.

والكلام تارةً يقع على تقدير مانعيّة النجاسة، واُخرى على تقدير شرطيّة الطهارة:

أمّا على تقدير مانعيّة النجاسة فذكر المحقّق النائيني(قدس سره)(1) في تصوير المطلوب وجهين:

1 ـ تقييد المانعية بكون النجاسة واصلة ومعلومة.

2 ـ تقييدها بتنجّز النجاسة.

وكلّ من هذين الوجهين يمكن فرضه بنحو التركيب، بأن يكون موضوع المانعيّة مركّباً من النجاسة والوصول، أو التنجّز، ويمكن فرضه بنحو تمام الموضوع، بأن يكون تمام موضوع المانعية هو الوصول أو التنجّز، وتظهر الثمرة في انكشاف الخلاف مع تحقّق قصد القربة رغم وصول النجاسة أو تنجّزها، فلو كان الوصول أو التنجّز تمام الموضوع للمانعيّة فقد بطلت الصلاة. وإن كان جزءاً للموضوع، والجزء الأخير هو الواقع، فانكشاف الخلاف يعني


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 346 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

87

انكشاف عدم وجود المانع، فتصحّ الصلاة.

أمّا الوجه الأوّل: وهو التقييد بالوصول والعلم، فغير صحيح، سواء اُريد بذلك العلم الوجداني أو اُريد به ما يعمّ العلم التعبّدي بناءً على مبناه من أنّ الأمارات تفيد العلم التعبّدي.

أمّا على الأوّل: فلأنّه يلزم من ذلك أنّه مع الشكّ يقطع بعدم المانعية، ولا معنى لاستصحاب عدم النجاسة؛ لأنّها خارجة عن موضوع المانعية بناءً على كون الوصول تمام الموضوع للمانعية، وهي جزء لموضوع المانعيّة بناءً على كون الوصول جزء الموضوع، ولا أثر لاستصحاب عدم جزء الموضوع لدى القطع بعدم الجزء الآخر، في حين أنّ مفروض الرواية في المقام هو الاستصحاب عند الشكّ في طروّ النجاسة.

وأمّا على الثاني: فإمّا أن يشترط وصول العلم التعبّدي بالوجدان، أو انتهاؤه إلى الوجدان ولو بعد توسّط عدّة علوم تعبّدية، أو لا يشترط ذلك، ويكتفى بوجود بيّنة على النجاسة مثلاً في الواقع غير واصلة. فإن قيل بالأوّل لزم ـ أيضاً ـ لدى الشكّ وعدم الانتهاء إلى الوجدان أن لا يكون مورداً لاستصحاب عدم النجاسة، وإن قيل بالثاني لزم بطلان الصلاة في الثوب النجس جهلاً مع وجود بيّنة غير واصلة، والفتوى الفقهية على خلاف ذلك، والمفروض فعلاً التفتيش عن وجه ثبوتي ينسجم مع ما في الفقه من الافتاء بالصحة في موارد الجهل.

وأمّا الوجه الثاني: وهو أخذ التنجيز في المانعيّة، فلا يرد عليه الاعتراض السابق؛ إذ بمجرّد الشكّ في النجاسة لا يقطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

وذلك واضح على مبنانا من إنكار قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)؛ لأنّ الأصل الأوّلي ـ عندئذ ـ هو التنجيز، ولا بدّ من رفعه بالرجوع إلى أصل شرعي، فيرجع إلى الاستصحاب كما يرجع إلى أصالة الطهارة مثلاً.

وأمّا بناءً على تسليم قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) فلو أخذنا في المقام بصور المانعية التي تقتضي كون الشكّ في النجاسة شكّاً في الامتثال لا في التكليف، فالأمر واضح أيضاً؛ لأنّ الشكّ في النجاسة لم يرفع التنجيز ما دام راجعاً إلى الشكّ في الامتثال، فلم يوجب القطع بعدم المانعية حتّى يبطل الاستصحاب.

أمّا لو أخذنا في المقام بما يقتضي رجوع الشكّ إلى الشكّ في التكليف، فبالنسبة لما قبل الفحص عن حكم الشرع لدى هذا الشكّ لا إشكال ـ أيضاً ـ في التنجيز بلحاظ عدم

88

الفحص، ولا تجري البراءة وإن كانت الشبهة موضوعية، فإنّ هذا الشكّ وإن كان في ذاته شبهة موضوعية، لكن كلامنا في الحكم الشرعي لهذه الشبهة الموضوعية، وهذه شبهة حكمية يجب الفحص عنها بلا إشكال إلى أن نصل إمّا إلى القطع بعدم ورود أصالة الاشتغال من قبل الشارع في معرض الوصول إلينا بقدر إمكاناتنا عن الفحص، أو إلى مثل أصالة الطهارة، أو إلى هذا الاستصحاب.

نعم، من فحص عن حكم الشرع لهذا الشكّ ووصل إلى القطع بعدم ورود أصالة الاشتغال في معرض الوصول إلينا فهو لا يحتاج في مقام رفع التنجيز إلى هذا الاستصحاب، لكن هذا لا يعني سقوط الاستصحاب باللغوية، فحال وجود هذا الاستصحاب رغم كفاية البراءة العقلية لرفع التنجيز حال وجود البراءة الشرعية في موارد جريان البراءة العقليّة في الشبهات البدويّة، فالبراءة العقليّة شأنها نفي التنجيز ما دمنا لم نعلم بعد الفحص باهتمام الشارع بغرضه لدى الشكّ، والاُصول الشرعيّة المؤمّنة كالاستصحاب أو البراءة الشرعية شأنها إيصال عدم اهتمام الشارع بغرضه حذراً من أن يصل خلاف ذلك إلى العبد، ولا تنافي بينهما.

ومن هنا ظهر الحال فيما لو سلّمنا البراءة العقلية حتّى قبل الفحص، فإنّنا نقول: إنّ هذه البراءة هنا ليست ممّا لا يشكّ فيه أحد، فكان للشارع أن يبرز عدم اهتمامه بواسطة الاستصحاب دفعاً لتوهّم التنجّز.

إلاّ أنّنا مع ذلك كلّه نقول: إنّ أخذ التنجيز دخيلاً في الموضوع غير معقول بظاهره ما لم يُؤوّل بنحو يأتي إنشاء الله، وذلك للزوم المحذور في عالم الجعل، وفي عالم التنجيز، وفي عالم التعبّد الاستصحابي بالنجاسة.

أمّا الأوّل؛ فلأنّ المانعيّة علّقت في المقام على تنجّز النجاسة، وتنجّز النجاسة يعني تنجّز مانعيّتها، وأخذ تنجّز المانعية في موضوع المانعية محال، سنخ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، والتخلّصات الفنّيّة عن الإشكال التي تجري هناك لا تجري هنا، كما يظهر بالتأمّل والمقايسة بين المقامين(1).

لا يقال: إنّنا لا نفترض أخذ تنجّز المانعيّة في موضوع المانعية، بل نفترض أخذ تنجّز


(1) فمثلاً يقال هناك لرفع المحذور: إنّ بالإمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول؛ في حين أنّه لا يمكن هنا القول بأخذ تنجيز الجعل في موضوع المجعول، فإنّ تنجيز الجعل مساوق لتنجيز المجعول؛ لأنّ الجعل غير البالغ مرتبة الفعلية لا يقبل التنجيز.

89

ذات النجاسة في موضوع المانعيّة، أو أخذ تنجّز حكم آخر من أحكام النجاسة غير المانعية في موضوع المانعية.

فإنّه يقال: إنّ المفروض في المقام أن يكون المقصود بالتنجّز تنجّز المانعيّة. أمّا ذات النجاسة ـ بما هي حكم وضعي ـ فهي لا تقبل التنجيز والتعذير. وأمّا تنجّز حكم آخر غير المانعيّة من أحكام النجاسة، فيلزم من أخذه في موضوع المانعيّة صحّة الصلاة في اللباس النجس عمداً إذا لم يكن له أيّ أثر آخر قابل للتنجيز، أو كان له أثر آخر لكنّ الشخص كان جاهلاً به بحيث لم يتنجّز عليه، في حين أنّه لا إشكال في بطلان الصلاة في هذا اللباس عمداً.

ودعوى وجود أثر آخر قابل للتنجّز دائماً ـ ولا أقلّ من حرمة الدخول في الصلاة معه ـ غير صحيحة؛ إذ لو اُريد بذلك الحرمة التكليفيّة فهي ممنوعة، ولو اُريد بذلك الحرمة الوضعية فهي عبارة اُخرى عن المانعيّة، ولو اُريد بها الحرمة التشريعيّة فهي فرع احتمال المانعيّة، فيجب تصوير المانعيّة بقطع النظر عن الحرمة التشريعيّة.

وأمّا الثاني: وهو لزوم المحذور في عالم التنجيز؛ فلأنّه يلزم بطلان منجّزية العلم بالنجاسة فضلاً عن غيره من أدوات التنجيز، فلا يكون العلم بالنجاسة منجّزاً للمانعيّة سواء تكلّمنا في التنجيز الذاتي للعلم، أو تكلّمنا في التنجيز الذي يقال: إنّه يعرض للعلم الإجمالي بواسطة تعارض الاُصول وتساقطها:

أمّا الثاني؛ فلأنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين فتعارض الاُصول إنّما يكون في موارد العلم الإجمالي بسبب لزوم المخالفة القطعيّة، وهنا لو جرى الأصلان معاً لم تلزم المخالفة القطعية، بل ارتفع بذلك ما هو دخيل في موضوع التكليف حسب الفرض وهو التنجيز.

