301

تأخّر العلم التفصيليّ عن العلم الإجماليّ، ففي المثال السابق لو علمنا في آخر النهار بنجاسة واحد منهما تفصيلاً من أوّل النهار فقد زال الإجمال والتردّد من النفس ـ لا محالة ـ في آخر النهار، فينحلّ العلم، ويتبرهن انحلاله بنفس برهان انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ.

وأمّا الانحلال الحكميّ فيشترط فيه عدم تأخّر العلم التفصيليّ عن العلم الإجماليّ زائداً على عدم تأخّر المعلوم التفصيليّ على المعلوم المنجّز بالعلم الإجماليّ، فلو كان العلم التفصيليّ في المثال السابق بنجاسة واحد منهما في آخر النهار لم ينحلّ به العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً حتّى مع فرض تعلّق العلم التفصيليّ بنجاسة ثابتة من أوّل النهار؛ وذلك لأنّ المعلوم بالعلم التفصيليّ بالنسبة لتلك القطعة القصيرة من الزمان لم يكن منجّزاً كي ينحلّ العلم المردّد بين القطعة القصيرة من أحد الفردين والفرد الطويل انحلالاً حكميّاً، وهذا من أهمّ الثمرات بين الانحلال الحقيقيّ والحكميّ.

 

ب ـ تطبيق الانحلال على المقام:

المبحث الثاني: في انطباق كبرى انحلال العلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ وعدمه على ما نحن فيه من العلم بتكاليف إلزاميّة بشكل عامّ بالعلم بالتكاليف الإلزاميّة في دائرة الأمارات المعتبرة الذي هو تفصيليّ نسبيّاً، أي: أنّه واقع في دائرة أصغر من دائرة العلم الكبير.

وعناصر المسألة التي بيّنوها هنا في مقام دعوى الانحلال هي أنّه يوجد لدينا علم إجماليّ كبير في دائرة مطلق الشبهات، وأنّه يوجد لدينا علم إجماليّ صغير في دائرة الأمارات المعتبرة، ومقدار المعلوم بالإجمال في العلم الصغير ليس بأقلّ من المعلوم بالإجمال في العلم الكبير.

302

ولا يخفى أنّه لو قصرنا النظر على هذه العناصر توجّه في المقام الانحلال الحقيقيّ، فإنّك عرفت أنّ ضابط الانحلال الحقيقيّ هو كون نسبة سبب العلم الإجماليّ إلى الأطراف على حدّ سواء، والأمر فيما نحن فيه كذلك، فإنّ العلم الإجماليّ الكبير في المقام له سببان:

الأوّل: حكم العقل بأنّ الشريعة لا تخلو من أحكام إلزاميّة، ففرض الشريعة ملازم عقلاً لفرض البعث والزجر في الجملة، وهذا ـ كما ترى ـ نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، فإنّه يبرهن مباشرةً على الجامع، وعلى عدم اجتماع تمام الشبهات في عدم الإلزام، نظير ما مضى من البرهان على عدم اجتماع النبوّة في متنبّئين متكاذبين.

والثاني: حساب الاحتمالات بمعنى تحوّل قيم احتمال التكليف الإلزاميّ في كلّ فرد من الأطراف بتجمّعها في الجامع إلى العلم به، وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، نظير ما مضى في فرض العلم بمساورة المسيحيّ لأحد الأواني، وهذا هو الحال في كلّ علم إجماليّ فرض قائماً على أساس جمع الاحتمالات من الأطراف.

ولكنّ التحقيق: أنّ هنا عناصر اُخرى لم يبرزوها في المقام، وبإبرازها يظهر عدم الانحلال لا حقيقةً ولا حكماً، ولنا بهذا الصدد كلامان:

الكلام الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ الصغير في دائرة الأمارات المعتبرة لم ينشأ عن اعتبارها، وإنّما نشأ عن تجمّع القوى الاحتماليّة لها سواء فرضت معتبرة أو لا، ونفس هذا المنشأ موجود في الأمارات غير المعتبرة كالشهرة التي استقرّ الرأي بعد الشيخ الأعظم(قدس سره) على عدم حجّيّتها، فكما يوجد علم صغير في دائرة أخبار الثقات مثلاً، كذلك يوجد في عرض هذا العلم علم صغير في دائرة الشهرات، والنسبة بين الدائرتين عموم من وجه، وعندئذ لو فرضنا عدم احتمال انطباق كلا

303

المعلومين على مادّة الاجتماع كان معنى ذلك أنّ المعلوم بالعلم الكبير أكثر من المعلوم بالإجمال في دائرة أخبار الثقات؛ إذ هو يساوي مجموع المعلومين في العلمين الصغيرين، فلا مجال للانحلال، ولو فرضنا احتمال انطباقهما على مادّة الاجتماع فحلّ العلم الإجماليّ بأحد العلمين وإخراج مادّة الافتراق للآخر عنه ترجيح بلا مرجّح، وإخراج كلتا مادّتي الافتراق معناه القطع باشتمال مادّة الاجتماع على مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الكبير، وهو باطل بالوجدان. نعم، لا بأس بانحلال العلم الكبير بكلا العلمين، بمعنى أنّ الشبهات الخالية عن الأمارات معتبرة أو غير معتبرة تكون شبهات بدويّة.

وحقيقة الأمر: أنّ العلم الإجماليّ الكبير قد تعلّق بالجامع بين فرد من مادّة الاجتماع وفردين من مادّتي الافتراق، ولم يتعلّق بأحد طرفيه علم تفصيليّ حتّى ينحلّ هذا العلم انحلالاً حقيقيّاً.

وإن شئت تغضّ النظر عن العلم الكبير وتقول: لدينا علم إجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة في دائرة الأمارت غير المعتبرة كالشهرة مثلاً، يمنعنا عن الرجوع إلى البراءة في تلك الدائرة، ولا ينحلّ هذا العلم الإجماليّ بالعلم الإجماليّ في دائرة الأمارات المعتبرة، فإنّهما في عرض واحد، وكذلك الحال بالنسبة للانحلال الحكميّ، فإنّ كلاًّ من هذين العلمين العرضيّين منجِّز ولا يمكن رفع اليد عن تنجيز أحدهما بالخصوص دون الآخر، فإنّه ترجيح بلا مرجّح، أو قل: إنّا علمنا بالجامع بين فرد وفردين آخرين ولم يتحقّق منجّز لخصوص أحد طرفي هذا العلم كي ينحلّ انحلالاً حكميّاً.