وأمّا الأوّل؛ فلأنّ العلم بالنجاسة حتّى لو كان تفصيلياً لا يمكن أن يؤثّر في المقام أثره الذاتي من التنجيز؛ لأنّ العلم إنّما ينجّز لو تعلّق بتمام الموضوع، والمفروض أنّ التنجيز هنا دخيل في الموضوع، فمنجّزية هذا العلم فرع أن يكون علماً بالتنجيز أيضاً، وكونه كذلك فرع المنجّزية، فلزم الدور، وبتعبير أصحّ: أنّ منجّزيّة العلم فرع أن يكون علماً بتمام الموضوع في المرتبة السابقة، وهذا ليس علماً بالتنجيز في المرتبة السابقة.

وأمّا الثالث: وهو لزوم المحذور في المقام في مرحلة التعبّد الاستصحابي بالنجاسة، فلنوضّح الكلام في المقام في صياغة مبنىً من المباني في الاستصحاب الموضوعي، وهو مبنى كون مرجع الاستصحاب الموضوعي إلى جعل حكم مماثل لحكم ذلك الموضوع.

فنقول: إنّه لو كان الاستصحاب في المقام هو استصحاب تمام الموضوع كان الحكم المماثل

90

واضحاً، ولكنّه ليس كذلك، وإنّما هو استصحاب لجزء الموضوع وهو النجاسة، ويكون الحكم المماثل الثابت باستصحاب جزء الموضوع هو الحكم المعلّق على تحقّق الجزء الآخر، وهذا ما يكون المحقّق النائيني(رحمه الله) مُلزماً به حسب مبانيه وإن لم يلتزم به صريحاً، فالحكم المماثل هنا هو المانعيّة على تقدير الجزء الآخر وهو التنجيز، فالاستصحاب يفيد تنجيز المانعيّة على تقدير التنجيز، ومن المعلوم أنّه على تقدير التنجيز لا معنىً للتنجيز مرّة ثانية(1).

إلاّ أنّ هذه المحاذير إنّما تترتّب لو أخذنا بهذا الوجه، أي: دخل التنجيز في المانعيّة بظاهره، ولكن يمكن تأويله بنحو يتفادى كلّ هذه المحاذير، وذلك بأن يقال: إنّه ليس المقصود بأخذ التنجيز أخذ التنجيز الفعلي، بل المقصود هو أخذ ما يصلح للمنجّزية،أي: أن يكون هناك كاشف للنجاسة بحيث لو كانت النجاسة حكماً تكليفياً قابلاً للتنجيز لتنجزت به، ولعلّ هذا هو مقصود المحقّق النائيني(رحمه الله) وإن كانت العبارة قاصرة، فيرتفع بذلك كلّ المحاذير السابقة:

أمّا بلحاظ عالم الجعل، فكنّا نقول: إنّ المفروض أن يكون المقصود بالتنجيز تنجيز المانعية لا تنجيز نفس النجاسة؛ لأنّ النجاسة لا تقبل بذاتها التنجيز، فلزم أخذ تنجيز المانعيّة في المانعيّة وهو مستحيل، والآن نقول: إنّ المقصود تنجيز نفس النجاسة، ولا محذور في ذلك؛ لأنّنا لم نرد بذلك التنجيز الفعلي، وإنّما المقصود هو: أنّها لو كانت حكماً تكليفيّاً لتنجزت، وهذا ثابت قطعاً.

وأمّا بلحاظ عالم التنجيز فكنّا نقول: إنّ العلم يجب أن يكون علماً بتمام أجزاء الموضوع حتّى ينجّز، وأحد أجزائه هنا هو التنجيز، ولا يعقل التنجيز في الرتبة السابقة، ولكن هنا نقول: إنّ أحد أجزائه ليس هو التنجيز، بل الصلاحية للتنجيز، أي: أنّ النجاسة لو كانت حكماً تكليفياً لتنجّزت، وهذا ثابت قد تعلّق به العلم، فالعلم قد تعلّق بتمام الموضوع، فيتنجّز به الحكم، وعندئذ لو أردنا إجراء الاُصول في أطراف العلم الإجمالي لزمت المخالفة القطعيّة، فتتعارض الاُصول وتتساقط.

وأمّا بلحاظ عالم الاستصحاب، فكنّا نستشكل في الاستصحاب بأنّ استصحاب جزء


(1) هذا فيما إذا أردنا إجراء استصحاب النجاسة، ويأتي شبيه ذلك فيما إذا أردنا أن نستصحب عدم النجاسة، فاستصحاب عدم أحد جزئي الموضوع ـ أيضاً ـ إنّما ينتج على تقدير تحقّق الجزء الآخر؛ إذ لولاه لكان الحكم المقصود نفيه بالاستصحاب منتفياً على أيّ حال، والجزء الآخر في المقام هو التنجيز، والهدف من استصحاب عدم النجاسة هو التعذير، ولا معنىً للتعذير على تقدير التنجيز كما هو واضح.

91

الموضوع معناه جعل حكم مماثل لحكم الموضوع على تقدير الجزء الآخر، والجزء الآخر هو وجود المنجّز بالفعل، فصار الجعل مشروطاً بوجود المنجّز بالفعل، ومع فرض التنجيز في المرتبة السابقة لا يعقل جعل منجِّز آخر، ولكنّنا نقول هنا: إنّ جعل المماثل ليس مشروطاً بوجود المنجّز بل هو مشروط بوجود كاشف صالح للتنجيز، وهذا الكاشف هنا عبارة عن أركان الاستصحاب، وفي طول وجود أركان الاستصحاب يجعل المولى التنجيز بجعل الحكم الاستصحابي، ولا محذور في ذلك.

ثم إنّ الشيخ الكاظمي(رحمه الله) ذكر في تقريره (فوائد الاُصول) ثمرة بين وجهي المانعيّة، أي: أخذ الوصول في الموضوع أو التنجيز فيه، وهي: أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين وصلّى مثلاً العصر في أحدهما والمغرب في الآخر، ثمّ انكشفت نجاسة كلا الثوبين، فإن قلنا: إنّ الموضوع هو النجاسة المنجّزة بطلت كلتا الصلاتين لوجود نجاستين، والتنجّز غير مختصّ بأحد الطرفين، فهنا نجاستان منجّزتان كلّ منهما تبطل إحدى الصلاتين. وإن قلنا: إنّ الموضوع هو النجاسة الواصلة بطلت إحدى الصلاتين فقط؛ لأنّه لم تصل إلينا إلاّ نجاسة واحدة، وهنا يتحيّر في أنّه ماذا تبطل من الصلاتين؟ هل تبطل إحداهما لا بعينها؟ وأيّ معنىً لذلك؟ أو تبطل إحداهما معيّنة؟ وما هو المعيّن لها؟(1)

إلاّ أنّ الموجود في (أجود التقريرات) هو: أنّه على كلا التقديرين لا تبطل إلاّ صلاة واحدة. أمّا على تقدير أخذ الوصول؛ فلأنّه لم تصل إلاّ نجاسة واحدة. وأمّا على تقدير أخذ التنجيز؛ فلأنّ التنجيز بمقدار العلم والعلم تعلّق بواحدة ثمّ الصلاة الباطلة في المقام هي الصلاة الاُولى؛ لأنّ المعلوم الإجمالي هو صرف الوجود، فنعلم ببطلان إحدى الصلاتين بنحو صرف الوجود، وصرف الوجود ينطبق ـ لا محالة ـ على الفرد الأوّل(2).

فكأنّه قاس المقام بمسألة: أنّ الأمر إذا تعلّق بصرف الوجود سقط بمجرّد تحقّق أوّل فرد يصدر من المكلف؛ لانطباق صرف الوجود عليه لا محالة.

أقول: لنسلّم الآن أنّ المعلوم بالإجمال هو صرف الوجود، ولكن لا معنىً في المقام لانطباقه على الوجود الأوّل بمعنى تعيّن الوجود الأوّل للبطلان، وذلك لوجهين:

1 ـ أنّه إن قصد من انطباق صرف الوجود على الوجود الأوّل انطباق الجامع بحدّه


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 345 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 367 ـ 368.

92

الجامعي عليه، فهذا خلف كونه فرداً أوّلاً في باب العلم وفي باب الأمر معاً، فإنّ الجامع بحدّه الجامعي لا ينطبق على الفرد الأوّل ولا على الفرد الثاني؛ لأنّ المفروض تحدّده بحدّ خاصّ. وإن قصد بذلك أنّ الفرد الأوّل مصداق لصرف الوجود، فينطبق عليه انطباق الكلّيّ على مصداقه، فالثاني ـ أيضاً ـ كذلك، ولا فرق بينهما، وما يقال في باب الأمر من الانطباق على الأوّل قهراً مرجعه نكتةٌ ترجع إلى الأمر المحمول على الطبيعة، لا إلى نفس الطبيعة؛ وذلك لكون الأمر ناشئاً من ملاك واحد، وقد حصل الملاك، فينتفي الأمر، فصرف الوجود هناك كان محموله ـ وهو الأمر ـ سنخ محمول يضمحلّ بالفرد الأوّل، وهذا بخلاف ما لو فرض المحمول هو العلم كما في المقام.

2 ـ أنّه وقع الخلط بين العلم الإجمالي الذي نحن بصدده والعلم الإجمالي الملحوظ في هذه الكلمات.

توضيحه: أنّه لو كان طرفا العلم الإجمالي طوليين، كما لو علمنا إجمالاً أنّ زيداً: إمّا يصلّي في يوم الجمعة، أو السبت، فصلّى في كلا اليومين، فلنفرض أنّ العلم ينطبق في المقام على الفرد الأوّل، فصلاته في يوم الجمعة هي الصلاة المعلومة إجمالاً، ولا تصل النوبة في ذلك إلى الصلاة الثانية، ولكن فيما نحن فيه يجب أن نتكلّم في تعيين المانع عن صحّة الصلاة، ويجب أن يكون للمانع تعيّن واقعي حتّى تتعيّن بذلك الصلاة الباطلة، وقد علم إجمالاً أنّ المانع: إمّا هو نجاسة هذا الثوب، أو نجاسة ذاك الثوب، وهما فردان عرضيّان نريد أن نعيّن المانع منهما قبل أن يصلّي المصلّي في أيّ واحد من الثوبين. هذا كلّه هو تعليقنا على ما في (أجود التقريرات) في المقام.

وأمّا ما مضى نقله عن (فوائد الاُصول) من أنّه مع فرض نجاستهما معاً واقعاً إن كان الدخيل في الموضوع هو الوصول بطلت إحدى الصلاتين؛ لأنّ الواصل نجاسة واحدة. وإن كان الدخيل فيه هو التنجّز بطلت كلتاهما لتنجّز كلا الطرفين، فقد أورد عليه السيد الاُستاذ بأنّه حتّى على القول بدخل التنجيز ـ أيضاً ـ ليس عندنا إلاّ تنجيز واحد.

وبيان حاقّ مراده: أنّ في موارد العلم الإجمالي وإن كنّا نقول بمنجّزيّة المعلوم بالإجمال في تمام الأطراف، لكن ذلك إنّما هو من جهة تعارض الاُصول، وإلاّ فالعلم الإجمالي إنّما يستوجب تنجيزاً واحداً للجامع دون الأطراف بما هي أطراف، والاُصول المتساقطة في الأطراف إنّما هي الاُصول الجارية بلحاظ العناوين التفصيليّة، كأصالة الطهارة في هذا الثوب وفي ذاك الثوب، ولكن هذا لا يمنع عن إجراء الأصل في عنوان إجمالي، وذلك بأن

93

نقول: نحن علمنا بنجاسة أحدهما وشككنا في نجاسة الثاني، فنجري أصالة طهارة الثاني، إذن فلم تتنجّز إلاّ نجاسة واحدة(1)، فلم تبطل إلاّ صلاة واحدة.

أقول: تارةً نتكلّم بناءً على دخل التنجّز في الموضوع، وهو الفرض الذي وقع الخلاف فيه بين فوائد الاصول والسيد الاُستاذ في أنّه هل يوجب بطلان كلتا الصلاتين أو إحداهما، واُخرى نتكلّم بناءً على دخل الوصول الذي يبدو أنّه مورد اتّفاق بينهما في أنّ الباطل واحد، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في فرض دخل التنجيز، وأنّه هل يتنجّز واحد أو اثنان. والكلام فيه يقع في جهتين:

1 ـ في تشخيص الوظيفة الظاهريّة قبل انكشاف تنجّس كلا الثوبين.

2 ـ في تشخيص الحكم الواقعي بعد الانكشاف، وأن الوظيفة الظاهرية قبل الانكشاف هل تؤثّر في الوظيفة الواقعية بعده أو لا؟

أمّا الجهة الاُولى: وهي في مقدار ما هو المنجّز عليه قبل الانكشاف، فالتحقيق: أنّ الصور هنا ثلاث:

1 ـ أن يعلم بنجاسة أحد الثوبين ويحتمل نجاسة الآخر، ولا تعيّن للمعلوم واقعاً لو كانا نجسين.

2 ـ نفس الصورة الاُولى بفرق افتراض كون النجاسة المعلومة لها تعيّن واقعي، كما لو علم بنجاسة دمّيّة في أحد الثوبين واحتمل نجاسة بوليّة في الآخر.

3 ـ أن يعلم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر.

أمّا الصورة الاُولى(التي هي أشكل الصور) فقد يقال كما مضى عن السيد الاُستاذ: إنّنا نجري الأصل المؤمّن عن النجاسة الثانية بعنوانها الإجمالي، إلاّ أنّ هذا يحتاج إلى تعميق وتحقيق، فنقول: إنّنا تارةً نتكلّم في الاُصول العقليّة، واُخرى في الشرعيّة. امّا إذا تكلّمنا في الاصول العقليّة مبنيّاً على القول بالبراءة العقليّة، فبالإمكان أن يقال: إنّ نجاسة واحدة منجّزة بالعلم، والثانية مؤمّنة بالشكّ، ولا إشكال فيه، ولا يقال: إنّ الفرد المردّد لا وجود له،


(1) هذا الذي جعله اُستاذنا(رحمه الله) بياناً لحاقّ مراد اُستاذه يكون إلى هنا مصرّحاً به في المصباح: ج 3، ص 56. إلاّ أنّ ما ورد في مصباح الاُصول ليس بصدد إبطال الثمرة بين مانعيّة العلم بالنجاسة ومانعية تنجيزها، بل بصدد إبطال الثمرة بين شرطية الطهارة ومانعية النجاسة. نعم، يستنبط منه ـ أيضاً ـ قهراً بطلان الثمرة بين مانعية العلم بالنجاسة ومانعية تنجيزها، فراجع.

94

فلا معنى لتنجيزه والتعذير عنه، فلابدّ من التعيّن الواقعي لمصبّ التنجيز والتعذير، ولا تعيّن له هنا، فإنّنا نقول: إنّ التنجيز والتعذير ليس مصبّهما الوجود الواقعي، وإنّما مصبّهما الوجودات الواصلة، أي: الوجودات العلميّة والظنّية والشكّيّة والوهميّة، والمقدار الواصل معيّن في اُفق وصوله، وهو عنوان أحدهما، فأنا أعلم بنجاسة أحدهما، فيتنجّز المقدار الواصل، وأشكّ في نجاسة الثاني، فأكون معذوراً عنها. وأمّا إذا لم نؤمن بالبراءة العقلية وتكلّمنا في الاُصول الشرعية فقد بيّنت في لسان الأدلة بلسان الحكم الشرعي ككّل شيء لك حلال المحتاج إلى موضوع خارجي، فلا بدّ من تعيّن مصبّها خارجاً، وعند ئذ توجد لدينا صيغ ثلاث في مقام التعيين:

1 ـ أن يقول العالم: عندي نجاسة معلومة وأشكّ في نجاسة الثوب الثاني، فأجري الأصل المؤمّن عنها. وهذا واضح البطلان؛ لأنّ النجاسة المعلومة غير متعيّنة على فرض تعدّد النجاسة في الواقع الذي هو المفروض في المقام، وغير المتعيّن يكون غيره ـ أيضاً ـ غير متعيّن لا محالة.

2 ـ أن نجري الأصل لا في الطرف الثاني كما في الصيغة الاُولى، بل في كلا الطرفين، ببيان: أنّ في كلّ طرف شكّين: أحدهما احتمال وجود النجاسة المعلومة فيه، وهذا لا يدفع بالأصل للتعارض، والثاني احتمال وجود نجاسة اُخرى، وندفعه بالأصل. وهذا كسابقه في البطلان؛ لأنّ النجاسة المعلومة غير معيّنة، فغيرها ـ أيضاً ـ لا يكون معيّناً.

3 ـ أن نجري الأصل المؤمّن في كلا الطرفين بالفعل، لكن نقيّد كلاً منهما بما إذا كان الآخر نجساً(لا تقل: لماذا لا تشترط كون الآخر طاهراً؟ لأنّه في هذا الفرض نعلم بنجاسة الأوّل). وهذا الوجه معقول، وفائدة ذلك: أنّنا نعلم إجمالاً بتماميّة شرط أحد الأصلين على أقلّ تقدير، فيتولّد من إجراء الأصلين بهذا النحو العلم الإجمالي بوقوع إحدى الصلاتين مع الطهارة الظاهرية، وهذا مؤمّن لا محالة، وتأمين العلم الإجمالي عقلّي، فلا بأس بالتردّد الخارجي فيه كما عرفت، ولا يتعارض الأصلان في المقام عند نجاسة كليهما(وهي المفروض)؛ لأنّ الواصل منهما أحدهما. وهذا الوجه لا إشكال فيه ثبوتاً، لكنه غير صحيح إثباتاً على ما مضى منّا من الإشكال في هذا النحو من التخيير في إجراء الأصول في محلّه(1).