الكلام الثاني: أنّهم (قدّس الله أرواحهم) نظروا ـ في مقام دعوى الانحلال ـ إلى الفقه بنظرة مجموعيّة، فرأوا وجود علم إجماليّ بوجود ألف تكليف مثلاً في دائرة الشبهات مع وجود علم إجماليّ بوجود ذلك المقدار في دائرة الأمارات المعتبرة،

304

فقالوا بأنّ الأوّل ينحلّ بالثاني. ولكنّ الصحيح: أن ينظر إلى الفقه بنظرة انحلاليّة، فإنّ لنا في كلّ باب من أبواب الفقه علماً إجماليّاً كبيراً مستقلاًّ يوجد في بعضها علم إجماليّ صغير في دائرة خبر الثقة لا يقلّ المعلوم بالإجمال فيها عن المعلوم بالإجمال في العلم الكبير كما في باب الصلاة مثلاً، ولا يوجد في بعضها الآخر كباب الضمان مثلاً، فإنّنا نقطع بأنّه قد صدرت من الشارع في باب الضمان دستورات إلزاميّة، وليس الموقف دائماً تجاه أموال الناس موقفاً غير إلزاميّ، ولكنّ الأخبار الواصلة لنا في ذلك الباب ليست بمقدار يُكوّن العلم الإجماليّ بعدد يساوي عدد المعلوم بالإجمال فيه، فإنّ كثرة الاحتمالات وقلّتها تؤثّر في مقدار المعلوم بالإجمال القائم على أساس حساب الاحتمالات، وفي مثل هذا لا وجه للانحلال الحقيقيّ ولا للانحلال الحكميّ بالمعلوم بالعلم الثاني؛ إذ هو أقلّ من المعلوم بالعلم الأوّل(1).



(1) وهذا يعني: أنّ ما رأوه بالنظرة المجموعيّة إلى الفقه من كون المعلوم بالعلم الصغير مساوياً للمعلوم بالعلم الكبير إنّما ينشأ من النظر إلى العلم الكبير الناشئ من حكم العقل بضرورة اشتمال الشريعة على تكاليف إلزاميّة، أو الناشئ من تجمّع الاحتمالات المتواجدة في أطراف الشبهات في حدّ ذاته وبقطع النظر عن تقوّيها بالأمارات. أمّا لو نظروا إلى العلم الكبير بكلّ ما له من مناشئ بما فيها نفس الأمارات الواردة في كثير من الأطراف، فحتّى لو كان النظر مجموعيّاً، كان لازم ما ادّعاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام أنّ المعلوم بالعلم الكبير أكثر من المعلوم بالعلم الصغير؛ لأنّ المعلوم بالعلم الكبير في مثل باب الصلاة لا يمكن أن يكون أقلّ من المعلوم بالعلم الصغير فيه، فإذا ضمّ إلى المعلوم بالعلم الكبير في مثل باب الضمان الذي فرض أكثر من المعلوم بالعلم الصغير فيه كان مجموع ما في العلم الكبير أكثر من مجموع ما في العلم الصغير.

305

 

انحلال العلم بالأمارت:

الجواب الثاني: دعوى انحلال العلم الإجماليّ بنفس الأمارات المعتبرة الإلزاميّة الواردة في بعض الأطراف، وهي لا تقلّ عن المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ بل أكثر منه.

وقد ذهبت مدرسة المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ العلم الإجماليّ إذا تعلّقت ببعض أطرافه أمارة مطابقة له بمقدار المعلوم بالإجمال، فالعلم الإجماليّ ينحلّ انحلالاً حقيقيّاً بالتعبّد(1).

وذكر السيّد الاُستاذ في تقريب ذلك(2): أنّ العلم الإجماليّ أركانه عبارة عن العلم بالجامع والشكّ بعدد الأطراف فيها، وقد عبّدنا الشارع في مورد الأمارة بالعلم وعدم الشكّ وسريان العلم من الجامع إلى هذا الطرف، وهذا يعني التعبّد بانحلال العلم الإجماليّ حقيقةً.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ السيّد الاُستاذ يرى أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجّز الجامع، وأنّ سقوط الاُصول في الأطراف يكون بملاك التعارض باعتبار أنّ جريانها في تمام الأطراف ينافي تنجّز الجامع، وجريانها في بعض الأطراف دون بعض ترجيح بلا مرجّح، فتتساقط الاُصول في جميع الأطراف بالمعارضة، فنقول: لو كان الأمر كذلك فجريان الأصل في أحد الطرفين فيما نحن فيه فرع عدم ابتلائه بالتعارض مع الأصل في الطرف الآخر، وذلك بعدم جريان الأصل في الطرف الآخر، وعدم



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 14، وأجود التقريرات، ج 2، ص 245.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 304 و 307.

306

جريان الأصل في الطرف الآخر فرع تنجيز الأمارة لخصوص ذلك الطرف، سواء فرض التعبّد بعدم العلم الإجماليّ أو لا، أي: أنّه لو فرض جريان الأصل في ذلك الطرف في نفسه، فلا محالة يقع التعارض والتساقط، ولا ينفعه التعبّد بعدم العلم؛ لأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجيز الجامع ولا يمكن دفع تنجيزه بالتعبّد بعدم العلم، ولو فرض عدم جريان الأصل فيه في نفسه لتنجيز الأمارة جرى الأصل في الطرف الخالي عن الأمارة بلا معارض، ولا يضرّه العلم الإجماليّ؛ لأنّه لا يمنع عن جريان الأصل الواحد، ولذا لا يختصّ الانحلال بالأمارة بمبنى جعل العلم والطريقيّة في الأمارة، فتحصّل: أنّ ضمّ التعبّد بعدم العلم الإجماليّ إلى تنجيز الأمارة لأحد الطرفين ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان؛ إذ لو لم يثبت هذا التنجيز لم ينفعنا التعبّد بعدم العلم، ولو ثبت هذا التنجيز كفى ذلك في صحّة جريان الأصل الآخر بلا حاجة إلى التعبّد بعدم العلم.

وثانياً: لو سلّمنا أنّ العلم الإجماليّ بنفسه يقتضي سقوط الأصل حتّى لو اختصّ بطرف واحد، وتكلّمنا على مباني التعبّد بطريقيّة الأمارة قلنا: إنّ التعبّد بشيء لا يسري إلى لوازم ذلك الشيء؛ إذ بالإمكان كون ملاك التعبّد مختصّاً بذلك الشيء وغير ثابت في لوازمه، وفي المقام يكون إسقاط التنجيز في الطرف الخالي عن الأمارة مبنيّاً على إسراء التعبّد من الشيء إلى بعض لوازمه؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ انتفاء الشكّ في أحد الأطراف ليس بنفسه انحلالاً للعلم الإجماليّ، وإنّما هو ملزوم لانحلاله؛ لأنّ العلم الإجماليّ ليست أركانه حقيقة عبارة عن العلم بالجامع مع الشكوك في الأطراف، وإنّما الشكوك في الأطراف من لوازم العلم الإجماليّ، والعلم الإجماليّ عبارة عن العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ، فزوال الشكّ في بعض الأطراف يلزمه زوال العلم بالجامع بحدّه الجامعيّ، وليس التعبّد بالأوّل مستلزماً للتعبّد بالثاني.