 


(1) لا أتذكّر أنه مضى شيء من هذا القبيل، والظاهر أنّ هذا اشتباه، وأنّ الذي مضى إنّما هو الحديث عن الترخيص في كلّ واحد من الطرفين على تقدير عدم الترخيص في الطرف الآخر، أي: أنّ الحديث كان عن

95

وأمّا الصورة الثانية، وهي ما لو كان هناك تعيّن واقعي للنجاسة المعلومة إجمالاً، فلا بأس فيها بإجراء الاُصول العقلية والشرعية عن النجاسة البولية مثلاً؛ لأنّها شيء مشكوك فيه، وليس هنا معلوم إجمالي متساوي النسبة إليه وإلى النجاسة الاُخرى حتّى يستشكل في جريان الأصل الشرعي كما في الصورة الاُولى.

وأمّا الصورة الثالثة، وهي ما لو علم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر، فأيضاً يلتزم فيها بوحدة المنجّز، ولا فرق هنا بين التعيّن الواقعي وعدمه، فلنفرض أنّ هذا الشخص كان مشتبهاً، وكان كلاهما نجساً في الواقع، ومع ذلك يكون الثاني بعنوانه الإجمالي معذّراً عنه، ولا بأس بعدم التعيّن الخارجي؛ لأن المعذّرية والمنجّزية هنا عقلية (على أنّه هو يعتقد التعيّن، فيجري في عمله حسب اعتقاده).

وأمّا الجهة الثانية: وهي بلحاظ ما بعد انكشاف الحال، فالصحيح أنّه لا بدّ من لحاظ الأدلّة التي تقيّد المانعيّة، لنرى مقدار تضييقها لها، فإنّ مقتضى الطبع الأوّلي لها هي المانعية المطلقة للنجاسة، وإنّما رفعنا اليد عنها بالروايات الخاصّة الدالّة على صحّة الصلاة عند الجهل، وهي كلّها واردة في الشبهات البدوية التي تكون مجرىً لأصل مؤمِّن يعيِّن وظيفة المكلف خارجاً ويحدّدها، فنرفع اليد عن الإطلاق بهذا المقدار. وأمّا التأمين الذي يكون من قبيل ما نحن فيه فيحتمل الفرق بينه وبين التأمين المتعارف، فنرجع في ما نحن فيه إلى إطلاق المانعية، فتبطل كلتا الصلاتين.

ولو فرضنا شمول الأدلّة المخصّصة لتأمين من هذا القبيل، وجمدنا على حاقّ اللفظ في قولنا: إنّ المانعية دائرة مدار التنجيز نفياً وإثباتاً، قلنا: أمّا في الصورة التي يوجد للمعلوم


الترخيص والتأمين في مقابل نفس الحكم الواحد المعلوم بالإجمال بهدف أن نصل إلى جواز المخالفة الاحتمالية والتخيير في مخالفة التكليف في أحد الطرفين، فأبطل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ذلك: تارةً بأنّ هذا لا يثبت التخيير، بل يثبت ترخيصاً في فرد غير معيّن، وهو لغو، واُخرى بأنّ هذا في روحه ترخيص تعييني من دون مرجّح، ومجرد عدم معرفتنا للطرف المرخّص فيه لا يرفع إشكال عدم الترجيح، فإنّ ملاك الترخيص وهو الشكّ نسبته ـ على أيّ حال ـ إلى الطرفين على حدٍّ واحد، وملاك عدم الترخيص وهو حرمة المخالفة القطعية ـ أيضاً ـ نسبته إليهما على حدٍّ واحد، فإشكال لزوم الترجيح بلا مرجح باق على حاله.

راجع بهذا الصدد أواخر بحث شبهة التخيير قبيل تنبيهات العلم الإجمالي. أما في ما نحن فيه فالكلام إنّما هو في التأمين في مقابل تكليف ثان لا في مقابل التكليف الواحد المعلوم بالإجمال، ومن الواضح أنّ إطلاق دليل التأمين يشمله، وأثره عدم استحقاق عقاب ثان لمن ارتكب الطرفين.

96

بالإجمال تعيّن واقعي، فلا شكّ في أنّ إحدى الصلاتين بعينها باطلة والاُخرى بعينها صحيحة. وأمّا في الصورة التي لا يوجد له تعيّن واقعي، فهنا لو لم يكن هذا التأمين موجوداً لتنجّزت كلتا النجاستين وشملهما دليل المانعية، لكن بعد التأمين بمقدار الواحد لا يمكن لدليل المانعية شمولهما جمعاً، والشمول لأحدهما بعينه غير صحيح؛ لأنّ هذه النجاسة نسبتها إلى المعلوم الإجمالي كنسبة الاُخرى إليه، فلا مبرّر لتطبيق المعلوم على ذاك دون هذا، ولا يبقى في المقام إلاّ فرض جعل المانعية للمجموع بأن ينهى المولى عن الصلاة في مجموع الثوبين، وهذا معقول في صلاة واحدة، بأن يصبح لبس مجموعهما فيها مبطلاً لها، ولا يعقل في صلاتين بأن يحرم لبس المجموع حتّى بالتوزيع فيهما؛ لأنّ معنى ذلك: أنّ إحدى الصلاتين مقيّدة بعدم أحد الثوبين، وليست كلتاهما مقيّدة بذلك، وإلاّ لبطلت كلتاهما، وهو خلف عدم تنجّز كلتا النجاستين، وتقييد إحدى الصلاتين في المقام غير معقول؛ لأنّ التقييد إنّما يكون بلحاظ متعلّق الأمر، فلو تعلّق الأمر بعنوان إحدى الصلاتين تعقّل تقييدها، لكنّ الأمر متعلّق بكل واحدة من الصلاتين بعينها لا بإحدى الصلاتين، وبذلك يسقط دليل المانعية رأساً، ويجب الرجوع إلى قدر متيقّن في المقام،وعند ئذ قد يقال: إنّ القدر المتيقّن من المانعية لا يشمل المقام أصلاً، أو لا يقتضي أكثر من ترك إحدى الصلاتين تخييراً، ولكنّ الواقع: أنّنا لا نحتمل أن يكون فرض نجاسة كلا الثوبين أحسن حالاً من فرض نجاسة أحدهما، بأن يفترض أنّه لدى نجاسة أحدهما تبطل إحدى الصلاتين، ولدى نجاستهما معاً وعدم تعيّن للمعلوم بالإجمال تصحّ الصلاتان، أو يلتزم مثلاً بالمانعية التخييرية في فرض نجاستهما، أي: أنّه يجوز له أن يصلّي في أحد الثوبين، وصحّة صلاته في أحدهما مشروطة بعدم الصلاة في الآخر، أو إعادتها لو صلاّها فيه في ثوب آخر مثلاً، فهذا ـ كما ترى ـ تسهيل في فرض نجاسة كلا الثوبين غير موجود عند نجاسة أحدهما فقط؛ إذ المانعية هناك تعيينية وهنا تخييرية، وهذا ممّا لا نحتمله، وهذا معناه: أنّ القدر المتيقّن أكثر من هذا المقدار، فننتهي إلى مانعيّة كلتا النجاستين.

هذا. وقد تحصّل بما ذكرناه إشكالان على السيّد الاُستاذ.

أحدهما: مقتنص من الجهة الاُولى، وهو أنّ إجراء الأصل عن الثاني غير محتمل في بعض الأحيان(1).


(1) قد عرفت أنّ هذا غير صحيح.

97

وثانيهما: مقتنص من الجهة الثانية، وهو أنّ دليل المانعية قد لا يمكن تطبيقه على إحدى الصلاتين دون الاُخرى، لا لعدم تقييد إطلاقه بلحاظ مثل المقام فحسب، بل لما عرفت ـ أيضاً ـ من بطلان الشقوق عقلاً، وهي مانعية هذه النجاسة بعينها أو تلك بعينها، أو مانعية المجموع، فيسقط دليل المانعية، ولا بدّ من الرجوع إلى قدر متيقّن من الخارج.

المقام الثاني: في فرض دخل وصول النجاسة في المانعيّة، وقد انقدح من مطاوي كلماتنا في المقام الأوّل ما ينبغي أن يقال على هذا الوجه، ومحصّله هو: أنّه منذ البداية إمّا أن نجمد في بيان المانع على حاقّ عنوان النجاسة المعلومة كما كنّا أحياناً نجمد على عنوان النجاسة المنجّزة، أو نتصرّف في ذلك، بأن نقول: إنّ دليل المانعيّة مطلق، وإنّما يقيّد بالعلم للروايات الخاصّة والواردة في فرض الجهل الحاكمة بصحّة الصلاة، والقدر المتيقّن منها هو فرض الجهل المتعارف، فما نحن فيه باق تحت إطلاق دليل المانعيّة.

فإن مشينا على المشرب الثاني، قلنا بلحاظ ما قبل الانكشاف: إنّ احتمال نجاسة ثانية مساوق لاحتمال مانعية ثانية؛ لأنّ المفروض أنّ النجاسة الثانية ـ لو كانت ـ فهي داخلة تحت إطلاقات المانعيّة، فتجري الاُصول المؤمّنة عن هذه المانعيّة، أو لا تجري على التفصيل الماضي في الشقوق الثلاثة في المقام الأوّل. وأما بعد انكشاف نجاسة كلا الثوبين فيظهر للمكلف بطلان كلتا الصلاتين.