307

والثاني: أنّنا لو سلّمنا أنّ الشكوك واحتمالات الانطباق في الأطراف هي أركان للعلم الإجماليّ، وقد زال أحد هذه الأركان تعبّداً، وهو الشكّ في الطرف الذي قامت عليه الأمارة، قلنا: إنّ تنجّز الطرف الآخر لم يكن أثراً لهذا الركن، وإنّما كان أثراً للعلم بالجامع مع الشكّ واحتمال الانطباق في ذاك الطرف، والتعبّد بعدم هذا الركن ليس تعبّداً بعدم ركن آخر، والتلازم بين احتمالات الانطباق للجامع المعلوم بحدٍّ قابل للانطباق على تلك الأطراف لا يجعل التعبّد بعدم أحدها تعبّداً بعدم الباقي، لما أشرنا إليه من أنّ التعبّد بشيء لا يسري إلى لوازم ذلك الشيء.

وقد تحصّل بما ذكرنا: أنّه لا مجال فيما نحن فيه لدعوى انحلال العلم الإجماليّ بالأمارات انحلالاً حقيقيّاً تعبّداً.

بقي الكلام في انحلاله بها انحلالاً حكميّاً، فنقول: إنّ ما مضى من تقريبي الانحلال للعلم الإجماليّ بالعلم التفصيليّ يأتيان هنا:

أمّا تقريب الانحلال بقطع النظر عن الاُصول الشرعيّة لو تمّ ـ لاستحالة اجتماع منجّزين على طرف واحد، وهما العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ ـ فلأنّه فيمانحن فيه أيضاً يكون المفروض منجّزيّة الأمارة، فيلزم اجتماع منجّزين على طرف واحد(1).

وأمّا تقريب الانحلال بالاُصول الشرعيّة، فلأنّه هنا أيضاً قد بقي الأصل في الطرف غير المنجّز بالأمارة خالياً عن المعارض، لعدم جريان الأصل في الطرف الآخر.



(1) وكذلك يأتي في المقام تقريب الانحلال بدعوى أنّ ما عدا الواحد تحت التأمين، فإذا تنجّز واحد بعينه تعيّن الآخر للتأمين؛ إذ لو لم يكن الآخر تحت التأمين لم يصدق كون ما عدا الواحد تحت التأمين.

308

وهنا إشكال، وهو أنّ الأمارة فيما نحن فيه لم يطّلع عليها من أوّل آنات العلم الإجماليّ، فإنّ العلم الإجماليّ حاصل من أوّل الأمر، والأمارات توجد بالفحص تدريجاً، فلدينا علم إجماليّ غير منحلّ أحد طرفيه عبارة عن قطعة من الفرد الذي وردت فيه الأمارة، وهي قطعة ما قبل وجدان الأمارة، فيصير ذلك نظير العلم الإجماليّ بتكليفين: أحدهما قصير والآخر طويل.

وأجاب المحقّقون كالمحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ والسيّد الاُستاذ(1)على ذلك: بأنّ تلك الأمارات كانت منجّزة من أوّل الأمر؛ لأنّ عدم وجداننا لها كان من باب الشبهة قبل الفحص، والشبهة قبل الفحص إذا كانت حكميّة ـ كما هو المفروض ـ يجب فيها الاحتياط.

وهذا الجواب متين، إلاّ أنّ الإشكال عندنا محلول في المرتبة السابقة عليه، فإنّ الإشكال في المقام مبتن على مباني الأصحاب في باب الحكم الظاهريّ من أنّه حكم إنشائيّ ينشأ من الملاك في نفس إنشائه لا الملاك في متعلّقه. أمّا على ما اخترناه من أنّ الحكم الظاهريّ ليس إلاّ عبارة عن إبراز شدّة الاهتمام وعدمها بالأحكام الواقعيّة فلا يرد هذا الإشكال من أساسه.

وتترتّب على هذا الخلاف المبنائيّ بيننا وبينهم ثمرات كثيرة، منها: انتفاء موضوع الإشكال في المقام، وتوضيح ذلك: أنّه بناءً على مبناهم لا يوجد تضادّ بين حكمين ظاهريّين ما لم يصلا إلى المكلّف؛ إذ كلّ منهما ناشئ من ملاك في نفسه، نعم بعد الوصول يتضادّان من ناحية المحرّكيّة. وأمّا بناءً على مبنانا فهما



(1) راجع المقالات، ج 2، ص 69، ونهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 254 و 255، ونهاية الدراية، ج 2، ص 200 و 201، ومصباح الاُصول، ج 2،ص 307 و 308.

309

متضادّان في أنفسهما قبل الوصول كالحكمين الواقعيّين؛ إذ لا يمكن اجتماع شدّة الاهتمام وعدمها في وقت واحد، فبوجدان الأمارة نكشف عن عدم ثبوت أصل البراءة من أوّل الأمر(1).

 


(1) وليس المقصود بهذا الكلام أنّه لو كانت الأمارة الحجّة ثابتة في علم الله على التكليف لم يعقل جعل المؤمّن الظاهريّ الراجع إلى عدم الاهتمام بالتكليف؛ لأنّ المفروض اهتمام المولى بالتكليف بمقتضى الأمارة رغم عدم وصولها، بل المقصود بذلك أنّه بعد أن اختلطت الأهداف الإلزاميّة وغيرها في موارد الشبهات فقد اهتمّ المولى بأهدافه الإلزاميّة في موارد ثبوت الأمارة ولم يهتمّ بها في غير موارد الأمارة، ولذا جعل الحكم الترخيصيّ الظاهريّ في موارد عدم الأمارة ولم يجعله في موارد الأمارة، وفي طول جعله للترخيص الظاهريّ في موارد عدم الأمارة وعدم اهتمامه بأهدافه الإلزاميّة فيها وقع خلط آخر بين أهدافه المهمّة في موارد الأمارة وأهدافه غير المهمّة في غير موارد الأمارة، حيث شككنا في وجود الأمارة وعدمها، ومن المعقول افتراض أنّ المولى في هذه المرحلة لا يهتمّ بأهدافه، ويجعل الحكم الترخيصيّ الظاهريّ سواء كان بلسان استصحاب عدم ورود الأمارة، أو بلسان البراءة ابتداءً، إلاّ أنّ هذا الترخيص وعدم الاهتمام ـ كما ترى ـ إنّما هو في طول الترخيص وعدم الاهتمام بالأهداف في موارد عدم الأمارة؛ إذ لو كان المولى مهتمّاً بأهدافه الإلزاميّة حتّى في موارد عدم الأمارة لم يكن الشكّ في ثبوت الأمارة وعدمها موجباً للخلط بين أهدافه المهمّة في موارد الأمارة وأهدافه غير المهمّة في غير موارد الأمارة؛ لأنّ المفروض الاهتمام بها جميعاً.