وإن مشينا على المشرب الأوّل فبلحاظ الجهة الاُولى، أي: قبل الانكشاف يقطع المكلف بأنّه لا يوجد أكثر من مانع واحد؛ لعدم وصول أكثر من نجاسة واحدة، وهذا هو الفرق بين أخذ العلم وما مضى من أخذ التنجّز في الموضوع، فهناك احتجنا إلى الأصل المؤمّن دفعاً للتنجيز، وهنا لا نحتاج إليه.

نعم، مع فرض عدم التعيّن الواقعي للمعلوم بالإجمال يأتي الإشكال الماضي في كيفيّة تصوير المانع، كما نشير إليه بالنسبة إلى ما بعد الانكشاف.

وأمّا بلحاظ الجهة الثانية، أي: بعد انكشاف نجاسة كلا الثوبين فمع تعيّن المعلوم بالإجمال تكون الصلاة فيه هي الباطلة والاُخرى هي الصحيحة، ومع عدم تعيّنه يأتي ما مضى من الإشكال بشقوقه الأربعة: من أنّه هل المانع كلاهما، أو هذا بالخصوص، أو ذاك بالخصوص، أو مجموعهما؟

هذا تمام الكلام على تقدير مانعية النجاسة.

وأمّا على تقدير شرطيّة الطهارة، وهو الذي اتّجه إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) على ما يظهر

98

من عبارته(1) فلا بدّ من فرض توسعة في الشرط تنسجم مع صحّة الصلاة عند الجهل.

ونلفت النظر إلى أنّه يوجد فرق أساس بين ما مضى من تضييق دائرة المانعيّة وما يجب أن نتكلّم فيه هنا من توسعة دائرة الشرطيّة، وهو أنّه في الأوّل كنّا نقصد التضييق، فلم نحتج إلى إخراج النجاسة عن المانعيّة، بل كان بالإمكان فرض بقائها في دائرة المانعيّة مع إضافة قيد آخر إليها كقيد الوصول، أو التنجيز، فتصبح النجاسة جزء المانع. وأمّا هنا فالفرض توسيع دائرة الشرطيّة، فلا بدّ لنا من إخراج الطهارة الواقعيّة بخصوصيّتها عن دائرة موضوع الشرطيّة، وعزلها بالمرّة حتّى بنحو جزء الموضوع؛ إذ لو دخلت بخصوصيّتها ـ ولو بنحو جزء الموضوع ـ بطلت الصلاة بعدمها. وهذا هو الذي يثير إشكالاً ما كنّا نواجهه بهذا الوضوح في تضييق المانعيّة، وهو أنّه بعد العزل كيف نجري استصحاب الطهارة مع أنّها ليست دخيلة في الحكم ولو بنحو جزء الموضوع، وهذا بخلافه على المانعيّة التي يمكن أن يقال فيها: إنّ استصحاب النجاسة أو عدمها يجري؛ لانها جزء الموضوع.

هذا. وفي مقام توسيع دائرة الشرطيّة عبّر المحقّق الخراساني(رحمه الله)(2) بأنّ الشرط هو إحراز الطهارة ولو بأصل أو قاعدة، وعبّر المحقّق النائيني(رحمه الله)(3)بأنّ الشرط هو العلم بالطهارة، ولا بدّ أن لا يكون مقصوده هو العلم الوجداني بالطهارة الواقعية كما هو واضح، إذن فلا بدّ من تصوير المطلب بأحد وجوه:

1 ـ أن يقصد العلم الوجداني بالجامع بين الطهارة الواقعيّة والظاهريّة. وهذا لا يكفي في تصحيح الفتاوى الفقهيّة؛ لأنّه يلزم منه بطلان الصلاة فيما لو صلّى بلا مؤمّن بداعي الفحص بعد الصلاة والعمل بالتكليف مثلاً، ثمّ تبيّن بعد الفحص الطهارة.

2 ـ أن يقصد نفس الجامع بين الطهارتين، فيرتفع الإشكال السابق، ولكن يلزم منه بطلان الصلاة فيما لو صلّى مع القطع بالطهارة ثمّ تبيّنت النجاسة. وهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح.

3 ـ أن يقصد مطلق المؤمّن، فيشمل العلم الوجداني كما في المثال السابق، فيرتفع إشكال الوجه السابق.


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 292، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكيني. وراجع ـ أيضاً ـ تعليق الآخوند على الرسائل، ص 181 حسب منشورات بصيرتي.

(2) راجع المصدرين السابقين.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 344 ـ 345 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 363.

99

وهذا الوجه فرقه عن الوجه الأوّل هو أنّه لو كان الثوب مجرىً للأصل المؤمّن ولم يعرفه المصلّي، ثمّ تبيّن ذلك بعد الصلاة، صحّت صلاته على هذا الوجه، بخلاف الوجه الأوّل، ولكن يرد عليه: أنّه لو كان الثوب طاهراً واقعاً ولم يكن مؤمّن في المقام، لزم البطلان.

وبإمكانك بعد هذا استخراج صيغ اُخرى مع الالتفات إلى إشكالها، فلا يهمّنا هنا إلاّ ذكر ما هو الصحيح في المقام.

وهو: أن يجعل الشرط هو الجامع بين الطهارة الواقعية والمؤمِّن الذي هو جامع العلم الوجداني والمؤمّن الشرعي.

أو أن يبرز ابتداءً فردا المؤمّن ويجعل الشرط الجامع بين الاُمور الثلاثة، أي: الطهارة الواقعية والعلم الوجداني والمؤمّن الشرعي.

وجميع هذه الصور مشترك في عزل الطهارة الواقعية عن الشرطية، ويختلف بعضها عن بعض في جعلها فرداً للشرط وعدمه وعزلها عن الشرطية قد أثار ـ كما مرّ ـ مشكلة أنّه كيف يمكن استصحاب الطهارة مع عدم دخلها في صحّة الصلاة؟ والكلام حول هذه المشكلة يقع في مقامين:

أحدهما: بلحاظ الصور التي لا تجعل الطهارة فرداً للشرط، فإن انحلّ الإشكال فيها فقد انحلّ في كل الصور.

وثانيهما: بلحاظ الصور التي تجعل الطهارة فرداً للشرط.

أمّا المقام الأوّل، فالإشكال يمكن تقريبه بأحد وجوه ثلاثة:

1 ـ اللغوية؛ إذ الاستصحاب يعبّدنا بالطهارة، ولا أثر للمتعبَّد به في المقام.

ويندفع ذلك بأنّه يكفي في انتفاء اللغوية ترتّب الأثر على نفس التعبّد ولو لم يكن للمتعبّد به أثر في المقام. والتعبد هنا يحقّق لنا الطهارة الظاهرية المصحّحة للصلاة.

2 ـ أنّ مفاد الاستصحاب جعل المستصحب بقاءً من قبل الشارع، فلا بدّ أن يكون المستصحب قابلاً للجعل من قبل الشارع، بأن يكون حكماً شرعيّاً أو يكون موضوعاً لحكم شرعي حتّى يمكن جعل حكمه، والمستصحب في المقام ليس كذلك.

وكأنّ المحقق العراقي(قدس سره) كان ناظراً إلى هذا الوجه حيث قال: إنّ الإشكال يندفع إذا قلنا بأنّ الطهارة الخبثيّة من الأحكام المجعولة(1) وإلاّ فالوجه الأوّل مثلاً لا يندفع بهذا الجواب.

 


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 350 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، وراجع ـ أيضاً ـ نهاية الأفكار:

100

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه لو تمّ أصله تندفع صغراه في المقام إذا قلنا بأنّ الطهارة الخبثيّة بنفسها حكم شرعي، فلا حاجة إلى تصوير حكم تكون هذه موضوعاً له.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه غير صحيح كبرىً، فإنّ الجعل لا يحتاج إلى أزيد من إعمال العناية بالفرض والاعتبار، وفرض المشكوك معلوماً أو غير الموجود موجوداً ونحو ذلك. وهذا كما يتعقّل في باب الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها يتعقّل في كلّ شيء. نعم، يبقى السؤال عن فائدة هذه العناية والاعتبار، وهذا يرجع إلى الإشكال الأوّل الذي عرفت جوابه، وليس المجعول في الاستصحاب إلاّ عناية من هذا القبيل، وباب الفرض والاعتبار واسع.

3 ـ أنّ مفاد دليل الاستصحاب حرمة نقض اليقين بالشكّ. والنقض هنا ليس بمعنى النقض الحقيقي كما هو واضح، بل بمعنى النقض العمليّ، فلا بدّ من قابليّة المستصحب لأن يكون له نقض عمليّ وجري عمليّ، أي: أن يكون قابلاً للتنجيز والتعذير بنفسه أو بأثره، كما ياتي توضيحه في الأبحاث الآتية ـ إن شاء الله ـ. وهذا إشكال إثباتي وليس إشكالاً ثبوتياً، فلو كان تصوير الشرطيّة في المقام بنحو يكون ثبوتاً جريان الاستصحاب فيه منحصراً بما لا يسلم من هذا الإشكال لكانت نفس صحيحة زرارة في المقام دليلاً على أنّه لا يشترط في الاستصحاب كون المستصحب قابلاً للنقض العمليّ والجري العمليّ، ويكفي فيه كون نفس الاستصحاب ذا أثر عمليّ، ولكن بما أنّ تصوير الشرطيّة ليس منحصراً بذلك لما سيتضح ـ إن شاء الله ـ في المقام الثاني من أنّ بالإمكان تصوير كون الطهارة مصداقاً من مصاديق الشرط، وأنّ هذا يحل الإشكال، فهذا الإشكال يبقى مسجّلاً في المقام على الفروض التي تعزل الطهارة عن الشرطية نهائياً، ولا جواب عليه.