وبما ذكرناه يتّضح: أنّه لا يرد على سيّدنا الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في المقام: أنّ الترخيص الظاهريّ كان ثابتاً في موارد الأمارة قبل العثور عليها ولو في مرحلة ثانية، فهو يعارض الترخيص في غير موارد الأمارة، وتعدّد المرحلتين لا يرفع التعارض، فإنّ الجوابعلى

310

نعم، هذا إنّما يفيد في بيان الانحلال بلحاظ الاُصول الشرعيّة، وأمّا بقطع النظر عنها، فالجواب منحصر بما أفادوه.

 

 


ذلك: أنّ الترخيص في المرحلة الثانية متوقّف على الترخيص في المرحلة الاُولى كما عرفت، فيستحيل وقوع التعارض بينهما، فالصحيح أنّ الترخيصات الظاهريّة في المرحلة الثانية تعارضت وتساقطت، ولكن الترخيص في غير موارد الأمارات في المرحلة الاُولى كان خالياً عن المعارض من أوّل الأمر.

311

 

الاحتياط الشرعيّ

وأمّا المقام الثاني: وهو إثبات الاحتياط عن طريق النقل فقد استدلّ لإثبات الاحتياط شرعاً بالكتاب تارةً، وبالسنّة اُخرى:

 

الاحتياط في الكتاب الكريم

أمّا الكتاب: فقد استدلّ بآيات منه:

الآية الاُولى: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِين﴾(1).

وتقريب الاستدلال بها: أنّها نهت عن الاقتحام في التهلكة والتعريض لها، والاقتحام فيما يحتمل كونه مخالفة للّه ـ سبحانه وتعالى ـ اقتحام في التهلكة وتعريض لها، فيحرم بمقتضى إطلاق الآية، فيثبت وجوب الاحتياط.

أقول: إنّ هذه الآية يوجد فيها احتمالان:

الأوّل: كونها ناظرة إلى المخاطبين بالنظر الأفراديّ، وأن يكون المراد بالتهلكة أيضاً ـ باعتبار ظهور الآية في وحدة اللحاظ في جانب الموضوع والمحمول ـ هو التهلكة بالنظر الأفراديّ، فكلّ شخص يحرم عليه إلقاء نفسه بما هو فرد من الأفراد في التهلكة.

والثاني: كونها ناظرة إليهم بالنظر المجموعيّ، فتلحظ التهلكة أيضاً باللحاظ المجموعيّ، والتعريض للهلاك باللحاظ المجموعيّ يختلف عنه باللحاظ الأفراديّ، فالجهاد مثلاً يكون بلحاظ الأفراد تعريضاً للهلاك، وأيّ إلقاء في



(1) سورة البقرة، الآية: 195.

312

التهلكة أعظم من جعل الشخص نفسه في معرض الموت والقتل؟ لكنّه بلحاظ المجتمع قد يكون حياة، كما أنّ ترك الجهاد قد لا يكون موتاً وهلاكاً للأفراد بما هم أفراد، ويكون موتاً وهلاكاً للمجتمع بما هو مجتمع؛ إذ يتسلّط عليه أعداؤه ويهدم كيانه ورسالته ومبادئه.

ولا يمكن دعوى الإطلاق في الآية بحيث يشمل كلا قسمي الهلاك، فإنّ كلاًّ منهما يستوجب لحاظاً ينافي اللحاظ الآخر، والإطلاق لا يستوجب الجمع بين اللحاظين، وإنّما يستوجب توسعة دائرة اللحاظ الواحد، فالأمر دائر بين هذين المعنيين.

والظاهر من قوله: ﴿لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ لو فصل عمّا قبله من الآيات وإن كان هو الأوّل؛ لأنّ اللحاظ المجموعيّ أشدّ عناية ومؤونة في نظر العرف، فمع عدم القرينة عليه ينفى بالإطلاق، إلاّ أنّه يمكن أن يدّعى أنّ وقوع الآية في سياق آيات الجهاد(1) يوجب مناسبته للّحاظ المجموعيّ إمّا بأن يكون المراد منها الأمر بالجهاد، كالآيات التي وقعت قبلها لكنّها رمزت إلى الجهاد بمعنىً



(1) قال الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِين﴾. سورة البقرة، الآية: 190 ـ 195.

313

في غاية الجمال وهو أنّ ترك الجهاد هلاك للمجتمع، أو بأن يكون المراد منها تحديد الأمر بالجهاد الذي سبق في الآيات المتقدّمة، أي: أنّها في مقام بيان أنّ الأمر بالجهاد إنّما يكون فيما لو لم يكن الجهاد هلاكاً للمجتمع، وتكون الحرب ـ بحسب مصطلح اليوم ـ حرباً يائسة.

وعلى أيّة حال، فإن حملت الآية على إرادة الهلاك باللحاظ المجموعيّ، فخروجها عمّا نحن فيه في غاية الوضوح. وإن حملت الآية على إرادة الهلاك باللحاظ الفرديّ، فأيضاً لا تدلّ على المقصود؛ وذلك لأنّه إمّا أن يفترض أنّه يوجد في المرتبة السابقة على هذه الآية في الشبهات البدويّة أصل عقليّ أو شرعيّ يؤمّن من العقاب، أو يفرض أنّه لا يوجد ذلك، وأنّه يجب في المرتبة السابقة عليها الاحتياط، وأنّه بقطع النظر عن هذه الآية يكون الاقتحام في الشبهة اقتحاماً في الهلكة والعذاب الاُخرويّ، فإن فرض الأوّل فلا موضوع للآية في تلك الشبهات؛ إذ لا هلاك حتّى ينهى عن الاقتحام فيه، وإن فرض الثاني ـ أعني: ثبوت الهلاك في ارتكاب الحرام الواقعيّ مع الشكّ حتّى يتمّ موضوع التمسّك بالآية ـ فقد ثبت وجوب الاحتياط في المرتبة السابقة على الآية، ولا يكون نفس النهي عن الإلقاء في التهلكة ملاكاً لوجوب الاحتياط.