إلاّ أنّ الشيخ الآخوند(رحمه الله) حاول الجواب(1) عن ذلك بوجهين:

1 ـ أنّ الطهارة الواقعية وإن لم تكن موضوعاً للشرطيّة، لكنّها قيد لموضوع الشرطيّة؛ فإنّ موضوع الشرطيّة هو إحراز الطهارة لا إحراز أيّ شيء، فهو قيد القيد.

وهذا جوابه واضح؛ فإنّ ما يكون قيداً هو الوجود العنواني الذهني المقوّم للصورة الذهنية في اُفق الإحراز، لا الوجود الواقعي، وإلاّ لبطلت الصلاة بانتفاء الطهارة، وهو خلف.

 


القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 51.

(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 292، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكيني.

101

2 ـ أنّها لا تزال لها نحو شرطيّة اقتضائيّة، فالاستصحاب يجري بلحاظ الشرطيّة الاقتضائيّة.

وهذا كلام غير مفهوم؛ ولذا فصّلوا في تفسيره، فذكر المحقق الإصفهانيّ(رحمه الله) في تفسيره شيئاً(1)، والمحقّق النائيني(رحمه الله)(2)شيئاً.

فإن كان المقصود: أنّه كانت هناك مصلحة لجعل الشرطية للطهارة لكنّها كانت ناقصة لم تحرّك المولى، فهذا لا يكون له نقض عمليّ، ولا يوجب جرياً عمليّاً، ولا يندفع به الإشكال كما هو واضح.

وإن كان المقصود الشرطيّة اللولائيّة، أي: أنّ الطهارة الواقعيّة شرط لولا تحقّق موضوع الطهارة الظاهرية (لا بمعنى: أنّ الشرط هو الجامع بينهما الراجع إلى المقام الثاني، بل بمعنى: أنّ الطهارة الواقعيّة شرط في حالة وهي غير الحالة التي يحكم فيها بالطهارة الظاهريّة، والطهارة الظاهريّة شرط في الحالة الاُخرى، من قبيل كون القيام مثلاً شرطاً في حال الصحّة، والجلوس شرطاً في حال المرض) ففيه: أنّ هذا إن تعقّلناه ثبت أنّ الطهارة موضوع للحكم في غير حالة جريان الاستصحاب، وبهذا لا يرتفع الإشكال عن الاستصحاب.

فلو اخترنا الصيغ التي تسقط الطهارة حتّى عن الفرديّة للشرط، لزم بطلان استصحابها ما لم يرد دليل خاصّ.

وأمّا المقام الثاني، فنتكلّم فيه في أنّ فرض الطهارة فرداً من أفراد الشرط هل يصحّح جريان الاستصحاب، ويدفع الإشكال السابق بالرغم من عدم ترتّب الأثر على نفس هذا الفرد وترتّبه على الجامع، أو لا؟

لا إشكال في سائر الموارد أنّه يكفي في جريان الاستصحاب اليقين بوجود شيء يكون فرداً لجامع ذي أثر والشكّ في بقائه، ولكن في خصوص ما نحن فيه ذكر المحقّق العراقي(رحمه الله)(3): أنّ هذا لا يمكن؛ وذلك لأنّه إمّا يقصد بالاستصحاب في مورد يكون الأثر مترتّباً على الجامع


(1) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 74 بحسب طبعة آل البيت.

(2) لم أرَ شيئاً من هذا القبيل في كلمات المحقّق النائيني(رحمه الله)، ولعلّ هذا التعبير كان خطأً منّي أو من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله). نعم، ورد في كلمات المحقّق العراقي(رحمه الله) الاعتراض على جواب الشيخ الآخوند بالشرطيّة الاقتضائيّة. راجع المقالات: ج 2، ص 349 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، ونهاية الأفكار: ج 3، ص 50.

(3) راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 50 ـ 51. وجزءٌ ممّا ذكره في نهاية الأفكار جاء ذكره ـ أيضاً ـ في المقالات: ج 2، ص 349 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي.

102

بين ما له حالة سابقة وغيره استصحاب الفرد الذي له حالة سابقة، أو يقصد به استصحاب الحصّة من الجامع الموجودة فيه، أو يقصد به استصحاب الجامع:

أمّا استصحاب الفرد فهو غير صحيح من دون فرق بين ما نحن فيه وغيره من الموارد؛ لأنّه تدخل في المستصحب ـ عند ئذ ـ الخصوصيّات الفرديّة زائداً على ما في ضمن الفرد من حصّة من الجامع، والمفروض أنّ تلك الخصوصيّات الفرديّة لا أثر لها، فلا معنى لإدخالها في الاستصحاب الذي هو تعبّد بالآثار، وتنجيز لها أو تعذير عنها.

وأمّا استصحاب الحصّة فهذا في سائر الموارد صحيح، لكنّه في خصوص ما نحن فيه ليس صحيحاً. توضيحه: أنّ الحصة عندما يكون الأثر لصرف الوجود إنّما يترتّب الأثر عليها إن لم تكن مسبوقة بحصّة اُخرى، وإلاّ لا نطبق صرف الوجود على تلك الحصّة الاُخرى، وانسلخت هذه الحصّة عن الأثر، ففي سائر الموارد كنّا نثبت بالاستصحاب حصّة غير مسبوقة بحصّة اُخرى، وهذا لا بأس به. وأمّا في ما نحن فيه فهذا غير ممكن؛ وذلك لأنّه إمّا أن يفرض في علم الله وجود المستصحب واقعاً، أي: بقاء الطهارة الواقعيّة حقيقةً، أو يفرض عدمه. وعلى الثاني: إمّا أن يفرض ثبوت استصحاب الطهارة، أو يفرض عدمه، كما إذا لم يكن الشارع جاعلاً للاستصحاب في مثل المقام مثلاً. فهذه حالات ثلاث، تكون تلك الحصة من الجامع الثابتة في ضمن الطهارة الواقعية في بعضها مسبوقة بحصة اُخرى تسلخها عن الأثر، وفي بعضها غير مسبوقة بذلك، بيانه:

أنّه في الحالة الاُولى وهي حالة صدق الاستصحاب، أي: وجود المستصحب واقعاً ليست تلك الحصّة مسبوقة بحصّة اُخرى، فإنّ المستصحب يكون ثابتاً بقطع النظر عن الاستصحاب وفي المرتبة السابقة عليه، فهي الحصّة الاُولى دون الطهارة الاستصحابية التي هي الحصّة الاُخرى، فالأثر يترتّب على الطهارة الواقعية دون الاستصحابية.

وفي الحالة الثانية وهي حالة كذب الاستصحاب مع جريانه قد وجدت حصّة الطهارة الاستصحابية ولم توجد حصّة الطهارة الواقعية، فالأثر ترتّب على حصّة الطهارة الاستصحابية وسلَخت تلك الحصّة حصّة الطهارة الواقعية عن الأثر؛ لما مضى من أنّه إذا وجدت حصّةٌ قبل وجود حصّة اُخرى تسلخ تلك الحصّة بقيّة الحصص عن الأثر، ففي هذا الفرض أركان الاستصحاب لا تكون تامّة؛ لأنّ الحصّة المستصحبة لا أثر لها.

وفي الحالة الثالثة وهي حالة كذب الاستصحاب مع عدم جريانه لم يوجد شيء من الحصّتين، فلم تسلخ أيّ منهما الاُخرى عن الأثر، فتكون أركان الاستصحاب تامّة كما في

103

الحالة الاُولى، وعليه فجريان الاستصحاب في المقام موقوف على إحدى الحالتين: الثالثة أو الاُولى؛ لتوقّفه على تمامية الأركان المتوقّفة على إحداهما. وهذا معناه توقّف جريان الاستصحاب: إمّا على عدم جريانه، أو على مطابقته للواقع، وهو غير معقول.

أمّا الأوّل فواضح؛ إذ لا يعقل توقّف وجود الشيء على عدمه، وترتّبه عليه. وأمّا الثاني فكذلك؛ فإنّ الأصل يوضع ليكون حجّة في فرض الصدق والكذب معاً، ويؤخذ به عند الشكّ، ولا معنى لتخصيص حجّيّة الأصل بفرض صدقه، فلو علمنا بصدقه، أي: علمنا بالواقع، فأيّ حاجة لنا إليه؟!