نعم، لو فرض في مورد من موارد احتمال التكليف وجود احتمال الهلاك الدنيويّ أيضاً ففرضنا في شرب التتن مثلاً أنّه كما يحتمل كونه حراماً كذلك يحتمل كونه مُهلِكاً، فهنا وإن دلّت الآية على وجوب الاجتناب، لكنّها لم تدلّ على الاحتياط في قبال حرمة شرب التتن بما هي شبهة حكميّة، بل دلّت إمّا على حرمة الإلقاء في معرض التهلكة حرمة واقعيّة، أو على أنّ إهلاك النفس بما هو حرام شرعاً، وأنّ إيقاع النفس فيما يحتمل فيه الهلاك يجب فيه الاحتياط بما هي شبهة موضوعيّة، فتكون الآية مخصّصة للبراءة في هذا المورد من الشبهات الموضوعيّة

314

المتّفق على جريان البراءة فيها بين الاُصوليّين والأخباريّين.

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه﴾(1).

فقد استدلّ بهذه الآية على وجوب الاحتياط باعتبار أنّها تأمر ببذل الجهد الكامل التامّ في سبيل الله، وذلك ينطوي على الاحتياط في الشبهات البدويّة.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه لمّا لم يمكن فرض إرادة الجهاد في الله من دون تقدير شيء، فلابدّ من تقدير شيء، وكما يحتمل أن يكون المقدّر هو الطاعة، كذلك يحتمل أن يكون المقدّر هو النصرة، ويؤيّده أنّ ذلك يناسب مادّة الجهاد المستعمل غالباً في مقام القتال، وإعلاء كلمة الشرع والتبيلغ بأعلى مراتبه الذي يستوجب بذل النفس، وعلى هذا الاحتمال لا علاقة للآية بما نحن فيه.

ومن المحتمل أيضاً أن يكون المقدّر معرفة الله كما فسّر بذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(2)، ويؤيّد ذلك أمران:

الأوّل: أنّ المقدّر كلّما كان ألصق بالمبرز يكون أقرب إلى الفهم العرفيّ، فمثلاً في ﴿اسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ يقدّر (الأهل) لا الجيران؛ لأنّ الأهل ألصق بالقرية من الجيران، وكذلك في المقام تكون المعرفة بالشيء ألصق بذلك الشيء عرفاً من نصرته، أو طاعته باعتبار أنّ الكشف يُرى بالعناية كأنّه عين المنكشف، وليس بروز الاثنينيّة والتعدّد بين الكشف والمنكشف بقدر بروزها بين الطاعة والمطاع، أو النصرة والمنصور. ولعلّ هذا هو السرّ في أنّه حينما يقصد بالمجاهدة المجاهدة في سبيل معرفة الله لا في طاعته أو نصرته لا يؤتى بكلمة سبيل، أو طريق، أو غير



(1) سورة 22 الحجّ، الآية: 78.

(2) سورة 29 العنكبوت، الآية: 69.

315

ذلك، بل يجعل اسم الجلالة مباشرة متعلّقاً لهذه المجاهدة، فهذا يكون باعتبار أنّ انكشاف الشيء كأنّه لا يزيد على نفس ذلك الشيء.

والثاني: وحدة السياق، حيث وردت الآية في سياق إبطال المفاهيم الباطلة عند الناس الذين لم يعرفوا الله حقّ معرفته، واعتقدوا بوجود علاقات غير لائقة بعالم الربوبيّة بين الله وملائكته، أو بينه وبين بعض عبيده(1). وعلى هذا الاحتمال أيضاً تكون الآية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

وثانياً: أنّنا لو قدّرنا كلمة الطاعة في المقام، فبما أنّ الطاعة ليست مخصوصة بخصوص الشبهات البدويّة، بل تشمل أيضاً طاعة الله في التكاليف المعلومة بالتفصيل أو بالإجمال، أو المنجّزة بحجّة شرعيّة، وكذلك تشمل الطاعة في موارد الأمر الاستحبابيّ، ومن المعلوم أنّه لا مجال للأمر الإلزاميّ بما تنجّز في نفسه بعلم أو أمارة، ولا للأمر الإلزاميّ بالطاعة في المستحبّات؛ إذ هو خلف كون الأمر فيها استحبابيّاً، فالذي يفهم عُرفاً من هذه الآية أنّها في مقام الحثّ على الطاعة بمقدار المقتضيات الثابتة للطاعة في كلّ مقام بحسبه، فلا يكون هذا الأمر في مقام إيجاد مقتض للتحرّك غير المقتضيات الثابتة بقطع النظر عنه، ففي موارد الشبهات البدويّة لابدّ من الرجوع إلى القواعد المقرّرة فيها بقطع النظر عن هذا الأمر حتّى يرى أنّه ما هو مقتضى المحرّكيّة فيها.

وبكلمة اُخرى: إنّ إبقاء الآية على ظهورها في المولويّة يوجب تخصيص الطاعة بخصوص ما يمكن فيه المولويّة من مثل الشبهات البدويّة، وهذا ممّا لا



(1) هذا إذا أخذنا السياق من الآيات السابقة على الآية: 77. أمّا الآية: 77، وكذلك الجملات الواردة في نفس هذه الآية ـ وهي الآية: 78 ـ فهي تنظر إلى مسألة الطاعة لا المعرفة.

316

يقبله الفهم العرفيّ بالنسبة للآية، فلابدّ من حملها على الإرشاد إلى ما هو المقتضي للطاعة في كلّ مورد بحسبه، فكأنّ هذا تنبيه عامّ للانسياق والسعي وراء المحرّكات المولويّة كلّ محرّك بحسب طبيعته ومقتضياته.

على أنّه لو تمّت دلالة الآية فدليل البراءة الشرعيّة يقدّم عليها بالأخصّيّة.

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُول﴾(1). وتوهّم الاستدلال بها مبنيّ على تخيّل أنّ الأمر بالردّ إلى الله والرسول كناية عن الأمر بالتوقّف والتريّث المساوق لعدم الاقتحام.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ الآية الكريمة أجنبيّة عن محلّ الكلام بلحاظ موضوعها ومحمولها:

أمّا بلحاظ موضوعها، فلأنّ موضوعها هو المنازعة المساوقة للمخاصمة لا الشكّ الذي هو موضوع وجوب الاحتياط، سواء خصّصنا المنازعة في هذه الآية بالمنازعة في الموضوعات الخارجيّة وبتنظيمات سياسيّة ومدنيّة للمجتمع من قبيل التنازع في مسكن قبيلة، أو انتخاب أمير للجيش ونحو ذلك، أو عمّمناها للمنازعة في الاُمور التشريعيّة من قبيل أنّه هل يكون للشريك حقّ الشفعة لو باع شريكه حصّته على غيره أو لا؟ ولم يؤخذ فيه شكّ من قِبل المتنازعين في مطلب حتّى يكون الموضوع من سنخ موضوع وجوب الاحتياط.

وأمّا بلحاظ محمولها، فلأنّ الأمر بالردّ إلى الله والرسول في الآية الكريمة ليس إلاّ بمعنى الأمر بتحكيم الله وتحكيم الشريعة في شؤون الحياة، وعدم جواز حكومة الناس على أنفسهم، وهذا أمر مفروغ عنه، ومن ضروريّات الإسلام، ولا نزاع فيه بين المحدّثين والاُصوليّين، وإنّما النزاع وقع في أنّه ما هو حكم الشريعة



(1) سورة 4 النساء، الآية: 59.

317

في موارد الشبهات البدويّة، فهل حكمت الشريعة فيها بوجوب الاحتياط، أو بأصالة البراءة؟

ثمّ لو تنزّلنا وفرضنا أنّ هذه الآية تناسب محلّ الكلام موضوعاً ومحمولاً ـ أي: أنّها تتكلّم في فرض الشكّ ـ وأنّها ليست بصدد بيان حاكميّة الله والرسول، بل بصدد بيان الحكم الصادر من الله والرسول قلنا: إنّ ردّ الشبهة إلى الله والرسول إمّا يكون بلحاظ الحكم الواقعيّ المشتبه، أو يكون بلحاظ الحكم الظاهريّ المجعول من قِبل الشارع للشبهة، فإن فرض الأوّل فهذا معناه وجوب رفع الشبهة مع الإمكان باستعلام الواقع بالردّ إلى الله ورسوله ـ أي: أنّ الحكم الصادر من الله والرسول في الشبهة قبل الفحص هو وجوب الفحص لا البراءة ـ وهذا لا نزاع فيه، فإنّ الفحص في الشبهة الحكميّة واجب جزماً، وإنّما الكلام في أنّه لو فحصنا ولم نظفر بشيء فماذا نصنع؟ وإن فرض الثاني فمعناه أنّ الحكم المجعول للشبهة يجب استعلامه من الشارع، بمعنى أنّه لو شككنا في أنّ حكم الشبهة هل هو الاحتياط أو البراءة فحكم الشريعة في فرض هذا الشكّ هو وجوب الفحص لا إجراء البراءة قبل الفحص بالدرجة الاُولى المساوقة للبراءة العقليّة، وهذا أيضاً مسلّم بين الاُصوليّين والأخباريّين، والاُصوليّ يدّعي أنّه فحص وانتهى إلى الحكم بالبراءة من قِبل الشارع، فالآية على كلّ حال أجنبيّة عمّا نحن بصدده.

الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِه﴾(1) بتقريب أنّ هذا أمر بأقصى درجات التقوى وغايته، ومن المعلوم أنّ أقصى درجات التقوى وغايته يشتمل على ترك الشبهات.

ويرد عليه: أنّ التقوى يجب أن يفرض في المرتبة السابقة عليها ما يتّقى منه



(1) سورة 3 آل عمران، الآية: 102.

318

ويحذر من عقاب وخطر، فملاك التقوى يجب أن يكون مفروغاً عنه في المرتبة السابقة، فالأمر به ـ لا محالة ـ يكون إرشاديّاً، ولا يدلّنا هذا الأمر على موارد تحقّق موضوعه، وإنّما يجب أن يستفاد ذلك من الخارج.

الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾(1) ونحوها من الآيات التي تجعل رادعة عن القول بغير علم، بدعوى أنّ القول بالبراءة قول بغير علم.

أقول: إنّ كلاًّ من الاُصوليّ والأخباريّ إن أراد في المقام دعوى الإباحة الواقعيّة، أو الحرمة الواقعيّة، فكلاهما قد قالا بغير علم، وذلك حرام، ولا نزاع في حرمته. وإن أراد دعوى الحكم الظاهريّ الشرعيّ بالبراءة أو الاحتياط، فلا نزاع أيضاً في أنّ ذلك لابدّ أن يكون مأخوذاً من الشارع، فإن لم يؤخذ منه كان قولاً بغير علم وكان حراماً، وإن اُخذ منه لم يكن كذلك، وكلّ منهما يدّعي أنّ مختاره مأخوذ من الشارع. وإن أراد دعوى البراءة العقليّة أو الاحتياط العقليّ، فهذا لا يشتمل على نسبة أمر إلى الشارع، وإنّما بيّن كلّ منهما ما يدركه عقله العمليّ، ولم يقل ذلك من دون علم، والآيات أجنبيّة عن ذلك.

 

الاحتياط في الأخبار

وأمّا السنّة: فقد استدلّ بعدد كبير من الروايات على وجوب الاحتياط شرعاً، وأنا حتّى الآن لم أرَ فيها حديثاً تامّ السند ينبغي توهّم دلالته على وجوب الاحتياط.

 

ضعف الدلالة في عدد من الأخبار:

وعلى أ يّة حال، فهناك نقاط ثمان بالالتفات إليها يتّضح بسهولة عدم تماميّة



(1) سورة 17 الإسراء، الآية: 36.

319

دلالة جملة كبيرة ممّا استدلّ بها على المقصود:

النقطة الاُولى: أنّ جملة من تلك الروايات ليست فيها رائحة الإلزام أصلاً، إن ثبت كونها واردة في محلّ الكلام موضوعاً ومحمولاً، وذلك من قبيل:

1 ـ المرسلة المرويّة عن الصادق(عليه السلام) قال: «من اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»(1).

فهذا الحديث ـ كما ترى ـ لم يبيّن الكبرى وهي وجوب الاستبراء للدين، ومجرّد معرفة كون اتّقاء الشبهات استبراء للدين لا يثبت وجوب ذلك الاتّقاء.

2 ـ ما في أمالي ابن الشيخ الطوسيّ(قدس سره) بسند ينتهي إلى الإمام الرضا(عليه السلام) يقول: إنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لكميل بن زياد: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(2).

فالاحتياط وإن وقع في هذا الحديث متعلّقاً للأمر إلاّ أنّه بقرينة توكيل مقدار الاحتياط إلى مشيئة المكلّف يفهم أنّ المقصود هو الأمر الاستحبابيّ؛ إذ لا معنى لكون المقدار الواجب موكولاً أمره إلى المكلّف من حيث الزيادة والنقصان، إذن فكأنّ الحديث في مقام بيان أنّ الدين كالأخ أمر مهمّ، فبأيّ مرتبة تحتاط من أجله فهو أمر حسن، كما أنّ الاحتياط من أجل الأخ بأيّ مرتبة بلغ فهو أمر حسن، ولا أقلّ من الإجمال، بمعنى أنّ في الحديث احتمالين: أحدهما ما ذكرناه، والآخر كون تعليق المقدار على المشيئة كنائيّاً لا بمعناه المطابقيّ، وذلك نظير قولك: (هذا أخوك، فإن شئت فاحفظه).