وقبل أن ندخل في بيان إشكال المحقّق العراقي(رحمه الله) على استصحاب الجامع نناقش كلامه في استصحاب الحصّة، فنقول: كان ينبغي له أن يذكر في الحالة الاُولى ترتّب الأثر على الحصّة الواقعيّة، لا لتقدّمها على الحصّة الاستصحابية؛ بل لكونهما في عرض واحد، فيشتركان في الأثر؛ فإنّ الحصّة الواقعيّة ليست أقدم زماناً من الحصّة الاستصحابية، وإنّما هما في زمان واحد، ولا عبرة بفرض تقدّم رتبيّ؛ فإنّ العبرة في باب ترتّب الأثر على الفرد الأوّل عند كونه أثراً لصرف الوجود إنّما هي بالأوّلية الزمانية لا الرتبية.

وعلى أيّ حال، فما ذكر(رحمه الله) ـ من توقّف الاستصحاب على إحدى الحالتين: الاُولى أو الثالثة، وعدم تماميّة أركانه على الحالة الثانية ـ ممّا لا يتعقّل في المقام؛ فإنّه وإن كان الاستصحاب يتوقّف على كون المستصحب ذا أثر لكن ليس معنى ذلك ترتّب الأثر خارجاً بالفعل على المستصحب، وإلاّ لبطل كلّ استصحاب، فإنّ ترتّب الأثر بالفعل على المستصحب خارجاً فرع وجود المستصحب خارجاً. وهذا معناه توقّف الاستصحاب على صدقه ومطابقته للواقع دائماً، وهو غير معقول، ولم يدّعِ أحد كون الاستصحاب مشروطاً بترتّب الأثر على المستصحب خارجاً بالفعل، ولا هو(قدس سره) يدّعي ذلك؛ ولذا قال بتماميّة أركان الاستصحاب في الحالة الثالثة مع أنّه لم يترتّب الأثر بالفعل خارجاً على الطهارة الواقعيّة، وإنّما يتوقّف الاستصحاب على كون المستصحب ذا أثر بنحو مفاد(كان) الناقصة، أي: اتّصاف المستصحب بالأثر، لا وجود الأثر خارجاً بنحو مفاد(كان) التامّة، أي: أنّه يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب متّصفاً بمفاد قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو وجد لترتّب عليه الأثر، وتكفي هذه القضيّة الشرطيّة في جريان الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب يثبت تعبّداً وجود الشرط بداعي إثبات الجزاء تعبّداً. وترتّب الأثر على المستصحب بهذا المعنى ثابت في المقام، فإنّ القضيّة الشرطيّة صادقة هنا، أي: أنّه لو وجد المستصحب خارجاً

104

لترتّب عليه الأثر، وقد اعترف بذلك هو(قدس سره) حيث ذكر ترتّب الأثر على الطهارة الواقعية في الحالة الاُولى، وهي حالة وجود المستصحب خارجاً. هذا تمام الكلام في استصحاب الحصّة.

وأمّا استصحاب الجامع فللمحقّق العراقي(رحمه الله) عبارتان في مقام التعليق عليه يحتمل أن يكون المقصود بكلّ منهما إشكالاً غير الإشكال(1) المقصود بالآخر، فنحن نأخذ بهذا الاحتمال ونفرض أنّ له(قدس سره) إشكالين على استصحاب الجامع في المقام:

الإشكال الأوّل: ما نذكر فيه احتمالين:

الاحتمال الأوّل: أن يكون مقصوده(قدس سره) من الإشكال في المقام: أنّ الاستصحاب كاشف من الكواشف كالعلم والظنّ والاحتمال، والكاشف يجب تعلّقه بشيء لو كان الكشف مطابقاً للواقع لكان ذلك الشيء موجوداً بوجود مستقلّ عن نفس الكشف، وبغضّ النظر عنه؛ ولذا لا يصحّ أخذ العلم بالحكم أو الظنّ به أو احتماله في موضوع شخص ذلك الحكم، ولا يعقل فرض كون المنكشف قابلاً للانطباق على نفس الكشف، أو على فرد يتولّد بالكشف، فيحتمل وجوده بوجود غير مستقلّ عن نفس الكشف، فلا يمكن أن يفرض وقوف العلم مثلاً على الجامع بينه أو بين ما يتولّد منه وبين شيء آخر بحدّه الجامعي، بل يسري ـ لا محالة ـ إلى حدّ أخصّ منه غير قابل للانطباق على العلم أو ما يتولّد منه. والاستصحاب من هذا القبيل، فهو إنّما يتعلّق بما لا ينطبق على الطهارة الاستصحابية، وهذا معناه تعلّقه بالطهارة الواقعيّة أو بالحصّة الموجودة فيها، لا بالجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الاستصحابية الذي هو المطلوب.

ويرد عليه: أنّه إن اُريد بكون الاستصحاب كاشفاً كون احتمال البقاء كاشفاً، فهذا واضح، لكنّه غير مرتبط بالكلام في المقام؛ فإنّنا نتكلّم في أنّ التعبّد الاستصحابي هل يمكن تعلّقه بالجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة التعبدية الاستصحابية أو لا، لا في أنّ احتمال البقاء هل يمكن تعلّقه بالجامع بين ما يتولّد منه وغيره أو لا، وإن اُريد به كون التعبّد


(1) بل عبارته صريحة في فرض إشكالين، حيث عبّر بتعبير(مضافاً)، ونصّ عبارته ما يلي:

«وبما ذكرنا ظهر أنّه لا مجال لتطبيق الاستصحاب على نفس الجامع بينهما ـ أيضاً ـ من جهة استحالة انطباق الجامع المستصحب على ما يترتّب على نفس استصحابه... هذا، مضافاً إلى امتناع كون الشرط في أمثال المقام هو الجامع بين الطهارة الواقعيّة والاستصحابيّة، فإنّه مع تأخّر الاستصحاب عن المستصحب رتبةً يستحيل قابليّة الجامع للانطباق على ما يتحقّق من قبل نفس الاستصحاب المتأخّر عنه رتبةً كما هو ظاهر فتدبّر».

راجع نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 51.

105

الاستصحابي كاشفاً فهذا غير صحيح؛ فإنّ التعبّد غير الكشف، والكشف ليس إلاّ أمراً تكوينيّاًنفسيّاً، وهو العلم والظن والاحتمال. وإن قيل: إنّ احتمال البقاء في المقام قد تعلّق بالطهارة الواقعيّة، والتعبّد الاستصحابي يجب أن يتعلّق بنفس ما تعلّق به الاحتمال من دون أن يجزّأ المحتمل ويؤخذ منه الجامع ويفرض توقّف التعبّد الاستصحابي على الجامع، فهذا لا وجه له، وهذا معناه إنكار الاستصحاب رأساً في موارد تعلّق الاحتمال بالفرد، وترتّب الأثر على الجامع.

الاحتمال الثاني: أن يكونه مقصوده(قدس سره) من الإشكال في المقام هو: أنّ الاستصحاب حكم من الأحكام موضوعه هو المستصحب، فيكون المستصحب ـ بحسب عالم التصوّر ـ مقدّماً رتبة على الاستصحاب تقدُّمَ الموضوع على الحكم في عالم التصوّر والجعل، فيستحيل أن يكون المستصحب قابلاً للانطباق على فرد متأخّر رتبة في عالم التصوّر عن الاستصحاب، ويكون في طول ذلك الجعل ومتولداً منه، كالطهارة الاستصحابية التي هي وليدة الجعل الاستصحابي، فإنّ هذا يوجب التهافت في عالم التصوّر، وهذا معناه: أنّ المستصحب هو الطهارة الواقعية مثلاً لا الجامع بينها وبين الطهارة الاستصحابيّة.

وهذا الاحتمال الثاني هو المطابق لذوق المحقّق العراقي(قدس سره) الذي أعمله في جملة من الموارد في اُصوله؛ فإنّه استدلّ بهذا التقريب في عدّة من الاُمور، منها: مسألة عدم إمكان أخذ قصد الأمر والامتثال في متعلّق الأمر.

والفرق بين هذا الاحتمال والاحتمال السابق هو: أنّه في هذا الاحتمال بيّن التهافت بحسب عالم التصوّر، وفي الاحتمال السابق بيّن التهافت بحسب عالم التصديق، حيث يقال هناك: إنّه لا يمكن للشخص أن يكشف ويصدّق بما يحتمل انطباقه على ما يتدخّل فيه هذا الكشف والتصديق.

ويرد على هذا الوجه: أنه إنّما يلزم التهافت في عالم التصوّر لو فرض أنّ المستصحب المتقدّم على الاستصحاب يشتمل على فرد وخصوصيّة متأخّرة عن الاستصحاب، بمعنى كون ذلك الفرد ملحوظاً في الجامع المستصحب، لا بمعنى رفض خصوصيّات الأفراد ولحاظ الجامع بحدّه الجامعي، ومن المعلوم أنّ لحاظ الجامع المحتاج إليه في باب استصحاب الجامع ليس معناه لحاظه مع لحاظ كلّ الخصوصيّات والأفراد حتّى يلزم لحاظ المتأخّر متقدّماً، وإنّما معناه لحاظ الجامع بحدّه الجامعي فقط، بغضّ النظر عن كلّ خصوصيّات الأفراد، وهذا لم يكن متأخّراً عن الاستصحاب، وإنّما المتأخّر عنه هو أحد الفردين.

106

وهذا الإشكال بكلا احتماليه إشكال ينظر إلى دليل الاستصحاب، وقد عرفت جوابه على كلا احتماليه.

الإشكال الثاني: نذكر له ـ أيضاً ـ احتمالين:

الإحتمال الأوّل: أنّ شرطيّة الجامع غير معقولة، فهذا في الحقيقة ليس إشكالاً على خصوص استصحاب الجامع، بل هو ينظر إلى دليل الشرطية لا دليل الاستصحاب، وبذلك يبطل أصل موضوع الاستصحاب بلحاظ أثر الجامع، وهذا الوجه هو أنّ أحد فردي الجامع يكون في طول هذه الشرطيّة، وهو الطهارة الاستصحابية؛ إذ إنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ الأثر، والأثر في المقام هو الشرطية (ولنفرض مورداً لا يترتّب أثر آخر على الطهارة) فإذا كان أحد فردي الجامع في طول الشرطيّة فكيف تعقل شرطيّة الجامع؟

وهذا مرجعه: إمّا إلى دعوى التهافت بحسب عالم التصوّر بأن يقال:إنّ متعلّق الشرطيّة ـ وهو الجامع ـ يكون ـ بحسب عالم التصوّر ـ متقدّماً رتبةً على حكمه ـ وهو الشرطية ـ على حدّ تقدّم كلّ موضوع على الحكم الذي يتعلّق به، فلو كان هذا الموضوع مشتملاً على فرد متأخّر رتبة عن هذا الحكم لزم التهافت في عالم التصوّر كما مضى في الاحتمال الثاني للإشكال الأوّل.

وهذا يكفي في جوابه ما عرفته هناك (ولو فرض عدم وجود أجوبة اُخرى لنا)، وهو: أنّ الشرط كان هو الجامع بحدّه الجامعي، وذلك لم تؤخذ فيه الأفراد والخصوصيّات حتّى يقال: إنّ بعض هذه الأفراد والخصوصيّات متأخّر عن الشرطيّة، فيلزم التهافت في عالم التصوّر، وإنّما رُفض فيه لحاظ الأفراد والخصوصيّات، فلا محذور في ذلك بحسب عالم التصوّر.

أو إلى دعوى التهافت بحسب عالم التصديق، بتقريب: أنّ الشرطيّة تتوقّف فعليّتها على وجود موضوعها خارجاً توقُّفَ فعليّة كلّ حكم على وجود موضوعه، فلا يعقل أن يكون أحد أفراد موضوعها متوقّفاً عليها.

وفيه: أنّ الشرطيّة ليست فعليّتها متوقّفة على وجود موضوعها بمعنى متعلّقها، أي: الشرط، فليست مثلاً شرطيّة الوضوء للصلاة متوقّفة على تحقّق الوضوء خارجاً كما هو واضح.

الاحتمال الثاني: دعوى عدم إمكان تصوير الجامع في المقام، وتوضيح ذلك: إنّ في كيفيّة انتزاع الجامع وجوهاً نأخذ منها الوجه الذي يتبنّاه المنطق الأرسطيّ المعروف، وهو أنّ انتزاعه وتصويره يكون عن طريق تقشير الأفراد وإلغاء الخصوصيّات المختصّة بفرد دون

107

فرد، حتّى لا يبقى عدا المقدار المشترك الثابت في كلّ فرد، وعلى هذا نقول: إنّ تصوير الجامع في المقام موقوف على تصوير كلا فرديه، وأحد الفردين هنا هو الطهارة الاستصحابية، والمقصود من الاستصحاب في الطهارة الاستصحابية هو استصحاب الجامع، فتصوير هذا الفرد موقوف على تصوير الجامع، وهذا غير معقول؛ لاستحالة الدور، فتصوير جامع يكون أحد فرديه من هذا القبيل أمر غير معقول.

والجواب: أنّ مجرّد تصوير الجامع غير موقوف على تصوير تمام أفراده، بل يكفي أن يتصوّر فرد واحد من أفراده ويقشّر بحذف خصوصيته الشخصيّة، فيصبح كلّيّاً وجامعاً. نعم، تصوير كون الأمر الفلاني جامعاً بين الأفراد الفلانية موقوف على تصور تلك الأفراد، لكن يكفينا في المقام مجرّد تصوير الجامع لنستصحبه.

بقي شيء: وهو أنّ تصوير وجه ثبوتي ينسجم مع الفتاوى الفقهية في صحّة الصلاة إذا كانت في ثوب نجس من دون علم لا ينحصر فيما مضى من مسألة التوسيع في دائرة الشرطيّة أو التضييق في دائرة المانعيّة، بل يمكن تصوير ذلك حتّى مع فرض كون الشرط هو الطهارة الواقعية أو عدم النجاسة الواقعية من دون توسعة أو تضييق، وذلك بأن يفرض في خصوص المقام إجزاء الأمر الظاهريّ على أساس أنّ ما فعله وفق أمره الظاهريّ أصبح مانعاً عن تحقّق ملاك الأمر الواقعيّ، وتصوير جعل ينسجم مع الإجزاء على هذا الأساس يكون بأن يقال: إنّ الشرط مثلاً هو ثبوت الطهارة في أوّل صلاة يصلّيها، فإذا صلّى مع الطهارة الظاهريّة وانكشف الخلاف لم يكن قادراً على التدارك، لأنّه لو صلّى ثانياً بطهارة واقعيّة لم تكن تلك الطهارة مصداقاً للشرط، ولا ما فعله مصداقاً للواجب؛ لأنّها لم تكن طهارة في أوّل صلاة يصلّيها. نعم، يلزم من ذلك أنّه لو صلّى عامداً في النجس أيضاً لم تكن عليه الإعادة، ولدفع ذلك نضيف قيداً إلى دائرة الصلوات التي يفرض كون الشرط هو الطهارة في أوّلها، وذلك بأن يقال: إنّ الشرط هي الطهارة في أوّل صلاة يصلّيها من الصلوات الواجدة للجامع بين الطهارة الواقعيّة والظاهريّة.

نعم، يبقى أنّ ما ذكرناه خلاف الظاهر بالنسبة لأدلّة الإجزاء وعدم الإعادة، حيث إنّ ظاهر لسانها هو أنّ ما أتى به من العمل كفى، بمعنى: أنّه كان صحيحاً وواجداً للملاك، لا بمعنى: أنّه كان وجوده كالعدم تماماً من حيث الملاك، وأنّه أثّر فقط في جعل هذا الشخص كفاقد الطهورين لا تجب عليه الصلاة، إلاّ أن هذا يرتفع بفرض أنّ هذه الصلاة واجدة لمقدار من الملاك ناقص وصحيحة بهذا النحو من الصحّة، لكنها ليست واجدة لتمام الملاك؛ ولذا جعل

108

الشارع الشرط هو الطهارة الواقعيّة، وهذا لا يكون خلاف ظاهر أدلّة الصحّة وعدم الإعادة؛ فانه لا تظهر منها الصحّة والواجديّة للملاك بأزيد من ذلك.

هذا تمام الكلام في الفقرة الاُولى من فقرتي الحديث الدالّة على الاستصحاب.

 

الفقرة الثانية من الرواية:

وأمّا الفقرة الثانية، فهي قوله: «قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة، قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ».

توضيح الكلام فيها: أنّ في قوله: «إذا شككت» و «إن لم تشكّ» احتمالين على ما مضى:

1 ـ أن يقصد بذلك إثبات الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ونفيه، وقد مضى بيان مرجوحية هذا الاحتمال.

2 ـ أن يقصد بذلك ذات الشكّ.

وعلى الثاني: تارةً يقصد بنفي الشكّ نفيه المنسجم مع العلم ومع الغفلة، واُخرى يقصد به إثبات العلم، وقد مضى بيان نكتة تشقيق الإمام(عليه السلام) إلى فرض الشكّ وعدم الشكّ و تلك النكتة توجد مع فرض الغفلة كما توجد مع فرض العلم، فهذه احتمالات ثلاثة على كلّ منها تكون أركان الاستصحاب تامّة في المقام؛ لأنّه عالم بالطهارة السابقة ولو بلحاظ سالف الأزمان، وشاكّ في بقاء الطهارة. وأمّا أركان قاعدة اليقين فإنّما تتمّ على الاحتمال الثالث؛ إذ المفروض عليه هو ثبوت العلم بالطهارة المحتمل بعد ذلك اشتباهه. وأمّا على الاحتمالين الأوّلين فلم يفرض علم من هذا القبيل؛ إذ نفي الشكّ في الثاني ينسجم مع الغفلة، وفي الأوّل ينسجم مع الشكّ البدوي ومع الغفلة، وعليه فلو اخترنا في الحديث أحد الاحتمالين الأوّلين تمّت دلالة الفقرة على الاستصحاب، ولو اخترنا فيه الاحتمال الثالث أصبحت الفقرة بطبعها الأوّلي مجملة مردّدة بين الاستصحاب وقاعدة اليقين، وعند ئذ لا بدّ من رفع إجمالها بالارتكاز الخاصّ في المقام الناشئ من ظهور الفقرة الاُولى في الاستصحاب أو الارتكاز العامّ، حيث إنّ الاستصحاب ارتكازي للعقلاء دون قاعدة اليقين، فيوجب ذلك صرف ظهور الفقرة الثانية إلى الاستصحاب، خصوصاً أنّه(عليه السلام) عبّر بلفظة: (لا ينبغي) المناسبة