(1) ورد نقلها عن الصادق(عليه السلام) في جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 8 من المقدّمات، ح 28، ص 331 بحسب الطبعة الجديدة، ولكن ورد الحديث في الوسائل عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وذلك في ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 57، ص 127.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 41، ص 123.

320

3 ـ ما عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(1).

فهذا الحديث ـ كما ترى ـ لم يبيّن وجوب هذا الورع.

وكذلك كثير من الروايات الواردة بهذه المضامين(2) التي لا تستشمّ منها رائحة الإلزام لو سلّم أنّها واردة فيما هو محلّ الكلام موضوعاً ومحمولاً، مع أنّ هذا غير مسلّم في جملة منها.

النقطة الثانية: أنّ جملة من هذه الروايات واردة في مقام بيان تحكيم الأئمّة(عليهم السلام)في فهم الأحكام، وعدم جواز الاستقلال عنهم، كما هو شأن من لم يكن مؤمناً بأهل البيت(عليهم السلام)، حيث كانوا يعتمدون في الأحكام على آرائهم وأذواقهم ومشتهياتهم، وليس النزاع بين الاُصوليّ والأخباريّ في حاكميّتهم(عليهم السلام)، وإنّما النزاع فيما حكموا به.

ومن هذا القبيل قوله في حديث ابن جابر: «والصحيح أنّ الله لم يكلّفهم اجتهاداً؛ لأنّه نصب لهم أدلّة، وأقام لهم أعلاماً، وأثبت عليهم الحجّة، فمحال أن يضطرّهم إلى ما لا يطيقونه بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال والحرام»(3).

وهناك عدّة من الروايات يمكن حملها أيضاً على أنّها في مقام بيان هذا المبدأ ـ مبدأ مرجعيّة أهل البيت(عليهم السلام) ـ من قبيل خبر حمزة بن الطيّار(4): أنّه عرض على



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 24، ص 118، و ح 33، ص 121.

(2) من قبيل ما ورد في الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 20،ص 117 من قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا ورع كالوقوف عند الشبهة».

(3) الوسائل، ج 18، ب 6 من صفات القاضي، ح 38، المقطع الثالث من ص 37، السطر الثاني من ذاك المقطع.

(4) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 3، ص 112.

321

أبي عبد الله(عليه السلام) بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كف واسكت»، ثمّ قال أبو عبد الله(عليه السلام): «لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على الحقّ، ويجلوا عنكم فيه العمى، ويعرّفوكم فيه الحقّ، قال الله: ﴿فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾»(1)، فهذا الحديث يمكن حمله على ذاك المعنى، حيث أمر بالتثبّت، بمعنى أنّه ردع عن الانسياق وراء الطرق الباطلة في مقام استنباط الأحكام التي وضعها غير علماء أهل البيت(عليهم السلام)، وأمر بالرجوع إلى أهل البيت(عليهم السلام)، فهذا أيضاً في مقام بيان حصر المرجعيّة في بيان الحلال والحرام بالأئمّة(عليهم السلام)، وعدم وجود مرجع آخر من اجتهاد، أو تشهٍّ، أو ذوق، أو استحسان، ونحو ذلك من المراجع الباطلة، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

النقطة الثالثة: أنّ جملة من الروايات واردة في فرض وجود الإمام(عليه السلام)والتمكّن من مراجعته، فلو فرض أنّها دلّت على نفي البراءة لما أضرّنا ذلك؛ إذ لا يدّعي أحد جريان البراءة مع التمكّن من الفحص وتحصيل العلم، وشرط البراءة هو اليأس من الظفر. ومن هذا القبيل مقبولة عمر بن حنظلة حيث فرض فيها تعارض الروايتين، وذكر المرجّحات حتّى إذا استوى المتعارضان قال: «أرجه حتّى تلقى إمامك»(2)، فإن فرض أنّ قوله: «أرجه» يكون أمراً بالتوقّف والاحتياط في مقام العمل، وإلغاء أصالة البراءة لم يضرّنا ذلك؛ لأنّ ظاهر الغاية وهو قوله: «حتّى تلقى إمامك» أنّ محلّ الكلام هو مورد التمكّن من لقاء الإمام(عليه السلام).

النقطة الرابعة: أنّ بعض تلك الروايات مسوقة مساق وجوب الفحص والأمر



(1) سورة 16 النحل، الآية: 43.

(2) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 76.

322

بالتعلّم، وأنّ الجاهل لا يسعه أن يقول: لا أعلم؛ إذ يقال له: لماذا لم تتعلّم(1). وأمّا أنّه لو فحص ولم يجد فماذا يصنع؟ فهذه الروايات ساكتة عن ذلك، فهي غير مربوطة بما نحن فيه.

النقطة الخامسة: أنّ بعض الروايات مسوقة مساق تحريم القول بغير علم، والالتزام بما لا يعلم به من قبيل بعض الآيات المتقدّمة، وهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ الاُصوليّ يلتزم بالإباحة الواقعيّة مع أنّه لا يعلم بها، بل هو يلتزم بمقدار ما يعلم، وهو الإباحة الظاهريّة. فمن هذا القبيل خبر زرارة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(2). وكذلك خبر عليّ بن الحسين(عليه السلام): قال لأبان بن عيّاش: «يا أخا عبد قيس، إن وضح لك أمر فاقبله، وإلاّ فاسكت تسلم، وردّ علمه إلى الله، فإنّك أوسع ممّا بين السماء والأرض»(3).

النقطة السادسة: أنّ بعض الروايات تدلّ على حرمة الجري والحركة بلا علم من قبيل قوله: «مَن هجم على أمر بغير علم جدَع أنف نفسه»(4). وليس معناه من هجم على أمر مشكوك، وإنّما معناه الهجوم بغير علم ـ أي: أن لا يستند هجومه إلى علم وركن وثيق ـ فمن كان كذلك كان كمن جدع أنف نفسه؛ لأنّه عرّض نفسه للخطر والضرر، وهذا تنبيه إلى ما يستقلّ به العقل، ولا نزاع فيه من أنّ الإنسان في



(1) راجع جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 1 من المقدّمات خاصّة، الحديث 25،ص 94 بحسب الطبعة الجديدة.

(2) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 11، ص 115.

(3) المصدر السابق، ح 35، ص 122.

(4) اُصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، ح 29، ص 27، أواخر الحديث.

323

حركته يجب أن يستند إلى العلم دائماً، والاُصوليّ في اقتحامه في الشبهات التحريميّة يستند إلى العلم بالإباحة عقلاً أو شرعاً.

النقطة السابعة: أنّ من جملة الروايات ما لم يؤخذ في موضوعه عنوان الشبهة والشكّ في التكليف، من قبيل مطلقات قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(1)، فإنّ هذا المطلق في نفسه لم يؤخذ في موضوعه أن يكون الريب من ناحية التكليف الشرعيّ، إذن فلابدّ أن يفهم ما بيّن في اللفظ، وعندئذ من المحتمل أن يكون هذا أمراً تعليميّاً مرجعه إلى المخاطرة والمغامرة في شؤون الحياة، فإن كانت مثلاً تجارة الشاي ممّا يريب بخلاف تجارة الحنطة، فلا داعي للتورّط في أمر فيه شكّ وريب، فلعلّه في مقام تأسيس قاعدة من هذا القبيل ولو على نحو الاستحباب، فلا ربط له بمحلّ الكلام.

وبكلمة اُخرى: إنّ هذه القاعدة الواردة في الحديث لم تؤخذ في موضوعها الشبهة الحكميّة التكليفيّة، بل هي قاعدة موضوعها مطلق الشكّ سواء كان في باب الأحكام أو في شؤون الحياة، فتحمل على أنّها قاعدة أخلاقيّة.

بل يمكن أن تذكر نفس النكتة أيضاً في الأوامر التي تعلّقت بعنوان الاحتياط، ولم يؤخذ في موضوعها الشكّ في التكليف، فإنّ الاحتياط وإن كان بحسب المصطلح عبارة عن ترك ما تحتمل حرمته، أو فعل ما يحتمل وجوبه، إلاّ أنّه لا يعلم أنّ مثل هذا الاصطلاح كان مستقرّاً في عصر الأئمّة(عليهم السلام) بحيث إنّ اللفظ انعقد له معنىً ثان وراء معناه اللغويّ الذي يكنّى به عن الاهتمام بالشيء، حيث إنّ وضع الحائط على الأرض اهتمام بالأرض، فالأمر بالاحتياط في الدين هو أمر بالاهتمام في أمر الدين، وهذا لا يكون له اختصاص بموارد الشبهات البدويّة،



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 38، ص122، وح 55، ص 127.

324

ومن المعلوم أنّ الاهتمام بالدين إنّما يكون بالأخذ بالموازين الموجودة في الدين، فإن فرض أنّ من جملة أحكام الدين هو أصالة البراءة في الشبهات البدويّة، فلا ينافي الاهتمام بالدين أن يترك الإنسان ما يحتمل وجوبه، كما أنّه لا ينافي الاهتمام بالدين أن يترك المستحبّ لأجل الرخصة في تركه.

النقطة الثامنة: أنّ بعض الروايات واردة في موارد خاصّة بحيث لا يمكن التعدّي عنها، فلو فرضت دلالتها على وجوب الاحتياط يقتصر فيها على موردها، وذلك من قبيل ما ورد من أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام)بلغه أنّ عثمان بن حنيف(رحمه الله) واليه على البصرة يدعى إلى وليمة مهمّة فيجيب إليها، فبعث إليه برسالة تزجره عن ذلك، ويقول في هذه الرسالة: «أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه...»(1).

فالإمام(عليه السلام) عاتب أوّلاً في هذا الحديث ابن حنيف على استجابته لتلك الوليمة باعتبار أنّه من جملة الصحابة ومن أورعهم وأتقاهم، فكان يترقّب في شأنه الترفّع عن إجابة وليمة يراد بها التملّق للأغنياء واحترامهم بما هم أغنياء، ويقصى عنها الفقراء باعتبار فقرهم ومسكنتهم، وبعد العتاب بيّن له الحكم الشرعيّ بقوله: «فانظر إلى ماتقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه»، فيجعل هذا الكلام دليلاً على وجوب الاحتياط.

إلاّ أنّ هذه الرواية واردة في مورد خاصّ، ويمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في هذا المورد، وتوضيحه: أنّ المخاطب بهذا الخطاب كان وليّاً من ولاة المسلمين



(1) الوسائل، ج 18، ب 12 من صفات القاضي، ح 17، ص 116.

325

وممّن اؤتمن على أموال المسلمين ودمائهم من قِبل إمام المسلمين، وهذا الشخص هو في مظنّة أن يعامَل بالحسنى، وتقدّم إليه الأموال باعتبار الإغراء والاستهواء، وقضاء بعض المصالح الشخصيّة، وتقديم جانب الأشخاص على جانب الله ممّا يرجع بالآخرة إلى الرشوة ببعض مراتبها وأنحائها، فحيث إنّ الوالي في معرض هذا الأمر فالإمام(عليه السلام) حرّم عليه تناول الإحسان من شخص ما لم يعلم بطيب وجهه، وليس المراد ـ كما يفهم بمناسبة الحكم والموضوع ـ من العلم بطيب الوجه هو ما يقابل الشكّ في غصبيّة المال؛ إذ ليس مراد الإمام(عليه السلام)إلغاء قاعدة اليد بالنسبة للداعي، بل المراد من طيب الوجه هو طيب وجه نفس الإحسان بأن يكون إحساناً له باعتباره رجلاً متديّناً صحابيّاً، لا باعتباره حاكماً آمراً ناهياً، فإذا حصل الشكّ في هذا المطلب باعتبار الأمارة المذكورة في صدر الرواية من أنّ عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ ـ حيث إنّها قرينة ظنّيّة، أو احتماليّة على كون الإحسان بالاعتبار الثاني ـ وجب الاحتياط إمّا وجوباً صادراً منه(عليه السلام)بملاك الولاية باعتباره إماماً مسؤولاً عن حفظ جهات الرعيّة في عصره ومولّياً لعثمان بن حنيف على البصرة، وعليه فيكون هذا الحكم بالاحتياط خاصّاً بولاته، ولا يعمّ جميع ولاة المسلمين غير المنصوبين من قِبله بما هو إمام. وإمّا وجوباً صادراً منه بما هو مبيّن للشريعة، فيكون حكماً كلّيّاً على كلّ حاكم يلي اُمور المسلمين في كلّ زمان وكلّ مكان، لكن لايقاس على هذا المورد غيره، خصوصاً أنّ الشبهة موضوعيّة، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة في غير هذا المورد.

ومن هذا القبيل أيضاً رواية اُخرى وردت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في رسالته إلى مالك الأشتر(1) قال: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك...»



(1) المصدر السابق، ح 18.